القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

الشيخ محمد آصف المحسني

القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


المحقق: مهدي النيازي الشاهرودي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: پيام مهر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-94560-6-6
الصفحات: ٤٤٠

شهر رمضان وجب الصوم ، جرى استصحاب رمضان عند الشك في هلال شوال ، وكفى في وجوب الصوم يوم الشك. ولو كان الدليل تضمن وجوب الصوم في رمضان ، لم يجد استصحاب شهر رمضان في وجوب صوم يوم الشك ، لانه لا يثبت كون الزمان المعين من شهر رمضان ، فهذا المقدار من الاختلاف في مفهوم الدليل كاف في تحقق الفرق في جريان الاستصحاب وعدمه ، مع أنه ـ في لب الواقع ونفس الأمر ـ لا بدّ أن يجرع المفاد الأوّل إلى الثاني لأنه مع وجود شهر رمضان لا يكون الصوم في غيره ، ولا بدّ أن يكون فيه. وكذلك مثل : «إذا وجد كر في الحوض» و : «إذا كان ما في الحوض كرا» فإن الأوّل راجع إلى الثاني ، ومع ذلك يختلف الحكم في جريان الاستصحاب باختلاف كون أحدهما مفاد الدليل دون الآخر. فالمدار في صحة الاستصحاب على ما هو مفاد القضية الشرعية ، سواء أكان هو الموافق للقضية النفس الأمرية أم اللازم لها أم الملازم.

نعم لو كان المراد من الارجاع إلى القضية الحملية ، كون المراد من القضية الشرطية هو القضية الحملية ـ مجازا أو كناية ـ على نحو لا يكون المراد من الكلام إلّا مفاد القضية الحملية ، كان لما ذكر وجه. لكن هذا خلاف الظاهر. وكيف تمكن دعوى أن معنى قولنا : «العنب إذا غلى ينجس» هو معنى قولنا : «العنب الغالي ينجس»؟! مع وضوح الفرق بين العبارتين مفهوما.

وبالجملة : إن كان المدعى أن معنى القضية الشرطية هو معنى القضية الحملية فذلك خلاف الظاهر. وان كان المدعى أن مفاد القضية اللبية هو المطابق

٨١

لمفاد القضية الحملية ، وان مفاد القضية الشرطية لازم له ـ كما يظهر من بعض عبارات تقرير الاشكال ـ فالمدار في جريان الاستصحاب على مفاد القضية الشرعية ، وان كان لازما للقضية اللبية ، أو ملازما له. ولو كان المدار على ما في لب الواقع لأشكل الأمر في جريان الاصول في موضوعات الأحكام ، وقيودها ـ غالبا ـ للعلم بأنها ليست موضوعا للقضية اللبية. مثلا : المذكور في لسان الأدلة الشرعية أن النجاسة منوطة بالغليان ، ولكن إذا تدبرنا قليلا علمنا أن الغليان ليس هو المنوط به النجاسة ، بل الاسكار ـ ولو الاستعدادي ـ ثم إذا تدبرنا قليلا علمنا أن مناط النجاسة شيء وراء الاسكار الاستعدادي ، مثل الخباثة النفسانية ، وربما نتدبر قليلا فنعلم أن المناط شيء وراء ذلك ، ومع ذلك لا يصح رفع اليد عن ظاهر الدليل في قضية جريان الأصل ، بل يكون هو المدار في جريانه ، لأن أدلة الاستصحاب ناظرة إلى تنقيح مفاد الأدلة الشرعية لا غير. وبذلك افترق الأصل المثبت عن غيره ، فإن الاصل المثبت هو الذي يتعرض لغير مفاد الدليل الشرعي ، وغير المثبت ما يتعرض لمفاد الدليل الشرعي ، من حكمه ، وموضوعه ، وقيودهما ، وقيود قيودهما ، وسائر ما يتعلق بهما ، مما كان مذكورا في الدليل.

وأما عدم جريان الأصل التعليقي فيما لو حدث في أثناء المركب ما يحتمل قطعه ، أو رفعه ، أو منعه ، فيقال : كان المقدار المأتي به من الاجزاء بحيث لو انضم إليه الباقي لأجزأ. فلأن القضية التعليقية المذكورة ، وإن كانت مستفادة من الدليل بنحو الدلالة الالتزامية فهي قضية شرعية ، إلّا أن الملازمة لما كانت عقلية ، والعقل لا يحكم بها مطلقا ، وإنما يحكم بها بشرط أن لا يحدث ما يحتمل قدحه ، فإن اريد

٨٢

استصحاب هذا المعنى ، فلا مجال له ، للعلم ببقائه ، وأن اريد استصحاب مضمون القضية التعليقية من دون الشرط المذكور ، فلا حالة له سابقة إذ لا يحكم به العقل ، ولا طريق إليه غيره.

هذا كله مضافا إلى أن إرجاع شرط الحكم إلى شرط الموضوع غير ظاهر ، فإن شرط الحكم دخله في الحكم من قبيل دخل المقتضي في الأثر ، ودخل شرط الموضوع فيه من قبيل دخل المعروض في العارض ، والفرق بينهما نظير الفرق في باب الحكم التكليفي بين شرط الوجوب ، وشرط الواجب فإن شرط الوجوب دخيل في كون الواجب مصلحة ، وشرط الواجب دخيل في وجود تلك المصلحة خارجا. نظير الفرق بين المرض وشرب المنضج ، بالاضافة إلى شرب المسهل ، فإن المرض دخيل في كون شرب المسهل مصلحة ـ بمعنى أنه لو لا المرض كان شرب المسهل بلا مصلحة ـ بخلاف شرب المنضج قبل المسهل ، فإنه دخيل في ترتب المصلحة المقصودة من شرب المسهل. فما ذكره بعض الاعاظم من مشايخنا في درسه : من رجوع شرط الحكم إلى شرط الموضوع غير واضح. وهو نظير ما صدر من شيخنا الأعظم قدس‌سره حيث التزم برجوع الواجب المشروط إلى الواجب المعلق ، وان قيد الهيئة راجع إلى قيد المادة. وتحقيق ذلك يطلب من مباحث الواجب المشروط من الاصول. فراجع.

هذا وقد يشكل الاستصحاب التعليقي بمعارضته بالاستصحاب التنجيزي ، فإنه كما يجري استصحاب للزبيب على تقدير الغليان ، لثبوتها حال العنبية ، كذلك يجري استصحاب الطهارة الثابتة قبل الغليان ، فيقال : الزبيب قبل أن يغلي

٨٣

كان حلالا طاهرا ، فهو كذلك بعد أن يغلي. وبعد ابتلائه بالمعارض دائما يسقط عن الحجية.

واجاب عنه شيخنا الاعاظم رضى الله عنه في رسائله ، بحكومته على الاستصحاب التنجيزي. ولم يتضح وجه الحكومة المذكورة ، فإن الشك في الحرمة على تقدير الغليان عين الشك في الحلية على تقدير الغليان ، لأن الشك يتقوم بطرفين هما الحرمة والحل ، فالشك في الحرمة معناه الشك في الحل ، كما أن الشك في الحركة عين الشك في السكون ، فيمتنع أن يكون الاستصحاب الجاري لإثبات أحد طرفي الشك حاكما على الاستصحاب الجاري لإثبات الطرف الآخر. وهذا معنى التعارض بين استصحاب الحل التنجيزي ، واستصحاب الحرمة التعليقية.

فإن قلت : إن من القطعيات أصالة عدم النسخ ، الذي لا فرق فيه بين الحكم التنجيزي والتعليقي ، ولو تمت المعارضة المذكورة ، كان استصحاب عدم النسخ في الاحكام التعليقية معارضا باستصحاب الحكم التنجيزي ، الذي هو خلاف الحكم التعليقي ، ويسقط حينئذ عن الحجية.

قلت : أصالة عدم النسخ ليست من قبيل الاستصحاب ، بل هي أصل لنفسه حجيته لبناء العقلاء عليه. ولو كان من باب الاستصحاب لم يجر لو شك في نسخ الاستصحاب ، ولجاء فيه الخلاف الجاري في حجية الاستصحاب ، كما لا يخفى (١).

__________________

(١) أصالة عدم النسخ لم يثبت كونها أصلا برأسه وغير الاستصحاب ، بل لا نقول بصحتها

٨٤

وربما يظهر من بعض عبارات شيخنا الأعظم رضى الله عنه في رسائله : أن الوجه في الحكومة هو أن الشك في الحل والحرمة ناشئ من الشك في بقاء الملازمة بين الغليان والنجاسة والحرمة ، فالاستصحاب المثبت لبقاء الملازمة حاكم على استصحاب الحل. وفيه : ما عرفت من أن الملازمة ليست مجعولا شرعيا ، وإنما هي متفرعة من الحكم بالحرمة والنجاسة ـ على تقدير الغليان ـ فلا يجري الاستصحاب فيها مضافا إلى أن الكلام في الاستصحاب التعليقي والاستصحاب الجاري في الملازمة تنجيزي ، ولو جرى كان حاكما على استصحاب الحكم التعليقي والتنجيزي معا.

وقد ذكر بعض الأعاظم في درسه في توجيه الحكومة ما لا يخلو من إشكال ونظر ، وحاصل ما ذكر : أن الشك في الحل والطهارة بعد الغليان وان كان عين الشك في الحرمة والنجاسة على تقدير الغليان ، لكن الشك المذكور ناشئ من الشك في كيفية جعل النجاسة والحرمة ، وأنه هل يختص بحال العنبية ، أو يعمها وسائر الاحوال الطارئة عليها كالزبيبية ، ـ مثلا ـ ولما كان الاستصحاب التعليقي يقتضي كون الجعل على النحو الثاني ، كان حاكما على استصحاب الحل والطهارة ، لأنه معه لا يبقى مجال للشك في الحل والطهارة (فإن قلت) : كيف يكون حاكما على الاستصحاب المذكور مع أن الشرط في الاصل الحاكم أن يكون مجراه

__________________

ـ مطلقا رغم عدها من قبل بعض المحدثين من الضروريات لعدم وحدة الموضوع فيها. وتفصيله في محله.

٨٥

موضوعا لمجرى الاصل المحكوم ، كما في استصحاب طهارة الماء ، الحاكم على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به ، وليس الحل والطهارة التنجيزيان في المقام من أحكام الحرمة والنجاسة التعليقيتين (قلت) : هذا يختص بالاصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، وأما الشبهات الحكمية فيكفي فيها أن يكون التعبد بالأصل السببي مقتضيا لرفع الشك المسبب ، إذ لا معنى للتعبد بالحرمة والنجاسة التعليقيتين إلّا إلغاء احتمال الحلية والطهارة ، فاستصحاب الحرمة والنجاسة يكون حاكما على استصحاب الحلية والطهارة.

هذا ولكن يشكل : بأنه لم يتضح الوجه في كون الاستصحاب التعليقي مقتضيا لكون جعل الشارع للحرمة والنجاسة في العنب إذا غلى شاملا لحال الزبيبية ، ولا يكون استصحاب الحل والطهارة التنجيزي مقتضيا لكون الجعل على نحو يختص بالعنب ، ولا يشمل الزبيب. كما لم يتضح الوجه في كون الشك في الحل والحرمة ، ناشئا من الشك في عموم الجعل وشموله لحال الزبيبية وعدمه ، ولم لا يكون العكس؟ بأن يكون الشك في العموم ناشئا من الشك في ثبوت الحرمة على تقدير الغليان. وأيضا فهذا النشء عقلي ، فكيف يكون الأصل الجاري في الناشئ مثبتا للمنشإ؟! مع أن المنشأ ليس موضوعا لأثر عملي وإنما الأثر للناشئ لا غير. كما لم يتضح الوجه في الفرق بين الشبهات الحكمية والموضوعية في شرط الحكومة ، ولا في كون الأصل التعليقي رافعا للشك في الطهارة والحلية ، ولا يكون الاستصحاب الجاري فيهما رافعا للشك في الحرمة والنجاسة التعليقيتين ، مع كون مجريي الأصلين في رتبة واحدة ، ومقومين لشك واحد ،

٨٦

وكيف يكون الأصل مثبتا لحكم ليس هو مجرى له ولا أثرا لمجراه؟! وهل الأصل المثبت إلّا هذا؟! مع أنه لو سلم فهو مطرد في كل من الأصلين. فما الوجه المميز لاحدهما عن الآخر؟! بحيث يكون الأصل التعليقي موجبا للتعبد بخلاف الأصل التنجيزي ، ولا يكون الاصل التنجيزي موجبا للتعبد بخلاف الأصل التعليقي ، مع أن دليلهما واحد ، ومورديهما طرفا شك واحد ، متقوم بهما على نحو واحد. فما ذكره مما لم يتضح وجهه ، على نحو يصح الخروج به عن القواعد المقررة بينهم ، المبرهن عليها عندهم.

هذا والاستاذ قدس‌سره في الكفاية أجاب عن إشكال المعارضة : بأن الحلية الثابتة قبل الغليان ، كانت مغياة بالغليان ، لأن الغليان في حال العنبية كما كان سببا للحرمة كان رافعا للحلية ، فبعد حدوث وصف الزبيبية يشك في بقاء الحرمة المعلقة على الغليان ، وفي بقاء الحلية المغياة بالغليان ، وبقاء الحلية المغياة بالغليان لا ينافي الحرمة المعلقة عليه ، بل هما متلازمان ، فلا يكون الأصلان الجاريان فيهما متعارضين ، فان قوام المعارضة في الاصول أن يعلم بكذب أحدهما إجمالا ، وهو غير حاصل في المتلازمين (١).

__________________

(١) وقبله السيّد الاستاذ الخوئي رحمه‌الله وقال بانه متين جدا ، وذكر أن نظير المقام ، ما إذا كان المكلف محدثا بالحدث الاصغر ورأى بللا مرددا بين البول والمني فتوضأ ، لم يمكن جريان استصحاب كلى الحدث ، لوجود أصل حاكم عليه ، وهو اصالة عدم حدوث الجنابة واصالة عدم تبدّل الحدث الاصغر بالحدث الأكبر ، والمقام من هذا القبيل بعينه.

٨٧

ولكنه يشكل : بأن ذلك يتم بالاضافة إلى حلية العنب التي كانت قبل صيرورته زبيبا ، لا بالاضافة إلى الحلية الشخصية الموجودة في عصير الزبيب قبل غليانه ، فإنها معلومة التحقق حينئذ (١) ، فإذا غلى بشك في ارتفاعها ، ومقتضى الاستصحاب بقاؤها ، فيتعارض هو واستصحاب الحرمة التعليقية وكذا مع استصحاب الحلية المغياة ، إذ هو لا يثبت كون هذه الحلية مغياة كما أن استصحاب بقاء الكر في الحوض لا يثبت أن ماء الحوض كر ، فان استصحاب مفاد كان التامة لا يثبت مفاد كان الناقصة ، كما لا يخفى.

وقد يستشكل في الأصل التعليقي : بأن غاية مفاده إثبات الحرمة على تقدير الغليان ، وهذا لا يثبت الحرمة الفعلية إلّا بناء على القول بالأصل المثبت. وفيه : أن فعلية الحرمة لازمة لثبوت الخطاب التعليقي عند ثبوت المعلق عليه ، أعم من أن يكون ثبوته بالوجدان ، أو بالاصل ، فهي من اللوازم العقلية التي تترتب على الاعم من الواقع والظاهر ، كوجوب الاطاعة وحرمة المعصية ، فلا يحتاج في إثباته بالاصل إلى إثبات كونه من اللوازم الشرعية لمجرى الأصل. (المستمسك ج ١ / ٤١٥ ـ ٤٢٣).

__________________

(١) لاحظ كلام السيّد الاستاذ الخوئي في مصباح الأصول ج ٣ / ١٤١.

٨٨

١٣ ـ استصحاب العدم الازلي

(مسألة ٢ : إذا شك في أن له أي ـ للماء ـ مادة أن لا وكان قليلا ينجس بالملاقاة).

لأن الجمع بين ما دل على انفعال القليل ، وما دل على اعتصام ذي المادة ، يقتضي كون موضوع الانفعال القليل الذي ليس له مادة ، فإذا أحرزت قلة الماء ، وجرت أصالة عدم المادة ، فقد أحرز موضوع الانفعال بعضه بالوجدان ، وبعضه بالأصل ، فيترتب حكمه.

ثم إن الشك في وجود المادة (تارة) : يكون في وجودها المقارن لوجود الماء. (واخرى) : في وجودها اللاحق بعد وجود الماء. وفي الصورة الثانية : إن علم بانتفائها قبل زمان الشك بني على استصحاب عدمها فيترتب الحكم بلا إشكال. وان علم بوجودها قبل زمان الشك بني على استصحاب وجودها ، ويترتب حكمه وهو الاعتصام بلا إشكال أيضا.

أما في الصورة الاولى : فأصالة العدم فيها من قبيل استصحاب العدم الأزلي الثابت قبل وجود الموضوع ، وهو محل كلام بين الأعلام ، وإن كان الاظهر

٨٩

جريانه ، لعموم الأدلة بعد اجتماع أركانه من اليقين والشك (ودعوى) : أن العدم الأزلي مغاير للعدم اللاحق للوجود ، لكون الأوّل عدما لعدم الموضوع ، والثاني عدما لعدم المقتضي أو لوجود المانع ، وليس عدم الموضوع دخيلا فيه ، لفرض وجوده. (مندفعة) : بأن هذا الاختلاف لا يستوجب اختلافهما ذاتا ، وانما يستوجب اختلافهما منشأ وعلة ، وذلك لا يمنع من الجراء الاستصحاب ، ولا يوجب التعدد عرفا ، كما يظهر من ملاحظة النظائر ، فإنه يجوز استصحاب ترك الأكل والشرب للصائم بعد الغروب ، مع أن الترك إلى الغروب كان بداعي الأمر الشرعي ـ وهو منتف بعد الغروب ـ والترك بعده لا بدّ أن يكون بداع آخر.

فإن قلت : عدم العارض لما كان نقيضا لوجود العارض ، ولا بدّ من وحدة الرتبة بين النقيضين ، ومن المعلوم أن وجود العارض متأخر رتبة عن وجود المعروض ، فعدم العارض المأخوذ قيدا في الحكم لا بدّ أن يكون متأخرا رتبة عن وجود الموضوع (١) والعدم الأزلي ليس كذلك ، لأنه سابق على وجود الموضوع.

__________________

(١) أقول : عدم العارض وان كان في مرتبة وجوده المتأخر عن وجود المعروض ، لكنه ـ أي عدم العارض ـ ليس بمتأخر رتبة عن وجود الموضوع لفقد ملاك التقدم والتأخر في الرتبة بينهما ، نعم هو متأخر عن عدم المعروض تأخر المعلول عن علته أو جزء منها. وقياس أن المتأخر عن احد المتساويين متأخر عن آخرهما ممنوع فانه إنما يتم في التقدم والتأخر والتساوي من حيث الزمان أو المكان أو الشرف دون الرتبة. فوجود المعلول متأخر رتبة عن وجود العلة

٩٠

قلت : السبق الزماني على وجود الموضوع لا ينافي التأخر الرتبي عنه فان وجود المعروض وعدمه نقيضان ، وهما في رتبة واحدة ، ووجود العارض وعدمه نقيضان وهما في رتبة واحدة أيضا ، فعدم العارض لما كان بمنزلة المعلول لعدم المعروض كان متأخرا عنه رتبة ، وهو عين تأخره عن وجود المعروض المتأخر زمانا ، لكون وجود المعروض في رتبة عدمه فالمتأخر عن أحدهما متأخر عن الآخر ، وتأخر وجود المعروض زمانا لا ينافي ذلك.

وبالجملة : ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، ومقتضى الفرعية الانتفاء عند الانتفاء المعبر عنه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، فإذا وجد زيد بعد العدم صح أن يقال : لم يكن زيد موجودا ـ يعني : قبل أن يوجد ـ كما يصح أن يقال : لم يكن زيد هاشميا ، وبعد ما تبدل الأوّل بنقيضه وصح أن يقال : وجد زيد ، فإذا شك في تبديل الثاني بنقيضه يبنى على بقائه ، فيقال بعد ما وجد زيد : لم يكن هاشميا. بالاستصحاب ، وقد عرفت أن السلب بانتفاء الموضوع عين السلب بانتفاء المحمول لا غيره ، فلا مانع من استصحابه عند الشك فيه.

ودعوى : أن التقابل بين عدم المحمول ووجوده المأخوذين في موضوع الحكم الشرعي ـ مثل القرشية واللاقرشية ـ تقابل العدم والملكة ، لا تقابل النقيضين ، وعدم العارض عند عدم المعروض يقابل وجود العارض عند وجود

__________________

ـ وليس متأخرا عن عدمها ، مع ان وجودها وعدمها في رتبة واحدة.

وهنا شيء آخر وهو ان التقدم والتأخّر في الرتبة لا يترتب عليهما الاحكام الشرعية مطلقا وانما يترتب عليهما الاحكام العقلية فافهم ذلك.

٩١

المعروض تقابل النقيضين (١) ، فلا يكون أحدهما عين الآخر ، كي تكون القضية المتيقنة عين القضية المشكوكة كي يصح الاستصحاب. (لا مأخذ لها ظاهر) فإن المذكور في كلامهم أن نقيض الجزاء يثبت مع نقيض الشرط ففي قوله عليه‌السلام : «لأن له مادة» يكون المفهوم : (إذا لم يكن له مادة) الذي هو نقيض : كان له مادة. وكذلك مثل قوله : «إن كانت المرأة قرشية تحيض إلى الستين» يكون المفهوم : «إذا لم تكن المرأة قرشية لا تحيض إلى الستين» ، فشرط المفهوم نقيض شرط المنطوق. (وبالجملة) : الوحدة بين العدمين ـ عرفا ـ لا مجال لانكارها ، وهي كافية في صحة الاستصحاب ومن ذلك كله يظهر أن استصحاب العدم الأزلي لإثبات القيد السلبي في محله.

وقد أطال بعض الأعاظم من مشايخنا (٢) في تقريب المنع من جريان

__________________

(١) لانتفاء الشأنية المعتبرة في عدم الملكة بانتفاء وجود المعروض.

(٢) وهو المحقق النائيني رضى الله عنه وإليك تفصيل كلامه على ما في تقريرات بعض تلامذته :

انّ العنوان الذي تكفّله دليل المقيّد والمخصّص امّا : ان يكون من العناوين اللاحقة لذات موضوع العامّ ، بحيث يكون من اوصافه وانقساماته ، كالعادل والفاسق بالنّسبة إلى العالم ، وكالقرشيّة والنّبطية بالنّسبة إلى المرأة.

أمّا : ان يكون من مقارنات الموضوع ، بحيث لا يكون من انقسامات ذاته ، بل من الانقسامات المقارنة ، كما إذا قيد وجوب اكرام العالم بوجود زيد ، أو مجيء عمرو ، أو فوران ماء الفرات ، وما شابه ذلك. فإنّ وجود زيد ، ومجيء عمرو ،

٩٢

__________________

ـ وفوران ماء الفرات ، ليس من اوصاف العالم والانقسامات اللاحقة له لذاته ، بل يكون من مقارناته الاتفاقيّة ، أو الدائميّة ، ولا يمكن أن يكون نعتا ووصفا للعالم ، فإنّ وجود زيد بنفسه من الجواهر لا يكون نعتا للعالم ، ومجيء عمرو وفوران ماء الفرات يكون وصفا لعمرو ولماء الفرات ، لا للعالم ، وذلك واضح.

فإن كان عنوان المقيّد والمخصّص من الأوصاف اللاحقة لذات الموضوع ، فلا محالة يكون موضوع الحكم في عالم الثبوت مركبا من العرض ومحلّه ، إذ العامّ بعد ورود التخصيص يخرج عن كونه تمام الموضوع للحكم لا محالة ويصير جزء الموضوع ، وجزئه الآخر يكون نقيض الخارج بدليل المخصّص. ففي مثل قوله : اكرم العلماء إلّا فساقهم ـ يكون الموضوع هو العالم الغير الفاسق ، ويكون العالم أحد جزئي الموضوع ، وجزئه الآخر غير الفاسق ، ولمّا كان غير الفاسق من أوصاف العالم ونعوته اللاحقة لذاته ، كان موضوع الحكم مركبا من العرض ومحلّه.

وان كان عنوان المقيّد والمخصص من المقارنات ، يكون موضوع الحكم مركبا أيضا ، لكن لا من العرض ومحلّه ، بل امّا ان يكون مركبا من جوهرين ، أو عرضين لمحلّين ، أو من جوهر وعرض لمحلّ آخر ، أو من عرضين لمحلّ واحد ، وامثلة الكلّ واضحة.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّه ان كان الموضوع مركبا من غير العرض ومحلّه بل من الأمور المتقارنة في الزمان ، كان الأصل الجاري في اجزاء المركّب هو الوجود والعدم المحمولين بمفاد كان وليس التامتين ، لأنّ الامور المتقارنة في الزمان لا رابط بينها سوى الاجتماع في عمود الزمان ، فمجرّد احراز اجتماعها

٩٣

__________________

ـ في الزمان يكفي في ترتب الأثر ، سواء كان احرازها بالوجدان ، أو بالأصل ، أو بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل.

نعم : لو كان موضوع الأثر هو العنوان البسيط المنتزع ، أو المتولد من اجتماع الأجزاء في الزّمان ـ كعنوان التقدّم ، والتّأخر ، والتقارن ، والقبليّة ، والبعديّة ، وقضيّة الحال ، وغير ذلك من العناوين المتولّدة من اجتماع الأمور المتغايرة في الزمان ـ كان احراز بعض الأجزاء بالوجدان وبعضها بالأصل لا اثر له ، من جهة أنّه لا يثبت ذلك العنوان البسيط الذي هو موضوع الأثر ، إلّا بناء على القول بالأصل المثبت.

وذلك كما في قوله عليه‌السلام : لو ادرك المأموم الإمام قبل رفع رأس الإمام. فإنّ استصحاب عدم رفع رأس الإمام عن الركوع إلى حال ركوع المأموم لا يثبت عنوان القبليّة. وكما في قوله : يعزل نصيب الجنين من التركة فان ولد حيّا اعطى نصيبه. فإن استصحاب حياته إلى زمان الولادة لا يثبت عنوان الحاليّة وأنّه ولد في حال كونه حيّا.

وبالجملة : لا يجري الأصل فيما إذا كان الموضوع للأثر هو العنوان البسيط المنتزع. ولكن كون الموضوع هو ذلك يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص أو استظهاره من الدليل ، وإلّا فالعنوان الأوّلى الذي يحصل من الأمور المتغائرة ليس إلّا اجتماعها في الزمان. وامّا سائر العناوين المتولّدة من الاجتماع في الزمان فجعلها موضوعا للاثر يحتاج إلى عناية زائدة ، وقد عرفت : إنه إذا كان نفس اجتماع الأمور المتغايرة في الزمان موضوعا للأثر ، كان الأصل في تلك الأجزاء بمفاد كان التّامة وليس التامة جاريا بلا اشكال فيه ، إذ الأصل يثبت هذا

٩٤

__________________

ـ الاجتماع.

وممّا ذكرنا يظهر : وجه حكم المشهور بالضمان عند الشك في كون اليد يد عادية ، من جهة أنّ موضوع الضمان مركّب من اليد والاستيلاء الذي هو فعل الغاصب ومن عدم إذن المالك ورضاه الذي هو عرض قائم بالمالك ، واصالة عدم رضاء المالك تثبت كون اليد يد عادية ، إذ اليد العادية ليست إلّا عبارة عن ذلك ، وهذا المعنى يتحقّق بضمّ الوجدان إلى الأصل.

فليس حكمهم بالضّمان من جهة التّمسك بالعام في الشبهات المصداقيّة ، بل من جهة جريان الأصل الموضوعي المنقح حال المشتبه. وقس على ذلك سائر الموضوعات المركّبة من غير العرض ومحلّه ، فإنّه في الجميع يكفي احراز الأجزاء بالاصول الجارية بمفاد كان أو ليس التّامتين ، إلّا إذا كان العنوان المتولّد موضوعا للأثر ، فإن الأصل يكون حينئذ مثبتا ، كما عرفت.

وامّا إذا كان التركيب من العرض ومحلّه ، فالأصل بمفاد كان وليس التامتين لا أثر له ، بل لا بدّ أن تكون الجهة النّعتيّة والوصفية مسبوقة بالتّحقق ، حتى يجري الأصل بمفاد كان أو ليس النّاقصتين ، لأنّ العرض بالنسبة إلى محلّه أنما يكون نعتا ووصفا له ، ويكون للجهة النّعتيّة والتوصيفيّة دخل لا محالة ، ولا يمكن اخذ العرض شيئا بحيال ذاته في مقابل المحلّ القائم به ، إذ وجود العرض بنفسه ولنفسه عين وجوده لمحلّه وبمحلّه ، فلا محيص من اخذ العرض بما هو قائم بمحله موضوعا للحكم ، وهذا لا يكون إلّا بتوصيف المحلّ به. فكل اصل احرز التوصيف والتّنعيت كان جاريا وهذا لا يكون إلّا إذا كانت جهة التوصيف مسبوقة بالتّحقق بعد وجود الموصوف ، وهذا انما يكون بالنسبة إلى الأوصاف

٩٥

__________________

ـ اللاحقة لموصوفها بعد وجود الموصوف. كالفسق ، والعدالة ، والمشي ، والرّكوب ، وغير ذلك.

وأمّا الأوصاف المساوق وجودها زمانا لوجود موصوفها ، كالقرشية والنبطيّة ، وغير ذلك ، فلا محلّ فيها لجريان الأصل بمفاد كان وليس الناقصتين ، لعدم وجود الحالة السابقة. والأصل بمفاد كان وليس التامتين وان كان جاريا إلّا أنّه لا يثبت جهة التوصيف إلّا على القول بالأصل المثبت. ففي مثل اكرم العلماء إلّا فسّاقهم ، يكون الموضوع مركبا من العالم الغير الفاسق ، وعند الشك في فسق زيد العالم تجرى أصالة عدم فسقة بمفاد ليس الناقصة إذا كان عدم فسق زيد مسبوقا بالتحقق ، أو أصالة فسقه بمفاد كان الناقصة إذا كان فسقه مسبوقا بالتحقق ، ويترتب على الأوّل وجوب اكرامه ، وعلى الثاني عدم وجوبه. وسيأتي في محبث الاستصحاب (ان شاء الله) انّه لا فرق في مورد جريان الاستصحاب ، بين ان يكون المستصحب نفس موضوع الحكم ، أو نقيضه.

والاشكال : بانّه لا معنى لاستصحاب نقيض موضوع الحكم ـ إذ الأثر الشرعي مترتّب على وجود الموضوع ولا اثر لنقيضه ـ ضعيف غايته ، فإنّه يكفي في جريان الاستصحاب اثبات عدم الأثر الشرعي ، وإلّا لانسد باب الاستصحابات العدميّة بالنسبة إلى الأحكام ، إذ عدم الحكم ليس مجعولا شرعيا. وسيأتي تفصيل ذلك في محلّه ان شاء الله. وعلى أي حال : ان كان الوجود أو العدم النعتي مسبوقا بالتحقق ، فلا اشكال في جريان الأصل فيه بما أنّه وجود وعدم نعتي ، واما إذا لم يكن مسبوقا بالتحقق ، فلا محلّ للأصل فيه ، وذلك ـ كالمرأة القرشية ـ فإنّ عروض وصف القرشيّة للمرأة مساوق زمانا

٩٦

__________________

ـ لوجود المرأة ، فهي أمّا ان توجد قرشيّة واما ان توجد غير قرشية ، وليس العدم النعتي مسبوقا بالتحقق ، لأنّ سبق تحقّق العدم النعتي يتوقّف على وجود الموضوع آناً ما فاقدا لذلك الوصف ، وامّا إذا لم يكن كذلك كالمثال فلا محلّ لاستصحاب العدم النعتي.

نعم : استصحاب العدم الأزلي يجري ، لأنّ وصف القرشية كان مسبوقا بالعدم الأزلي لامحة ، لأنّه من الحوادث ، إلّا أنّ الأثر لم يترتّب على العدم الأزلي ، بل على العدم النعتي ، وإثبات العدم النعتي باستصحاب العدم الأزلي يكون من اوضح أنحاء الأصل المثبت ، إذ عدم وجود القرشية في الدنيا يلازم عقلا عدم قرشيّة هذه المرأة المشكوك حالها.

ودعوى : أنّ عدم القرشيّة لم يؤخذ جزء الموضوع إلّا بمعناه الأزليّ لا بمعناه النعتي ، قد عرفت ضعفها ، فإنّه بعد ما كانت القرشية من الأوصاف اللاحقة لذات المرأة ، لا يمكن اخذها إلّا على جهة النعتية ، هذا.

وللمحق الخراساني كلام في المقام (١) يعطي صحّة جريان الاصول العدميّة في مثل هذه الأوصاف ، لكن لا مطلقا ، بل فيما إذا كان دليل التقييد منفصلا ، أو كان من قبيل الاستثناء ، لا ما إذا كان متّصلا بالكلام على وجه التوصيف ، فإن في مثله لا يجري الأصل ، مثلا تارة : يقول : اكرم العالم الغير الفاسق ، أو أنّ المرأة الغير القرشية تحيض إلى خمسين. واخرى : يقول اكرم العالم إلّا فسّاقهم ، أو

٩٧

__________________

ـ بدليل منفصل يقول : لا تكرم فسّاق العلماء ، أو يقول : المرأة تحيض إلى خمسين إلّا القرشيّة أو بدليل منفصل يقول : المرأة القرشية تحيض إلى ستّين. ففي الأوّل : لا بدّ أن يكون الأصل بمفاد ليس الناقصة جاريا ، بحيث تكون النعتية مسبوقة بالتحقق ، ولا أثر للأصل بمفاد ليس التامّة. وفي الثاني : يكفى جريان الأصل بمفاد ليس التامة ولا يحتاج إلى إثبات جهة النعتية.

ووجه هذا التفصيل ـ على ما يظهر في كلامه ـ أنّ التقييد في الأوّل يوجب تنويع العام وجعله معنونا بنقيض الخاص ، والأصل الجاري فيه لا بدّ ان يكون بمفاد ليس الناقص على ما بيّناه. وهذا بخلاف الثاني ، فإنّه حيث لم يكن عنوان القيد وصفا ونعتا لعنوان العامّ في الكلام ، فلا يجوب التقييد تنويع العام ، بل العامّ بعد باق على اللاعنوانيّة ويتساوى فيه كلّ عنوان. نعم : لا بدّ ان لا يكون عنوان الخاصّ مجامعا لعنوان العامّ ، لمكان التخصيص. وحينئذ يكفي نفي عنوان الخاصّ باي وجه امكن نفيه في ترتّب الأثر ، لأنّ المفروض إنّا لا نحتاج إلى إثبات عنوان خاصّ ووصف مخصوص للعلم ، حتى لا يكفي نفي عنوان الخاص في إثبات ذلك للعام ، بل العام بعد باق على لا عنوانيته ، غايته أنه خرج عنه عنوان الخاصّ ، فيكفي في ثبوت الأثر نفي عنوان الخاص ولو بمفاد ليس التامة ، فصحّ حينئذ ان يقال : الأصل عدم تحقّق الانتساب بين هذه المرأة وبين قريش ، فيحكم على المرأة أنّها ممن تحيض إلى خمسين ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ضعف ما افاده قدس‌سره.

أمّا أوّلا : فلأن التقييد لا يعقل ان لا يوجب تنويع العامّ وجعله معنونا بعنوان نقيض الخاصّ ، إذ التقييد يوجب هدم الإطلاق ويخرج عنوان العام عن التسوية

٩٨

__________________

ـ بين انقساماته اللاحقة له لامحة ، لأنّ الإطلاق والتقييد لا يمكن ان يجتمعا ، مع ما بينهما من تقابل العدم والملكة الذي هو في المحلّ القابل يكون مثل تقابل الإيجاب والسلب ، من حيث عدم امكان الاجتماع والارتفاع ، وان كان بينهما فرق من جهة امكان ارتفاع الموضوع في تقابل العدم والملكة ، فلا يصدق على الجدار أنّه اعمى أو بصير ، بل يصح سلبهما عنه ، لأنّ الجدار ليس موضوعا للعمى والبصر من جهة انتفاء القابلية ، بخلاف تقابل السّلب والإيجاب ، فإنّه لا يعقل ارتفاع موضوعه ، من جهة أنّ موضوعه الماهيّات المتّصفة اما بالوجود وامّا بالعدم ، كما سيأتي بيانه في محلّه ان شاء الله. ولكن بالنسبة إلى المحلّ القابل يكون حكم تقابل العدم والملكة حكم تقابل السلب والإيجاب ، فلا يعقل ان يكون الإنسان أعمى وبصيرا ولا لا اعمى ولا لا بصيرا ، فالتقييد يوجب هدم اساس الإطلاق لامحة ، ويوجب تعنون العامّ بنقيض الخاصّ ثبوتا وفي نفس الأمر.

ومجرد إن القيد لا يكون وصفا ونعتا اصطلاحيا لا يوجب ان لا يكون كذلك ثبوتا ، بل لا يعقل ان لا يكون بعد ما لم يكن القيد من الانقسامات المقارنة زمانا لعنوان العامّ بل كان من الانقسامات اللاحقة له ومن اوصافه ونعوته ، ومع هذا كيف لا يوجب التّقييد تنويع العامّ؟ وكيف صح له قدس‌سره ان يقول : لما لم يكن العامّ معنونا بعنوان خاصّ بل بكلّ عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاصّ؟ مع أنّ قوله قدس‌سره «لم يكن ذلك بعنوان الخاص» هو عين التّوصيف والتّنعيت ، مع ما في قوله قدس‌سره «بل بكلّ عنوان» من المسامحة ، إذ العام لا يعقل ان يكون معنونا بكلّ عنوان ، لما بين العناوين من المناقضة ، فكيف يكون معنونا بكلّ عنوان؟ بل العامّ يكون

٩٩

__________________

ـ بلا عنوان ، وذلك يساوي كلّ عنوان يطرأ عليه الذي هو معنى الإطلاق ، ولكن بعد ورود التقييد يخرج عن التساوي ويصير معنونا بنقيض الخاصّ.

ثانيا : إنّه أيّ فائدة في تغيير مجرى الأصل وجعل مجرى الأصل الانتساب الذي هو من الأمور الانتزاعيّة؟ فإنّه لو كان الأثر مترتبا على العدم الأزلي ، فليجعل مجرى الأصل عدم القرشية بالعدم الأزلي بمفاد ليس التّامة. وان كان العدم الأزلي لا يكفي بل يحتاج إلى العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة ، فلا أثر لجعل مجرى الأصل عدم الانتساب بمعناه الأزليّ ، وبمعناه النعتي غير مسبوق بالتحقق. مع أنّ قوله قدس‌سره «اصالة عدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش» هو عين العدم النّعتي ، فتغيير العبارة ما افاد شيئا.

وبالجملة : في مثل الأوصاف اللّاحقة للذات لا ينفع إلّا العدم النعتي ، ولا يجري الأصل إلّا بمفاد ليس الناقصة ولا اثر للمعدوم الازلي إلّا على القول بالاصل المثبت. فما افاده صاحب الكفاية قدس‌سره من كفاية العدم الازلي وجريان الاصل بمفاد ليس التامة مما لا يمكن المساعدة عليه. (فوائد الاصول للشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني ١ ـ ٢ ـ ٥٣٠ إلى ٥٣٦).

ولسيدنا الاستاذ الماتن رضى الله عنه كلام مفيد في المقام وفي رد ما ذكره الميرزا النائيني رضى الله عنه في حقائق الأصول في شرح كفاية الأصول ١ / ٥٠٢ ـ ٥٠٧ نذكره بعد ذكر كلام المحقق الهروي في كفاية الاصول حيث قال : (ايقاظ) لا يخفى أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل لما كان غير معنون بعنوان خاص ، بل بكل عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص ، كان احراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد إلّا ما شذّ ممكنا ، فبذلك

١٠٠