القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

الشيخ محمد آصف المحسني

القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


المحقق: مهدي النيازي الشاهرودي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: پيام مهر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-94560-6-6
الصفحات: ٤٤٠

إلى العلم الحاصل فيه. ويجب الاحتياط في أطرافه لا غير. إذ به يخرج العلم الأوّل عن كونه علما بالتكليف الفعلي.

قلت : سبق المعلوم إنما يقتضي سبق أثره ، فيجب حين العلم ترتيب آثار وجوده سابقا. لا أنه يقتضي ترتيب آثار نفس العلم سابقا. لأن فرض تأخره يوجب تأخر أثره إلى زمان حدوثه ، والتنجز من آثار نفس العلم. فلا وجه لأن يترتب سابقا في زمان ثبوت المعلوم ، وإلّا لزم ثبوت الحكم بلا موضوع.

ودعوى : كون العلم اللاحق يخرج به العلم السابق عن كونه علما بالتكليف الفعلي ، ليس بأولى من دعوى العكس ، بل هي المتعينة. لما عرفت من استناد التنجز إلى أسبق العلمين. وقد عرفت ان انحلال اللاحق بالسابق ليس حقيقيا ـ بمعنى : أنه يخرج عن كونه علما بالتكليف الفعلي ـ بل هو حكمي عقلائي ـ بمعنى : أنه لا يكون حجة عند العقلاء ـ وإلّا فالانحلال قد يكون بحجة غير العلم. من أمارة ، أو أصل ، فكيف ترفع العلم بالتكليف الفعلي؟! وكيف يكون العلم السابق رافعا للاحق دون العكس؟! ولم لا ينحل أحدهما بالآخر مع اقترانهما؟ كما لو علم بنجاسة إناءين معينين أو إناء ثالث. فإنه ينحل إلى علمين اجماليين مشتركين في طرف. ومفترقين في طرف. (وبالجملة) : العلم إنما يتعلق بالصور الذهنية. ولا يسري إلى الخارج. فكيف يرفع أحد العلمين الآخر مع اختلاف الصورتين؟! ومن ذلك تعرف تمامية ما ذكره الاستاذ قدس‌سره وضعف المناقشات فيه.

ثم إن مقتضى الوجه الثاني الذي ذكره غير واحد من الأعيان في تقريب جواز الرجوع إلى الأصل في الملاقي : أنه لو كان العلم الاجمالي الذي حد طرفيه

٤١

الملاقي ـ بالفتح ـ ناشئا من العلم الاجمالي الذي أحد طرفيه الملاقي ـ بالكسر ـ لوجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقي ـ بالفتح ـ كما لو علم بنجاسة أحد اناءين ، ثم علم أن نجاسة أحدهما المعين إن كانت فهي ناشئة من ملاقاته لاناء ثالث ، فإنه حينئذ يحصل علم إجمالي بنجاسة ذلك الاناء الثالث ، أو طرف الاناء الملاقي. لكنّه لا ينجز ، لتأخره رتبة عن العلم الأوّل ، وان كان المعلوم متقدما رتبة على المعلوم بالعلم الأوّل لأن العلم بالعلة ، كما قد يكون علة للعلم بالمعلول ، كذلك قد يحصل من العلم بالمعلول كالعلم بوجود النار الحاصل من العلم بوجود الدخان. كما أنه لو فرض عدم حصول أحد العلمين من الآخر ، بأن حصلا من سبب آخر وجب الاجتناب عن المتلاقيين معا ، لعدم انحلال أحدهما بالآخر ، ما لو علم بنجاسة إناءين أو إناء ثالث ، ثم علم بأن الإناءين على تقدير نجاستهما فهي ملاقاة أحدهما للآخر. فهذا التفصيل يكون نظير التفصيل الذي ذكره الاستاذ قدس‌سره في كفايته ، غايته أن هذا تفصيل بين صور تقدم أحد العلمين رتبة على الآخر وتأخره عنه ، وكونهما في رتبة واحدة ، وذلك تفصيل من حيث تقدم أحدهما على الآخر زمانا وتأخره واقترانهما.

هذا وشيخنا الأعظم رضى الله عنه في رسائله فصل بين صورة حصول العلم بالملاقاة بعد فقد الملاقي ـ بالفتح ـ وبين صورة حصوله في حال وجوده ففي الثانية لا يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ لما تقدم من عدم معارضة أصل الطهارة الجاري فيه بأصل آخر ، وفي الاولى يجب الاجتناب عنه لمعارضة الأصل الجاري فيه بالأصل الجاري في الطرف الآخر.

٤٢

ولكنه يشكل : بأن فقد الملاقي ـ بالفتح ـ لا يوجب عدم جريان أصل الطهارة فيه لاثبات طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ بل يجري فيه ، ويتعارض مع الأصل الجاري في الطرف الآخر ، وبعد التعارض والتساقط يرجع إلى الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ بلا معارض ، والفقدان لا يمنع من جريان الأصل في المفقود إذا كان الأثر المقصود منه ثابتا لموضوع موجود ، فلو غسل ثوبه النجس بماء يعتقد نجاسته ثم شك بعد الغسل في طهارة الماء المغسول به ، جرى استصحاب الطهارة في الماء لاثبات طهارة الثوب وان كان الماء معدوما حين إجراء الاستصحاب فيه. وكذا الحال في اجراء استصحاب الطهارة أو أصالة الطهارة في الاناء المفقود ، بلحاظ أثره في الاناء الملاقي له ، فلا فرق بين صورة فقد الملاقي ـ بالفتح ـ حال العلم بالملاقاة ، وبين صورة وجوده في كون الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ بلا معارض فلو بني على جواز العمل بالأصل المرخص في أحد أطراف العلم الاجمالي كان اللازم البناء على طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ مطلقا.

هذا والذي تحصل مما ذكرنا أمور :

(الأول): أن العلم الاجمالي كما هو حاصل بين الملاقي ـ بالفتح ـ وطرفه كذلك هو قائم بين الملاقي ـ بالكسر ـ وطرف الملاقي.

(الثاني): أنه لا يجوز إجراء الاصل المرخص في الملاقي ولو لم يكن له معارض ، لأن العلم الاجمالي مانع. من اجرائه في كل واحد من الأطراف مع قطع النظر عن المعارض ، لأنه علة لوجوب الموافقة القطعية.

٤٣

(الثالث): أنه لو بني على جواز اجراء الأصل المرخص في كل واحد من الأطراف لم يكن فرق بين صوره فقد الملاقي ـ بالفتح ـ قبل العلم بالملاقاة وعدمه ، لجواز إجراء الأصل في الفرد المفقود إذا كان يترتب عليه الأثر في ملاقيه الموجود.

(الرابع): أن ترتب أفراد العلم المتعلق بالموضوعات لا أثر له في باب الانحلال ما لم يكن ترتب بين أفراد العلم المتعلق بالأحكام ، وأن التنجز إنما يستند عقلا إليه لا إلى العلم بالموضوع ، فإنه علم بالصغرى وهو لا ينجز ، كما أن العلم بالكبرى كذلك ، وإنما المنجز العلم بالنتيجة.

(الخامس): أن سبق زمان المعلوم على زمان العلم إنما يقتضي سبق أثر المعلوم لا سبق أثر العلم ، فإن أثر العلم مقارن له زمانا وان كان بينهما ترتب طبعي كما هو الحال في الموضوع وحكمه.

(السادس): أن الانحلال في جميع موارده حكمي ، لا حقيقي.

(السابع): أن هذا الانحلال الحكمي عقلائي ولا يساعده برهان عقلي.

(الثامن): أن المدار في انحلال أحد العلمين بالآخر السبق واللحوق الرتبيان ، فإن لم يكونا فالزمانيان ، وان السابق يوجب انحلال اللاحق ، وأن مسألة الملاقاة لأحد أطراف العلم الاجمالي في موارد الثاني لا الأوّل.

هذا وظاهر عبارة المتن التوقف في المسألة ، لأن الاحتياط الذي ذكره لم يكن مسبوقا بالفتوى بالجواز ، لأن عدم الحكم بالنجاسة لا يقتضي الطهارة. نعم لو كانت العبارة : أنه محكوم بالطهارة ، كان الاحتياط استحبابيا.

٤٤

وقد خرجنا في هذا الباب عن وضع الكتاب ، لما رأيناه من رغبة بعض إخواننا الحاضرين في مجلس الدرس في ذلك. ومنه سبحانه نستمد العناية والعصمة وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب (١).

__________________

(١) مستمسك العروة ج ١ / ٢٥٣ ـ ٢٦١ وفي ختام هذا البحث ينبغي التنبيه على أمرين :

١ ـ وجوب الاجتناب عن الطرفين إنّما يثبت إذا تعلق العلم بالتكليف الفعلي ابتداء كما في الشبهات الحكمية أو تعلق بالموضوع التام للحكم كما في الشبهات الموضوعية ، وأما إذا تعلّق بالموضوع الناقص أي بجزء الموضوع للحكم فلا مانع من جريان الأصل والحكم بعدم تحقق الموضوع التام كما إذا علم بكون احد الجسدين ميت انسان والآخر جسد حيوان مذكى ماكول اللحم ، فإن هذا العلم الاجمالي وان كان يقتضي وجوب الاجتناب عن أكل لحم كل من الجسدين ، إلّا انه إذا مس شخص احدهما لا يحكم عليه بوجوب الغسل ، لان المعلوم بالاجمال ـ وهو بدن ميت الانسان ـ جزء للموضوع للحكم بوجوب الغسل وتمامه مس بدن ميت الإنسان وهو مشكوك التحقق والاصل عدمه.

وكذلك إذا علم اجمالا بغصبية احدى الشجرتين ثم حصلت لاحدهما ثمرة دون الاخرى ، فيجوز. التصرف في الثمرة تكليفا أو عدم ضمانها وضعا ، فإن المحرّم للثمرة كونها نماء المغصوب ، وهو مشكوك فيه ، والاصل عدمه ، كما ذهب إليه سيدنا الاستاذ الخوئي قدس‌سره خلافا لشيخه النائيني رضى الله عنه (مصباح الاصول ج ٢ / ٤١٧).

ثم إنّ ما تقدم إنما يجري في التصرفات غير المتوقفة على الملك كالأكل

٤٥

__________________

ـ والشرب واللبس والاستعمال وإما المتوقفة عليه فلا تجوز ، فإن الاستصحاب المذكور لا يثبت كونه ملكا إلّا على القول بالأصل المثبت. (مصباح الأصول ج ٢ / ٤٠٩ و ٤١٠).

٢ ـ هذا الذي ذكر من عدم وجوب الاجتناب إذا لم تكن الاطراف مسبوقة بملكية الغير وإلا فالحكم ضمان المنافع وحرمة التصرف فيها كما إذا اشترى احدى الشجرتين وغصب الاخرى فاشتبها وحصل النماء لاحدهما وذلك لاستصحاب بقاء الشجرة في ملك مالكها.

٤٦

٧ ـ اقسام الظاهر وأحكامها

واما وجه الاحتمال الآخر ـ وهو ظهور حال المسلم ـ فلا دليل على حجيته ، إلّا أن يكون الشك بعد خروج الوقت ، فقد قامت الادلة على جواز البناء على وقوع الفعل فيه. أما في غير ذلك فلا دليل عليه ، إذ مرجع ذلك إلى أن اسلام المسلم يقتضي وقوع الفعل منه فيبنى عليه ، وليس ذلك إلّا عملا بقاعدة المقتضي التي اشتهر عدم ثبوتها وعدم جواز العمل عليها (١).

__________________

(١) قد يستدل على صحة القاعدة المذكورة بسيرة العقلاء بدعوى استقرارها على الحكم بوجود المعلول بعد العلم بوجود المقتضي مع الشك في وجود المانع.

ورد بمنع السيرة بل ثبت خلافها فإذا رمى احد حجرا إلى أحد وشك في وجود مانع عن وصوله إليه مع العلم بانه لو وصل إليه لقتله ، فهل يحكم العقلاء بتحقق القتل وجواز القصاص؟

وقد يستدل عليها باصالة عدم المانع فإذا صب الماء على شيء متنجس في الظلمة ـ مثلا فبعد احراز الصب ونفي المانع بالأصل يحكم بحصول الطهارة ، لكن الأصل المذكور لا يثبت عنوان الغسل الذي هو موضوع الطهارة إلّا بناء

٤٧

واما قاعدة التجاوز فليست هي من ظهور الحال ، بل هي من قبيل ظهور الفعل ، لان الدخول في الفعل المترتب على المشكوك فعله يدل على وقوع ما قبله. وبالجملة : الظاهر تارة يكون قولا ، واخرى يكون فعلا ، وثالثة : يكون حالا. والجميع إن كان مقرونا بقصد الحكاية فهو خبر ، وحجيته تختلف باختلاف الموارد ، من حيث كون المورد حكما أو موضوعا ، من حقوق الناس أو من حقوق الله تعالى ، أو لا من هذا ولا من ذاك وباختلاف الخصوصيات من حيث كون المخبر عادلا ، أو ثقة ، أو ذا يد ، أو غير ذلك ، وكون المخبر واحدا أو متعددا وغير

__________________

ـ على القول بالأصل المثبت.

وقد يتخيل بشمول روايات الاستصحاب لها. لكن حرمة نقض اليقين بالشك لا يصدق إلّا في فرض تعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين ولو في زمانين ، وفي قاعدة المقتضي ، اليقين تعلق به والشك لم يتعلق به بل بالمانع ، ففي المثال السابق عدم ترتيب الطهارة على الصب ليس من نقض اليقين بالشك فإن كلا من اليقين والشك تعلق بغير ما تعلق به الآخر فلا يصدق النقض ثم ان ظاهر الاقوال والالفاظ حجة ببناء العقلاء وقد امضاه الشرع قطعا. فيقدم على الاصول العملية وأما ظاهر العمل وظاهر الحال ، فالاصل فيهما عدم الحجية لانهما من الظن الذي لا يغني من الحق شيئا نعم إذا دل دليل خاص على حجية ظاهر عمل أو ظاهر حال في بعض الموارد نقبله.

واعلم ان الشهيد رضى الله عنه في قواعده (ج ١ / ١٣٧ ـ من منشورات مكتبة المفيد) تعرض لتعارض الاصل والظاهر وتقديم أحدهما على الآخر فراجعها أن شئت. والله الموفق.

٤٨

ذلك. وتختلف الحجية باختلاف ذلك كله حسبما تقتضيه الأدلة. وإذا لم يكن قصد الحكاية فالدال ليس من الخبر. والدلالة ان كانت عقلية للزوم العقلي فلا إشكال في الحجية ، وان لم يكن عقليا بل كان مستندا إلى غلبة أو اقتضاء أو نحوهما فالدلالة محتاجة إلى دليل. ومنه المقام ، فان الدلالة المستندة إلى مجرد وجود المقتضي لا دليل عليها (المستمسك ج ١٠ / ٢٧٧ و ٢٧٨).

٤٩

٨ ـ التزاحم بين الاجزاء والشرائط

تنبيه : إجراء قواعد التزاحم في المقام ـ من الترجيح بالأهمية ، أو احتمال الأهمية ، والتخيير مع التساوي في الاهتمام ، أو لكون احتمال الأهمية موجودا في الطرفين ـ إنما يتم مع تعذر الجمع بين الامرين ، لضيق الوقت أو نحوه (١) أما مع إمكان الجمع فاجراؤه كلية غير ظاهر لاختصاص ذلك بما إذا كانت الملاكات موجودة في الطرفين ، بأن كان هناك واجبان (٢) تعذر الجمع بينهما ، مثل أن يدور الامر بين انقاذ الغريق ، وتطهير المسجد ، أو فعل الصلاة ، أو ترك التصرف في المغصوب ، أو نحو ذلك من موارد الدوران فانه لا قصور في وجود الملاك في انقاذ الغريق ، كما لا قصور في وجوده أيضا في فعل الصلاة ، وفي تطهير المسجد وفي ترك التصرف في المغصوب ، ولما لم يمكن العمل بهما معا ، يرجع إلى القواعد العقلية الموجبة للتخيير أو الترجيح في الموافقة والمخالفة.

__________________

(١) كعدم كفاية الماء عن الطهارة المائية وعن ازالة النجاسة عن بدن المصلي أو لباسه.

(٢) أي واجبان نفسيان مستقلان دون الواجبات الضمنية والغيرية.

٥٠

أما إذا علم كون التكليف واحدا وكون الملاك موجودا في أحد الطرفين لا غير ، وكان الشك في موضوعه ، فاللازم الجمع بين المحتملين ، عملا بالعلم الاجمالي (١).

نعم العلم بأهمية أحد الامرين يكون موجبا للعلم بوجود الملاك فيه لا غير فلا يجب الآخر. كما أنه مع التساوي في الاهتمام يعلم بوجود الملاك في كل منهما تخييرا ، فيجب أحدهما على التخيير دون الآخر. كما أنه مع احتمال الاهمية في أحد الطرفين بعينه يعلم بوجود الملاك ، في محتمل الأهمية ، إما تعيينا أو تخييرا بينه وبين الآخر ، فيجب بعينه عقلا دون الآخر.

أما إذا كان احتمال الأهمية موجودا في كل من الطرفين فلم يحرز وجود الملاك في كل منهما تخييرا ، فلا طريق للحكم بوجوب أحدهما تخييرا مع إمكان الجمع ، بل يجب الجمع بينهما عقلا ، للعلم الاجمالي بوجوب أحدهما المردد بينهما.

وما ذكرنا مطرد في جميع موارد الدوران بين ترك شرط وشرط آخر ، وبين ترك جزء وجزء آخر ، وبين ترك شرط وترك جزء ، مع العلم بوجوب الواجب وعدم سقوط وجوبه بتعذر جزئه أو شرطه. مثل أن يدور الأمر بين ترك الطمأنينة في الصلاة وترك القيام ، وبين ترك القيام في الصلاة وترك الركوع ، وبين ترك القيام

__________________

(١) فليس دوران الامر بين الامر بين الاجزاء والشرائط من التعارض الموجب للتساقط ولا من التزاحم حتى يرجع إلى مرجحاته. كما يأتي بيانه في كلام السيد الماتن عن قريب.

٥١

وترك الاستقبال ... إلى غير ذلك من موارد الدوران. والحكم فيه ما ذكرناه ، من أنه إن علم بتساوي الأمرين في نظر الشارع فقد علم بوجود ذلك الملاك في كل منهما تخييرا ، فيتخير المكلف بينهما ، وان علم بأهمية أحدهما بعينه فقد علم بوجود الملاك فيه لا غير ، وإن علم بأهمية أحدهما بعينه أو مساواته للآخر فقد علم بوجود الملاك في محتمل الأهمية وشك في وجوده في الآخر ، وان احتمل الأهمية في كل من الطرفين فلا طريق إلى إحراز الملاك في أحدهما تعيينا ، ومع تردده بينهما يجب الاحتياط بالجمع مع إمكانه ومع عدم امكانه يتخير بينهما ، لكن في الحكم بالاجزاء وسقوط القضاء إشكال ، لعدم الدليل عليه (١).

__________________

(١) المستمسك ج ١ / ٥٤٦ ويحسن بنا ان نذكر نظرا آخر في هذا المقام حتى يكون القارئ على بصيرة كاملة في هذه الكبرى الكلية التي لها مصاديق كثيرة وهي محل الابتلاء للجميع.

قيل : إنّ دوران الامر بين شرط وجزء أو جزء وجزء أو بين شرط وشرط أو بين عدم مانع وعدم مانع وغيرها كلها عند المشهور من باب التزاحم ولذا رجعوا إلى ترجيح بعضها على بعض إلى الأهمية واحتمالها وبالاسبقية بالوجود إلّا ان الصحيح أن الموارد المذكورة من باب التعارض فإنّ الميزان في تعارض الدليلين تكاذبهما وتنافيهما في مقام الجعل والتشريع مع قطع النظر عن مرحلة الفعلية والامتثال ، بان يستحيل جعلهما وتشريعهما لاستلزامه التعبد بالضدين أو النقيضين في مورد واحد ، والتعبد بهما أمر غير معقول ـ فصدق كل منهما يدل على كذب الآخر ولو بالالتزام وهذا هو الميزان الكلي في تعارض الدليلين بلا

٥٢

__________________

ـ فرق في ذلك بين القول بتبعية الاحكام الشرعية للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في جعلها ـ كما التزم به العدلية ـ والقول بعدم تبعيتها لهما ، لانا قلنا بذلك أم لم نقل يستحيل الجمع بين الضدين أو النقيضين بحسب الجعل والتشريع ، فما عن صاحب الكفاية قدس‌سره من أن ميزان التعارض أن لا يكون لكلا الحكمين مقتض وملاك بل كان المقضي لاحدهما فمما لا وجه له ، لما مر من أن القول بوجود الملاك في الاحكام وعدمه اجنبيان عن بابي المعارضة والمزاحمة بل المدار في التعارض عدم امكان الجمع بين الحكمين في مرحلة الجعل والتشريع كما مر هذا. على أن العلم بالملاك وانه واحد أو متعدد يحتاج إلى علم الغيب المختص باهله وليس لنا إلى احرازه سبيل إلّا أن يستكشف وجوده من الاحكام نفسها ومعه كيف يمكن احراز أنه واحد أو متعدد مع الكلام في تعدد الحكم ووحدته.

أما المتزاحمان فلا مانع من جعل كل منهما على نحو القضية الحقيقية فان الاحكام الشرعية مشروطة بالقدرة عقلا أو من جهة اقتضاء نفس الخطاب ذلك من غير أن يكون للقضية نظر إلى ثبوت موضوعها ـ وهو القادر ـ وعدمه فأيّ مانع معه من ان يجعل على ذمة المكلف وجوب الصلاة في وقت معين إذا قدر عليها ويجعل على ذمته أيضا وجوب الازالة أو غيرها على تقدير القدرة عليها حيث لا تكاذب بين الجعلين بوجه ولا ينفي أحدهما الآخر ابدا. نعم التنافي بين المتزاحمين إنما هو في مقام الفعلية والامتثال لعجز المكلف عن امتثال كلا التكليفين في زمان واحد حيث أن له قدرة واحدة فاما ان يعملها في هذا أو يعملها في ذاك فالاخذ باحد الحكمين في المتزاحمين يقتضي ارتفاع موضوع الحكم الآخر وشرطه لانه إذا صرف قدرته في أحدهما فلا قدرة له لامتثال

٥٣

__________________

ـ التكليف الآخر وهذا بخلاف الاخذ باحد المتعارضين لأن الاخذ باحدهما يقتضي عدم ثبوت الحكم الآخر حيث يدل على عدم صدوره لتكاذبهما بحسب مرحلة الجعل والتشريع مع بقاء موضوعه بحاله وإذا عرفت ما هو الميزان في كل من التعارض والتزاحم فنقول : التزاحم على ما بيناه في بحث الترتب وغيره إنما يتحقق بين تكليفين استقلاليين لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في الامتثال ، ومقتضى القاعدة حينئذ عدم وجوب امتثالهما معا وأما امتثال احدهما فحيث انه متمكن منه فيجب عليه إذ لا موجب لسقوط التكليف عن كليهما ، نعم لا بدّ في تشخيص أن ما يجب امتثاله أيّ من المتزاحمين من مراجعة المرجحات المقررة في محلها بلا فرق في ذلك بين كونهما وجوبيين أو تحريميين أو بالاختلاف.

وأما إذا كان التكليف واحدا متعلقا بعمل ذي اجزاء وشروط وجودية أو عدمية ودار الامر فيه بين ترك جزء أو جزء آخر أو بين شرط وشرط آخر أو الاتيان بمانع أو بمانع آخر فلا تأتي فيه كبرى التزاحم بل هو في مثله أمر غير معقول وذلك فإن المركب من جزء وشرط فعل واحد ارتباطي بمعنى أن ما دل على وجوب كل واحد من الاجزاء والشرائط ارشاد إلى جزئية الجزء أو شرطية الشرط ومعناهما أن الركوع ـ مثلا ـ واجب مقيدا بما إذا تعقبه السجود وهما واجبان مقيدان بتعقب الجزء الثالث وجميعها واجب مقيد بتعقبه بالجزء الرابع وهكذا إلى آخر الاجزاء والشرائط ، ومعه إذا لم يتمكن المكلف من جزءين أو شرطين منها معا (١) سقط عنه الأمر المتعلق بالمركب لتعذر جزءه أو شرطه فإن التكليف ارتباطي ووجوب كل من الاجزاء والشرائط مقيد بوجود الآخر كما

٥٤

__________________

ـ مر. نعم الدليل القطعي قام في خصوص الصلاة على وجوب الاتيان بما تمكن المكلف من اجزائها وشرائطها وانه إذا تعذرت منها مرتبة تعينت مرتبة اخرى من مراتبها وذلك للاجماع القطعي والقاعدة المتصيدة من ان الصلاة لا تسقط بحال المستفادة مما ورد في المستحاضة من انها لا تدع الصلاة على حال [راجع ب ١ من أبواب الاستحاضة من الوسائل]. للقطع بعدم خصوصية للمستحاضة في ذلك ، إلّا انه تكليف جديد وهذا الامر الجديد إما أنه تعلق بالاجزاء المقيدة بالاستقبال ـ مثلا ـ أو على المقيدة بالاستقرار والطمأنينة ، فيما إذا دار أمر المكلف بين الصلاة إلى القبلة فاقدة للاستقرار وبين الصلاة معه إلى غير القبلة للقطع بعدم وجوبهما معا فوجوب كل منهما يكذب وجوب الآخر وهذا هو التعارض كما عرفت (٢) فلا بدّ حينئذ من ملاحظة أدلة ذينك الجزءين أو الشرطين فإن كان دليل أحدهما لفظيا دون الآخر ليتقدم ما كان دليله كذلك على غيره باطلاقه فان الادلة اللبية يقتصر فيها على المقدار المتيقن. وإذا كان كلاهما لفظيا وكانت دلالة احدهما بالعموم ودلالة الآخر بالاطلاق فما كانت دلالته بالعموم يتقدم على ما دلالته بالاطلاق لان العموم يصلح أن يكون قرينة

_______________

(١) واما اذا تمكن من الجمع بين الامرين ولو بتكرار العمل فيجب الاحتياط وتكرار العمل تارة مع احد واخرى مع الآخر للعلم الاجمالي بوجوب احدهما اي اما أن الصلاة عن القيام دون استقبال القبلة مثلاً واجبة واما الصلاة مع الاستقبال دون القيام واجبةً مثلاً.

(٢) لا تكاذب بين الواجبين في مقام الجعل مع قطع النظر عن مرحلة الامتثال كما هو ميزان التعارض عنده بل الكاذب بلحاظ عجز المكلف وهو ميزان التزاحم.

٥٥

__________________

ـ وبيانا للمطلق دون العكس. وإذا كانا متساويين من تلك الجهة فيتساقطان ويتخير المكلف بينهما بمقتضى العلم الاجمالي بوجوب احدهما واندفاع احتمال التعين في احدهما بالبراءة كما هو الحال في موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير ، ولا مساغ حينئذ للترجيح بالأهمّيّة إذ الشك فيما هو المجعول الواقعي سواء أكان هو الاهم أم غيره ، ومن هنا ربما يتعارض الاباحة مع الوجوب مع أنه اهم من الاباحة يقينا ثم إنا لو اغمضنا عن ذلك وبنينا على أن المدار في التعارض وحدة الملاك والمقتضي وعدم اشتمال كلا المتعارضين عليهما أيضا لا تندرج المسألة في كبرى التزاحم وذلك لان الصور المحتملة في مقام الثبوت ثلاث لا رابع لها إذ الجزءان أو الشرطان اللذان دار الامر بينهما إما أن لا يكون في شيء منهما الملاك. واما ان يكون الملاك لكل منهما بحيث لو أتى بالصلاة فاقدة لشيء منهما بطلت. وإما أن يكون الملاك لاحدهما دون الآخر. أما الصورة الاولى فلازمها الحكم بصحة الصلاة الفاقدة لذينك الجزءين أو الشرطين معا إذ لا ملاك ولا مدخلية لهما في الصلاة الفاقدة لذينك الجزءين أو الشرطين معا إذ لا ملك ولا مدخلية لهما في الصلاة وهذه خلاف علمنا الاجمالي بوجوبها مقيدة بهذا أو بذاك. وأما الصورة الثانية فلازمها سقوط الامر بالصلاة لمدخلية كل من الجزءين أو الشرطين في صحتها بحيث إذا وقعت فاقدة لاحدهما بطلت وبما أن المكلف عاجز عن اتيانهما معا فيسقط عنه الامر بالصلاة وهذا أيضا على خلاف العلم الاجمالي بوجوبها مقيدة باحدهما ، ومع بطلان القسمين السابقين تتعين الصورة الثالثة وهي أن يكون المقتضي لاحدهما دون الآخر وهو الميزان في تعارض الدليلين عند صاحب الكفاية قدس‌سره فعلى

٥٦

أقول : فالمتحصل مما علقنا ان ما افاده سيدنا الاستاذ الخوئي رحمه‌الله من ادخال المقام في باب التعارض محل نظر فان دعواه القطع بعدم وجوب كلا الجزءين اللذين يعجز المكلف من اتيانهما ممنوعة إذا فرض قدرة المكلف عليهما في الصلاتين ولو مع الفصل الزماني بينهما كان ياتي بالصلاة مع الطمأنية في اول الوقت وبالصلاة مع الاستقبال في آخر الوقت ، بل مقتضي القاعدة وجوب الاحتياط للعلم الاجمالي بوجوب احدهما عند سيدنا الاستاذ الحكيم ، نعم هي صحيحة إذا لم يتمكن المكلف من الصلاتين لضيق الوقت ونحوه لكن عدم الوجوب حينئذ مستند إلى عجز المكلف من الامتثال كما في دوران الامر بين وجوب الإنقاذ وحرمة التصرف في الارض المغصوبة فان القطع بعدم وجوب كليهما مستند إلى عجز المكلف في مرحلة الامتثال ثم انه لا يتعين في بحث دوران الامر بين جزء وجزء ، مثلا انتفاء الامر بالمركب والقول بحدوث حكم جديد في خصوص الصلاة بل يمكن فرض بقاء الامر بالمركب وفرض انتفاء الوجوب الضمني في احد الجزءين أو فرض انتفاء الوجوب الضمني او الوجوب الغيري إذا دار الأمر بين الجزء والشرط. فتأمل وعلى كل الاظهر ما اختاره السيد الحكيم قدس‌سره ولله الحمد.

__________________

ـ مسلكنا ومسلكه لا بدّ من اندراج المسألة تحت كبرى التعارض. وهذا بخلاف التزاحم بين التكليفين الاستقلاليين ، إذ لا مانع من اشتمال كل منهما على الملاك وبما أن المكلف غير متمكن من امتثالهما فيسقط التكليف عن احدهما ويبقى الآخر بحاله ، والمتحصل أن في تلك المسائل لا سبيل للرجوع إلى مرجحات باب التزاحم ، كما في التنقيح ج ١ / ٤٠٢ ـ ٤٠٥.

٥٧
٥٨

٩ ـ الفحص في الشبهات الموضوعية

(إذا شك في مقدار ما له وانه وصل إلى حد الاستطاعة أو لا؟ هل يجب عليه الفحص أو لا؟ وجهان احوطهما ذلك ...).

من المعلوم أن الشبهة في المقام موضوعية ، وقد اشتهر عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية كلية ، لإطلاق أدلة الأصول الشرعية كاستصحاب العدم ، وأصالة الحل ، ونحوهما مما يقتضي نفي التكليف. وكذا البراءة العقلية ، بناء على عمومها للشك في التكليف إذا كان بتقصير المكلف بأن يكون المراد من عدم البيان ـ المأخوذ موضوعا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ ما هو أعم مما كان بترك الفحص وطلب البيان ، كما هو الظاهر (١).

__________________

(١) فالعمدة عند السيّد الاستاذ الحكيم قدس‌سره وغيره في عدم وجوب الفحص في الشبهات الخارجية ، اطلاق ادلة الاستصحاب وأصالة الحلية ونحوهما ، قال في حقائق الأصول : ج ٢ / ٣٦٠ : أن الظاهر من أدلة البراءة مثل حديث الرفع والسعة ونحوهما ان موضوعها مجرد عدم العلم بالواقع وهو حاصل قبل الفحص كما

٥٩

نعم بناء على أن المراد منه عدم البيان لا من قبل المكلف لم تجر القاعدة إذا كان عدم البيان لعدم الفحص. لكن في الاصول الشرعية كفاية في اقتضاء عدم وجوب الفحص في المقام ونحوه ، كباب الشك في تحقق النصاب في الزكاة ، والشك في تحقق الربح في الخمس.

لكن ذهب جماعة إلى وجوب الفحص في الأبواب المذكورة ، بل الظاهر أنه المشهور مع الشك في تحقق النصاب. ولعله هناك في محله لرواية زيد الصائغ (١) المتضمنة لوجوب تصفية الدراهم المغشوشة ، مع الشك في

__________________

ـ الفحص.

ولو قلنا بان المراد بالبيان هو الحجة الواصلة فعلا جاز الرجوع إلى البراءة العقلية قبل الفحص بمجرد الشك ، لعدم وصول الحجة حينئذ.

والأول غريب وليس له نظير .. والثاني اضعف منه يظهر ذلك مما عرفت من لازمه ، والثالث قريب. ولكن الاخير منه اقرب ، لعدم صحة الاحتجاج في نظر العقلاء بوجود الحجة واقعا مع عدم وصولها إلى المكلف وجهلة بها. ومجرد كونه قادرا على رفع جهله لا يصحح العقاب كما هو الحال في الشبهات الموضوعية أيضا. انتهى.

أقول : الذي جعله غريبا هو الذي اختاره السيّد الشهيد الصدر رضى الله عنه وسمّاه حق الطاعة وانكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشرعيات ، ولكنه ضعيف.

وملاحظة حال الحكومات والقوانين الدولية يعين الثالث كما صرح به صاحب الكفاية قدس‌سره وكأنه الاقرب.

(١) الرواية غير حجة لضعف سندها بجهالة محمّد بن عبد الله بن هلال وزيد الصائغ.

٦٠