القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

الشيخ محمد آصف المحسني

القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


المحقق: مهدي النيازي الشاهرودي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: پيام مهر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-94560-6-6
الصفحات: ٤٤٠

مملوكا بالشرط ، فلا مجال للبناء عليه. (المستمسك ج ١٣ / ١٧٦ إلى ١٧٨).

__________________

ـ تأمل. نعم إذا لم يستفد ملكية العمل من الشرط ، بل مجرد الزام المشروط عليه به والتسلط على الخيار عند عدم الوفاء به ، فلا موجب للضمان كما اشار إليه صاحب الجواهر قدس‌سره وسيأتي تفصيل هذا البحث الصغروي في الفصل الآتي اللاحق.

٤٢١

٦٦ ـ المائز بين العقد والايقاع

والاولى أن يقال : إن المائز بين العقد والايقاع أن المفهوم المنشأ إن كان متعلقا بطرفين على وجه يكون تعلقه بكل منهما خلاف السلطنة عليه يكون عقديا ، أو لا يكون كذلك ، فيكون ايقاعا. مثلا تمليك مال إنسان لآخر لما كان على خلاف سلطنة المالك والمتملك ـ فان خروج مال إنسان عن ملكه إلى ملك غيره خلاف سلطنة المالك على ماله ، وخلاف سلطنة المتملك على نفسه ـ ، كان التمليك مفهوما عقديا. واسقاط ما في الذمة لما لم يكن خلاف سلطنة من له الذمة كان إيقاعا ، فيجوز وقوع الثاني بلا حاجة إلى إعمال سلطنة صاحب الذمة ، ولا يجوز وقوع الأوّل بلا سلطنة المتملك. ومن ذلك تعرف أن إنشاء المفهوم العقدي لا يكون إلّا باعمال سلطنة كل من الطرفين ، فيكون إيجابا من طرف وقبولا من طرف آخر.

وربما يحصل باعمال السلطنة من دون صدق القبول ، كما إذا قال زيد لعمرو : بعني فرسك ، فانه إذا قال عمرو : بعتك الفرس ، حصل البيع بلا حاجة إلى قبول ، لحصول الاعمال للسلطنة من جهة زيد بمجرد الأمر. وكذا إذا قال : أذنت لك

٤٢٢

في أن تبيعني فرسك ، فانه إذا قال عمرو : بعتك فرسي ، صح من دون حاجة إلى القبول ، وكذلك الوكيل للمتعاقدين معا ، فانه إذا قال : بعت فرس أحدهما للآخر ، صح من دون حاجة إلى القبول ، ومالك العبد والأمة إذا انشأ تزويج أمته من عبده صح من دون حاجة إلى قبوله ، كما أفتى بذلك جماعة.

وعلى هذا فالامر بالزرع ليس إيجابا ولا قبولا ، لعدم صدوره في مقام الانشاء للمفهوم الانشائي ، فانه أمر بالزرع وطلب له من دون إنشاء للمزارعة ، فصحة المعاملة مع ذلك ليس لانه إيجاب أو قبول ، بل لأنه إعمال للسلطنة. ومثله أن يقول : أذنت لك في أن تزرع الارض بحصة كذا ، أو أذنت لك في أن تزارعني على الثلث ، فذلك بمنزلة الايجاب ، لانه إعمال لسلطنة صاحب الارض الذي وظيفته الايجاب ، إذ الاحتياج إلى الايجاب في حصول المفهوم العقدي لأجل كونه إعمالا للسلطنة ، وهو حاصل بالامر ، فاذا قال زيد لعمرو : تملك مالي ، فقال عمرو : تملكت مال زيد ، حصل الملك من دون حاجة إلى قول زيد : قبلت.

ومن ذلك يظهر أن الاكتفاء بالامر في الايجاب ليس من باب استعمال الأمر في المعنى الانشائي ، بأن يكون قوله : ازرع هذه الأرض ، مستعملا في إنشاء المزارعة مجازا ، كي يكون من المجازات المستنكرة ، ولا من باب الكناية عن الانشاء النفساني ، فيكون الامر حاكيا عنه بالدلالة العقلية ، نظير حكاية تصرف من له الخيار في العين المبيعة الحاكي عن إنشاء الفسخ ، بل هو من باب إعمال السلطنة الكافي عن القبول.

وربما يكون الأمر بنفسه انشاء على الحقيقة. بأن يكون أمرا تكوينيا لا

٤٢٣

تشريعيا ، كما إذا قال البائع للمشتري : اشتر هذا الفرس بدرهم منشئا نفس الشراء ، كما في قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) فيقول المشتري : قبلت ، ويتم العقد ، فيكون قوله : اشتر ، إيجابا على الحقيقة ، وفي المقام يقول صاحب الارض للفلاح : كن مزارعا ، فيقول الفلاح : قبلت ، وفي باب النكاح يقول الرجل للمرأة : كوني زوجة ، فتقول المرأة : قبلت ، أو تقول هي : كن لي زوجا ، فيقول : قبلت ، وهكذا ينشأ المفهوم الانشائي بصيغة الأمر ، فيكون جعلا تكوينيا للمعنى الانشائي ، ويكون إيجابا ، فاذا لحقه القبول كان عقدا.

ويتحصل مما ذكرنا : أن الاكتفاء بالأمر في العقود يكون على أربعة أنحاء : (الأوّل) : أن يكون من باب إعمال السلطنة ، فيكون كافيا عن الايجاب أو القبول. لا أنه إيجاب أو قبول. (الثاني) : أن يكون إيجابا أو قبولا ، كما إذا كان أمرا تكوينيا. (الثالث) : أن يكون حاكيا عن الالتزام النفسي ودالا عليه بالدلالة العقلية ، نظير تصرف من له الخيار ، ويكون جزء العقد في الحقيقة هو ذلك الالتزام النفسي ويكون الأمر تشريعيا دالا عليه دلالة المعلول على علته. (الرابع) : أن يكون مستعملا مجازا في معنى فعل الماضي أو المضارع ، على نحو الانشاء لا الاخبار فيكون من المجازات المستنكرة التي لا يجوز إنشاء العقد بها. (المستمسك ج ١٣ / ٥٠ إلى ٥٢).

٤٢٤

٦٧ ـ بعض اقسام الكشف

الكشف الحكمي بمعنى أنه حال الاجازة يثبت مضمون العقد ، ويجب ترتيب أحكام ثبوته من حين العقد ، فالمضمون لما كان على هذا القول ثابتا حال الاجازة ، وهو حال الاحرام ، كان التزويج حال الاحرام ، فيبطل وإن كانت أحكام المضمون ثابتة من حين العقد. نعم لا مانع من صحة الاجازة بناء على الكشف الانقلابي ، الراجع إلى أن زمان الاجازة هو زمان جعل المضمون من حين العقد فالمجعول هو المضمون من حين العقد وإن كان جعله حين الاجازة ، فاذا كان العقد المجاز واقعا حال الاحلال يكون التزويج واقعا حينئذ ، فلا مانع منه. اللهم إلّا أن يدعى أن المستفاد من الأدلة حرمة جعل التزويج حال الاحرام وإن كان زمان المجعول حال الاحلال. ولأجل ذلك قال المصنف رضى الله عنه : «بل الأحوط مطلقا» يعني : حتى الكشف الحقيقي أو الكشف الانقلابي ، واحتمله في الجواهر بناء على انه نوع تعلق بالنكاح ممنوع منه ، كما يشير إليه مرسل أبي شجرة : «في المحرم يشهد على نكاح المحلين؟ قال عليه‌السلام : لا يشهد. ثم قال : يجوز للمحرم ان

٤٢٥

يشير بصيد على محل؟» (١) ثم قال : ويحتمل الجواز ، لانه ليس تزويجا حال الاحرام بناء على الكشف ، والاحوط الأوّل وان كان الثاني لا يخلو من قوة».

وكأنه لضعف المرسل المانع من الخروج به عموم الصحة أو اصل البراءة. وأما ما سبق من احتمال ان يكون الممنوع جعل الزوجية ، كنفس الزوجية فغير بعيد من النصوص الآتية المتضمنة انه لا يتزوج ولا يزوج غيره ، فاذا منع من أن يزوج غيره فأولى ان يمنع من أن يزوج نفسه. (المستمسك ج ١٤ / ١٦٧ و ١٦٨).

__________________

(١) الوسائل باب : ١ من أبواب تروك الاحرام حديث : ٨.

٤٢٦

٦٨ ـ كلام حول المعاوضة

(هذا على ما هو المشهور من ان مقتضى المعاوضة دخول المعوض في ملك من خرج عنه العوض وانه لا يعقل غيره وأمّا على ما هو الاقوى من عدم المانع من كون المعوض لشخص والعوض داخل في ملك غيره ...).

المعاوضة مصدر «عاوض» ، و «فاعل» ، لا يدل على المشاركة كما يظهر من ملاحظة موارد الاستعمال كما أشرنا إلى ذلك في أول كتاب المضاربة (١) ، وإنما

__________________

(١) كالمطالعة والمسافرة والمتابعة والمباركة والمناولة وغيرها ، كما اذا قلت طالعت الكتاب وتابعت زيدا وباركت له وناولته الكتاب وسافرت وآويته. وانما المقتضى للمشاركة ، التفاعل والمفاعلة تقتضي السعي إلى الفعل (١) فاذا قلت قتلت زيدا ، فقد اخبرت عن وقوع القتل ، واذا قلت : قاتلت ، كنت قد اخبرت بالسعي إلى القتل فربما يقع وربما لا يقع ، ولا تقتضي المشاركة. نعم ربما تكون المادة مقتضية للمشاركة وليست من مفاد الهيئة. ذكره في كتاب (المضاربة ج ١٢ / ٢٣٥).

_____________

(١) هذا انما يتم في بعض المواد كالمقاتلة وليست من خصوصيات باب المفاعلة لعدم تحققه في كثير من المواد كالمطالعة والمناولة ونحوهما.

٤٢٧

الذي يدل على المشاركة «تعاوض» والمصدر له التعاوض فمعنى عاوض أنه أعطى العوض وجعله في مكان المعوض ، أما المعوض فلا يجب أن يكون في مكان العوض ، وعليه فالثمن الذي هو العوض يجب أن يكون في مكان المثمن المعوض ، ولا يجب العكس. نعم يكون العكس إذا لم يكن مقتض للخلاف. هذا هو الموافق للمرتكزات العقلائية. وأما احتمال أنه لا يجب أن يكون العوض داخلا في ملك مالك المعوض فيجوز أن يكون المعوض لشخص ، فيخرج من ملكه إلى ملك غيره ، ولا يدخل في ملكه شيء ، بل يدخل العوض في ملك غيره ، وهو الذي جعله المصنف رضى الله عنه أقوى ، فضعيف جدا (١).

لأن الظاهر من الباء كون مدخولها عوضا ، والظاهر من العوض كونه في مكان المعوض ، ولذلك كان من المسلمات امتناع الجمع بين العوض والمعوض. والذي يتحصل : أن المحتمل في مفهوم المعاوضة أمور ثلاثة (الأول) : دخول كل من العوض والمعوض في ملك من خرج عنه الآخر.

__________________

(١) إلا ان يقال أنّ ما اختاره صاحب العروة كما انه غير مناف لحقيقة المعاوضة ، غير مناف لكلمة الباء فان مدخولها وان كان عوضا لكن كونه في مكان المعوض أو ملكا لآخر تابع للاعتبارات بين المتعاملين. نعم الجمع بين العوض والمعوض غير صحيح كما افاده. على انه ايضا يمكن منعه ويقال بصحة اجارة احد مثلا على تعلم العلوم بان يقول الموجر لابنه أو من يحبه آجرتك بكذا لتعلم العلوم المعينة عند الاساتذة في مدة كذا فيقول الاجير قبلت ولا نرى لبطلانه وجها مقنعا وفيه جمع العوض والمعوض.

٤٢٨

(الثاني) : دخول العوض في ملك مالك المعوض دون العكس.

(الثالث) : عدم لزوم دخول أحدهما في ملك مالك الآخر فيجوز أن يدخل كل منهما في غير ملك من خرج عنه الآخر. والاحتمال الأوّل هو المشهور ، والثاني هو الأقوى ، والثالث ضعيف. وعلى الأولين يتوجه الاشكال الذي ذكره المصنف ثم الجواب عنه بما ذكر ، ولا يختص الاشكال والجواب بالمشهور فقط. وعلى الثالث لا يتوجه الاشكال من أصله ، إذ لا موجب لان ينتقل المال إلى البائع لعدم دخله في مفهوم المعاوضة على ما هو المفروض كي يشكل بأنه يلزم من نقله إلى البائع عدم نقله وعوده إلى نفسه. (المستمسك ج ١٢ / ٣٥٤).

٤٢٩

٦٩ ـ فرق الجعالة عن غيرها

تفترق الجعالة عن الاجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة ونحوها : بأنها إيقاع لا يقوم إلّا بالجاعل ، ولا يعطي لغيره لونا ولا حكما ، فان من قال لغيره : ان خطت ثوبي فلك علي درهم ، فقد جعل شيئا على نفسه ولم يجعل شيئا على غيره ، بخلاف العناوين المذكورة فانه فيها يكون العامل ذا لون خاص ، يكون به مستحقا عليه العمل ومسئولا عن العمل ولا بدّ له منه ، ولذلك كانت من العقود ، لان هذه المسئولية ، وكونه مستحقا عليه العمل لا تكون إلّا بقبول من عليه المسئولية ولا تكون بغير سلطانه ، ولا ينافي ذلك جواز الفسخ في المضاربة ، فان المسئولية ، لو لا الفسخ كافية في الاحتياج إلى القبول. ونحو ذلك الفرق بين الاذن والوكالة فان الاذن من الايقاع ، فلا يحتاج إلى قبول المأذون ، لأنه لا يكتسي به عنوانا ، ولا مسئولية ، بخلاف الوكالة فانها توجب ثبوت عنوان للوكيل يكون به مسئولا عن العمل ، وقائما مقام الموكل ، فالوكيل في البيع والشراء يجب عليه أن يبيع إذا اقتضت مصلحة الموكل ذلك ، كما يجب عليه أن يشتري إذا اقتضت مصلحة الموكل ذلك ، وإلّا كان خائنا وجاريا على خلاف مقتضى عنوان الوكالة ، وليس كذلك المأذون في البيع والشراء (المستمسك ج ١٢ / ٣٩٢).

٤٣٠

٧٠ ـ دوران الامر بين القرض والمضاربة

(إذا حصل تلف أو خسران فادعى المالك أنه اقرضه وادّعى العامل أنّه ضاربه قدم قول المالك مع اليمين).

كذا في القواعد والتذكرة وعن التحرير ، واختاره في جامع المقاصد ، وعلله : بأن الاصل في وضع اليد على مال الغير ترتب وجوب الرد عليه ، لعموم قوله عليه‌السلام : «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» (١).

ولان العامل يدعي على المالك كون ماله في يده على وجه لو تلف لم يجب بدله ، والمالك ينكر (٢).

__________________

(١) مستدرك الوسائل باب ١ من أبواب كتاب الوديعة حديث ١٢ هذا الخبر المشهور لا سند له وغير وارد من طرقنا ، فلا نعتمد عليه ، فلا عموم لوجوب رد مال الغير مطلقا ولا لضمانه ، بل بعض الاقسام يستدعي وجوب الرد وبعضها لا يقتضي الضمان الا بالاتلاف أو بالتلف عند الشرط ، وفي المقام اذا كان اخذ المال بالمضاربة وتلف بغير افراط وتفريط ومخالفة شرط لا ضمان ولا رد.

(٢) ولقائل ان يقول ان المالك يدعي كون ماله في يد غيره على وجه لو تلف يجب رد بدله ، والاصل عدم هذا الوجوب ولا عموم حاكم على هذا الاصل.

٤٣١

فان قيل المالك أيضا يدعي على العامل شغل ذمته بماله ، والاصل البراءة. قلنا : زال هذا الاصل بتحقق إثبات يده على مال المالك ، المقتضي لكونه في العهدة ، والأمر الزائد المقتضي لانتفاء العهدة لم يتحقق ، والاصل عدمه.

وفيه : أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «على اليد ...» يختص بما إذا كان المال المأخوذ مال الغير ، وهو خلاف دعوى المالك ، إذ في القرض لا يكون المال مال الغير ، بل يكون مال نفسه ، ولذا يكون ضمان المال بالقرض لا باليد ، وكذا ضمان المبيع يكون بالبيع لا باليد ، ويسمى ضمان المعاوضة. فتقديم قول المالك يتوقف على أصالة احترام مال المسلم على نحو يقتضي ضمانه مطلقا وهي غير ثابتة.

وان كان قد يشهد بها مصحح اسحاق بن عمار قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل استودع رجلا الف درهم فضاعت ، فقال الرجل كانت عندي وديعة ، وقال الآخر : إنما كانت لي عليك قرضا ، فقال عليه‌السلام : المال لازم له إلّا أن يقيم البينة انها كانت وديعة» (١).

لكن استفادة الكلية من المصحح غير ظاهرة ، وإن كان ظاهر المشهور ذلك (٢).

__________________

(١) الوسائل باب ٧ من كتاب الوديعة حديث : ١ (ج ١٩ / ٨٥).

(٢) ولا يبعد اختياره بعد استفادة ترتب جواب الامام عليه‌السلام في معتبرة اسحاق على ادعاء المالك انه اقرضه ، وعدم خصوصية في دعوى الوديعة ، إلّا أن يقال باختصاص الحكم بفرض الاستحلال كالعارية والهبة كما عن السيد الاستاذ فتأمّل فيه.

٤٣٢

فقد ذكر الاكثر أنه إذا اختلف المالك والراكب في أنه عارية أو إجارة ، فالقول قول مدعي الاجارة ، وعلله في الجواهر بأصالة احترام مال المسلم كدمه وعرضه ، بمعنى الحكم بضمانه على من هو عنده. وفيه : أن احترام مال المسلم إنما هو بمعنى عدم جواز التصرف فيه ـ كما هو معنى احترام دمه وعرضه ـ لا بمعنى ضمانه على من هو عنده ، فانه لا دليل عليه غير عموم : «على اليد ...» الذي قد عرفت اختصاصه بمال الغير الذي لا يشمل المقام بعد ادعاء المالك أنه قرض. لكن في الجواهر : «الظاهر أنه مفروغ منه في غير المقام ، كما لا يخفى على من أحاط خبرا بافراد المسألة في الأبواب المتفرقة». ولكنه مشكل.

وكأنه لذلك كان ما عن الشيخ وابن زهرة وأوّل الشهيدين والاردبيلي والخراساني القول بقبول قول الراكب بيمينه في المسألة المذكورة ، عملا بأصالة البراءة ، الموافق لقول الراكب. وإن كان يشكل ذلك : بأن أصالة البراءة أصل مسببي ، وهو محكوم للأصل السببي ، وهو أصالة عدم الاعارة الموجب لكونه قد استوفى منافع العين بلا إذن من المالك ، فيرجع إلى أصالة ضمان المنافع بالاستيفاء ، الذي عرفت الاشارة إلى أنه من المرتكزات العقلائية التي استقر عليها بناء المتشرعة وعملهم ، وحينئذ لا مجال لاصالة البراءة معه. إلّا أن يقال : على تقدير صحة قول المالك فضمان المنافع يكون بالاجارة لا بالاستيفاء (١) ، نحو ما

__________________

(١) يمكن ان يقال بدخول المسألة في باب التداعي ، بناء على ان المعيار في الفرق بين المدعي والمنكر هو مصب الدعوى دون الغرض ، وبعد التحالف يرجع

٤٣٣

ذكرناه في المقام ، من أنه على تقدير قول العامل يكون الضمان بالقرض لا باليد. وحينئذ يشكل البناء على ضمان العامل في المقام لأجل دعوى استيفائه منافع غيره ، كالاشكال في البناء على ضمان الراكب ، على ما عرفت.

اللهم إلّا أن يدعى الارتكاز العقلاني في أمثال المقام على ضمان العين والمنفعة بالبدل ، وان كان المالك يدعي الضمان الخاص ، فيضمن الراكب قيمة المنفعة دون الاجرة التي يدعيها المالك ، ويضمن المتهب قيمة العين لا الثمن الذي يدعيه المالك فيما إذا اختلفا في أنه هبة أو بيع وأمثال ذلك فيكون من قبيل الحكم الواقعي جعله الشارع للحاكم لحسم النزاع وفصل الخصوصة مع ثبوت الحكم الواقعي الأولي بحاله ، ولا تنافي بين الحكمين فان الأول يدعو إلى العمل به ورفع النزاع ، والثاني يدعو إلى العمل به على فرض النزاع ، فيحرم أخذ المالك للبدل على تقدير العارية ، ويحرم امتناع الراكب من دفع الاجرة على تقدير الاجارة واقعا ، فالحكم الواقعي بحالة وان ثبت في حق الحاكم معه حكم يخالفه في حال النزاع ويحتمل بعيدا أن يكون من قبيل الصلح القهري. وكيف كان فهذا الارتكاز غير بعيد ، فالعمل به لازم.

لكن الظاهر اختصاصه بصورة دعوى الاستحلال ، مثل دعوى الهبة في

__________________

ـ إلى قاعدة من استوفى مال الغير فهو له ضامن. واما في المقام فبعد التحالف لا معنى للرجوع إلى هذه القاعدة لعدم الاستيفاء دائما ، نعم إذا ثبت صرف العامل بعض المال في أكله وسفره مثلا يمكن ان يقال بضمانه لتلك القاعدة ، فلاحظ. واما الارتكاز العقلائي فيشكل الاعتماد عليه.

٤٣٤

مقابل دعوى البيع ، أو دعوى العارية في مقابل دعوى الاجارة ، أما اذا لم يكن استحلال ـ مثل المقام ـ فلا دليل على الضمان المذكور ، بل الارتكاز لا يساعد عليه. وكذلك مورد مصحح اسحاق المتقدم ، فان الحكم فيه على خلاف الارتكاز ، فيقتصر على مورده لا غير. (المستمسك ج ١٢ / ٤١٠ إلى ٤١٣).

٤٣٥

٧١ ـ محتملات القبالة

في مصحح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : إن القبالة أن تأتي الأرض الخربة فتقبلها من أهلها عشرين سنة أو أقل من ذلك أو أكثر ، فتعمرها وتؤدي ما خرج عليها ، فلا بأس به» (١). وصحيحه الآخر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لا بأس بقبالة الأرض من أهلها بعشرين سنة أو أقل أو أكثر ، فيعمرها ، ويؤدي خراجها. ولا يدخل العلوج في شيء من القبالة ، لانه لا يحل» (٢). وصحيح يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث قال : «وسألته عن الرجل يعطي الأرض الخربة ويقول : اعمرها ، وهي لك ثلاث سنين أو خمس سنين أو ما شاء الله. قال : لا بأس» (٣). ونحوها غيرها.

والمحتمل فيها أمور : (الأوّل) : ما ذكره المصنف رضى الله عنه ، من أن المراد من القبالة الاجارة ، ويكون العمل هو الاجرة ، فتكون من اجارة العين. (الثاني) : أن

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب المزارعة حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ٩٣ من أبواب ما يكتسب به حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ١١ من أبواب المزارعة حديث : ١.

٤٣٦

المراد بها الاجارة على العمل ، فتكون الاجرة منفعة الأرض ، والمستأجر العامل ، والمستأجر عليه هو العمل من التعمير وغيره. (الثالث) : أن تكون من الجعالة على العمل ، والجعل هو المنفعة ، ويحتمل ـ كما قيل ـ أن تكون الاجرة شيئا معلوما ، ويكون ذلك الشيء اجرة للعمل ، فتكون اجارتان ، إجارة الأرض ، وإجارة الأجير العامل ، (الرابع) : أن تكون معاملة مستقلة ، نظير المصالحة ، مفادها تمليك المنفعة للعامل وتمليك مالك الأرض للعمل ، بلا معاوضة بين المنفعة والعمل. ولعل الأخير هو الأقرب (١) (المستمسك ج ١٢ / ٢٢٢).

__________________

(١) خلافا لصاحب الجواهر في آخر كتاب المزارعة حيث قال : (٢٧ / ٤٩) : هل هو ـ أي ما في الروايات ـ مما يتعلق بالقبالة ـ عقد برأسه ، وان أفاد فائدة المزارعة ـ والإجارة والصلح في بعض الموارد أو ان المراد من لفظ التقبيل هنا ما ينطبق على ذلك المورد من العقود المعهودة ولو الصلح وجهان أو قولان ، أقواهما الثاني كما أوضحناه في مسألة الخرص في بيع الثمار ، لعدم افراد الاصحاب بابا للقبالة على وجه يعرف به كونها من العقود المتعارفة في ذلك الزمان ، ولم يتعرضوا لالفاظ هذا العقد ولا لشرائطه ولا لاحكامه ولا لموارده ، وذلك كله قرينة على أنهم فهموا من لفظ التقبيل ما ذكرناه ، فالتعبير به حينئذ كالتعبير بالأخذ والتناول ونحوهما مما يعلم عدم إرادة كونه عقدا برأسه. ودعوى عدم صلاحية جميع العقود لبعض مواردها ، فيدل على انها عقد برأسه قد اوضحنا فسادها في مسألة الخرص من بيع الثمار فلاحظ وتأمل. انتهى.

٤٣٧

٧٢ ـ الاجرة ليست في مقابل المنفعة الخارجية

أن الاجرة في مثل إجارة الدابة للركوب وإجارة الدار للسكنى ليست في مقابل المنفعة الخارجية ـ أعني الركوب والسكنى ـ ضرورة استحقاق المالك للاجرة وإن لم يتحقق الركوب والسكنى ، بل هي في مقابل معنى قائم في الدابة والدار حصل الركوب والسكنى أم لم يحصلا ، وحينئذ فاشتراط الركوب في الدابة أو اشتراط عدم تحميلها حديدا ، واشتراط السكنى في الدار أو اشتراط عدم إخلائها ، يكون شرطا خارجا عن قوام الاجارة كسائر الشروط في العقود يكون ترك العمل به موجبا للخيار ، لا أنه شرط مقوم للعقد أو شرط لما هو في قوام العقد فيكون قيدا من قيود العقد ، وإلّا لزم من فواته بطلان العقد ، وهو خلاف المبنى ، لما عرفت من أن ترك ركوب الدابة لا يوجب بطلان العقد ، بل الاجرة مستحقة على المستأجر وإن لم يركب الدابة أو يسكن الدار. فلما كان الشرط المذكور ـ وجوديا كان ، كما إذا اشترط سكنى الدار ، أو عدميا ، كما إذا اشترط أن لا يحمل الدابة حديدا ـ شرطا زائدا على مفاد العقد كان موجبا للخيار ، فان فسخ المالك استحق اجرة المثل ، وإن أمضى العقد استحق الاجرة المسماة ، فلا وجه حينئذ لاستحقاق

٤٣٨

اجرة المثل والمسماة معا ، كما اختاره المصنف رضى الله عنه وتفرد به. وكذلك الكلام فيما إذا استأجر أجيرا وشرط عليه أن يكتب فاشتغل بالخياطة ، فانه أيضا يكون للمستأجر الخيار ، فان امضى العقد استحق الاجير الاجرة المسماة وكان للمستأجر اجرة الخياطة ، وإن فسخ العقد لم يستحق الاجير شيئا ، بخلاف ما إذا استأجره للكتابة ، فانه إذا ترك الكتابة بطل العقد ، لان الكتابة الخارجية اخذت عوضا عن الاجرة ، فاذا انتفت انتفت الاجرة وبطل العقد.

والمتحصل مما ذكرنا أن قول المالك : آجرتك الدابة بشرط أن لا تحملها حديدا ، لم تجعل فيه الاجرة في مقابل المنفعة الخارجية المضادة لتحميلها الحديد ، بل جعلت الاجرة في مقابل المعنى القائم بالدابة ، سواء حصل الركوب أو تحميل الحديد أم لم يحصلا فيكون شرط الركوب ، أو عدم تحميل الحديد من قبيل الشرط الزائد على ما هو قوام العقد ، فيكون ترك العمل به موجبا للخيار. (المستمسك ج ١٣ / ٩٤ و ٩٥).

* * *

٤٣٩

تمت تدوينه وتعليقه في عصر الاثنين ٢٣ / ١ / ١٤٢٠ هـ ق ٢٠ / ٢ / ١٣٧٨ هـ ش وقد شرعنا في تدوينه وتعليقه في ١ / ١١ / ١٤١٩ هـ ق في بلدة قم ولله الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطنا كما هو أهله ، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

ربنا تقبله منّا بفضلك وكرمك واجعله مفيداً للعلماء والمحصلين وارحم على سيدنا الاستاذ الحكيم وارفع درجته وبلغ ثواب هذا الكتاب الى روحه الطاهرة واحشره مع اجداده الطاهرين.

محمّد آصف المحسني

٤٤٠