القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

الشيخ محمد آصف المحسني

القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


المحقق: مهدي النيازي الشاهرودي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: پيام مهر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-94560-6-6
الصفحات: ٤٤٠

جميع المال إنما هو بمنزلة دين لو كان عليه ، ليس للورثة شيء حتى يؤدوا ما أوصى به من الزكاة» (١).

ونحوها غيرها (٢).

ولا ينافيها الاجماع على ملك الوارث للزائد على المقدار المساوي للوصية والدين ، بتوهم : أنها ظاهرة في نفي أصل الميراث مع أحدهما كي يتصرف فيها بحملها على إرادة بيان أن سهام الوارث ليس مخرجها أصل المال ، بل مخرجها المقدار الزائد على الدين والوصية ، فلا تدل على حكم المقدار المساوي لهما ، وأنه باق على ملك الميت أو موروث للوارث ، فاذا خلت عن التعرض لذلك وجب الرجوع في تعيين حكمه إلى عموم : «ما ترك الميت فهو لورثته» (٣) كما صنعه في الجواهر.

ووجه عدم المنافاة : أن ظاهر النصوص المذكورة ليس هو الترتيب الزماني

__________________

(١) الوسائل باب : ٤٠ من أبواب الوصايا حديث : ١.

(٢) خبر السكوني ضعيف سندا بالنوفلي. وخبر عباد معتبر بسند الكافي (الوسائل ج ٩ ب ٢١ من أبواب المستحقين للزكاة) وضعيف بسند التهذيب على ما نقل في الوسائل ج ١٩ / ٣٥٧) وخبر محمّد بن قيس ايضا معتبر ثم ان عباد بن صهيب ثقة عند النجاشي وان كان عاميا أو بتريا ولكن السيّد الاستاذ حكم بجهالته في نكاح المستمسك ولم اقف على مأخذه. واما السكوني ففيه خلاف ، فلاحظ كتابنا بحوث في علم الرجال (الطبعة الرابعة).

(٣) الوسائل باب : ١١ من أبواب الوصايا حديث : ٤ و ١٤ وقد نقله في المتن بالمعنى.

٣٦١

ضرورة بطلانه ، بل الترتيب بمعنى الترجيح والاهمية ، فيختص بصورة التزاحم ، وهو إنما يكون في خصوص المقدار المساوي للدين أو الوصية ، فتدل على أن مقدار الدين لا مجال للعمل بالوصية فيه ولا توارث فلا تنافي إرث الزائد على الدين ، ولا وجوب العمل بالوصية فيه. كما أن مقدار الوصية لا توارث فيه ، فلا تنافي ثبوت التوارث في الزائد عليه.

وبالجملة : لما كان مفاد النصوص هو الترجيح يختص نفي التوارث فيها بما كان فيه تزاحم ، وهو خصوص ما كان مساويا للدين ، وبخصوص الثلث الذي هو مورد وجوب العمل بالوصية ، ولا تعرض فيها لنفي الارث في الزائد على الدين والوصية كما لا يخفى. وحملها على تحديد السهام ـ مع أنه يختص بما ذكر فيه السهام كالآية (١) ، ولا يجري في غيره كالنصوص المتقدمة ـ أنه يقتضي اختصاص الارث بمخرج السهام ، إذ لا إرث لغيره ، وذلك مناف للبناء على موروثية الجميع. ودعوى إهمالها من هذه الجهة ، وأنها متعرضة لحكم الزائد ، وأن توارثه على النحو المذكور من التسهيم ، فلا ينافي ثبوت الارث في غيره ـ مع أنها خلاف الظاهر ـ لازمها البناء على كون إرث المقدار المساوي للدين لا على نحو التسهيم ، إذ لا دليل حينئذ على هذا التسهيم ، ومقتضى الرجوع إلى عموم : «ما ترك الميت فهو لوارثه» في إثبات إرث المقدار المساوي للدين أن يكون ذلك على نحو الشركة ، فتأمل جيدا.

__________________

(١) النساء : ١١ / ١٢.

٣٦٢

وبالجملة : ظاهر النصوص المذكورة عدم إرث المقدار المساوي للدين والوصية والكفن ، فالبناء عليه متعين ، ولأجل أنه لا مانع من البناء على ملك الميت عقلا ولا عقلائيا (١) تعين البناء على كونه باقيا على ملك الميت. وعليه فلا ينبغي التأمل في عدم جواز تصرف الورثة في التركة ، لأنّه تصرف بغير الملك ، كما أنه على القول الأوّل لا إشكال في تعلق الدين بالتركة في الجملة. وفي الجواهر : «الاجماع بقسميه عليه» كما لا إشكال في عدم جواز التصرف بالاتلاف ونحوه مما يوجب ذهاب موضوع الحق المذكور. ثم ان كان الحق قائما بالتركة بما هي مملوكة للوارث لم يجز له التصرف الناقل للعين عن الملك ، لان الحق كما يمنع عن إذهاب الموضوع يمنع عن إذهاب قيده ، وإن كان قائما بذات العين لا بالقيد المذكور جاز التصرف الناقل ، وحينئذ فهل للديان حق الفسخ على تقدير تعذر الوفاء من غير العين ـ كما هو المشهور في حق الجناية ـ أو لا؟ وجهان ينشآن من كون الحق المملوك للديان هو أخذ العين من الورثة ، أو مطلقا ، فعلى الأوّل : يكون له الفسخ فيرجع المشتري بالثمن على الوارث. وعلى الثاني : لا يكون له الفسخ فيأخذ العين من كل من وجدها عنده.

وكيف كان فلو قيل بالمنع من البيع ونحوه فلا وجه ظاهر للمنع عن مطلق التصرف ، ولا سيما إذا لم يكن له قيمة معتد بها عند العقلاء كالصلاة والوضوء ،

__________________

(١) الموت سبب لبطلان الملكية والزوجية والرئاسة ونحوها من الامور الاعتبارية ، عند العقلاء لكن لا مانع من البناء على ملكيته إذا دل دليل شرعي عليه كما افاده سيدنا الاستاذ قدس‌سره.

٣٦٣

بحيث تكون التركة كمال الغير لا يجوز مطلق التصرف فيها.

وتمام الكلام في المسألة موكول إلى محله. ثم إنه قد ورد في صحيح ابن سنان : «في الرجل يموت وعليه دين فيضمنه ضامن للغرماء. قال عليه‌السلام إذا رضي الغرماء فقد برئت ذمة الميت» (١) ، وعليه فلا مانع من التصرف كما لو لم يكن دين من الأوّل.

(٢) كما عن جامع الشرائع ، وميراث القواعد ، وحجر الايضاح ورهنه ، وغيرها ، فلم يفرق فيها بين الدين المستغرق وغيره في المنع عن التصرف ، إذ لا أولوية لبعض من بعض في اختصاص التعلق به ، ولأن الأداء لا يقطع بكونه بذلك البعض لجواز التلف (٢) ، ولما دل على تعليق الارث على مطلق الدين (٣).

وعن جامع المقاصد وغيره : الفرق بينهما ، ويشهد له صحيح البزنطي : «عن رجل يموت ويترك عيالا وعليه دين أينفق عليهم من ماله؟ قال عليه‌السلام : إن استيقن أن الذي عليه يحيط بجميع المال فلا ينفق عليهم ، وإن لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال» (٤). ونحوه غيره (٥). وموردهما التصرف المتلف ، فالتعدي إلى غيره

__________________

(١) الوسائل باب : ١٤ من أبواب الديون حديث : ١ وباب : ٩١ من أبواب الوصايا حديث : ١.

(٢) لكن كثيرا ما يطمئن بالاداء من البعض.

(٣) مر انه في فرض المزاحمة لا مطلقا.

(٤) الوسائل باب : ٢٩ من أبواب الوصايا حديث : ١.

(٥) كمعتبرة ابن أبي الحجاج عن أبي الحسن عليه‌السلام وهي العمدة دون خبر البزنطي

٣٦٤

أولى ، ولا سيما مع إمكان المناقشة فيما ذكر دليلا للأوّل بالتأمل فيما ذكرنا آنفا. فتأمّل.

(٣) إذا بنينا على بقاء التركة على ملك الميت لم يجد رضا الديان في جواز تصرف الوارث ، لان المانع كونه ملكا للميت ، وهو حاصل وان رضي الديان بالتصرّف. اللهم إلّا ان يرجع رضاه إلى إبراء ذمة الميت من الدين.

فيكون المال حينئذ ملكا للوارث كما لو لم يكن دين من الأوّل. نعم بناء على انتقالها إلى الوارث يجدي رضا الديان في جواز التصرف ، اذ المانع حقه لا غير فيرتفع برضاه لكن عرفت انه على هذا المبنى لا وجه للمنع عن التصرف بمثل الصلاة مما لا مجال فيه لتوهم المزاحمة مع الدين (المستمسك ج ٥ / ٤٣٣ ـ ٤٣٨).

__________________

ـ فانه مرسل غير صحيح فانظر الوسائل ج ١٩ / ٣٣٢ ولاحظ أيضا ما ذكره السيّد الاستاذ الحكيم قدس‌سره في مستمسكه ج ٩ / ١٧٠ و ١٧١).

٣٦٥

٥٣ ـ اخذ القيود المرجوحة في موضوع النذر

(إذا نذر أن يتوضأ لكل صلاة وضوءا رافعا للحدث وكان متوضئا يجب عليه نقضه (١) ، ثم الوضوء. لكن في صحة مثل هذا النذر على إطلاقه تأمل (٢)).

(١) يعني : بالحدث ، مقدمة لتوصيف الوضوء بكونه رافعا.

(٢) لكون الوضوء المنذور في الفرض وان كان راجحا في نفسه إلّا أن وصف كونه رافعا للحدث لما كان مستلزما لنقض الطهارة المرجوح كان مرجوحا ، ويعتبر في المنذور أن يكون راجحا بذاته ووصفه ، كما هو المحكي عن جماعة من الأساطين ، بل هو الظاهر ، لا من جهة النصوص ، حتى يقال : المتيقن منها اعتبار كونه راجحا بذاته ، واعتبار رجحان الوصف مخالف لعموم ما دل على لزوم الوفاء بالنذر. بل من جهة أن معنى صيغة النذر ـ أعني قول الناذر : «لله عليّ كذا» ـ يتوقف على أن يكون المنذور راجحا محبوبا لله تعالى ، سواء أكانت اللام الداخلة على لفظ الجلالة للملك ـ كما هو الظاهر ـ فيكون معنى قول الناذر : «لله

٣٦٦

عليّ كذا» : جعلت لله عليّ كذا ، أم لام الالتزام ، فيكون معناه : التزمت لله تعالى (١) ، أما على الأوّل فلأن اعتبار الملكية للشيء يتوقف على كون الشيء محبوبا للمالك ومرغوبا فيه له ، ولذا لا يصح أن تقول : لزيد عليّ أن يخيط ثوبي ، كما يصح أن تقول : لزيد عليّ أن أخيط ثوبه. وأمّا على الثاني فكذلك ، إذ لا يصح اعتبار مفهوم الالتزام للغير بشيء إذا لم يكن راجحا في نظره ، لأن معنى الالتزام له الالتزام لأجله ، ولا معنى لكون الالتزام لأجل الغير إذا لم يكن الملتزم به محبوبا لذلك. فلا يصح أن تقول : التزمت لأجلك أن أهدم دارك ، كما يصح أن تقول : التزمت لأجلك أن أبنى دارك.

إذا عرفت هذا تعرف (٢) أن القيود المرجوحة المأخوذة في موضوع النذر (تارة) : يكون التقييد بها تمام المنذور ، فيبطل النذر ، كما لو نذر أن يوقع صلاته الواجبة في الحمام ، بحيث يكون المقصود نذر إيقاعها في الحمام وكونها فيه لا نذر نفس الصلاة (واخرى) : يكون بعض المنذور ، كما لو نذر أن يصلي صلاة في الحمام ، فيكون المنذور نفس الصلاة وكونها في الحمام وحكمه بطلان نذر التقييد ، وحينئذ فان كان النذر المتعلق بالذات والتقييد منشأ بنحو وحدة المطلوب بطل في الذات ، وإن كان بنحو تعدد المطلوب صح في الذات فقط (وثالثة) : يكون خارجا عن المنذور بأن يكون لوحظ مرآة للذات الملازمة للتقييد ، فيكون تمام المنذور

__________________

(١) احتياج الفعل (التزمت) إلى حرف اللام (لله) دليل على ان اللام في النذر (لله عليّ) ليس للالتزام ولذا جعله سيدنا الاستاذ الماتن غير ظاهر.

(٢) الظاهر انه لا ملازمة بين المعرفتين فالاحسن تغيير العبارة.

٣٦٧

نفس الذات ، وحينئذ صح النذر إذا كانت الذات راجحة في الجملة في حال القيد من دون لزوم ارتكاب أمر مرجوح ، كما لو نذر ذات الصلاة التي تكون في الحمام ، بجعل الموصول معرفا لتلك الذات المخصوصة ، وكأنّه إلى ما ذكرنا أشار كاشف اللثام في صلاة النذر ان اشتراط المزية في المكان إنما هو إذا كان النذر نذرين ، كأن يقول : لله عليّ أن اصلي ركعتين. وأصليهما في مكان كذا. أما لو قال : لله علي أن اصلي ركعتين في مكان كذا.

فمصحح النذر إنّما هو رجحان الصلاة فيه على تركها ، وهو حاصل وإن كرهت فيه ، لأن الكراهة إنما هي قلة الثواب ، انتهى.

وأمّا ما نحن فيه ـ أعني : نذر الوضوء الرافع ـ فالظاهر أنه ليس من قبيل الأقسام المذكورة ، بل هو قسم آخر لأن الوضوء الرافع إنما يشرع على تقدير الحدث ، فاذا كانت مشروعيته على هذا التقدير كان نذره صحيحا أيضا منوطا بذلك التقدير ، نظير نذر التوبة ، فانه لا يصح إلّا على تقدير الذنب ، ولا يكون مقتضيا لفعل الذنب ، وكذلك في المقام نذر الوضوء الرافع لا يكون مقتضيا لفعل الحدث. فلو نذره على نحو يكون مقتضيا لفعل الحدث كان باطلا ، لأنه غير راجح (١) ، وكذا نذر التوبة على نحو يكون مقتضيا لفعل الذنب ، ونذر استعمال الدواء على نحو يكون مقتضيا لفعل المرض. وبالجملة : نذر الوضوء الرافع إن كان

__________________

(١) فان الراجح بقاء المكلف على الوضوء والطهارة في جميع الأوقات كما استدل عليه بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة : ٢٢٢).

٣٦٨

المقصود منه نذره على تقدير الحدث فهو صحيح ، ولكنه لا يقتضي نقض الطهارة ، وان كان المقصود نذره مقيدا بالحدث على نحو يقتضي الحدث ، لكونه من قبيل قيد الواجب ، فهو غير مشروع. ثم إن قول المصنف رضى الله عنه على إطلاقه إشارة إلى صحته في بعض الفروض ، كما لو كان نقض الحدث راجحا ، لكون حبسه موجبا للضرر المعتد به ، فيصح حينئذ نذر الوضوء بذاته وقيده. إلّا أن يقال : ان وجوب دفع الضرر أو رجحانه لا يقتضي مرجوحية الطهارة (١). (المستمسك ج ٢ / ٢٧٥ ـ ٢٧٧).

__________________

(١) وفي التنقيح في هذا المقام : إذا فرضنا أنّ البقاء على الطهارة يستتبع الابتلاء بمرافقة الأخبثين ـ وبنينا على كراهتها ـ فان النذر يصح حينئذ لرجحان ما يتوقف عليه الوضوء الرافع للحدث في حق المتطهر اعني نقض الطهارة. (٣ / ٥٢٤).

٣٦٩

٥٤ ـ المحتملات الثلاثة في المنذور

(إذا نذر التصدق بالعين الزكوية ، فان كان مطلقا غير موقت ولا معلقا على شرط لم تجب الزكاة فيها ...)

كما عن جماعة كثيرة ، لأن التصرف فيه مناف للنذر ، فيكون مخالفة لما دل على وجوب الوفاء به ، وقد عرفت : أن المنع عن التصرف شرعا كالمنع عنه عقلا في مانعيته عن وجوب الزكاة.

نعم يقع الكلام في وجه المنع من التصرف ، وهل هو ثبوت حق الله سبحانه؟ أو حق للفقراء الذين نذر التصدق عليهم؟ أولا هذا ولا ذلك ولكن ثبوت التكليف بالعمل على طبق النذر ، والوفاء به يستتبع وجوب حفظ المال ، فالتصرف فيه مناف للحفظ الواجب ، فيكون غير مقدور عليه شرعا؟ التحقيق هو الأوّل ، لما تحقق في محله : من أن معنى الخبر والانشاء واحد ، والاختلاف بينهما بقصد الحكاية في الخبر وقصد الايجاد في الانشاء. ولأجل أنه لا ريب في أن قول المخبر : «لزيد علي أن أخيط ثوبه» معناه الاخبار عن ملكية زيد على المخبر أن يخيط ثوبه ، وبذلك يكون إقرارا واعترافا على نفسه ، فليكن معناه إنشاء كذلك ،

٣٧٠

أعني : إنشاء ملكية أن يخيط ثوبه ، ومقتضى ذلك أن يكون معنى قول الناذر : «لله عليّ أن أتصدق بمالي على الفقراء» إنشاء الملكية لله سبحانه لأن يتصدق به.

ولأجل أن التصدق المملوك موضوعه المال يكون المال موضوع حق لله سبحانه ، إذ لا نعني بكون الشيء موضوع حق إلّا كونه موضوع فعل مملوك لذي الحق. وأما دعوى ثبوت حق للفقراء في العين فشيء لا مأخذ له واضح. ومجرد وجوب الصدقة عليهم لا يستتبع حقا لهم ولا يتفرع عليه. وقياس المقام بباب الواجبات المالية ـ مثل وجوب إيتاء الزكاة لأهلها ، ووجوب إيصال الخمس لمستحقه ، ووجوب الكفارة عند أسبابها ـ حيث دل الخطاب بالالتزام على ثبوت ملكية الفقراء أو السادات للأمور المذكورة في محله ، إذ استفادة ذلك لم يكن من محض الخطاب بالدفع ، وإنما كان من قرائن متصلة أو منفصلة. وكيف تصح دعوى ثبوت حق للفقراء في المال إذا نذر التصدق به عليهم مع أن ذلك أمر لم يجعله الناذر على نفسه ، ودليل الوجوب ليس إلّا وجوب الوفاء بالنذر ، وهو لا يقتضي أكثر مما يقتضيه النذر؟ بل ذلك مخالفة للنذر ، لأن المنذور هو التصدق بمعنى التمليك على وجه القربة ، وهو إنما جعل بالنذر لله سبحانه ولم يجعل للفقراء ، فلو استحق الفقراء هذا التمليك بنفس النذر لزم وقوع ما لم ينذر. وبالجملة ، فالقول الثاني ضعيف. (وفيه نظر).

وأما القول الثالث فهو مبني على كون الظرف لغوا واللام لام التعدية لا لام الملك ويكون الظرف مستقرا ، ومعنى قول الناذر : «لله علي أن أتصدق» : «التزمت لله تعالى علي» فاللام متعلقة ب (التزمت) المستفاد من الانشاء ، فليس مفاد النذر

٣٧١

إلّا الالتزام بفعل المنذور ، ووجوب الوفاء بالنذر يقتضي وجوبه لا غير. لكن المبني المذكور خلاف ظاهر الكلام جدا كما عرفت.

ثم إنه بناء على ثبوت حق لله سبحانه أو الفقراء ، فالحق المذكور يقتضي المنع من التصرف في موضوعه ، لأن قاعدة السلطنة على الحقوق ـ التي هي كقاعدة السلطنة على الأموال ـ توجب قصور سلطنة غير السلطان عن كل تصرف مناف لذلك الحق ، ومن المعلوم أن التصرف بالعين مناف له فيمتنع. وبناء على عدمه فالتكليف بالوفاء بالنذر لما كان مستتبعا للتكليف بحفظ المال مقدمة للتصدق ، فكل ما ينافي حفظه يكون ممنوعا عنه ، لئلا يلزم مخالفة التكليف النفسي بالتصدق ، كما عرفت. نعم يفترق الأخير عن الأولين : بأن التصرف الاعتباري ـ بالبيع أو الهبة أو نحوهما ـ على الأخير يكون صحيحا وإن كان محرما ، لعدم اقتضاء تحريمه الفساد ، نظير البيع وقت النداء. وعلى الأولين يكون فاسدا ، لقصور سلطنة المالك على ماله الذي هو موضوع حق الغير.

ثم إن هذا كله فيما لو نذر التصدق ، بمعنى الفعل ، أما لو نذر كونه صدقة المسمى بنذر النتيجة ، فعن المدارك : أنه قطع الأصحاب بأن هذا أولى من الأوّل ، يعني : في المنع عن وجوب الزكاة. وكأنه لصيرورته صدقة بنفس النذر ، وخروجه عن ملك الناذر بمجرد النذر ، وظاهره المفروغية عن صحته. وكأنه إما لبنائهم على صحة نذر النتيجة كلية ، أو في خصوص نذر الصدقة ، فعن بعض : دعوى الاجماع على الخروج عن الملكية إذا نذر كون الحيوان هديا ، وعن بعضهم ذلك إذا نذر كونه اضحية.

٣٧٢

هذا ولا يخفى أنه بناء على التحقيق من أن مفاد النذر جعل حق لله سبحانه ـ بمعنى : أن المنذور يكون ملكا له تعالى على الناذر ـ لا مجال للقول بصحة نذر النتيجة. وتوضيح ذلك : أن نتائج الافعال ، تارة تكون ملحوظة في ذمة معينة ، واخرى لا تكون كذلك ، بل ملحوظة في نفسها من دون إضافة إلى ذمة ، فان كانت ملحوظة على النحو الأوّل صح أن تكون مملوكة لمالك ، كما في إجارة الأجير على كون الثوب مصبوغا أو مخيطا أو نحو ذلك من الصفات التي هي من نتائج الأعمال. فاذا نذرها الناذر وجعلها لله سبحانه كان مقتضى النذر اشتغال ذمة الناذر بها لله سبحانه فيجب عليه تحصيلها بأسبابها ، كما في الاجارة على الصفة. وحينئذ لا يكون مفاد النذر حصول النتيجة ، بل لا بدّ من تحصيلها بانشاء آخر غير النذر ، فيرجع نذر النتيجة ـ من هذه الجهة ـ إلى نذر الفعل ، وليس ذلك محل الكلام في نذر النتيجة.

وإن كان ملحوظة على النحو الثاني امتنع أن تكون مضافة إلى مالك كما هو الحال في الأعيان التي لا تكون خارجية ، ولا مضافة إلى ذمة أصلا.

فلا يصح أن تقول : «بعتك فرسا» إذا لم تكن خارجية ، ولا مضافة إلى ذمة معينة ، سواء أكانت ذمة البائع أم غيره ، كما هو موضح في محله فاذا امتنع ذلك في الأعيان فأولى أن يمتنع في مثل هذه الاعتباريات ، مثل كون العبد حرا ، وكون المال صدقة ، وكون الزوجة مطلقة ، ونحوها ، فلا يصح قصد كونها لله سبحانه ، فيمتنع نذرها على النحو المذكور. مضافا إلى أن معنى الجملة النذرية تمليك الله سبحانه كون العين صدقة ، فالصيغة معناها جعل التمليك ، وأما جعل المملوك ـ وهو

٣٧٣

وصف الصدقة ـ فلا تعرض فيها لجعله ، فيحتاج إلى جعل مستقل. والجملة الواحدة لا تصلح لجعل المنسوب وجعل النسبة ، إذ الأوّل مفاد (كان التامة) والثاني مفاد (كان الناقصة) ولا يجتمعان في جملة واحدة. وعليه فلو نذر كون المال صدقة ، أو الشاة أضحية ، تعين أن يكون المراد جعلها في ذمته لله سبحانه ، فيجب عليه تحصيلها بجعل مستقل غير النذر.

هذا كله بناء على أن مفاد النذر جعل المنذور لله سبحانه ، وأما بناء على أن اللام متعلق ب (التزمت) والمجعول بالنذر الالتزام بالأمر المنذور فأدلة نفوذ النذر دالة على نفوذ الالتزام المذكور ، فان كان المنذور نتيجة كان مقتضى أدلة نفوذه ثبوت تلك النتيجة ، وإن كان فعلا كان مقتضاها ثبوت الفعل عليه.

فحينئذ نقول : إن كان المنذور من الأمور العقدية المتقومة بطرفين لم يترتب الأثر على النذر ، إلّا مع رضا الطرف الآخر ، ويكون النذر بمنزلة الايجاب ، فاذا انضم إليه القبول صح ولزم ، ولو ردّ الطرف الآخر بطل.

وعموم وجوب الوفاء بالنذر لا يكفي في إثبات صحته ، لأنه لا يصلح لاحراز قابلية المحل ، فلو لم تحرز القابلية من الخارج لم يمكن تطبيقه.

وإن كان من الايقاعات صح. إلّا أن يقوم دليل على اعتبار صيغة خاصة في إنشائه كما في العتق ، حيث لا يصح إنشاؤه إلّا بمثل : «أنت حر». وفي قوله : «أعتقتك» خلاف ، ولا يجوز بغيرهما إجماعا. وكذا لو قام دليل على اعتبار انشائه بنفسه بحيث لا يكفي إنشاء الالتزام به في إنشائه ، وفي غير ذلك لا مانع من العمل

٣٧٤

بأدلة النفوذ لاثبات المنذور وترتبه. اللهم إلّا أن يعتبر فيه شرائط خاصة غير الصيغة ، مثل الطلاق الذي يعتبر فيه شهادة العدلين وطهارة المطلقة وغير ذلك ، فيصح في ظرف اجتماع الشرائط لا غير. (المستمسك ج ٩ / ٣٥ إلى ٣٩).

* * *

٣٧٥

٥٥ ـ الفرسخ والميل

(الفرسخ ثلاثة أميال (١) والميل أربعة آلاف ذراع (٢) بذروع اليد الذي طوله أربع وعشرون اصبعا كل اصبع عرض سبع شعيرات (٣) كل شعيرة عرض سبع شعرات من أوسط شعر البرذون :

١ ـ بلا خلاف ـ كما عن المنتهى ـ واجماعا ، كما عن المعتبر والتذكرة والغروية والنجيبية والمفاتيح والكفاية. وعن جماعة : حكاية الاتفاق عليه. ويشهد به ما تقدم من صحيح الكاهلي (١) ، وخبر عبد الرحمن ابن الحجاج (٢) وصحيح الشحام (٣) ، وما في موثق العيص عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، «قال عليه‌السلام في التقصير : حده أربعة وعشرون ميلا» (٤) بعد الجمع بينها وبين غيرها ، وغيرها (٥).

__________________

(١) الوسائل الباب الأوّل من أبواب صلاة المسافر ح ٣.

(٢) الوسائل الباب الأوّل من أبواب صلاة المسافر ح ١٥.

(٣) الوسائل الباب الأوّل من أبواب صلاة المسافر ح ٣.

(٤) الوسائل الباب الأوّل من أبواب صلاة المسافر ح ١٤.

(٥) الاظهر ان الكاهلي مجهول وخبر ابن الحجاج في سنده بحث طويل وخبر

٣٧٦

٢ ـ كما هو المشهور وعن المدارك والكفاية : أنه مما قطع به الأصحاب وعن غير واحد : أنه المشهور المعروف بين اللغويين ، والفقهاء ، والعرف. وفي السرائر عن مروج الذهب للمسعودي أنه قال : «الميل أربعة آلاف ذراع بذراع الأسود ، وهو الذراع الذي وضعه المأمون لذرع الثياب ، ومساحة البناء ، وقسمة المنازل. والذراع أربع وعشرون اصبعا». وعن الأزهري : أن الميل عند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع ، وعند المحدثين أربعة آلاف ذراع. والخلاف لفظي فانهم اتفقوا على أن مقداره ستة وتسعون ألف إصبع ، والاصبع ست شعيرات بطن كل واحدة إلى ظهر الأخرى ، ولكن القدماء يقولون : الذراع اثنتان وثلاثون إصبعا ، والمحدثون : أربع وعشرون إصبعا. ونحوه ما في القاموس : «الميل قدر مدّ البصر. ومنار يبنى للمسافر ، أو مسافة من الأرض متراخية بلا حد أو مائة ألف إصبع إلّا أربعة آلاف إصبع ، أو ثلاثة أو أربعة آلاف ذراع بحسب اختلافهم في الفرسخ هل هو تسعة آلاف بذراع القدماء أو اثنى عشر ألف ذراع بذراع المحدثين». وحكي التقدير بذلك عن نهاية ابن الأثير. وحينئذ يتعين حمل الاطلاق عليه. إذ لا مجال لحمله على مد البصر ، ولا على ما يمتاز فيه الراجل والراكب ، وإن عدا من معانيه ، لعدم انضباطهما. كما لا مجال لحمله على ما تفرد به في محكي تاج العروس : من أنه ستة آلاف ذراع. لندرته وغرابته.

__________________

ـ الشحام صحيح سندا. والبحث في سند خبر العيص كما في سند خبر ابن الحجاج.

٣٧٧

نعم في مرسل الخزاز : «إن كل ميل ثلاثة آلاف وخمس مائة ذراع» (١).

لكن. مع إرساله وهجره بين الأصحاب لا مجال للاعتماد عليه. مع إمكان حمله على ذراع خاص يساوي سبعة أثمانه أربعا وعشرين اصبعا. واولى بعدم إمكان الحمل عليه رواية الصدوق للمرسل المذكور هكذا : «كل ميل ألف وخمس مائة ذراع» (٢). فان لازم ذلك أن يكون البريد ثمانية عشر ألف ذراع ، التي هي فرسخ ونصف بالفرسخ المتعارف. وهو ـ كما ترى ـ مناف لكون البريدين مسيرة يوم ، كما صرحت به النصوص. فلا معدل عما هو المشهور.

٣ ـ قيل : إنه المشهور. لكن تقدم في محكي كلام الأزهري : أنه ست شعيرات. ولعل الحاجة غير ماسة إلى معرفة ذلك ، لأن الذراع المقدر بأربع وعشرين إصبعا هو الذراع المتعارف عند الأعراب اليوم ، الذي هو من المرفق إلى طرف الاصبع الوسطى ، فانه ست قبضات ، أربع وعشرون إصبعا ، فيكون المعيار منه المتعارف ، كما هو الحال في سائر التحديدات ، ولا تنتهي النوبة إلى تحديده بالاصبع ، فضلا عن تحديد الاصبع والشعيرة.

فلاحظ ، وتأمل (المستمسك ٨ / ١٤ إلى ١٦).

__________________

(١) الوسائل الباب الثاني من أبواب صلاة المسافر ح ١٣.

(٢) ب ٢ من أبواب صلاة المسافر ح ١٦. وفيه كل ميل : الفا وخمسمائة ذراع وهو أربعة فراسخ.

٣٧٨

٥٦ ـ الشروط في العقود الجائزة

(ودعوى ان الشرط في العقود الغير اللازمة غير لازم الوفاء ممنوعة).

هذه الدعوى مذكورة في كلام بعض من قارب عصرنا. قال في الحدائق في كتاب الدين : «المشهور أن القراض من العقود الجائزة التي يجوز الرجوع فيها من الطرفين ، بل ادعي عليه الاجماع. وعلى هذا فلو شرط التأجيل فيه لم يلزم. وبذلك صرحوا أيضا : وكذا كل شرط سائغ».

وقال في الرياض في شرح قول ماتنه في كتاب المضاربة «ولا يلزم فيها اشتراط الأجل» : «هذه العبارة تحتمل معنيين ... (إلى أن قال) : الثاني : أن الأجل المشترط فيها حيث كان غير لازم بل جائز ، يجوز لكل منهما الرجوع ، لجواز أصله ، بلا خلاف كما مضى ، فلن يكون الشرط المثبت فيه جائزا بطريق أولى». وهذا المضمون ربما يحتمل من كلام جماعة ، ففي جامع المقاصد : «قال الشيخ في المبسوط : إذا دفع إليه ألفا قراضا على أن يدفع إليه الفا بضاعة ، بطل الشرط ، لأن العامل في المضاربة لا يعمل عملا بغير جعل ... (إلى أن قال) : قال الشيخ : ولو قلنا

٣٧٩

القراض والشرط جائز لا يلزم الوفاء به ، لان البضاعة لا يلزم القيام بها كان قويا ... (إلى أن قال في جامع المقاصد) : وصرح في التحرير : بأنه لا يلزم الوفاء به ، وهو حق ، لأن العقد جائز من الطرفين». ويحتمل أن يكون مراده عدم وجوب الوفاء لجواز فسخ العقد فيسقط الشرط ، لا مع بقاء العقد. وفي جامع المقاصد في شرح قول ماتنه : «ولا يصح التأجيل فيها» ـ يعني : في الشركة ـ : «المراد بصحته ترتب أثره عليه ، وهو لزومها إلى الأجل وإنما لم يصح لانها عقد جائز فلو شرط التأجيل كان لكل منهما فسخها متى شاء» ، ونحوه في المسالك في شرح قول ماتنه : «ولو شرط التأجيل في الشركة لم يصح».

ويحتمل أن يكون مرادهما أنها جائزة على نحو لا تلزم بالشرط فيكون بطلان الشرط لأجل ما دل على جوازها ، لا لأنه شرط في عقد جائز. ولذلك علله في الجواهر بقوله : «لما عرفت من الاجماع على كونها عقدا جائزا بالنسبة إلى فسخها بالقسمة ، فلا يلزم الشرط المذكور فيها» وهذا الاحتمال هو الأقرب ، إذ لو كان المراد الأوّل كان اللازم التعبير بأنها عقد جائز والشرط في العقد الجائز جائز. (ودعوى) : أنه لو كان المراد الثاني كان اللازم بناؤهم على بطلان شرط التأجيل في عقد آخر مع أن بنائهم على صحته. (مدفوعة) : بامكان كون التفصيل بين المقامين مبنيا على أمر آخر اعتقدوه : وحينئذ فكأن هذه الكلية ـ أعني : عدم لزوم الشرط في العقد الجائز ـ لا أثر لها في كلام الأصحاب.

قال في القواعد في كتاب القراض : «وهو عقد قابل للشروط الصحيحة» ، وفي جامع المقاصد : «لا مزية لهذا العقد في ذلك ، بل كل عقد قابل لذلك». والظاهر

٣٨٠