القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

الشيخ محمد آصف المحسني

القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


المحقق: مهدي النيازي الشاهرودي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: پيام مهر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-94560-6-6
الصفحات: ٤٤٠

٤٧ ـ هل الشرط يفيد الملكية؟

(ودعوى ان الشرط لا يفيد تمليك العمل المشروط لمن له ، على وجه يكون من أمواله ، بل اقصاه التزام من عليه الشرط بالعمل واجباره عليه والتسلّط على الخيار بعدم الوفاء به مدفوعة بالمنع من عدم إفادته التمليك وكونه قيدا في المعاملة ، لا جزء من العوض يقابل بالمال ، لا ينافي إفادته لملكية من له الشرط ، إذا كان عملا من الاعمال على من عليه. والمسألة سيالة في سائر العقود ...).

تقدمت هذه الدعوى من الجواهر ، ووافقه عليها المصنف رضى الله عنه في حاشيته على خيار المجلس من مكاسب شيخنا الاعظم قدس‌سره في مسألة ما إذا اشترط أحد المتعاقدين عدم الفسخ ، فقد ذكر أن التحقيق أن الشرط لا يثبت أزيد من الحكم التكليفي ، بل التزم في النذر ذلك أيضا ، رد (ردا ظ) في ذلك على ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره فيما لو اشترط عدم الفسخ من أنه يحتمل قويا عدم نفوذ الفسخ ، لأن وجوب الوفاء بالشرط مستلزم لوجوب اجباره عليه وعدم سلطنته على تركه ، كما لو باع منذور التصدق به ، على ما ذهب إليه غير واحد فمخالفة الشرط ـ وهو

٣٢١

الفسخ ـ غير نافذة في حقه ، ثم قال : «ويحتمل النفوذ لعموم دليل الخيار ..». وعبارة شيخنا ليست صريحة في حصول الملك ، بل ولا ظاهرة ، لكنها صريحة في أن الشرط مانع من سلطنة المشروط عليه على تركه من أجل أن وجوب الوفاء بالشرط موجب ذلك.

هذا ولكن المفهوم عرفا من شرط الفعل هو الملكية ، فان عبارة الشرط وإن كانت مختلفة (فتارة) يكون المشروط له هو المنشئ للشرط فيقول : وأشترط عليك أن لا تفسخ ، أو : عليك أن لا تفسخ. أو : ولي عليك أن لا تفسخ ، أو نحو ذلك. (واخرى) يكون المشروط عليه هو المنشئ للشرط فيقول : واشترط أن لا افسخ ، أو علي أن لا أفسخ ، أو لك علي أن لا أفسخ ، أو نحو ذلك. ومرجع الجميع إلى معني واحد مهما اختلفت العبارات ، فاذا كان ظاهر قول المشروط له : ولي عليك أن لا تفسخ ، هو التمليك ، لأن الظاهر من اللام أنها لام الملك ، كما إذا قال لي على زيد درهم ، فانه دعوى الملكية ، أو قال : لزيد علي درهم ، فانه اعتراف بالملكية ، فاللام في قول المشروط له : لي عليك أن لا تفسخ ، كذلك ، وكذا اللام في قول المشروط عليه : لك علي أن لا أفسخ.

(ودعوى): أن اللام في قول المشروط عليه : لك علي أن لا أفسخ متعلقة بقوله : التزمت ـ يعني التزمت لك أن لا أفسخ ـ فتكون اللام لام الصلة لا لام الملك ، ويكون الظرف لغوا لا مستقرا (مدفوعة) : بأن هذا الاحتمال لا يجيء في قول المشروط له : ولي عليك أن لا تفسخ ، إذ لا معنى لقوله : التزمت لي عليك أن لا تفسخ ، فإذا لم يصح تقدير الالتزام فيه وجعل الظرف لغوا لم يصح ذلك في قول

٣٢٢

المشروط عليه : ولك علي أن لا أفسخ ، لما عرفت أن مفهوم جميع الجمل واحد مهما اختلفت العبارات.

وعلى هذا فإذا كان عدم الفسخ مملوكا للمشروط له كان تحت سلطان مالكه وخرج عن سلطان المشروط عليه ، فيكون الفسخ كذلك لأن نسبة القدرة إلى الوجود والعدم نسبة واحدة ، فإذا لم يكن المشروط عليه قادرا على الفسخ لم يصح فسخه وإلّا كان خلفا.

ولو فرض عدم ظهور اللام في لام الملك أمكن اثبات الملكية باثبات لوازمها ، مثل جواز المطالبة به ، وجواز الاجبار عليه ، وجواز السكوت عنه ، وجواز اسقاطه ، فان الامور المذكورة لا تتناسب مع التكليف البحث ومن ذلك يظهر الاشكال فيما حكاه في المتن من الجمع بين دعوى نفي الملكية وجواز الاجبار.

هذا كله في الشرط. أما النذر فالحكم فيه أظهر ، لوجود اللام صريحا في صيغة النذر : لله علي أن أفعل كذا ، أو لا أفعل كذا» ، وهي ظاهرة في الملكية ، فيكون مفاد النذر تمليك الله سبحانه الفعل على الناذر. واحتمال أن يكون الظرف لغوا واللام متعلقة بقوله : التزمت لله تعالى ، خلاف الاصل في الظرف ، فإذا قال القائل : زيد في الدار ، ودار الامر بين أن يكون الظرف لغوا والتقدير زيد نائم في الدار أو آكل في الدار أو نحو ذلك ، وبين أن يكون الظرف مستقرا والتقدير : زيد كائن في الدار ، فالأصل يقتضي الثاني ، ولا مجال للبناء على الأوّل إلّا بقرينة خاصة. وعلى هذا إذا نذر الإنسان أن لا يبيع أو لا يتزوج ، فباع أو تزوج كان البيع

٣٢٣

والتزويج باطلين ، لعدم قدرته على ذلك. على نحو ما ذكر في الشرط. فلاحظ (المستمسك ج ١٣ / ١٧٨ إلى ١٨٠).

* * *

٣٢٤

٤٨ ـ هل الاعراض يزيل الملكية؟

المنسوب إلى المشهور ان مجرد اعراض المالك عن المملوك يجعله كالمباح بالاصل ، فيجوز لكل تملكه قال في السرائر ـ بعد ما روى عن الشعيري : قال سئل أبو عبد الله عن سفينة انكسرت في البحر ، فاخرج بعضه بالغوص واخرج البحر بعض ما غرق فيها؟ فقال عليه‌السلام : اما ما اخرجه البحر فهو لاهله ، الله اخرجه لهم وأما ما خرج بالغوص فهو لهم وهم احق به (١)(٢).

__________________

(١) الوسائل باب ١١ من أبواب اللقطة حديث : ٢.

(٢) الحديث ضعيف سندا والاجماع وتواتر النصوص ممنوعان ثم الحديث يدل على اباحة المال لغير مالكه الاصلى بشرطين يأس المالك الأول عن ماله وعمل الغير لاحرازه. واين هذا من دلالة الحديث على سقوط الملكية بالإعراض وصحة تملك الغير له فتأمل.

والاقوى عدم اعتبار يأس المعرض عن تحصيل ماله ، كما في الغرب اليوم يعرضون أخر كل سنة عن اموالهم بعد ابدالها بالرائج الجديد ولا يعتبر في ملك الغير عملا سوى القبض كما في المباحات.

٣٢٥

قال محمّد بن إدريس وجه الفرق في هذا الحديث أن ما اخرجه البحر فهو لاصحابه. وما تركه اصحابه آيسين عنه فهو لمن وجده او غاص عليه ، لانه صار بمنزلة المباح. ومثله من ترك بعيره من جهد في غير كلاء ولا ماء فهو لمن اخذه ، لانه خلاه آيسا عنه ، ورفع يده عنه فصار مباحا.

وليس هذا قياسا ، لان مذهبنا ترك القياس ، وانما هذا على جهة المثال ، والمرجع فيه إلى الاجماع وتواتر النصوص دون القياس والاجتهاد وعلى الخبرين اجماع اصحابنا منعقد.

قال في الجواهر ، بعد نقل بعض كلامه هذا : قلت لعل ذلك هو العمدة في تملك المعرض عنه ، مضافا إلى السيرة في حطب المسافر ونحوه ، وإلّا فمن المعلوم توقف زوال الملك على سبب شرعي كتوقف حصوله (١) ، ولا دليل على زوال الملك بالاعراض ، على وجه يتملكه من أخذه كالمباح. ومن هنا احتمل جماعة إباحة التصرف في المال المعرض عنه دون الملك ، بل عن ثاني الشهيدين : الجزم بذلك. وعن بعض : أنه لا يزول الملك بالاعراض ، إلّا في الشيء اليسير كاللقمة ، وفي التالف كمتاع البحر ، وفي الذي يملك لغاية قد حصلت كحطب المسافر. وعن آخر : اعتبار كون المعرض عنه في مهلكة ، ويحتاج الاستيلاء عليه

__________________

(١) الملكية من الاعتبارات العرفية دون الاختراعات الشرعية المستنبطة والعرف يرى زوال الملكية بمجرد اعراض صاحبها. فما ذكره صاحب الجواهر رضى الله عنه ممنوع ومثل الاعراض في زوالها جعل الشىء فى معرض التلف كما افاده سيدنا الحكيم قدس‌سره.

٣٢٦

إلى الاجتهاد ـ كغوص وتفتيش ونحوهما ـ في حصول التملك به. وربما استظهر من عبارة ابن إدريس المتقدمة : اعتبار اليأس ، زيادة على الاعراض فيه أيضا .. إلى غير ذلك من كلماتهم ، التي مرجعها إلى تهجس في ضبط عنوان لذلك.

مع أن السيرة عليه في الجملة ، وليس في النصوص غير ما عرفت التعرض له».

أقول : مثل خبر الشعيري خبر السكوني (١) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في حديث ـ : «قال : وإذا غرقت السفينة وما فيها فاصابه الناس ، فما قذف به البحر على ساحله فهو لأهله وهم أحق به ، وما غاص عليه الناس وتركه صاحبه فهو لهم» (٢).

ولا يخفى أن الخبرين المذكورين لا دلالة فيهما على أن الوجه في جواز تملك الغواص لما أخرجه. هو يأس المالك ، أو إعراضه ، أو هما ، أو شيء آخر غيرهما ، إذا هو حكم في واقعة خاصة ، لا تعرض فيهما لمناطه.

لكن ربما يستفاد منهما ومن غيرهما من النصوص المذكورة في مبحث اللقطة : أن المال المملوك إذا صار بحال يؤدي إلى ضياعه وتلفه ، فاستنقذه شخص آخر من الضياع والتلف ، كان ملكا له ، نظير : «من أحيا ارضا مواتا فهي له» (٣) ففي

__________________

(١) الشعيري هو السكوني ظاهرا فلاحظ مشيخة الفقيه في بيان طريقه إلى أمية بن عمرو. وهذا السند أيضا ضعيف.

(٢) الوسائل باب : ١١ من أبواب اللقطة حديث : ١.

(٣) الوسائل باب : ١ من أبواب احياء الموات حديث : ٥ ، ٦.

٣٢٧

صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «من أصاب مالا أو بعيرا في فلاة من الأرض ، قد كلت وقامت وسيبها صاحبها لما لم تتبعه ، فأخذها غيره ، فأقام عليها وانفق نفقة حتى أحياها من الكلال ومن الموت ، فهي له ولا سبيل له عليها وانما هي مثل الشيء المباح» (١). وخبر مسمع عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقول في الدابة إذا سرحها أهلها أو عجزوا عن علفها أو نفقتها فهي للذي أحياها. قال : وقضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل ترك دابة بمضيعة ، قال : إن كان تركها في كلاء وماء وأمن ، فهي له يأخذها متى شاء ، وإن كان تركها في غير كلاء ولا ماء ، فهي لمن أحياها» (٢). وصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله إنّي وجدت شاة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هي لك أو لأخيك أو للذئب. فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إني وجدت بعيرا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : معه حذاؤه وسقاؤه ، ـ حذاؤه : خفه وسقاؤه : كرشه ـ فلا تهجه» (٣). ونحوها غيرها.

فان الظاهر من الجميع : أن الاستنقاذ من التلف في ظرف عجز المالك ـ سواء كان ملتفتا إلى ذلك وترك المالك عجزا منه ، أم غير ملتفت إليه ، كما في مورد النصوص الاخيرة ـ مملك. وعليه فان أمكن العمل بالنصوص تعين القول بذلك. ولا دخل للاعراض وعدمه ولا لاباحة المالك وعدمها في جواز التملك من

__________________

(١) الوسائل باب : ١٣ من أبواب اللقطة حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ١٣ من أبواب اللقطة حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ١٣ من أبواب اللقطة حديث : ١.

٣٢٨

المنقذ ، وإن لم يمكن العمل بالنصوص ـ لاعراض المشهور عنها ـ فاللازم القول بعدم جواز التملك بمجرد ذلك وغيره.

وفي الجواهر قال : «وأما المال الذي امتنع على صاحبه تحصيله بسبب من الأسباب ـ كغرق أو حرق ونحوهما ـ فيشكل تملكه بالاستيلاء عليه ، خصوصا مع عدم العلم باعراض صاحبه عنه على وجه يقتضي إنشاء إباحة منه لمن أراد تملكه ، أو رفع يده عن ملكيته ، وإنما هو للعجز عن تحصيله ، نحو المال الذي يأخذه قطاع الطريق والظلمة». أقول : قد عرفت أن موضوع النصوص المال الذي بحال ينتهي إلى التلف لا المال الذي امتنع على صاحبه تحصيله ، فلا يدخل فيه المال الذي يأخذه قطاع الطريق والظلمة.

والانصاف يقتضي جواز العمل بالنصوص المذكورة ، ولم يتحقق من المشهور الاعراض عنها ، قد تعرضوا لمضمونها في لقطة الحيوان الذي لا يمتنع من السباع والضياع ، وفي حكم السفينة إذا انكسرت وغرق ما فيها.

لكن إثبات القاعدة الكلية ، وأن كل ما يؤدي بقاؤه إلى التلف لو لم يؤخذ يجوز أخذه وتملكه ، غير ظاهر. ولا سيما أن نصوص الشاة لم يعمل بظاهرها عند المشهور ، لبنائهم على جواز أخذها مع الضمان ، على اختلاف منهم في معنى الضمان ، وأنه فعلي فتكون في الذمة كسائر الديون ، أو على تقدير المطالبة ، كبنائهم على وجوب التعريف ، وإن كان الأظهر عدم الضمان ، وعدم لزوم التعريف ، أخذا بظاهر النصوص المشار إليها وحملا لما دل على الضمان أو التعريف ، على غير الالتقاط في الفلاة ، بقرينة لزوم التعريف الذي لا يكون في الفلاة. كما أشرنا

٣٢٩

إلى ذلك في مباحث اللقطة.

هذا ، وأما إعراض المالك : فلا يظهر من الأدلة كونه موجبا لخروج المال عن ملك مالكه ، وصيرورته من قبيل المباحات الأصلية ، كما عرفت نسبته إلى المشهور ، بل يظهر من كلماتهم المتعرضة لحكم الحب المتساقط : التسالم على خلاف ذلك قال في التذكرة : «لو نبتت نواة سقطت من إنسان في أرض مباحة او مملوكة ، ثم صارت نخلة ولم يستول عليها غيره ، فان النخلة تكون ملك صاحب النواة قطعا». ولعل مرادهم جواز تملكه لغير المالك ، وإن كان باقيا على ملك مالكه ، كما قد يظهر من بعضهم. لكنه أيضا غير ظاهر ، لقصور النصوص المذكورة عن إثبات ذلك ، إذ ليس ما يتوهم منه الدلالة على ذلك ، إلّا صحيح ابن سنان ونحوه ، مما اشتمل على ترك المالك ، وقد عرفت أنه ظاهر في التملك بالاحياء ، ولا بالاستيلاء. والسيرة المدعاة عليه غير ظاهرة. وأما تحليل نثار العرس وحطب المسافرين (١) ونحوهما فالظاهر اختصاصه بصورة حصول امارة على إباحة المالك ولأجل ذلك يتعين تقييد عبارة المتن بهذه الصورة ، اقتصارا على القدر المتيقن. ولعل مقصود المصنف رضى الله عنه ـ كغيره ـ صورة ما إذا ظهر من المالك

__________________

(١) لعل المنظور في مستند التحليل في هذين الموردين هو السيرة وإلّا فلم نعثر على خبر يدل على الحلية في الثاني ، نعم في بعض الاخبار تدل عليه بالفحوى فراجع الوسائل باب : ١٢ من اللقطة. واما الأوّل فالاخبار الواردة فيه ادل على المنع إلّا ان تأوّل فراجع الوسائل باب : ٣٦ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة.

٣٣٠

الاباحة ، كما هو الغالب.

وفي الجواهر ـ في بيان أصل المسألة ، بعد ما ذكر أن الزرع لصاحب البذر ـ قال : «لكن مع فرض كون الحب من الذي هو معرض عنه ، على وجه يجوز للملتقط التقاطه ، فهل هو كذلك ، لأنه لا يزول عن الملك ، بالاعراض ، بل به مع الاستيلاء ، والفرض عدمه إلى أن صار زرعا ، والفرض عدم الاعراض عنه في هذا الحال؟ ، أو أنه يكون لصاحب الأرض لانه من توابعها ونمائها ، بل لعل كونه فيها نوع استيلاء من المالك عليه؟ وجهان ، إلّا أنه جزم في التذكرة : بأنه بينهما على كل حال ، خلافا لبعض العامة». ذكر ذلك في آخر كتاب المزارعة. ويشكل الأوّل : بأن الزرع عرفا نماء الحب في الأرض ، ولذا لو غصبه غاصب فزرعه كان الزرع للمالك.

والثاني : بأن الاستيلاء بغير قصد لا يستوجب الملك. (المستمسك ج ١٢ / ١٩٧ إلى ٢٠٢).

٣٣١

٤٩ ـ الدخول في الارض بغير اذن مالكه

هذا ـ أي عدم جواز الدخول في الارض ـ وإن كان مقتضى عموم : «فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير اذنه» ، إلّا أن السيرة جارية في الأرض غير المحصنة والمحجبة على الدخول إليها والعبور فيها ، ونحو ذلك من التصرفات غير المعتد بها. وقد جرت سيرة النجفيين على اختلاف طبقاتهم في العلم والصلاح ، على الدخول في البساتين التي بين مسجد الكوفة والفرات ، إذا لم تكن مسورة ، فتراهم يعبرون فيها ويجلسون للاستراحة ، أو لأكل الطعام وشرب الشاي ونحو ذلك ، من دون توقف.

وكذلك في غيرها من البساتين الواقعة على حافة نهر الفرات أو نهر الحسينية ، أو غيرهما من الجداول ، فيدل ذلك على الجواز. ومن ذلك يظهر جواز العبور في الشوارع المستحدثة في المدن (١) فلاحظ. (المستمسك ج ١٢ / ٢٠٢).

__________________

(١) ليس مراد سيدنا الاستاذ حجية سيرة النجفيين ، بل سيرة المسلمين كما قال لي يوما في بيته المبارك. والبحث محتاج إلى تفصيل.

٣٣٢

٥٠ ـ سببية الحيازة للملك

الوجوه المتصوّرة بدوا في سببية الحيازة للملك ثلاثة :

الأوّل : ان تكون سببا لملك الحائز مباشرة ، وهو من قامت به الحيازة مطلقا ، سواء قصد نفسه أم غيره أم لم يقصد.

الثاني : أن تكون سببا لملك من كانت له الحيازة ، فيكون المحاز تابعا لها في الملكية ، تبعية الثمرة للشجرة ، والحمل للدابة والنماء لذي النماء ، مطلقا أيضا.

الثالث : أن تكون سببا لملك من جعلت له ولو تبرعا ، فتكون سببيتها متقومة بالقصد ، فان قصد الحائز بها نفسه ملك هو المحاز ، وإن قصد غيره ملك غيره المحاز ، وان لم يقصد أصلا لم يملك المحاز مالك ، وبقي على إباحته الأصلية.

هذا ولا ينبغي الاشكال في صحة الاجارة على الوجهين الأخيرين.

نعم قد تشكل بناء على الوجه الأوّل ، بل في المتن أن لازمه عدم صحة الاجارة. وكأنه لعدم رجوع المنفعة إلى المستأجر حينئذ. وفيه : أنه يكفي في صحتها ترتب غرض ما على حصول العمل المستأجر عليه ، نظير الاجارة على

٣٣٣

النيابة عن ميت من أموات المستأجر ، والاستئجار لارضاع الولد وتعليمه الكتابة ونحوها من الكمالات ، فالوجوه كلها مشتركة في صحة الاجارة عليها ، ولا فرق بين الأوّل والأخيرين في ذلك.

نعم تختلف في أمر آخر ، وهو ملكية المحاز للمستأجر ، فعلى الأوّل : لا يملكه المستأجر مطلقا ، وإنما يملكه الأجير الحائز ، وعلى الثاني : يملكه المستأجر مطلقا إذا كانت الاجارة واقعة على المنفعة الخاصة وحدها أعني : منفعة الحيازة ، أو مع غيرها بأن كان جميع منافعه ملحوظة في الإجارة ، فان الحيازة على هذا تكون ملكا للمستأجر فيتبعها المحاز ، وأما إذا كانت واقعة على ما في الذمة ، فان قصد الأجير تشخيص ما في ذمته الواجب عليه بالاجارة ، كانت الحيازة الخارجية ملكا للمستأجر فيتبعها المحاز (١).

أما إذا لم يقصد ذلك ، بل قصد نفسه ، كان المحاز له ، ويكون قد فوت العمل المستأجر عليه على المستأجر ، فيرجع المستأجر عليه باجرة المثل لو لم يفسخ ، أو بالمسمى إذا كان قد فسخ. وعلى الثالث : مقدمية الاجارة لتملك المحاز ، تتوقف على وقوعها على الحيازة بقصد كونها للمستأجر ، إذ لو وقعت على نفس فعل الحيازة مطلقا استحق الأجير الأجرة ولو قصد نفسه ، ويكون هو المالك حينئذ للمحاز ، فالاجارة إنما يترتب عليها تملك المستأجر للمحاز ، إذا وقعت على

__________________

(١) لان انطباق ما في الذمة على ما في الخارج يحتاج إلى قصد ، وان انحصر في فرد ولا يكون قهريا وان كان ذلك في الكلي الخارجي كما صرح به السيّد الاستاذ الحكيم قدس‌سره أولا.

٣٣٤

الحيازة بنحو خاص ، أعني : بقصد كونها للمستأجر. وحينئذ فان قصد الحائز ذلك استحق الاجرة ، وكان المحاز للمستأجر. وإن قصد نفسه كان المحاز له دون المستأجر ، من دون فرق بين وقوع الاجارة على منفعته الخاصة ووقوعها على ما في الذمة ، وحينئذ يستحق المستأجر عليه المسمى أو اجرة المثل كما سبق. وكذا لو لم يقصد شيئا ، لكن في هذه الصورة يبقى المحاز على إباحته الأصلية.

ثم إن الوجهين الأخيرين يمكن ارجاع ثانيهما إلى أولهما ، بناء على أنه يكفي في ملكية العمل صدوره عن فاعله بقصد أنه لزيد مثلا ، فيكون ملكا لزيد بمجرد ذلك ، فانه على هذا المبنى تكون ملكية المقصود للمحاز تابعة لملكية الحيازة ، فالمتبرع عن غيره بالحيازة يملكها للمتبرع عنه ، فيملك المتبرع عنه المحاز ، كما يملك نفس الحيازة بالتبرع عنه فيها. فالحيازة تارة : تملك بعقد الاجازة للمستأجر. واخرى : يملكها المتبرع عنه بالتبرع من الحائز عنه ، فيملكها المتبرع عنه بذلك التبرع الراجع إلى فعلها بقصد كونها لغيره ، فتكون حال وقوعها ملكا للمتبرع عنه ، فيتبعها المحاز ، فالبناء على الثالث أيضا راجع إلى تبعية المحاز للحيازة في الملكية. نعم إذا كانت منفعة الحيازة مملوكة على الحائز بالاجارة ، لا سلطنة له على جعلها لغير المستأجر المالك لها. نعم بين الوجهين فرق من جهة اخرى ، تظهر بالتأمل فيما ذكرنا.

وكيف كان : لا ينبغي التأمل في أن الرجوع إلى المرتكز العرفي ـ الذي هو المعيار المائز بين ما تدخله النيابة والوكالة وما لا تدخله ـ يقتضي البناء على كون

٣٣٥

العناوين المذكورة في المتن مما تدخله النيابة (١) ، فانها عند العرف كذلك. بل التسالم على كون القبض مما تدخله النيابة ، في كل مورد كان موضوعا لحكم شرعي ، يقتضي البناء عليه هنا ، لأنها من أنواعه وأنحائه. فيبطل الوجه الأوّل.

هذا ولأجل أن اعتبار النيابة عند العقلاء إنما يصح فيما إذا كان للمنوب فيه أثر يترتب عليه ، وإلّا لم يكن للنيابة معنى ، ولا مجال لاعتبارها عند العقلاء ، فيكون بناؤهم على صحة النيابة في هذه العناوين كاشفا عن كونها موضوعا للآثار مطلقا ، فيتعين الوجه الثاني الذي هو ثالث الوجوه المذكورة في المتن (٢).

ويترتب عليه ما عرفت من أنه إذا استأجره بلحاظ المنفعة الخاصة ـ أعني :

__________________

(١) من الاحتطاب والاحتشاش والاستقاء. ثم الامور الاعتبارية كالبيع والاجارة وسائر العقود والايقاعات تقبل النيابة واما الامور التكوينية فليست كلها مما لا تقبل النيابة كما توهم ، بل بعضها يقبل النيابة وبعضها لا يقبلها ، والفاصل بين القسمين هو حكم العرف وهو الذي يقول بعدم صحة النيابة في الاكل والشرب والنوم والضحك والبكاء ونظائرها ويقول بصحتها في القبض والاحياء والحيازة والهدم والتعمير وغيرها.

(٢) قال في المتن (أي العروة الوثقى) : أو انها من الاسباب القهرية لمن له تلك المنفعة ، فان لم يكن يكون له ، وان قصد الغير فضولا ، فيملك بمجرد قصد الحيازة ، وان كان اجيرا للغير يكون لذلك الغير قهرا ، وان قصد نفسه او قصد غير ذلك الغير. أقول : هذا إذا كانت الاجارة واقعة على المنفعة الخارجية ، ولو كانت على ما في الذمة يكون المدار على قصده ، اذ لا مانع من تأثيره كما صرح السيد الاستاذ به أيضا.

٣٣٦

منفعة الحيازة ـ كان المحاز ملكا للمستأجر ، تبعا لملكية الحيازة وإن قصد الأجير الحيازة عن نفسه أو عن غير المستأجر ، لعدم نفوذ قصده ، لكونه تصرفا في ملك المستأجر ، كما لو حاز العبد بقصد غير مولاه.

وفي الشرائع في كتاب الشركة قال : «إذا استأجره للاحتطاب أو الاحتشاش أو الاصطياد مدة معينة ، صحت الاجارة ، ويملك المستأجر ما يحصل في تلك المدة». لكن قال في كتاب الوكالة : «إن الأمور المذكورة لا تقبل النيابة». وأشكل عليه : بأن البناء على أنها لا تقبل النيابة يقتضي المنع من صحة الاجارة عليها. وفي الجواهر دفع الأشكال : «بانه قد يمنع التلازم ، ويكون حينئذ ملك المباح في الفرض من توابع ملك العمل بالاجارة ، وهو غير التملك بالنيابة في الحيازة .. ثم قال : فتأمل» ولعله أشار بالامر بالتأمل إلى أنه إذا لم تقبل العناوين المذكورة اختصت آثارها بالمباشر ، فيكون المباح ملكا له ، فاذا بني على كونه ملكا لمالك الحيازة وإن لم يكن هو المباشر ، كان ذلك قولا بقبولها للنيابة ، إذ ليس المراد من كونها قابلة للنيابة إلّا هذا المعنى ، بأن يكون الأثر لغير المباشر.

ثم انه قد استدل على الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرناها ، بما دل على أن من حاز ملك ، فان المضمون المذكور وإن لم يرد به نص بلفظه ، فقد ورد ما يدل على معناه ، مثل قوله عليه‌السلام : «لليد ما أخذت وللعين ما رأت» (١). وفيه : أنه إذا كانت المرتكزات العرفية قاصية بقبولها النيابة ، فقد صدق ذلك بالنسبة إلى المنوب عنه

__________________

(١) الوسائل باب : ٣٨ من أبواب الصيد حديث : ١.

٣٣٧

ولا يصدق بالنسبة إلى النائب ، كما يظهر من ملاحظة نظائره (١) ، فإذا ورد : «من صلى ركعتين فله كذا» ، وقلنا بقبول الصلاة للنيابة ، كانت الصلاة الواقعة من النائب منسوبة إلى المنوب عنه. لا إلى النائب ، مثل : من باع أو تزوج أو قبض وغيرها. ونظير المقام باب إحياء الموات ، فان قولهم عليهم‌السلام «من أحيا أرضا مواتا فهي له» (٢). وإن كان مقتضى الجمود على عبارته تملك من قام به الاحياء ، لكن ما دل على قبول الاحياء للنيابة يقتضي عمومه للمباشرة والنيابة ، لأن فعل النائب فعل المنوب عنه ، فمن أحيا عن غيره كان غيره المحيي لا المباشر ، نظير قوله عليه‌السلام : «من بنى مسجدا كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة» (٣) ، فان الأثر المذكور يكون لمن ملك البناء ولو لم يباشر.

نعم هنا شيء وهو : أن ملك الحيازة هل يحصل بمجرد نية المباشر عن غيره كما يحصل بعقد الاجارة ، أو لا؟ فيه إشكال ، ومقتضى أصالة عدم ترتب الأثر عدمه. بل العدم مقتضى قاعدة السلطنة على النفس (٤).

__________________

(١) على ان الرواية غير حجة بجهالة النوفلي الواقع في سندها.

(٢) الوسائل باب : ١ من أبواب كتاب احياء الموات حديث : ٥ ، ٦.

(٣) الوسائل باب : ٨ من أبواب احكام المساجد حديث : ٢ ، ٦.

(٤) ليس معنى قاعدة السلطنة على النفس ان عمل الشخص اثر تكويني له لا يتجاوزه ، بل معناها ان الشخص له اشغال نفسه وجسمه فيما يشاء وكيف يشاء وله ان يجعل عمله الصادر لنفسه أو لغيره بعقد وميثاق أو بامر مجانا أو

٣٣٨

ومن ذلك يشكل البناء على عموم صحة النيابة ولو تبرعا.

والمتحصل مما ذكرنا : أن مقتضى الجمود على ما تحت مفاد الأدلة الأولية هو عدم صحة النيابة في أمثال المقام ، وأن المحاز ملك للحائز مباشرة. وبعد ملاحظة ما دل على قبول مثل ذلك للنيابة ، والجمع بينه وبين الأدلة الأولية ، يتعين البناء على أن المحاز ملك لمالك الحيازة ، لا من قامت به الحيازة ، نظير : «من أحيا أرضا» و «من بنى مسجدا». وهذا الملك تارة : يكون بالاجارة ، واخرى : يكون بغيرها من جعالة ونحوها ، وقد يكون بالأمر بها مجانا ، فيحوز المأمور بنية ملك الآمر. أما تبرع الحائز بدون إذن من حاز له فلا أثر له في الملك ، لما عرفت من أنه خلاف قاعدة السلطنة. بل قد يشكل حصوله بمجرد الأمر بالحيازة مجانا ، لعدم الدليل على حصول الملك بمجرد ذلك. وقبول الحيازة للنيابة لا يقتضي ذلك ، لأن القابلية أعم من الفعلية ، فما لم يقم دليل على النفوذ يكون المرجع اصالة عدم ترتب الاثر. اللهم إلّا أن يدخل ذلك في الهبة ، فيدل على ترتب الأثر ما دل على نفوذ الهبة. فتأمّل (١).

ثم إنه هل يعتبر في ملك الحائز لما حاز ، نية التملك ، أو لا يعتبر ذلك؟ في الشرائع : «قيل : لا. وفيه تردد». وفي القواعد : «فيه اشكال. وصريح المبسوط في

__________________

ـ بمجرد التبرع ، فعدم تاثير التبرع في ملكية عمله للغير المقصود ليس من اقتضاء قاعدة السلطنة ، بل هو مخالف لها ، فانها تقتضي تأثير تبرعه في ملكية المتبرع له فلاحظ. فان قاعدة السلطنة لا تكون مشرعة.

(١) ولعله وجهه انه يشمل التبرع من دون امر آمر أيضا.

٣٣٩

كتاب احياء الموات اعتبارها. قال فيه : لأن المحيي إنما يملك بالاحياء اذا قصد تملكه». وتبعه عليه جماعة ، منهم الشهيد في الدروس. وجزم في الجواهر في كتاب إحياء الموات وغيره بعدم الاعتبار ، وقال في كتاب الشركة : «يمكن دعوى السيرة ، بل الضرورة (١) على خلاف ذلك» (يعني : ما ذكره في المبسوط) وفي مفتاح الكرامة : «الأقرب الاعتبار» ، وذكر أنه قد استدل عليه بالاخبار المستفيضة الواردة فيما يكون في جوف السمكة مما يكون في البحر (٢) ، وبالاجماعين الظاهرين من التذكرة والمختلف ، المعتضدين بالشهرات. واستدل له في جامع المقاصد بما تكرر في فتوى الأصحاب من أن ما يوجد في جوف السمكة مما يكون في البحر يملكه المشتري ولا يجب دفعه إلى البائع يعني : أنه لو لم تعتبر النية لكان ملكا للبائع لكونه حائزا ، ولا وجه لان يكون للمشتري. وفيه : ان الظاهر أنّ البائع باع تمام ما حازه ، وان كان يعتقد انه سمكة فقط ، فالخطأ يكون في التطبيق لا غير (٣).

__________________

(١) قد ذكرنا في كتابنا المطبوع حديثا باسم (الأرض في الفقه) ان الاحياء في افادته الملك غير متوقف على القصد حسب اطلاق الروايات المعتبرة سندا ، واما الحيازة فهي محتاجة في ترتب الملكية عليها إلى القصد وربما وقع الخلط بين الحيازة والاحياء في المتن والله العالم.

(٢) الوسائل باب : ١٠ من أبواب اللقطة. الروايات المذكورة غير حجة لضعف اسانيدها واجماع العلامة قدس‌سره منقول غير معتبر.

(٣) فهم هذا الجواب محتاج الى تأمل.

٣٤٠