القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

الشيخ محمد آصف المحسني

القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


المحقق: مهدي النيازي الشاهرودي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: پيام مهر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-94560-6-6
الصفحات: ٤٤٠

ـ كما يقتضيه صحيح حريز (١) وموثق سماعة (٢) أو مجموعهما ، أو كل منهما ، كما قد يقتضيه الجمع العرفي بين الأدلة لكن المتعين في الجمع العرفي : الالتزام بأن موضوع الحكم الواقعي هو المرض واقعا. وثبوت الحكم مع العلم أو الخوف من باب الحكم العقلي الطريقي ، أو الشرعي الظاهري ، لا أنه موضوع لحكم واقعي آخر ـ ليلزم منه اجتماع حكمين مع خوف الضرر اذا كان موجودا واقعا ، الذي هو خلاف المرتكز العرفي ـ ولا أنه جزء موضوعه ، ليلزم تقييد اطلاق الطائفتين معا (٣) ، كما لا يخفي. (المستمسك ج ٨ / ٤٢٢).

__________________

(١) الوسائل ب ٢٠ من أبواب من يصح منه الصوم حديث : ٦.

(٢) المصدر باب ١٩ من أبواب من يصح منه الصوم ح ١.

(٣) ما افاده متين يجري في مقامات كثيرة كما اشار إليه قدس‌سره.

٣٠١

٤٣ ـ القيود المذكورة في موضوع الامتثال

الثاني من وجهي الاشكال : أنّه إذا نوى الأمر الندبي ولم ينو الأمر الوجوبي ، لم يتحقق امتثال الأمر الوجوبي بقصد امتثال غيره ، فلا موجب لسقوطه (١).

والتحقيق : أن القيود التي تذكر في موضوع الامتثال العبادي اشتباها تارة : تلحظ بما هي : واخرى : تلحظ طريقا ومرآة إلى غيرها. والأوّل تارة : تكون ملحوظة على نحو وحدة المطلوب ، واخرى : على نحو تعدد المطلوب ، فان لوحظت بما هي على نحو وحدة المطلوب بطلت العبادة ، لفوات القصد إلى الواقع ، لمنافاة قصد القيد ـ ولو اشتباها ـ إياه. ففي فرض المسألة إذا لوحظ قيد الحج

__________________

(١) اذا بنينا على ان الوجوب مستفاد من حكم العقل بلزوم امتثال ما يطلبه المولى حسب قانون العبودية فجواب الاشكال المذكور واضح اذ الوجوب والندب ليسا من القيود الشرعية فقصد احدهما مكان الآخر لغو لا انه مبطل كما اذا قصد الصلاة الواقعة في الساعة الرابعة ، في الساعة الخامسة أو الثالثة مثلا.

٣٠٢

الندبي والأمر الندبي فقد فات قصد الحج الاسلامي (١). والأمر الوجوبي ، فلا مجال للصحة. وإن لوحظت على نحو تعدد المطلوب فان كان الاختلاف بين القيود الواقعة والقيود المقصودة من قبيل الاختلاف بين الأقل والأكثر صحت العبادة. كما إذا اعتقد أنّ الحج الإسلامي شرع في مكة ـ مثلا ـ اشتباها ، فقصد الحج الاسلامي المشرع في مكة على نحو تعدد المطلوب ، لم يقدح ذلك في صحة امتثال أمر الحج الاسلامي إذا كان قد شرع في المدينة ، لأن فوات القيد المذكور ـ الذي قصد اشتباها ـ لا يقدح في قصد الحج الاسلامي ، بعد ما كان التقييد على نحو تعدد المطلوب (٢).

وإن كان الاختلاف بين القيود الواقعية والقيود المقصودة من قبيل الاختلاف بين المتباينين لم يصح الامتثال ، فان تعدد المطلوب إنما يقتضي وقوع القصد على ذات المقيد حتى على تقدير انتفاء القيد ، ولا يقتضي وقوع القصد على القيد المباين. ففي المقام إذا قصد الحج غير الاسلامي والامر الندبي على نحو تعدد المطلوب ، فقد تعلق القصد بذات الحج وبذات الأمر ، لكن لم يتعلق بالحج

__________________

(١) اي قصد حجة الاسلام. فالبطلان ليس من قصد الحج الندبي ، بل من عدم قصد حجة الاسلام.

(٢) المثال الذي ذكره يمكن القول فيه بعدم اضرار القصد بصحة العمل ولو على نحو وحدة المطلوب اذ غاية الامر ان قصد القيد لغو لا مبطل ، اذ لم يؤخذ في صحة العمل قصد وقوع امره في المدينة مثلا ، بل يصح العمل بقصد حجة الاسلام فقط والزائد عليه لغو. فلاحظ.

٣٠٣

الاسلامي ولا بالأمر الوجوبي. ولو بني على عدم اعتبار قصد الوجوب والندب يكون البطلان مستندا إلى عدم اعتبار قصد خصوصية الحج الاسلامي فإنه لا بدّ من قصدها في تحقق العبادة ، فينحصر تصحيح الحج الإسلامي ـ في الفرض ـ بصورة ما إذا كان قصد الحج غير الاسلامي بعنوان كونه عبرة ومرآة إلى الحج الاسلامي فيكون الحج الاسلامي مقصودا بالأصالة ولو إجمالا. ومن ذلك يظهر أنه ـ مع تباين القيود الواقعية والخطئية ـ ينحصر تصحيح العبادة بصورة ملاحظة القيد الاشتباهي بنحو المرآتية والطريقية ، ومع عدم التباين وكونها من قبيل الأقل والأكثر ينحصر تصحيح العبادة بصورة ملاحظة القيد الاشتباهي بنحو تعدد المطلوب ، فاذا لوحظ بنحو وحدة المطلوب تعين البناء على البطلان. ومن ذلك يظهر أنه في اطلاق الصحة في كلام المصنف رضى الله عنه نظر (١).

وكان اللازم التفصيل في المسألتين على النحو الذي ذكرنا .. (المستمسك ج ١٠ / ٣٣ و ٣٤).

__________________

(١) واليك نقل كلام المصنف أي صاحب العروة رضى الله عنه : اذا حج باعتقاد انه غير بالغ ندبا فبان بعد الحج انه كان بالغا ، فهل يجزئ عن حجة الاسلام أو لا؟ وجهان أوجههما الأوّل. وكذا إذا حج الرجل باعتقاد عدم الاستطاعة بنية الندب ثم ظهر كونه مستطيعا حين الحج.

أقول : ما ذكره سيدنا الاستاذ رضى الله عنه من التفصيل في هذه المسألة وغيرها مهم مفيد يجب على أهل الفتوى امعان النظر فيه ، ولاجله جمعنا جملة من افاداته في هذا الكتاب.

٣٠٤

٤٤ ـ اختصاص حرمة الرياء بأمرين

تنبيه : فيه أمران :

الأوّل : إن الرياء ـ على ما ذكره غير واحد من علماء الاخلاق ، طلب المنزلة في قلوب الناس بإراءتهم خصال الخير ، وعليه فلو كان المقصود من العبادة دفع الذم عن نفسه أو ضرر غير ذلك لم يكن رياء ، ويشهد له خبر سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل ، والعمل الخالص. الذي لا تريد ان يحمدك عليه احد إلّا الله عزوجل (١) وخبر السكوني : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ثلاث علامات للمرائي ينشط إذا رأى الناس ويكسل إذا كان وحده ويحبّ ان يحمد في جميع أموره (٢) وخبر جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) قال عليه‌السلام : الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله ، وإنما يطلب تزكية الناس يشتهي ان يسمع به الناس ،

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٤.

(٢) الوسائل باب : ١٣ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١.

٣٠٥

فهذا الذي اشرك بعبادة ربه (١) وفي رواية العلاء المروية عن تفسير العياشي في تفسير الآية الشريفة المذكورة قال : من صلّى أو صام أو اعتق أو حجّ يريد محمدة الناس فقد اشرك في عمله (٢). ويشير إليه ما في مصحح زرارة وحمران السابق : من قوله عليه‌السلام : «وأدخل فيه رضا أحد من الناس» (٣). وما تضمن أمر المرائي يوم القيامة أن يأخذ أجره ممن عمل له (٤). وما تضمن الأمر بحفظ الإنسان نفسه من أن يكون في معرض الذم والاغتياب (٥). وظهور إطباق الفقهاء على أن الاسرار في الصدقة المستحبة أفضل ، إلّا مع التهمة فالاعلان أفضل.

ومن ذلك يظهر ضعف ما عن الشهيد في القواعد : «من أن الرياء يتحقق بقصد مدح المرائي أو الانتفاع به أو دفع ضرره. فان قلت : فما تقول في العبادة المشوبة بالتقية. قلت : أصل العبادة واقع على وجه الاخلاص وما فعل منها تقية فان له اعتبارين بالنظر إلى أصله وهو قربة ، وبالنظر إلى ما طرأ من استدفاع الضرر وهو لازم لذلك فلا يقدح في اعتباره ، أما لو فرض إحداثه صلاة مثلا تقية فانها من باب الرياء» (٦).

__________________

(١) الوسائل : باب ١٢ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٦.

(٢) مستدرك الوسائل باب : ١١ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ١١ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١١.

(٤) نفس المصدر حديث ١٦.

(٥) الوسائل باب : ١٩ من أبواب احكام العشرة وباب : ٣٨ من أبواب الأمر بالمعروف.

(٦) القواعد ج ١ / ٧٦ طبعة مكتبة المفيد ، قم ، الفائدة الثانية.

٣٠٦

الثاني : الرياء ـ كما ذكره غير واحد ـ إنّما يكون في خصال الخير القائمة بالبدن تارة ، وبالزي اخرى. وبالعمل ثالثة. وبالقول رابعة ، وبالاتباع والأمور الخارجة عن المرائي خامسة ، والمستفاد من النصوص المتضمنة لحرمته أن موضوع الحرمة هو العمل الذي يرى الناس أنه متقرب به إلى الله تعالى ، فتكون المنزلة في نفوسهم المقصودة له بتوسط اعتقادهم أنه ذو منزلة عند الله تعالى ، وعليه فلو عمل عملا من أحد الأنحاء الخمسة السابقة بقصد أن يكون له منزلة في قلوبهم بالعمل نفسه لا بعنوان كونه عبادة الله تعالى لم يكن محرما ، فلو عاشر السلطان بقصد أن يكون له منزلة في قلوب الرعية لم يكن رياء محرما ، ولو عاشر الفقراء بقصد أن يري الناس أنه يتقرب إلى الله تعالى بمعاشرتهم فتكون له منزلة في قلوب من يراه من الناس كان رياء محرما ، وهكذا الحال في بقية أمثلة الأنواع (١) (المستمسك ج ٦ / ٢٧ إلى ٢٩).

__________________

(١) أقول : ينبغي ذكر امور :

١ ـ الغرض من ذكر الامر الأوّل هو عدم حرمة عمل يدفع به الذم والاتهام ، دون صحة العمل العبادي ، فمن صلى لأجل دفع ضرر الناس عن نفسه يكون عمله باطلا بلا شك وان لم يرتكب رياء محرما ، فلا يشتبه عليك الجهة التكليفية بالجهة الوضعية ، فان قوام العبادة بقصد أمر المولى أو حبّه وقيل بطمع ثوابه او دفع عقابه.

٢ ـ الروايات الخمسة الاولى ـ أي حتى ما عبر بمصحح زرارة وحمران ـ ضعيفة سندا ، والظاهر ان سيدنا الاستاذ الحكيم رضى الله عنه اطمأن بصدورها ـ ولو في

٣٠٧

__________________

ـ الجملة ـ لكثرتها أو لجهات اخرى كما اشرنا الى هذه الجهة فيما مضى أيضا. والسادسة معتبرة واليك ذيلها : فاتقوا الله في الرياء فانه الشرك بالله ..

فالتمس اجرك ممن كنت تعمل له (الوسائل ج ١ / ٦٩ وجامع الاحاديث ج ١ / ٤٣٥) واطلاق الجملة الاخيرة تشمل صورتي طلب المحمدة ودفع الذم كلتيهما ، إلّا ان يدعى انصرافها إلى الصورة الاولى.

فان قلت : ان الروايات ساكتة عن حرمة الرياء الدافع للذم لا آنها نافية لها وحينئذ ما دل على حرمة الرياء بالعموم أو بالاطلاق يشمل الدافع أيضا فان الرياء في اللغة ـ كما في بعض كتبها ـ التظاهر بخير دون حقيقة.

قلت : يمكن ان يقال انها في مقام تحديد الرياء فتدل على ان تمام الرياء هو طلب المدح والمنزلة. والارجح أن يقال ان العمدة في حرمة الرياء هي معتبرة مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهم‌السلام ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل فيما النجاة غدا ـ فقال : انما النجاة في ان لا تخادعوا الله فيخدعكم ، فانه من يخادع الله يخدعه ويخلع (ينزع عقاب الأعمال) منه الايمان ، ونفسه تخدع لو تشعر. فقيل له وكيف يخادع الله؟ قال : يعمل بما امره الله ثم يريد به غيره (١). فاتقوا الله (فاجتنبوا أمالي) الرياء فانه شرك بالله ، ان المرائي يدعى يوم القيامة باربعة اسماء يا كافر ، يا فاجر يا غادر يا خاسر حبط عملك وبطل اجرك ولا خلاق لك اليوم فالتمس اجرك ممن كنت تعمل له جامع الأحاديث ج ١ / ٣٤٥) ، فإنها

__________________

(١) ربما تدل الرواية على ان المراد هو الرياء بعد العمل لا في اول العمل أو أثنائه وعليه فكل الرواية محتاجة الى التأويل وتخرج عن محل البحث.

٣٠٨

__________________

ـ معتبرة سندا وتامة دلالة على الحرمة فإن تمّ انصراف قوله : (ثم يريد به غيره) وقوله : (فالتمس اجرك ممن كنت تعمل له) إلى فرض جلب النفع فهو وإلّا فهو يشمل باطلاقه فرض دفع الضرر أيضا ، ولا يقيد المعنى اللغوي بمصطلح علماء الاخلاق فانه حادث.

٣ ـ ما يفعل تقية ولدفع الضرر فهو مامور به شرعا على ما تقدم تفصيله ولعله مراد الشهيد رضى الله عنه وقوله : لو فرض احداثه صلاة مثلا تقية فانها من باب الرياء. فالكلام فيه من جهة التكليف عدم حرمة الرياء في هذه الحالة ومن جهة الوضع ان تحقق قصد القربة فهو صحيح وإلّا فهو باطل.

٤ ـ ما افاده في الامر الثاني هو المستفاد ظاهرا من معتبرة مسعدة المتقدمة.

٥ ـ يظهر من الفقيه الهمداني رحمهم‌الله (مصباح الفقيه ج ١ / ١٨٨ و ١١٩) عدم حرمة الرياء في غير العبادات وظاهر سيد الاستاذ الحكيم قدس‌سره في اخير كلامه هو الحرمة وهي الاوفق باطلاق المعتبرة.

٣٠٩
٣١٠

المعاملات

٣١١
٣١٢

٤٥ ـ المالية والملكية وحكمهما

وقال (في التذكرة) في كتاب العارية : ولو حمل السيل حب الغير أو نواه أو جوزه أو لوزه إلى أرض آخر ، كان على صاحب الأرض رده على مالكه إن عرفه ، وإلّا كان لقطة. فان نبت في أرضه وصار زرعا أو شجرا ، فانه يكون لصاحب الحب والنوى والجوز واللوز ، لأنه نماء أصله ، كما أن الفرخ لصاحب البيض. ولا نعلم فيه خلافا». وفي القواعد في كتاب المزارعة : «ولو تناثر من الحاصل حب فنبت في العام الثاني ، فهو لصاحب البذر. ولو كان من مال المزارعة فهو لهما» ونحوه كلام غيره. ومثله مفروض المتن. والحكم فيه كما ذكر المصنف رضى الله عنه. ووجهه ما أشار إليه في التذكرة من أن النماء تابع الأصل ، فيملكه مالك الأصل.

نعم قال في التذكرة أيضا : «لو كان المحمول بالسيل ما لا قيمة له كنواة واحدة وحبة واحدة فنبت ، احتمل أن يكون لمالك الأرض إن قلنا لا يجب عليه ردها إلى مالكها لو لم تثبت (لم تنبت ظ) ، لانتفاء حقيقة المالية فيها ، والتقويم إنما حصل في أرضه. وهو أحد وجهي الشافعية. وأن يكون لمالكها إن قلنا بتحريم

٣١٣

أخذها ووجوب ردها قبل نباتها. فعلى هذا في قلع النابت وجهان». ولا ينبغي التأمل في أن الاصح الاحتمال الثاني ، فان الملكية ليست متقومة بالمالية ، فان المالية تابعة لتنافس العقلاء على موضوعها ، والتنافس إنما يكون مع الاعتداد بمرتبة المالية ، فاذا لم تكن بمرتبة معتد بها لم يكن موضوعها. وليست الملكية كذلك ، فانها تابعة لأسباب اخرى عرفية أو شرعية ، فيصح اعتبارها مع وجود السبب ، ولو لم تكن للعين مالية. فالمالية والملكية متباينان مفهوما ، وبينهما عموم من وجه موردا.

نعم الأدلة اللفظية مثل : «لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه» (١) ، ومثل : «فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه» (٢) ، إنما يدلان على حرمة التصرف في مال الغير ، ولا يدلان على حرمة التصرف في ملك الغير ، لكن الظاهر التسالم على حرمة التصرف في ملك الغير كما له ، يظهر ذلك من كلمات اصحابنا وغيرهم من المخالفين ، ويكفي في اثباته كونه ظلما وعدوانا ، فيدل على حرمته ما دل على حرمة الظلم والعدوان (٣) ، وقد اشار المصنف رضى الله عنه إلى شيء من

__________________

(١) الوسائل باب : ٣ من أبواب مكان المصلي حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٣ من أبواب الانفال حديث : ٦.

(٣) أقول : اما التسالم فمع كونه ظنيا كما يظهر من كلامه قدس‌سره فهو راجع الى الاجماع المنقول فليس بحجة. واما ادخال المقام في الظلم ففيه تردد أو منع فان فهم العرف لا يساعده فالقول الاول لا يخلو عن وجه نعم هنا سؤال مثلا وهو ان

٣١٤

ذلك في مبحث التيمم في مسألة ما إذا حبس في مكان مغصوب. (المستمسك ج ١٢ / ١٩٦ و ١٩٧).

__________________

ـ جواز التصرف في ملك الغير قد يؤدي الى ما لا يلتزم به وهو أخذ مقدار من الحبوب حبا حبا مع انه لا جواب علمى له.

٣١٥

٤٦ ـ الفرق بين الحق والملك والحكم

هذا ولا بأس بالتعرض في المقام للفرق بين الحق والحكم (١) ، فنقول قد ذكرنا في حاشيتنا على مكاسب شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ نهج الفقاهة ـ أن الحق في اللغة والعرف : هو الأمر الثابت في قبال الباطل غير الثابت ، وفي الاصطلاح : الحقية عبارة عن نوع من الملكية التي هي نحو خاص من الاضافة بين المالك والمملوك ، والاعتبار الخاص بينهما الذي هو معنى لام الملك في مثل قولك : الفرس لزيد فان اللام حاكية عن إضافة بين زيد والفرس على نحو خاص يرى فيه ، الفرس من توابع زيد وشئونه ولواحقه ، يعبر عنها بملكية زيد للفرس. فاذا باع زيد الفرس على عمرو ، صار الفرس ملكا لعمرو ، وكانت الاضافة المذكورة بين الفرس وعمرو بعد ما لم تكن. كما أنها حينئذ لا تكون بين الفرس وزيد بعد ما كانت. وأما إضافة الحقية : فهي نوع من الاضافة المذكورة تختلف معها باختصاصها بمورد خاص.

توضيح ذلك : أن المملوك في الاضافة الملكية تارة : يكون عينا متقومة بنفسها ، كالفرس ، والدرهم ، والدار. واخرى : يكون عرضا ومعنى ، كالعقد ، والفسخ ،

__________________

(١) ولاحظ كتابنا (الارض في الفقه) ففيه بعض الاقوال الآخر.

٣١٦

وعمل الحر ، ونحوها. والأوّل : تارة : يكون خارجيا ، كالفرس ، والدرهم الخارجيين. واخرى : يكون ذميا كالمبيع في السلم ، والثمن في النسيئة. وثالثة : لا يكون كذلك ، كما في حق الجناية (١) وحق الزكاة على بعض الأقوال. ويختلف الأوّل والأخيران في أن وجود الأوّل قائم بنفسه ، ووجودهما قائم بغيره. وفي أن اعتبار وجود الأوّل لا يتوقف على إضافته إلى مالك ووجود الاخيرين ـ اعتبارا ـ يتوقف على اضافته إلى مالك ، فيكون اعتباره ملازما لاعتبار اضافته الى المالك ، فلو انتفى مصحح اعتبار اضافته إلى المالك امتنع اعتباره ، فلو لا السلف لامتنع اعتبار شيء في ذمة البائع ، كما أنه لو لا النسيئة لامتنع اعتبار شيء في ذمة المشتري وكذلك لو لا الجناية ووجود سبب الزكاة لامتنع اعتبار شيء في العبد ، أو في النصاب. فأقسام الأوّل ـ وهو العين ـ ثلاثة.

وأما الثاني ـ وهو المعنى ـ فأقسامه ـ أيضا ـ ثلاثة لأنه تارة : يكون ذميا ، كعمل الحر الأجير المملوك في ذمته للمستأجر بالاجارة. واخرى : لا يكون ذميا بل هو أمر قائم بغيره» وهو تارة : لا يكون اعتباره موقوفا على إضافته إلى مالك ، كما في منافع الأعيان المملوكة كالدار والعبد ، فان اعتبارها في الخارج يكون

__________________

(١) فانه قائم في عين اخرى كعين الجاني وحق الزكاة قائم بالعين الزكوية ، فان شاة الزكاة قائمة في الاربعين وليست جزء منها لتكون خارجية ، ولا في ذمة المالك اجماعا منا ، لتكون ذميّة .. (المستمسك ج ١٤ / ٥٥٣ ـ ٥٥٤) ثم انّه قدس‌سره جعل الاقسام (في ج ١٤) ثمانية ، لكل من العين والمعنى اربعة اقسام ، فلاحظها ان شئت.

٣١٧

تابعا لقابلية العين للمنفعة سواء أكان لها مالك أم لم يكن. واخرى : يكون موقوفا على ذلك ، مثل حق الخيار القائم بالعقد ، وحق الشفعة القائم بالمبيع ، وحق القسم القائم بالزوج ، وحق التحجير القائم بالأرض ، وحق القصاص القائم بالجاني ، وحق الرهانة القائم بالعين المرهونة ، إلى غير ذلك ، فانها لو لم يكن مصحح لاعتبار إضافتها إلى المالك لم يصح اعتبارها. ومنه منافع الأجير الخاص الذي يستأجر بلحاظ منافعه الشخصية.

ولا يخفى أن إضافة المالكية والمملوكية بين المالك وكل واحد من المذكورات في الجميع على نحو واحد ، فكما أن زيدا مالك للفرس والدرهم الخارجيين ، كذلك هو مالك بنحو تلك الملكية للدين الذي في ذمة من اشترى منه نسيئة ، أو في ذمة من باعه سلفا ولمنافعه إذا كان أجيرا ، ولمنافع الأعيان التي استأجرها ، ولفسخ العقد إذا كان مغبونا مثلا ، ولأخذ المبيع بالشفعة إذا كان شريكا ، وللاقتصاص من الجاني إذا جنى عليه عمدا ولاستيفاء دينه من العين المرهونة ... إلى غير ذلك من الأمثلة.

ولا تفاوت بين أفراد هذه الاضافة في الموارد المذكورة قوة وضعفا ، بل هي في الجميع على نحو واحد ومرتبة واحدة ، وإن كان بعضها يختص ـ اصطلاحا ـ باسم الحقية ، والآخر باسم الملكية ، فليس الاختلاف بين الملكية والحقية إلّا بحسب المورد لا غير.

وكيف كان فالحق ـ اصطلاحا ـ عين أو معنى متعلق بغيره ، وقائم فيه على نحو لا يصح اعتباره إلّا في ظرف اعتبار ملكيته لمالكه ، فيختص بالقسم الثالث

٣١٨

من كل من القسمين ، فيخرج منه الأعيان الخارجية المملوكة ، وكذا الذميات من أعيان ومعان ، لعدم كونها قائمة بمن له الذمة ، وانما هي في الذمة ، كما تخرج عنه منافع الأعيان لصحة اعتبارها من دون اعتبار مالك لها كما عرفت ، ولذا لا إشكال ولا خلاف في عدم سقوطها بالاسقاط. نعم لا فرق بين الذميات ـ من أعيان ومعان ـ في سقوطها بالاسقاط كالحقوق إلّا أنها لا تسمى عندهم حقوقا ، لاختصاص الحق ـ كما عرفت ـ بالملك القائم بموضوع ، وليست هي كذلك : ومن ذلك يظهر أن الدين في ذمة الحر ليس من الحقوق ، والاقتصاص القائم برقبة الحر الجاني منها ، ولذا ينعدم الثاني بانعدام موضوعه ، ولا ينعدم الأوّل بانعدام ذي الذمة ، بل يستوفى من تركته أو من غيرها. ولا يقال للدين : إنّه ثابت في المديون ، ويقال : إنه ثابت في ذمته.

ومن ذلك يظهر أن قول شيخنا الأعظم رضى الله عنه في مكاسبه : «وأما الحقوق الأخر ...» مبني على المسامحة ، ولذا ضرب في النسخ المصححة على لفظ : «الأخر» لظهوره في أن عمل الحر من الحقوق ، وليس هو منها كما عرفت. نعم عمل الحر إذ كان الحر من قبيل الأجير الخاص من الحقوق ، فيسقط بالاسقاط. والفرق بينه وبين منافع الرق ومنافع سائر الأعيان المملوكة جاء من جهة الفرق بينهما بالمملوكية واللامملوكية ، ولذا لو حبس الحر لم يضمن منافعه ، وإذا حبس الرق ضمن منافعه. فلا يصح أن يضاف إلى المحكوم عليه إضافة الملكية ، كما يصح أن يضاف الحق إلى المستحق ، مع أن الحق من أحكامه السقوط بالاسقاط ، للقاعدة المقررة بين العقلاء من أن لكل ذي حق إسقاط حقه ، كما ذكر ذلك شيخنا

٣١٩

الأعظم رضى الله عنه في مسقطات خيار المجلس ، وليس كذلك الحكم ، فان سقوطه إنما يكون باسقاط الجاعل له ، ولا يكون باسقاط المحكوم عليه ضرورة. وصحة قولنا : «لزيد أن يشرب الماء ، وليس له أن يشرب الخمر» إنما هو لكون اللام فيه لام التعدية المتعلقة بفعل مقدر مثل : يجوز له ، أو : يحل له ، كما في قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ)(١) ، ونحوه غيره ، وليست اللام فيه للملك مثل قولنا : «الخيار للمغبون» ولذا كان مجرورها ظرفا مستقرا ، بخلاف مجرور الاولى فانه ظرف لغو. نعم لا تبعد دعوى كون الظاهر من اللام في مثل قولنا : «لزيد أن يفعل» كونها للملك ، فيكون الفعل من حقوق زيد ، وحينئذ فان لم تقم قرينة حالية ، أو مقالية ، أو عقلية على كونه حكما ، بني على كونه حقا ، وإن قامت قرينة على ذلك كان العمل عليها ، وبالتأمّل في ما ذكرنا يتضح لك وجه الفرق بين الحق والملك ، وو وجه الفرق بين الحق والحكم ، واما الفرق بين ما يسقط بالاسقاط وما لا يسقط به ، فهو أن الأوّل : ما يكون اعتبار وجوده تابعا لاعتبار اضافته إلى مالك كالذميات اعيانا كانت ، أو معاني كالحقوق بالمعنى الذي ذكرناه ، والثاني : ما لا يكون كذلك ، بل اعتبار وجوده تابع لمنشا آخر ، كالاعيان الخارجية ومنافعها. فلاحظ وتأمل (٢). (المستمسك ٤ / ٤٦ ـ ٥٠).

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) وقد تعرض سيدنا الاستاذ للموضوع ثانيا في المستمسك ج ١٤ / ٥٥٣ إلى ٥٥١ فارجع إليه. والله الموفق.

٣٢٠