القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

الشيخ محمد آصف المحسني

القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


المحقق: مهدي النيازي الشاهرودي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: پيام مهر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-94560-6-6
الصفحات: ٤٤٠

__________________

ـ سريان الحكم لغيرها من المكلفين.

بل بما علم من الخارج من عدم سقوطها بتعذر كثير من قيودها. وان شئت فقل ان هذا الوجه يختص بالصلاة فقط ، اذا لم تكن مندوحة في تمام الوقت.

ثانيها : موثقة أبي بصير على المشهور : قال سألته عن المريض هل تمسك له المرأة شيئا يسجد عليه؟ فقال : لا ، إلّا أن يكون مضطرا ليس عنده غيرها ، وليس شيء مما حرّم الله إلّا وقد أحلّه لمن اضطر إليه. (التهذيب ج ٣ / ١٩٤ ح ٣٩٧) أقول : الكلام فيه هو الكلام في سابقها ظاهرا.

ثالثها : في الصحيح عن الباقر عليه‌السلام : التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم ، فقد أحلّه الله له. (الوسائل ١٦ / ٢١٤) أقول : فان دعت التقية الى ترك الجزء أو الشرط أو إلى ارتكاب المانع فمعنى احلاله سقوط الوجوب الضمني أو الغيري أو الحرمة الغيرية لا غير وعليه فلا يحتاج تصحيح المركب وابقاء امره الاستقلالي بالمركب إلى محاولة مستأنفة ، لان التقية لم تذهب بهذا الامر بل بما عرفته ، وهذا الكلام يجري في الأوّل والثاني أيضا لكن الرواية لا اطلاق ولا قرينة فيه على عدم اعتبار المندوحة فان المأمور به هو الطبيعي دون الفرد والاضطرار إلى الفرد لا يكون اضطرارا إلى الطبيعي. فمع المندوحة لا يصدق الاضطرار. وهذا الحديث ينفع في كل الواجبات المركبة من الأجزاء والشرائط كالحج مثلا فضلا عن غيرها.

نعم إنّ للسيّد الاستاذ الخوئي رضى الله عنه كلاما طويلا في عدم دلالة الرواية على حلية الوجوب والحرمة الغيريين واختصاصها بالواجبات والمحرمات النفسية. والمتأمل فيه يعلم انه غير تام والاقوى ما عرفته لا ما افاده (التنقيح ٤ / ٢٧٣

٢٨١

__________________

ـ ٢٧٨).

رابعها : الروايات الخاصة كقول الصادق عليه‌السلام في صحيح حماد أو الحلبي : من صلى معهم في الصف الأوّل كان كمن صلى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (في الصف الأوّل) (الوسائل ٨ / ٢٩٩ و ٣٠٠ الباب الخامس من أبواب الجماعة).

للحديث دلالة قوية في الاجتزاء بفعل المتقى به واجزائها عن الواقع وهو كالنص في عدم اعتبار المندوحة ، وليس فيه فرض خوف ، نعم يشمله باطلاقه أو بطريق أولى.

وفي التعدي عن الصلاة إلى غيرها وجهان من الاولوية فان الصلاة من اعظم العبادات ، ومن ان التقية في الصلاة كثير الابتلاء فلو لا الاجزاء لوقع المكلف في حرج أو تعب. ولا علم لنا لعلل الاحكام ، وهذا هو الاظهر.

ثم ان هذا الحديث حديث حماد أو الحلبي ، كالصريح في عدم اعتبار المندوحة لكن في التعدّي عن الصلاة إلى سائر العبادات تأمّلا. وان يظهر من بعض كلمات سيدنا الاستاذ الخوئي المفروغية عن صحة التعدي. وعلى ما ذكرنا يشكل الرمي والحلق والذبح يوم التاسع اذا كان عند الناس يوم العاشر وان جوزنا الوقوف معهم يوم الثامن اذ يجوز للمحرم اتيانها يوم العاشر الواقعي بلا خوف اصلا.

واعلم ان مثل هذا العمل بداعي التأليف والتحابب من دون خوف من ضرر انما هو امر تعبدي خاص بمورد الصلاة وحدها ولا يجوز فعل حرام أو ترك واجب نفسي أو ضمني آخر بهذا الداعي والله اعلم.

ومثله صحيح زرارة في حديث : ولا تدع الصلاة معهم وخلف كل امام .. ثم

٢٨٢

__________________

ـ قال : ما اراك بعد إلّا هاهنا ، يا زرارة فأي علة تريد اعظم من انه لا يأتم به؟ ثم قال : يا زرارة اما تراني قلت : صلوا في مساجدكم وصلوا مع ائمتكم (المصدر ص ٣٠٠).

ويؤيد ذيله (صلوا في مساجدكم) بعض الروايات غير المعتبرة سندا المشتملة على قوله عليه‌السلام صلوا في عشائركم. وغيره. واما قوله عليه‌السلام : (صلوا عشائركم) فهو اجنبي عن المقام ظاهرا ، لأنه من الوصل دون الصلاة. ثم ان سيدنا الاستاذ الخوئي بعد مناقشته في دلالة الرواية على الاجزاء فصّل في المقام وقال بالاجزاء في خصوص الموارد المنصوصة كغسل الرجلين والغسل منكوسا وترك القراءة في الصلاة خلفهم وامثالها ، فان الامر بها انما هو جعل المصداق للطبيعة المامور بها تقية فيسقط الامر بها اذا اتى بذلك المصداق. واما ان لم يرد امر بالتقية في خصوصه فان كان الموارد مما يكثر الابتلاء به كالتكتف في الصلاة وغسل الرجلين ـ مع قطع النظر عن كونه موردا للامر به بالخصوص ـ فلا مناص فيه من الالتزام بالصحة والاجزاء فان عدم الردع عما جرت به السيرة وعدم الامر بالاعادة والقضاء يدل على الامضاء. ومن هذا القبيل الوقوف بعرفات يوم الثامن من ذي الحجة مع الشك في هلال الشهر. وان لم يكن مما يكثر الابتلاء به ، بل كان مما يندر الابتلاء به ولم يكن بمرأى من الأئمة عليهم‌السلام فلا دليل على الامضاء كالوضوء بالنبيذ والمسح على الخفين والوقوف بعرفة مع العلم بكون اليوم ليس بثامن لذي حجة ، فيحكم بالبطلان وان كانت التقية واجبة. (التنقيح ج ٤ / ٢٨٩ ـ ٢٩٦).

ثم انه رضى الله عنه ذهب إلى اختصاص الصحة والاجزاء بالتقية عن العامة لا عن

٢٨٣

__________________

ـ الكفار ولا عن جميع العامة بل عن العامة القائلين بخلافة الخلفاء الاربعة دون الخوارج القائلين بخلافة الخليفتين لعدم كثرة الابتلاء لهم كالوضوء بالنبيذ على ما مر.

والحق شمول التقية لجميع العامة حتى من الزيدية للاطمينان بعدم الفرق بينهم وان لم نقل باطلاق الادلة.

(فرع) : يرتفع الخوف بمجرد الدخول معهم في الصلاة صورة ولا يحتاج إلى قصد الاقتداء جزما وعليه لا وجه لسقوط القراءة عن المصلي فانه يصلي صلاته معهم ، لكن الروايات المتقدمة لم تشر إلى ذلك بوجه ولم يذكر الائمة وجوب القراءة للشيعة وهذا يدل على سقوط القراءة عنهم. نعم في صحيح ابن يقطين قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يصلي خلف من لا يقتدي بصلاته ، والامام يجهر بالقراءة؟ قال : اقرأ لنفسك ، وان لم تسمع نفسك فلا بأس. (الباب ٥٢ من ابواب القراءة) وتؤيده مرسلة محمّد بن أبي حمزة. وهذا المقدار يكفي لايجاب القراءة وعدم الاقتداء بهم حقيقة خلافا لبعض الفقهاء في ذلك. وسيأتي كلام آخر في التقية في الفصل ٣٢.

تفصيل وتدقيق

المامور بالتقية إما يترك وظيفته الاولية والثانوية معا واما يترك الثانوية فقط ، ففي الأول إذا قلنا بانقلاب الواقع الأولي إلى الثانوي يبطل العمل بترك التقية. وإن لم نقل به لعدم دلالة السيرة والنصوص على ذلك كما اشرنا إليه ، فلا موجب لبطلان العمل الواجب المركب وان استحق العقاب بترك التقية الواجب كالوقوف

٢٨٤

التعبد به مع قطع النظر عن وجوب المسح على الخفين تقية.

(فان قلت): التقية واجبة ، وهي عبارة عن المسح على الخف ، فترك التقية الذي هو حرام ترك المسح على الخف ، وهو لا ينطبق على المسح على البشرة(قلت): الواجب الذي تقتضيه هو المداراة لهم والمجاراة معهم ، والحرام ترك ذلك.

بحيث يظهر الخلاف لهم ، وهذا الحرام يحصل بالمسح على الرجل حتى لو مسح على الخف أيضا. ومثله : أن يقول مذهبي وجوب المسح على الرجل ، أو مذهبي

__________________

ـ بعرفة يوم الثامن ـ (وهذا اليوم الذي اكتب هذه الكلمات يوم عرفه وعصرها من عام ١٤١٩ ه‍. ق) ـ لكن عصيانه هذا لا يضر بحجّه ، فان الوقوف بعرفة اليوم الثامن لم يصر جزءا للحج الواجب بادلة التقية على الفرض. وأما الوقوف يوم التاسع فقد سقط وجوبه للتقية. وفي الثاني فان كانت الوظيفة من المعاملات. فهي صحيحة وان اثم بترك التقية فان مثل هذه الحرمة لا تدل على فسادها وان كانت في العبادات فان كان المتقى به ، الفعل كالتكفير وقول آمين وصلاة الجماعة فتركه لا يبطل صلاته فانها مطابقة للمأمور به الواقعي وعدم دلالة ادلة التقية على كونها من اجزاء الصلاة وشروطها واقعا. وان كانت التقية في الترك ففعله المكلف عصيانا فان كان غير داخل في حقيقة المامور به كالقنوت فالحكم هو صحة العمل لان وجوب ترك القنوت الماتي به لا يبطل الصلاة. وان كان جزءا أو شرطا واجبا للمأمور به كالسجدة على التربة والمسح على البشرة فهو باطل لما تقدم من انه لا امر له ولانه مبغوض لكونه مخالفا للتقية ؛ نعم ، ان أتى به ثانيا مطابقا للتقية صحت العبادة إلّا ان تضرّ الزيادة بالعبادة كما في الصلاة فتبطل لاجلها.

٢٨٥

عدم الاجتزاء بالمسح على الخف ، ونحو ذلك مما يدل على الخلاف لهم. هذا لو كانت التقية واجبة ، أما لو كانت مستحبة فلا مجال للبطلان (١) والظاهر أنه لا فرق بين كون خوف الضرر المأخوذ موضوعا لوجوب التقية ملحوظا طريقا إلى الضرر الواقعي وملحوظا موضوعا في قبال الواقع أما على الثاني فالبطلان واضح ، لثبوت التحريم واقعا ، الموجب لفساد العبادة وأما على الأوّل فالظاهر أنه كذلك وإن لم يكن ضرر واقعا ولا تحريم كذلك لأن الخوف بعد ما كان طريقا ووجب ظاهرا العمل به كان الجري على خلافه تجريا بحكم المعصية في المنع من صلاحية التقرب.

(إذا اعتقد التقية أو تحقق احدى الضرورات الأخر فمسح على الحائل ، ثم بان أنه لم يكن موضع تقية أو ضرورة ففي صحة وضوئه اشكال).

ينشأ من الاشكال في كون الخوف ملحوظا موضوعا في نفسه أو طريقا صرفا ، فعلى الأوّل يلزم القول بالصحة لتحقق الموضوع ، وعلى الثاني بالبطلان لخفاء الطريق ، ولا دليل على الاجزاء ، ولا يبعد أن يقال : إن اعتقاد الضرورة إن كان من اعتقاد عدم القدرة فالحكم بالبطلان متعين إذ لا مجال لاحتمال الموضوعية في مثله ، لعدم الدليل عليها. وان كان من قبيل اعتقاد الضرر فان كان الامر بالعمل الواقع حينئذ حرجا عرفا فالحكم الصحة ، وإن انكشف عدم الضرر ، لعدم الفرق

__________________

(١) خوف الضرر موضوع للتقية الواجبة والمداراة والموادة موضوعة للتقية المستحبة.

٢٨٦

بين دليلي الحرج والضرر في نفي الواقع ، وإن لم يكن حرجا عرفا فلا دليل على الصحة ، إذ لم يثبت من أدلة خوف الضرر أو اعتقاده موضوعية الخوف والاعتقاد ، بل مقتضى الجمع العرفي بينها وبين أدلة موضوعية الضرر هو طريقية الخوف ، كما سنشير إلى ذلك في مبحث وضوء الجبيرة.

وأمّا في التقية فان كان الخطأ في كون المتقى ـ بالفتح ـ عدوا أو في كون رأيه مخالفا للواقع ، فالحكم البطلان ، لعدم الدليل على الصحة وأدلة مشروعية التقية مختصة بصورة المفروغية عن ثبوت العداوة ومحالفة رأي العدو للواقع ، فلا تصلح للاعتماد عليها في ظرف انتفاء أحدهما. نعم لو كان الأمر بالجري على خلاف التقية حرجا عرفا فالحكم الصحة لما سبق وإن كان الخطأ في ترتب الضرر على مخالفة التقية فلا تبعد الصحة أيضا ، لظهور أدلة التقية في موضوعية الخوف (١).

__________________

(١) هذا في التقية الواجبة. وأمّا التقية المستحبة فموضوعها المجاملة والمداراة.

وقال سيدنا الاستاذ الخوئي رضى الله عنه في بعض كلامه في شرح المقام : ان التقية شرّعت في العبادات لمحض المجاملة والمداراة مع العامة سواء كان في تركها ضرر على المكلف أم لم يكن. وفي غير العبادات وجوب التقية أو جوازها انما يدور مدار احتمال الضرر احتمالا عقلائيا ، فالخوف وقتئذ تمام الموضوع لوجوب التقية أو جوازها ، ولا يعتبر في ذلك ان يكون في ترك التقية ضررا واقعا .. (التنقيح ج ٤ / ٣٢٨).

أقول : ادلة التقية على قسمين منها لدفع الضرر كما هو معناها ومنها ما هو

٢٨٧

(إذا زال السبب المسوغ للمسح على الحائل من تقية أو ضرورة ، فان كان بعد الوضوء فالاقوى عدم وجوب إعادته (١) ، وإن كان قبل الصلاة ، إلّا إذا كانت بلة اليد باقية ، فيجب اعادة المسح (٢) ، وان كان في اثناء الوضوء فالاقوى الاعادة اذا لم تبق البلة).

(١) هذا لا مجال له ، بناء على اعتبار عدم المندوحة في صحة الناقص (١) ولو بالتأخير ، فانه إذا زال السبب انكشف فساد الوضوء من أوّل الأمر ، لانكشاف وجود المندوحة. نعم له مجال بناء على أنه لا يعتبر في صحة الناقص عدم وجود المندوحة بالتأخير. ومنشأ الخلاف حينئذ في وجوب الاعادة وعدمه الخلاف في كون دليل صحة الوضوء الناقص للمعذور هل يدل على كونه بمنزلة الوضوء التام من جميع الجهات حتى بلحاظ ما بعد زوال العذر من الغايات ، أو لا دلالة له على ذلك؟ وعلى الثاني ، فهل يكون مقتضى الاصول العملية هو ذلك أو لا؟ فيه قولان ، نسب كل منهما إلى جماعة من الأساطين. واستدل في الذخيرة على الأوّل ـ بعد أن نسبة إلى المبسوط والمعتبر ـ بعموم الآية ، يعني بها قوله تعالى : «إذا قمتم إلى

__________________

ـ للاعم منه لكنه مختص بالصلاة ولا يشمل سائر العبادات. وكون موضوع التقية في غير العبادات هو الخوف دون الضرر ممنوع والاظهر ما افاده سيدنا الاستاذ الحكيم كما يظهر للمتأمّل.

(١) كما هو الاظهر لعدم دليل على التقية في الوضوء مع المندوحة ، ثم ان وجوب الاعادة في كلام صاحب العروة موقوف على عدم فوت الموالاة مضافا إلى بقاء البلة.

٢٨٨

الصلاة ..» (١) وعلى الثاني ـ بعد أن نسبه إلى الجماعة. بأنها طهارة شرعية ، ولم يثبت كون ذلك ـ يعني ارتفاع العذر ـ ناقضا.

والتحقيق : أنه بعد البناء على عدم اعتبار عدم المندوحة في صحة الوضوء الاضطراري فالظاهر من دليل مشروعيته كونه فردا للماهية كالفرد التام ، غاية الأمر أن فرديته إنما تكون في حال العذر كما أن التام إنما تكون فرديته في حال عدمه ، وعليه يكون كل منهما في عرض الآخر فيترتب على كل منهما ما يترتب على الآخر من غير فرق بينهما ، فكما أن مقدمية التام لا تختص بما قبل طروء العذر من الغايات ، بل يترتب عليه جميع الغايات الموقوفة على صرف الماهية ، من غير فرق بين ما يكون قبل طروء العذر وما يكون بعده ، كذلك الناقص لا تختص مقدميته بما قبل زوال العذر ، بل كما هو مقدمة لما كان في حال العذر من الغايات يكون مقدمة لما بعد زواله ، واحتمال خلاف ذلك في الناقص خلاف إطلاق دليله ، كاحتمال خلاف ذلك في التام. وبالجملة : بعد البناء على ظهور دليل مشروعية الناقص ولو مع المندوحة لا ينبغي التشكيك في ظهوره في كون الناقص كالتام ، ويكون مقتضى الجمع بين هذا الدليل وإطلاق ما دل على وجوب الوضوء التام مطلقا ، هو تقييد الثاني بصورة عدم العذر ، فيكون الوضوء الصحيح لغير المعذور هو التام وللمعذور هو الناقص ، فيترتب على كل منهما من الغايات ما يترتب على الآخر بلا فرق بينهما.

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، من أبواب صلاة الجماعة.

٢٨٩

وكذا الحكم لو لم يبن على تقييد إطلاق دليل وجوب التام بدليل وجوب الناقص ، بل على بدلية الناقص عن التام على نحو يفي بتمام مصلحته فيكون التام في حال العذر واجبا والناقص واجبا بدلا على نحو البدلية التامة عنه ، كما هو محتمل أدلة مشروعية التقية بعد الجمع بينها وبين أدلة الواقع الأوّلي ، فان العمل المتقي به بعد ما كان بدلا عن الواقع ووافيا بتمام مصلحته كان مجزئا عنه ، ولو مع ارتفاع التقية ، لأن الاتيان به امتثال للأمر بالواقع كالاتيان بالواقع نفسه ، فلا موجب للاعادة بعد ارتفاع العذر.

نعم لو بني على اعتبار عدم وجود المندوحة في صحة الناقص فاللازم حينئذ القول بوجوب إعادته بعد زوال العذر لو كان قد وقع مشروعا صحيحا ، كما لو توضأ المعذور في آخر الوقت فصلى وبعد خروج الوقت زال عذره ولم يكن قد أحدث. ووجه ذلك : أنك قد عرفت أن الوجه في اعتبار عدم المندوحة كون الدليل مسوقا مساق جعل شيء على المكلف في فرض سقوط التكليف الأولي لأجل العذر ، فلا يدل على انتفاء ملاك الفعل التام ومصلحته في تلك الحال ، فيكون إطلاق دليل وجوبه الشامل لحال العذر محكما ، فيدل على بقاء مناطه في حال العذر. ولأجل ذلك قيل بوجوب المبادرة إلى التام لو علم بطروء الاضطرار في أثناء الوقت إلى تركه ـ كما تقدم في المسألة السابعة والثلاثين ـ فاذا كان إطلاق دليل التام يقتضي وجود المناط فيه تعيينا حتى في حال العذر بحيث يحرم تفويته اختيارا ، ولم يكن دليل مشروعية الناقص مزاحما له في ذلك ، بل إنما يكون دالا على جعل شيء على المكلف في تلك الحال ، من دون دلالة على وفائه

٢٩٠

بمصلحته ، وأنه بمنزلته مع جميع الجهات ، فكيف لا يجب فعله بعد زوال العذر ويحرم تفويته؟ فان إطلاق دليله إذا كان دالا على وجوبه بالاضافة إلى الغاية الواقعة في حال العذر ، ولذا قيل بوجوب المبادرة إليه لو علم بطروء الاضطرار في اثناء الوقت ، فلأن يدل على وجوبه بالاضافة إلى الغاية الواقعة بعد زوال العذر بطريق أولى ، ومقتضى ذلك وجوب الاعادة (فان قلت) : إذا كان تجب الاعادة بالاضافة إلى الغاية التي تكون بعد زوال العذر فالواجب إعادة الغاية التي فعلت في حال العذر أيضا ، لعدم وقوعها تامة (قلت) : هذا مسلم بالنظر إلى القواعد الأولية ، لكن وجب الخروج عنه لظهور النص والفتوى في الاجزاء ، إلّا أن الاجزاء أعم من حصول تمام الغرض ، إذ قد يكون لعدم إمكان تدارك المقدار الفائت ، وحينئذ يحتاج في الاجزاء بالنسبة إلى الغايات الأخر إلى الدليل ، وهو مفقود لاختصاص دليل البدلية بحال الاضطرار ، فلا يشمل صورة ارتفاعه ، فيتعين فعل التام وعدم الاجتزاء به.

ومن هنا تعرف أن اعتبار عدم وجود المندوحة في صحة الناقص المذكور في المسألة الخامسة والثلاثين ، ووجوب المبادرة إلى التام المذكور في المسألة السابعة والثلاثين ، ووجوب الاعادة المذكور هنا ، متلازمة في مقام استفادتها من الأدلة. ولا مجال للتفكيك بينها ، كما وقع في المتن.

كما أن مما ذكرنا تعرف أنه لا مجال للاصول العملية في المقام ، لأنه إن كان دليل مشروعية الناقص ظاهرا في تقييد دليل وجوب التام كان مقتضاه عدم وجوب الاعادة ، وإن لم يكن ظاهرا في ذلك كان مقتضى إطلاق وجوب التام

٢٩١

وجوب الاعادة ، ولا مجال للأصل مع الدليل. نعم لو فرض عدم إطلاق في دليل وجوب التام ، مع عدم ظهور دليل الناقص في كونه بمنزلة التام ، كان مقتضى استصحاب الحدث الثابت قبل فعل الناقص ـ الذي لا مجال للتشكيك في مانعيته من الصلاة ـ هو وجوب الاعادة ، للشك في ارتفاعه بفعل الناقص. ولا مجال لمعارضته باستصحاب صحة الصلاة الناقصة ، لعدم اليقين السابق بصحة هذه الصلاة ، بل هي مشكوكة من أوّل الأمر. اللهم إلّا أن يقال : كانت هذه الصلاة بحيث لو فعلت قبل زوال العذر كانت صحيحة ، فهي على ما كانت. لكن لو سلم كان المرجع بعد التساقط قاعدة الاشتغال ، الموجبة للاعادة. فتأمّل جيدا.

ومما ذكرنا تعرف أنه إذا زال السبب المسوغ للوضوء الاضطراري فان كانت الضرورة التقية لم تجب الاعادة ، وإن كانت غير التقية وجبت الاعادة.

(٢) أما في الضرورة غير التقية فواضح ، لما عرفت. وأما في التقية فلقصور الأدلة عن إثبات الصحة في مثل الفرض ، وقد عرفت أن موثق سماعة المتقدم (١) قد تضمن وجوب فعل الواقع مهما استطاع ، الصادق عرفا في المقام ، ومجرد التأخير آناً ما لا يعتد به في نفي الاستطاعة عرفا. نعم إذا كان زمان ارتفاع التقية معتدا به عرفا لبعده ، لم يبعد شمول أدلة التقية. (المستمسك ج ٢ / ٤١٠ ـ ٤١٨).

__________________

(١) الوسائل : باب ٥٦ من ابواب صلاة الجماعة حديث : ٢.

٢٩٢

٤٠ ـ بناء المسجد في الارض المفتوحة عنوة

الخراب لا يستوجب فواته (أي فوات عنوان المسجدية) ، لعدم الدليل عليه ، والاصل يقتضي بقاءه.

لكن في المسالك : «هذا في غير المبني في الأرض المفتوحة عنوة ، حيث يجوز وقفها تبعا لآثار التصرف ، فانه ينبغي حينئذ بطلان الوقف بزوال الآثار ، لزوال المقتضي للاختصاص ، وخروجه عن حكم الأصل ...»

وفيه : أن الملك آناً ما ـ ولو تبعا للآثار ـ يكفي في صحة الوقف ، واذا صح كان مؤبدا ولو للاستصحاب. نعم يقع الاشكال في ثبوت الملكية. ولو تبعا للآثار ، فانه لا دليل عليه ، كما أشرنا إلى ذلك في نهج الفقاهة. وحينئذ يشكل أصل وقفها مسجدا ، لعدم الدليل على صحة التصرف فيها بذلك ، وان ادعى شيخنا في الجواهر في كتاب الوقف السيرة القطعية على اتخاذ المساجد فيها. بل المعلوم من الشرع جريان أحكام المساجد على مساجد العراق ونحوه من البلاد المفتوحة عنوة ، وان كان قدس‌سره في كتاب البيع حكى عن المبسوط وغيره المنع من التصرف فيها ، حتى ببنائها مساجد وسقايات ، وأنه لو تصرف بذلك أو غيره كان باطلا ، وهو

٢٩٣

الذي تقتضيه القواعد الأولية. والسيرة لم تثبت في مورد علم بأن أرض المسجد مما كان عامرا حين الفتح ، وأنه لم يخرج عن ملك المسلمين ولو ببيع السلطان ، وأنه لم يكن ذلك التصرف باذنه. وليس التصرف فيها بجعلها مسجدا إلّا كسائر التصرفات التي ذكروا انها لا تجوز في ارض المسلمين إلّا بالاذن من وليهم كبنائها دورا ومنازل وسقايات ونحو ذلك ، والسيرة في جميع ذلك لم تثبت بنحو يخرج بها عن القواعد (١). (المستمسك ج ١ / ٥٠٧ ـ ٥٠٨).

__________________

(١) ونحن فصلنا البحث في كتابنا (الارض في الفقه) وقلنا إن جواز البيع الارض المذكورة لاجل حق الاولوية ببناء دار او زراعة ولا يعتبر في البيع الملك كما اشتهر بنحو لا يصح بيع ما تعلق به حق الاولوية ، ولا معنى لملكية المفتوحة عنوة تبعا للآثار. وما افاده الماتن من إنكار السيرة متين وان لم اجد لحد الآن في بلدة قم نهج الفقاهة حتى اقف على نظره الشريف مفصلا ولا بدّ للمحقق من مراجعة كتاب (الأرض في الفقه) وهو في هذه الايام تحت الطبع.

٢٩٤

٤١ ـ حكم التقية في الصوم

(اذا افطر تقية من ظالم بطل صومه).

لما تقدم في المكره. وقال في المدارك ـ بعد ما اختار الصحة في المكره ـ «وفي معنى الاكراه : الافطار في يوم يجب صومه للتقية ، أو التناول قبل الغروب لأجل ذلك». ونحوه في الذخيرة. وقال في الحدائق : «قالوا : في معنى الاكراه : الافطار في يوم ...». فكأن الخلاف فيه مبني عندهم على الخلاف في المكره.

نعم ظاهر جملة من النصوص الواردة في الأمر بالتقية. صحة العمل الجاري على طبق التقية وإن وجد مانعا أو فقد شرطا أو جزءا ، مثل المصحح عن أبي عمر الأعجمي : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا عمر إن تسعة أعشار الدين التقية. ولا دين لمن لا تقية له. والتقية في كل شيء ، إلّا فى النبيذ ، والمسح على الخفين» (١) فان استثناء المسح على الخفين يقتضي شمول المستثنى منه للحكم الوضعي ، ومصحح زرارة : «قلت له : في مسح الخفين تقية؟ فقال عليه‌السلام : ثلاثة لا أتقي فيهن

__________________

(١) لاحظ صدر الرواية في الوسائل باب : ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف حديث : ٢ ، وذيلها في باب : ٢٥ حديث : ٣.

٢٩٥

أحدا : شرب المسكر ، ومسح الخفين ، ومتعة الحج؟ (١) وفي رواية أبى الصباح عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام : ان الله علم نبيه التنزيل والتأويل فعلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا قال : وعلمنا الله ثم قال : ... «ما صنعتم من شيء ، أو حلفتم عليه من يمين في تقية ، فأنتم منه في سعة» (٢) فان إطلاق السعة يقتضي الصحة. فتأمّل ، وموثق سماعة : «وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ، ويصلي ركعة اخرى ، ويجلس قدر ما يقول : «أشهد أن لا إله الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله» ثم ليتم صلاته معه على ما استطاع فان التقية واسعة. وليس شيء من التقية إلّا وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله» (٣). وقريب منها غيرها. وحينئذ لا مانع من الالتزام بالصحة في المقام ، كما هو صريح جماعة ، بل هو المشهور في غير المقام. فراجع ما تقدم في الوضوء.

نعم القدر المتيقن صورة ما لو كان العمل موافقا لمذهبهم من حيث الحكم الكلي ، مثل استعمال ما ليس مفطرا عندهم مع كونه مفسرا عندنا كالارتماس. أما لو كان موافقا لمذهبهم من حيث الموضوع الخارجي ، فان شمول النصوص له غير ظاهر ، كما لو ثبت عندهم هلال شوال فأفطروا ، فان الافطار معهم ليس موافقة لهم إلّا في اعتقاد كون يوم الافطار عيدا وهو من قبيل الموضوع لا الحكم. إلّا أن يرجع ذلك إلى مذهبهم في الحكم بحجية الشهادة ، أو في حجية حكم حكامهم

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب الأمر بالمعروف حديث : ٥.

(٢) الوسائل باب : ١٢ من أبواب الايمان حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ٥٦ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ٢.

٢٩٦

التي هي من قبيل الحكم الكلي الظاهري. ولا فرق بين الحكم الواقعي والظاهري في دخولهما تحت دليل الاجزاء. ويشير إليه خبر أبي الجارود : «إنا شككنا سنة في عام من تلك الاعوام في الأضحى ، فلما دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وكان بعض أصحابنا يضحي ، فقال عليه‌السلام : الفطر يوم يفطر الناس ، والأضحى يوم يضحي الناس ، والصوم يوم يصوم الناس» (١).

إلّا أن يقال : أدلة الاجزاء مختصة بالعمل الناقص الموافق للتقية ، مثل الوضوء مع المسح على الخف ، أو غسل الرجلين ، والصلاة مع القراءة بدون البسملة ، والصوم مع الارتماس ونحو ذلك. ولا تشمل صورة ترك العمل الواجب بحيث تقتضي عدم وجوب قضائه إذا كان مما يقضي. والافطار في عيدهم من قبيل ذلك ، لأن الموافقة لهم في جواز الافطار ، لا في صحة الصوم ، لأنه خلاف معتقدهم ، فنفي القضاء يحتاج إلى دليل مفقود. ومجرد كون المورد من باب الموافقة لهم في الحكم الكلي غير كاف في نفي القضاء مع كون مذهبهم جواز الافطار وعدم صحة الصوم.

فالمقام نظير ما لو كان مذهبهم ترك صلاة موقتة ، فتركها تقية ، فان ذلك لا يوجب نفي القضاء.

وبالجملة : الأدلة ظاهرة في إجزاء العمل الناقص إذا كان الموجب لنقصه التقية ، فيسقط الأمر به ، ولا يحتاج إلى الاعادة. ولا تعرض فيها لسقوط الأمر

__________________

(١) الوسائل باب : ٥٧ من أبواب ما يمسك منه الصائم حديث : ٧.

٢٩٧

بالفعل إذا كانت التقية تقتضي تركه. ومن الاول ـ الذي هو موضوع النصوص ـ :

الافطار عند سقوط القرص تقية ، فانه موافقة لهم في مذهبهم في امتثال الحكم الكلي الواقعي ، وهو انتهاء اليوم بسقوط القرص.

وما في الجواهر من الاشكال فيه وفي الافطار في عيدهم ـ بالشك في شمول دينية التقية لمثل ذلك ، الذي مرجعه إلى موضوع مصداقا أو مفهوما لا إلى حكم. غير ظاهر ، فان الاختلاف في المسح على الخف ، وجزئية البسملة ، ومانعية التكتف أيضا اختلاف في مفهوم الموضوع ، ولا ريب في ثبوت التقية فيها ، وأنها من الدين ، فالاختلاف في الموضوعات المستنبطة اختلاف مذهبي تشمله أدلة التقية.

نعم الاختلاف في الموضوع من جهة الأمور الخارجية ليس اختلافا مذهبيا ، فلا تشمله الأدلة الخاصة بها ، مثل الاختلاف في العيد للاختلاف في الرؤية وعدمها. وأما لو كان من جهة الاختلاف في الحكم الظاهري للاختلاف في حجية الشهادة أو حكم حاكمهم ، فهو وإن كان اختلافا مذهبيا ـ كما اعترف به في الجواهر ـ لكنه لا تشمله أدلتها بنحو لا توجب القضاء كما عرفت. نعم لو حكم حاكمهم بهلال ذي الحجة فالحج الجاري على مقتضى الحكم المذكور مجزئ عن الاعادة. وكذا لو حكم حاكمهم بطهارة ماء فتوضأ به وصلى أجزأت صلاته عن الاعادة والقضاء.

ومما ذكرنا يظهر قوة ما في نجاة العباد : من الاجزاء إذا تناول ما ليس مفطرا عندهم ، أو أفطر قبل الغروب تقية ، ووجوب القضاء لو أفطر في عيدهم. كما

٢٩٨

يظهر أيضا ضعف القول بالصحة في الجميع ، اعتمادا على نصوص مشروعية التقية ، كضعف القول بعدم الاجزاء ، اعتمادا على أدلة وجوب القضاء بعد الاستشكال في دلالة نصوص التقية على الصحة ، كما في المسالك ، والحدائق.

وبالجملة : التفصيل الذي ذكرناه هو الظاهر من النصوص المتقدمة ، والقول بالصحة مطلقا (١) ، أو ببطلان الصوم مطلقا ضعيف. ومن ذلك يظهر : أن مرسل رفاعة المتقدم ـ المتضمن وجوب القضاء على من أفطر في عيدهم تقية موافق لما ذكرنا ، لا مخالف له ، وإن كان هو ضعيفا لا يصلح للحجية. «المستمسك ج ٨ / ٣٢٠ إلى ٣٢٤».

__________________

(١) أقول : تقدم ما يعرف به توضيح الحال في الفصل ١٧ فانظره ان شئت والله اعلم.

٢٩٩

٤٢ ـ موضوع جواز الافطار للمريض مثلا

(واذا حكم الطبيب بعدم ضرر ـ أي الصوم ـ وعلم المكلّف أو ظن كونه مضرا وجب عليه تركه).

لما عرفت من النصوص الدالة على رجوعه إلى نفسه. ولا فرق في ذلك بين تحقق الضرر واقعا وعدمه. أما الأوّل فواضح مما أشرنا إليه. وأما الثاني فلأن انتفاء الضرر واقعا إنما يمنع عن صدق المعصية على الصوم لكنه يكون تجرؤا لمخالفة الحجة الظاهرية ، والتجرؤ يمنع من وقوع الفعل على وجه العبادة كالمعصية الحقيقية (١).

تنبيه : قد يستشكل في المقام وأمثاله في أن موضوع الحكم بالافطار هو المرض الواقعي ـ يقتضيه ظاهر الآية (٢) وجملة من الروايات ـ أو العلم به أو خوفه

__________________

(١) اذا قلنا بان التجري حرام شرعا يصبح بطلان العمل مطلقا واضحا. وانظر الكلام حول حرمة التجري شرعا في حدود الشريعة ج ١ / ١٦٠ الطبعة الثانية).

(٢) البقرة : ١٨٤.

٣٠٠