القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

الشيخ محمد آصف المحسني

القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


المحقق: مهدي النيازي الشاهرودي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: پيام مهر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-94560-6-6
الصفحات: ٤٤٠

العبادات

٢٠١
٢٠٢

٣٢ ـ معنى الإسلام

(يكفي في الحكم باسلام الكافر إظهاره الشهادتين (١) وإن لم يعلم موافقة قلبه للسانه (٢) لا مع العلم بالمخالفة (٣).

(١) لعله من الضروريات التي تساعدها السيرة والنصوص.

(٢) يعني : عقد قلبه على مضمون الشهادتين ، لا اليقين بمضمونها فان الظاهر خروجه عن حقيقة الاسلام ، ولا يكون انتفاؤه موجبا للكفر وما في صحيح ابن سنان المروي في حدود الوسائل عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «من شك في الله أو في رسوله فهو كافر» (١) ، ورواية سهل : «لا تشكوا فتكفروا» (٢) ، وحسن منصور : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام من شك في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال عليه‌السلام : كافر» (٣) ، وغيرها. لا بدّ أن يكون محمولا على غير ظاهره ، بقرينة جملة اخرى كحسنة محمّد بن مسلم : «كنت عند أبى عبد الله عليه‌السلام جالسا عن يساره وزرارة عن يمينه ، فدخل عليه أبو

__________________

(١) الوسائل باب : ٦ من أبواب حد المرتد حديث : ٥٢.

(٢) الوافي باب : ٨ من أبواب تفسير الكفر والشرك حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ٦ من أبواب حد المرتد حديث : ٥٣.

٢٠٣

بصير فقال : يا أبا عبد الله ما تقول فيمن شك في الله تعالى. قال عليه‌السلام : كافر يا أبا محمّد. فقال : فشك فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عليه‌السلام : كافر. ثم التفت إلى زرارة فقال : انّما يكفر اذا جحد (١) وفي رواية اخرى (٢) «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا» (٣) وقريب منهما غيرهما.

(٣) لان القول ملحوظ طريقا إلى عقد القلب ، فلا يكون حجة مع العلم بمخالفته له. نعم ظاهر بعض النصوص الاكتفاء في صدق الاسلام بمجرد القول باللسان. ففي صحيح حمران (٤) : «الايمان ما استقر في القلب وأفضي به إلى الله

__________________

(١) الوسائل باب ٦ من أبواب المرتد ح : ٥٣.

(٢) ضعيفة سندا بمحمد بن سنان.

(٣) الوسائل باب : ٢ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٨.

(٤) الرواية طويلة جدا (الكافي ج ٢ / ٢٦ وجامع الاحاديث ج ١ / ٥٤٨ وحمران ثقة أو حسن فالرواية معتبرة على كل حال.

واعلم ان تفسير الاسلام بالاقرار وفرقه عن الايمان المراد منه الاعتقاد يكفيه قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ). واليك حديثان آخران :

١ ـ صحيح محمّد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : كل شيء يجره الاقرار والتسليم فهو الايمان ، وكل شيء يجره الانكار والجحود فهو الكفر. (الوسائل ج ١ / ٣٠).

يحمل الايمان على معناه الاعم المجامع للاسلام والمقابل للكفر. واما الذيل

٢٠٤

تعالى ، وصدقة العمل بالطاعة له ، والتسليم لأمر الله.

والإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المواريث ، وجاز النكاح ..» (١) ، ونحوه غيره. ولذا قال في الجواهر ـ في مبحث نجاسة الكافر ـ : «يستفاد من التأمل والنظر في الاخبار خصوصا ما ورد (٢) في تفسير قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ

__________________

ـ فهو يدل على ما في حسنة مذكورة في المتن لهذا الراوي.

٢ ـ صحيح عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام .. من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم انها حلال اخرجه ذلك من الاسلام وعذب اشدّ العذاب.

وان كان معترفا انه ذنب (اذنب) ومات عليها اخرجه من الايمان ولم يخرجه من الاسلام .. (الوسائل ج ١ / ٣٣).

اطلاقه يدل على ان انكار الكبيرة (التي نحملها على أنّ حرمتها ضرورية) يوجب الارتداد وان لم ينجر إلى كذب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا ان يدعي انصرافه اليه وفي الباب روايات اطلاقها كاطلاق هذه الرواية.

وفي تقرير دروس سيدنا الاستاذ الخوئي قدس‌سره : ان اظهار الشهادتين قد يقترن باظهار الشك والتردد أو باظهار العلم بخلافهما وعدم كفاية الاظهار حينئذ مما لا اشكال فيه ، لانه اظهار للتردد في الشهادتين أو العلم بخلافهما. وقد لا يقترن بشيء منهما وهذا هو الذي لم نستبعد (في التعليقة) كفايته في الحكم باسلام مظهر الشهادتين. (التنقيح ٣ / ٢٣٣).

(١) الوافي باب : ١ من أبواب تفسير الايمان والاسلام حديث : ٢.

(٢) راجع الوافي باب : ١ من أبواب تفسير الايمان والاسلام حديث : ٢.

٢٠٥

تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا)(١) : أن الاسلام قد يطلق على مجرد إظهار الشهادتين والتلبس بشعار المسلمين ، وإن كان باطنه واعتقاده فاسدا ، وهو المسمى بالمنافق» ، وحكى فيها عن شرح المفاتيح أن الاخبار بذلك متواترة. وهو غير بعيد ، ويشير إليه قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ..) وحمل التكذيب على معنى عدم اليقين منهم بالرسالة بعيد ، ويلزم منه كون الشاك الملتزم في نفسه بالإسلام منافقا ، وهو كما ترى. نعم في رواية محمّد بن الفضيل في المنافقين : «ليسوا من الكافرين وليسوا من المؤمنين وليسوا من المسلمين ، يظهرون الايمان ويصيرون إلى الكفر والتكذيب لعنهم الله تعالى» (٢) ولعل المراد نفي الاسلام عنهم بالمعنى الاخص كما أنّه يتعين مما ذكرنا حمل النصوص المتقدمة الدالة على كفر الجاحد على نفي مرتبة خاصة من الاسلام كي لا تنافي هذه النصوص. (مستمسك العروة ج ٢ / ١٢٢ ـ ١٢٤).

__________________

(١) الحجرات : ١٤.

(٢) الوافي باب النفاق من أبواب الكفر والشرك. حديث ١. والرواية غير معتبرة سندا.

٢٠٦

٣٣ ـ معنى العدالة

(العدالة عبارة عن ملكة اتيان الواجبات وترك المحرمات).

كما نسب إلى المشهور بين المتأخرين ، بل إلى المشهور مطلقا ، بل إلى العلماء والفقهاء او المخالف والمؤالف. وعن ظاهر الحلي وغيره : أنها مجرد ترك المعاصي أو خصوص الكبائر. وعن ظاهر المقنعة وغيرها : أنها الاجتناب عن المعاصي عن ملكة. ومقتضى الجمود على عبارة الأوّل أنه بحسب المورد أعم من وجه من الثاني ، واعم مطلقا من الثالث. إلّا أن الاتفاق ظاهرا على ثبوت الفسق بارتكاب الكبيرة يقتضي ان يكون المراد من الأوّل الملكة الباعثة فعلا على الطاعات وترك المعاصي فيكون أخص موردا من الثاني ومساويا للثالث. وهناك أقوال أخر ـ على تقدير ثبوتها ـ نادرة تاتي الاشارة إلى بعضها (١).

__________________

(١) انظرها في رسالة الشيخ الأنصاري قدس‌سره المطبوعة مع مكاسبه ، وفيها ، الاقوى الذي عليه معظم القدماء والمتأخرين ، هو كون العدالة عبارة عن صفة نفسانية توجب التقوى.

٢٠٧

وكيف كان ، فقد استدل على الأوّل بصحيح (١) عبد الله بن يعفور «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال عليه‌السلام : أن تعرفوه بالستر والعفاف ، وكف البطن والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك. والدلالة على ذلك كله أن يكون

__________________

(١) رواه الصدوق في الفقيه في باب العدالة من كتاب القضايا والاحكام (ج ٣ / ٣٨) باسناده عن عبد الله بن يعفور. وفي اسناده رجلان اختلف فيهما أهل النظر :

أولهما احمد بن محمّد بن يحيى العطار حيث لم يرد في حقّه توثيق معتبر ولاجله حكم سيدنا الاستاذ الخوئي قدس‌سره بضعف هذا الخبر وسائر اخباره. ثانيهما محمّد بن خالد البرقي حيث ضعفه النجاشي ووثقه الشيخ الطوسي رحمهما‌الله تعالى.

ورواه الشيخ ايضا في نفس الباب من تهذيبه ٦ / ٢٧٢ (طبعة مكتبة الصدوق) باسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن محمّد بن موسى عن أحمد الحسن بن علي عن أبيه عن علي بن عقبة عن موسى بن أكيل النميري عن أبي يعفور. والسند خلافا لتصريح بعضهم ضعيف بجهالة محمّد بن موسى أو ضعفه. ومتنه متفاوت مع رواية الصدوق قدس‌سره زيادة ونقيصة.

والحق ان الرواية حسنة بطريق الصدوق ، لكثرة ترحّمه على احمد بن محمّد والترضي عنه. والبرقي نأخذ برواياته من باب الاحتياط ترجيحا لتوثيق الشيخ على تضعيف النجاشي. وتفصيل كلا الامرين مذكور في كتابنا «بحوث في علم الرجال».

٢٠٨

ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ..» (١) وتقريب الاستدلال به : أن ظاهر السؤال فيه وان كان السؤال عن الطريق إلى العدالة بعد معرفة مفهومها ، لكن يتعين حمله على السؤال عن مفهومها بقرينة ما في الجواب ، فان الستر والعفاف المذكورين فيه من سنخ الملكات ، وكف

__________________

(١) وبقية الحديث من الفقيه : حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ، وتفتيش ما وراء ذلك. ويجب عليهم تزكيته واظهار عدالته في الناس. ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس اذا واظب عليهن وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين ، وان لا يتخلف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علة ، فاذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس ، فاذا سئل عنه في قبيلته ومحلته ، قالوا : ما رأينا منه إلّا خيرا ، مواظبا على الصلوات متعاهدا لاوقاتها في مصلاه ، فان ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين.

وذلك ان الصلاة ستر وكفّارة للذنوب وليس يمكن الشهادة على الرجال بانه يصلي اذا كان لا يحضر مصلّاه ويتعاهد جماعة المسلمين ، وانما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع. ولو لا ذلك لم يمكن احد .. وقد كان يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلّا من علة.

انظر الوسائل باب : ٤١ من كتاب الشهادات حديث ١.

أقول : ساترا لجمع عيوبه .. يشمل الكبائر والصغائر ولا يشمل ما ينافي المروّة ، اذ المنصرف من العيوب ، العيوب الشرعيّة دون العرفية جزما ، وهذا الستر هو حسن الظاهر. وهو لا يحرز بالاصل عند الشك ومن دون مباشرة ولو في اوقات صلاة الجماعة. وعلى كل ذيل الرواية محتاج إلى تأويل وتوجيه.

٢٠٩

البطن وما بعده من سنخ الافعال ، فلو كان ذلك طريقا إلى العدالة لزم كونها أمرا آخر وراء ما ذكر ، وهو مما لم يقل به أحد ، ولا يمكن الالتزام به. فيتعين لذلك حمل السؤال على السؤال عن مفهومها ، لجهل السائل به الموجب للجهل بوجودها. ويشهد لذلك ايضا قوله عليه‌السلام : «والدلالة على ..» فانه كالصريح في كونه واردا لبيان الطريق. فان كان المراد منه بيان الطريق إلى العدالة ، فحمل الأوّل على بيان الطريق أيضا يلزم منه أن يكون المقصود جعل طريقين إلى العدالة ، ولأجل أن الأوّل أخص يكون لغوا. وان كان المراد منه الطريق إلى الأوّل فيكون طريقا إلى الطريق فهو ـ مع بعده في نفسه ـ ينافيه قوله عليه‌السلام بعده : «ويجب عليه تزكيته واظهار عدالته» فانه ظاهر في كونه طريقا إلى العدالة لا طريقا إلى الطريق اليها. ويناسب ما ذكرنا جدا اختلاف التعبير ، فانه عبر في الصدر بالمعرفة المشاكلة للتعبير في السؤال وفي الذيل بالدلالة المخالفة له ، فيدل ذلك كله على أن المعرفة في السؤال وفي الصدر بمعنى معرفة المفهوم ، وان الدلالة في الذيل بمعنى بمعرفة وجود المفهوم. وبذلك تعرف أن قوله عليه‌السلام : «ويعرف باجتناب ..» متمم للتعريف الأوّل ، لا طريق إليه. ولا سيما بملاحظة ما بينهما من الاشتراك ، فان كف البطن .. راجع إلى اجتناب جملة من الكبائر. ولأجل ذلك أيضا يمتنع أن يكون طريقا إلى العدالة لو حمل الأوّل على بيان المفهوم.

والمتحصل مما ذكرنا : أن الرواية الشريفة صدر الجواب فيها ظاهر في بيان مفهوم العدالة ، وما بعده ظاهر في بيان الطريق إلى المصداق ، فان حمل السؤال على السؤال عن المفهوم ـ بقرينة صدر الجواب ، لما بينه وبين السؤال من المشاكلة

٢١٠

في التعبير ـ كان بيان الطريق في الذيل تفضلا من الإمام عليه‌السلام ، وإن حمل على السؤال عن الطريق إلى المصداق كان ما في الصدر من بيان المفهوم تفضلا أو تمهيدا للجواب.

ومن ذلك يظهر ضعف ما تقدم عن الحلي وغيره ، بل صريح الكفاية أنه الاشهر ، قال رضى الله عنه : «والاقرب الاشهر في معنى العدالة أن لا يكون مرتكبا للكبائر ولا مصرا على الصغائر» ، ونحوه في النسبة إلى الاشهر ما في البحار ومال إليه شيخنا الاعظم رضى الله عنه في صلاة الجماعة ، عملا بظاهر السؤال في كونه سؤالا عن الطريق إلى العدالة ، فيكون الستر والعفاف المذكوران في الجواب طريقا إليها لانفسها. ولا ينافيه قوله عليه‌السلام في الجواب : «ويعرف باجتناب ..» لأن المراد به الاجتناب الظاهر للناس عند معاشرته ، فيختص بالمعاصي الظاهرة مثل قتل المسلم ، واهانة المؤمنين وشتمهم ونحو ذلك ، فيكون المقصود جعل الاجتناب عن هذه المعاصي طريقا إلى الاجتناب عن جميع المعاصي حتى الخفية ، مثل الافطار في الخلوات ونكاح الحائض والسرقة عند الفرصة وبغض المؤمنين.

وتوضيح الاشكال عليه : أن كف البطن وما عطف عليه راجع إلى الاجتناب عن جملة من الكبائر ، فاذا كان الستر والعفاف طريقا إلى العدالة تعين أن يكون اجتناب المعاصي كذلك ، فكيف يمكن أن تكون نفس الاجتناب؟! مضافا إلى أن حمل الاجتناب في قوله عليه‌السلام : «ويعرف باجتناب ..» على الاجتناب الظاهر للناس عند المعاشرة خلاف الظاهر ، وخلاف ظاهر الكبائر في العموم للكبائر الخفية. مع أنه يلزم رجوعه إلى قوله عليه‌السلام : «والدلالة على ..» لأن المراد منه

٢١١

الاجتناب في الظاهر وظاهر الرواية مخالفته له ، فان الدال غير المدلول عليه ، وجعل المدلول عليه نفس العدالة لا الاجتناب ـ فيكون الطريق إلى العدالة كلا من الامرين ـ خلاف الظاهر جدا. مع أنه يلزم منه لغوية الثاني لكونه أخص.

نعم يبقى الاشكال في الرواية من جهة الاقتصار فيها على الستر والعفاف وعدم التعرض فيها لبقية الملكات الباعثة على التقوى ، ومن جهة عدم التعرض فيها لفعل الواجبات. لكن لا يبعد ـ ولو بقرينة النصوص الأخر التي تشير إلى بعضها ـ أن يكون المراد من الستر الاستحياء (١) من فعل المعصية مطلقا ، ومن العفاف التعفف عن عامة المعاصي. كما أنه لا يبعد أن يكون ترك ذكر الواجبات لأن ترك الواجبات من الكبائر ، كما في صحيح عبد العظيم (٢) فيكون قد اكتفى عنه بذكر الكبائر. مع أن الاجماع على اعتبارها ، وما يظهر من مثل رواية علقمة (٣) الآتية ، بل من ذيل الصحيح المذكور ـ فتأمّل ـ كاف في إثبات اعتبارها فيها.

ومثل الصحيح المذكور موثقة ابن أبي يعفور. عن أخيه (٤) عن أبي

__________________

(١) قال الشيخ الأنصاري في رسالة العدالة : بل المراد بالستر هنا ما يرادف الحياء والعفاف. قال في الصحاح رجل ستير أي عفيف وجارية ستيرة أي عفيفة. فكأنّ المراد بالستر هنا الاستحياء من الله وبالستر فيما بعد الاستحياء من الناس.

(٢) وفيه في بيان تعداد الكبائر : وترك الصلاة متعمدا ، أو شيئا مما فرض الله عزوجل .. (الوسائل ١٥ / ٣٢٠ الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس).

(٣) علقمة مجهول فرواياته غير معتبرة.

(٤) وهو عبد الكريم بن أبي يعفور وهو مهمل ومجهول فالرواية غير معتبرة.

٢١٢

جعفر عليه‌السلام : «تقبل شهادة المرأة والنسوة اذا كان مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر والعفاف مطيعات للازواج تاركات للبذاء والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم» (١). ويعضدهما في الدلالة على اعتبار الملكة كثير من النصوص ، مثل ما دلّ على قبول شهادة الرجل لولده أو والده أو امرأته اذا كان خيرا (٢) وما دل على قبول شهادة المكاري والجمال والملاح اذا كانوا صلحاء (٣) وما دلّ على قبول شهادة الضعيف اذا كان عفيفا صائنا (٤) وما ورد في تفسير قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) : أنّه ممن ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته (٥) .. إلى غير ذلك. وحمل هذه النصوص على كون الملكات المذكورة ملازمة لموضوع الحكم لا نفسه ، خلاف الظاهر ولا موجب له (٦).

__________________

(١) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٩.

(٢) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ٩.

(٣) الوسائل باب : ٣٤ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١.

(٤) الوسائل باب : ٢٩ من أبواب كتاب شهادات حديث : ٣.

(٥) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ٢٢.

(٦) استفادة اعتبار الملكة في العدالة من هذه الروايات محتاجة إلى تأمّل ومزيد تدبر. وذهب بعض اساتيذنا قدس‌سره تبعا للفقيه الهمداني إلى ان العدالة نفس الاعمال الخارجية من فعل الواجبات وترك المحرمات من دون اعتبار اقترانها بالملكة أو صدورها عنها ، فهي ، الاستقامة ـ عملا ـ في جادة الشرع وعدم الجور والانحراف عنها يمينا وشمالا. (شرح كتاب الاجتهاد والتقليد من العروة الوثقى ،

٢١٣

__________________

ـ التنقيح ١ / ٢٥٣ إلى ٢٧٠) لكن هذا المعنى يستلزم الملكة كما لا يخفى. ثم المهم هنا فهم معنى الملكة وتفسيرها؟ ففي رسالة الشيخ المتقدمة : انا لا نعني بقولنا : العدالة هيئة راسخة أو ملكة أو هيئة نفسانية الا الصفة النفسانية الحاصلة من خشية الله حيث يردعه (تردعه ظ) عن المعصية. توضيح ذلك : ان ترك المعاصي قد يكون لعدم الابتلاء بها وقد يكون مع الابتلاء بالمعصية للدواعي النفسانية لا لخوف الله ، وقد يكون لحالة خوف حاصلة فيه على سبيل الاتفاق يمنعه عن الاقدام على المعصية حتى انه اذا ترك في زمان طويل معاصي كثيرة ابتلى بها.

كان الترك في كل مرة مستندا إلى حالة تعقب له في ذلك الزمان ، وقد يكون ترك المعاصي لحالة واحدة مستمرة في زمان (الزمان ظ) الذي يبتلى فيه بالمعاصي.

وهذا الرابع هو المقصود من الصفة النفسانية او الصفة الراسخة في مقابل غير الراسخة الموجودة في الثالث.

أقول : ولا فرق بين الخوف والطمع في الثواب والدرجات وبين الحياء عن تمرد العبد عن ربه وبين حب الله وانه أهل للعبادة وللطاعة بل هي أفضل من الخوف.

ويمكن الحاق القسم الثالث بالرابع بملاحظة الروايات حتى حسنة ابن أبي يعفور المتقدمة ، فلاحظ.

وهذا هو الظاهر من كلام السيّد الاستاذ الماتن قدس‌سره فيما يأتي : (نعم لو كان ذلك .. او لقصور الفاعل عن الفعل الحرام أو لضعف الشهوة المزاحمة ..).

وقال الشيخ أيضا في رسالته : والمعتبر في العدالة ادنى المراتب ، وهي الحالة التي يجد الانسان بها مدافعة الهوى في أوّل الامر وان صارت مغلوبة بعد ذلك ،

٢١٤

__________________

ـ ومن هنا تصدر الكبيرة عن ذي الملكة كثيرا.

أقول : نعم ، لكن ربما ينافيه قوله عليه‌السلام في الحسنة المتقدمة : والدلالة على ذلك كله ان يكون ساترا لجميع عيوبه ، فلو كان صدور بعض المعاصي في بعض الاحيان لا يضر بالعدالة وملكتها ، فكيف يجعل ستر جميع المعاصي علامة عليها في مقام الاثبات؟ مع ان الساتر على جميع عيوبه في جميع الازمنة نادر الوجود مع شدة احتياج المسلمين إلى العادل في الجماعات والشهادات والطلاق وغيرها. وجوابه ان هذا الترك انما هو عند الناس لا في جميع الحالات وانه لا بأس بعدم ستر بعض الذنوب قليلا وفي بعض الاحيان ان شاء الله.

وإليك بعض الاحاديث المعتبرة سندا الواردة في العدالة :

الف ـ في صحيح عبد الله بن المغيرة قال قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : رجل طلق امرأته واشهد شاهدين ناصبيين؟ قال : كل من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته (الوسائل ٢٧ / ٣٩٣).

أقول : اذا كان المستفاد من الحديث ان النصب لا ينافي الفطرة أي الاسلام فيعارضه قوله عليه‌السلام الناصب لنا أهل البيت انجس من الكلب. وغيره والله العالم.

ب ـ وفي صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لو كان الامر إلينا لاجزنا شهادة الرجل اذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس. (نفس المصدر المتقدم : ٣٩٤).

يظهر منه ان العلامة على العدالة هو معرفة الخير منه في الجملة فينافي الحسنة في اعتبارها ستر جميع العيوب.

ج ـ في صحيح حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام : اذا كانوا أربعة من المسلمين ليس

٢١٥

ومن ذلك كله يظهر لك أيضا ضعف القول بكونها حسن الظاهر ـ كما نسب إلى جماعة ـ أو الاسلام مع عدم ظهور الفسق ، كما عن ابن الجنيد وكتاب الاشراف للمفيد (١) وان استدل لذلك بصحيح حريز : «اذا كان أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعا» (٢) وما في صحيح ابن المغيرة : «كل من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته» (٣) ، ونحوه ما في غيره ، ومرسل يونس : «اذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ، ولا يسأل عن باطنه» (٤) ، وما في رواية علقمة : «فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر وشهادته مقبولة وان كان في نفسه مذنبا» (٥) .. إلى غير ذلك. فانه مع إمكان المناقشة في دلالة بعضها يتعين

__________________

ـ يعرفون بشهادة لزور اجيزت شهادتهم جميعا .. وعلى الوالي ان يجيز شهادتهم إلّا ان يكونوا معروفين بالفسق (المصدر : ٣٩٧).

مدلول الرواية قبول شهادة من لم يكن معروفا بالفسق ، وهو اوسع دائرة من الساتر بجميع عيوبه كما في خبر ابن يعفور. وعلى كل حسن الظاهر يفسر على ضوء هذين الخبرين.

(١) بل تردد الشيخ الانصاري في صحة نسبة هذا القول إلى واحد من العلماء ، ثم اقام الدليل على بطلانه.

(٢) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٧.

(٣) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ٥.

(٤) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ٣.

(٥) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٣.

٢١٦

حملها ـ بعد تقييد بعضها ببعض ـ على كون حسن الظاهر طريقا إلى العدالة شرعيا ، جمعا بينها وبين ما تقدم. كما يشهد به أيضا ما في رواية أحمد بن عامر الطائى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروته وظهرت عدالته» (١) ونحوها رواية ابن سنان (٢) ، فهذه النصوص واردة في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت. فلاحظ وتأمّل. والله سبحانه ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ثم إن ملكة العدالة من الستر والعفاف والصلاح ونحوها مما ذكر في النصوص ذات مراتب متفاوتة جدا تفاوت سائر الملكات بالقوة والضعف ، يكفي في ثبوتها أدنى مراتبها ، ولا ينافي وجودها ارتكاب المعصية ولو كانت كبيرة لجواز غلبة المزاحم من قوتي الشهوة والغضب عليها ، كما لا ينافي وجود سائر الملكات ـ كملكتي الشجاعة والكرم ـ تخلف مقتضاها أحيانا ، ولذا قيل : «إن الجواد قد يكبو والسيف قد ينبو». وليس المراد منها خصوص المرتبة العالية التي لا يتخلف مقتضاها ، ولا يغلبها المزاحم. فان ذلك خلاف اطلاق الأدلة ، ويستوجب ندرة وجودها جدا بل يمتنع إحراز وجود هذه المرتبة في أكثر الاعصار ، فيلزم منه تعطيل الاحكام واختلال النظام ، ولذا قال الصادق عليه‌السلام في رواية علقمة (٣). «لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلّا شهادة الانبياء

__________________

(١) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٤.

(٢) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٥.

(٣) تقدم ان علقمة مجهول فلا عبرة برواياته.

٢١٧

والأوصياء عليه‌السلام لأنّهم المعصومون دون سائر الخلق» (١) وقد ورد في جملة من النصوص قبول شهادة المحدود بعد توبته (٢). وجملة منها واردة في خصوص القاذف بعد التوبة (٣). وبالجملة : عدم اعتبار المرتبة العالية في ترتب أحكام العدالة مما لا ريب فيه إجماعا ونصا وسيرة.

نعم لا يكفي أقل مراتب وجودها اذا كان بنحو لا يصدق الستر ، والعفاف والصلاح ، ونحو ذلك من العناوين المذكورة في النصوص التي تقدم بعضها ، لظهور النصوص المذكورة في اعتبار الاوصاف المذكورة في العدالة مفهوما ـ كما عرفت ـ بحيث لا تصدق مع فقدها وان كان للمكلف حالة تبعثه على فعل الطاعة ، كما هو الحال في كثير من الفساق ، فان التدين بالدين الاسلامي. واعتقاد المعاد ، والثواب ، والعقاب ، والجزاء على الاعمال ـ ان خيرا فخير وان شرا فشر ـ يستوجب حدوث حالة مقتضية لفعل الطاعات ، والانزجار عن المعاصي ، لكنها فيهم مغلوبة للقوى المزاحمة ، فكلما عرضت لهم المعصية وقعوا فيها ، لقوة الشهوة أو الغضب فيهم على نحو تغلب تلك الحال الخاصة المقتضية للطاعة ، ومع سكون القوة المزاحمة من الشهوة والغضب يحصل لهم حالة الندم مع الالتفات إلى تقصيرهم. لكن لما كان ذلك غالبيا لهم لا يصدق في حقهم الستر والعفاف والصلاح ونحو ذلك ، بل يصدق خلافها.

__________________

(١) الوسائل باب : ٤١ من كتاب الشهادات ١٣.

(٢) الوسائل باب : ٣٧ من كتاب الشهادات.

(٣) الوسائل باب : ٣٦ من كتاب الشهادات.

٢١٨

نعم لو كان ذلك ـ أعني الوقوع في المعصية ـ نادرا لقلة الابتلاء ، أو لقصور الفاعل عن الفعل الحرام ، أو لضعف الشهوة المزاحمة ـ لمرض أو هرم أو تشويش بال أو نحو ذلك ـ كفى ذلك في صدق الستر ونحوه عرفا (١) وتحققت العدالة ، وجاز ترتيب أحكامها ، كما يوجد في كثير من النساء والفقراء ، فان سترهم وعفافهم لا يكون لقوة الملكة الباعثة على التقوى ، بل لفقد المزاحم. ومن ذلك تعرف أن العدالة في الملوك ونحوهم من أهل الحول والطول إنما تكون ـ غالبا ـ لقوة الحال الباعثة ، وفي غيرهم من الضعفاء قد تكون لذلك ، وقد تكون لعدم المزاحم للحال الباعثة على التقوى مع كونها ضعيفة جدا.

والمتحصل مما ذكرنا امور :

الأوّل : اعتبار الملكة في العدالة.

الثاني : عدم اعتبار كونها بمرتبة لا يغلبها المزاحم بنحو يستوجب العصمة.

الثالث : أنه لا يكفي أدنى مراتبها اذا كان بنحو لا يصدق الستر والصلاح.

الرابع : أن من لوازم الملكة المذكورة حصول الندم بعد فعل المعصية والالتفات إلى ذلك ، وان كانت الملكة بمرتبة دانية ضعيفة جدا ، فاذا لم يحصل الندم بعد الالتفات إلى فعل المعصية كشف ذلك عن عدم الملكة كما يتفق ذلك نادرا من بعض الفساق المتمردين.

__________________

(١) وان فرض انه ينافي اعتبار الملكة ، نقول لا بأس به فان المدار على ما يفهم من الروايات المعتبرة.

٢١٩

هذا والمراد باجتناب المعاصي المعتبر في العدالة نصا واجماعا ـ كما عرفت ـ أن لا يكون مطالبا بالمعصية حال الابتلاء ببعض آثار العدالة وأحكامها ـ كالائتمام والشهادة والولاية وغيرها ـ اما بأن لا يكون عاصيا أصلا ، أو يكون عاصيا فيتوب. للاجماع والنصوص على عدم جواز ترتيب آثار العدالة على العصاة قبل التوبة وجواز ترتيبها بعدها (١) ويشهد به أيضا

قوله تعالى : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(٢) وبمضمونها جملة من النصوص أشرنا إلى بعضها آنفا ، وهي مذكورة في بعض أبواب شهادات الوسائل فراجعها. مضافا إلى ما دلّ على قبول التوبة ، وأنها ماحية للذنوب ، من الآيات (٣) والروايات (٤). فلاحظ وتأمل.

هذا وفي المقام مباحث شريفة ، منها البحث عن اعتبار الاجتناب عن منافيات المروءة في العدالة ، والبحث عن انقسام المعصية إلى كبيرة وصغيرة ، والميزان الفارق بينهما ، وطريق إثبات كون المعصية كبيرة ، وغير ذلك (٥) تركنا

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، ومن باب : ٣٠ إلى : ٣٧ ، وباب : ٤١ من كتاب الشهادات.

(٢) النور : ٤ و ٥.

(٣) وهي كثيرة يسهل الاطلاع عليها بالاستعانة بمعاجم الآيات.

(٤) الوسائل باب : ٤٧ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٥ ، ٨٦ ، ٨٩ ، ٩٢ من أبواب جهاد النفس ويوجد في أبواب أخر أيضا.

(٥) لاحظ حدود الشريعة في محرماتها ج ٢ / ٣٤٥ إلى ٣٥٠.

٢٢٠