القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

الشيخ محمد آصف المحسني

القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


المحقق: مهدي النيازي الشاهرودي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: پيام مهر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-94560-6-6
الصفحات: ٤٤٠

ملازم للشك في الأمانة والعدوان ، ومع الشك في عنوان العام لا يجوز الرجوع إلى العام ، كما هو ظاهر. اللهم إلّا أن يرجع إلى استصحاب عنوان العام ، أعني : استصحاب عدم كونها أمانة أو عادية. لكنه يختص ذلك بما إذا كانت مسبوقة بالعلم بعدم كونها كذلك. وإلّا فلا أصل ينفي كونها كذلك إلّا استصحاب العدم الأزلي الذي هو محل الإشكال بين الأعلام.

نعم يمكن أن يقال : إن حجية اليد عند العقلاء مختصة بما إذا لم تكن مسبوقة بالأمانة والعدوان ، ولا تشمل المسبوقة بذلك ، والدليل الدال على الحجية منزل على ذلك (١). وعليه يشكل جعلها حجة على الملكية في الموارد التي تعارف فيها القبض بالسوم قبل الشراء ثم تشترى بعد ذلك ، والأعيان التي تكون بأيدي الدلالين التي يعلم بكون حدوث يدهم بالولاية والوكالة ويجهل الحال بعد ذلك ، وغير ذلك (٢) المستمسك ج ٩ / ١٧١ إلى ١٧٢).

* * *

__________________

(١) بناء على أنه لا يفهم من أدلة اليد سوى الاعفاء لقاعدة عرفية ولا يفهم منها تخطئة ولو في الجملة فلا يعتمد على إطلاقها.

(٢) ويمكن أن نجعل من صغريات المقام يد المراجع الكرام الذين يصل إلى أيديهم الوجوهات الشرعية فإذا قبض الطلاب مثلا منهم مالا وشكّوا في أنه من سهم الإمام عليه‌السلام حتى لا يتعلق به الخمس ـ على الأظهر ـ وحتى لا يجوز صرفه في غير مصارفه أو هم مالهم الشخصي فيصير موهوبا للطلاب وملكا لهم يشكل اختيار الثاني بقاعدة اليد لأن غالب ما في أيديهم هو الوجوهات الشرعية واحتمال كون هذا المال الذي أتاه للطلاب من مالهم الشخصي الذي أقرضهم

١٦١

__________________

ـ بعض المالكين عند احتياجهم وعدم وجود الوجوهات عندهم نادر. ومن صغرياته يد السارقين والغاصبين الذين لا كسب حلال لهم وغالب ما في أيديهم من الحرام فيشكل الحكم بكون ما وصل منه إلى أحد بأنه من ماله بسبب مشروع محتمل بقاعدة اليد ، وذلك لحجية اليد في غير هذه الموارد عن العقلاء فينزل أدلة القاعدة عليه كما ذكره السيّد الأستاذ قدس‌سره فلاحظ.

١٦٢

٢٤ ـ حكم الحاكم

(السادس ـ من طرق ثبوت الهلال ـ حكم الحاكم).

كما هو ظاهر الأصحاب ، كما عن الحدائق لإطلاق ما دلّ على وجوب قبوله ونفوذه وعدم جواز رده (١).

__________________

(١) ظاهر الأصحاب ليس بدليل ومقبولة عمر بن حنظلة ضعيفة سندا فلا نقبلها. نعم يمكن أن يستدل على وجوب حكم الحاكم ـ وهو كل مجتهد جامع للشرائط ـ بقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) على وجه ذكرناه في كتابنا (تصويرى از حكومت اسلامى در افغانستان). فلاحظ وتأمل ، إلّا أن يقال إن إطاعة أولي الأمر واجب في ما خوّل إليهم في الأمر ولا دليل على أنّ الحكم بثبوت الهلال من أمرهم وفي حوزة صلاحيتهم فالعمدة معتبرة أبي خديجة مع مقدمة خارجية ذكرها السيّد الحكيم ، لكن إذا قلنا إنّ مراد المعتبرة هو قاضي التحكيم كما عن السيد الأستاذ الخوئي فلا تتم هي أيضا دليلا على المقصود.

وأما التوقيع فهو ضعيف بجهالة محمّد بن محمّد بن عصام وإسحاق بن يعقوب. نعم خبر أبي خديجة معتبر وما استظهر سيّدنا الأستاذ الحكيم رضى الله عنه منه متين.

١٦٣

ولصحيح محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بالإفطار ذلك اليوم ، إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بالإفطار ذلك اليوم ، وأخّر الصلاة إلى الغد فصلى بهم» (١) والتوقيع الذي رواح إسحاق بن يعقوب : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم» (٢).

ويشكل الأوّل : بأن التمسك به فرع إحراز موضوعه ـ وهو الحكم الذي هو وظيفة المجتهد ـ فلا يصلح لإثبات موضوعه. نعم لو ثبت إطلاق يقتضي نفوذ حكم الحاكم في كل شيء كفى ذلك في نفوذه في المقام. لكنه غير ثابت. والثاني : مختص بالإمام الظاهر في إمام الحق ، ولا يجدي فيما نحن فيه. إلّا أن يقوم ما يدل على أن الحاكم الشرعي بحكم الإمام ، وله كل ما هو وظيفته. وأما التوقيع الشريف فلا يخلو من إجمال في المراد ، وأن الرجوع إليه هل هو في حكم الحوادث ، ليدل على حجية الفتوى؟ أو حسمها ليدل على نفوذ القضاء؟ أو رفع إشكالها وإجمالها ، ليشمل ما نحن فيه؟ وإن كانت لا تبعد دعوى انصرافه إلى خصوص ما لا بدّ من الرجوع فيه إلى الإمام ، وليس منه المقام ، لإمكان معرفة الهلال بالطرق السابقة. وكأنه لأجل ذلك اختار بعض أفاضل المتأخرين : العدم ، وتبعه في الحدائق

__________________

(١) الوسائل باب : ٦ من أبواب أحكام شهر رمضان حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٩.

١٦٤

والمستند على ما حكي.

هذا ويمكن الاستدلال له بما ورد في مقبولة ابن حنظلة ، من قوله عليه‌السلام «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فإني قد جعلته عليكم حاكما» (١) وقوله عليه‌السلام في خبر أبي خديجة : «واجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضيا» (٢) ، فإن مقتضى إطلاق التنزيل ترتيب جميع وظائف القضاة والحكام ، ومنها الحكم بالهلال ، فإنه لا ينبغي التوقف عن الجزم بأنه من وظائفهم التي كانوا يتولونها ، فإنه لم يكن بناء المسلمين في عصر صدور هذه النصوص وغيره على الاقتصار في الصوم والإفطار على الطرق السابقة ، أعني : الرؤية ، والبينة ، فمن قام عنده بعض تلك الطرق أفطر مثلا ، ومن لم يقم عنده شيء منها بقي على صومه ، بل كانوا يرجعون إلى ولاة الأمر ، من الحكام ، أو القضاة ، فإذا حكموا أفطروا بمجرد الحكم. وأقل سبر وتأمل كاف في وضوح ذلك ، كيف! ولولاه لزم الهرج والمرج.

ويشير إلى ذلك : صحيح محمّد بن قيس المتقدم ، والمرسل المتضمن شهادة الأعرابي برؤية الهلال ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مناديا ينادى : «من لم يأكل فليصم. ومن أكل فليمسك» المتقدم في تأخير النية إلى ما قبل الزوال للمعذور ، وخبر أبي الجارود : «الفطر يوم يفطر الناس ، والأضحى يوم يضحي الناس ، والصوم يوم

__________________

(١) الوسائل : باب ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث ٦.

١٦٥

يصوم الناس» (١) المتقدم في استعمال المفطر تقية ، وما تضمن قول الصادق عليه‌السلام لأبي العباس : «ما صومي إلّا بصومك ، ولا إفطاري إلّا بإفطارك» (٢) ونحوها (٣).

والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون مستند الحكم البينة أو الشياع العلمي ، وبين أن يكون علم الحاكم بنفسه ، بناء على جواز حكمه بعلمه ـ كما هو الظاهر ـ حسب ما تحقق في محله من كتاب القضاء ، فإنه إذا صح له الحكم به وجب ترتيب الأثر عليه ، لما دلّ على وجوب قبوله ، وحرمة رده. فالتردد فيه ـ كما عن المدارك ـ غير ظاهر.

(الذي لم يعلم خطؤه ولا خطأ مستنده).

لا ينبغي التأمل في عدم جواز العمل بالحكم إذا علم بخطئه الواقع ـ كما إذا حكم بكون الجمعة أوّل شوال ، وعلمنا بكونه من شهر رمضان ـ لأن حكم الحاكم ليس ملحوظا في نظر الشارع الأقدس عنوانا مغيرا للأحكام وجودا وعدما ، بل هو طريق ـ كسائر الطرق ـ حجة على الواقع في ظرف الشك فيه ، فإذا علم الواقع انتفى موضوع الحجية ، لامتناع جعل الحجة على الواقع في ظرف العلم به ، مصيبة كانت الحجة أم مخطئة. وكذا لا مجال للعمل به إذا علم تقصير الحاكم في مقدمات الحكم ، لأن تقصيره مسقط له عن الأهلية للحكم ، فلا يكون موضوعا لوجوب القبول وحرمة الرد. ولأن الحكم حينئذ يكون فاقدا لبعض الشرائط المعتبرة فيه

__________________

(١) الوسائل باب : ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم حديث : ٥.

(٢) الوسائل باب : ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم حديث : ٦.

(٣) خبر أبي الجارود ضعيف سندا ودلالة وبعده ضعيف سندا بخلاد بن عمارة.

١٦٦

عند الحاكم ، ويراه حكما على خلاف حكمهم عليهم‌السلام ، فكيف يحتمل وجوب العمل به منه أو من غيره؟! كذا لو فقد بعض الشرائط غفلة من الحاكم ، كما لو حكم تعويلا على شهادة الفاسقين غفلة عن كونهما كذلك. أو غفلة عن اعتبار عدالة الشاهد.

أما إذا كان جامعا للشرائط المعتبرة فيه في نظره ، بعد بذله الجهد في معرفتها والاجتهاد الصحيح في إثباتها ، لكن كان الخطأ منه في بعض المبادئ ـ كما لو شهد له عنده فاسقان مجهولا الحال عنده ، فطلب تزكيتهما بالبينة ، واعتمد في ثبوت عدالتهما على البينة العادلة ، التي قد أخطأت في اعتقاد عدالتهما ـ وجب العمل بالحكم ، لأنه حكم صحيح في نظر الحاكم فيدخل تحت موضوع وجوب القبول وحرمة الرد. وهكذا كل مورد كان فيه الخطأ من الحاكم في بعض المبادئ في الشبهات الموضوعية ، أو الحكمية كما لو أدى اجتهاده إلى حجية الشياع الظني ـ كما عن التذكرة والمسالك وغيرهما ـ لأن الظن الحاصل منه أقوى من الظن الحاصل بالبينة ، فيدل على حجيته ما يدل على حجيتها بالفحوى. أو أدى إلى حجية الرؤية قبل الزوال على كون ذلك اليوم من الشهر اللاحق أو نحو ذلك. ففي جميع هذه الموارد يجب العمل بالحكم ، لدخوله تحت دليل الحجية.

وبالجملة : عموم الدليل المتقدم يقتضي وجوب العمل بكل حكم ، إلّا في حال العلم بمخالفته للواقع. أو صدوره عن تقصير في بعض المبادئ أو غفلة توجب صدور حكمه على خلاف رأي الحاكم واجتهاده.

(كما إذا استند إلى الشياع الظني).

(١) سوق العبارة يقتضي كونه مثالا لخطأ المستند. ولكنه غير ظاهر بل هو

١٦٧

خطأ في الاستناد ، فيكون مثالا لخطأ الحاكم. وكيف كان فلا يتضح الوجه في عدم حجية الحكم إذا أدى نظر الحاكم إلى حجية الشياع الظني ، وقد عرفت دخوله في عموم الحجية.

فإن قلت : إذا كان المكلف لا يرى حجية الشياع الظني ، كان حكم الحاكم ـ اعتمادا عليه ـ حكما على خلاف حكمهم عليهم‌السلام في نظر المكلف فلا يجب قبوله. ومجرد كونه معذورا في حكمه على طبق اجتهاده لا يلزم منه وجوب العمل على من يراه مخطئا في اجتهاده ، ولا سيما وإن ذلك خلاف المرتكز العقلائي في الحجج. قلت : لو تم هذا اقتضى عدم نفوذ حكم الحاكم على من يخالفه في الرأي ، اجتهادا أو تقليدا ، وهذا ـ مع أنه خلاف المقطوع به ، إذ لازمه عدم صلاحية الحاكم لحسم التداعي إذا كان ناشئا من الاختلاف في الأحكام الكلية ، فإن حكمه حينئذ لا بدّ أن يكون مخالفا لهما ، أو لأحدهما ، فلو بني على عدم نفوذ حكم الحاكم المخالف في الرأي لزم أن يكون التداعي بلا حاسم ، والالتزام به كما ترى ـ خلاف ما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة ، حيث دلت على وجوب الرجوع إلى الحاكم المجتهد إذا كان النزاع في ميراث الظاهر في كونه نزاعا في الحكم الكلي ، لا في الموضوع الخارجي. وأقوى منه في الدلالة على ذلك : ما في ذيلها من الرجوع إلى قواعد التعارض عند اختلاف الحكمين ، إذ ذلك إنما يكون وظيفة المجتهد ، كما يظهر بأقل تأمل.

وقد أشار إلى بعض ما ذكرنا المصنف رضى الله عنه في قضائه ، تبعا لما في الجواهر ، قال رضى الله عنه : «ولا يجوز له (يعني : لحاكم آخر) نقضه ، إلّا إذا علم علما قطعيا بمخالفته

١٦٨

للواقع ، بأن كان مخالفا للإجماع المحقق أو الخبر المتواتر ، أو إذا تبين تقصير في الاجتهاد. ففي غير هاتين الصورتين لا يجوز له نقضه وإن كان مخالفا لرأيه ، بل وإن كان مخالفا لدليل قطعي نظري كإجماع استنباطي ، أو خبر محفوف بقرائن وامارات قد توجب القطع مع احتمال عدم حصوله للحاكم الأوّل ...» وقد تقدم في مباحث التقليد ما له نفع في المقام ، فراجع (١). وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله من كتاب القضاء (المستمسك ج ٨ / ٤٠٩ إلى ٤٦٤).

* * *

__________________

(١) الجزء الأوّل من المستمسك ص ٩١ وما بعدها. واعلم أن اللازم اتّباع حكم الحاكم إلا إذا علم مخالفته للواقع أو ابتلائه بالمعارض. وفي استثناء فرض تقصيره في مقدمات حكمه أو غفلته أو خطئه في بعض المبادئ من دون تقصير وجهان ، وسيّدنا الأستاذ الحكيم فصل بين الفرضين الأوّلين والفرض الأخير فأوجب الاتّباع في الأخير دونهما. والكلام في نقض حكم القاضي فهو محتاج إلى تفصيل ما. فراجع كتابنا المطبوع (القضاء والشهادة) والله العالم.

١٦٩

٢٥ ـ ضابط التحالف

وقد اشتهر في كلامهم هنا توجيه التحالف : بأن ضابط التحالف أن لا يتفقا على أمر. قال في المسالك في كتاب الإجارة : «وضابط التحالف : أن لا يتفقا على شيء كما لو قال : آجرتك البيت الفلاني ، فقال : بل الفلاني ، أو قال : آجرتك البيت ، فقال : بل الحمام». ونحوه كلام غيره. لكن التوجيه المذكور يتم بناء على أن المعيار في تشخيص المدعي مصب الدعوى أما بناء على أن المعيار الغرض المقصود ، فالغرض المقصود في البيع ليس إلّا مطالبة المشتري بما يدّعي شراءه ، وفي الإجازة مطالبة المستأجر بما يدّعي استئجاره ، والمالك ينفي ذلك ، والأصل يقتضي عدم وقوع الإجارة على ما يدّعي المستأجر. وأما المالك فهو وإن كان يدعي وقوع الإجارة على ما يدعي وقوع الإجارة عليه ، لكن هذه الدعوى لا أثر لها في مطالبته بشيء ، وليس له غرض فيها إلّا بلحاظ ما يترتب عليها من اللازم ، وهو نفي ما يدعيه المستأجر ، ولذا يصح له الاقتصار على بطلان دعوى المستأجر ، من دون تعرض لمدعاه.

وبالجملة : بعد اتفاقهما على استحقاق المالك للأجرة ، فالخلاف إنما هو في

١٧٠

استحقاق المستأجر لمنفعة ما يدعيه ، والمالك ينفيه ، والأصل معه ، فهو منكر والمستأجر مدع. فإذا حلف المالك على نفي ما يدعيه المستأجر ، فقد بطلت دعوى المستأجر ، وليس له المطالبة بشيء.

هذا إذا كان النزاع قبل التصرف. أما لو كان بعد التصرف وانقضاء المدة فاللازم ـ بعد يمين المالك ـ أن يدفع له أجرة المثل عن المنفعة المستوفاة مما يدعيه ، بناء على ما عرفت من أصالة احترام مال المسلم ، لأنه لما لم يثبت استحقاقه لمنفعة الفرس التي قد استوفاها ، كان اللازم دفع أجرتها. وأما منفعة الحمار الذي يدعي وقوع الإجارة عليه فقد فاتت بتقصير منه ، لأنه هو الذي ترك الانتفاع بها في المدة المضروبة ، فتكون عليه الاجرة المتفق عليها بينهما ، وعليه اجرة الفرس بمقتضى أصالة عدم إجارتها إياه. هذا ما يقتضيه القواعد وإن لم أعرف من ذكره أو احتمله عدا ما سبق من الشهيد في اللمعة ، نعم ذكره بعض الأكابر في حاشيته على المتن وهو في محله (المستمسك ج ١٢ / ١٧٠ و ١٧١).

* * *

١٧١

٢٦ ـ مدى نفوذ قضاء القاضي

... اللهم إلّا أن يقال : إنما يجوز العمل بالإقرار مع احتمال الموافقة للواقع ، لا مع العلم بالخلاف ، فإذا كان المالك يعلم بأن العقد مزارعة لا يجوز له الرجوع فيه إلّا مع التقايل ، ولا يكفي اعتراف العامل بأنه عارية.

هذا بالنظر إلى الحكم الواقعي الأوّلي ، أما بالنظر إلى حكم الحاكم بنفي كل من العارية والمزارعة بعد التحالف فيجوز الرجوع عن العقد ، لا بمعنى فسخ العقد ، بل بمعنى عدم ترتيب آثار العقد ، وهذا الجواز جاء من حكم الحاكم الذي يحرم رده والمراد من جواز ذلك أنه إذا فعله المالك فليس للعالم الاعتراض عليه ، لأن الاعتراض عليه رد لحكم الحاكم لا أنه يجوز ذلك واقعا شرعا بمعنى أنه لا يؤاخذ عليه ، فإن حكم الحاكم لا موضوعية له في تبديل الحكم الواقعي ، بل الحكم الواقعي على ما هو عليه ، ففي صحيح هشام بن الحكم : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان ، وبعضكم ألحن بحجته من بعض ، فأيما رجل

١٧٢

اقتطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار» (١). فإذا حكم الحاكم للمدعي بالبينة أو اليمين المردودة لم يجز له أن يأخذ المال من المدعي عليه إذا كان يعلم ببطلان دعواه. وحكم الحاكم لا يسوغ له أكل مال الغير بغير رضا منه.

وإن شئت قلت : حكم الحاكم تارة : يكون اقتضائيا ، واخرى : لا يكون اقتضائيا ، وكذلك الحكم الواقعي يكون اقتضائيا تارة ، واخرى لا يكون اقتضائيا. فإن كان الحكم الواقعي اقتضائيا وحكم الحاكم لا اقتضائيا وجب العمل على الحكم الواقعي ، لأن العمل عليه لا يكون ردا لحكم الحاكم كما في المثال المذكور ، فإن ترك أخذ المال من المدعي عليه ظلما لا يكون ردا لحكم الحاكم لجواز الأخذ. وإذا كان الأمر بالعكس ـ بأن كان الحكم الواقعي لا اقتضائيا وحكم الحاكم اقتضائيا ـ وجب الحكم بحكم الحاكم من دون مزاحم ، كما في المثال المذكور بالنسبة إلى الحكومة عليه ، فإنه يجب عليه بمقتضى حكم الحاكم دفع المال إلى المدعي ، ولا يحرم عليه ذلك بمقتضى الحكم الواقعي فيجب العمل بمقتضى حكم الحاكم ، لأن ترك العمل به رد لحكم الحاكم وهو حرام.

وإذا كانا ـ معا ـ اقتضائيين وجب العمل بمقتضى حكم الحاكم بمقدار المزاحمة ، لئلّا يلزم رده ، ويجب العمل بالحكم الواقعي فيما زاد على مقدار المزاحمة ، كما إذا ادّعى رجل زوجية امرأة ظلما ، فحكم الحاكم له فوجب عليها

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث : ١.

١٧٣

مطاوعته بمقدار المزاحمة ، ولا يجوز لها ما زاد على ذلك ، فإذا طلب منها المدعي الاستمتاع بها ، فإن أمكنها صرفه وجب عليها ذلك ، وإن أصر على الاستمتاع بها وجب عليها المطاوعة ، وتسقط حرمة المطاوعة للأجنبي بدليل حرمة رد الحكم الذي تكون نسبته إلى الحكم الواقعي نسبة الحكم الواقعي الثانوي إلى الواقعي الأوّلي مقيدا له ، وفي غير حال وجوب المطاوعة يحرم عليها التعرض له والتكشف ، ولا يجوز لها ذلك ، عملا بالحكم الواقعي ما دام لا يصدق رد حكم الحاكم.

وفي المقام نقول : إن حكم الحاكم بنفي المزارعة ليس حكما اقتضائيا فلا يزاحم الحكم الواقعي بوجوب العمل على عقد المزارعة إذا كان المالك عالما بذلك حسب دعواه ، كما أنه يجب على العامل العمل بمقتضى العقد إذا كان عالما بذلك. (المستمسك ج ٣ / ١٤٢ و ١٤٣).

١٧٤

٢٧ ـ تعيين المدعي من المنكر وتعريفهما

اختلفت كلماتهم في تفسير المدعي ، فبعضهم فسره بمن لو ترك الخصومة لترك. وآخر : بمن يدّعي خلاف الأصل (و) الظاهر ، وثالث : بمن يذكر أمرا خفيا بحسب الظاهر. الرابع : وهو من يدعي خلاف الأصل أو الظاهر. أو يذكر أمرا خفيا بحسب الظاهر. وخامس : وهو من يكون في إثبات قضية على غيره. وربما ذكر غير ذلك.

والظاهر أن الاختلاف المذكور ليس اختلافا في المفهوم ، بل هو اختلاف في مقام بيان المفهوم مساهلة منهم في التحديد ، إذ لا يظن بأحد من هؤلاء المفسرين الالتزام بما يلزم التعريف الذي ذكره من اللوازم.

والمتعيّن في تعريفه بمن كان قوله يخالف الحجة التي يرجع إليها في تعيين الوظيفة الشرعية ، أمارة كانت أو أصلا. وكأن وجه تسميته بالمدعى في النصوص .. وكذا في اللغة والعرف أن المدعي اسم فاعل (ادّعى) وهو افتعال من الدعاء الذي هو الطلب بالقول ونحوه ، وطلب الشيء انما يصح إذا لم يكن حاضر عند الطالب ، فكأنّ الشيء الذي قامت عليه الحجة حاضر لدى الشخص فلا مجال لطلبه ، ولا معنى لدعائه وادعائه والشيء الذي لم تقم عليه الحجة غير حاضر لديه ، فيصح

١٧٥

دعاؤه وادعاؤه. هذا هو المفهوم منه لغة وعرفا.

ثم إن المراد من كون قوله مخالفا للحجة : أنه مخالف للحجة التي يلزم الرجوع إليها في نفس الدعوى لو لا المعارضة ، فلو كان كل منهما قوله مخالفا للحجة في مورد الدعوى ، لكنها كانت معارضة بالحجة الجارية في مورد دعوى خصمه ، فهما متداعيان ، وإن كان مقتضى العلم الإجمالي بكذب إحدى الدعويين بطلان الأصلين معا ، لكن ذلك لا يقدح في صدق المدعى ويكونان بذلك متداعيين.

وعلى هذا فثبوت الإجارة لما كان على خلاف الأصل العملي كان المخبر عنه مدعيا والمنكر له مدعى عليه. وهذا مما لا إشكال عليه.

نعم هنا شيء وهو : أن المعيار في تطبيق المدعي والمدعى عليه ، هل هو مصب الدعوى وعبارة المتنازعين ، أو هو الغرض المقصود للمتنازعين؟ وتحرير هذا الخلاف في كتب القدماء والمتأخرين مما لم أقف عليه ، لكن يستفاد ذلك من تعليلاتهم في كثير من الموارد لكون الحكم هو التحالف الذي هو من أحكام التداعي ، أو كون البينة من أحدهما واليمين من الآخر الذي هو من أحكام المدعي والمنكر ، فإن من ذكرهم للوجوه المختلفة يفهم خلافهم في ذلك. نعم صرح في الجواهر بوقوع الخلاف المذكور ، واختار الوجه الأوّل في صدر كلامه في مبحث الاختلاف في العقود من كتاب القضاء ، وكذا في صدر كلامه فيما لو اختلف المتبايعان في قدر الثمن ، فإنه ـ بعد ما نقل عن المختلف القول بأن القول قول المشتري ـ قال رضى الله عنه : «إلّا أنه لا يخفى عليك ضعفه في خصوص المقام ، لما

١٧٦

سمعت (يعني : من النص) ، نعم لا بأس به في غيره ، لو أبرزت الدعوى باشتغال الذمة بالزائد إنكاره. أما لو أبرزت في تشخيص سبب الشغل ، بحيث يكون الاستحقاق تبعيا ، فقد يمنع تقديم قول المشتري فيه ، ضرورة كون كل منهما مدعيا ومنكرا. ففي المقام ـ مثلا ـ يدعي البائع أن ما وقع ثمنا في عقد البيع المخصوص مائة ، والمشتري خمسون ، فنزاعهما في تشخيص العقد المشخص في الواقع ، ولا ريب في كون كل منهما مدعيا فيه ومنكرا. ولعله لذا احتمل التحالف الفاضل في كثير من كتبه ، بل عن ولده أنه صححه ، والشهيد الأوّل اختياره في قواعده وإن نسبه في الدروس إلى الندرة ، بل مال إليه هنا في جامع المقاصد». وفي مفتاح الكرامة ـ في مسألة ما لو اختلفا في قدر الاجرة فقال : آجرتك سنة بدينار ، فقال : بل بنصفه ـ نسب إلى المهذب القول بالتحالف ، وإلى جامع المقاصد أنه قال : «لا ريب في قوة التحالف» ، وإلى المختلف أنه قال : «أنه متجه» انتهى. والثاني منسوب إلى المشهور. لكن عرفت أن الوجه في النسبة : استفادة ذلك من بنائهم على إجراء حكم المدعي والمنكر في كثير من موارد النزاع ، وإلّا فقد عرفت أنه لا تصريح منهم بذلك.

وكيف كان : فما يتفرع على الخلاف المذكور أنه إذا قال المالك : آجرتك الدار بعشرة ، فقال الآخر : آجرتنيها بخمسة ، فعلى الأوّل : أنهما متداعيان لاختلافهما في المدعى لكل منهما ، وعلى الثاني : أنهما مدع ومنكر ، لأن غرض الأوّل استحقاق العشرة ، وغرض خصمه نفي استحقاق الخمسة الزائدة على الخمسة التي يعترف بها ، وهذا النفي مقتضى الأصل ، فمدعي خلافه مدّع ، ومدعيه منكر.

١٧٧

هذا ، والتحقيق هو القول المنسوب إلى المشهور ، كما اختاره في الجواهر في آخر كلامه المتقدم ، وكذلك في مبحث الإجارة فيما لو اختلفا في قدر الاجرة ، وجعل القول بالتحالف فيها ضعيفا. ونسب إلى شيخنا الأعظم رضى الله عنه في قضائه ، لأنه منصرف الأدلة ، فإن المقصود من نزاع المتخاصمين أولى بالملاحظة في ذلك ، وأولى أن يكون من وظيفة القاضي البت به والحكم فيه ، ولا معنى لملاحظة أمر آخر ، بل الدعوى التي لا يترتب عليها غرض لا يجب سماعها.

وعلى هذا فقد يتوجه الإشكال على ما ذكره الجماعة في مفروض المتن من إطلاق القول : بأن القول قول منكر الإجارة ، بأنه لا يتم على المشهور ، إذ اللازم عليه التفصيل بين ما إذا كانت اجرة المثل أكثر ، فالقول قول مدعي الإجارة ، وبين ما إذا كانت أقل ، فالقول قول منكر الإجارة ، لأنه في الأوّل مدعي الإجارة ينفي استحقاق الزائد ، فيطابق قوله الأصل ، وفي الثاني يكون مدعي الإجارة مدعيا لاستحقاق الزائد فيكون مدعيا ، وخصمه ينفي استحقاق الزائد فيكون منكرا. نعم يتم كلامهم على المذهب الآخر ، لأن مصب الدعوى ثبوت الإجارة وعدمها ، فمدعي الأوّل مدع وخصمه منكر على كل حال (١).

__________________

(١) أقول وهذا بحث شريف مفيد وقد تعرض له في ج ١٣ / ١٣٧ وج ١٤ / ٣٩٧ أيضا وقال : إن ظاهر الأصحاب هنا وفي جميع الموارد أن المدار في تشخيص المدعى والمنكر ، والغرض المقصود كما اعترف به جامع المقاصد والجواهر والمصنف (أي صاحب العروة الوثقى).

١٧٨

لكن يدفع الإشكال المذكور : أن المراد من كون المدار على مقصود المتنازعين أن ينظر إلى مقصودهما ، فإن كان كل منهما مخالفا للأصل كانا متداعيين ، وإذا كان مقصود أحدهما موافقا للأصل ، ومقصود خصمه مخالفا للأصل كان أحدهما مدعيا والآخر منكرا ، سواء كان الأصل المثبت لأحدهما النافي للآخر. أو النافي لهما معا جاريا في أحدهما أم فيهما بلا واسطة ، أم كان جاريا بواسطة كما في الأصل السببي ، كما في المقام ، فإن اجرة المثل إذا كانت أكثر من الاجرة المسماة ، فالأكثر مما يثبته الأصل بالواسطة لأن أصالة عدم الإجارة تثبت اجرة المثل وإن كانت هي الأكثر ، لأن كل منفعة مستوفاة على وجه الضمان مضمونة باجرة المثل ، إذا لم تكن اجرة مسماة ، فيكون الضمان باجرة المثل ـ التي هي الأكثر ـ من آثار نفي الاجرة المسماة بالأصل. وليس المراد من كون المدار على مقصود المتنازعين : أنه لا بدّ من الاصول الجارية في نفس المقصود بلا واسطة ، يعني مع قطع النظر عن السبب وعن الأصل السببي الجاري فيه ، فإن ذلك مما لا مجال للقول به. لأن الأصل السببي إذا كان قد اجتمعت شرائط حجيته لم يكن وجه لطرحه بالإضافة إلى الأثر المسبب ، فيكون مدعي الأثر منكرا حينئذ. فلا مجال للإشكال على ما ذكره الجماعة من إطلاق : أن القول قول منكر الإجارة ، فإنه في محله على المذهبين. (المستمسك ج ١٢ / ١٥٦ إلى ١٦٠).

__________________

ـ وناقشنا هذا القول في كتابنا الأرض في الفقه : ص ١١٦ بأنه خلاف إطلاق لفظ المدعى والمنكر وما يشتق منهما فلاحظ.

١٧٩

٢٨ ـ قبول قول من لا يعرف إلّا من قبله

(لأنه أعرف بنيته) يشير إلى قاعدة ذكرت في كلام جماعة من الفقهاء من قبول قول من لا يعرف المقول إلى (إلّا : ظ) من قبله. ولا يبعد بناء العقلاء على القاعدة المذكورة ، وإلّا لزم تعطيل تشريع الحكم وهو خلاف دليل جعله ، فإذا اشترى الإنسان شيئا كان ظاهر الفعل الشراء لنفسه (١) فيحكم به لذلك وصريح

__________________

(١) وقال سيدنا الأستاذ قدس‌سره في محل آخر (ج ١٣ / ١٤٧) : قاعدة (من ملك شيئا ملك الإقرار به) ادعى على صحتها الإجماع كثير من الأعاظم كما في قبول قول الوكيل وقول الزوج في الطلاق وقول الولي في عقد المولى عليه وهكذا ، والجامع بين ما نحن فيه (أي قبول قول المؤتمن على فعل إذا أخبر بوقوعه) وبين القاعدة : هو أنه إذا كان الفعل وظيفة الإنسان فأخبر بوقوعه يقبل ، سواء كان الجاعل للوظيفة الشارع المقدس أم غيره والأوّل هو مورد قاعدة من ملك ، والثاني مورد قاعدة خبر المؤتمن على فعل إذا أخبر بفعله.

وقال في محل ثالث (ج ١٣ / ٤٤) : لا يظهر دليل على كلية سماع قول الأمين إلّا في حال الإخبار عن وقوع الفعل المؤتمن عليه ، لو ادعى الرد لم يقبل قوله إلّا في الودعي ، فانظره.

١٨٠