القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

الشيخ محمد آصف المحسني

القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك

المؤلف:

الشيخ محمد آصف المحسني


المحقق: مهدي النيازي الشاهرودي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: پيام مهر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
ISBN: 964-94560-6-6
الصفحات: ٤٤٠

الأصل المذكور ، بترتيب مقدمات غير واضحة في نفسها ، ولا في صلاحيتها لنفي الاستصحاب المبني على صدق الشك في البقاء عرفا وإن لم يصدق عقلا (١).

واليكم الآن كلام سيدنا الاستاذ الحكيم قدس‌سره في شرح هذا الكلام :

(قوله : أو كالاستثناء من المتصل) من المعلوم ان المخصص المتصل «تارة» يكون موجبا لتعنون العام بعنوان وجودي كما في التخصيص بالوصف الوجودي مثل : أكرم العلماء العدول ، فإن التخصيص اقتضى كون موضوع العام هو العالم العادل ، فمع الشك في العلم أو العدالة فان كان أصل موضوعي وجودي مثبت لعنوان العام أو عدمي ناف له كان هو المرجع واقتضى الأوّل ثبوت حكم العام والثاني انتفاءه وإن لم يكن أصل موضوعي لا وجودي ولا عدمي فالمرجع الاصول العملية (وتارة) يقتضي كونه معنونا بعنوان عدمي كما في الوصف العدمي مثل : أكرم العلماء الذين هم ليسوا بفساق. فالحكم فيه كما سبق أيضا بعينه بلا فرق

__________________

ـ يحكم عليه بحكم العام ، وان لم يجز التمسك به بلا كلام ، ضرورة أنه قلما لم يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقح به انه مما بقي تحته ، مثلا إذا شك أنّ امرأة تكون قرشية فهي وان كانت وجدت اما قرشية أو غيرها ، فلا اصل يحرز انها قرشية أو غيرها إلا ان أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش يجدي في تنقيح انها مما لا تحيض إلّا إلى خمسين ، لان المرأة التي لا يكون بينها وبين قريتين انتساب أيضا باقية تحت ما دلّ على ان المرأة انما ترى الحمرة إلى الخمسين ، والخارج عن تحته هي القرشية.

(١) المستمسك ١ / ١٣٥ ـ ١٣٧.

١٠١

إلّا في أن الأصل العدمي في المقام يثبت عنوان العام والوجودي ينفيه ـ عكس ما سبق ـ وهذا مما لا اشكال فيه وإنما الاشكال في المخصص المنفصل أو كالاستثناء من المتصل كما لو قيل : أكرم العلماء إلّا الفسّاق ، أو : ولا تكرم الفاسق ، وانه هل يقتضي تعنون موضوع العام بعنوان خاص وجودي مضاد لعنوان الخاص مثل (العدول) في المثال المذكور ، أو بكل عنوان مغاير لعنوان الخاص مناف له ضدا كان له أو نقيضا ، أو بعنوان عدمي نقيض عنوان الخاص مثل (الذين هم ليسوا بفساق) في المثال المذكور ، أو لا يقتضي شيئا من ذلك؟ المترائي من بعض عبارات التقريرات هو الأوّل ، وظاهر المصنف هو الثاني ، وصريح آخر هو الثالث ، وآخر هو الرابع ، وعلى الأوّل لا يجدي في إثبات حكم العام إلّا الأصل الوجودي المثبت للعنوان الطارئ على موضوع العام من قبل المخصّص وعلى الثاني يجدي كل أصل مثبت لكل عنوان مناف لعنوان الخاص ، وعلى الثالث لا يجدي إلّا الأصل العدمي النافي لعنوان الخاص ، وعلى الرابع لا ينفع شيء منهما فيه أصلا لعدم كون الوصف ـ وجودا أو عدما ـ موضوعا لحكم العام فإذا قيل : اكرم العلماء إلّا الفساق ، فالفرد المشكوك المتيقن العدالة سابقا يجري فيه خصوص استصحاب العدالة على الأوّل فيترتب عليه حكم العام وهو أو استصحاب عدم الفسق على الثاني وخصوص استصحاب عدم الفسق على الثالث فيترتب عليه حكم العام ولا مجال لاستصحابهما على الرابع. ثم إن الأوّل بعيد عن المذاق العرفي ، وأبعد منه الثاني ، والاخير أقرب إليه من الثالث لان الخاص ليس له وظيفة أكثر من إخراج أفراده عن حكم العام فلا يقتضي اكتساء موضوع

١٠٢

حكم العام وصفا وجوديا ولا عدميا فضلا عن اكتسائه كل عنوان كما هو ظاهر المتن هذا إذا لم يكن حكم الخاص نقيضا لحكم العام أما لو كان نقيضا له كما إذا قيل : لا يحرم إكرام العلماء إلّا الفساق ، أو : لا يجب إكرام العلماء إلّا العدول ، فأصالة عدم عنوان الخاص كافية في ثبوت حكم العام لان لازم ارتفاع الموضوع بالاصل ارتفاع حكمه.(قوله : لم يكن ذلك بعنوان) قد عرفت أن الظاهر أن المراد أن موضوع حكم العام كل عنوان مناف لعنوان الخاص لا مجرد المغاير له كما يقتضيه ظاهر التعبير وإلّا لزم اجتماع الحكمين فإن موضوع عنوان الخاص واجد لجملة من العناوين المغايرة لعنوان الخاص فيلزم اجتماع حكمي العام والخاص فيه. كما عرفت ايضا أن دعوى كون موضوع حكم العام كل عنوان مناف لعنوان الخاص لا مجال لاثباتها ، ويحتمل أن يكون المراد الوجه الثالث أعني كون موضوع حكم العام عنوان العام المقيد بعدم عنوان الخاص لكن لا تساعد عليه العبارة(قوله : فبذلك) يعني بالاصل الجاري لاثبات العنوان المنافي لعنوان الخاص (قوله : قرشية أو غيرها) لان الوصفين المذكورين من الاوصاف الوجودية التي لا تكون إلّا في ظرف وجود موضوعها فقبل وجوده لا حالة لها سابقة ليجري فيها الاستصحاب نعم لو كان المراد من غير القرشية من لم تكن قرشية كان استصحاب عدم كونها قرشية موقوفا على جريان الاستصحاب في العدم الأزلي (وتوضيح) ذلك ، أن العدم الذي يكون موضوعا للأثر الشرعي (تارة) يكون بمعنى عدم الموضوع (واخرى) يكون بمعنى عدم الوصف وكل منهما (تارة) يكون بنحو مفاد ليس التامة مثل عدم زيد وعدم الحمرة لزيد

١٠٣

(واخرى) يكون بنحو مفاد ليس الناقصة مثل عدم كون الماء ذا مادة وعدم كون زيد احمر ، فإن كان العدم ملحوظا على النحو الأوّل فالظاهر أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب لاثباته فإذا فرض ان لوجود زيد أو لحمرته أثرا كان استصحاب عدم زيد أو عدم حمرته موجبا لانتفاء ذلك الاثر ظاهرا ، وإن كان ملحوظا على النحو الثاني فقد اختلفت فيه انظار المحققين فهم ما بين مثبت له وناف وشبهة النفي أن العنوان الملحوظ قيدا وجوديا كان أو عدميا لما كان موضوعه المقيد به حاكيا عن الوجود الخارجي بنحو لا يرى إلّا خارجيا كان التقييد به في عالم الاعتبار ملحوظا في الرتبة اللاحقة للوجود فيكون معنى قولنا : أكرم الرجل العالم (أكرم الرجل الذي إن وجد كان عالما) كما أن المعنى قولنا : لا يجب إكرام الذي ليس بعالم ، (لا يجب اكرام الرجل الذي إن وجد لم يكن عالما) فالعدم المأخوذ قيدا هو الملحوظ في الرتبة اللاحقة للوجود المنوط به فعدم الوصف المقارن لعدم الموضوع مباين للعدم المذكور المأخوذ قيدا ومع هذه المباينة يمتنع الاستصحاب لانه يعتبر فيه اتحاد المتيقن والمشكوك فزيد قبل وجوده وإن لم يكن أحمر إلّا أن عدم الحمرة حينئذ ليس منوطا بوجوده بل هو مقارن لعدمه فإثباته بعد وجود الموضوع ليس اثباتا لموضوع الأثر بتا. كذا ذكر بعض الأعاظم (وأورد) عليه بأنه لا ريب في أن مفهوم قولنا : أكرم الرجل العالم ، ليس مفهوم قولنا : أكرم الرجل الذي ان وجد كان عالما ، كما ان مفهوم قولنا : لا تكرم الرجل الذي ليس بعالم ، مباين لمفهوم قولنا : لا تكرم الرجل الذي أن وجد لم يكن عالما ، وإرجاع أحدهما إلى الآخر في غير محله ، ومجرد حكاية الموصوفات عن الوجودات الخارجية تصورا لا يجدي ما لم يكن الوجود

١٠٤

ملحوظا بنحو القضية التصديقية ، ولذلك ترى موضوع الإرادة والكراهة حاكيا عن الوجود التصوري ومع ذلك لا مجال لتوهم إناطتهما بالوجود الخارجي فإن الوجود الخارجي ظرف سقوط الإرادة والكراهة لا ظرف ثبوتهما فالتقييد بالوصف الوجودي أو العدمي ليس قائما بنفس الوجود الخارجي ومنوطا به بنحو يكون مفروغا عنه كي تتوجه الشبهة بل هو قائم بنفس ذات المقيد كما يرشد إليه صحة قولنا وجد الرجل العالم ، أو الذى ليس بعالم ، ولو كان التقييد منوطا بالوجود الخارجي امتنع ذلك إذ الموجود بما هو موجود ليس له وجود (فإن قلت) : وجود الوصف إذا كان منوطا بوجود الموصوف وكان متأخرا عنه رتبة فإذا فرض أن له أثرا شرعيا كان نقيض ذلك الأثر أثرا لنقيض ذلك الوجود ومقتضى وجوب حفظ الرتبة بين النقيضين أن يكون موضوع نقيض الأثر هو العدم المنوط بالوجود فلا مجال لاثباته باستصحاب العدم المقارن لعدم وجود الموضوع لانه مباين له (قلت) : تأخر وجود الوصف خارجا عن ذات الموصوف رتبة لا دخل له في لزوم ملاحظة التقييد بين وجود الموصوف ونفس الوصف ليكون متأخرا عنه في لحاظ جاعل الأثر بل من الممكن أن يكون التقييد ملحوظا بين نفس الذاتين بلا ملاحظة تقدم وجود الموصوف بنحو يكون مفروغا عنه في مقام اللحاظ كما يرشد إليه أيضا ما عرفت من صحة قولنا : وجد الرجل العالم ، فالوصف قد اخذ وصفا لذات الموصوف لا لوجوده ولا منوطا بوجوده ـ مع أن الترتب الخارجي بين الوصف والموصوف لو اقتضى كون موضوع الأثر خصوص الوجود والعدم المنطوين بوجود الموصوف لامتنع جريان استصحاب

١٠٥

العدم الأزلي ولو كان ملحوظا بنحو مفاد ليس التامة مثل عدم الحمرة الذي قد عرفت أنه لم يعرف الاستشكال في جريان الاستصحاب لاثباته وأيضا فلو تم الاشكال المذكور لاختص بما لو اخذ الوجود قيدا لموضوع الأثر الشرعي أما لو اخذ العدم ابتداء قيدا له فلا موجب لتخصيصه بما هو منوط بوجود الموصوف بعد ما كان له فردان عدم لعدم الموضوع وعدم في حال وجوده فإن مقتضى الاطلاق كون الجامع بينهما موضوعا للاثر ولا مجال للشبهة المذكورة كما لا مجال لها أيضا فيما لو كان القيد من قبيل الذات مثل الماء الذي له مادة فان المادة ليست من قبيل وصف الماء كي يتأتى فيها ما ذكر من الاشكال. نعم الشبهة الاولى من كون الموضوع المقيد لما كان حاكيا عن الوجود كان التقييد منوطا به جارية في جميع ما ذكر بلا فرق وحيث عرفت أنه لا مجال لكل من الشبهتين فالقول بجريان الاستصحاب في الجميع في محله. نعم لا مجال لجريانه في لوازم الماهية لانها لا تنفك عنها ولو قبل وجودها فليس العدم حالة سابقة لها كما لا مجال لجريانه في الذاتيات فإن ثبوت الشيء لنفسه ضروري ولا معنى لسلبه عنه (قوله : إلّا أن أصالة عدم تحقق) هذا منه مبني على عدم جريان الأصل في العدم الأزلي بنحو مفاد ليس الناقصة ، وعلى أنه يكفي في ترتيب حكم العام ثبوت أي عنوان مناف لعنوان الخاص ، إذ من المعلوم منافاة عنوان المرأة التي ليس بينها وبين قريش انتساب لعنوان المرأة القرشية لكن عرفت أنه لا مانع من جريان أصالة عدم كون المرأة قرشية ، كما عرفت ان الجمع بين العام والخاص لا يقتضي تعنون الباقي بالعنوان المنافي لعنوان الخاص ، وان يكفي في انتفاء حكم الخاص انتفاء

١٠٦

موضوعه ولو بالأصل ، فإذا جرى اصالة عدم كون المرأة قرشية انتفى كونها ممن تحيض إلى الستين. انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : ما أشار إليه أخيرا من عدم جريان الاستصحاب في لوازم الماهية تبعا للمنقول عن المحقق العراقي (آغا ضياء رحمه‌الله) هو الارجح عندنا خلافا للسيّد الاستاذ الخوئي قدس‌سره حيث أورد عليه بانه لا لازم للماهية الاعتباريّة على القول باصالة الوجود ، كما هو الحق ، فإن اللازم عليه اما لازم للوجود الذهني وأما لازم للوجود الخارجي وأما لازم لهما. فلا لازم للماهية حتى يجري أو لا يجرى الاستصحاب فيه. وجوابه على ما ذكرنا من شرحنا على كتاب طهارة العروة الوثقى قبل خمس وعشرين سنة تقريبا ان المراد بلازم الماهية حسب متفاهم العرف لا بنظر العقل ، فانا نبحث في الفقه واصوله ولا مسرح فيه للاحكام العقلية الدقيقة ، ولا شك ان العرف يرى زوجية الاربعة مثلا من لوازم الماهية. والله أعلم.

وبالجملة : مع قطع النظر عن بعض الخصوصيات ما افاده سيدنا الاستاذ الحكيم من جريان اصالة العدم الازلي خلافا لشيخه النائيني هو الاصح والمعتمد عليه في مقام العمل.

وفي الاخير إليك شطر من كلام سيدنا الاستاذ الخوئي قدس‌سره وان طال بنا المقام ، قال بعد ذكر مقدمات ذكرها استاذه النائيني قدس‌سره لاثبات دعواه : ويترتب على هذه المقدمات : أن التخصيص بعنوان وجودي يقتضي تعنون العام بعنوان عدمي لا محالة ، بمقتضى المقدمة الاولى ، وان العدم المأخوذ في الموضوع عدم نعتي بمقتضى المقدمة الثانية ، وان العدم النعتي كالوجود النعتي يحتاج إلى وجود

١٠٧

الموضوع لا محالة ، والتقابل بينهما تقابل العدم والملكة. وعلى ذلك فلا يمكن استصحاب العدم النعتي إذ المفروض عدم العلم به سابقا. بل هو مشكوك فيه من أوّل الأمر. وأما العدم المحمولي فهو وان كان متيقنا إلّا انه لا يثبت العدم النعتي.

فاشكال جريان الاستصحاب في الاعدام الازلية هو الاثبات خاصة. لا أن العدم قبل وجود موضوعه مغاير للعدم بعد وجود موضوعه ، فإن العدم عدم ، وبقاؤه غير مغاير لحدوثه بل بقاء له.

ولا يخفى أن المقدمة الاولى والثالثة من هذه المقدمات مما لا ينبغي الشك في صحته ، وكذلك المقدمة الثانية فيما إذا كان المأخوذ في موضوع الحكم وجود العرض ، وذلك لا لما ذكره قدس‌سره فانه يندفع بأن التقييد بكل من الاعتبارين يغني عن التقييد بالاعتبار الآخر ، كما هو الحال في كل أمرين متلازمين. فإن التقييد بأحدهما لا يبقى مجالا للاطلاق بالاضافة إلى الثاني منهما.

بل لأجل أن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، إذ ليس للعرض وجودان : أحدهما لنفسه ، وثانيهما لموضوعه ، بل له وجود واحد وهو عين وجوده لموضوعه ، وكونه وصفا ونعتا لمعروضه ، فإذا كان المأخوذ وجود العرض في موضوع خاص ، كالكرية المأخوذة للماء في موضوع الاعتصام وعدم الانفعال بملاقاة النجس ، فلا محالة يكون الدخيل في الموضوع هو اتصاف الماء بالكرية على نحو مفاد كان الناقصة. فان وجود الكرية في الماء هو بعينه اتصاف الماء بالكرية ، لما عرفت من أن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه.

وأما إذا كان الدخيل في الموضوع. هو عدم العرض. كما هو الحال فيما إذا

١٠٨

كان الخارج من العموم عنوانا وجوديا فإن العام يتعنون حينئذ بوصف عدمي لا محالة ، فلا موجب للالتزام بكون الدخيل في الموضوع هو العدم النعتي.

وبيان ذلك ان ما افاده من أن تركب الموضوع من العرض ومحله يستلزم اخذ الاتصاف بالعرض في موضوع الحكم ، وان كان متينا لما قدمناه من أن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، إلّا أنه يختص بوجود العرض ـ أعني العرض الوجودي ـ أما العدمي فلا يأتي فيه ما ذكرناه. لأن العدم لا وجود له حتى يقال ان وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه فإذا تركب الموضوع من عدم العرض ومحله ، فلا يستفاد منه في نفسه أن الاتصاف بالعدم مأخوذ في موضوع الحكم فإنه أعم ويحتاج اعتبار الاتصاف به إلى مئونة زائدة ، فإن قامت قرينة على اعتباره فهو ، وإلّا لما اعتبرنا في موضوع الحكم غير المحل وعدم العرض ، ولو على نحو العدم المحمولي.

فإذا ورد لا تكرم فساق العلماء ، وضممناه إلى العام فيستفاد منهما ان موضوع وجوب الاكرام هو العالم الذي لا يكون فاسقا ، لا العالم المتصف بعدم الفسق ، لأنه يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، وعليه فلا مانع من استصحاب عدم الاتصاف بالفسق الثابت قبل وجود زيد ، إذ لم يكن الاتصاف قبل وجوده والآن كما كان. نعم لا يثبت بذلك الاتصاف بعدم الفسق ، إلّا انا في غنى عنه. فانه ليس بموضوع للأثر ، وانما الأثر مترتب على العالم الذي لا يكون متصفا بالفسق على نحو العدم المحمولي ، والمفروض أنّ له حالة سابقة كما مر ، وكم فرق بين الموجبة معدولة المحمول وبين السالبة المحصلة ، لأن الاتصاف معتبر في الاولى دون الثانية. (التنقيح ١ / ١٣٥ ـ ١٣٧ من كتاب الطهارة).

١٠٩

١٤ ـ التفكيك بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي

فلو اختلفا فيها ـ كما لو شهد أحدهما برؤيته ليلة الاثنين والآخر برؤيته ليلة الثلاثاء ـ لم يثبت في كلتا الليلتين ، لعدم اشتراك الخبرين في أمر واحد. نعم لازم شهادة الأوّل كون يوم الثلاثاء من الشهر ، فيشترك الأوّل بمدلوله الالتزامي مع الثاني بمدلوله الالتزامي أيضا. إلّا أن هذا المقدار من الاشتراك غير كاف في الدخول تحت موضوع الحجية ، لاختصاصه بشهادة الشاهدين بامر واحد ، والمدلول الالتزامي ليس مشهودا به لهما ، ولا بدّ في صدق البينة من اتحاد المشهود به.

فإن قلت : قد تكرر مرارا وتحقق : إمكان التفكيك بين المدلول المطابقي والالتزامي في الحجية ، فلم لا يكون الخبران حجة في المدلول الالتزامي لاشتراكهما فيه ، وليسا بحجة في المدلول المطابقي لعدم الاشتراك؟! قلت : إذا ثبت حجية شيء أمكن حينئذ التفكيك بين مداليله في الحجية. والخبر الأوّل لما كان خبرا واحدا ، فليس بحجة ، وكذا الخبر الثاني ، فلا وجه لحجيتهما في المدلول الالتزامي. واشتراكهما في ذلك المدلول بالالتزام لا يجدي في وجوب ترتيب الأثر عليه واعتباره ، لما عرفت من اختصاص دليل حجية البينة بما إذا اتحد

١١٠

المشهود به.

نعم لو كان اللزوم بينا بالمعنى الأخص ، وموجبا لكون الدلالة الالتزامية لفظية ، كفى الاشتراك في الدلالة عليه في صدق البينة ، والدخول تحت دليل الحجية ، لتحقق الحكاية حينئذ للخبرين عن أمر واحد.

وبالجملة : إذا اشترك الخبران في الحكاية عن أمر واحد بالدلالة اللفظية ـ مطابقة ، أو تضمنا ، أو التزاما ، أو مختلفة ـ صدق مفهوم البينة وثبتت الحجية في كل واحد من المداليل المذكورة ، لإطلاق دليل الحجية كما أنه لا مانع من التفكيك بينها في الحجية في إذا قام دليل على نفي الحجية في واحد منها ، فتبقى البينة حجة في الآخر. أما إذا كان أحد الخبرين حاكيا عنه بالالتزام العقلي ، لعدم كون اللزوم بينا بالمعنى الأخص ، فلا عبرة بالخبرين معا ، لانتفاء البينة ، فينتفي حكمها وهو الحجية ، فضلا عما إذا كان كل واحد منهما حاكيا كذلك (١).

__________________

(١) وحيث ان هذا البحث له ثمرات ينبغي أن نذكر ما ذكره سيدنا الاستاذ الخوئي قدس‌سره في باب التعارض في مسألة أنّ المتعارضين هل ينفيان ثالثا أم لا؟ فقال بعد كلام :

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق النائيني رحمه‌الله ومحصله أن اللازم وإن كان تابعا للملزوم بحسب مقام الثبوت والاثبات ، فإن وجود الملزوم يستتبع وجود اللازم. وكل دليل يدل على ثبوت الملزوم يدل على ثبوت اللازم أيضا ، إلّا انه ليس تابعا للملزوم في الحجية ، بحيث يكون سقوط شيء عن الحجية في الملزوم موجبا لسقوطه عن الحجية في اللازم أيضا.

١١١

__________________

ـ والوجه في ذلك أن الأخبار عن الملزوم بحسب التحليل إخباران :

(أحدهما) ـ إخبار عن الملزوم. و (ثانيهما) ـ إخبار عن اللازم. ودليل الحجية شامل لكليهما. وبعد سقوط الاخبار عن الملزوم ، عن الحجية للمعارضة ، لا وجه لرفع اليد عن الاخبار عن اللازم ، لعدم المعارض له ، لموافقة المتعارضين بالنسبة إلى اللازم ، فنفي الثالث مستند إلى الخبرين. وهذا هو الفارق بين هذا الوجه والوجه الأوّل الذي ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله فان نفي الثالث على مسلكه مستند إلى أحدهما لا بعينه. هذا ملخص كلامه رحمه‌الله.

وفيه ما ذكرناه غير مرة من أن اللازم تابع للملزوم في الحجية أيضا. كما أنه تابع له بحسب مقام الثبوت والإثبات. وأما ما ذكره من الوجه لعدم سقوط حجية اللازم فنجيب عنه (أوّلا) بالنقض. و (ثانيا) بالحل.

(أما النقض) فبموارد :

منها : ما لو قامت بيّنة على وقوع قطرة من البول على ثوب مثلا ، وعلمنا بكذب البينة وعدم وقوع البول على الثوب ، ولكن احتمال نجاسة الثوب بشيء آخر ، كوقوع الدم عليه مثلا ، فهل يمكن الحكم بنجاسة الثوب لأجل البينة المذكورة؟ باعتبار أن الاخبار عن وقوع البول على الثوب إخبار عن نجاسته ، لكونها لازمة لوقوع البول عليه. وبعد سقوط البينة عن الحجية في الملزوم للعلم بالخلاف ، لا مانع من الرجوع إليها بالنسبة إلى اللازم. ولا نظن أن يلتزم به فقيه.

ومنها : ما لو كانت دار تحت يد زيد وادّعاها عمرو وبكر ، فقامت بينة على كونها لعمرو ، وبينة أخرى على كونها لبكر. فبعد تساقطهما في مدلولهما المطابقي للمعارضة ، هل يمكن الأخذ بهما في مدلولهما الالتزامي ، والحكم بعدم

١١٢

__________________

ـ كون الدار لزيد ، وأنها مجهول المالك؟

ومنها : ما لو أخبر شاهد واحد بكون الدار في المثال المذكور لعمرو ، وأخبر شاهد آخر بكونها لبكر ، فلا حجية لأحد منهما في مدلوله المطابقي ـ مع قطع النظر عن المعارضة ـ لتوقف حجية الشاهد الواحد على انضمام اليمين. فهل يمكن الأخذ بمدلولهما الالتزامي ، والحكم بعدم كون الدار لزيد ، لكونهما موافقين فيه ، فلا حاجة إلى انضمام اليمين؟

ومنها : ما لو اخبرت بيّنة على كون الدار لعمرو ، واعترف عمرو بعدم كونها له ، فتسقط البينة عن الحجية ، لكون الاقرار مقدما عليها ، كما أنها مقدمة على اليد ، فبعد سقوط البينة عن الحجية في المدلول المطابقي. للاعتراف ، هل يمكن الأخذ بمدلولها الالتزامي ، وهو عدم كون الدار لزيد مع كونها تحت يده؟ إلى غير ذلك من الموارد التي لا يلتزم بأخذ اللازم فيها فقيه أو متفقة.

وأما الحل : فهو أن الأخبار عن الملزوم وإن كان إخبارا عن اللازم ، إلّا أنه ليس إخبارا عن اللازم بوجوده السعي ، بل إخبار عن حصه خاصة هي لازم له ، فان الاخبار عن وقوع البول على الثوب ليس إخبارا عن نجاسة الثوب بأي سبب كان بل اخبار عن نجاسته المسببة من وقوع البول عليه ، فبعد العلم بكذب البينة في إخبارها عن وقوع البول على الثوب ، يعلم كذبها في الأخبار عن نجاسة الثوب لا محالة. وأما النجاسة بسبب آخر ، فهي وان كانت محتملة ، إلّا أنها خارجة عن مفاد البينة رأسا وكذا في المقام الخبر الدال على الوجوب يدل على حصة من عدم الاباحة التي هي لازمة للوجوب لا على عدم الاباحة بقول مطلق. والخبر الدال على الحرمة يدل على عدم الاباحة اللازم للحرمة لا مطلق

١١٣

ومن هنا يظهر أنه لو شهد عدل برؤية هلال شعبان ليلة الاثنين ، وآخر برؤية هلال شهر رمضان ليلة الأربعاء بعد ثلاثين ليلة ، فقبول شهادتهما لاثبات كون الأربعاء من شهر رمضان موقوف على كون دلالة شهادة الأوّل بالالتزام على كون الأربعاء من شهر رمضان من الدلالة اللفظية ، لكون اللزوم بينا بالمعنى الأخص. لكنه ليس كذلك ، فلا وجه للقبول. (المستمسك ج ٨ / ٤٥٧ و ٤٥٨).

__________________

ـ عدم الاباحة ، فمع سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي للمعارضة ، يسقطان عن الحجية في المدلول الالتزامي أيضا ، وكذا الحال في سائر الأمثلة التي ذكرناها ، فإن إخبار البينة عن كون الدار لعمرو إخبار عن حصة من عدم كونها لزيد اللازمة لكونها لعمرو. وكذا الاخبار بكونها لبكر ، فبعد تساقطهما في المدلول المطابقي تسقطان في المعلول الالتزامي أيضا.

فتحصل : مما حققناه في المقام أنه بعد تساقط المتعارضين لا مانع من الالتزام بحكم ثالث ، سواء كان مدركه الاصل او عموم الدليل ، (مصباح الاصول ج ٣ / ٣٦٨ إلى ٣٧٠).

أقول : أمّا النقض الثالث فيفهم ضعفه مما ذكره سيدنا الاستاذ الحكيم كما لا يخفى.

ثم انه لا يبعد التفصيل في المقام (أي تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية وعدمها) بين الدلالة الالتزامية إذا كانت لفظية وبينها إذا لم تكن لفظية كما ذكره سيدنا الاستاذ الحكيم قدس‌سره فنقول بالتفكيك في الاولى وبالتبعية في الثانية ، وقد اوضحه الشهيد الصدر رحمه‌الله أيضا وقد اجاب أيضا عن النقوض المذكورة في كلام استاذه السيّد الخوئي قدس‌سره فانظر كتاب بحوث في علم الاصول : ٤ / ٢٦٤ و ٢٦٥) فلاحظ وتدبر.

١١٤

القواعد الفقهية

١١٥
١١٦

١٥ ـ الاصل في الأموال هو الإباحة دون الحرمة

(الماء المشكوك إباحته محكوم بالإباحة)

لقاعدة الإباحة المستفادة من خبري مسعدة ابن صدقة وعبد الله ابن سنان (١). نعم روى في الوسائل ـ في باب وجوب إيصال حصة الإمام من الخمس إليه ـ عن الكافي عن محمّد بن الحسن ، وعلي بن محمّد جميعا عن سهل بن زياد ، عن أحمد بن المثنى ، عن محمّد بن زياد الطبري : «كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه‌السلام يسأله الإذن في الخمس. فكتب عليه‌السلام : بسم الله الرحمن الرحيم إنّ الله واسع كريم ، ضمن على العمل الثواب ، وعلى الضيق الهم. لا يحلّ مال إلّا من وجه أحلّه الله ...» (٢) ومقتضاه أصالة الحرمة في الأموال إلّا مع العلم بوجود السبب المحلّل ، لأنّه مع الشك في السبب المحلّل يرجع إلى أصالة عدمه. والأمر في سهل سهل. لكن أحمد بن المثنى مهمل ومحمّد بن زيد الطبري مجهول ، ولأجل ذلك يشكل الاعتماد على الخبر ، والخروج به عن قاعدة الحل.

__________________

(١) الوسائل باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به حديث : ٤ ، ١.

(٢) الوسائل باب : ٣ من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث : ٢.

١١٧

وما اشتهر من أصالة الحرمة في الأموال لا يصلح جابرا له (١) ، لعدم ثبوته

__________________

(١) وعن الشيخ في ذيل تنبيهات البراءة من رسائله ، أصالة حرمة التصرّف في الأموال حتى يعلم حليته مستدلا عليه بالإجماع والرواية المشار إليها في المتن لكن الإجماع منقول غير حجة والرواية ضعيفة سندا.

هذا كله بالنسبة إلى مطلق التصرف والاستعمال كالأكل واللبس ونحوهما وأما بالنسبة إلى الآثار المتوقفة على الملكية ففيه صور :

أوّلها : ما إذا كان المال مسبوقا بالإباحة والحلّية الأصليتين وقد علم بسبق أحد إليه ولا يعلم أنه هو نفسه أو غيره فيجري فيه استصحاب بقاء المال على إباحته السابقة إلى زمان الشك ، وهو يقتضي الحكم بحلية المال له فعلا ، ومعناه عدم تسلط الغير عليه بالحيازة ، وإلّا لم يكن مباحا في حقه وبعد ذلك يتملكه بالحيازة فيثبت بالاستصحاب أنه مال لم يتملكه غيره فإذا حازه ملكه ويترتب عليه جميع آثار الملكية كما في التنقيح : ج ١ / ٤٠٠.

وفيه أن الإباحة السابقة ارتفعت قطعا بسبق يده أو يد غيره الموجب لتملّكه والاباحة الثانية غير الإباحة الأصلية فاستصحابها من القسم الثالث من الكلّي ولا نقول بجريانه فيه. نعم يجوز التصرف فيه لانحلال العلم الإجمالي. فإذا حازه ملكه.

ثانيها : ما إذا كان المال حينما وجد ، وجد مملوكا له أو لغيره ولا حالة سابقة له كما في بيضة لا يدري أنّها لدجاجته أو لدجاجة غيره أو ثمرة أنّها لشجره أو لشجر غيره ، ففي مثله يجوز التصرف ولا يترتب أثر الملكية المنفية بالأصل.

ثالثهما : ما إذا كان المال ملكا لأحد سابقا ثم علم بانتقاله إما إليه أو إلى غيره واستصحاب مطلق الملكية من قبيل القسم الثالث من الكلي على أنّه إن تم

١١٨

بنحو الكلية الشاملة لما لم يكن أصل موضوعي يقتضي الحرمة ، من استصحاب ملكية الغير ، أو عدم إذن المالك في التصرف ، أو نحو ذلك ، كما لو شكّ في ثمر أنّه ثم شجره أو ثمر شجر غيره ، أو في ماء : أنّه ماؤه المتولّد في بئره ، أو المتولد في بئر غيره ، أو في حيوان : أنه متولد من حيوانه ، أو من حيوان غيره ، فإن مقتضى أصالة الحل الحل في مثل ذلك ، ولم يثبت ما يوجب الخروج عنها.

٢ ـ ثم إنه لو بني على العمل بالخبر المذكور فذلك إذا لم يكن سابقا من المباحات الأصلية وقد احتمال بقاؤه عليها ، وإلّا جرى استصحاب عدم ملك غيره له ، المقتضي لحليته بالحيازة. وكذا لو كان مملوكا سابقا لغير محترم المال واحتمل بقاؤه على ذلك ، فإنه يجري فيه استصحاب ملكيته السابقة ، فيجوز تملكه والتصرف فيه بأي نحو (١).

__________________

ـ لأثبت ملكية غيره فإنّ ملكية الغير كانت ثابتة في ضمن فرد وقد ارتفعت ونشكّ في حدوث ملكية الغير في ضمن فرد آخر. فيحكم ببقائها. بل أصالة عدم انتقاله إليه تثبت حرمة سائر التصرفات فيه أيضا.

رابعها : ما إذا كان المال مسبوقا بملكيتين كما إذا كان مال لأحد في زمان وله في زمان آخر ولم يعلم المتقدم من المتأخر ، فلا تجري استصحاب الملكية وأما سائر التصرفات فلا بأس بها ، والله أعلم.

(١) مستمسك العروة ج ١ / ٢٤٤ ـ ٢٤٦ أقول في خبر مسعدة عن الصادق عليه‌السلام : كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه. لكن مسعدة مجهول فخبره غير حجة. وفي صحيح ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام : كل شيء (يكون فيه) فيه حلال

١١٩

__________________

ـ وحرام فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

أقول : وفي شمول إطلاقه للمال الذي شكّ في أنّ له مالكا أم لا؟ نوع تردد لاحتمال انصرافه لمكان كلمة (فيه) إلى الحرام والحلال بلحاظ نفس الشيء وعدم نظارته إلى الغصب وإذن المالك ونحوه فلاحظ. نعم يكفي لرفع حرمة التصرف فيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث الرفع (ما لا يعلمون).

٦ ـ واعلم أن الشيء بعنوان كونه شيئا ومالا ، يجوز التصرف فيه لقاعدة الحلية أو البراءة وبعنوان أنه مال الغير ، لا يجوز إلّا بدليل ، كما ذكرناه في حدود الشريعة ج ١ في مادة الأكل وج ٢ في مادة الاستعمال. وبعنوان أنه مال الكافر الحربي أو من هو بحكمه يجوز التصرف كما أنه بعنوان مال المسلم أو الذمي أو المستأمن يحرم التصرف فيه.

١٢٠