نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٥

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

وقال الكفوي بترجمته : « هو قدوة القائلين بوحدة الوجود ، والناس في حقه فرقتان ، فإن بعض الفقهاء وعلماء الظاهر قد طعنوا فيه وأكفروه ، وبعض الفقهاء وعلماء الآخرة وكبراء الصوفية عظّموه وفخّموه تفخيما عظيما ، ومدحوا كلامه مدحا كريما ، ووصفوه بعلوّ المقامات ، وأخبروا عنه بما يطول ذكر من الكرامات ، وصنّفوا في مناقبه وألّفوا في أحواله ومراتبه.

ذكر الامام اليافعي في تاريخه : أن الشيخ شهاب الدين السهروردي والشيخ محيي الدين العربي اجتمعا في مجلس ، فسئل كلّ منهما عن صاحبه ، فقال العربي للسهروردي : هو رجل مملو من قرنه من السنة. وقال السهروردي : هو بحر الحقائق » (١).

وقال الازنيقي : « ومن لطائف كتاب المحاضرات ( محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ) للشيخ الامام العالم الرباني والبحر الصمداني ، وسند السالكين ومنقذ الهالكين ، الشيخ أبي عبد الله محيي الدين محمّد بن علي بن محمّد العربي الحاتمي الطائي الاندلسي قدس الله سره العزيز. كان جليل الشأن ، وله المصنفات الوافرة والمؤلفات الفاخرة وتصانيف لا تحصى » (٢).

وقال عبد العلي السهالي : « قال الشيخ وارث النبي العربي صلّى الله عليه وسلّم الشيخ محيي الدين ابن العربي صاحب الفتوحات : هم أخذوا العلم عن ميت ، ونحن أخذنا العلم من حي لا يموت » (٣).

ووصفه البرزنجي بـ « إمام المحققين » (٤).

وترجم له الجامي ووصفه بمثل عبارات الكفوي المتقدمة ثم ذكر نسبة لبسه

__________________

(١) كتائب أعلام الأخيار ـ مخطوط.

(٢) مدينة العلوم للأزنيقي.

(٣) الصبح الصادق في شرح المنار.

(٤) الاشاعة لا شراط الساعة ١٠٧.

٢٨١

الخرقة اليه (١).

وقد مدحه ( الدهلوي ) ووصفه بـ « الشيخ الأكبر » واستشهد بكلماته واستند إليها (٢).

ووصفه الشيخ سلامة الله في ( معركة الآراء ) بـ « قطب الموحدين ».

وعدّه صديق حسن القنوجي في ( الجنّة ) في عداد المجتهدين حيث قال : « ومنهم الشيخ الأكبر ابن العربي ، فإنه لم يقلّد أحدا إلاّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه وسلّم ، وقد ذكر في الفتوحات المذاهب الأربعة وغيرها واختار منها ما أفضى إليه اجتهاده من غير مبالاة بزيد وعمرو ، وأكابر العلماء اعتقدوا ولايته ، والولي الكامل لا يكون مقلّدا ».

٢ ـ الشيخ عبد الوهاب الشعراني

وقد قرّر الشيخ عبد الوهاب الشعراني كلمات ابن عربي السالفة الذكر ، حيث نقلها مستشهدا بها معتمدا عليها حيث قال : « فإن قلت : فما معنى قولهم : إنه صلّى الله عليه وسلّم أول خلق الله؟ هل المراد من خلق مخصوص؟ أو المراد به الخلق على الإطلاق؟

فالجواب كما قاله الشيخ في الباب السادس : إن المراد به خلق مخصوص ، وذلك أن أول ما خلق الله الهباء ...

وقال الشيخ محيي الدين : وكان أقرب الناس إليه في ذلك الهباء علي بن أبي طالب الجامع لأسرار الأنبياء أجمعين ...

فعلم كما قاله الشيخ محي الدين في الفتوحات أن مستمد جميع الأنبياء والمرسلين من روح محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ هو قطب

__________________

(١) نفحات الانس ـ ٥٦٤.

(٢) رسالة الرؤيا للدهلوي.

٢٨٢

الأقطاب ... » (١).

فعلم أن الشعراني ذاهب إلى ما ذهب إليه ابن عربي ، فكلامه أيضا يثبت المطلوب بالوجوه السديدة المتقدمة هناك.

هذا ، ولا ينافي ذلك قوله بعدئذ : « وقول الشيخ في حق علي رض الله عنه جامع لأسرار الأنبياء ، قد نقل أيضا عن الخضر عليه‌السلام في حق الشيخ أبي مدين التلمساني فقال حين سئل عنه : جامع أسرار المرسلين لا أعلم أحدا في عصري هذا أجمع لأسرار المرسلين منه ». فإنه ـ لو ثبت هذا النقل ـ غير فإنه ـ لو ثبت هذا النقل ـ غير ضائر بالمطلوب وهو إثبات أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ بمقتضى الأقربية والجامعية لأسرار الأنبياء ـ ممّن تقدم عليه في امر الخلافة والامامة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمع تسليم صحة النقل المذكور عن الخضر عليه‌السلام في أبي مدين التلمساني يكون أبو مدين أفضل من أولئك كذلك.

وأما التساوي بين أمير المؤمنين وأبي مدين فلا يتوهّمه عاقل فضلا عن المسلم ، على أن كلام الخضر في أبي مدين مخصوص بعصره كما هو صريحه.

كلام آخر للشعراني

وقال الشيخ الشعراني أيضا : « فإن قلت : قد ورد في الحديث : أول ما خلق الله نوري. وفي رواية : أول ما خلق الله العقل ، فما الجمع بينهما؟

فالجواب : إن معناهما واحد ، لأن حقيقة محمّد صلّى الله عليه وسلّم تارة يعبّر عنها بالعقل الأول ، وتارة بالنور.

فإن قلت : فما الدليل على كونه صلّى الله عليه وسلّم ممدا للأنبياء السابقين في الظهور عليه من القرآن؟

__________________

(١) اليواقيت والجواهر ٢ / ٢٠.

٢٨٣

فالجواب : من الدليل على ذلك قوله تعالى ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) أي : إن هداهم هو هداك الذي سرى إليهم ذلك في الباطن ، فإذا اهتديت بهداهم فإنما ذلك اهتداء بهداك ، إذ الأولية لك باطنا والآخرية لك ظاهرا ، ولو أن المراد بهداهم غير ما قررناه لقال له صلّى الله عليه وسلّم : فبهم اقتده.

وتقدم حديث كنت نبيا وآدم بين الماء والطين ، فكلّ نبي تقدم على زمان ظهوره فهو نائب عنه في بعثته بتلك الشريعة ، ويؤيد ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث « وضع الله تعالى يده بين ثديي » أي كما يليق بجلاله « فعلمت علم الأولين والآخرين » إذ المراد بالأولين هم الأنبياء الذين تقدّموا في الظهور عند غيبة جسمه الشريف ، وإيضاح ذلك : أنه صلّى الله عليه وسلّم أعطي العلم مرتين مرة قبل خلق آدم ومرة بعد ظهور رسالته صلّى الله عليه وسلّم ، كما أنزل عليه القرآن أولا من غير علم جبرئيل ثم علمه به جبرئيل مرة أخرى ...

فإن قلت : فإذن روح محمّد صلّى الله عليه وسلّم هي روح عالم الخير كله ، وهي النفس الناطقة فيه كلّه.

قلت : نعم والأمر كذلك كما ذكره الشيخ في الباب السادس والأربعين وثلاثمائة ، فحال العالم المذكور قبل ظهوره صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة الجسد المستوي ، وحاله بعد موته صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة النائم ، وحال العالم حيث يبعث يوم القيامة بمنزلة الانتباه من النوم ، فالعالم كله نائم من حين مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن يبعث » (١).

أقول : وكلّما ذكره في حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق وثابت في حق علي عليه‌السلام ( لحديث النور ) ، فهو مثله في كل شيء ، ومن ذلك التقدم على الأنبياء ، فهو الأفضل من بعده على جميع الخلائق ، فهو المتعين للخلافة من بعده.

__________________

(١) اليواقيت والجواهر ٢ / ٢٠ ـ ٢١.

٢٨٤

ترجمة الشعراني

وتظهر جلالة الشيخ عبد الوهاب الشعراني من الكلمات الواردة في حقه والأوصاف الكريمة التي وصفوه بها :

فقد قال الشرقاوي بترجمته : « الشيخ الامام العالم العامل الفقيه العارف بالله تعالى والدال عليه عبد الوهاب الشعراني ابن أحمد بن علي بن أحمد بن محمّد ، المنتهي نسبه إلى محمّد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه ، كان إماما في العلوم الشرعية وغيرها. أخذ العلوم عن مشايخ عصره كالشيخ السيوطي وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري وغيرهما من علماء الظاهر. وأخذ عن الشيخ محمّد الشناوي والشيخ علي الخواص وغيرهما من علماء الباطن ، وسلك طريق التصوف بعد تضلعه في العلوم الشرعية والانتهاء منها ... وله مصنفات كثيرة نحو سبعين مصنفا ، ومناقبه شهيرة وكراماته ظاهرة.

توفي رضي‌الله‌عنه يوم الاثنين من شهر جمادى الأولى سنة ٩٧٣ » (١).

وذكره محمّد بن عبد الله الزرقاني في سند إجازة روايته لكتاب ( المواهب اللدنية بالمنح المحمّدية لشهاب الدين القسطلاني ) حيث ذكر طريقه إليه عن مؤلفها القسطلاني ، وقد وصفه بـ « العارف » (٢).

وكذا ذكره أبو مهدي عيسى بن محمّد الثعالبي المالكي في تراجم مشايخه من ( مقاليد الأسانيد ) وقد وصفه بـ « الولي العارف بالله صاحب التصانيف السائرة ».

وقد نقل عنه نور الدين الحلبي في السيرة مترضيا عليه.

وقال تاج الدين الدهان في مرويات العجيمي : « طبقات الصوفية ـ للعالم

__________________

(١) التحفة البهية في طبقات الشافعية ـ مخطوط.

(٢) شرح المواهب اللدنية ١ / ٣.

٢٨٥

الرباني سيدي الشيخ عبد الوهاب بن علي الشعراني. أخبر بها ـ يعني الشيخ حسن العجيمي ـ عن جماعة ... عن مؤلفها العارف بالله تعالى والدال عليه سيدي الشيخ عبد لوهاب بن علي الشعراني فذكرها » (١).

ووصفه الشيخ أحمد القشاشي بـ « الامام » في ( السمط المجيد ).

وقال محمّد عابد السند في ( حصر الشارد ) : « وأما كتاب اليواقيت والجواهر في عقيدة الأكابر للشيخ عبد الوهاب الشعراني فأرويه ... ».

وقال محمّد معين بن محمّد أمين السندي : « قال إمام الحنفيّة ، بل قطب الصوفية الواصل إلى عين الشريعة التي يغترف منها الأئمة المجتهدون ، الامام الشعراوي في الميزان ... » (٢).

وذكره شاه ولي الله الدهلوي في ( الانتباه ) في بيان كيفية ارتباطه بالسلسلة القادرية من جهة الخرقة ، فكان الشعراني في طريق لبس الدهلوي الخرقة القادرية.

وقد وقع أيضا في طريق حديث المصافحة في مسلسلات الشيخ ولي الله الدهلوي.

وقد أوضح ولده ( الدهلوي ) كون الشعراني من مشايخ والده ولي الله في رسالته في ( أصول الحديث ).

٣ ـ شمس الدين الفناري

قال الشيخ شمس الدين محمّد الفناري : « أقول : كان هو المراد بالهباء الذي قال في الفتوحات : ... فلم يكن أقرب إليه قبولا إلاّ الحقيقة المحمدية المسماة بالعقل الأول. وكان سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود.

__________________

(١) كفاية المتطلع ـ مخطوط.

(٢) دراسات اللبيب ١٦٣.

٢٨٦

وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب وسائر الأنبياء. تم كلامه.

وأقول : وهذا غير الهباء الذي قال في الفتوحات بعد وريقات : لمّا خلق القلم واللوح وسماهما العقل والروح ، وأعطى الروح صفتين علمه وعمله ، وجعل العقل لهما معلما ، خلق جوهرا دون النفس الذي هو الروح المذكور ، سماه الهباء ، قال الله تعالى : ( فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) سمّاه به علي بن أبي طالب » (١).

أقول : هكذا جاء في النسخة الحاضرة من كتاب ( مصباح الأنس ) وقد أسقط فيه من عبارة الفتوحات كلمة « إمام العالم بأسره » وكذا جملة « الجامع لأسرار الأنبياء أجمعين » ، وجعل بدل هذه الجملة كلمة « وسائر الأنبياء » عاطفا إيّاها على « علي بن أبي طالب ». وإن كنت في ريب من هذا التحريف فراجع نص كلام ابن عربي المتقدم سابقا.

لكنه ـ والحال هذه ـ يفيد المطلوب ، وهو كون أمير المؤمنين عليه‌السلام أقرب الخلائق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو أفضلهم من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو المقدّم على الجميع ، لعدم جواز تقديم المفضول على الفاضل في شريعة من الشرائع.

ومن الغريب إعراض ( الدهلوي ) عن مفاد كلمات هؤلاء الأعلام من العرفاء والصوفيّة في هذا المقام ، وتشبثه بكلمات بعض مجاهيلهم في الجواب عن دلالة حديث ( التشبيه ) ، وسيأتي في محله ما فيه.

كتاب مصباح الأنس

وكتاب ( مصباح الأنس ) من مرويّات الشيخ حسن العجيمي والشيخ ابراهيم الكردي ، وهما من كبار مشايخ شاه ولي الله والد ( الدهلوي ).

قال الكردي : « مصباح الأنس بين المعقول والمشهود في شرح مفتاح غيب

__________________

(١) مصباح الأنس ١٧٥.

٢٨٧

الجمع والوجود ، للشمس محمّد بن حمزة الفناري ، وسائر تصانيفه ومروياته ، قرأت منه أطرافا على شيخنا الامام أحمد قدس‌سره ، بسنده إلى الحافظ ابن حجر عنه » (١).

وقال تاج الدين الدهان : « شرح مفتاح الغيب المسمى مصباح الأنس بين المعقول والمشهود ، للإمام المحقق الشمس محمّد بن حمزة الفناري رحمه‌الله. أخبر بها وبسائر مصنفاته ومروياته عن الشيخ أحمد العجل ، عن البدر محمّد ابن الرضي الغزي ، عن الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ، عن الحافظ أحمد ابن حجر العسقلاني والعلامة محمّد بن سليمان الكافيجي ، كلاهما عن مؤلفهما العلامة شمس الدين محمّد بن حمزة الفناري ، فذكرهما » (٢).

ترجمة الفناري

وإليك خلاصة ترجمة الفناري عن ( كتائب أعلام الأخيار ) :

« المولى الفاضل الأستاذ على الإطلاق ، والعامل الكامل المشار إليه بلا شقاق ، شمس الأئمة الأعلام وبدر الأجلة ، ذو الباع الواسع واللسان الجاري ، مولانا شمس الدين محمّد بن حمزة بن محمّد الفناري ، عليه رحمة الله الغفار الباري.

إمام كبير ، علامة نحرير ، عظيم القدر ، جليل المحل ، جامع بين العلم والعمل ، أوحد أوانه في العلوم النقلية أصولا وفروعا ، وأغلب أقرانه في الفنون العقلية ، وكان يجمعها جموعا ، شيخ دهره في العلم والأدب ، ومجتهد عصره في الخلاف والمذهب ، وهو أفضل الرؤساء الذين انفرد كل منهم بفضل ، ففاق فيه أقرانه على رأس القرن الثامن ، رحل إلى مصر ، ثم رجع إلى الروم ، فولي قضاء بروسا وشاع فضله ، صنف فصول البدائع في أصول الشرائع ، وغير ذلك من

__________________

(١) الأمم لإيقاظ الهمم ١٢١.

(٢) كفاية المتطلع في مرويات الشيخ حسن العجيمي ـ مخطوط.

٢٨٨

الكتب المستحسنة » (١).

٤ ـ السيد محمّد گيسو دراز

وقال السيد محمّد گ يسو دراز ، العارف الشهير بتفسير قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ) الآية ، بعد إيراد حديث النور بلفظ : « خلقت أنا وعلي من نور واحد قبل أن يخلق الله آدم بأربعة آلاف سنة ، ثم ركّب الله ذلك النور في صلب آدم ، فلم نزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ، ففيّ النبوة وفيه الخلافة » قال :

« وعليه قول الشاعر :

إني وإن كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي

وإليه أشار قول الله تقدس : ( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) كنت تتقلب في أصلاب آبائك الأنبياء وتتشكل بها تستفيض من فيضهم ، كلّ من الأنبياء اختص بما لا يفهم غيره ، بالعقل والحسن اجتمع عندك خصائص مائة ألف نبي وأربعين ألف ونيف ، حتى امتلأ جناب قلبك باللطائف والأنوار والمشاهدة والأسرار ، ولم يبق مساغ الازدياد ومكان الاستكثار ، جليناك عن تتق الأستار وأظهرناك عن كتم الأسرار لتتم مكارم الأخلاق ، إن النبوة تاج الأنبياء الأخيار وإنك درّة التاج يا سيّد الأحرار » (٢).

أقول : فهذا بعض مكارم سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على لسان هذا العارف الكبير ، وجميع ذلك ثابت لسيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بدليل ( حديث النور ) وبمقتضى هذا الحديث يصدق في حقه قول الشاعر الذي استشهد به ، ويكون الامام عليه‌السلام أفضل من آدم وسائر الأنبياء عليهم

__________________

(١) كتائب أعلام الأخيار من مذهب النعمان المختار ـ مخطوط.

(٢) الدر الملتقط ـ تفسير الآية.

٢٨٩

السّلام.

فثبت دلالة حديث النور على إمامة أمير المؤمنين ، وبطلان تقدم المتقدمين عليه.

كلام آخر

وقال السيد محمّد المذكور في كتاب آخر له ما تعريبه : « ويدل حديث خلقت أنا وعلي من نور واحد قبل أن يخلق الله آدم بأربعة آلاف سنة ، فلم نزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ، على أن جميع كمالات آدم ونوح وموسى والخليل انتقلت إلى محمّد ، وأنه لم يخلق آدم ولا العالم إلاّ من أجله » (١).

أقول : يدل الحديث على انتقال كمالاتهم إلى محمّد وعلي ، وأنه لم يخلق آدم ولا العالم إلا من أجل محمّد وعلي ، فهما أفضل منهم ، وعلي أفضل الخلق بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبذلك ترتفع شبهات المعاندين ، والحمد لله رب العالمين.

٥ ـ القسطلاني

وقال شهاب الدين القسطلاني : « لما تعلّقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه وتقدير رزقه ، أبرز الحقيقة المحمّدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية ... ثم أعلمه تعالى بنبوته وبشّره برسالته ، هذا وآدم لم يكن إلاّ ـ كما قال ـ بين الروح والجسد ، ثم انبجست منه صلّى الله عليه وسلّم عيون الأرواح ، فنظر للملإ الأعلى وهو بالمنظر الأجلى ، وكان لهم المورد الأحلى ، فهو صلّى الله عليه وسلّم الجنس العالي على جميع الأجناس ، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس » (٢).

__________________

(١) الأسمار ـ السمر ٤٧.

(٢) المواهب اللدنية بالمنح المحمّدية ١ / ٥.

٢٩٠

أقول : وإذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « الأب الأكبر لجميع الموجودات والناس » بسبب خلق نوره قبل خلق جميع العوالم كلّها علوها وسفلها ، فإن عليا عليه‌السلام كذلك ، لوحدة نورهما ، فلا يجوز تقدم أحد عليه ، لأن جميع الخلائق أشياع وأتباع له ، ومن هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة.

قال الرومي في شرح قول البوصيري :

« أحل أمته في حرز ملّته

كالليث حلّ مع الأشبال في الأجم »

قال : « يقول : وكيف لا؟ وقد أحلّ وأقرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمة إجابته في حرزه الحريز وحصنه الحصين من شريعته الحنيفية الباقية إلى يوم القيامة ، وهو ضرغام غابة غاية الكمال من الرجال ، وأتباعه كالأولاد لقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ولقوله صلّى الله عليه وسلّم : أنا من الله والمؤمنون مني ، وأنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة ، وناهيك لقوة دين الله دليلا ، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا » (١).

فهل يجوز تقدّم أحد عليه والحال هذه؟!

٦ ـ الدولت آبادي

وقال ملك العلماء شهاب الدين آبادي ـ بعد أن أورد حديث النور وذكر حاصل معناه ـ ما تعريبه :

« وقد عاد النور مجتمعا مرة أخرى في رحم فاطمة ، لأن الحسن والحسين من نور الله ، ولقد كان للمصطفى غير علي بنو عمومة ، وغير فاطمة بنات ، وكان لعلي وفاطمة أولاد غير الحسن والحسين ، إلا أنّهما خصّا بكونهما من نور الله ( يا أَيُّهَا

__________________

(١) تاج الدرة في شرح البردة ـ مخطوط.

٢٩١

النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً ). إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي ، فإن من تمسك بنور الله لا يضل أبدا.

وهذه عناية من الله وتوفيق ، يهدي الله بنوره من يشاء ، ويضرب الله الأمثال للناس ، فالذين أبعدوا عن هذا النور وضلوا ولعنوا يسعون في إطفاء نور الله ، ويعترضون على فضائلهم ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) ... ولو اجتمع أهل العالم كلهم على إطفاء نور الله هذا لما تمكنوا من ذلك ... فإن نسلهم باق إلى يوم القيامة ، ويجتمع على حبهم المنورون من الناس بنور الايمان ، وأما غيرهم فينكرونهم ...

واعلم أن ذوات هؤلاء مخلوقة من النور ، وقد كان هذا النور يظهر في وجه فاطمة. في آخر الظهيرية : ولها ـ أي لفاطمة ـ كان نور يضيء من وجهها ، حتى روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : أسلك في سم الخياط في الليلة المظلمة من نور وجه فاطمة. وفي الدرر : عاد الحسن والحسين ذات ليلة من عند المصطفى وقد أحاط بهما نورهما. وقد ذكرناه في الجلوة الأولى من الهداية الثامنة ، حتى تعلم أنهم نور الله » (١).

أقول : وفي هذا الكلام من وجوه الدلالة على المطلوب على ضوء حديث النور ما لا يخفى على ذوي البصر والبصيرة ، وقد ظهر منه أن الذين ينكرون حديث النور ودلالته هم من الذين ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ... )

٧ ـ الهمداني

وقال العارف الكبير السيد علي الهمداني بشرح قول ابن الفارض :

لها البدر كاس وهي شمس تديرها

هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم

__________________

(١) هداية السعداء ـ مخطوط.

٢٩٢

قال ما تعريبه : « ويريد الناظم من هذه المعاني إما الأعيان الخارجية وإما الحقائق النفسانية ، وعلى التقدير الأول فإن المراد هي الحقيقة المحمّدية وهي مظهر الأنوار الالهية ووعاء الحقائق الذوقية والمراد من الهلال هو علي وهو مدير كؤوس محبة ذي الجلال ومورد المتعطشين إلى مورد الوصال ، وقد ورد في حقه أنا مدينة العلم وعلي بابها.

وكما أن الهلال لا يختلف والبدر بل هو جزء منه ، فكذلك سيد الأولياء بالنسبة إلى سيد الأنبياء ، إذ قال صلّى الله عليه وسلّم : أنا وعلي من نور واحد. وقال : علي مني وأنا منه.

ثم إن امتزاج أحكام الشريعة المصطفوية بالحقائق المرتضوية هو السبب لظهور مشارب أذواق أعيان الأولياء ، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حقه : أنا وأنت أبوا هذه الأمة ، يشير إلى هذا المعنى ، إذ هو منبع أسرار معارف التوحيد ومطلع أنوار معالم التحقيق ، ومن ينبوع هدايته حصل جميع أهل الكشف والشهود على درجات الكمال ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : أنا المنذر وعلي الهادي. وقال لعلي : وبك يا علي يهتدي المهتدون.

وإذا انكشف لك هذا السر فاعلم : أن جميع أنوار الحقائق التي حصل عليها الأولياء مقتبس من مشكاة ولاية علي ، ومع وجود هذا الامام الهادي فإن متابعة غيره من قلة البصيرة ».

أقول : وهذا الكلام يدل على المطلوب على ضوء حديث النور من وجوه عديدة كذلك ، وهي غير خافية على الفطن النبيه.

٨ ـ السهروردي

وقال الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمّد السهروردي في ( العوارف ) بعد أن ذكر بعض الأحاديث الدالة على فضيلة التّفقه في الدين : « والله سبحانه وتعالى جعل الفقه صفة القلب فقال ( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ) ، فلما

٢٩٣

فقهوا علموا ، ولما علموا عملوا ، ولما عملوا عرفوا ، ولما عرفوا اهتدوا ، فكلّ من كان أفقه كانت نفسه أسرع إجابة وأكثر انقيادا لعالم الدين ، وأوفر حظا من نور اليقين ، فالعلم جملة موهوبة من الله تعالى للقلوب ، والمعرفة تميز تلك الجملة والهدى وجدان القلوب ذلك ، فالمعنى : مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم ، أخبر أنه وجد القلب النبوي الهدى والعلم ، فكان هاديا مهديا ، وعلمه صلوات الله عليه وراثة معجونة فيه من آدم أبي البشر صلوات الله عليه ، حيث علم الأسماء سمة الأشياء فكرمه الله تعالى بالعلم فقال ( عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) ، فآدم عليه‌السلام بما ركب فيه من العلم والحكمة صار ذا الفهم والفطنة والمعرفة والرأفة واللطف والحب والبغض والفرح والغم والرضاء والرخاء والغضب والكياسة ، ثم اقتضاء استعمال كل ذلك ، وجعل لقلبه بصيرة واهتدى الى الله بالنور الذي وهب له.

فالنبي عليه‌السلام بعث إلى الأمة بالنور الموروث والموهوب له خاصة ، وقيل : لما خاطب الله سبحانه السماوات والأرض يقول لهما ( ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) ، نطق من الأرض وأجاب موضع الكعبة ومن السماء ما يحاذيها ، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أصل طينة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من سرة الأرض بمكة. فقال بعض العلماء : هذا يشعر بأنما أجاب من الأرض ذرة المصطفى محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ومن موضع الكعبة دحيت الأرض ، فصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له ، وإلى هذا الاشارة بقوله صلّى الله عليه وسلّم : كنت نبيا وآدم بين الماء والطين. وفي رواية : بين الروح والجسد. وقيل : لذلك سمي أميا ، لأن مكة أم القرى ، وذرته أم الخليقة وتربة الشخص مدفنه ، فكان يقتضي أن يكون مدفنه بمكة حيث كانت تربته منها ، ولكن قيل الماء لما تموج ورمى الزبد إلى النواحي وقت جوهرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ما يحاذي تربته بالمدينة ، وكان رسول الله مكيا مدنيا حنينه إلى مكة وتربته بالمدينة.

فالإشارة فيما ذكرنا من ذرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو ما قال الله

٢٩٤

تعالى ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ). ورد في الحديث : إن الله مسح ظهر آدم وأخرج ذريته منه كهيئة الذرة واستخرج الذر من مسام شعر آدم ، فخرج الذر كخروج العرق. وقيل : كان المسح من بعض الملائكة فأضاف الفعل إلى المسبب ، وقيل : معنى القول بأنه مسح أي : أحصى كما يحصى الأرض بالمساحة ، وكان ذلك ببطن نعمان ـ وهو واد بجنب عرفة بين مكة والطائف ـ فلما خاطب الله الذرة وأجابوا ببلى كتب العهد في رق أبيض ، وأشهد عليه الملائكة وألقمه الحجر الأسود ، وكانت ذرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هي المجيبة من الأرض ، والعلم والهدى فيه معجونان ، فبعث بالعلم والهدى مورثا له وموهوبا. وقيل : لما بعث الله تعالى جبرئيل وميكائيل ليقبضا قبضة من الأرض فأبت حتى بعث الله عزرائيل فقبض قبضة من الأرض ، وكان إبليس قد وطئ بقدميه ، فصار بعض الأرض بين قدمه وبعض الأرض موضع أقدامه ، فخلقت النفس مما مس قدم إبليس ، فصارت مأوى الشر ، وبعضها لم يصل إليه قدم إبليس ، فمن تلك الأرض تربة أصل الأنبياء والأولياء.

فكانت ذرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موضع نظر الله سبحانه وتعالى من قبضة عزرائيل ، لم يمسها قدم إبليس فلم يصبه حظ الجهل ، بل صار منزوع الجهل موفّرا حظه من العلم والهدى ، فبعثه الله تعالى بالهدى والعلم وانتقل من قلبه إلى القلوب ومن نفسه إلى النفوس ، فوقعت المناسبة في أصل طهارة الطينة ووقع التأليف بالتعارف الأول ، فكل من كان أقرب منه مناسبة بنسبة طهارة الطينة كان أوفر حظا من قبول ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فكانت قلوب الصوفية أقرب منها مناسبة ، فأخذت من العلم حظا وافرا وصارت بواطنهم إخاذات ، فعلموا وعلموا كالاخاذ التي يسقى منه ويزرع منه ، وجمعوا بين فائدة علم الدراسة وعلم الوراثة فائدة بإحكام أساس التقوى ، فلما تركت النفوس انجلت مرائي قلوبهم بما صقلها من التقوى ، وانجلى فيها صور الأشياء على هيآتها وماهيتها ، فبانت لهم الدنيا بقبحها فرفضوها ، وظهرت الآخرة بحسنها فطلبوها ،

٢٩٥

فلما زهدوا في الدنيا انصبت إلى بواطنهم أقسام العلوم انصبابا وانضاف الى علم الدراية علم الوراثة ».

أقول : فهذه بعض مقامات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أثر قربه من الله تعالى وخلقة نوره من قبل العالم بأسره ، ولما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في جميع منازله ومقاماته كان جميع ما ذكر ثابتا في حقه أيضا ، فيكون مثله أفضل جميع الخلائق وأجلهم وأقدمهم بعده ، فهو الخليفة من بعده على أمته وهو المطلوب.

٩ ـ أبو نعيم الاصفهاني

قال الحافظ الشهير والعارف الكبير أبو نعيم الاصبهاني في خطبة كتابه ( دلائل النبوة ) ما نصه :

« أما بعد فقد سألتم ... جمع المنتشر من الروايات في النبوة ودلائلها والمعجزة وحقائقها ، وخصائص المبعوث محمّد صلّى الله عليه وسلّم بالسناء الساطع والشفاء النافع ، الذي استضاء به السعداء واستشفى به الشهداء واستوصل دونه البعداء ، فاستعنت بالله واستوفقته ، وبه الحول والقوة وهو القوي العزيز.

واعلموا وفقكم الله أن الخالق الحكيم أنشأ الخلق مختلفي الصور والجواهر متفاوتي الأمزجة والبصائر ، أجزاؤهم في الطبيعة والقوة متفاضلة ، وأحلامهم في النظر والاعتبار متفاوتة ، فمن معتدل مزاجه مستغن بصحته عن الأطباء والعقاقير ومتوسط في الاعتدال يطيبه القليل من الأبازير ، وساقط رذيل لا يقيمه العزيز من العناصر ، كذلك الأرواح ، منها صاف زكي بالحكمة مشغوف ، وإلى التعرف والتبصر ملهوف ، حريص على ما استبق إليه السعداء ومنها روح كدر بطيء عن المعارف والبصائر معطوف ، وعن الآيات والعبر مصروف ، خميص إلى ما استلذه البعداء. ومنها روح متوسط حطّ به عن كمال الصفاء والزكاء ، ونجى به من هلاك

٢٩٦

الكدر والعماء.

فلتفاوت الأشباح والأرواح اختلفت الأقوال والأحوال ، فالمحبو لصافي الأرواح يحن جوهره دائما إلى صفوة الروحانية الذين هم سكان العلى من السماوات ، والممنو بكدر الأرواح يميل جوهره دائما إلى مماثلة المسخرة والبهائم من الأنعام المركبة من الكدر والظلمات. فإذا اختلفت الأبنية والأمزجة فالمجبول على أعدل الترتيب وأصفى التركيب من لباب البشر وصباب النشر : من ارتاح للتألّه والصلاح ، واهتز للتشمّر والفلاح ، مخصوص بالبشارة والنذارة مقصود بالنفث والإيحاء من الكرام البررة ، ممد بالموهبة الالهية والأثرة العلوية ويسعد بالقبول منه المتوسط من المقبلين ، ويحجب بالنفور عنه والتكبر منه العماة من المدبرين.

فأولئك المقصودون هم الدعاة من الأولياء والسادة من الرسل والأنبياء ».

أقول : دل هذا الكلام على أفضلية الأنبياء لكونهم أشرف الخلائق خلقة ، ولاختصاصهم بهذه المزايا المذكورة والفضائل العالية ، ولما كان نور أمير المؤمنين عليه‌السلام متحدا مع نور النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وكان ذلك النور متقدما في الخلق على خلق آدم عليه‌السلام ، كان علي عليه‌السلام ـ كالنبي ـ أفضل من جميع الأنبياء وسائر الخليفة ، وصاحب تلك المزايا الجليلة ، فعلي أفضل الأمة الإسلامية بعد النبي ، وإذا كان كذلك بطل تقدّم الثلاثة عليه ، وهو المطلوب.

ثم قال أبو نعيم :

« فالنبوة هي سفارة العبد بين الله وبين ذوي الألباب من خليقته ، ولهذا يوصف أبدا بالرسالة والبعثة ، وقيل : إن النبوة إزاحة علل ذوي الألباب فيما تقصر عقولهم عنه من مصالح الدارين ، ولهذا يوصف دائما بالحجة والهداية ، ليزيح بها عللهم على سبيل الهداية والتثقيف ، ومعنى النبي هو ذا النبأ والخبر بأن يكون مخبرا عن الله بما خصه به من الوحي ، وقيل : إنها مشتقة من النبوة التي هي المكان المرتفع عن الأرض ، وهو أن يخص بضرب من الرفعة ، فجعل سفيرا بين الله وبين خلقه ، يعني بذلك وصفه بالشرف والرفعة ، ومن جعل النبوة من الإنباء التي هي الاخبار لم يفرق بين النبوة والرسالة.

٢٩٧

وأما معنى الرسول فهو المرسل ، فعول على لفظ مفعل ، وإرساله أمره إيّاه بإبلاغ الرسالة والوحي ، ومعنى الوحي مأخوذ من الوحي وهو العجلة ، فلما كان الرسول متعجلا لما يفهم قيل لذلك التفهم وحي ، وله مراتب ووجوه في القرآن وحي إلى الرسول ، وهو أن يخاطبه الملك شفاها أو يلقي ذلك في روعه وذلك قوله ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ). يريد بذلك خطابا يلقى فهمه في قلبه حتى يعيه ويحفظه وما عداه من غير خطاب ، فإنما هو ابتداء إعلام وإلهام وتوقيف من غير كلام ولا خطاب كقوله تعالى : ( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) ، ( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ) وما في معناه.

ثم إن هذه النبوة التي هي السفارة لا تتم إلاّ بخصائص أربعة يهبها الله لهم ، كما أن إزاحة علل العقول لا تتم إلاّ بالسلامة من آفات أربع يعصم منها ، فالسفير السعيد بالمواهب الأربع سليم عن الآفات الأربع ، والعاقل السليم من الآفات الأربع ليس بسعيد بالمواهب الأربع. فالمواهب الأربع أولها : الفضيلة النوعية ، وثانيها : الفضيلة الإكرامية ، وثالثها : الإمداد بالهداية ، ورابعها : التثقيف عند الزلة. والآفات الأربع التي يعصم منها السليم من الأولياء أولها : الكفر بالله ، وثانيها التقوّل على الله ، وثالثها الفسق في أوامر الله ، ورابعها الجهل بأحكام الله.

فمعنى الفضيلة النوعية : أن الأحسن في سير الملوك والأحمد من حكمهم أنهم لا يرسلون مبلغا عنهم إلاّ الأفضل المستقل بأثقال الرسالة ، قد ثقّفته خدمته وخرجته أيامه ، والعقول تشهد أن مثله يكون مقيضا مرتادا عند المرسل في الإبلاغ والتأدية عنه ، فالله الحكيم العزيز لا يختار للرسالة إلاّ المتقدم على المبعوث إليهم المزين بكل المناقب ، ولهذا لم يوجد نبيّ قط به عاهة في بدنه أو اختلاط في عقله أو دناءة في نسبه أو رداءة في خلقه ، وإليه يرجع قوله تعالى ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ).

ومعنى الفضيلة الإكرامية : أن الملوك متى أرسلوا رسولا اختاروه للوفادة أيّدوه في حال الإرسال بلطائف وكرامات وزوائد معاونات ، ييّسرون الخطب عليه

٢٩٨

فوق ما كان مكنه منه وخوله في ماضي خدمته ، فالله الرءوف الرحيم إذا أثر للابلاغ عنه الأفضل ، أمدّه بتقوى قلبه وتشحذ قريحته وتمكنه من الأخلاق الحميدة والعزائم القوية والحكم المديدة ، كما أيد موسى بحل العقدة من لسانه وإشراكه لهارون إياه في الإرسال. وهو قوله : ( فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ) ، وإليه يرجع قوله ( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ).

ومعنى الإمداد بالهداية : أن الملوك متى ما اختاروا للابلاغ عنهم من علموا منه الكفاية والاستقلال بما ولوه ، فلا يخلونه من كتب منهم إليه تتضمن الرشد والهداية ، علما منهم بأنه مجبول على صيغة الآدميين ، فالله العلي العظيم متى قلّد عبدا قلائد الرسالة فحكمته تقتضي أن لا يخليه من مواد الإرشاد ، لعلمه أن العلوم المكتسبة لا تنال إلاّ تعريفا ولا تصاب مصالح الكلية إلاّ توقيفا ، وإليه يرجع قوله : ( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ ).

ومعنى التثقيف عند الزلة : ما بعث ملك وافدا يجتلب به الرعية إلى طاعته ، فيرى طبعه مائلا في حال الإبلاغ إلاّ زجره عند أدنى هفوة بأبلغ مزجرة يتفقه بها ، صيانة لمحله وحفظا لحراسته واستقامته ، علما منه بأن من لم ينبه على فلتاته أو شك أن تألفه وتعتاده ، فالله اللطيف بعباده الوافي لأوليائه بالنصر والتأييد لا يعدم وافده وصفيه المرشح لحمل أثقال النبوة التنبيه ولتثقيف ، وإليه يرجع قوله تعالى لنوح ( فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ). وقوله لداود ( فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ) وقوله لسليمان ( وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ). وقوله لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم ( وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) و ( لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ). وقوله : ( وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ). الآية.

فهذه الخصائص الأربعة لا تنال إلا بالاكتساب والاجتهاد ، لأنها موهبة إلهية وأثرة علوية ، حكمها معلّقة بتدبير من له الخلق والأمر ، لا يظهرها إلاّ في أخص الأزمنة وأحق الأمكنة عند امتساس الحاجة الكلية وإطباق الدهماء على الضلال من البرية ، ومحلّها أعلى من أن يفوز به العقول الجزوية أو تحصلها

٢٩٩

المساعي الكسبية ، وإليه يرجع قوله ( وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ). وقوله ( إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) وقوله ( فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ).

أقول : وهذه الخصائص الأربعة الحاصلة للأنبياء بسبب أن خلقتهم أشرف وأجل من خلقة الخلائق أجمعين ، حاصلة لسيدنا أمير المؤمنين ، لأنه خلق مع أفضل الأنبياء من نور واحد ، فهو أفضل الخلائق والأنبياء عدا خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يجوز تقدّم أحد عليه.

١٠ ـ شاه ولي الله الدّهلوي

وقال والد ( الدهلوي ) في ( إزالة الخفا ) ما تعريبه : « لقد خلقت نفوس الأنبياء عليهم‌السلام القدسية في غاية الصفاء والرفعة ، وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن ينالوا النبوة بذلك الصفاء والرفعة ، ففوضت إليهم رئاسة العالم ، قال الله تعالى ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ).

وفي الأمة قوم خلقت نفوسهم قريبة من جوهر نفوس الأنبياء ، وهؤلاء في أصل الفطرة خلفاء الأنبياء في الأمم ، كالشمس تنعكس في المرآة ولا تنعكس في التراب والخشب والحجر ، فإن هؤلاء ـ وهم خلاصة الأمة ـ يتأثرون بالنفس القدسية النبوية بوجه لا يتأتى لغيرهم ، وقلوبهم تشهد بصحة ما يستفيدونه منها ، حتى كأنه قد سبق لهم إدراك ذلك على وجه الإجمال ، ثم جاء كلامه صلّى الله عليه وسلّم شارحا له ومبينا لاجماله ، ثم تلى هؤلاء جماعات كل منها أدنى من سابقتها بدرجة حتى تصل النوبة إلى العوام من المسلمين.

فكما أن صاحب الخلافة الخاصة هو رئيس المسلمين في الظاهر ، فكذلك يجب أن يكون رئيسا لهم متقدما عليهم من حيث الاستعدادات الباطنية كصفاء الباطن ورفعة الشأن ، حتى تكن رئاسته الظاهرية مقرونة بالرئاسة الباطنية ... ».

٣٠٠