نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٥

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

( قوله ) :

« وبعد اللتيا والتي ، فلا دلالة لهذا الحديث على ما يدّعونه ».

( أقول ) :

لقد اكتفى ( الكابلي ) في ردّ حديث النور بمجرّد معارضته بالحديث الموضوع المذكور آنفا وزعمه « أن مثل هذه الأخبار لو ثبت لا يحتج به في مثل هذه الأمور » ، فلم يمنع دلالته على مطلوب الشيعة بصراحة. لكنّ ( الدهلوي ) منع الدلالة أيضا جريا على عادته في إنكار الحقائق ومخالفة الواقع.

ونحن هنا نذكر بعض الوجوه القائمة على دلالة هذا الحديث ، ليزداد المنصف بصيرة ، والمؤمن إيمانا ، ولعل المكابر يرجع بملاحظتها إلى رشده ويتبع سبيل المؤمنين ، والله الموفق والمعين ، فنقول :

٢٠١

١ ـ التصريح بخلافة علي في الحديث :

لقد جاء التصريح بخلافة علي عليه‌السلام في جملة من ألفاظ الحديث ، في رواية جماعة من علماء أهل السنة ، وقد تقدّم ذلك في القسم الأول من الكتاب ، ولذا نكتفي بالاشارة إليها ... فمن ذلك التصريح بالخلافة بلفظ :

« ففيّ النبوة وفي علي الخلافة » أو نحوه.

وجاء ذلك في رواية :

١ ـ أبي الحسن ابن المغازلي الواسطي في ( مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام ).

٢ ـ شيرويه الديلمي في ( فردوس الأخبار ).

٣ ـ السيد علي الهمداني في ( المودة في القربى ) و ( روضة الفردوس ).

٤ ـ السيد محمّد گ يسو دراز في ( كتاب الأسمار ).

٥ ـ أحمد بن إبراهيم في ( جواهر النفائس ).

٦ ـ الواعظ الهروي في ( رياض الفضائل ).

وبلفظ :

« كان اسمي في الرسالة والنبوة وكان اسمه في الخلافة والشجاعة ».

وجاء ذلك في رواية :

الحمويني في ( فرائد السمطين ).

٢ ـ التصريح بوصاية علي في الحديث :

وجاء التصريح بوصايته عليه‌السلام : بلفظ :

« فأخرجني نبيّا وأخرج عليا وصيّا ».

٢٠٢

ومن رواته :

الحافظ ابن المغازلي في ( مناقب أمير المؤمنين ).

وبلفظ :

« وكان لي النبوة ولعلي الوصية ».

ومن رواته :

أحمد بن محمّد بن أحمد الحافي الحسيني الشافعي في ( التبر المذاب ).

٣ ـ تعلّم الملائكة وغيرها التسبيح من ذلك النور :

لقد دلّت جملة من ألفاظ حديث النور على أن ذلك النور كان يسبّح الله ويقدّسه مطيعا له ، ففي حديث ابن عبد البر في ( بهجة المجالس ) : « خلقت أنا وعلي من نور واحد يسبّح الله تعالى يمنة العرش ».

وفي حديث ابن المغازلي في ( المناقب ) عن سلمان : « كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عز وجل يسبّح الله ذلك النور ».

وفي آخر له عن أبي ذر : « كنت أنا وعلي نورا عن يمين العرش يسبّح الله ذلك النور ويقدّسه ».

وفي حديث الديلمي في ( الفردوس ) : « كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله مطيعا يسبّح الله ويقدّسه ».

وفي حديث ابن أسبوع في كتاب ( الشفاء ) : « خلقت أنا وعلي من نور واحد يسبّح الله على متن العرش ».

وفي حديث الحمويني عن أبي هريرة : « لما خلق الله تعالى أبا البشر ونفخ فيه من روحه التفت آدم يمنة العرش ، فإذا نور خمسة أشباح سجّدا وركّعا ».

وعلى هذا ، فإن كلّ تقديس وتسبيح كان من آدم عليه‌السلام وغيره من الأنبياء وسائر البشر ، فإنه كان اقتداء بهما ، وعملا بسنّتهما ، وقد دل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم

٢٠٣

القيامة » على أنّ كلّ ما حصل لهم من الأجر كان مثله ثابتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام ، لأنهما اللّذان سنّا هذه السنّة الحسنة ، وتلك فضيلة بالغة ومرتبة رفيعة لا ينالها أحد من العالمين.

قال السبكي في الباب التاسع من ( شفاء الأسقام ) ـ بعد أن ذكر أحاديث دالة على حياة الأنبياء ـ « والكتاب العزيز يدل على ذلك أيضا ، قال الله تعالى ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) وإذا ثبت ذلك في الشهيد يثبت في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم بوجوه :

أحدها : إن هذه رتبة شريفة ، أعطيت للشهيد كرامة له ، ولا رتبة أعلى من رتبة الأنبياء ، ولا شك أن حال الأنبياء أعلى وأكمل من حال جميع الشهداء ، فيستحيل أن يحصل كمال للشهداء ولا يحصل للأنبياء ، لا سيما هذا الكمال الذي يوجب زيادة القرب والزلفى والنعم والأنس بالعلي الأعلى.

والثاني : إن هذه الرتبة حصلت للشهداء أجرا على جهادهم وبذلهم أنفسهم لله تعالى ، والنبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي سنّ لنا ذلك ودعانا إليه وهدانا له بإذن الله تعالى وتوفيقه ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم : من سنّ حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. وقال صلّى الله عليه وسلّم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا. والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة مشهورة.

فكلّ أجر حصل للشهيد حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم مثله ، والحياة أجر فيحصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم مثلها زيادة على ماله صلّى الله عليه وسلّم من الأجر الخاص من نفسه على هدايته للمهتدي ، وعلى ماله من الأجور على حسناته الخاصة من الأعمال والمعارف والأحوال التي لا تصل جميع الأمة إلى عرف نشرها ، ولا يبلغون معاشر عشرها.

وهكذا نقول : إن جميع حسناتنا وأعمالنا الصالحة وعبادات كلّ مسلم مسطّر

٢٠٤

في صحائف نبينا صلّى الله عليه وسلّم زيادة على ما له من الأجر ، ويحصل له صلّى الله عليه وسلّم من الأجور أضعاف مضاعفة لا يحصرها إلا الله تعالى ويقصر العقل عن إدراكها ، فإن كلّ شهيد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر ويتجدّد لشيخه في الهداية مثل ذلك الأجر ، ولشيخ شيخه مثلاه ، وللشيخ الثالث أربعة وللرابع ثمانية ، وهكذا يضعّف في كلّ مرتبة الأجور الحاصلة إلى أن تنتهي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم كان للنبي من الأجر ألف وأربعة وعشرون ، فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفين وثمانية وأربعين ، وهكذا كلما ازداد واحد يتضاعف ما قبله أبدا إلى يوم القيمة ، وهذا أمر لا يحصره إلاّ الله تعالى ويقصر العقل عن كنه حقيقته ، فكيف إذا أخذ مع كثرة الصحابة وكثرة التابعين وكثرة المسلمين في كل عصر ، فكلّ واحد من الصحابة يحصل له بعدد الأجور التي يترتب على فعله إلى يوم القيامة ، وكلّ ما يحصل لجميع الصحابة حاصل بجملته للنبي صلّى الله عليه وسلّم ، وبهذا يظهر رجحان السلف على الخلف ، فإنه كلما ازداد الخلف ازداد أجر السلف ويتضاعف بالطريق الذي نبهنا عليه. ومن تأمل هذا المعنى ورزق التوفيق ، انبعثت همته إلى التعليم ورغب في النشر ليتضاعف أجره في حياته وبعد موته على الدوام ، ويكفّ عن إحداث البدع والمظالم من المكوس وغيرها ، فإنها يضاعف عليه وزرها بالطريق التي ذكرناها ما دام يعمل بها ، فيتأمل المسلم هذا المعنى وسعادة الهادي إلى الخير وشقاوة الداعي إلى الشر ».

وعلى هذا ... فلمّا كان علي عليه‌السلام مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك النور ، فإنه يحصل له من الأجر ما يحصل له ، وتلك منقبة عظيمة يقصر العقل عن إدراك شأنها.

ولقد جاء في بعض ألفاظ الحديث التصريح بتعلّم الملائكة التسبيح لله عز وجل من ذلك النور ، وممن رواه سعيد الدين محمّد بن مسعود الكازروني حيث

٢٠٥

روى : « عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : كنت نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الله آدم عز وجل بألفي عام ، يسبّح ذلك النور فتسبح الملائكة بتسبيحه ، فلما خلق الله تعالى آدم ألقى ذلك النور في صلبه فقال صلّى الله عليه وسلّم : فأهبطني الله تعالى إلى الأرض في صلب آدم وجعلني في صلب نوح وقذفني في صلب إبراهيم ، ثم لم يزل تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة حتى أخرجني بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط » (١).

ورواه الديار بكري باختلاف يسير ، قال : « عن ابن عباس عن النبي أنه قال : « كنت نورا بين يدي الله قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بألفي عام ، يسبّح الله ذلك النور وتسبّح الملائكة بتسبيحه ، فلما خلق الله آدم ألقى ذلك النور في صلبه ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم ، وجعلني في صلب نوح في السفينة ، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم ، ثم لم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة ، حتى أخرجني من أبوي ، لم يلتقيا على سفاح قط » (٢).

ومع هذه الفضيلة الحاصلة لعلي كيف يقدم عليه من لم تحصل له ، بل له سابقة كفر قبل إسلامه؟!

٤ ـ لو لا الخمسة لما خلق آدم :

لقد جاء في حديث [ الأشباح ] الذي رواه الحمويني قوله تعالى لآدم :

« هؤلاء خمسة من ولدك ، لولاهم ما خلقتك ، هؤلاء خمسة شققت لهم خمسة أسماء من أسمائى ، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار ، ولا العرش ولا الكرسي ، ولا السماء ولا الأرض ، ولا الإنس ولا الجن ، فأنا المحمود وهذا محمّد ، وأنا العالي

__________________

(١) المنتقى من سيرة المصطفى ـ مخطوط.

(٢) تاريخ الخميس ١ / ٢١.

٢٠٦

وهذا علي ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا ذو الإحسان وهذا الحسن ، وأنا المحسن وهذا الحسين آليت بعزّتي أنه لا يأتيني أحد بمثقال حبة من خردل من بغض أحدهم إلاّ أدخلته ناري ولا أبالي. يا آدم هؤلاء صفوتي بهم أنجيهم وبهم أهلكهم ، فإذا كان لك إليّ حاجة فبهؤلاء توسّل » (١).

وقد روى ابن المغازلي توسّل آدم بالخمسة عن سعيد بن جبير ، والسيوطي عن ابن النجار ، والبدخشاني عن ابن النجار والدار قطني ، كلاهما عن ابن عباس في قوله تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ) (٢) ، وكذا الصفوري (٣) عن جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، وأرسله النطنزي إرسال المسلم (٤).

وإذا كان لعلي عليه‌السلام هذا الشأن كيف يقدّم عليه احد؟!.

٥ ـ علي أفضل من آدم :

إن حديث النور يفيد تقدم نور النبي وعلي عليهما الصلاة والسّلام على خلق آدم بزمن طويل ، ففي بعض ألفاظه بأربعة عشر ألف عام ، ورواه جماعة منهم :

عبد الله بن أحمد

وابن مردويه

وابن المغازلي

والديلمي

والعاصمي

__________________

(١) فرائد السمطين ـ وقد تقدم.

(٢) أنظر الدر المنثور ١ / ٦٠ ومفتاح النجا ـ مخطوط.

(٣) نزهة المجالس ٢ / ٢٣٠.

(٤) الخصائص العلوية ـ مخطوط ، وقد تقدم نص الحديث عن ابن عباس.

٢٠٧

والنطنزي

والديلمي

والخوارزمي

وابن عساكر

والمحب الطبري ...

وفي بعضها : أربعون ألف عام ، كما في رواية الكنجي عن ابن عساكر والخطيب.

فعلي ـ اذن ـ أفضل من آدم وغيره من الأنبياء عدا النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو الامام بعد النبي.

ولنعم ما قال ابن بطريق هنا : « فهذه الأخبار الواردة عن ابن حنبل والثعلبي وابن المغازلي والديلمي تصرح بلفظ الخلافة بلا ارتياب ، فلينظر في ذلك ففيه كفاية ومقنع لمن تأمله بعين الإنصاف ، فما بعد بيان الخلافة بيان لملتمس ولا منار لمقتبس ولا دليل يستفاد ولا علم يستزاد.

ثم كونه معه عليه‌السلام نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الله تعالى آدم بأربعة عشر ألف عام يسبحان الله تعالى ، ما لا يقدر أحد أن يدعي فيه مماثلة أو مداخلة » (١).

ولو لا دلالة هذا الحديث على أفضلية علي عليه‌السلام من الأنبياء فضلا عن غيرهم ـ لما رماه ( ابن الجوزي ) و ( ابن روزبهان ) و ( الكابلي ) بالوضع ...

ولما ذا خلق الله تعالى نوره قبل غيره؟ أليس لأنه أفضل الخلائق كلهم أجمعين؟!.

وإذا دلّ تقدّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخلق على أفضلية ، دل على أن عليا كذلك أيضا ، لوحدة النور الذي خلقا منه.

__________________

(١) العمدة ٤٥.

٢٠٨

وذلك كله يقتضي أن تكون جميع الكلمات المتحققة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متحققة لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا ، ولكي ندلل على هذا أكثر من ذي قبل ننقل كلمات بعض كبار علمائهم ضمن الوجوه الآتية.

٦ ـ تباهي العصور بالنبي وعلي

قال الامام الشيخ أبو عبد الله محمّد بن سعيد البوصيري في مدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في [ القصيدة الهمزية ] :

« أنت مصباح كلّ فضل فما

يصدر إلاّ عن ضوئك الأضواء »

وقال الحافظ ابن حجر المكي في شرحه :

« [ أنت ] أيها العلم والمفرد الذي لا تساوى ، بل ولا تدانى [ مصباح ] أي سراج فهو مقتبس من قوله تعالى ( وَسِراجاً مُنِيراً ) [ كل ] اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكر المضاف اليه كما هنا والمعرّف المجموع ، نحو : ( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً ) وأجزاء المفرد المعرف نحو ( يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) بإضافة القلب إلى متكبر ، أي على كل أجزائه ، وقراءة التنوين لعموم أفراد القلوب ، ثم إن لم يكن نعتا لنكرة ولا توكيدا لمعرفة بأن تلاها العامل كما هنا جازت الإضافة كما هنا وقطعها نحو : ( وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ ).

واعلم أنها حيث أضيفت لمنكر وجب في ضميرها مراعاة معناها ، نحو ( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ) و ( عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ ) أو لمعرف جاز مراعاة لفظها في الافراد والتذكير ، ومراعاة لمعناها ، وكذا إذا قطعت نحو ( كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) وأنها حيث وقعت في حيّز النفي بأن سبقتها أداته أو فعل منفي نحو ما جاء كل القوم وكل الدراهم لم أجد ، لم يتوجه النفي إلاّ لسلب شمولها ، فنفهم إثبات الفعل لبعض الأفراد ما لم يدل الدليل على خلافه ،

٢٠٩

نحو ( وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) مفهومه إثبات المحبة لأحد الوصفين لكن لا نظر إليه ، للإجماع على تحريم الاحتيال والفخر مطلقا ، وحيث وقع النفي في حيّزها كقوله صلّى الله عليه وسلّم في خبر ذي اليدين : كلّ ذلك لم يكن ، توجه النفي إلى كل فرد فرد.

كذا ذكره البيانيون وانما سقت هذا جميعه هنا لأنه لنفاسته وكثرة الاحتياج إليه مما ينبغي أن يستفاد ويحفظ [ فضل ] وكمال برز لغيرك في الوجود ، لأنك الخليفة الأكبر الممدّ لكلّ موجود ، وشاهده ما صح في خبر : آدم فمن دونه تحت لوائي. وخبر : لو كان موسى حيا ما وسعه إلاّ اتباعي. وخبر : إن ابراهيم قال إنما كنت خليلا من وراء وراء.

وآثر التشبيه بالسّراج على القمرين لأنه يقتبس منه الأنوار بسهولة وتخلفه فروعه فتبقى بعده ، ووجه التشبيه أن نوره صلّى الله عليه وسلّم يظهر الأشياء المعنوية كنور البصائر ، ونور السراج يظهر المحسوسة كنور البصر ، ولا ريب أن المحسوس أظهر من المعقول من حيث هو معقول ، فلذا شبّه نوره صلّى الله عليه وسلّم لكونه معقولا بنور السراج لكونه محسوسا ، فلا ينافي ذلك أن السراج دونه صلّى الله عليه وسلّم بل لا نسبة ، ويمكن أن يكون من التشبيه المقلوب كما في قوله تعالى ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ).

وإذا تقرر أن كمالات غيره المشبهة بالأضواء مستمدة من كماله الذي هو الضوء الأعلى [ ف ] بسبب ذلك [ ما يصدر ] أي يبرز في الوجود ضوء ينشأ عن ضوء أحد مطلقا [ إلاّ ] ضوئك ، فأنت المخصوص بأنك الذي يبرز [ عن ضوئك ] الذي أكرمك الله [ الأضواء ] كلها من الآيات والمعجزات وسائر المزايا والكرامات ، وان تأخر وجودك عن جميع الأنبياء عليهم‌السلام ، لأن نور نبوتك متقدم عليهم بل وعلى جميع المخلوقات.

وشاهده : حديث عبد الرزاق بسنده عن جابر رضي‌الله‌عنه يا رسول الله ، أخبرني عن أول شيء خلق الله قبل الأشياء. قال : يا جابر ، إن الله تعالى خلق

٢١٠

قبل الأشياء نور نبيك من نوره ، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى ولم يكن في ذلك الوقت لوح ، ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي ، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسّم ذلك النور أربعة أجزاء ، فخلق من الجزء الأول القلم ، ومن الثاني اللوح ، ومن الثالث العرش ، ثم قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء ، فخلق من الأول السموات ، ومن الثاني الأرضين ، ومن الثالث الجنة والنار ، ثم قسّم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله ، ومن الثالث نورا يشهد لهم وهو التوحيد لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله الحديث.

وصح حديث : أول ما خلق الله القلم. وجاء بأسانيد متعددة : إن الماء لم يخلق قبله شيء.

ولا ينافيان ما في الأول في نور نبينا عليه‌السلام ، لأن الأولية في غيره نسبية وفيه حقيقية ، فلا تعارض. وفي حديث عن ابن القطان : كنت نورا بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام. وفي الخبر : لما خلق الله تعالى آدم جعل ذلك النور في ظهره وكان يلمع في جبينه فيغلب على سائر نوره. الحديث ».

وبمثله قال الشيخ سليمان جمل في ( الفتوحات الأحمدية في شرح الهمزية ).

قلت : وكذلك علي عليه‌السلام في كلّ ما ذكر ... فتقدم الآخرين عليه قبيح غير جائز.

وقال البوصيري :

« تتباهى بك العصور وتسمو

بك علياء بعدها علياء »

قال ابن حجر بشرحه :

« [ تتباهى ] أي تتفاخر [ بك ] أي بوجودك العصور ، أي الأزمنة الطويلة من لدن آدم إلى يوم القيامة وما بعده ، فكلّ عصر يفتخر على العصر الذي قبله

٢١١

لوجودك فيه بكمال أعلى مما قبله ولو في ضمن آبائك ، لكن أعظمها افتخارا عصر بروزك إلى هذا العالم ، ثم عصر نشأتك ، ثم عصر رضاعك ، فشق بطنك ، فتعبدك بحراء وغيره ، ثم عصر نبوّتك ، ثم عصر رسالتك ، ثم عصر هجرتك ، ثم عصر جهادك ، ثم عصر سراياك وبعوثك ، ثم عصر فتوحك ، ثم عصر دخول الناس في دين الله أفواجا ، ثم عصر حجك ، ثم عصر أتباعك على تفاوتهم إلى يوم القيامة ، كما دل عليه الحديث المشهور : لا تزال طائفة من أمتي إلخ.

فمزاياه تتزايد في كلّ عصر من أعصار حياته صلّى الله عليه وسلّم على ما قبله ، وبحسب ذلك يكون افتخار ذلك العصر على غيره ، وكذلك عصور أتباعه يتفاوت مراتبهم ومزاياهم المستمدة من مزاياه وأعمالهم المتضاعفة له تضاعفا يفوق الحصر ، لأن كل عامل متضاعف له صلّى الله عليه وسلّم بحسب عمله ، وكذلك كلّ واسطة بينه وبينه ، لأنه الدال للكل ، ومن دلّ على خير فله مثل أجر فاعله ، فكلّ فاعل بكل حال يتضاعف له بحسب تضاعف من بعده ، ويتضاعف للنبي صلّى الله عليه وسلّم بحسب تضاعف الجميع ، وهذا شيء يقصر عن إدراك كنهه العقل ، ثم عصر مقامه المحمود وشفاعته العظمى في فصل القضاء ، ثم بقية شفاعاته ، ثم عصر حوضه ، ثم عصر وسيلته التي يعطاها في الجنة ، مما لا تدرك غايته ولا تحد نهايته.

فكلّ هذه العصور تفتخر به بحسب ما يقع فيها من كماله ، لأن الأزمنة والأمكنة تتشرّف بشرف من كان فيها ، وما يكون فيها من المزايا والكمالات ، ولذا قال بعضهم : إن ليلة مولده صلّى الله عليه وسلّم أفضل من ليلة القدر ، وهو صحيح لو لا النص على خلافه ، على أن ليلة القدر من خصوصياته فتفضيلها إنما هو لأجله أيضا.

[ وتسمو ] أي تعلو وترتفع من سموت وسميت كعلوت وعليت [ بك ] أى بتلبسها بك مرتبة [ علياء ] تأنيث أعلى [ بعدها ] في الزمان والعلو مرتبة أخرى [ علياء ] أي أعلى منها.

٢١٢

أي : لك في كل عصر من العصور المذكورة مرتبة أعلى مما قبلها وأعلى منها ما بعدها وهكذا إلى ما لا نهاية له منها ، ودليل تفاوت مراتبه كما ذكر قوله تعالى ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) ولا شك أن علومه ومعارفه متزايدة متفاوتة إلى ما لا نهاية له ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله.

قال العارف القطب أبو الحسن الشاذلي : هذا غين أنوار لا غين أغيار ، أي لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان دائم الترقي ، فكان كلما توالت أنوار العلوم والمعارف على قلبه ارتقى إلى مرتبة أعلى مما هو فيه ، ورأى أن ما قبلها دونها ، فيستغفر الله تواضعا وطلبا لتزايد كماله.

وفي قول الناظم : وتسمو إلى آخره ، من المدح ما لا يخفى عظيم وقعه ، لأنه جعل تلك المراتب هي التي تسمو وترتفع بها ولم يجر على ما هو المتبادر أنه الذي يسمو ويرتفع بها ، لما هو الحق أنه تعالى خلقه في عالم الأمر على أكمل كمال يمكن أن يوجد لمخلوق ، ثم أبرزه في عالم الخلق متدرّجا في تلك المراتب ، فتتشرب به لا يتشرف هو بها لما علمت أنه كامل قبلها. فتأمل ذلك فإنه مهم دقيق غفل عنه الشارح ».

وبمثله قال صاحب ( الفتوحات الأحمدية ).

قلت : ولمّا كان علي عليه‌السلام معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع مراحله ... فإن الأعصار مفتخرة بسيدنا أمير المؤمنين أيضا ، وكلّ ما ثبت للنبي ثبت له كذلك ، وأين هذا الفضل لغيره من أصحاب رسول الله كفلان وفلان! ...

قال البوصيري :

« لك ذات العلوم من الغ

يب ومنها لآدم الأسماء »

وقال ابن حجر في شرحه :

« [ الأسماء ] مبتدأ مؤخر جمع اسم ، وهو هنا ما دل على معنى فيشمل الفعل

٢١٣

والحرف أيضا ، واحتاج الناظم إلى هذا التفضيل مع العلم به مما قبله ، لأن آدم ميّزه الله تعالى عن الملائكة بالعلوم التي علمها الله تعالى له ، وكانت سببا لأمرهم بالسجود والخضوع له بعد استعلائهم عليه بذمه ومدحهم بقولهم ( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ) إلى آخره ، فربّما يتوهم أن هذه المرتبة الباهرة لم تحصل لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم ، إذ قد يوجد في المفضول ما ليس ذلك في الفاضل.

فردّ ذلك التوهّم ببيان آدم عليه‌السلام لم يحصل له من العلوم إلاّ مجرّد العلم بأسمائها ، وأن الحاصل لنبينا صلّى الله عليه وسلّم بحقائقها ومسمياتها ، ولا ريب أن العلم بهذا أعلى وأجلّ من العلم بمجرد أسمائها ، لأنها إنما يؤتى بها لتبيين المسميات فهي المقصودة بالذات وتلك بالوسيلة وشتان ما بينهما ، ونظير ذلك أن المقصود من خلق آدم عليه‌السلام إنما هو خلق نبينا صلّى الله عليه وسلّم من صلبه.

فهو المقصود بطريق الذات وآدم بطريق الوسيلة ، ومن ثم قال بعض المحققين : إنما سجد الملائكة لأجل نور محمّد صلّى الله عليه وسلّم في جبينه ».

قلت : إنّ عليا عليه‌السلام كان مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك النور بمقتضى الأحاديث المذكورة ، فالملائكة إذا سجدت للنور الذي كانا معا منه ... وهذا يستلزم أفضليّته من غيره ، ما عدا النبي بلا ريب وشك.

البوصيري وقصيدته الهمزية

ومن المناسب أن ننقل هنا كلمة ابن حجر والشيخ سليمان بالنسبة إلى القصيدة الهمزية وناظمها ... قال ابن حجر ما ملخصه :

« وأجمع ما حوته قصيدة من مآثره صلّى الله عليه وسلّم وخصائصه ومعجزاته ، وأفصح ما أشارت إليه منظومة من بدائع كمالاته ما صاغه [ صوغ التبر الأحمر ، ونظمه نظم الدرر والجوهر ، الشيخ الامام العارف الكامل الهمام المتفنن

٢١٤

المحقق البليغ الأديب المدقق ، إمام الشعراء وأشعر العلماء وأبلغ الفصحاء وأفصح الحكماء ، الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمّد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صهناج بن هلال الصهناجي ، كان أحد أبويه من بوصير الصعيد ، والآخر من دلاص ، فركبت النسبة منهما فقيل : الدلاصيري ، ثم اشتهر بالبوصيري.

أخذ عنه : الامام أبو حيان ، والامام اليعمري ، وأبو الفتح ابن سيد الناس ، ومحقق عصره العز بن جماعة وغيرهم. وكان من عجائب الدهر في النظم والنثر ، ولو لم يكن له إلاّ قصيدته المشهورة بالبردة ، التي تسبب نظمها عن وقوع فالج به أعيى الأطباء ، ففكّر في إعمال قصيدة يتشفّع بها إليه صلّى الله عليه وسلّم ، وبه إلى ربه ، فأنشأها فرآه ماسحا بيده الكريمة فعوفي لوقته ، لكفاه ذلك شرفا وتقدما ، كيف؟ وقد ازدادت شهرتها إلى أن صارت الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد كالقرآن ] من قصيدته الهمزية المشهورة الغذبة الألفاظ الجزلة المباني ، العجيبة الأوضاع البديعة المعاني ، العديمة النظير ، البديعة التحرير ، إذ لم ينسج أحد على منوالها ، ولا وصل إلى حسنها وكمالها ، حتى الامام البرهان القيراطي المولود سنة ٧٢٦ والمتوفى سنة ٧٨٢ ، فإنه مع جلالته وتضلّعه في العلوم النقلية والعقلية ، وتقدّمه على أهل عصره في العلوم العربية والأديبة ، لا سيما علم البلاغة ونقد الشعر واتقان الصنعة وتمييز حلوه من مرّه ، ونهايته من بدايته ، أراد أن يحاكيها ففاته السبب وانقطعت به الحيل عن أن يبلغ من معارضتها أدنى أرب ، وذلك لطلاوة نظمها وحلاوة رسمها ، وبلاغة جمعها ، وبراعه صنعها ، وامتلاء الخافقين بأنوار جمالها وإدحاض دعاوي أهل الكتابين ببراهين جلالها ، فهي دون نظائرها الآخذة بأزمة العقول ، والجامعة بين المعقول والمنقول والحاوية لأكثر المعجزات ، والحاكية للشمائل الكريمة على سنن قطع أعناق أفكار الشعراء عن أن تشرئب إلى محاكات تلك المحكيات السالمة من عيوب الشعر.

لكنها ـ وإن شرحت وتعاورتها الأفكار وخدمت ـ تحتاج إلى شرح جامع ،

٢١٥

فاستخرت الله تعالى في شرح ذلك ».

وقال الشيخ سليمان :

« ومن أبلغ ما مدح به صلّى الله عليه وسلّم من النظم الرائق البديع ، وأحسن ما كشف عن كثير من شمائله من الوزن الفائق المنيع ، ما صاغه صوغ التبر الأحمر ونظمه نظم الدر والجوهر : الشيخ الإمام العارف الكامل الهمام المحقق البليغ الأديب المحقق ، إمام الشعراء وأشعر العلماء ، وبليغ الفصحاء وأفصح الحكماء ، الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمّد بن سعيد البوصيري ، من قصيدته الهمزية المشهورة ، العذبة الألفاظ الجزلة المعاني ، النجيبة الأوضاع ، العديمة النظير ، البديعة التحرير ، إذ لم ينسج على منوالها ، ولا وصل إلى حسنها وكمالها أحد.

وقد شرحت شروحا كثيرة ، فقد شرحها الامام الجوجري بشرحين ، وشرحها ابن قطيع المالكي ، والشمس الدلجي ، والشيخ أبو الفضل المالكي ، والشيخ أحمد بن عبد الحق السنباطي ، والعارف بالله تعالى السيد مصطفى البكري الصديقي ، والشيخ الفاضل فريد عصره الامام ابن حجر الهيتمي المكي ، وشرحه أحسن شروحها وأنفعها ، لكن رأيت فيه طولا تتقاصر عنه الهمم القاصرة ، فأحببت أن ألتقط منه بعض عبارات من تقرير شيخنا الحنفي ، وسميتها الفتوحات الأحمدية بالمنح المحمدية ».

٧ ـ كلّ ما للنبي من الفضل فهو ثابت لعلي

وقال البوصيري في ( البردة ) :

« وكلّ آي أتى الرسل الكرام بها

فإنما اتّصلت من نوره بهم ».

قال بدر الدين محمود بن أحمد بن مصطفى الرومي في ( تاج الدرة في شرح البردة ) :

٢١٦

« يقول : وكلّ معجزة من المعجزات التي جاء بها المرسلون عليهم‌السلام إلى أقوامهم ، وسائر الآيات الدالة على كمال فضلهم وصدق مقالهم من العلم والحكمة فيهم ، فإنهم ما اتصلت بهم وما وصلت إليهم إلاّ من نوره الذي هو أول كل نور ومبدؤه صلّى الله عليه وسلّم لقوله عليه‌السلام : أول ما خلق الله نوري.

ولا شك أن الأنبياء والرسل عليهم‌السلام كلهم مخلوقون من نور واحد ، وهو نور نبينا صلّى الله عليه وسلّم ، فأنوارهم شعب منه وفروع له ، وهو نور الأنوار وشمس الأقمار ».

وقال عصام الدين إبراهيم بن محمّد الأسفراييني في شرحه :

« والحاصل : إن أنوار سائر الرسل أثر من آثار نوره ، فمن نور محمّد نور العرش والكرسي ، ونور الشمس والقمر ، وأنوار جميع الأنبياء ، وأنوار الصحابة والتابعين ، وأنوار المسلمين والمسلمات ».

قلت : إن جميع هذه الأوصاف والمدائح الكريمة ثابتة لعلي عليه‌السلام ، لاتحاد نوره ونور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكونهما معا في الخلق والتقدم ، فهو ـ إذن ـ شريكه فيها ومثيله ... وبهذا يظهر بطلان تقدّم أحد عليه ...

وقال البوصيري :

« فإنه شمس فضل هم كواكبها

يظهرن أنوارها للناس في الظلم »

قال الرومي بشرحه ما ملخصه :

« يقول : إنما اتّصلت تلك الآيات الباهرات بهم من نوره صلّى الله عليه وسلّم ، لأنه شمس فضل الله تعالى ورحمة للناس كافة ، والرسل عليهم‌السلام كانوا مظاهر نوره وحملة سره على درجات استعداداتهم ومراتب قابلياتهم ، يظهرون أنوار حقائقه وأسرار دقائقه لأقوامهم قرنا بعد قرن ، بدعوتهم إياهم إلى تصديقه والإقرار بمجيئه ، كما أن القمر يظهر نور الشمس ويحكيه عند طلوعه في الليالي المظلمة ليكون نوره مستفادا من الشمس ، فإذا طلعت لم يبق له ظهور ولا أثر نوره. وفي هذا البيت من حسن الاستعارة ما لا يخفى ».

٢١٧

وقال العصام :

« والحاصل : إنه عليه‌السلام مثل الشمس وسائر الأنبياء مثل الكواكب ، وكأن أنورهم يتلألأ حين كان العالم في الظلمات ، فلما ظهر نوره عليه‌السلام تلاشت أنوارها.

والغرض من ذلك : إن الرسل إنما كان ينفع دينهم ما لم يظهر دينه ، فلما أظهره الله نسخ هذا الدين سائر الأديان السالفة والملل الماضية كلها ».

وقال البوصيري :

« محمّد سيد الكونين والثقلين

والفريقين من عرب ومن عجم ».

قال الرومي ما ملخصه :

« محمّد صلّى الله عليه وسلّم سيد على الإطلاق في الوجودين وأشرف العالمين ، لاختصاصه بدين هو أظهر الأديان الحقة ، وكتاب هو أفضل الكتب المنزلة ، وعترة هم أطهر العتر ، وأمة هم خير الأمم ».

وقال البوصيري :

« فاق النبيين في خلق وفي خلق

ولم يدانوه في علم ولا كرم »

قال الرومي بشرحه ما ملخصه :

« المعنى : إنه فاق جميع الأنبياء عليهم‌السلام بشرف طينته ونزاهة عنصره وكمال صفاته وفضائل ملكاته ».

وبمثله قال العصام.

وقال البوصيري :

« وكلّهم من رسول الله ملتمس

غرفا من البحر أو رشفا من الديم »

قال العصام بشرحه ما ملخصه :

« فإن قلت : هم عليهم‌السلام سابقون على النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فكيف يلتمسون غرفا من بحره؟ قلت : هم سألوا منه مسائل مشكلة في علم

٢١٨

التوحيد والصفات ، فأجاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وحلّ مشكلاتهم ، وبين يديه جرت المحاجّة بين آدم صفي الله وبين موسى كليم الله ليلة المعراج ، أو يقول الاعتبار لتقدم الروح العلوي على القالب السفلي ، وروح نبينا صلّى الله عليه وسلّم مقدّم على أرواح سائر الأنبياء. والحاصل : كلّ الأنبياء ـ من نبيّنا لا من غيره ـ استفادوا العلم وطلبوا الشفاعة ، إذ هو بحر من العلم وسحاب من الجود ، وكالأنهار والأشجار ».

ومثل الأبيات المتقدمة في الدلالة على تقدّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على آدم ، وتفوّقه على جميع الأنبياء في الصفات والكمالات قوله :

« منزّه عن شريك في محاسنه

فجوهر الحسن فيه غير منقسم »

قلت : وكلّ هذه الأبيات والكلمات التي جاءت في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منطبقة على سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لاشتراكه معه في نوره ، لأنهما من نور واحد قبل خلق آدم بمئات السنين.

فإذا كان علي أفضل من سائر الأنبياء فضلا عن غيرهم ، كانت الولاية العظمى والخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثابتة له لا لغيره ، ولوجود الاستعدادات والقابليات مجتمعة فيه لا في غيره يكون هو الإمام بعد النبي لا غيره.

٨ ـ علي أفضل الخلائق بعد النبي

قال الشيخ شهاب الدين القسطلاني في ( المواهب اللدنية ) (١) :

__________________

(١) ذكر تاج الدين الدهان في ( كفاية المتطلع ) سند رواية الشيخ حسن العجيمي لكتاب ( المواهب اللدنية ) بقوله : « كتاب المواهب اللدنية ـ للإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن محمّد القسطلاني أبو الخطيب رحمه‌الله. أخذ به عاليا ، عن الشيخ المسند العلامة إبراهيم بن محمّد الميموني ، عن الشيخ الدين محمّد بن الشيخ أحمد الرملي ، عن مؤلفه العلامة أحمد بن محمّد القسطلاني إجازة. هذا سند مسلسل بالمصريّين والشافعية ».

٢١٩

« اعلم يا ذا العقل السليم والمتصف بأوصاف الكمال والتتميم ـ وفقني الله وإيّاك بالهداية الى الصراط المستقيم ـ أنّه لما تعلّقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه وتقدير رزقه ، أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحمدية ، ثم سلخ منها العوالم كلّها علوها وسفلها على صور حكمه كما سبق في سابق إرادته وعلمه ، ثم أعلمه الله تعالى بنبوته وبشره برسالته ، هذا وآدم لم يكن إلاّ كما قال : بين الروح والجسد ، ثم انبجست منه صلّى الله عليه وسلّم عيون الأرواح ، فظهر بالملأ الأعلى وهو بالمنظر الأبلى ، فكان لهم المورد الأحلى.

فهو صلّى الله عليه وسلّم الجنس العالي على جميع الأجناس ، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس ، ولما انتهى الزمان بالاسم الباطن في حقه إلى وجود جسمه وارتباط الروح به ، انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر ، فظهر محمّد بكليّته جسما وروحا ، فهو وإن تأخرت طينته فقد عرفت قيمته ، فهو خزانة السر وموضع نفوذ الأمر ، فلا ينفذ أمر إلاّ منه ولا ينقل خبر إلاّ عنه.

ألا بأبي من كان ملكا وسيدا

وآدم بين الماء والطين واقف

فذاك الرسول الأبطحي محمّد

له في العلا مجد تليد وطارف

أتى بزمان السعد في آخر المدى

وكان له في كل عصر مواقف

أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه

أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه

إذا رام أمرا لا يكون خلافه

وليس لذاك الأمر في الكون صارف »

قلت : وكلّ هذه الفضائل ـ منثورها ومنظومها ـ متحققة لعلي عليه‌السلام أيضا لاتحاد نورهما عليهما‌السلام ... وكلّ واحدة من هذه الفضائل تفيد أفضليته من جميع الخلائق ، كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك ، وهذا كاف لإثبات قبح تقدّم غيره عليه.

٩ ـ كمالات الأنبياء مأخوذة من مشكاة النبي وعلي

قال الديار بكري :

٢٢٠