نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٥

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٠

ولقد كان على ( ابن الجوزي ) أن يقيم دليلا على حكمه أو يذكر معارضا لهذا الحديث ـ لو كان ، كما فعل بالنسبة إلى حديث سد الأبواب مثلا ، حيث حاول ردّه وتضعيفه ـ ولو كان عنده هنا شيء لذكره.

كذب دعوى الإجماع مطلقا

فظهر بطلان دعوى الإجماع في المقام ، بل عن الشافعي وأحمد بن حنبل وابن حزم الأندلسي وابن القيّم تكذيب دعوى الإجماع مطلقا ، قال الحافظ ابن حزم ما نصه :

« رحم الله أحمد بن حنبل فلقد صدق إذ يقول : من ادعى الإجماع فقد كذب. ما يدريه؟ لعل الناس اختلفوا ، لكن ليقل : لا أعلم خلافا ... هذه أخبار المرسي والأصم ».

ثم قال ابن حزم : « لا يحل دعوى الإجماع إلاّ في موضعين : أحدهما : ما يتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم عرفوه بنقل صحيح عنهم فأقرّوا به. والثاني : ما يكون من خالفه كافرا خارجا عن الإسلام ... » (١).

وقال ابن القيّم :

« وكذلك الشافعي أيضا نصّ في رسالته الجديدة على أنّ ما لا يعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع ، ولفظه لا يعلم فيه خلاف ، فليس إجماعا.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول : ما يدّعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب ... » (٢).

ترجمة ابن حزم :

ولنذكرها بعض الكلمات الواردة في ترجمة ابن حزم :

__________________

(١) المحلّى ٩ / ٦ مسألة الاقالة من كتاب البيوع ، مسألة لا يحل الحكم بالقياس من كتاب الاقضية.

(٢) إعلام الموقعين ١ / ١١.

١٦١

١ ـ قال صاحب ( المعجب ) ما ملخصه :

« كان أبو محمّد الفقيه وزيرا لعبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر الملقب بالمستطهر بالله أخي المهدي المذكور آنفا ، ثم نبذ الوزارة وأطرحها اختيارا ، وأقبل على قراءة العلوم وتقييد الأخبار والسنن ، ونال من ذلك ما لم ينله أحد قبله بالأندلس ، وكان على مذهب الامام أبي عبد الله الشافعي رحمه‌الله ، أقام على ذلك زمانا ثم انتقل إلى القول بالظاهر وأفرط في ذلك ، وله مصنفات كثيرة جليلة القدر ، شريفة المقصد في أصول الفقه وفروعه على مهيعة الذي يسلكه ومذهبه الذي يتقلده وهو مذهب داود بن علي ، بلغني عن غير واحد من علماء الأندلس أن مبلغ تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والملل والنحل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على الخالفين له نحو من أربعمائة مجلد ، وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله ، إلاّ لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري ، وهذا لا يتهيأ لمخلوق إلاّ بكرم عناية الباري تعالى وحسن تأييده له ، ولأبي محمّد ابن حزم بعد هذا نصيب وافر من علم النحو واللغة ، وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة.

وإنما أوردت هذه النبذة من أخبار هذا الرجل لأنه أشهر علماء الأندلس اليوم ، وأكثرهم ذكرا في مجالس الرؤساء وعلى ألسنة العلماء ، وذلك لمخالفته مذهب مالك بالمغرب ، وقد كثر أهل مذهبه وأتباعه عندنا بالأندلس اليوم ».

٢ ـ وذكره صديق حسن في المجتهدين قائلا ما ملخصه :

« ومنهم الامام أبو محمّد ابن حزم الظاهري ، قال : لو علمت أن أحدا على وجه الأرض أعلم مني قرآنا وحديثا لرحلت إليه.

قال الشيخ الأكبر في الفتوحات في الباب الثالث والعشرين ومائتين : غاية الوصلة أن يكون الشيء عين ما ظهر ولا يعرف أنه هو ، كما رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه وسلّم وقد عانق أبا محمّد ابن حزم المحدّث ، فغاب الواحد في الآخر فلم يزالا واحدا هو ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فهذه غاية الوصلة وهي المعبر عنها بالاتحاد ـ انتهى.

١٦٢

ولم تحصل تلك الوصلة لابن حزم إلاّ من جهة اعتصامه بالسنّة وانتصارها وصلابته في التمسك بها ... » (١).

قوله :

« وفي إسناده ( محمّد بن خلف المروزي ) قال يحيى بن معين : هو كذاب وقال الدار قطني : متروك ولم يختلف أحد في كذبه.

ويروى من طريق آخر ، وفيه : ( جعفر بن أحمد ) وكان رافضيا غاليا كذابا ، وضاعا ، وكان أكثر ما يضع في قدح الأصحاب وسبّهم ».

أقول :

لا يخفى على الباحث المحقق عدم وقوع ( محمّد بن خلف ) في شيء من أسانيد هذا الحديث أصلا ، كما سنوضحه إن شاء الله ، كما أن ( جعفر بن محمّد ) ليس من رواته في طرق الشيعة.

وكأن ( الدهلوي ) وسلفه قصدوا من وراء هذه الدعوى الكاذبة حصر هذا الحديث المشهور بسندين ، ثم أتوا على كل منهما بطعن يسقطه عن الاعتبار ، ليفقد ـ بالتالي ـ مكانته المرموقة في الأحاديث التي يستند إليها الشيعة في إثبات إمامة أمير المؤمنين وخلافته بعد رسول الله سلام الله عليهما.

إن من تتبع طرق هذا الحديث المستفيض المعتبر ـ والذي أثبت صحته الحافظ شمس الدين سبط ابن الجوزي ـ بل المقطوع بصدوره ، يعلم أن الرجلين المذكورين ليسا من رجال هذا الحديث في أسانيد كبار أئمة الحفاظ والأئمة ، كأحمد ، وابنه عبد الله ، وابن المغازلي ، والخطيب الخوارزمي ، والنطنزي ، والعاصمي ، والحمويني ...

__________________

(١) الجنة في الاسوة الحسنة بالسنة ـ في ذكر المجتهدين.

١٦٣

على أن من المسلّم بينهم أن ورود حديث صحيح بطريق آخر ـ فرض فيه شيء من الضعف ـ يفيده زيادة في القوة سندا ودلالة.

فظهر أن القادح في حديث النور بظن وقوع أحد الرجلين فيه إما مكابر مختبط ، أو أعفك سفيه.

منشأ الغلط

ثم إن منشأ هذا الغلط هو : أنّه لما نقل ( العلاّمة الحلي ) هذا الحديث عن أحمد وابن المغازلي في كتابه ( نهج الحق وكشف الصدق ) وجد ابن روزبهان صاحب ( الباطل ) نفسه عاجزا عن الجواب ، فاحتال حيلة فاضحة وقال :

« ذكر ابن الجوزي هذا الحديث بمعناه في كتاب ( الموضوعات ) وقال : هذا الحديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والمتهم به في الطريق الأول : محمّد بن خلف المروزي. قال يحيى بن معين : كذّاب ، وقال الدار قطني :

متروك. وفي الطريق الثاني المتّهم به : جعفر بن احمد ، وكان رافضيا كذابا يضع الحديث في سبّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ انتهى ».

ويتضح نتيجة المقارنة ـ بين كلام العلامة وكلام ابن روزبهان ـ أن ( ابن روزبهان ) لم يدّع وقوع أحد من الرجلين المذكورين في سند الحديث الذي نقله ( العلامة ) ، بل نقل كلام ( ابن الجوزي ) ليوهم الناظرين أن الحديث المذكور في ( نهج الحق ) موضوع كذلك.

هذا كلام ( ابن روزبهان ) ، وجاء بعده ( الكابلي ) ، الآخذ أكثر ما عنده منه ، فقال :

« وهو باطل لأنه موضوع بإجماع أهل الخبر ، وفي إسناده محمّد بن خلف المروزي ، قال يحيى بن معين هو كذاب ، وقال الدار قطني : متروك ولم يختلف أحد في كذبه.

ويروى من طريق آخر وفيه جعفر بن أحمد ، وكان رافضيا غاليا كذابا ،

١٦٤

وضاعا ، وكان اكثر ما يضع في قدح الصحابة وسبّهم » (١).

فزاد الكابلي كلمة « لأنه موضوع بإجماع أهل الخبر » ، وغيّر العبارة ليوهم أن هذا الرجل قد وقع في هذا الحديث بعينه.

وجاء ( الدهلوي ) المنتحل لعبارات ( الكابلي ) ، فزعم ذلك مع تغيير يسير في دعوى الإجماع.

نص عبارة ابن الجوزي وبيان تصرفاتهم فيها

وبعد ... فالحديث الذي وقع في إسناده ( محمّد بن خلف المروزي ) غير حديث النور الذي نبحث عنه ، فإن لفظه : « خلقت أنا وهارون بن عمران ويحيى ابن زكريا وعلي بن أبي طالب من طينة واحدة » ... وإن كنت في ريب من ذلك فإليك نص عبارة ابن الجوزي ... فإنه قال في فضائل علي عليه‌السلام من كتابه :

« الحديث الأول في ما خلق منه علي بن أبي طالب :

أخبرنا أبو منصور القزاز قال : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال : أخبرني علي بن الحسن بن محمّد الدقاق ، قال : ثنا محمّد بن إسماعيل الوراق قال : ثنا إبراهيم ابن الحسين بن داود القطان قال : ثنا محمّد بن خلف المروزي ، ثنا موسى ابن ابراهيم ، ثنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جدّه قال : رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : خلقت أنا وهارون بن عمران ويحيى بن زكريا وعلي بن أبي طالب من طينة واحدة.

هذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والمتهم به : المروزي : قال يحيى بن معين هو كذاب ، وقال الدارقطني : متروك ، وقال ابن حبان : كان مغفلا يلقن فيتلقن فاستحق الترك.

وقد روى جعفر بن أحمد بن بيان عن محمّد بن عمر الطائي ، عن أبيه ، عن

__________________

(١) الصواقع ـ المطلب الرابع.

١٦٥

سفيان عن داود بن أبي هند ، عن الوليد بن عبد الرحمن ، عن نمير الحضرمي ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : خلقت أنا وعلي من نور وكنا عن يمين العرش قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام ، ثم خلق الله آدم ، فانقلبنا في أصلاب الرجال ، ثم جعلنا في صلب عبد المطلب ، ثم اشتق أسماءنا من اسمه ، فالله محمود وأنا محمّد ، والله الأعلى وعلي علي.

قال المصنف : هذا وضعه جعفر بن أحمد ، وكان رافضيا يضع الحديث ، قال ابن عدي : كان يتيقن أنه يضع » (١).

فعلم من هذا ما يلي :

١ ـ إن دعوى وقوع ( محمّد بن خلف المروزي ) في طريق حديث النور كاذبة.

٢ ـ إنه نسب إلى ( جعفر بن أحمد ) وضع الحديث ، وابن روزبهان أضاف جملة « في سبّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ».

٣ ـ إن ابن روزبهان أضاف كلمة : « كذابا ».

٤ ـ إن الكابلي أضاف إلى ما تقدم : « غاليا وضاعا ».

٥ ـ إن الكابلي أضاف كلمة : « وكان أكثر ما يضع في قدح الصحابة وسبّهم ».

٦ ـ إن الكابلي أضاف ذلك كلّه أيضا كلمة : « ولم يختلف أحد في كذبه ».

فهذه زيادات : [ أربع ] من ( الكابلي ) و [ اثنتان ] من ( ابن روزبهان ) شاركه فيهما ( الكابلي ) ... وليس لها وجود في كلام ( ابن الجوزي ).

كما علم أيضا :

١ ـ إن ( ابن روزبهان ) نقل عن ( ابن الجوزي ) حكمه بأن ( ابن خلف ) كان وضاعا للحديث ، ولكن ( الكابلي ) لم يذكر ( ابن الجوزي ) لئلاّ يتعقّب عليه.

__________________

(١) الموضوعات ١ / ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

١٦٦

٢ ـ إن ( الكابلي ) نسب الحكم بوضعه إلى « إجماع أهل الخبر » بدل أن ينسبه إلى ( ابن الجوزي ).

٣ ـ إن ( الدهلوي ) ذكر : « اجماع أهل السنة » بدل « إجماع أهل الخبر ».

نظرة في كلام ابن الجوزي :

لقد جاء في عبارة ( الموضوعات ) عن ( ابن حبان ) قوله في ( المروزي ) « إنه كان مغفلا يلقن فليتلقّن فاستحق الترك ». وهذا صريح في أنه لم يكن يتعمّد الوضع والكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى هذا يبطل ما نقله عن ( ابن معين ) من أنه « كذاب » ، إذ لا وجه لرميه بالكذب بالنظر لما قاله ( ابن حبان ).

على أن أئمة أهل السنة قد صنعوا وشنّعوا على ( ابن معين ) ، لكثرة تحامله على الناس ، فيجب التوقف عند جرحه ، كما جاء في كتاب ( مناقب الشافعي ) للفخر الرازي في الكلام على ما كان منه بالنسبة إلى ( الشافعي ).

السمعاني

المروزي صدوق عند السمعاني

ثم إنه قد نصّ السمعاني على أن ( المروزي ) كان صدوقا ... وهذا كلامه :

« فأمّا ببغداد درب يقال له ( درب المروزي ) أو ( محلة المراوزة ) ، وظني أنها من الكرخ. ومن هذه المحلة : أبو عبد الله محمّد بن خلف بن عبد السّلام الأعور المروزي ، لأنه كان يسكن هذه المحلة ، روى عن : يحيى بن هاشم السمسار ، وعاصم بن علي ، وعلي بن الجعد.

روى عنه : أبو عمرو عثمان بن احمد بن السماك ، وعبد الصمد بن علي الطيبي ، وأبو بكر محمّد بن عبد الله الشافعي.

وكان صدوقا. مات في سنة إحدى وثمانين ومائتين » (١).

__________________

(١) الأنساب ـ المروزي.

١٦٧

المروزي صدوق عند الخطيب ، ولا بأس به عند الدار قطني

كما وثّقه الحافظ الخطيب البغدادي ، ونصّ على أنه كان صدوقا ، وأضاف « ذكره الدار قطني وقال لا بأس به » وهذا كلامه :

« محمّد بن خلف بن عبد السّلام الأعور ، يعرف بالمروزي لأنه كان يسكن محلّة المراوزة ، حدّث عن : عاصم بن علي ، وعلي بن جعد ، وموسى بن ابراهيم المروزي وغيرهم.

روى عنه : أبو عمرو ابن السماك ، وأبو العباس بن نجيح ، وعبد الصمد الطيبي ، وأبو بكر الشافعي وغيرهم.

وكان صدوقا ، ذكره الدار قطني وقال : لا بأس به ، ونقل عن ابن قانع أنه مات سنة ٢١٨ » (١).

هذا بالإضافة إلى أنه من شيوخ أبي بكر الشافعي ، وابن السماك ، وابن نجيح وعبد الصمد الطيبي ... وهم من كبار أئمة أهل السنة.

فالحق : أنه كان صدوقا لا كما عن ( ابن معين ). وأن ( الدار قطني ) نفى عنه البأس ، لا أنه تركه كما زعموا. بل لقد أضاف ( الكابلي ) و ( الدهلوي ) « عدم الاختلاف في كذبه » ، فإن أرادا أنه قاله الدارقطني ففرية فاحشة ، وإن قالاه من عند أنفسهما فبطلانه أوضح وأظهر.

حديث « المروزي » أخرجه الخطيب وابن عساكر وقال الكنجي : « حديث حسن »

ومما يزيد في بطلان كلام هؤلاء وضوحا نص الحافظ الكنجي ـ بعد رواية حديث المروزي عن الحافظين ابن عساكر والخطيب ـ على أنه « حديث حسن » وهذا كلامه :

__________________

(١) تاريخ بغداد ٥ / ٢٣٥.

١٦٨

« أخبرنا يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقي بحلب ، والحافظ محمّد بن محمود بن الحسن النجار ببغداد ، والحافظ خالد بن يوسف النابلسي بدمشق : قالوا : أخبرنا الإمام أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي بدمشق ، أخبرنا القزاز ، أخبرنا الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطب ، أخبرني أبو القاسم علي بن عثمان الدقاق ، حدّثنا محمّد بن إسماعيل الورّاق ، حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن الحسين ابن داود القطان سنة ٣١١ إحدى عشرة وثلاثمائة ، حدّثنا محمّد بن خلف المروزي ، حدّثنا موسى بن إبراهيم المروزي ، حدّثنا موسى بن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عن جدّه قال :

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : خلقت أنا وهارون بن عمران ويحيى ابن زكريا وعلي بن أبي طالب من طينة واحدة.

قلت : هذا حديث حسن. هكذا رواه حافظ العراق في كتابه ، وتابعه محدّث الشام ، كما أخرجنا سواء » (١).

أقول : أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه بترجمة ابراهيم بن الحسين القطّان (٢) وتابعه ابن عساكر حيث أخرجه من طريقه فقال :

« أخبرنا أبو الحسن بن قبيس وأبو منصور بنخيرون ، أنبأنا أبو بكر الخطيب ، أخبرني أبو القاسم علي بن أبي (٣) عثمان الدقاق ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن الحسين بن داود القطّان ... » (٤).

* * *

__________________

(١) كفاية الطالب ٣١٩.

(٢) تاريخ بغداد ٦ / ٥٩.

(٣) كذا.

(٤) ترجمة علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق ١ / ١٢٥.

١٦٩
١٧٠

دحض المعارضة بحديث الشافعي في فضل الخلفاء

١٧١
١٧٢

قوله :

« وعلى تقدير صحته فإنّه معارض بما هو أحسن منه في الجملة ، وليس في إسناده من اتّهم بالكذب ، وهو : ما رواه الشافعي بإسناده إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألف عام ، فلمّا خلق أسكناه ظهره ، ولم نزل ننتقل في الأصلاب الطاهرة حتى نقلني الله إلى صلب عبد الله ، ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة ، ونقل عمر إلى صلب الخطاب ، ونقل عثمان إلى صلب عفان ، ونقل عليا إلى صلب أبي طالب ».

أقول :

هذه المعارضة باطلة لوجوه :

١ ـ قوله « في الجملة »

قوله : « في الجملة » ظاهر في أن هذا الحديث أحسن من حديث النور ـ

١٧٣

الذي زعم انحصار روايته في طريقين ـ في الجملة ، لا من جميع الوجوه.

إذن هذا الحديث قاصر عن المعارضة سندا ، لو سلّم الانحصار المزعوم.

٢ ـ لا يعارض ما لا سند له ما رواه الأئمة

إن رواية أكابر علماء أهل السنة ونصوصهم تثبت صحة حديث ( النور ) ، فلا يلتفت إلى دعوى معارضته بحديث عار عن السند ، ولم يعرف رواته لنرى هل هم ثقات أو لا ...

٣ ـ نصّ بعضهم على ضعفه

لقد نص القاضي ثناء الله ( وهو باعتراف الدهلوي كما في إتحاف النبلاء : بيهقي زمانه في الحديث ) بعد أن نقل حديث النور وعارضه بحديث الشافعي ـ على ضعف هذا الحديث فقال ما ترجمته :

« وهذا الحديث وإن كان ضعيفا إلاّ أنه ليس في إسناده من يتّهم بالكذب » (١). والجدير بالإشارة هنا : أن ( الكابلي ) اكتفى بالقول : « ليس في إسناده من يتهم بالكذب » واكتفى ( الدهلوي ) بقوله « في الجملة » ... كلّ ذلك لئلاّ يصرحا بضعفه ولا يعترفا بالحق ...

٤ ـ استدلال الدهلوي به يخالف ما التزم به

لقد قال ( الدهلوي ) ما ملخصه :

« إن القاعدة المقررة لدى أهل السنة هي : أن كلّ حديث ورد في كتاب لم

__________________

(١) سيف مسلول ، الحديث الثامن.

١٧٤

يلتزم صاحبه فيه بالصحة ـ كما فعل البخاري ومسلم وسائر أرباب الصحاح ـ فإنه غير صالح للاحتجاج » (١).

ورواية الشافعي ـ هذه ـ لم نجدها في كتاب هذا شأنه ، كما أنه لم ينص الشافعي ـ ولا غيره ـ على صحته بالخصوص.

فلم هذا السهو والذهول والخروج على القاعدة المقررة؟ وهل أنها محكّمة في ردّ فضائل علي عليه‌السلام ومرفوضة عند البحث في الروايات المزعوم ورودها في حق غيره؟

٥ ـ ما لا سند له لا يصغى إليه

قال ( الدهلوي ) في الجواب عما طعن به أبو بكر من تخلّفه عن جيش أسامة وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لعن الله من تخلّف عنه » ما ملخصه :

« إن الحديث المعتبر لدى أهل السنة هو ما روي في كتب المحدثين المسندة مع الحكم بالصحة ، وأما الحديث العاري عن السند فلا يصغون إليه أبدا » (٢).

وحديث الشافعي ليس في الكتب المسندة التي ذلك شأنها ... فهو غير قابل للاستناد إليه ، كما أنه مرسل لا سند له ... فكلّ حديث لم يذكر سنده فلا يصغى إليه ـ على حد تعبيره ـ وحينئذ لا يكفي القول بأن الشافعي رواه بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا سيما مع عدم معرفة الكتاب الذي رواه فيه.

٦ ـ لا يجوز الاحتجاج به

ذكر ( الدهلوي ) في كتابه ( التحفة ) بأنه « قد التزم فيه بالنقل عن كتب

__________________

(١) التحفة : ٢١٣.

(٢) التحفة : ٢٦٦.

١٧٥

الشيعة خاصة ، مستندا إلى رواياتهم الصحيحة في كتبهم المعتبرة » (١) و « إن روايات كلّ فرقة لا تكون حجة على الفرقة الأخرى » (٢).

٧ ـ لا يصح إلزام الخصم به

لقد صرّح ( والد الدهلوي ) بما ملخصه :

« لا تصح المناظرة مع الامامية والزيدية بأحاديث الصحيحين فضلا عن غيرها » (٣).

وعلى هذا أيضا يسقط احتجاج ( الدهلوي ) بالحديث المذكور.

٨ ـ جواز ردّه حتى لو كان مسندا

وذكر رشيد الدين الدهلوي ما ملخصه :

« إن كل فرقة تذعن بالروايات المروية من طرقها وتقدح في الروايات المروية من طرق الفرقة المخالفة لها » (٤).

وعلى ضوء هذا ، فإن للإمامية ردّ هذا الحديث ولو تم سنده.

وأما الفوائد الأخرى المستفادة من هذه الكلمات ، فلا تخفى على المتتبع الفطن.

٩ ـ النص الكامل لهذا الحديث

ثم إنّ الأصل في نقل هذا الحديث الموضوع هو ( الملا عمر ) المنهمك في

__________________

[ ١ ـ ٢ ] التحفة الاثنا عشرية : ٢.

(٣) قرة العينين ـ خاتمة الكتاب.

(٤) شوكت عمريه ـ مقدمة الكتاب.

١٧٦

فضائل الخلفاء ، وأخذه عنه ( المحب الطبري ) و ( صاحب الاكتفاء ) و ( ابن حجر المكي ) ... وهذا نص عبارة المحب الطبري :

« ذكر أنهم ـ أي الخلفاء الأربعة ـ والنبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا قبل آدم ، ووصف كل منهم بصفة ، والتحذير من سبّهم :

عن محمّد بن إدريس الشافعي ، بسنده إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أنوارا علي يمين العرش قبل أن يخلق آدم بألف عام ، فلمّا خلق أسكنا ظهره ، ولم نزل ننقل في الأصلاب الطاهرة ، إلى أن نقلني الله إلى صلب عبد الله ، ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة ، ونقل عمر إلى صلب الخطاب ، ونقل عثمان إلى صلب عفان ، ونقل عليا إلى صلب أبي طالب ، ثم اختارهم لي أصحابا ، فجعل أبا بكر صديقا وعمر فاروقا وعثمان ذا النورين وعليا وصيا ، فمن سبّ أصحابي فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله أكبّه الله في النار على منخريه.

أخرج الحافظ عمر بن خضر في سيرته » (١).

وتجده بهذا اللفظ في ( الاكتفاء ) و ( الصواعق المحرقة ).

تصرفات الجماعة في الحديث

لقد ذكرنا نص الحديث ... وكأن واضعه لم يقصد ـ من وضعه إيّاه ـ إلاّ جعل فضيلة للمشايخ الثلاثة ، لكنه ـ مع ذلك ـ لم ترك ذكر سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فذكره ووصفه بالوصاية ، كما جعل لكل من أولئك وصفا.

لكن الجماعة كالكابلي و ( الدهلوي ) تصرّفوا فيه ... ونحن ننبه على ذلك بالتفصيل :

١ ـ لقد أسقط ( الكابلي ) جملة « أنوارا على يمين العرش » أما ( ابن حجر ) فقد أسقط كلمة « أنوارا » وترك الباقي وجعل خبر ( كان ) قوله : « قبل أن يخلق » ،

__________________

(١) الرياض النضرة ١ / ٤٤.

١٧٧

لكنّ ( الدهلوي ) لما رأى بشاعة العبارة وتفككها جعل بدل ذلك لفظ « بين يدي الله تعالى » ، وجاء ( القاضي ) فتركها على علتها فلا « أنوارا » ولا « بين يدي الله تعالى ».!.!

٢ ـ لقد وجد ( الكابلي ) الحديث يشتمل في ذيله على لفظة « وعليا وصيا » الدالة على وصاية أمير المؤمنين عليه‌السلام وخلافته ، فالتجأ ـ في سبيل إسقاطها ـ إلى إسقاط الذيل بكاملة طردا للباب.

وعلى هذا التدليس مشى كل من ( القاضي ) و ( الدهلوي ).

ثم لما ذا لم يذكر ( الكابلي ) الملاّ عند نقله للحديث؟

إنه لم يذكره لأمرين ... وهما :

أ ـ إنه لو ذكره وصرّح بنقله عنه لدل ذلك على اعتماده عليه والركون إلى رواياته ، وهذا يضرّه من جهات أخرى ، فإن ( الملاّ ) ممن روى حديث ( الطير ) وحديث ( التشبيه ) في سيرته ، و ( الكابلي ) يسعى في ردّهما وإبطالهما.

مع أنه ينقل عنه لدى الجواب عن الاستدلال بآية المودة أكاذيب غريبة في فضل أبي بكر.

ب ـ إنه يقصد بذلك إظهار طول باعه وسعة اطلاعه لأتباعه ، حتى يظنوا أنه قد عثر على أصل ( كتاب الشافعي ) ونقل عنه رأسا وبدون واسطة ( الملاّ ).

بالمناسبة

ولقد قال ( الدهلوي ) : « المطعن السابع : حديث مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أيّ قوم أنتم؟

قال عبد الرحمن بن عوف : كما أمرنا الله تعالى.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : كلا بل تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ».

قال : « والجواب عنه : إن للحديث ذيلا قد حذف واقتصر منه على مورد

١٧٨

الطعن ، مع أن الذيل يوضّح المراد ويدفع الطعن ، لكنه قد أسقط ، وهذا من قبيل تمسك الملحد بكلمة ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ).

وسرقة الأحاديث في مثل هذا الموضع في غاية القبح.

وهذا هو الذيل : ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض » (١).

أقول : فكيف ارتكب ( هو ) نفسه و ( القاضي ) تبعا ( للكابلي ) بالنسبة إلى بعض الأحاديث الأخرى ... كالحديث الذي روياه عن ( أمالي (٢) السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه ) فتصرّفا فيه ، وذكره ( الدهلوي ) مبتورا عند الجواب عن حديث القرطاس ...

وأما انتحاله ( الصواقع ) في ( التحفة ) و ( مقاليد الأسانيد للثعالبي ) في ( بستان المحدثين ) و ( تفسير المهائمي ) في تفسيره ( فتح العزيز ) فمعروف ...

ثم من الذي أسقط ذيل الحديث السابق؟!

أما علماء الشيعة فقد نقلوه بتمامه من غير أن ينقصوا منه شيئا ، ففي ( كشف الحق للعلامة الحلي ) و ( الطرائف للسيد ابن طاوس الحلي ) ما نصه :

« روى الحميدي في ( الجمع بين الصحيحين ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الحادي عشر من أفراد مسلم ، قال : إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أيّ قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن ابن عوف : نكون كما أمرنا رسول الله ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : كلا ، بل تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون. وفي رواية : ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض ».

ثم قال العلامة : « وهذا ذم منه عليه‌السلام لأصحابه » (٣).

وقال السيد ابن طاوس بعد نقله الحديث :

__________________

(١) التحفة / ٣٤٢.

(٢) الامالي ١ / ٧٧.

(٣) نهج الحق وكشف الصدق : ٣٢١.

١٧٩

« أنظر رحمك الله عز وجل إلى ما قد شهدوا به من ذم نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه ، فكيف يستبعدون من قوم يكونون بهذه الصفات أن يخالفوا نبيهم في الحياة وبعد الوفاة » (١).

وكيف يحذفونه وهو لا ينافي مطلوبهم؟

هذا ... على أن هذه الزيادة جاءت في لفظ آخر عند مسلم ، فإنه قد روى الحديث مرة بدونها ، وأخرى معها ، وعليه فلا مجال للطعن على السيد والعلامة لو لم يذكراها ...

كما أن ( الكابلي ) أضاف الذيل قائلا : « وفي رواية ... » (٢).

١٠ ـ من تحكّماتهم في المقام

زعمهم عدم وجود « من يتّهم بالكذب » في إسناده تحكم محض ، نعم لو ذكروا رجاله ثمّ وثّقوهم بكلمات علماء الرجال لكان لما ذكروا وجه.

١١ ـ النظر في وثاقة الشافعي

ثم إن في وثاقة الشافعي وعدالته وجوها من النظر ، ونحن نكتفي هنا بالاشارة إلى بعضها :

١ ـ إنه أثنى على شيخه ( مالك ) وقال : « إذا ذكر أهل الأثر فمالك النجم » (٣). وقال : « كان مالك إذا شك في شيء من الحديث ترك كلّه » وقال : « لو لا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز » إلى غير ذلك.

وهو مع ذلك خالفه في كثير من المواضع ، وردّ عليه ، وانتقده ... وهذا

__________________

(١) الطرائف ـ مبحث ما خالف فيه الصحابة رسول الله «ص».

(٢) الصواقع ـ في ذكر مطاعن الصحابة.

(٣) مناقب الشافعي ـ الفصل الثالث من الكتاب.

١٨٠