العدّة في أصول الفقه - المقدمة

العدّة في أصول الفقه - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

١
٢

٣

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين

الشيخ الطوسي ـ حياته وآثاره (١)

هو أبو جعفر ، محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ، ولد بمدينة «طوس» في شهر رمضان عام ٣٨٥ ه‍ ، وكانت طوس في تلك الأزمنة إحدى مراكز العلم المهمة في خراسان. ونسبته إلى طوس ترجع إلى ولادته ـ على الأرجح ـ بها وقضاء عقدين من عمره فيها.

__________________

(١) انظر ـ في ترجمة ـ كتباً كثيرة من أهمها :

الفهرست للطوسي : ١٦١ ـ ١٥٩ ، رجال النجاشي : ٤٠٣ رقم ١٠٦٨ ، التبيان في تفسير القرآن للطوسي : ج ١ ـ المقدمة ، رجال ابن داود : ١ ـ ٣٠٦ ، الكنى والألقاب : ٢ ـ ٣٦٣ ، كتاب الغيبة للطوسي : ٣٥٨ ، الفوائد الرضوية : ٤٧٢ ، تحفة الأحباب : ٣٢٥ ، عيون الرّجال : ٧٤ ، خلاصة الأقوال : ٧٢ ، مقابس الأنوار : ٤ ، رجال بحر العلوم : ٤ ـ ٩٥ ، خاتمة المستدرك : ٥٠٥ ، تنقيح المقال : ٣ ـ ١٠٤ ، منهج المقال : ٢٩٢ ، لؤلؤة البحرين : ٥٩٣ ، سفينة البحار : ٢ ـ ٩٧ ، منتهى المقال : ٢٧٠ ـ ٢٦٩ ، الحديقة الرضوية : ١٨ ، موسوعة العتبات : قسم النجف ٢ ـ ٢٣ ، وصول الأخيار : ٧١ ، تلخيص الشافي : المقدمة ـ ٦ ، ريحانة الأدب : ٢ ـ ٤٠٠ ، مجالس المؤمنين : ٢٠١ ، الأربعين حديثاً للشهيد الأول : ١٩٠ ـ ١٨٧ ـ ١٨٢ ، الشيخ الطوسي لحسن عيسى الحكيم ، ميراث إسلامي إيران : ٢ ـ ٣٦٢ ـ ٤١٢ ، الذريعة : ٢ ـ ١٤ ، ٢٦٩ ، ٤٨٦ ، و ٣ ـ ٣٢٨ و ٥ ـ ١٤٥ ، إتقان المقال ، نخبة المقال للبروجردي ، كشف الحُجُب : ٣٥ ، ٤٣ ، ١٩٦ ، ٢٦٥ ، ٣١٠ ، ٣١٣ ، ٣٣٢ ، ٣٥٣ ، ٣٥٧ ، ٣٨٣ ، ٥٣٤ ،

٥

وتَعتبر الشيعة الشيخ الطوسي ـ رحمه‌الله ـ أعظم شخصية علمية بعد الأئمة المعصومين عليهم‌السلام وهو من أعلام الفكر الإِسلامي في أزهى عصوره وأبهاها ، ومن النوابغ الذين أحاطوا بمجموعة من العلوم بلغ منتهاها وغايتها ، وقد أقرّ له الجميع بالسبق ، والقِدم ، والفضل ، وعُلوّ الرُّتبة ، والإِمامة ، والزعامة ، ولا تُطلق صفة (شيخ الطائفة) بل مطلق (الشيخ) إلّا عليه ، وقد وصفه أعلام الإِمامية بنعوت شتّى وصفات قلّ أنْ اجتمعت في غيره ، فقيل فيه : إنّه (شيخ الإمامية ووجههم ورئيس الطائفة) ، و (امام وقته ، وشيخ عصره ، رئيس هذه الطائفة وعمدتها ، بل رئيس العلماء كافة) ، و (شيخ الطائفة ، ورئيس المذهب ، إمامٌ في الفقه والحديث) ، و (رئيس المذهب ، شيخ الطائفة ، قدوة الفرقة الناجية ، وباني مباني كلّ علم وعمل) ، و (إمام الفقه والحديث والتفسير والكلام ، لا نظير له في كلّ علماء الإسلام في كلّ فنون العلم ، وصنّف كتباً لم يسبقه أحدٌ

__________________

٥٣٩ ، ٥٤٦ ، ٥٨١ ، ٥٨٥ ، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ ـ ٣١٧ ، مجلة النجف : عدد ٥ ـ ٣ ، مجلة الإيمان : عدد ٣ و ٤ ـ ١٣٥ ، مجلة رسالة الإسلام : عدد ١ و ٢ ـ ٨٦ ، تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٣٠٤ ، الذكرى الألفية للشيخ الطوسي : ج ١ و ٢ و ٣ ، تلخيص مجمع الآداب : ٤ ق ٢ ص ٨١٥ ، معجم المؤلفين : ٩ ـ ٢٠٢ ، طبقات الشافعية : ٣ ـ ٥١ ، البداية والنهاية : ١٢ ـ ١٠٤ ، النجوم الزاهرة : ٥ ـ ٨٢ ، لسان الميزان : ٥ ـ ١٣٥ ، الوافي بالوفيات : ٢ ـ ٣٤٩ ، طبقات المفسرين للسيوطي : ٢٩ ، كشف الظنون : ٤٥٢ ، ١٥٨١ و ١٩٧٣ ، إيضاح المكنون : ١ ـ ٢٢٣ ، ٣١٨ ، ٣٤١ ، ٦٠٤ و ٢ ـ ٩٥ ، ٢١٢ ، ٢٦٦ ، ٢٧٦ ، ٢٨٦ ، ٣٣٥ ، ٤٢٤ ، ٤٥٤ ، ٥٧٣ ، ٧٢٢ ، هدية العارفين : ٢ ـ ٧٢ ، دائرة المعارف الإسلامية : ١٥ ـ ٣٧٦ ، عقيدة الشيعة : ٢٨٥ ، دائرة المعارف للبستاني : ٤ ـ ٢٤٠ ، المنتظم : ٨ ـ ١٧٣ ، الكامل لابن الأثير : ١٠ ـ ٥٨ ، تاريخ الإسلام للذهبي : القرن الخامس ، طبقات الشافعية للسبكي : ٤ ـ ١٢٧ ـ ١٢٦ ، طبقات المفسرين للداودي : ٢ ـ ١٢٦ ، شرح اللمع : ١ ـ ٢٨ ، الاعلام للزركلي : ٦ ـ ٨٥ ـ ٨٤ ، سير أعلام النبلاء : ١٨ ـ ٣٣٤.

٦

في الإسلام إلى مثلها) ، و (كان في زمانه المُجمع على فضله ، وإليه الرحلة من جميع البلاد).

نبدأ حديثنا عن الشيخ الطوسي :

أولا : عن حياته ، وذلك عن ثلاث مراحل هامة في حياته وهي :

١ ـ فترة خراسان

٢ ـ فترة إقامته ببغداد : وفي هذه المرحلة نتحدث عن مشايخه ، وزعامته ، والأوضاع الاجتماعية والسياسية ببغداد في النصف الأول من القرن الخامس الهجري ، وعن خصائص مدرسته ببغداد.

٣ ـ الشيخ الطوسي في النجف الأشرف

٤ ـ تلاميذ الشيخ الطوسي

ثانياً : تراث الشيخ الطوسي

ثالثاً : دراسة حول كتاب (العُدّة في أُصول الفقه)

١ ـ دور الشيعة في تأسيس علم أُصول الفقه

٢ ـ مراحل تطور علم أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية

٣ ـ الشيخ الطوسي ودوره في تطوير علم أُصول الفقه

٤ ـ منهج الشيخ الطوسي في تدوين كتاب (العُدّة في أُصول الفقه)

٥ ـ مخطوطات كتاب (العُدّة في أُصول الفقه)

رابعاً : عملنا في التحقيق

٧
٨

أولاً : حياة الشيخ الطوسي ـ رحمه‌الله ـ

١ ـ الطوسي في خراسان

لا نمتلك معلومات تفصيلية عن حياة الطوسي في الفترة التي عاش فيها في خراسان ، بل الطوسي نفسه لم يتعرض إلى هذه الفترة من حياته ـ والتي دامت مدة ثلاث وعشرين سنة ـ سوى أنه أشار لسنة دخوله إلى بغداد بقوله : (... من وقت دخولي إلى بغداد وهي سنة ثمان وأربعمائة) (١) ، وسوى هذه الإِشارة لا نعرف كيف قضى الطوسي حياته خلال مدة ثلاث وعشرين سنة ، ولا شك أنّه ـ وبمقتضى القاعدة ـ قضاها في طوس وسائر مدن خراسان ، ذلك الإِقليم الواسع الّذي أنجب كثيراً من المفكرين وينسب إليه خلق كثيرٌ من العلماء في كل فن ، ولم يتعرض المترجمون لحياة الطوسي في هذه الفترة إلّا إلى إشارة عابرة ، واحتملوا أنه درس فيها علوم اللغة والأدب والحديث وعلم الكلام وشيئاً من الفقه والأُصول على

__________________

(١) كتاب الغيبة : ٣٥٨.

٩

مشايخ خراسان ، وأول من تنبه إلى أهمية هذه الفترة هو العلامة السيد عبد العزيز الطباطبائي ـ رحمه‌الله ـ فانه تتبع مشايخ الطوسي فعثر على ثلاثة منهم تتلمذ عليهم الشيخ الطوسي في نيشابور ومشهد وطوس (١). وهكذا ظهر أنّ الشيخ قضى فترةً من حياته العلمية في نيسابور وطوس ، وقد كانتا حاضرتين من حواضر العلم المهمة في خراسان. وتبرز أهمية حضور الطوسي في نيسابور ومدى تلقيه العلم بها أنّه حينما هاجر إلى بغداد كان يملك قسطاً وافراً من العلوم الإسلامية بحيث مكّنه من الجلوس في مجالس العلم المهمة ببغداد.

وهؤلاء المشايخ الثلاثة هم :

١ ـ أبو حازم النيسابوري (؟ ـ ٤١٧ ه‍):

هو أبو حازم ، عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس بن علي بن عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، العبدوي ، الهذليّ ، الأعرج النيسابوري ، الأشعري ، الشافعي. وصفه الخطيب البغدادي بقوله : (قدم بغداد قديماً (سنة تسع وثمانين وثلاثمائة) وحدّت بها فسمع منه ... وبقي أبو حازم حياً حتى لقيته بنيسابور وكتبت عنه الكثير ، وكان ثقة ، صادقاً ، عازماً حافظاً يُسمع الناس بإفادته ، ويكتبون بانتخابه.) (٢) .. وقد أطراه آخرون أمثال : ابن مأكولا (في الإِكمال ٢ : ٢٨٠) وعبد الغافر (في

__________________

(١) انظر إلى مقالة (شخصيت علمي ومشايخ شيخ طوسي) بالفارسية في مجموعة (ميراث إسلامي إيران) ٢ : ٣٨٠ ـ ٣٧٧.

(٢) تاريخ بغداد : ١١ ـ ٢٧٢.

١٠

السياق بذيل تاريخ نيسابور) والذهبي (في تذكرة الحفّاظ ٣ : ١٠٧٢). وصرّح الشيخ الطوسي بتلمذته عليه في كتاب (الفهرست) رقم ٨٥٢ حينما قال : «أبو منصور الصّرام ، من جملة المتكلمين من أهل نيسابور ، وكان رئيساً مقدماً ، وله كتب كثيرة منها : كتابٌ في الأصول سمّاه (بيان الدين) ... قرأت على أبي حازم النيسابوري أكثر كتاب (بيان الدين) ...». ويستفاد من أقوال هؤلاء أن أبا حازم حجّ سنة ٣٨٧ ه‍ ودخل بغداد سنة ٣٨٩ ه‍ ومكث بها قليلاً وأملى أحاديثه على جماعة ، ثم عاد إلى مسقط رأسه نيسابور وبقي فيها حتى وفاته سنة ٤١٧ ه‍ ، فلو لاحظنا عودة أبي حازم إلى نيسابور سنة ٣٨٩ ه‍ وإقامته بها إلى حين وفاته سنة ٤١٧ ه‍ وتصريح الشيخ انه قرأ عليه كتاب (بيان الدين) يثبت لدينا ان الطوسي لم يلتق به إلّا في نيسابور ولم يأخذ العلم منه الا في مجالسه بهذه الحاضرة وذلك في الفترة الممتدة من سنة ٣٩٠ ه‍ لغاية ٤٠٨ ه‍ حيث ترك الشيخ خراسان متوجهاً إلى بغداد.

٢ ـ المُقري النيسابوري (٤٢٧ ـ؟):

هو أبو محمد عبد الحميد بن محمد المُقري النيسابوري المتوفى سنة ٤٢٧ ه‍ ، عدّه العلامة الحلي في إجازته لبني زُهرة من مشايخ الطوسي ، لكن لم يرد له ذكر في كتب الطوسي ، ووصفه عبد الغافر الفارسي في (السياق بذيل تاريخ نيسابور) بقوله : «عبد الحميد بن محمد بن أحمد بن جعفر المشهدي ، أبو محمد ، مستورٌ ، قال الحسكاني : قرأت عليه بالمشهد ونيسابور وكان يحضر أحياناً ويخرج ، توفي في سنة سبع

١١

وعشرين وأربعمائة». ولعل الشيخ الطوسي قرأ عليه في نيسابور أو طوس أو مشهد الرضا عليه‌السلام.

٣ ـ أبو زكريّا محمد بن سليمان الحمراني :

تعرض الطوسي له في فهرسته حيث ذكره في عداد مشايخه وذلك في نهاية ترجمته للشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي قال : «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته جماعة من أصحابنا منهم : الشيخ المفيد ، والحسين بن عبيد الله ، وأبو الحسين جعفر بن الحسكة القمي ، وأبو زكريا محمد بن سليمان الحمراني ، كلهم عنه» وقد اختُلف في ضبط لقبه : الحمراني ، الحرّاني ، الحمداني. ثم انّ العلامة الحلّي حينما عدّد مشايخ الطوسي في إجازته لبني زُهرة قال عن الحمراني : «من أهل طوس» فاستظهر الشيخ آغا بزرگ الطهراني منها أنّ الحمراني من مشايخ الطوسي في فترة ما قبل هجرته إلى بغداد ، ولم يرد ذكرٌ وترجمة له في كتب التراجم سوى ما ذكره ابن بشكوال في كتاب (الصلة) عن تاجرٍ قدم الأندلس سنة ٤٢٣ ه‍ وهو محمد بن سليمان بن محمود الخولاني ثم روي عن ابن الخزرج في (تاريخ الأندلس) وصفه : أنّه عالمٌ ، حافظٌ ، ثقة ، شاعر ، تلقى الحديث عن المشايخ بالعراق وخراسان ، عالي السند ، وأجاز ابن الخزرج برواية أحاديثه سنة ٤٢٣ ه‍ وكان عمره آنذاك أربع وسبعون عاماً. ويُحتمل اتحاد الرجلين وأنّ لقب الخولاني قد حُرّف في النُّسَخ إلى الحمراني والحرّاني والحمداني ، فيكون الشيخ قد تلقى عند الحديث والعلم بخراسان أو في العراق.

١٢

وبعد ان نال الطوسي قسطاً وافراً من العلوم في الحواضر العلمية بخراسان ، اشتاقت نفسه إلى طلب المزيد فباتت خراسان بحواضرها ومشايخها وفقهائها ومحدثيها ومتكلميها عاجزة عن إشباع رغباته العلمية ، فاتجهت أنظاره صوب العراق وعاصمتها مدينة السلام بغداد. ولعل السبب الرئيسي وراء هجرة الشيخ الطوسي إلى بغداد هو الأجواء التي كانت تحيط بخراسان وما وراء النهر في تلك الفترة الزمنية ، فان هذه المنطقة المهمة والكبيرة ، بمدنها العامرة وحواضرها العلمية كانت من المعاقل الشيعية المهمة في القرنين الثالث والرابع الهجريين ، فانه برغم وجود أكثرية سنيّة في المنطقة (١) إلّا ان الشيعة كانت تتمتع بنفوذ وشأن قويين وكانت دعاة الشيعة منتشرة في مدن خراسان وقراها تدعو الناس إلى مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وكانت البيوتات والعوائل العلوية منتشرة في نيسابور وقراها وخاصة بمشهد الرضا عليه‌السلام وكانت موضع احترام الجميع ، كما أنَّ مثوى الإِمام علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ بطوس كان له تأثير معنوي قوي على انتشار الولاء والحُبّ لآل البيت عليهم‌السلام ، فقد صار قبر الإمام مزاراً وقصده المسلمون ـ سنةً وشيعة ـ للتبرك وقضاء الحوائج ، فهذا أبو حاتم محمد بن حبّان البُستي ، من أعلام السُّنة ومن أئمة الجرح والتعديل حينما يتعرض لترجمة الإمام الرضا عليه‌السلام يقول : «وقبره بسناباد خارج النوغان ، مشهورٌ يزار

__________________

(١) المذاهب التي كانت اتباعها منتشرة في طوس وأطرافها ، بل في عامة خراسان هي المذاهب الشيعية الثلاث أي الإِمامية ، والزيدية ، والإِسماعيلية ، ومن المذاهب السُّنية الأحناف ، والشوافع ، والظاهر عدم وجود قرائن تشير إلى وجود الحنابلة والمالكية في طوس. نعم توجد دلائل على نشاط الكرامية ووجودها في هذه المنطقة.

١٣

بجنب قبر الرشيد ، قد زرته مراراً كثيرةً ، وما حلّت بي شدة في وقت مُقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها عني ، إلّا استجيب لي وزالت عني تلك الشدة ، وهذا شيءٌ جربته مراراً فوجدته كذلك ، أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم أجمعين» (١). وأيضا يمكن معرفة مدى نفوذ الشيعة وانتشارها ونشاطها وحريتها في إبداء الرّأي في هذه المنطقة إذا لاحظنا المراسلات المتبادلة بين شيعة المنطقة ورءوس الإِمامية وأعلامها ببغداد وقم والرّي ، فالشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين ابن بابويه القُمّي له رسالة كتبها جواباً على سؤال وُجّه إليه من أهالي نيسابور ، كما يجب ملاحظة أنّ كتاب (مَنْ لا يحضره الفقيه) وهو أحد الأصول الأربعة التي عليها اعتماد الشيعة في استنباط الأحكام قد ألّفها الصدوق بما وراء النهر ، فانه حينما سافر إلى تلك المنطقة سنة ٣٦٨ ه‍ طلب منه شريف الدين أبو عبد الله محمد بن حسن بن إسحاق المعروف بنعمة أن يُصنِّف له كتاباً في الحلال والحرام ، وله أيضا كتاب (كمال الدين وتمام النعمة) ألّفها لإِزالة بعض الشبهات حول المهدوية والتي أُثيرت عند الشيعة بما وراء النهر. وللشيخ المفيد والسيد المرتضى أيضا مثل هذه الرسائل الجوابية (٢).

__________________

(١) الثقات : ٨ ـ ٤٥٧.

(٢) روى النجاشي في رجاله (الرّجال : ٤٨ رقم ١٠٠) في ترجمة الحسن بن علي بن أبي عقيل العُمّاني الحذّاء : أنه «فقيه ، متكلم ، ثقة ، له كتاب في الفقه والكلام منها : كتاب (المتمسك بحبل آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كتاب مشهورٌ في الطائفة. وقيل ما ورد الحاج من خراسان الا طلب واشترى منه نسخٌ)».

١٤

لكن وقعت الانتكاسة الخطيرة في منتصف القرن الرابع وذلك حينما استولى محمود الغزنوي على خراسان وما وراء النهر وبسط نفوذه على جميع المنطقة ، ولم يقنع بهذا المقدار بل أراد دعم موقفه أمام الخصوم فرفع شعار المناصرة من أهل السُّنة ، فاشتد الأمر على الجميع عدا من كان معتقداً بمذاهب الدولة ، وهكذا مرت فترة قاسية على الذين كانوا يدرسون العلوم العقلية ومن كان لا يدين بمذاهب أهل السُّنة وخاصة الشيعة ، وقد بالغ السلطان محمود الغزنوي في قتلهم (ونفى خلقاً كثيراً من المعتزلة ، والرافضة ، والإِسماعيلية ، والجَهْميّة ، والمُشَّبهة ، وأمر بلعنهم على المنابر) (١). وانتهز فقهاء أهل السُّنة ـ كعادتهم في موالاة سلاطين الجور ـ الفرصة فأفتوا بالقتل والحرق والنفي للفلاسفة والمتكلمين والعقلانيين والشيعة والمعتزلة ، وحتى المساجد لم تسلم من اضطهادهم ، روى الحافظ عبد الغافر الفارسي في (ذيل تاريخ نيسابور ـ المنتخب من السياق : ١٣) في ترجمة أبي بكر الواعظ أنه كان : «زعيم أصحاب أبي عبد الله ورئيسهم ، صاحب القول في وقته عند السلطان ، بسيط الجاه ، كان مقرباً عند الأمير يمين الدولة محمود ، دعا إلى السُّنة وهدم المسجد الجديد الّذي بناه الروافض» (٢)!! ، وفي عام ٤٢٠ ه‍ قام

__________________

(١) شذرات الذهب : ١٩٥ ، الغدير في الكتاب والسنة ٤ : ٢٧٦.

(٢) ومن مهازل الدهر أن يعدّ هذا الوحش الكاسر الّذي ارتكب مثل هذه الجرائم ـ بل أضعاف ذلك وأخفاها المؤرخون ـ فقيهاً ـ محدثاً ـ فاضلاً ـ عالماً ـ كما يصفه أهل السُّنة ـ يقول الحافظ عبد الغافر في (تاريخ نيسابور ـ المنتخب من السياق : ٦٨٠): «محمود بن سبكتكين الأمير شمس الدولة وأمين الملة ، والي خراسان أربعين سنة ، رجلٌ عليّ الجدّ ، ميمون الاسم ، مبارك الدولة والنوبة على الرعية ، صادق النيّة في إعلاء كلمة الله ، المظفر في الغزوات والفتوح ، ... وحفظت حركاته وسكناته وأيامه وأحواله لحظة لحظة وكانت مستغرقة في الخيرات ومصالح الرعية ...

١٥

السلطان محمود الغزنوي بحملة ضارية أُخرى «وحُوّل من الكتب خمسون حملاً ما خلا كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض فانها أُحرقت تحت جذوع المصلوبين إذ كانت أُصول البدع» (١).

ففي أثناء هذه المحنة عزم الشيخ الطوسي مغادرة خراسان فيمّم وجهه صوب مدينة السلام ، تلك المدينة التي كانت مهبط العلماء ، ومهوى الطلاب ، وموئل الفقيه والمحدّث والفيلسوف والمتكلم ، بل الدهري والزنديق والملحد ، حيث مجالس العلم والإملاء والاستملاء والمناظرة عامرة ، كلّ ذلك في ظلال الدولة البويهية ، تلك الدولة الشيعية التي استضافت وبرحابة الصدر جميع المذاهب والفرق والنِّحل وحتى تلك التي كانت تعادي الشيعة بل وتكفّرها ، فسلكوا سبيلاً وسطاً تجاه جميع الميول والاتجاهات والفِرَق ، فلم يتحزبوا لفئة معيّنة على حساب فئة أُخرى ، ولم ينحازوا إلى رأي خاص بل تركوا الناس أحراراً في معتقداتهم وآرائهم ، وهكذا بسطوا الأمن في تلك الربوع الشاسعة التي حكموها قرناً من الزمن ، وسوف نعود إلى الحديث عنهم حين استعراضنا للأوضاع الاجتماعية ببغداد في القرن الخامس الهجري.

__________________

قدم نيسابور قَدَمات وظهرت بيمين دولته آثار حسنة ورسوم مرضية ، وكان مجلسه مورد العلماء ومقصد الأئمة القضاة ... ولست أشك انه قد توسل المتوسلون إلى مجلسه وتقربوا إليه بالحديث وسمعوا الروايات»!!

(١) المنتظم لابن الجوزي ٨ : ٤٠.

١٦

٢ ـ الشيخ الطوسي في بغداد

غادر الطوسي خراسان نهائياً وإلى غير رجعة واتجه صوب العراق (١) فوصل إلى بغداد سنة ٤٠٨ ه‍ ، وتعتبر فترة إقامته ببغداد فترة هامة له فقد دخلها شاباً مغموراً في بدايات العقد الثاني من عمره وخرج منها شيخاً بعد أربعين سنة ، وهو حينذاك زعيم الشيعة وشيخها المُقدّم وإمامها المطاع ، وبعد ان ملأ الخافقين صيته وشهرته ومؤلفاته.

ارتبط الشيخ الطوسي في بغداد بمجموعة كبيرة من الأعلام ، فحضر

__________________

(١) بالرغم من ان مدينتي قم والرّي كانتا تعدان من الحواضر العلمية الشيعية المهمة آنذاك وفيهما الفقهاء والمحدثون الكبار وكانت الزعامة الدينية عند الشيعة متمركزة في قم ، إلّا انه خلال سنوات هجرة الشيخ الطوسي من خراسان إلى العراق كانت قد انتقلت الزعامة الدينية إلى بغداد وذلك أثر وفاة شيخ المُحدّثين بقم أي الشيخ الصدوق علي بن بابويه القمّي واعتلاء نجم الشيخ المفيد زعيماً للطائفة ، هذا فضلاً عن ان هاتين الحاضرتين ـ وخاصة قم ـ كانت موئل المحدّثين والفقهاء فقط ، واما سِحر بغداد وأجوائها العلمية وجامعيتها من حيث احتضانها لجميع أرباب المذاهب الكلامية والفرق الدينية كانت تجذب إليها طلاب العلم ، ولهذه الأسباب وغيرها اختار الطوسي الهجرة إلى بغداد بدل ان يتوجه صوب قم أو الرّي.

١٧

مجالسهم واستمع منهم العلم وسوف نعدّد أسماءهم لاحقاً ، لكنه ارتبط باثنين من هؤلاء ارتباطاً وثيقاً فلازمهما واستفاد منهما كثيراً وكان لهما تأثيرات بعيدة المدى في تفكير الشيخ ـ وإن فاقهما الشيخ لاحقاً ـ وهما الشيخ محمد بن محمد بن النعمان العُكبري البغدادي المشهور بالمفيد أولا ، ثم الشريف المرتضى ثانياً ، فحضر الطوسي أولا مجالس المفيد (وهو يوم ذاك شيخ متكلمي الإمامية وفقهائها وانتهت رئاستهم إليه في وقته في العلم) مدة خمس سنوات (٤١٣ ـ ٤٠٨ ه‍) فظهرت خلال مدة قليلة فضائله وملكاته وشرع في تأليف كتاب (تهذيب الأحكام) يشرح فيه كتاب (المُقنعة) لأُستاذه الشيخ المفيد ، وقد أكثر في شرحه من عبارة (قال الشيخ أيّده الله تعالى) ويقصد به الشيخ المفيد حيث كان لا يزال حياً وتوفي سنة ٤١٣ ه‍ وقبل أنْ يكمل الشيخ تأليفه ، وهذا الكتاب أحد الأُصول الأربعة التي يرجع إليها المجتهدون من الإمامية لاستنباط الأحكام الشرعية. وبعد وفاة الشيخ المفيد ارتبط الطوسي بخليفة المفيد في الزعامة وأبرز تلاميذه أي الشريف المرتضى ، وكانت للمرتضى منزلة اجتماعية راقية عند عامة الناس والدولة ، فقد كان نقيب الطالبيين ، وأمير الحاجّ ، وقاضي القضاة ، ومتولي ديوان المظالم ، هذا فضلاً عن علمه الّذي لم يدانه فيه أحدٌ في زمانه ، وقيل عنه : إنّه كان أكثر أهل زمانه أدباً وفضلاً. وأمّا ثروته الطائلة فقد بذلها في سبيل العلم وتربية الطلاب فأجرى على تلامذته رزقاً كلٌّ حسبَ مرتبته العلمية ، فكان للشيخ الطوسي أيام قراءته عليه كل شهر اثنا عشر ديناراً. وخلال فترة تلمذة الطوسي على الشريف أنجز تلخيص كتاب (الشافي في الإمامة) للشريف المرتضى وحاول من

١٨

خلال تلخيصه تبسيط مسائل الشافي وتقريبه إلى أذهان المتعلمين والتركيز على المسائل الهامة فيه ، ويعدّ هذان الكتابان من أهم الكتب الكلام عند الإمامية.

١ ـ شيوخ الشيخ الطوسي ـ رحمه‌الله ـ (١)

تتلمذ الشيخ الطوسي خلال فترة عام ٤٠٨ ه‍ ولغاية ٤٣٦ ه‍ على جماعة آخرين من الأعلام ـ فضلاً عن المشايخ الثلاثة الذين سبق وان تحدثنا عنهم ـ ونكتفي بذكر أسمائهم لورود تفاصيل حياتهم في أكثر المصادر التي تحدثت عن حياة الشيخ الطوسي وهم :

٤ ـ أحمد بن إبراهيم القزويني (؟)

٥ ـ أحمد بن حسين بن علي الحضرميّ ، البيّع المعروف بابن السُّكري (٣٦٢ ـ ٤٥٠ ه‍)

٦ ـ أحمد بن عبد الواحد بن عبدون البرّاز (؟ ـ ٤٣٢ ه‍)

٧ ـ أحمد بن محمد بن الصَّلت الأهوازي (٣٢٤ ـ ٤٠٩ ه‍)

٨ ـ أبو الحسين جعفر بن حسين بن حَسكة القميّ (؟)

__________________

(١) اعتمدت في استخراج أسماء مشايخ الشيخ الطوسي على رسالة العلامة السيد عبد العزيز الطباطبائي ـ رحمه‌الله ـ عن مشايخ الطوسي المخطوطة حيث وجدتها أكمل ترجمة عن حياة هؤلاء المشايخ فقد دقق في ضبط الأسماء وأزال عنها الأخطاء والأوهام التي وقع فيها أكثر أئمة التراجم من المتقدمين والمتأخرين كالشيخ النوري صاحب المستدرك ، والطهراني وغيرهم ، وقد طبعت هذه الرسالة أخيراً في مجموعة الرسائل المسماة ب (ميراث إسلامي إيران) ج ٢ : ٤١٢ ـ ٣٦١.

١٩

٩ ـ أبو علي حسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البرّاز الأشعري ، الحنفي ، المتكلم (٣٣٩ ـ ٤٢٦ ه‍)

١٠ ـ الشريف أبو محمد حسن بن أحمد العلوي (كان حياً سنة ٤٢٥ ه‍)

١١ ـ أبو على حسن بن محمد بن إسماعيل بن أشناس البزّاز المعروف بابن أشناس وابن الحمّامي (٣٥٩ ـ ٤٣٩ ه‍)

١٢ ـ أبو محمد حسن بن محمد بن يحيى السّامرائي ، المُقري ، المعروف بالفحام وابن الفحام (؟ ـ ٤٠٨ ه‍)

١٣ ـ أبو عبد الله حسين بن إبراهيم القزويني (؟)

١٤ ـ أبو عبد الله حسين بن إبراهيم بن علي ، ابن حنّاط القميّ (؟)

١٥ ـ أبو عبد الله حسين بن أحمد بن محمد البزّاز المعروف بابن القادسي البغدادي (٣٥٦ ـ ٤٤٧ ه‍)

١٦ ـ أبو عبد الله حسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري البغدادي (؟ ـ ٤١١ ه‍)

١٧ ـ أبو عبد الله حمويه بن علي بن حمويه البصري (؟)

١٨ ـ أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله المشهور بابن المهدي ، البزّاز الفارسي (٣١٨ ـ ٤١٠ ه‍)

١٩ ـ أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المعروف بابن الحمّامي المُقري (٣٢٨ ـ ٤١٧ ه‍)

٢٠ ـ أبو الحسين ابن جيد علي بن أحمد بن محمد الأشعري القميّ (؟)

٢١ ـ أبو القاسم علي بن شبل بن أسد الوكيل (؟)

٢٢ ـ أبو القاسم علي بن محسن بن علي بن محمد القاضي التّنوخي

٢٠