موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٥

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٥

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٥

١
٢

٣
٤

٥
٦

مرآة الجزيرة العربية

أبتهل إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يحمى ولى نعمتنا السلطان عبد الحميد خان الثانى مجدد العصر ومقيم العدل وناشر الحضارة والمدنية ، وأن يحفظ عرشه وسلطنته من كل سوء.

كنت قد ذكرت فى التاريخ الذى كتبته بعنوان مرآة الحرمين ، تحت ظل وحماية سلطاننا ، فى كل صفحة من صفحاته أحد المواقع من جزيرة العرب كلما تعلق به الموضوع. ولكن من المحال أن يحيط الإنسان علما بأحوال الخطة الحجازية الواسعة وحقائقها التاريخية بمطالعة بعض التوضيحات التى قدمت عن الأماكن المقدسة والآثار المفخمة للحرمين الشريفين مطالعة سطحية ، قبل أن يتعرف على الأحوال التاريخية والتقسيمات الجغرافية لجزيرة العرب ؛ لذلك كتبت هذا التاريخ المختصر وضمنته أحوال شبه جزيرة العرب وألحقته بالمرآة.

وقد رتبت هذه الإضافة وحررت وهى جديرة أن يطلق عليها خلاصة الخلاصة ، على أن تكون من حيث محتوياتها ذيلا للمرآة. وقصدت فى ذلك إلى مد الراغبين فى مطالعة المرآة بمعلومات مجملة كافية عن أحوال جزيرة العرب التاريخية والجغرافية.

الكتب التى نشرت سواء أكانت من قبل المؤرخين المتقدمين أو المتأخرين عن الجزيرة بالعربية تخبرنا إلى درجة ما عن بعض أخبار العرب وأحوالهم ، إلا أنها لم تضبط ولم توضح فى صورة لائقة قوانين العربان ، وأنظمتهم المرعية وعاداتهم الجارية فى جزيرة العرب فى العصر الحالى ، لأجل ذلك قد سطرت معناها على وجه الاختصار فى هذه الجزء من المرآة.

٧

فانجلت صفحات المرآة عن صورة : الأحوال السياسية والتاريخية للعشائر والقبائل العربية التى اتخذت شبه جزيرة العرب مسكنا ومأوى فى الجاهلية والعصور الإسلامية ، وانقسامات قبائلها مع أنسابها ، تقسيمات الجزيرة الجغرافية وحال سكانها وشأنهم وتعدادهم وعاداتهم القديمة ومعتقداتهم وقوانينهم وأنظمتهم المرعية وبالله التوفيق.

٨

الوجهة الأولى

١ ـ ذكر أنساب أمم العرب السابقة والقرون السالفة منهم وذكر أحوالهم.

٢ ـ تعريف أحوال القبائل العربية وأطوارها فى الأزمنة الجاهلية والعهود الإسلامية.

٣ ـ ذكر الملوك الجبابرة التى كانت تحكم جزيرة العرب قبل ظهور الدين الإسلامى.

٩
١٠

الصورة الأولى فى ذكر أنساب الأمم السابقة والقرون الماضية

من أنساب العرب وأحوالهم

أقوام العرب :

العرب البائدة والعرب العاربة والعرب المستعربة والعرب المستعجمة.

وهذه أقسام العرب فى أربع طبقات.

العرب البائدة

طبقة العرب البائدة أولى القبائل العربية التى وجدت بعد أن انقسمت الأقوام شعوبا وقبائل بعد نوح (عليه السلام) وهى أقدم تلك الأقوام. وليس هناك بخصوص أحوال أفراد هذه الطبقة وشئونهم معلومات صحيحة ، إلا أن المؤرخين يخمنون أن عاد الأولى وثمود وعمالقة وطسم ، جديس ، أميم ، بنى جرهم الأول وحضر موت تشكل جماعات هذه الطبقة ، ويتصل نسب هذه الهيئة العامة وسلسلتها المتسلسلة ب «لاود» وأخيه «إرم بن سام بن نوح» عليه السلام.

عاد الأولى ـ ابن عوص بن أرم بن سام بن نوح.

وقد توطنت القبيلة التى تفرعت من عوص فى أراضى الأحقاف وأطلق عليها (عاد الأولى). وقد نجا بكر بن معاوية بن بكر بن عاد مع بعض أصدقائه من الهلاك عندما تعرضت عاد الأولى إلى القهر الإلهى وغضبة الله.

ودام هؤلاء الأقوام فترة وأطلقت على الطائفة الثانية بعد هلاك عاد الأولى «عاد الثانية».

ثمود بن جاثر بن أرم بن سام :

وكان قد سكن أفراد القبيلة التى تنتسب إلى ثمود فى وادى القرى الواقع بين

١١

الحجاز والشام. وكان الذين نجوا من بعد هلاك قوم ثمود سكنوا فى مكان يسمى «الرّسّ» إلا أنهم أيضا هلكوا فيما بعد.

العمالقة :

لقب جميع البطون التى تفرعت من عمليق بن لاود بن سام ، وقد شكلت بطون العمالقة جماعات القبائل التى تناسلت من أبناء عمليق هم : أرزق ، طغار ، لف ، بديل ، راحل ، هزان ، أرقم ، جاسم.

وكان يتوطن أبناء أرزق بن عمليق فى الحجاز ، وطغار ، بديل وراحل بنو عمليق وأحفادهم بجوار نجد ، وجماعة لف بنو عمليق بيثرب ، والطائفة المنسوبة إلى أرقم بن عمليق يتوطنون فى منطقة تيماء من الحجاز.

طسم :

علم خاص للأقوام التى تفرعت من لاود بن سام.

جديس :

على وزن أمير ابن إرم بن سام وكانت القبائل التى تفرعت منه قد استوطنت اليمامة.

أميم :

على وزن كريم ، فهو أبو الشعوب التى يطلق عليها بنى وبار وكان لأميم عدة أبناء ، إلا أن المؤرخين قرروا أن اسم وبار هو الاسم الوحيد الصحيح ، وربطوا سلسلة سلالة القبائل التى تنتهى إلى أميم بوبار.

بنو جرهم الأول :

يطلق على القبائل التى تفرعت من قحطان بن عابر بن أرفخشذ بن سام بنو جرهم الأول ، أسس قحطان حكومة فى اليمن قبل الهجرة ب (٣٠٥٩) سنة وبعد فترة انتقل إلى دار البقاء. وجلس مكانه ابنه «يعرب» ونصب أخاه جرهم

١٢

واليا على الحجاز ، ومع مرور الأيام استقل جرهم وأطلق على القبائل التى تفرعت منه جرهم الثانية.

حضر موت :

حضر موت ابن قحطان ، حينما أصبح أخوه يعرب حاكم اليمن عينه واليا على جبال شحر. وهذا أيضا استقل عن أخيه فى جبال شحر واستبد بالحكم.

ولم تتحمل هذه القبائل فى بابل قهر بنى حام وتحكمهم فعادت مرة أخرى إلى جزيرة العرب ، وأول ورودهم إلى الجزيرة عاشوا كالبدو فى الصحارى ، ولكنهم بمرور الأيام ازدادوا قوة واستولوا على كثير من الأراضى ، وسلكوا طريق الاستقرار والمدنية وأسسوا فى الجزيرة العربية حكومة كبيرة ، وفى فترة ما استولوا على مصر والشام وحكموهما إلى زمن يعرب ابن قحطان ، وفى النهاية زالت شوكتهم واضمحلت دولتهم فتشتتوا.

أفراد هذه الطبقة أقدم الأمم السالفة ، ولما كانت اللغة العربية لغة خاصة بهم فقد أطلق عليهم اسم العرب العاربة ، ومع الأيام لم يبق لهم شأن فقيل لهم «الهالكة» لتمييزهم عن الطبقات الأخرى ، كما يسمون أيضا بالبائدة.

قال بعض المؤرخين إن الذين فتحوا مصر من طائفة العرب العاربة.

العرب العاربة

طبقة العرب العاربة هم الطبقة التى تنتهى جميع قبائلها إلى قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام.

ولما اختلط هؤلاء بأفراد العرب البائدة وتلقوا عنهم اللغة العربية وتعلموها قيل لهم العرب العاربة.

ويروى أن أبا قحطان هو عابر بن شالخ ، وبناء على هذا فهو ينتمى إلى سام بن نوح ـ عليه السلام ـ لما كان أولاد وأحفاد قحطان يعيشون فى الصحارى

١٣

والفيافى فلم يستطيعوا أن يحرزوا شرف القوة والحشمة فى أول حياتهم. ولكن قوتهم وسطوتهم زادت فيما بعد ، فزادت قبائلهم وشعوبهم وتكاثروا وارتفع شأنهم وزادت شهرتهم فى الوقت الذى مالت فيه طبقة العرب البائدة إلى الزوال والاضمحلال ، فوسعوا دائرة ملكهم غاية السعة.

واستولوا على اليمن حيث أسسوا دولة عظيمة ، وقحطان بن يعرب منهم ، كما أن قبائل بنى سبأ تنتمى إلى بطون طبقة العرب العاربة.

وأصل اسم سبأ عبد شمس وأبوه يشجب بن يعرب بن قطحان ، وبما أنه هجم على القبائل والممالك واستولى عليها وأخذ منها الأسرى كان سببا فى تسميته سبأ.

وبعد سبأ ظهر فى الميدان أبناؤه حمير ، كهلان ، زيدان ، أشعر ، عاملة وتشعبت من كل واحد منهم قبيلة مشهورة معروفة ، وكل القبائل العربية التى تعيش الآن فى اليمن تنحدر من سلالة تنتهي إلى أبناء سبأ.

ويطلق على أفراد طبقة العرب العاربة حسب النسب والانتماء إلى بنى سبأ العرب العاربة القحطانية أو اليمانية.

وأحفاد قحطان بن عابر وفروعه وشعوبه لا يعدون ولا يحصون ، فسكن بعضهم فى عمان وبعضهم فى نجران ، وبعضهم فى رس اليمن وحول الممالك الأخرى حيث انتشروا واستقلوا ، وفصلت من كل واحد منهم بطون ، وشكل كل واحد منهم قبائل مستقلة ، وحجم مرآة الجزيرة غير كاف لاستيعاب أصول هذه القبائل وفروعها ، ولما كان أكثر هذه القبائل قد نسيت بتباعد الأزمان ، وتسامح النسابين فالذين يريدون أن يحصلوا على تفصيلات كافية فى هذا الخصوص عليهم أن يراجعوا الكتب العربية القديمة.

العرب المستعربة

تكونت طبقة العرب المستعربة من اختلاط نسل حضرة إسماعيل بن إبراهيم «على نبينا وعليهما التحية والتبجيل» بأقوام العرب العاربة.

١٤

ولما كانت سلسلة نسب العرب المستعربة مرتبطة ب «عدنان ونزار» فيطلق عليهم «العدنانية ، كما يقال النزارية» أيضا.

ومن أوائل العرب العاربة قبائل بنى جرهم بن قحطان والجماعات التى تتبعها ، وقد اختارت هذه القبائل السكن بجوار كعبة الله ، واتخذت هذه القبائل إسماعيل «عليه سلام الله الجليل» صهرا وزوجا لإحدى بناتها ، واختلط إسماعيل «عليه السلام» وأحفاده ببنى جرهم ، وتركوا التحدث بلغتهم العبرانية ، واعتادوا التحدث باللغة العربية الخاصة بالجراهمة ، وأطلق المؤرخون على نسل إسماعيل والقبائل التى تشعبت منه اسم العرب المستعربة.

إلا أن ابن خلدون يذكرها باسم العرب التابعة للعرب ، وبين الفترة التى بدأ فيها إسماعيل «عليه السلام» السكن فى مكة المكرمة وبين هجرة النبى صلّى الله عليه وسلم ما يقرب من ألفين وسبعمائة وثلاث وسبعين سنة.

أنجب إسماعيل «عليه السلام» من زوجته الجرهمية اثنى عشر ابنا ، وقد تكاثر أولاد هؤلاء الأبناء بمرور الزمن وأصبحوا قبائل وشعوبا متعددة ، وظهرت منهم قبيلتان كبيرتان هى «عدنان» و «قحطان» اللتان تحيطان وتحويان جميع الشعوب والقبائل العربية.

وبناء على هذا التقدير فالشعوب العربية فى القطر الحجازى من أولاد عدنان من نسل إسماعيل «عليه السلام».

كما أن العرب الذين يسكنون فى اليمن وحضر موت وجهات عمان وسائر جهات الجزيرة العربية من أحفاد بنى قحطان.

وقد انفصلت عن قبيلتى عدنان وقحطان اللتين سبق ذكرهما قبائل عديدة وشعوب كثيرة ، وكل واحدة من هذه القبائل ذكرت باسم وشهرة آبائها الأول.

استولى القحطانيون فى عصور الجاهلية على رياسة مملكة من الممالك

١٥

وحكومة من الحكومات ، وأصبحوا ولاة على أجزاء كبيرة من جزيرة العرب ، وأخضعوا الأمراء العدنانيين لطاعتهم وتبعيتهم.

العرب المستعجمة

ظهرت طبقة العرب المستعجمة من كثرة اختلاط أفراد العرب المستعربة بأفراد الممالك الأجنبية وأهليها ومن ظهور الأخطاء فى لغتهم التى يتحدثون بها ، لأن القبائل العربية انتشرت فى البلاد التى استولت عليها فى الجزيرة العربية لإعلاء كلمة الله عقب سطوع أنوار الإسلام ، وحيث صادفت أقواما أجنبية وجماعات واختلطت معها اختلاط مودة وألفة ، والهيئة العمومية للطبقة المذكورة لم تترك الجزيرة العربية ، ولم تجل عنها ولكنها انتشرت فى الأراضى الواسعة التى استولت عليها ، وأخذت تختلط بالملل المختلفة من ذوى الألسن المختلفة اختلاط مودة وألفة ، ونتيجة لذلك زادت قدرة العرب المستعجمة باتساع البلاد التى سكنوا فيها ، وتغيرت فصاحة لغتهم وبلاغتهم واختلطت لغة الإعجاز المضرى بالألسنة الأخرى ، وكونوا طبقة «العرب المستعجمة».

ونزل القرآن الكريم باللسان المضرى اللسان عذب البيان لطبقة العرب المستعجمة.

وقبائل العربان التى تسكن اليوم الجزيرة العربية تنتسب كافة لطبقة العرب المستعجمة. والقبائل العربية التى تكون هذه الطبقة وإن لم تترك وطنها الأصلى جزيرة العرب إلا أنها عاشت مختلطة بالملل المسلمة والعربان الأجنبية ، إلا أنه قد طرأ بعض التغير على لغتهم ، ومع هذا فلغتهم بالنظر للغة العرب الذين يسكنون فى بلاد أخرى أكثر فصاحة.

وبما أن أسماء القبائل التى تنتسب إلى العرب العاربة قد سبق ذكرها فلا حاجة لذكرها مرة أخرى فى بحث القبائل العربية الذى سيأتى فيما بعد إلا أننا سنذكر مواطنها.

وما هو الاسم الذى تذكر به قبائلها؟ وما هى الأنظمة والقوانين التى يتبعونها

١٦

ويخضعون لها؟ وكم بلغ عدد نفوسها؟ كما سنذكر بعض الحقائق عن أخلاقها وعاداتها وأطوارها.

إذا ما قرنا بين ما ذكره المؤرخون من أحوال العرب السابقين وأفعالهم وأطوارهم وبين أحوال العرب الذين يعيشون اليوم وعاداتهم نكاد لا نجد فرقا بينها.

حتى إن القبائل الجديدة التى تفرعت وتشعبت من القبائل القديمة رغم مرور الزمن تحمل نفس أسماء القبائل القديمة.

١٧

الصورة الثانية فى تعريف أحوال القبائل العربية وأطوارها

فى الأزمنة الجاهلية والعهود الإسلامية

كان العرب سواء أكانوا فى الجاهلية أو الإسلام ينقسمون إلى قسمين : أهل المدن يعنى أهل المدن والأمصار ، وأهل الوبر يعنى سكان البادية الذين يعيشون تحت الخيم ودائمى التنقل.

وكانت القبائل البدوية فى الجاهلية تتبع أديانا مختلفة. فمثلا عربان حمير كانوا يعبدون الشمس كما جاء فى القرآن الكريم (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) (النمل : ٣٤) كما وصف الهدهد بلقيس الحميرية لسليمان «عليه السلام». وكان عربان قبيلة «لخم» يعبدون المشترى ، وعربان «كندة» يعبدون القمر. كما كانت قبيلة حنيفة والقبائل الأخرى تعبد الأصنام وقبائل أخرى على اليهودية والنصرانية ، كما ظلت بعضها متمسكة بعبادة الأوثان ، واعتنقت قبيلة ربيعة والغساسنة النصرانية ، كما اعتنق الحميريون وبنو كنانة بنو الحارث وكندة اليهودية ، واعتنق عربان تميم المجوسية ، وظل القرشيون متزندقين وشاعت عبادة الأوثان بين العرب.

ولما أشرقت شمس الهداية الإسلامية من الآفاق ، وأزالت بأنوارها المحمدية ظلام الكفر والجهالة ، وشملت أنوار الشريعة المحمدية أقطار العالم الأربعة ، دخل سكان جزيرة العرب عامة إلى حصن الإسلام المتين ، وانقادوا للشريعة الإسلامية الغراء ، وبهذا نالوا أقصى مطالبهم وأدركتهم السعادة الدنيوية والأخروية ، وعملوا على نشر أنوار الدين المبين فى أقطار العالم الأربعة لنيل رضى الله ـ سبحانه وتعالى ـ وفتحوا بلادا كثيرة.

١٨

وأخذت قوتهم وقدرتهم وصولتهم تزيد شيئا فشيئا ، وبدأت دولتهم القوية تتسع يوما بعد يوم ، وتغلبوا على الملاك المعاصرين والسلاطين ، وتقدموا فى ميادين الفنون والصنائع والعلوم تقدما عظيما ، وإن الآثار الجليلة التى تركوها لتدل على أنهم أرادوا أن يوصلوا ملتهم وأقوامهم فى سلم المعرفة والمدنية إلى الدرجة الأولى ، لذلك بذلوا كل ما فى وسعهم حتى يصلوا إلى المراتب القصوى فى ميادين الفنون والعلوم والكشوف والاختراعات.

المدارس التى أسست فى بغداد ، والمعاهد التى فتحت فى الأندلس وما بذل من الجهود فى سبيل التقدم فى العلوم والفنون يعلن كيف خدم العرب الفكر ، وكل هذه الجهود من المباحث التى تزين صفحات التاريخ المنيرة وتوشحها.

ولكن لشدة الأسف فترت هممهم مع مرور الزمن ، وأخذ الأوربيون يطورون العلوم والفنون التى تعلموها منهم ، وأوصلوها إلى درجة عظمى نتيجة لسعيهم وحرصهم على العمل.

أهل المدر

النوع الأول من سكان جزيرة العرب هم الذين يطلق عليهم أهل المدر والذين يعرفون فيما بينهم ب «حضرى ـ بلدى» ويسكنون فى المدن والقرى ويعملون ـ على قدر ما يساعد مناخ بلدهم واستعدادهم ـ بالزراعة وتربية أشجار النخيل والعناية بالحدائق والبساتين ، ويبذلون جهودهم لتأمين معيشتهم بما ينتجون من محاصيل ، كما أنهم يؤمنون معيشتهم من جهة أخرى بالتجارة مع سكان البلاد المجاورة ، فيسافرون إلى البلاد التى يرغبون فى الذهاب إليها ، ويعرضون خضوعهم للملوك والأمراء والسلاطين الذين يتبعون لهم ، كما أنهم يبذلون السعى والجهود لاكتساب المهارات والمعارف والفنون على قدر طاقاتهم ليوسعوا دائرة معيشتهم ، وليصلوا إلى درجة من الثروة والغنى واليسار.

أهل الوبر

النوع الثانى من العرب هم العربان والبدو أى «أهل الوبر» وهم عرب البدو

١٩

والفيافى والصحارى التى تسكن تحت الخيم ، ولما كان أهل الوبر سكان الصحارى عديمى الرغبة فى اكتساب العلوم والفنون فهم يختلفون اختلافا كليا عن أهل المدر فى سبيل تأمين وسائل معيشتهم ، فالمساكن التى يسكنونها خالية تماما من علامات الجمال ، فهى قد أعدت فقط لتقى أجسامهم من شدة حرارة الشمس ، ومن تأثير اختلاف الجو وتغيراته ويعيش أغلبهم تحت الخيام التى نسجت من صوف الأغنام أو وبر الجمال أو شعر الماعز أو الخيول.

ويعيش بعضهم فى أكواخ (١) صنعت من سعف النخيل ، كما يعيش آخرون فى مساكن بنيت من الحجارة والطين ، ومفروشاتهم الحصير الذى نسج من سعف النخيل والأكلمة (٢) المصنوعة من الصوف ، وملبوساتهم عبارة عن قميص طويل ومشلح وكوفية ومداس ، وقمصانهم الطويلة من قماش أزرق ومشالحهم من الصوف ، وكوفيات بعضهم من الخيوط القطنية وكوفيات الآخرين من الحرير ، والنعال التى يطلقون عليها «المداس» تصنع من جلد الجمال أو جلود الحيوانات الأخرى.

وبما أن الرجال والنساء قد تعودوا على أن يلبسوا قمصانا وجلابيب فى غاية الطول فإنهم لا يعرفون معنى السراويل ، ويتركون صبيانهم الذكور عرايا دون ملابس ؛ إلا أن الصبايا يتمنطقن بحزام من جلد ذا شراشيب فيسترون عوراتهن ويخفينها ، إنهم لا يزيدون فى أكلهم وشربهم عن حاجتهم الضرورية شيئا ، لذا ترى طعامهم زهيدا جدا وكذلك شربهم ، وبما أنهم مكبون على تهيئة الأغذية الطبيعية التى تحفظ لهم حياتهم والتى هم إليها فى أشد الحاجة فأغلبهم يربون الجمال والغنم والماعز ، ويدبرون معيشة أولادهم وعيالهم بمنتجاتها ، كما أن بعضهم يدبرون قوتهم وقوت أولادهم بالرعى والزراعة والفلاحة. والذين يتعايشون بمنتجاتهم من الحيوانات مثل الجمال والغنم والماعز فى حالة ترحل

__________________

(١) يطلق أهل الحجاز على هذه الأكواخ اسم «عشة» أما أهل اليمن فيسمونها «عريش» ، وإذا كانت هذه الأكواخ من حجر فيسمونها «مخزن».

(٢) تعرف هذه البسط بين البدو باسم «شملة».

٢٠