موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٥

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٥

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٥

ينتمى بنو طاهر نسبا لعمر بن عبد العزيز من الخلفاء الأمويين.

انتزع عامر بن طاهر حاكمهم الأول بعض أماكن القطعة اليمنية من بنى رسول ، وبعض أماكنها من أيادى الأشراف ، واستولى فيما بعد على جميع أقاليم اليمن ، وانتقل زمام الإدارة بعد وفاته لأخيه ، وبعد موته لابن أخيه وبعد موته ليد ابنه. وفى سنة ٩١٧ استولى البرتغاليون على كجرات ودكن من البلاد الهندية ، كما استولوا على شواطئ جزيرة العرب الشرقية الجنوبية ، كما بنوا على ساحل دكن فى نقطة استراتيجية قلعة حصينة متينة تسمى فوقا ، وتمكنوا من مضيق هرمز وأخذوا يؤذون الأهالى من المسلمين الذين يسافرون بحرا أو برا ويضرونهم.

ولما عرف حاكم نجران مظفر وحاكم اليمن عامر بن عبد الوهاب استمدا من ملك مصر السلطان الغورى العون مرسلين له رسائل استغاثة. وما كان من السلطان الغورى إلا أن أرسل الأمير حسين بما جهزه من السفن الموافية والجنود الكافية إلى مضيق هرمز ليدافعوا عن البلاد الإسلامية ضد البرتغاليين. وعند ما وصل الأمير حسين إلى جدة ، أسرع ببناء قلعة يحتمى بها عند الحاجة وبعد الانتهاء من بناء القلعة توجه نحو مياه كجرات ولما كان المرور من المضيق الذى استولى عليه البرتغاليون من الأول مستحيلا فعاد إلى جزيرة كمران (١) التى تحت ولاية اليمن وحكمه ، وأرسل رسولا خاصا إلى حاكم اليمن عامر بن عبد الوهاب يعلمه أنه ظل بدون ذخائر ، وبناء عليه يجب أن يرسل له بعض الذخائر.

ولكن عامر بن عبد الوهاب كان غاضبا من الأمير حسين لقضائه وقتا طويلا فى جدة عبثا لبناء القلعة فلم يتنازل حتى بالرد عليه. وأثار غضب عامر بن عبد الوهاب وعدم رده على رسالة الأمير حسين حفيظة الأمير. أخذ يفكر فى انتزاع بلاد اليمن من يد عامر واغتصابها طمعا فى امتلاكها ، وانصرف عن المهمة التى بغث لأجلها من قبل الحكومة المصرية ، وساق الجنود الذين تحت إمرته إلى

__________________

(١) هذه الجزيرة الآن هى الجزيرة التى يطلق عليها (قمرون).

١٠١

البلاد اليمانية. واستولى على مدينة زبيد سنة ٩٢٢ ، ونفر اليمنيون منه بما قام ضد الأهالى من ظلم وبغى.

ولما ألحق السلطان سليم القطعة المصرية بالولايات العثمانية المتسعة فى سنة ٩٢٣ ، علم بما قام به الأمير حسين من الظلم والبغى ضد أهالى اليمن فبعث برسالة سلطانية إلى أمير مكة الشريف أبى نمى يطلب منه أن يعمل على قتل وإعدام الأمير حسين فما كان من الشريف المشار إليه إلا أن دعا الأمير حسين ليبعث إلى عتبة السلطان سليم ولما جاء أركبه على سفينة فى مياه جدة فلقى حتفه غريقا.

وعند ما أعدم الأمير حسين استولى أحد غلمانه الذى يسمى برسباى على حكومة اليمن بالقوة جامعا حوله بقية السيوف من حرب مصر ، وارتكب كثيرا من الظلم والأذى ضد الأهالى.

وقد أسندت فى سنة ٩٢٣ بعد وفاة الأمير برسباى ولاية اليمن إلى أمير مقرابة إسكندر بك بمنشور سلطانى ، وأخذ خطباء اليمن يذكرون بعد ذلك فى خطبهم اسم السلطان العثمانى ، وفى سنة ٩٢٧ أنهيت خدمات أمراء الشراكسة وحكومتهم.

الأشراف الحسينية ـ كان عبد الله منصور من السادات الحسينية وقد غضب من الخلفاء العباسية وهاجر إلى اليمن حيث أقام مرتاحا.

ولما أصاب إدارة الإمام فى تلك الفترة ضعف كلى ظاهر بايع الناس الشريف عبد الله منصور سنة (٦٠٠) وهكذا اكتسبت جماعة المشار إليه قوة فاستولى على مدينة صنعاء العظيمة وما حولها وحكم إماما أربعة عشر عاما ، وبعد أن توفى قسم أولاده بلاده إلى قسمين وقاموا بحكمهما كلية.

والذين قاموا بالإمامة إلى وقت قريب كانوا من نسل عبد الله منصور حتى إن أغلب أهالى اليمن وصنعاء اتبعوا المذهب الذى وضعه زيد بن على زين العابدين بن الحسين الشهيد بن على بن أبى طالب رضى الله عنه كما أن حكام اليمن

١٠٢

يسمون ب الأئمة الزيدية أيضا وكان الحكام الذين يحكمون القطعة اليمانية يحكمون جهات حضرموت أيضا.

إن أراضى نجد وعمان فى داخل القطع الخمس لجزيرة العرب ، ولمم كانت بعيدة عن قطع الحجاز واليمن تفصل بينها صحارى شاسعة ، وكانت هذه الصحارى سدا منيعا تقف دون ضبط هذه البلاد للحكومات التى تحكم الحجاز واليمن ، لذا كان الأهالى المقيمون فى هذه الأراضى يفوضون أمورهم لبعض الأمراء والمشايخ خاضعين لهم منقادين. وقد اتخذ سكنة هذه المناطق فى عهد الإمام على ـ كرم الله وجهه ـ فى زمن خلافة بنى أمية والخلفاء العباسيين مذهبا مخالفا لمذهب أهل السنة والجماعة ، وأعلنوا أن البيعة والانقياد غير مشروعة للخلفاء وكفروا أهل السنة والجماعة وحاولوا أن يردوهم إلى مذهبهم بالقوة والحرب.

واتفقوا مع الخوارج الذين يرون الجهاد واجبا لرد المسلمين إلى مذاهبهم وحاربوا أصحاب العقائد الصحيحة ، وقاتلوهم فترة طويلة وبذلوا أقصى الجهود لنشر أفكارهم ، ناهيك عن ترويج مقاصدهم لكن قوتهم وصولتهم اضمحلت فى ظل سيف الشريعة المسلول. وما زال حكم العقائد الباطلة جاريا بين سكان الممالك المذكورة. وقد ظهر فى وقت ما بعض الخبثاء الذين يسمون القرامطة والذين يذهبون لاعتناق خلاصة الخلاصة لمذاهب السابقين والذين أساءوا إساءة بالغة لأهل السنة والجماعة فى زمنهم وإننى سأذكر فى المقالة الآتية كيفية ظهورهم والمضرات والخسائر التى أورثوها للأمة الإسلامية.

١٠٣

الصورة الثالثة فى بيان ظهور طائفة القرامطة

لما كانت الروايات كثيرة فى بداية ظهور القرامطة ولما سيذكر ما يلزم ذكره فى مكانه فيما يأتى فلا داعى لتفصيله هنا.

بناء على رواية أن شرارة شر وفتن هؤلاء الخونة اشتعلت فى سنة ٢٦١ ، وفى زمن المعتمد على الله ، وعلى رواية أخرى فى عصر الخليفة المعتضد بالله سنة ٢٨٩ ، وأخمدت سنة ٣٧٣ ، أو فى سنة ٣٧٦ أى فى عصر الطائع بالله وعلى قول سنة ٣٨٤ أى فى ابتداء خلافة القادر بالله.

وبناء على هذا التقدير فإن الخبثاء القرامطة استمروا فى إجراء شقاوتهم ثمانين عاما أو مائة وثلاثة عشرين عاما إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقيموا حكومة قوية فى هذه المدة.

أول من ظهر من القرامطة أبو سعيد حسن بن بهرام الجنابى. وكان هذا الخبيث من أهالى قرية جنابة القريبة من أهواز وكان يعمل بالبصرة وزانا. وذهب فى فترة إلى بلاد البحرين حيث تظاهر بالتقوى والتدين واخترع اعتقادات عجيبة باطلة وخدع الناس وانقاد له بعض الحمقى من العربان والبلهاء وبايعوه.

وكانت غاية أبى سعيد من فعله هذا أن يحلّ ما حرمه الشرع ، وأن يخرج بهذه الدسيسة إلى حيز العمل ، لأن التمرد الذى فى ضميره لم يكن جائزا شرعا ، وكان يعرف أن الناس لن يصدقوه ولن يتبعوه.

وفى الواقع أضل بعض القرامطة مثل على بن يعلى الذين لا يبالون بالدين كثيرا ، واستولى على مدينة القطيف حربا أولا ثم هجم على نواحى البحرين ونهب أموال سكانها واغتنمها ، وقتل خلقا كثيرا وهكذا أجرى حكمه الظالم الشقى حسبما يريد.

وأطمع شخصا يسمى يحيى بن ذكرويه ، وأخرجه ليضر الناس وهو يجول

١٠٤

بالبلاد المتجاورة. وكان ابن ذكرويه هذا من أعيان القرامطة ، وبناء على تشويق أبى سعيد حسن بن بهرام وتحريضه استطاع أن يدخل بعض القبائل العربية تحت دائرة ضلاله واستولى بهم على حوالى الشام ، وزاد من قوته ووسع دائرة حكمه بواسطة الطوائف الباقية المرسلة من قبل حسن بن بهرام.

واستولى على أقاليم نجد ، اليمامة ، واليمن وتجرأ على أن يقتل آلاف الناس منهم ويسلب أرواحهم وعند ما اتحدت هذه الطوائف مع بعضها وكونت قوة عظيمة لم تترك شرا وفسادا وفتنة لم ترتكبها.

هجم القرامطة على حجاج المسلمين فى سنة ٣١٧ بغتة ، وذبحوا من قبضوا عليهم من الحجاج. وبعد ذلك هجموا على مكة المكرمة وانتزعوا الحجر الأسود من مكانه وحملوه إلى بلادهم ، واحتفظوا به عندهم ٢٢ سنة وتجرءوا على هذا سود وجههم فى الدنيا والآخرة (قبحهم الله).

وكان (الجانى أبو طاهر رئيس القرامطة الذين هجموا على مكة المكرمة واقتلعوا الحجر الأسود من مكانه وحملوه إلى ديارهم فى بلاد هجر.

هذا الشقى عند ما دخل إلى المسجد الحرام قتل ثلاثين ألفا من الحجاج وكان أغلبهم محرمين. وذبح بعض هؤلاء فى حرم مسجد الحرام والآخرون فى داخل بقعة الكعبة المعظمة.

وعرض أبو طاهر الخائن حينما حمل الحجر الأسود إلى بلده الأمر على عبد الله المهدى من ملوك الفاطميين بالكتابة إليه ، وبين له أنه يكفر فى ذكر اسمه فى الخطب ، وكان عبد الله المهدى قد قبح هذه الفعلة الشنعاء إذ قال له يا للعجب! إنك قد ارتكبت فى بلد الله الأمين جرائم مختلفة وفضائح ، وحملت الحجر الأسود إلى هجر ، وهتكت حرمة ستارة بيت الله الذى ظل مكرما معززا فى العهد الجاهلى والإسلامى!! ومع هذا تريد أن تذكر اسمى فى الخطب! ألا فليلعنك الله وأعوانك. فلما وبخه عبد الله المهدى وعاتبه بهذه الكيفية ترك أبو طاهر العناد وهم بطاعته.

١٠٥

وكان سبب عرض أبى طاهر طاعته وإخلاصه لعبد الله بن المهدى تصديق أن المشار إليه من الأئمة الجعفرية.

لأن عبد الله بن المهدى كان قد خرج منتسبا إلى محمد بن إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق. ولما كان عبد الله المهدى صحيح الاعتقاد رد ما يضمره أبو طاهر وخرجه.

قد وجد فى الملوك الفاطمية من روج فكر أبى طاهر وكان الحاكم بأمر الله المنصور الذى جلس على عرش مصر سنة أربعمائة الهجرية من هؤلاء ، وقد وصل غدره وظلمه إلى درجة ادعاء الألوهية ، وحرص على أن يوقع فيما كتبه من الأوامر بسم الله الحكم الرحمن الرحيم ، وأمر بأن يذكر اسمه فى البلاد التى كانت تحت سلطته ، وخاصة فى الحرمين الشريفين فى الخطب. وأينما ذكر اسمه كان الناس يقومون على أرجلهم ويبرزون مراسم تعظيمهم له واحترامهم.

قد تجرأ القرامطة فى السنين (٢٨٧ و ٣١٣) على الإغارة على الكوفة وفى سنة (٢٨٦) على البحرين ، وفى سنة (٢٨٩ ، ٢٩٣) على الشام ودمشق ، وسنة (٣٠٧) على البصرة ، وفى سنة (٣١٥) على الأنبار ، وفى سنة (٣١٦) على البلاد المشهورة مثل الرحبة والرقة وهيط ، وقتلوا أهاليها وقضوا عليهم واستأصلوا قوافل حجاج العراق فى سنة (٢٩٤ ، ٣١٢ ، ٣٦١) ، وأغلقوا طرق الحج فى سنة (٣١٤ ، ٣٥٦ ، ٣٦٣ ، ٣٨٤).

ودفع ظل تسلطهم الثقيل من فوق أكتاف الناس فى سنة (٣٧٦) ، وعلى قول (٣٨٤) فى خلافة الطائع بالله بسيف الشريعة المنتقم.

هناك اختلاف كبير فى بيان حقيقة عقائد القرامطة الباطلة ، وبناء على ما يذكره فريق من المؤرخين فإن أول شخص ظهر فيهم قد تجرأ وادعى النبوة. وحاول أن يقنع الناس بكتاب ألفه أنه من الكتب السماوية ، وبناء على رأى فريق آخر من المؤرخين وتدقيقاتهم أن أول من ظهر من القرامطة رجل من الأئمة الإسماعيلية ، وادعى أنه مبعوث من قبل الإمام المهدى ، وأراد أن يقنع الناس بذلك.

١٠٦

ولا يعرف قطعيا أية رواية من هاتين الروايتين صحيحة ، ولكن مما ليس فيه شك أن المذهبين يروجان مذهب الرفض والإلحاد.

وإن كان هؤلاء الخبثاء يقتنعون بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (رضى الله عنه) ، ويعلنون أنهم ينتمون للطائفة الإسماعيلية إلا أنهم يحكمون بإحلال المحرمات الشرعية ، ويعتقدون أن سفك دماء المسلمين مباح ، كما يحكمون بكفر من لا يعتنق المذهب القرمطى.

وكانوا يعدون طاعة الإمام المعصوم من الصلوات المكتوبة ، وإعطاء كل شخص خمس ما يمتلكه من الأموال للإمام المعصوم من أركان دينهم ، ويعدون وقاية أسرار المذهب من الصوم ، ونشر ما يخص المذهب وإشاعته زنا أو نوع من الزنا. وكل هذه الأشياء كانت عقيدة خاصة بطائفة القرامطة.

ومن جملة عقائدهم الباطلة حصر الصوم ليومين فى السنة ، وعدم الغسل والاغتسال من الجنابة ، وجعل الخمر حلالا ، وقول «أشهد أن محمد ابن الحنفية رسول الله» فى الأذان المحمدى ، والذهاب إلى القدس الشريف من أجل أداء فريضة الحج.

وإذا أريد الاطلاع على معلومات مفصلة عن أحوال القرامطة فليراجع نسخ ترجمان الحقيقة التى طبعت سنة (١٢٩٦) ونشرت متفرقة.

الاختلاف والتعديلات

التى حدثت فى الأذان المحمدى

أول من أذن فى المدينة المنورة هو بلال الحبشى ، وأول من أذن فى مكة المكرمة الصحابى حبيب بن عبد الرحمن ـ رضى الله عنهما ـ كما سبق توضيحه مختصرا فى الصورة الثالثة من الوجهة الخامسة لمرآة المدينة المنورة.

كما جعل عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ رفع الأذان الأول فوق المآذن عادة ، وأمر فى أول مرة أن يؤذن عبادة بن الصامت أبو يعلى رضى الله عنه.

١٠٧

وكانت غاية عثمان بن عفان من هذا الأذان هو أن يستعد أصحاب الحرف والتجار لأداء صلاة الجمعة. بناء على ما ينقله محمد بن سعد عن الإمام الشعبى أنه كان للنبى صلى الله عليه وسلم ثلاثة مؤذنين ، أحدهم بلال الحبشى ، والثانى أبو محذورة ، والثالث ابن أم مكتوم وعند ما يغيب بلال الحبشى يؤدى الأذان أبو محذورة وإذا غاب أبو محذورة (١) كان يقوم بأداء الأذان ابن أم مكتوم.

وكان الأذان فى المدينة المنورة وبعض أسفار النبى صلى الله عليه وسلم منحصرا فى بلال الحبشى. ولكن كان يحدث أيضا أن يؤذن الأذان ابن أم مكتوم عمرو بن شريح (٢). ويروى بناء على قول أن اسم عمرو بن قيس هذا كان عبد الله. وكان اسم أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة ، وعنكثة قبيلة تنتمى إلى بنى مخزوم.

وكان اسم أبى محذورة أوس (وعلى رواية سمرة) بن معير بن ربيعة بن معير بن عريج بن سعد بن جمح. رجا من النبى صلى الله عليه وسلم قراءة الأذان مع بلال الحبشى ، وقبل الرجاء من قبل النبى صلى الله عليه وسلم فنال شرف قراءة الأذان أحيانا.

وبناء علر رواية الإمام الكلبى أن أبا محذورة كان يرفع الأذان صباحا فى مكة المكرمة عند وجود النبى صلى الله عليه وسلم فيها.

ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم فى الجعرّانة لتوزيع غنائم حنين علّم أبا محذورة الأذان المحمدى ووجه له القيام بالأذان وقراءته فى المسجد الحرام لذا لم يسافر الصحابى الجليل إلى المدينة المنورة وظل فى مكة المكرمة (٣).

يروى بعض المؤرخين أن عثمان بن عفان (رضى الله عنه المنان) أذن أيضا وأن النبى صلى الله عليه وسلم كان فى داخل المسجد عندئذ. ولما كان بلال الحبشى لا يزال حيّا فى عهد الصديق الأعظم قرأ الأذان فى عهده أيضا ، ولكن عند ما أصبح عمر بن الخطاب أميرا للمؤمنين لم يقبل تكليفه بقراءة الأذان (٤).

__________________

(١) بما أن أبا محذورة ظل فى مكة المكرمة فإنه من المحتمل أن يكون هذا النظام خاص بمكة المكرمة.

(٢) شريح بن عامر من أفراد قبيلة ابن لؤى.

(٣) هذه الرواية منقولة عن ابن جريح.

(٤) ناقل هذا الخبر روايه محمد بن سعد.

١٠٨

وأوصى بلال ـ رضى الله عنه ـ عمر بن الخطاب ـ رضى عنه الله الوهاب ـ أن يختار سعد القرظى الذى كان مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم فى قباء ، واستصوب الخليفة وصية بلال واختار سعد القرظى مؤذنا لمسجد السعادة ، وظلت قراءة الأذان فى المسجد النبوى فى آل سعد القرظى إلى أن انقطع نسلهم.

كان فى العصر النبوى فى المدينة المنورة ـ غير المسجد النبوى ـ تسعة مساجد أخرى ، ولم يكن لهذه المساجد مؤذنون مختصون كانوا يقيمون الصلاة بأذان بلال (١).

رفع الأذان لأول مرة فى مصر فى جامع عمرو بن العاص لأنه عند ما فتح مصر أسس جامعا قاصدا المحافظة على أداء الصلاة فى جماعة مع الصحابة والتابعين ، وذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصالحة.

قال أبو عمرو الكندى وهو يذكر مؤذنى جامع عمرو بن العاص ويعرفهم : «كان أول من أذن فى جامع عمرو بن العاص الكائن فى الفسطاط هو أبو مسلم سالم بن عامر بن عبد المرادى. وكان هذا الرجل الكريم من الصحابة وكان لقراءة الأذان فى عهد عمر بن الخطاب ، ووجد مع الجنود الذين رافقوا عمرو بن العاص فى حملته على مصر ، وقام بتأدية الأذان إلى يوم الفتح لعمرو بن العاص.

وعقب فتح مصر أسس عمرو بن العاص مسجده فى الفسطاط ، وجعل أبا مسلم رئيسا للمؤذنين وعين له تسعة أنفار من المعاونين وظل أبو مسلم إلى أن مات فى رياسة مؤذنى جامع عمرو ، وظلت مهمة أداء الأذان فيما بعد فى ذريته إلى أن انقطعوا عن الدنيا».

وحينما كان يؤذن أبو مسلم فى جامع عمرو يبدأ وينهى الأذان ب «لا إله إلا الله» ، وهذه الرواية منقولة عن أبى الخير. ولما توفى أبو مسلم عين مكانه أخوه شرحبيل بن عامر. حينما كان ابن عامر مؤذنا كان أمير مصر مسلمة بن مخلد.

__________________

(١) نقلت هذه الرواية عن الدار قطنى وأبى داود بكير بن عبد الله الأشج.

١٠٩

وقد وسع جامع عمرو بن العاص وأضاف مئذنة وكان خاليا منها ، وابن عامر هذا أول من صعد لقراءة الأذان على المئذنة فى مصر.

وقد اعتكف مسلمة بن مخلد فى جامع عمرو بجانب المئذنة إلا أنه انزعج من أصوات نواقيس كنائس الفسطاط فأحضر شرحبيل ، وأوصاه بأن يجد لهذا الموضوع حلا. فقال له شر حبيل : «إذن فأنا أبدأ فى قراءة الأذان وأطيله حتى الفجر ، وبما أن دق الناقوس فى أثناء قراءة الأذان لن يليق فأصدر أمرا بمنع دق الناقوس فى أثناء الأذان» ؛ وأصدر مسلمة بن مخلد أمرا بألا يدق الناقوس ليلا.

وإن كان شرحبيل لم يتخل عن هذه العبادة إلى حين وفاته فى سنة ٦٥ الهجرية ، واستمر يؤذن من منتصف الليل إلى الفجر.

إلا أن المساجد والجوامع قد كثرت فى مصر بعد ذلك ، وبنى مسلمة بن مخلد لكل مسجد مئذنة ماعدا مسجدى خولان ونجيد وأمر أن يؤذن على هذه المآذن أيضا.

بعض التغييرات فى الأذان : كان الأذان فى مساجد مصر أذانا شرعيّا كما يؤذن فى المدينة المنورة وكما يؤذن الآن إلى أن جاء إلى مصر قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمى جوهر الصقلى. وأسس مدينة القاهرة ، وصلى جوهر القائد يوم الجمعة الثامن من جمادى الأولى سنة ٣٥٩ فى جامع ابن طولون ، وتولى الخطبة عبد السميع بن عمر العباسى ، وأمر أن يقول المؤذنون ب «حى على الصلاة حى على خير العمل» وصلى عبد السميع فى الركعة الأولى ب «الجمعة» ، وفى الركعة الثانية دون أن يركع. واحتد قاضى عسكر جوهر «على بن وليدى على عبد السميع وقال صاخبا : «يا جماعة المسلمين ، قد فسدت صلاتكم ، فصلوا أربع ركعات صلاة الظهر». فلم يهتم أحد بهذا الاعتراض والاحتداد ، ثم أمر المؤذنون بأن عليهم بعد ذلك أن يقولوا فى كل أذان «حى على خير العمل ، وعمم هذا النظام فى جميع المساجد والجوامع.

واحتد جوهر القائد على عبد السميع لأنه لا يبدأ السورة باسم الله جهرا ، كما

١١٠

آنه لا يجهر بالبسملة فى أوائل الخطب فجعله فى أواخر شهر جمادى الأولى إماما للجامع العتيق ، وأمر بأن يقال فى الأذان «حى على خير العمل» وأن يجهر عند الصلاة فى الجوامع بالبسملة ، ولكن الحاكم بأمر الله أصدر أمرا بعد إحدى وأربعين سنة بعد أن جمع جميع مؤذنى المساجد والجوامع وقاضى القضاة مالك بن سعد الفارقى بأن يسقط من الأذان جملة «حى على خير العمل» ، وأن يقول مؤذنو القصر عقب كل أذان «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله» ، إلا أنه بعد سنة واحدة عادوا يؤذنون قائلين «حى على خير العمل» ، وبعد أربع سنوات إلى سنة (٤٠٥) قالوا بدل «حى على خير العمل» ـ «حى على الصلاة» كما أن مؤذنى القصر تلقوا أوامر بأن يقولوا بدل «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله» ـ «الصلاة رحمك الله».

وكون هذا الأمر الصادر لمؤذنى القصر كان لإحياء سنة قديمة متروكة! لأن حضرة بلال ـ رضى الله عنه ـ كان يقف أحيانا أمام باب حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : «السلام عليك يا رسول الله ، وأحيانا السلام عليك بأبى أنت وأمى يا رسول الله حى على الصلاة ، حى على الصلاة ، السلام عليك يا رسول الله (١) ، وأحيانا يقول السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته» (٢) ولما تولى أبو بكر الصديق الخلافة كان يقف سعد القرظى أمام باب دائرة الخلافة «ويقول السلام عليك يا خليفة رسول الله» ، ولما تولى عمر بن الخطاب الخلافة راعى سعد هذا النظام فى أول خلافته ، ولما قال عمر بن الخطاب أنتم مؤمنون وأنا أميركم أصبح يقول : «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حى على الصلاة حى على الفلاح ، يا أمير المؤمنين».

ثم أضاف جملة رحمك الله ، بناء على الأمر الصادر له من مقام الخلافة (٣) ولم يترك المؤذنون هذه العادة المستحبة إلى عهود خلفاء بنى أمية والخلفاء

__________________

(١) ناقل هذه الرواية وراويها الإمام الواقدى.

(٢) هذه الرواية منقولة من البلاذرى.

(٣) ثمة من يقول بأن إضافة عبارة رحمك الله كان فى عهد خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه.

١١١

العباسيين ، وكانوا ينادون الخلفاء والأمراء على هذه الصورة وكان هؤلاء يؤدون صلواتهم مع الجماعة (١).

وأراد الملوك الفاطميون أن يتبعوا هذه الطريقة ، ولكن بما أنهم لم يتعودوا الصلاة الجماعية أخذ مؤذنوهم عقب صلاة الصبح يسلمون فوق المآذن على الملوك والأمراء وهكذا جعلوهم يقررون ما كان يقوله مؤذنو الأسلاف على أبواب الأمراء والخلفاء فوق المآذن.

وغير السلطان صلاح الدين الأيوبى عادات الفاطميين ، فأمر بإلقاء الصلاة والسلام فى المآذن تعظيما لخليفة بغداد. وسرى هذا النظام على جوامع مصر والشام والحجاز. وفى خلال سنة ٧٦٠ الهجرية اتخذت عبارة «الصلاة والسلام عليك يا رسول الله» عقب أذان العشاء ليلة الجمعة ، وبعد إحدى وثلاثين سنة عقب أذان الصلوات الخمس كلها.

قد شغلت بتغيير الأذان المحمدى الطائفة الإمامية أيضا فى بعض الأوقات. وكان ذلك الوقت عند ما سجن أبو على بن كتبغا بن الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى الحافظ لدين الله أبا الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبى القاسم محمد بن المستنصر بالله ، وبما أنه من متعصبة الطائفة الإمامية ففى سنة ٥٢٤ الهجرية عند ما تولى الوزارة أراد أن يخالف أصحاب المذهب الإسماعيلى ، فأزال من الأذان جملة «حى على خير العمل» ، ووضع مكانها جملة محمد وعلى خير البشر ، وأنكر هذا مجتهد المذهب الإسماعيلى ، وإسماعيل الذى ينتسب إليه الإسماعيلية هو ابن الإمام جعفر الصادق وقتل بعد سنتين ، فظهر الحافظ لدين الله وحذف من الأذان جملة «محمد وعلى خير البشر» ، وأعاده كما فى السابق جملة «حى على خير العمل». وأول من أذن من الإمامية قائلا «محمد وعلى خير البشر» شخص يدعى الأمير كابى شكنبة حسين.

ويروى أن هذا الشخص هو على بن محمد بن على بن إسماعيل بن حسن

__________________

(١) وقد تخلى الخلفاء العباسيون فيما بعد عن الصلاة فى جماعة.

١١٢

بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب. ويحكون أنه أذن فوق إحدى مآذن حلب ذات ليلة على هذه الصورة ، وفى عصر سيف الدولة الحمدانى ، وأصبحت قراءة الأذان فى هذه الصورة عادة لمن يتبعون المذهب الإسماعيلى.

هذه الرواية تنسب إلى الشريف محمد بن أسعد الجوانى النسابة ، وقد دامت قراءة الأذان بصيغة «حى على خير العمل محمد وعلى خير البشر» إلى قرب عهد نور الدين محمود. وبنى محمود مدرسة الحلاوية وافتتحها فدعا لأجل التبرك ، أبا الحسن على بن الحسن بن محمد البلخى الحنفى. وقد استجاب أبو الحسن للدعوة مع فقهاء البلدة ولما حل وقت الصلاة طلب أن يصعد أحد الأشخاص على المئذنة ويؤذن بالصورة المشروعة المعروفة وإذا وجد من يرفض ذلك أن يضرب وأن يهدد من قبل الجماعة.

فصعد أحد الفقهاء المئذنة وأذن على الوجه المطلوب ولم تتغير بعد ذلك اليوم صيغة الأذان. واستمرت صيغة أذان مصر إلى سنة ٥٦٧ ، أى إلى عهد سلطنة صلاح الدين الأيوبى على الصيغة التى كانت عليها فى عهد الفاطميين. ولما كان صلاح الدين الأيوبى شافعى المذهب ، وعلى عقيدة الشيخ أبى الحسن الأشعرى رفع بدعة «حى على خير العمل» ، وبعد ذلك كانت صيغة الأذان التى تقرأ فى مصر أو الشام أو البلاد الملحقة بهما نفس صيغة الأذان التى تقرأ فى مكة المعظمة. واستمر هذا النظام إلى تأسيس الأتراك المدارس فى الديار المصرية أى إلى سنة (٧٦١) الهجرية ، وبعد ذلك انتشر المذهب الحنفى فالأذان الذى كان يؤذن يوافق أذان الكوفيين ، وكذلك أذان الصلوات. والأذان الذى يؤذن فى المدارس الأخرى والجوامع كذلك الصلوات تؤدى وفق أذان المكيين وصلواتهم. وكان المؤذنون فى ليالى الجمع عقب أذان العشاء يصلون ويسلمون على النبى صلى الله عليه وسلم وقد اتخذ هذا النظام من طرف محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله البرلسى. وفى سنة ٧٩١ الهجرية اتخذت عادة قراءة الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم عقب أذان الصلوات المفروضة الخمسة ، وذلك بأمر المحتسب نجم الدين محمد الطبندى وعممت على كل الجوامع.

١١٣

وجرأة نجم الدين الطبندى على تعميم هذا النظام عمله بقول أحد السكارى. ويحكى أن طائفة من السكارى استحسنت قراءة الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم بعد أذان صلاة العشاء فى ليلة الجمعة ، فقام واحد منهم وقال : «هل ترغبون أن يصلى على الرسول صلى الله عليه وسلم عقب كل أذان؟!» فأجابه رفقاؤه : «نعم وما أحسنها من فكرة!!» واستيقظ الشخص الذى أورد هذا السؤال منشرحا باشا ، وقال «قد رأيت الليلة فى منامى ورؤياى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبلغنى أن أذهب إلى المحتسب ليأمر المؤذنين أن يصلوا فعلا فذهب إلى المحتسب وأخبره برؤياه».

وكان محتسب مصر فى ذلك الوقت رجلا مسنّا يسمى (نجم الدين الطبندى) ، وكان فى غاية الجهل والحماقة مذموما بين الناس لاتصافه بمذموم الصفات. فاستعجب من قول صاحب الرؤيا أن النبى صلى الله عليه وسلم أمره بأن يبلغ المؤذنين أن يقولوا عقب كل أذان فى الصلوات الخمس (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) ، وجمع كل المؤذنين وأمرهم أن يصلوا على النبى صلى الله عليه وسلم عقب كل أذان بعد الصلوات الخمس (١).

ولم يدر نجم الدين هذا أن النبى صلى الله عليه وسلم لن يأمر بعد وفاته بشىء يخالف الشريعة الإسلامية ، ولم يتذكر قول الله تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى : ٢١].

ولم يخطر بباله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياكم ومحدثات الأمور» وكان هذا الأحمق سببا فى اتخاذ هذه البدعة التى استمرت إلى يومنا هذا. ويظن بعض الجهلاء فى القرى أن الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم من تتمة الأذان الشريف ويصرون على عدم تركها ، حتى إن بعض الجهلاء يسلمون على أرواح من يعتقدون فى صلاحهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

__________________

(١) اتخذت قراءة الصلاة والسلام على مآذن البلاد العثمانية فى عهد السلطان مراد خان الأول بن السلطان أورخان غازى.

١١٤

التسبيح على الممآذن :

التسبيح على المآذن ليلا سنة تعود إلى عهد موسى (عليه السلام) فقد اعتاد نبى الله موسى (عليه السلام) أن يسبح الله بصوت عال من الثلث الأخير من الليل إلى طلوع الفجر بعد أن غرق فرعون وهلك ونجا بنو إسرائيل.

واتخذ بوقين من الفضة حتى يعلن حلول وقت التسبيح وعلم صورة استعمالهما من قومه. وكان ينفخ فى هذه الأبواق فى الثلث الأخير من الليل وعند الرحيل والنزول وأيام الأعياد ، وكلما نفخ فى البوق كانت طائفة بنى (لاوى) من أسباط موسى (عليه السلام) تستيقظ من نومها وتقرأ بصوت عال التوراة الشريفة كما كان المؤمنون من بنى إسرائيل يشغلون بالتسبيح والذكر بصوت مرتفع.

وهذا النوع من العبادة استمر إلى عهد يوشع بن نون ، ولما أخذ سيدنا داود (عليه السلام) يؤسس بيت المقدس عين بعض الموظفين من بنى لاوى للمحافظة على هذه السنة.

وكان بعض من هؤلاء الموظفين يذكرون الله حول بيت المقدس (بالعود والمزمار والسنتور والدف) حتى طلوع الفجر وكان الآخرون يقرءون فى داخل بيت المقدس (التوراة) و (الزبور).

وعدد هؤلاء الموظفين كثير وتفصيل الموضوع فى كتابى الزبور ولما كان اللاويون يبتدرون للعبادة فى داخل بيت المقدس وخارجه كما سبق ذكره ، وكان سكان بيت المقدس حيثما وجدوا يشرعون فى التسبيح والذكر بصوت مرتفع.

وكان على هؤلاء أن يضربوا على الربابة فالعبادة بالربابة كانت خاصة فى داخل بيت المقدس أو خارجه بمؤذنى بنى لاوى الذين عينهم سيدنا داود. ولما كانت أصوات من يتعبدون حول بيت المقدس تصل وتنعكس على القرى المجاورة كان أهاليها يستيقظون ويأخذون فى التسبيح والذكر بأصوات عالية فتنتشر

١١٥

الأصوات من قرية إلى أخرى ، حتى إن جميع أهالى القرى والمدن يذكرون الله من الثلث الأخير من الليل حتى الفجر.

وقد استمر هذا النظام إلى أن خرب بختنصر البيت المقدس ، وهدمه ونقل بنى إسرائيل إلى بابل وأجلاهم من البيت المقدس. ولم يتعبد على الطريقة المذكورة طول وجود بنى إسرائيل فى بابل ، واستمرت تلك المدة سبعين عاما.

وبينما عاد بنو إسرائيل من بابل وأخذوا يسعون لتعمير وتجديد بيت المقدس أخذ أحفاد بنى لاوى يتعبدون على الطريقة التى وصفها داود ـ عليه السلام ـ ، واستمر ذلك إلى استشهاد يحيى بن زكريا ـ عليه السلام ـ وبعد استشهاد يحيى خرب بيت المقدس ، وثار اليهود على عيسى ـ عليه السلام ـ وتركت العبادة فى البلاد الإسرائيلية وفق شرائع بنى إسرائيل وأبطلت عادة القيام ليلا للتسبيح والذكر.

وأجريت أصول التسبيح فى العهد الإسلامى فى مصر لأول مرة فى زمن مسلمة بن مخلد وإمارته فى سنة ٥٩ الهجرية. وكان مسلمة بن مخلد بن الصامت بن نيار الأنصارى قد بنى لجامع عمرو بن العاص مئذنة كما ذكر آنفا ، واعتاد أن يعتكف فى المسجد بجانب هذه المئذنة ؛ ولكنه انزعج من أصوات نواقيس الكنائس التى كانت تدق ، واستدعى رئيس مؤذنى ذلك الجامع شرحبيل بن عامر وقال له : «إننى أنزعج من أصوات نواقيس الكنائس صباحا!! ألا نجد لذلك حلا؟!» فقال له : «إذا ما وافقت على فكرتى فإن ذلك ممكن ، إذ أبدأ فى الأذان من منتصف الليل وأمده إلى طلوع الفجر. فتأمروا ألا تدق النواقيس فى أثناء أذانى» ، ووافق مسلمة بن مخلد على هذه الفكرة واتخذ شرحبيل الأذان من منتصف الليل إلى الفجر عادة له ، كما أن مسلمة أمر بألا تدق النواقيس فى أثناء الأذان وأخذ يتعبد فى سكينة وخشوع.

وفى سنة ٢٥٤ الهجرية منع أبو العباس أحمد بن طولون إطالة الأذان بهذه الصورة ووضع نظام التكبير والتسبيح فى وقت قريب من الصباح ، وعين لذلك

١١٦

المكبرين الذين كانوا يكبرون ويسبحون على المآذن ويقرءون القصائد الخاصة بالزهد والأشعار. وأبقى ابنه أبو الجيش خمارويه المكبرين فى وظائفهم واستمر فى إعطائهم ما خصصه لهم والده من الأجور.

واستمر هذا النظام إلى سنة ٥٦٨ الهجرية ، وفى خلال تلك السنة قرر الملك (صلاح الدين) يوسف بن أيوب بناء على رأى وموافقة (صدر الدين) عبد الملك بن درباس الهدبانى المارانى الشافعى الذى عينه شيخا للإسلام أن تقرأ فوق المآذن بدل التسبيح والذكر ، قصائد تمجد عقائد الأشعرية والأناشيد الدينية.

وفعلا نفذ ذلك القرار. وأبلغ الأمر إلى مؤذنى جوامع مصر والشام ونبههم بأن يسيروا وفق هذا الأمر وينفذوه.

ولما كان صلاح الدين وشيخ إسلامه صدر الدين على مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى فى العقيدة ، دعوا الناس إلى هذه العقيدة وتجرءوا أن يكفروا المخالفين.

وقد اتخذ قرار قراءة الصلاة على المآذن فى يوم الجمع لإعداد الناس لصلاة الجمعة ، فى مصر فى خلال سنة ٧٠٦ الهجرية ، وبعد ذلك بخمسة وخمسين عاما نقل هذا النظام إلى دمشق الشام وحلب والبلاد الأخرى ، ومازالت هذه العادة جارية فى جميع جوامع العالم الإسلامى إلى الآن.

(سلك الدرر)

١١٧
١١٨

الوجهة الثالثة

الأحوال الجغرافية لجزيرة العرب

١١٩
١٢٠