موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

وبعد أن صنفت الثريا التى سبق تعريفها فى مكانها اللائق ، نسجت قطع الأقمشة والأغطية والسجاجيد التى صدر الأمر بصنعها ووضعها فى مشهد الحرم القدسى والروضة المطهرة التى يخدمها الملائكة ، وكانت قطعة القماش كسوة جدران المرقد النبوى تعانق دائرا ما دار الحجرة فى جهاتها الأربعة وكانت أرضية هذا القماش الساحر من ستين ذراعا من الأطلس الأخضر وجها وبطانة وقد سطر على هذا القماش الذى يبعث الفرحة السورة الشريفة «الفتح» باستعمال ٧٠٠٠ مثقال من خيوط الفضة النادرة ، وزينت ما بين سطورها بجداول لحسنها فبدت كأنوار الشفق وظهرت فى ساحة الأخيار وتمنى رضوان الجنة أن يمسح وجهه عليها.

وحتى يربط ما بين الغطاء الشريف المذكور أرسل ٥٧ قطعة أطلس فى لون الزرع وكل قطعة فى أربعة عشر ذراعا ، كتبت عليها بعض الآيات الكريمة وكلمة الشهادة المباركة والصلوات الشريفة ثم أرسلت وأكملت بلوازمها الأخرى ، ثم أرسلت أغطية ضريح وردة بستان النبوة ، وثمرة سدرة المنتهى للرسالة ، سيدة قصر العفة زينة بيت الشرف والسعادة درة السيادة السماوية ولؤلؤة العصمة سيدة النساء وقطعة كبد حبيب الله فاطمة الزهراء ـ رضى الله عنها ـ وكانت أرضيتها الغالية حمراء اللون ولون بطانتها خضراء.

وقد كتب فوق (١١) قطعة من أجمل أقمشة الأطلس بالخيوط الذهبية بعض الأحاديث الشريفة ببراعة أساتذة الفن ، ولما تم صنع أعمالها الأخرى أرسلت إلى المدينة المنورة لتعلق على جدران المسجد النبوى والمعبد المصطفوى توأم الجنة كما أرسلت ثمان وثمانين قطعة سجاد مزخرفة بأنواع نقوش الأزاهير إلى المدينة المنورة لتفرش على ساحة الحرم النبوى ، وكان مقدار هذه السجاجيد بالحساب التربيعى ٣٠٨١ ذراع من القماش والشمعدانان اللذان أرسلا لإنارة المكان الذى بشر بالحديث الشريف الذى يقول «بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة» ، وطاف المحراب المشحون بالرحمة حيث توافر أجنحة الروحانية ذات عرب وكانا كأنهما نيران من حيث الشكل أو مثل الفرقدين وكانا مرصعين بأنواع الرسوم

٨١

البديعة وكانا من الذهب الخالص مع مقعدين مطليين بالذهب وقد أمر بجعلهما مصباحين لإنارة هذا المكان المبارك مهبط الوحى.

وأرسل الشمعدانان والسجاجيد التى ذكرت بحرا وأرسلت الأغطية والثريا المزينة برا ، بعد أن أودعت فى أمانة الصف ووصلت تلك الأشياء التى أرسلت برأ يوم الخميس وبناء على الأمر المطاع من الجميع الأمر السلطانى الذى يحترمه الجميع أخرجت تلك الثريا أمام الباشا الحاج وشيخ الحرم النبوى الحاج عبد الرحمن أغا وقاضى المدينة وأمين الصف وكافة العلماء والخطباء والأئمة والأشراف وحضورهم وبعدما رآها الجميع أخذت بمراسم الآداب والخشوع وقراءة الأوراد والتحيات إلى حجرة سيد الورى المنظمة ـ عليه أفضل التحايا ـ حيث علقت فى مكان مناسب.

وهكذا أدى مهمته ، وبعد ذلك أخرجت أغطية المرقد النبوى وفق المراسم القديمة بكل تعظيم وتفخيم وعلقت على جدران المشهد المصطفوى وبعد ما كسى مضجع سلطان القصرين ولم يقصر أحد فى بذل أقصى ما يقدر عليه من التوقير والإجلال حين كسى المضجع النبوى ألبست أغطية مرقد الزهراء ـ رضى الله عنها وبما أنه قد وصلت ٨٨ قطعة من السجاجيد ذات النقوش البديعة والشمعدانان فبسطت السجاجيد على ساحة الحرم النبوى الشريف والروضة المطهرة المصطفوية ، ووضع الشمعدانان مع مقعديهما يمين محراب النبى ويساره.

وكان السلطان محمود خان قد أرسل قبل ذلك ثريا أخرى وبما أنها كانت مثل الثريا التى سبق تعريفها فصرف النظر عن تعريف شكلها وهيئتها.

ومن السلاطين الذين خدموا حرم السعادة السلطان الغازى السلطان عثمان خان الثالث بن السلطان مصطفى خان الثانى ، إذ كان قد أرسل أمين الصف إبراهيم أغا مكلفا بمهمة كشف وتعمير سقوف مؤخر حرم السعادة التى أشرفت على الخراب بعد ما استأذن منهم بذلك فى سنة (١١٦٩ ه‍) وأبلغ والى مصر بأن يرسل إلى المدينة الأشياء اللازمة للتعمير سريعا.

٨٢

ولما وصل إبراهيم أغا إلى المدينة المنورة وجد لوازم البناء التى أرسلت من مصر قد وصلت فعمر السقوف التى أشرفت على الخراب وما احتاج للإصلاح من مواقع حرم السعادة وكتب على السقف الجديد هذه العبارة :

«أمر بعمارة الحرم الشريف السلطان الأعظم السلطان عثمان خان ، بن السلطان مصطفى خان ، خلد الله ملكه وذلك بمباشرة الحاج المعتمر الأمين إبراهيم أغا ، أمين الحرمين الشريفين ، وأمين بناء المسجد النبوى بتوفيقه من الله ؛ سنة ألف ومائة وسبعين.

والسلطان مصطفى خان الثالث بن السلطان أحمد خان الثالث من السلاطين العثمانية الذين كانوا يبذلون المهج فى سبيل النبى صلى الله عليه وسلم ، وقد وصل إلى أعتاب سلطنته أن علامات الانهيار والسقوط قد ظهرت فى بعض أماكن سقف حرم السعادة وبناء على ذلك صدر الأمر السلطانى بالإسراع فى تعمير وتجديد الأماكن التى اقتضت ذلك وأرسل إلى المدينة المنورة بصحبة محمد أمين بن فيض الله أغا مهرة العمال والمعماريين المقتدرين.

ووصل محمد أمين أغا إلى دار السكينة وأصلح الأماكن التى أشرفت على الخراب من سقوف الحرم الشريف بالاتفاق مع أعيان البلاد وموظفى الحكومة وبقرارهم ، وعمر بعد ذلك الجدار الذى على يمين مضجع السعادة ويساره بأحجار ملونة مختلفة ، وزين جميع جهات الحرم النبوى توأم الجنة. وجعله مثالا للبيت الذى يقول :

ما حاجتنا لتعريف الشمس بالنور

فآثار نوره ظاهرة للعيان

وكتب فوق السقف الذى جدده

أمر بعمارة هذا الحرم الشريف السلطان عبد الحميد خان ، بن السلطان أحمد خان خلد الله ملكه مدى الزمان وذلك بمباشرة المفتقر إلى الله ، العبد محمد أمين بن فيض الله ؛ سنة واحد وتسعين ومائة وألف.

٨٣

وكتب على اللوحتين المعلقتين مقابل الجدار النبوى من اليمين والشمال تاريخ

مقام المصطفى قف به منكس الرأس ما تريد

وتبتل لله الأحد فوق الذى ، نرجوه مما عليه مزيد

وادع لمن فاق الملوك الأولى ، قد خدموا هذا المكان السعيد

سلطاننا عبد الحميد الذى ، فى ملكه إذا أمسى نظام جديد

واسأل لأمين بنّآء محمد شفاعته إنه بها سعيد

مسجد طه أوجه الأنبياء ، جدده الخان عبد الحميد

كتب هذه المنظومة وكتب قطعة.

يا خير من دفنت فى القاع أعظمه

فطاب من طيبه القاع والأكم

نفسى فداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

على العمودين الرخاميين المربعين على يمين ويسار ذلك الموقع الشريف ، وكتب حول شبكة السعادة دائرا ما دار قصيدة «يا رسول الله! خذ بيدى» البليغة بخط جميل وذهبها ، فى سنة ١١٩١.

وقد عمر السلطان عبد الحميد خان بعد هذا التعمير بعشر سنوات بواسطة حامل أسلحة السلطان الحاج محمد أغا ونظارته الباب الخشبى وأساطين الروضة المطهرة ، وكان ذلك الباب الخشبى على يسار محراب النبى صلى الله عليه وسلم ، وقد أصلح هذه الأماكن فى طراز جميل وكتب الجملة المنجية لا إله إلا الله ، الملك الحق المبين وحديث «شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى» (حديث شريف) فى المكان الذى ينظر إلى الجدار القبلى للباب المذكور ، وكتب فى ذيل هذه الكتابات عبارة (عمره السلطان عبد الحميد خان (١٢٠١).

٨٤

وبعد عام أقيمت مدرسة تضم سبع عشرة حجرة ومحلا للاستذكار ومكتبة وجعل سواء أكان للطلبة الساكنين أو المدرسين أو أمناء دار الكتب مقدارا كافيا من المرتبات واشترى حديقة النخيل وبستان الخضر القريبين من المدرسة ووقف محاصيلها للطلبة الساكنين فى المدرسة وذلك فى سنة (١٢٠٢).

ومن السلاطين العثمانيين السلطان سليم الذى فخم الحرمين المحترمين أعظم تفخيم وعظم أهاليهما الكرام أعظم تعظيم ، وهو السلطان سليم خان الثالث بن السلطان مصطفى خان الثالث ، قد أمر فى عصره السعيد بناء على استئذان الأهالى بتعمير وإصلاح جدران الحرم النبوى مخدوم الملائكة والأساطين التى فى داخل الروضة المطهرة التى تعد من الآثار النبوية ، وغلف الأساطين الشريفة المذكورة مقدار ذراعين من الأرض بقطع رخام ملون ، ونظم قصيدة بذاته لتكتب على قطع الرخام الملونة وأرسلها إلى أمانة البناء ، وقد كتبت هذه القصيدة فى بحث الأساطين الملونة ، ذلك فى سنة ١٢٠٨ ه‍.

وبعد هذا التعمير بأربعة أعوام قد زين وعمر يمين ويسار جدران باب جبريل قدر ذراعين من الأرض وجدار محراب التهجد كاملا بالصينى ، وطهر ونظف مجرى عين الزرقاء وذلك بنظارة والى الشام عبد الله باشا.

وقد أنفق السلطان الغازى محمود خان الثانى بن السلطان عبد الحميد خان الأول كثيرا من النقود للحرمين الشريفين وأظهر بهذه الطريقة شدة حبه ووداده للنبى صلى الله عليه وسلم.

والحبوب التى خصصت لأهالى الحرمين من السلطنة السنية العثمانية فى عصره ، قد شريت وبيعت لسوء إدارة موظفى الدولة وطمع سكان المدينة الأغنياء والتجار ، وترك الفقراء والضعفاء جوعى ومرضى دون علاج وأخذ فقراء الحرمين يعانون أشد العناء وأخبر بذلك السلطان وعرض النبأ على عتباته ، واستحصل منه على إرادة سنية بخصوص إحصاء السكان لإعادة توزيع المرتبات وتقسيمها من

٨٥

جديد ، وكلف الوالى إبراهيم باشا الذى كان فى ذلك الوقت فى المدينة المنورة بإحصاء نفوس أهالى المدينة ، كما عين محافظ مكة خليل باشا لإحصاء عدد سكان أهالى مكة المعظمة.

وقد حرر إبراهيم باشا أسماء سكان المدينة المنورة وقيدها بأسرها كما حرر خليل باشا أيضا أسماء سكان مكة المكرمة وحدا الدفترين وبعد ختمهما أرسلاهما إلى والى مصر محمد على باشا كما أن الباشا المذكور أرسل الدفترين ملفوفين بالكشف الذى ستبين صورته فيما يأتى إلى الباب العالى.

وظن بعض الأهالى من هذا الإحصاء أن الدولة تريد أن تجند أبناءهم وأخفوا عددهم ، لذا لم يدرج أسماء كثيرين منهم فى الدفاتر ولكن المجربين منهم فهموا الموضوع ووجدوا طريقة لإدراج أسمائهم فى آخر الدفاتر بواسطة موظفى الإدارة المصرية ولكن الذين لا يعرفون أحدا ظلوا غير مقيدين.

صورة القائمة التى كتبها محمد على باشا إلى مقام الصدارة العظمى السامى :

إن الغلال التى خصصت ورتبت من مصر فى السنين السابقة لأهالى الحرمين عفى نظامها مع مرور السنين وأبدل وأخذت تباع وتشترى فيما بينهم حتى استولى عليها الأغنياء ، واضطروا فقراءها للبحث عن أقواتهم اليومية وكان إدخالهم تحت النظام غير ممكن.

وقد رأينا أن نرسل إلى أهالى الحرمين الشريفين من المخازن المصرية مجددا مقدارا كافيا من الغلال بنية خالصة على أن تعد هذه الغلال من جملة الآثار الخيرية للسلطان المهيب ذا الشوكة ملجأ الإسلام ظل فضل الله ، وفى نعم كافة الأمم ، محمولة على المراكب حتى تستجلب لذاتكم السلطانية أدعية مضاعفة من أهالى الحرمين ، وبناء عليه قد رأى ابن عبدكم إبراهيم باشا عند عودته من الباب العالى إلى المدينة المنورة إعداد دفتر لكتابة أسماء أهالى المدينة المنورة لإحصاء عددهم ، وذلك بعلم أغا شيخ الحرم ورأيه وبضم آراء قاضى المدينة ومفتيها وفضلاء علمائه ووجوه البلاد ، كما اتخذ دفترا آخر حرر بعلم صاحب السعادة

٨٦

محافظ مكة خليل باشا وعلم الشريف يحيى وبمعرفة قاضى مكة المكرمة ومفتيها إلى أعتاب عظمتكم السلطانية ، والعلة الغائبة من هذا العمل الخيرى هى استجلاب الدعاء بالخير لجانب سلطنتكم ، وقد بلغ مقدار العلال السنوية الخاصة بالحرمين الشريفين إلى ١٦ ألف إردب وبعد هذه السنة سترسل الغلال الخاصة بالحرمين الشريفين فى ميعادها دون تفويت وقتها وقد بدأنا بذلك فى هذه السنة وببيان ذلك أعرض لجانب سلطنتكم طاعتى ، انتهى.

ولما أطلع السلطان على ما جاء فى الدفترين أمر بتنفيذ ما جاء فيهما ، وبناء على ذلك شرع فى إرسال الغلال إلى الحرمين ، إلا أن المساكين الذين لم تدرج أسماؤهم فى الدفترين حرموا من العطايا السلطانية ولكن بناء على رجاءات وجوه البلد واسترحاماتهم أضيف إلى العطايا ألف إردب حنطة فوصلت المخصصات الحجازية إلى سبعة عشر ألف إردب من حنطة وهذه المخصصات ترسل الآن.

سبب تشكيل مديرية الخزانة

إلى أن حل الوقت الذى بلغت المرتبات الحجازية إلى سبعة عشر ألف إردب قمح ، كان أمناء الصرة ثانى يوم وصولهم إلى المدينة الأمينة يفرشون على ساحة حرم السعادة الأبسطة ويوزعون ما سلم لهم من المبالغ لإعطائها لأهالى دار السكينة من باب السعادة ويستدعون من حررّت أسماؤهم فى الدفاتر التى أعطيت لهم من خزانتى الأوقاف والمالية ، وفى حضور أشراف البلاد وموظفى الحكومة يسلمون لهم بأيديهم مخصصاتهم ، ولما لم تكن فى ذلك الوقت دوائر فرعية خاصة بمديرية الخزانة كانت مستحقات كل فرد تسلم له دفعة واحدة من قبل أمين الصرة ، ولما كان صرف واستهلاك المبالغ التى أخذت دفعة واحدة فى خلال أيام قليلة حسب الحاجة الطبيعية ، كان سكان دار السكينة ينفقون مخصصاتهم خلال عدة شهور بوفرة ثم يعانون من قلة المال خلال الثمانية أشهر الباقية ، ولما أطلع السلطان محمود على هذه الحالة ألغى هذا النظام وأنقذ الأهالى من هذه المعاناة

٨٧

بوضع نظام تقسيم مخصصات كل فرد إلى اثنى عشر شهرا وإعطائها لهم فى كل شهر.

وحتى تعطى هذه الرواتب الشهرية وتوزع فى صورة منتظمة شكل مديرية خزانة المدينة المنورة وعين لها موظفين وبين لكل واحد منهم وظيفته ، ويسلم الآن أمناء الصرة ما حملوه من الأمانات لخزانة المديرية بموجب الدفاتر كما أن موظفى الخزانة يوزعونها شهرا بشهر لأصحابها ، ومديرية الخزانة دائرة غاية فى النظام فلها دفاترها المنظمة ، وسجلاتها التفصيلية ولها محققوها ومدققوها ، وتجرى معاملاتها فى دائرة النظم الموضوعة.

ولا يضيع حق أحد فى ظل حضرة الخليفة العادل ، ولا يبرز إنسان قائلا : «قد أضيع وأخفى». وذلك فى سنة ١٢٣٣ ه‍ ، انتهى.

وقد أصبح المسجد النبوى فى أشد الحاجة إلى الإصلاح ، فأعلم والى مصر محمد على باشا مركز السلطنة العثمانية بذلك ولما جاء الرد لمحمد على باشا يطلب منه أن يعين رجلا مناسبا لأمانة البناء لتعمير الحرم النبوى على أحسن وجه ، فكوفئ كاتب الديوان المصرى طاهر أفندى وهو من صلحاء الرجال المصريين بتعيينه أمينا للبناء وأرسله إلى المدينة المنورة ذات الشرف العالى.

ووصل طاهر أفندى إلى دار الهجرة واطلع مع وجوهها واتفاق آرائهم على حرم السعادة ، وقرر تعمير وتقوية قبة حجرة السعادة وأحاط الحائط الذى بنى فى عهد عمر بن عبد العزيز بسور آخر ، فأحكم تشييد القبة الخضراء على وجه لائق بكل تعظيم وتوقير.

واهتم قاضى البلدة وشيخ الحرم النبوى وأعيان البلد وكبار موظفى الدولة بأداء الخدمة وهم لابسون أفخر ثيابهم ، وبعد أن عمر الحجرة المعطرة على الوجه الأكمل جعل النقاشين الذين أرسلوا من باب السعادة يصبغونها وزين جدرانها برسوم مختلفة الشكل ثم كتب الحديث الشريف فوق الباب الخشبى الذى يقع

٨٨

فى جهة المرقد النبوى من محراب النبى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من زارنى بعد مماتى فكأنما زارنى فى حياتى ، ومن زارنى وجبت له شفاعتى» ، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كتبه الفقير قوناقجى زاده إبراهيم النقشى ثم كتب على رخام مستدير فى الجهة الداخلية من باب جبريل عبارة : «عمر السلطان الغازى محمود خان نصره الله تعالى سنة ١٢٢٨» ، وفى الجهة الداخلية من جهة اليسار كتبت جملة : «عمر الحرم الشريف أمين كاتب الديوان المصرى محمد طاهر ١٢٢٨ وذهبها».

وقد وفق السلطان محمود خان العدلى فى إحياء هذه المآثر لوالى مصر محمد على باشا بتعمير وإصلاح المساجد والآثار التى تخربت وإحيائها وكتب بذلك إلى والى جدة ومحافظ المدينة المنورة نجله النجيل إبراهيم باشا وأرسل ما يلزمه من المبالغ ولوازم البناء قدر ما بلغ ، واستدعى إبراهيم باشا من باب السعادة ومصر مهرة العمال الذين تمرسوا فى دقائق أعمال البناء.

كما جلب من الشام قوالب الصينى وابتدر فى تعمير هذه الآثار وإحيائها ، وجدد أولا داخل حرم مسجد الحبيب والقبة الخضراء وخارجها وبعد ذلك أضرحة البقيع ثم أبنية المساجد والمشاهد فى صورة لائقة ، ثم وضع قطع الرخام التى وردت من باب السعادة فوق كمرات أبواب الأضرحة وزين كل مسجد وكل أثر كحسناء محبوبة ، وعين أصحاب الأضرحة بكتابة الأبيات فوق طاقاتها ولم يترك حاجة للزوار للسؤال عن أصحاب تلك الآثار ونوعها.

إذا كان قد كتب فوق قطع الرخام التى أرسلت من باب السعادة والتى وضعت وألصقت فوق أبواب هذه الآثار والأضرحة كتب عليها بعبارة مختارة وأحيانا بينت أسماء أصحاب الأضرحة وحقيقة الأثر وكنهه ، وكانت الأبيات المذكورة ثمرة قريحة ابن كيجة جى عزت منلا المرحوم من شعراء عهد السلطان محمود خان العدلى المشهورين قد كتبت وحكّت مذهّبة فى باب السعادة ، وما زالت منها مذكورة فى بحث تعريف الآثار والأضرحة.

٨٩

وبعد أن أتم إبراهيم باشا المرحوم بتعمير حرم السعادة أمر بكتابة المدحية (١) العبارة عن الثمانين بيت المنظومة بعبارة عربية فوق جدار القبلة الذى يقع خارج باب السلام ، وكتب على الجهة اليمنى من هذه المدحية بخط أبيض فى صورة الشمس :

«قد كان الوكيل بعمارة الحرم الشريف النبوى والى مصر محمد على باشا أدام الله إجلاله آمين» وكتب البيت الشريف تحت الجملة السابقة بخط أبيض على شكل صورة الشمس :

هو الحبيب الذى ترجى شفاعته

لكل هول من الأهوال مقتحم

وفوقه بنفس الطريقة :

ما شاء الله كان هذا باب كليم الله فى سنة ١٢٣٣.

وعلى طاق الباب المذكور كذلك : هذه عمارة الحرم الشريف النبوى فى أيام إبراهيم باشا والى جدة ومحافظ المدينة المنورة عام ١٢٣٣.

وفى نهاية هذا الكلام :

فاق النبيين فى خلق وفى خلق

ولم يدانوه فى علم ولا كرم

وفوقه على هيئة الشمس كذلك : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم ..

كما أمر بكتابة التاريخ القديم الذى ظل من عهد السلطان قايتباى حول هذه الخطوط دائرا ما دار.

وبعد أن أتم إبراهيم باشا تجديد مسجد السعادة توأم الجنة أسرع لتجديد مسجد قباء فشيّد حرم السعادة المذكور فى صورة محكمة أحيا وجدد فى شكل جميل وبنى مبرك الناقة ومنزلة الآية ومسجد على ومسجد فاطمة ، ومسجد عمر ، مسجد بئر خاتم ، والسبيل الذى فى هذه الناحية وسبيل السلطان أحمد فى اتصال

__________________

(١) هذا المديح قائمة صورته إلى يومنا هذا فوق هذا الجدار المذكور إلا أن معظم أبياتها محيت لدرجة أن بعض مصاريعها تلفت بدرجة يصعب معها قراءتها فلم نستطع أن ننقلها فى هذا المكان.

٩٠

جدار مقبرة البقيع التى فى داخل المدينة ومسجد بغلة ، ومسجد بنى ظفر ، مسجد أبى بن كعب فى داخل مقبرة البقيع ، ومسجد مصلى العيد المصطفوى الذى فى ميدان المناخة ، ومسجد الصديق الأكبر.

ثم بنى مدرسة باسم السلطان بالقرب من باب السلام وأصلح مدرسة السلطان عبد الحميد خان فصارت فى غاية الجمال والمتانة وأحياها ، وهكذا استجلبوا الدعاء لجانب السلطان السنى.

وقد طهر السلطان المشار إليه مجرى عين الزرقاء إثر السيول التى ظهرت فى سنة ١١٢٤ ه‍ مثل البحار وخربته إلى قبة البئر ثم أعطى ثلاثمائة صرة من الدراهم لتوزيعها على الحجاج الذين أضيروا بسبب السيول كما تصدق بثلاثمائة قطعة من الملابس لتقسم على الفقراء وأهدى حصرا وأبسطة لفرشها فى حجرة السعادة ، كما أهدى خمسا وسبعين قطعة من السلاسل الذهبية وأربعمائة وعشرين عددا من السلاسل الفضية لتعلق فى حجرة السعادة ، وبعض الشمعدانات لتوضع على يمين ويسار محراب النبى والمحراب السليمانى وأضاء داخل حرم السعادة الذى يشبه الجنة ، وذلك فى سنة ١٢٣٥ ه‍.

وكانت كل واحدة من السلاسل الذهبية فى ثقل مائتى درهم وكانت كل واحدة من السلاسل الفضية مائة وأربعين درهما ، وكان مع الشمعدانان عرض حال سلطانى كتبت صورته فيما يأتى :

نظم

تجرأت أهدى الشمعدان يا رسول الله

قصدى أن أخدم عتبتك العليا يا رسول الله

لا تليق بروضتك الثريا التى قدمتها يدى العاجز

فاحسن إلى بقبولها يا رسول الله

ليس لى أحد أشكو حالى

٩١

فمن جنابك الإحسان والمروءة يا رسول الله

دخيلك الأمان قد وقفت ببابك

ارحمنى وكن شفيعى يا رسول الله

فاستصحبنى فى العالمين ، السلطان محمود العدلى

فالدولة لك فى الأول والآخر يا رسول الله

وبعد إرسال الهدايا المذكورة علم من قبل السلطان أن قطع الرخام التى بين الروضة المطهرة وجدار القبلة قد خربت بطريقة سيئة وبناء على الأوامر الصادرة أصلحت وجددت قطع الرخام التى فى المكان المذكورة ابتداء من مواجهة السعادة إلى باب السلام ولما كان ما بين باب السلام إلى باب الرحمة ترابا فرش هذا المكان وكذلك الساحة التى فى محاذاة الأعمدة فى الساحة الرملية بالقطع الرخامية ، وذهبت الخطوط التى فى السقوف وعمر حمام محمد على باشا الذى كان قد فجر اللغم من قبل ، وأسست مدرسة جميلة فى قرية قباء ثم حفرت بالقرب من مشهد حمزة بئر واسعة وحوض.

وما عدا هذه بنيت بالقرب من باب السلام دار توقيت على أن تكون فى إحدى جهاتها مدرسة وفى جهة غرفا للمؤقتين ، كما أسّس أمام دار التوقيت سبيل جميل وهكذا أحيا أهالى المدينة.

وبما أنه أرسلت ساعة من باب السعادة لتوضع فى داخل دار التوقيت وتاريخا ليحكّ فى أعلى طاق المبانى التاريخ الذى حرر بالشكل اللائق ، فوضعت الساعة فى مكانها الخاص كما حكّ التاريخ فوق كمر باب دار التوقيت وذهّب وهذه صورة تاريخ دار التوقيت :

التاريخ

قد قام ملك ملوك الزمان بأثر محمود

بنى فى داخل حصن المدينة هذه الدار للتوقيت

٩٢

كن من هذا الارتفاع الصامت دليلا على عظمة السلطان

قد زاد الزمان ساعة بعد ساعة بنوره

فليملأ الدهر بمفتاح الشريفة مثل الساعة

فلتكن روح النبى فى عون ذلك السلطان دائما

قد زين بهذا الشكل زينة محمود التاريخ

السلطان محمود هو الذى أوجد دار التوقيت

فى سنة ١٢٥٣.

وبعد تصليح دار التوقيت المذكورة بسنة ونصف كان قد أرسل من باب السعادة خمسة أنفار من المجلدين لتعمير وتذهيب الكتب الموجودة فى دور كتب المدينة المنورة ، وأعلم باب السعادة أن هؤلاء المجلدين قد عاينوا دور كتب المدينة المنورة بواسطة موظفى الدولة وعمروا سبعة آلاف مجلد من الكتب وذهبوها ، وقد أجر كل واحد من هؤلاء ألفا وخمسمائة قرش معاشا شهريا.

ولما كان نظام خدمة حرم السعادة احتاج للإصلاح صدر الأمر السلطانى أن تكتب أسماء الخدم ، فى دفاتر خاصة وقد جعل لعشرة من الشيوخ ثلاثون قرشا وقد خصص للشيوخ أجرا أسبوعيا مقداره أربعون قرشا وللفراشين خمسة وعشرون قرشا وأكرم الجميع بهذه الطريقة وذلك فى سنة ١٢٥٥.

ومازال هذا النظام مرعى الجانب إلى الآن وكل شيخ يقوم بأداء مهمته أسبوعيا مع رفقائه ، وفى يوم الجمعة يحصلون على أجورهم الأسبوعية ويعودون ، والذين لا يواظبون فى أداء خدماتهم تخصم منهم يومياتهم بموجب الدفتر.

وأرسل السلطان المشار إليه إلى حرم السعادة نسخة من البخارى والشفاء الشريف كما أرسل ثلاثين عددا من الكلام القديم (١) وثلاثين عددا من دلائل الخيرات وثلاثين قطعة من أجزاء القرآن الكريم ، وعين لتلاوة كل واحد منها شخصا وأراح باله بأن ربط له راتبا بمقدار كاف.

__________________

(١) يعنى القرآن.

٩٣

وما زال سواء أكانت الأجزاء اللطيفة أو البخارى والشفاء الشريفين فى المسجد النبوى وتقرأ صباح مساء أمام محراب التهجد يتحف ثواب قراءتها وأجرها لروح الواقف.

ولم يخدم السلطان محمود خان الحرمين الشريفين فحسب بما عرض من الخدمات إذ إنه كذلك جدد وعمر ـ كما سنبين فى الصور الآتية ـ مسجد قباء ، والمساجد الأخرى والآثار العالية وأضرحة مقبرة بقيع الغرقد التى هدمها وخربها طوائف الخوارج الرذيلة ، ومشهد حمزة ، ومقبرة الشهداء ، والمشاهد الأخرى والآثار المسعودة ، كما أمر بكتابة منظومة فوق أطواف المساجد والآثار.

خارقة

كان السلطان محمود خان العدلى جدد غطاء مرقد السعادة الذهبى للمرة الثانية ، والغطاء الذى أرسله فى المرة الثانية ، حينما وصل إلى الحجرة المعطرة وشرع فى تغطية المرقد لزم قلع الغطاء القديم ، وبينما شرع فى قلع الغطاء القديم الذى قد سكر باحتضان القبر النبوى الشريف عدة سنوات صدر من الهاتف صوت حزين يقول واه حسرتاه واه فرقتاه وهكذا عرض ذلك الغطاء نار حسرته وفرقته وقد سمع هذا الصدى المثير للشوق كل من كان فى داخل الحجرة النبوية وفقدوا عقلهم وشعورهم.

وإن كانت هذه الخارقة غير مصدقة عند أهل الاستدلال ، إلا أن الذين يصدقون أن الجذع الشريف الذى ارتمى على الأرض وأصبح جذاذا وأخذ يئن ويصيح عند ما وضع مكانه منبر السعادة لا يستبعدون ظهور مثل هذا الصوت عندما كان الغطاء القديم يخلع من على المرقد النبوى.

لمن يوفق أحد من ملوك الأسلاف إلى إسداء الخدمات لحرم السعادة مثل ما قدمها السلطان الغازى عبد المجيد خان ابن السلطان محمود خان الثانى ، إذ لم يترك ذاته السلطانية مكانا فى مسجد السعادة أو الحجرة المعطرة لم يجدده أو يعمره ، إذ بنى ٢٩ قبة فوق السقف القديم الذى صنعه السلطان مراد الرابع والذى يقع الآن فى الجهة القبلية من الساحة الرملية كما هو مبين فى الخريطة

٩٤

الخاصة ، كما جدد القباب الموجودة منفقا ما لا يحصى من النقود ، وفرش فوق أسطح القباب الموجودة بقطع من الرخام المجلاة ، وعنى بتزيينها ، وجدد الخطوط التى فى داخل مسجد السعادة وخارجه وهى التى تحدد حدود الحجرة المعطرة وقطع رخام حرم السعادة عامة ، وهكذا قام بخدمة عظيمة فإنه أسس أبنية المسجد النبوى الشريف المسعودة من جديد ، وأسس فوق باب التوسل مكاتب وعدة مخازن أعلاه وأسفله فأصبح باب حرم السعادة فى غاية اللطف مؤخرا. رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

دخول السلطان عبد المجيد فى حجرة السعادة

يروى أصحاب الوقوف من أهالى المدينة ومهرة بنائى الحجارة الذين استخدموا فى عمليات تجديد قبة السعادة فى حق المرحوم المشار إليه حكايتين غريبتين ولكن لهما مغزى ويدعون أنهما غير قابلتين للتكذيب.

١ ـ الحكاية الأولى :

نقشت الطغراء الغالية التى أرسلت من إستانبول فوق قطعة رخام مجلاة وذهبت لتكون علامة واضحة على أن السلطان عبد المجيد قد جدد وعمر مبانى الحرم العالية وعقب ختام فروغ عمليات المبانى المقدسة تركت فى جهة ما على أن توضع فوق كمر باب مناسب من الأبواب مغطاة ، وكان قد مر بعض الوقت من حينه ، فجاء أحد المجذوبين الذى لم يتحدث فى حياته مع أحد فأشار بأن توضع الطغراء فى مكانها بعد أن كشف غطاءها ، ولم يتأخر عن الإلحاح والإصرار قبل أن تلصق الطغراء المذكورة إلى مكانها وأخبر بالأمر موظفو الحكومة ، وإذا فى ذلك اليوم كان السلطان عبد المجيد قد ارتحل إلى قصر سواحل الجنة وجلس مكانه أخوه عبد العزيز خان! وعلم بهذا بعد ذلك بخمسة وعشرين يوما.

وبما أننا لا نصدق مثل هذه الحكاية فضلا عن أننا لا نريد أن تأخذ هذه الواقعة مكانا فى عالم الوجود ، فاستوضحنا الأمر من بعض الموظفين الذين كانوا فى مهمة تجديد تلك المبانى المقدسة فعرفنا أن الحقيقة كانت على الوجه الآتى : إن الطغراء التى حكّت مذهبة فوق قطعة الرخام وفى تاريخ إتمامها كانت أبنية حرم

٩٥

السعادة وإنشاءاتها قد وصلت إلى ختامها إلا أنه ظلت بعض كتاباتها ولما أكملت هذه الكتابات فوق الرخام ونقوشها تركت فى مكان محفوظ بعد أن غطيت حتى توضع فى مكانها ، وبعد فترة ما لم يبق فى الحرم الشريف محل فى حاجة إلى التجديد والتعمير ورفع رخام الطغراء من مكانه ، فجاء بعض المسافرين من جانب مكة المعظمة وأتوا بخبر وفاة السلطان عبد المجيد خان فى صورة غير رسمية ، إلا أن هذا الخبر لم يوثق به ولم يعتمد عليه ، ومن هنا أخذ خطباء المسجد يذكرون فى خطبتهم يوم الجمعة اسم السلطان عبد المجيد ويدعون له وقالوا : لو كانت هذه الرواية صحيحة جاءتنا الأخبار من جانب الإمارة الهاشمية فى مكة المكرمة وكنا نؤمر بذكر اسم عبد العزيز خان وتلاوته وهذا لزوم شرعى ، وكان لا بد أن يأتى الأمر السلطانى يشهد بجلوس السلطان عبد العزيز وكان ما قالوه معقولا.

وبما أن عمليات مبانى حرم السعادة أصبحت رهن الختام ولم يبق لقائل أن يقول : «فى هذا المكان قصور أو نقص» إذ أصبحت الروايات المتواترة أن من ينظر إلى المبانى العالية يراها ما زالت ناقصة ومن هنا كان يلزم تبديل الطغراء باسم السلطان الجديد ، ولما كان هذا خلاف الواقع وضع البنّاءون رخامة الطغراء التى أعدت من قبل فى مكانها فوق باب السلام وبهذا بين أن عمارة المسجد الأخيرة قد تمت فى عهد السلطان عبد المجيد الملئ بالخيرات وبهذه الجرأة المقدرة ودلالتها بان أنه متصف بالاستقامة والنزاهة وقد عرض هذا الوضع اللائق على السلطان عبد العزيز فى صورة غير لائقة وأدى ذلك لغضب ذلك السلطان ، إلا أن المنافقين الذين عرضوا ذلك الأمر على السلطان عن طريق الغمز واللمز قد ارتكبوا عن طريق الرياء المذموم ظلما كبيرا ؛ لأن عمارة حرم السعادة قد تمت فى اليوم الأولى من ذى الحجة سنة ١٢٧٧ ه‍ ووضعت طغراء عبد المجيد خان الغراء فوق باب السلام وعلى طاقه ، وكان السلطان عبد العزيز قد جلس على عرش السلطنة يوم الثلاثاء السابع عشر من ذى الحجة من السنة المذكورة ويوجد تفاوت قدر ستة عشر يوما بين الحادثين ، لو كان موظف مبانى السعادة امتنع عن وضع

٩٦

رخامة الطغراء فوق طاق باب السلام مصدقا رواية مسافرى مكة وكان بدل باسم السلطان عبد العزيز خان بعد الاستئذان كان سينال رضا السلطان بناء على أقوال المنافقين الذين تدخلوا فى الموضوع ، وسيحظى بالتفات ونعم السلطان ، ولم يكن هناك شبهة أنه سينال الترقية فى المناصب الدنيوية ولكنه بما أنه رفض أن يختار طريق الخداع والكذب للحصول على المراتب الدنيوية لأجل اجتنابه النواهى الإلهية لأنه كان سيتعرض للمسئولية وغضب الله ، ولا شك أن عرض الإخلاص والعبودية عن طريق الحيل والخدع والدسائس لم يكن أمرا مقبولا ولا مقدرا لدى السلطان عبد العزيز خان ، فلنفرض أن بعض أجزاء من حرم السعادة قد تم تعميره فى عهد السلطان عبد العزيز واكتملت تعميرات المبانى فى زمنه أليس الحكم بأن تعمير المبانى قد تم فى عهد السلطان عبد العزيز خان دون النظر إلى ما بذله السلطان عبد المجيد من الجهود والهمم فى خلال اثنى عشر عاما منافيا لقاعدة العدل والإنصاف ومغايرا لرضى عبد العزيز خان الذى يتصف بحبه للحق والإنصاف.

٢ ـ الحكاية الثانية :

قبل أن يرى خبر وفاة السلطان عبد المجيد خان بشهر ، قد رأى أحد سكان المدينة المنورة ممّن يظن بهم الصلاح والزهد رأى فى رؤياه أنه كان فى داخل الروضة المطهرة وإذا بذات عالى القدر ذات احتشام ملكى يدخل من باب السلام بكل وقار ووقف أمام باب الوفود وبعد فترة فتح باب الوفود وأدخل ذلك الشخص ذا السمات الروحانية داخل حجرة السعادة ، هذا ما شاهد ورآه ، وقد انتظر صاحب الرؤيا فى الروضة المطهرة إلا أنه رأى أن الشخص عالى القدر الذى أخذ داخل الحجرة النبوية لم يخرج خارجها ، واستيقظ حينئذ من نومه وبعد فترة تلقى نبأ وفاة السلطان عبد المجيد خان واطلع بعد الحساب أن ارتحال السلطان المذكور يوافق الليلة التى رأى فيها الرؤيا ، وعبّر رؤياه بأن ما قدم ذلك السلطان من خدمات عظيمة لحرم السعادة قد حظى بالقبول عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفعلا فإن هذا التعبير صحيح وهو عين الواقع.

٩٧

وبناء على ما يروى من هذا الشخص المبارك الذى رأى الرؤيا أن الشخص الذى قبل فى داخل الحجرة كان لابسا ملابس بيضاء من رأسه إلى أخمص قدميه وكان خلفه رجل يحمل سيفا ، والمظنون أن هذا الشخص هو السلطان عبد العزيز خان ، قد عاد بعد دخول السلطان عبد المجيد خان فى حجرة السعادة بكل وقار وسكينة وبعد مرور خمس أو عشر دقائق دخل فى حرم السعادة عدة أنفار من الجنود ذات عمائم خضراء وأحذية سوداء.

وقد أخبر صاحب الرؤيا أن أشكال هؤلاء الأنفار كانت تشبه للجنود الذين كانوا يرافقون الحاج وسيم باشا الذى أتى بأمر تولى عبد العزيز خان الحكم خلفا للسلطان عبد المجيد ، وذلك عندما جاء ذلك الباشا إلى المدينة المنورة.

ولا شك أن الذين يعرفون عظمة ما يكنه السلطان عبد المجيد من المحبة والعبودية لسلطان الأنبياء ـ عليه الصلاة والسلام ـ سيصدقون صورة تعبير هذه الرؤيا.

وبناء على ما سطر فى تواريخ الحرمين القديمة وما يجرى على ألسنة سكان دار الهجرة ليس هناك ملك جلس على كرسى العرش مثل السلطان عبد المجيد الذى أنفق من النقود وبذل من الجهود لتجديد مسجد السعادة وتعميره وتزيينه ، وبما أن المشار إليه قد جعل جميع أفكاره وشعاراته الملكية لخدمة سلطان الأنبياء فى كل آن وساعة وعرض عبوديته الصحيحة المخلصة يرون ظهور بعض الكرامات على يدى ذاته الملكية.

قد تعرض مصطفى عشقى بن عمر أفندى من أفاضل مجاورى المدينة المنورة لعلة القلب وتعرض من جراء ذلك إلى مضايقات وصعوبات فى إدارة وإعاشة أولاده ؛ وعليه قرر فى فترة ما ترك المدينة المنورة والسياحة فى بعض البلاد ، واستأذن من الحجرة المعطرة ، وبناء على الأمر الذى صدر جاء إلى إستانبول دار الأمان فى سنة ١٢٩٧ ه‍ وقد سطر فى آخر الكتاب الحالات التى أجبرته على

٩٨

اختيار هذه السياحة والإرادة العالية التى صدرت من قبل النبى صلى الله عليه وسلم بعد الاستخارة بالتفصيل.

ولما كان عشقى أفندى لم ير إستانبول وكان مشتاقا لرؤية وجه سلطان العصر ومشاهداته ذهب إلى دار المولوية فى بشكطاش حين وروده إلى إستانبول وجلس فى ركن من أركانها ، وبما أنّ ذلك اليوم كان يوم المقابلة شرف الخانقاه المذكورة السلطان عبد المجيد ، ولما لفت شكل عشقى أفندى الأنظار السلطانية بعث بموظف خاص يسأله عن اسمه ومن أين أتى ، وأين يستضاف ولم يعرف عشقى أفندى هوية هذا الموظف كما أنه لم يعرف الشخص الذى أرسله ، حتى أنه لم يعرف أن السلطان فى تلك التكية ، ولكنه عرف أنه سيكون الاجتماع فى يوم الجمعة فى مسجد بكلربكى اللامع الأنوار ، فذهب فى ذلك اليوم هناك حيث وقف فى الممر السلطانى بكل تعظيم ، وكان غرضه رؤية جمال وجه السلطان ولما جاء السلطان عبد المجيد فى محاذاة عشقى أفندى توقف وقال لرئيس كتابه مصطفى باشا : «يا باشا سلم من قبلى لهذا الشخص ، وبما أنه شرف إستانبول حديثا فلينعم قدر ما شاء وليتنزه وليشاهد جميع أماكن باب السعادة ، ولا يفكر فى أولاده وعياله».

إننى أفكر فى أولاده وعياله نائبا عنه ، قد خصصت له راتبا ثلاثمائة قرش ، فليعش مستريح البال مادام حيا وليدعو لدولتنا بقوتها وبقائها!!!».

هل هناك كرامة أكبر من هذا لأجل سلطان؟ ومن هنا يقال إن السلطان عبد المجيد قد حظى بحسن القبول لدى الجانب النبوى العالى كما أنه قد كلف تنفيذ الأوامر النبوية ، لأن عشقى أفندى كان قد أرسل من جانب النبى عظيم المناقب لطفا به. انتهى.

٩٩

فى تعريف كيفية تعمير حرم السعادة

وتجديده فى المرة السابعة

قد قام بتعمير الحرم الشريف ، ممسح جباه الموحدين والذى يقوم بخدمته الملائكة خدم سيد المرسلين ، قد قام بتعميره وتجديده للمرة السابعة السلطان الغازى عبد المجيد خان بن السلطان الغازى محمود خان العدلى.

وجه إلى شيخ المهندسين محمد رائف باشا من الثلاثة ذوى المكانة عند الوكلاء من محافظة طرابلس الغرب سابقا ومن كرام الأمراء وأحيل إليه وظيفة أمانة المبانى وأرسل إلى المدينة المنورة.

وخرج محمد رائف باشا من باب السعادة فى ربيع الأول سنة ١٢٦٧ ه‍ ووصل فى اليوم الثانى والعشرين من شعبان فى نفس السنة إلى المدينة المنورة وشغل بإتمام ما لم يتم عمله من الجبل طريق الأمر الذى سواه سلفه حليم أفندى الصغير ، واقتلع الخيم التى تؤوى العمال والآلات التى فى الجبل الأحمر وبنى مكانها دورا حتى يحمى العمال والأدوات من عربان البادية والحيوانات المتوحشة وعلى بعد عشرة أذرع من هذه الدور حفر بئر يبلغ عمقها خمسين ذراعا.

الحوادث المحلية

عتدما أتم محمد رائف باشا حفر البئر وأخذ العمال يستفيدون منها ، عصى عربان البادية وتسلطوا على قوافل الحجاج وأبناء السبيل ، وحاصروا المدينة المنورة وقطعوا الطرق والموارد عنها حتى يضيقوا على العمال والمسافرين وجيران سيد المرسلين ، ومنعوا جلب الحجارة من الجبل الأحمر إلى المدينة كما منعوا جلب المياه إلى العمال من البئر سالفة الذكر وهجموا على العمال ونهبوا الحيوانات الأميرية وعملوا على قتل من يصادفهم من الناس وتسلح عمال الجبل الأحمر

١٠٠