موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

وكانت الأطعمة التى تطبخ فى التكية المرادية نفيسة وكثيرة بدرجة حتى إنها كانت توزع فى ليلتى الاثنين والجمعة ما عدا الغرباء والفقراء على جميع أهالى المدينة ، وبناء على الروايات الموثوقة أن فقراء أهالى المدينة كانو يصفّون ما يحصلون عليه من التكية من طعام الأرز ويئتدمون بزيته عدة أيام ، وقد اشترى السلطان فى مصر عدة قرى وأوقفت محاصيلها على تلك العمارة ، وكان يرسل من مصر سنويا محاصيل تساوى خمسة وعشرين ألف قطعة ذهب.

وبناء على المعلومات التى أفرها مؤلف لطائف الأخبار من مؤرخى مصر أن القرى التى شريت لأجل التكية المرادية ووقفت لها هى : لفلا ، ظاهرية (١) سبك الأحد ، شبرا زنجى (٢) ، طنان ، كفر زريق ، طوخ الملقة ، سد طنان ، سهرا (٣) ، سندوب ، زريبة ، بهداد ، بلو صوره ، سفط الخمارة ، كفر حيدره ، قيس ، انسوح ، ريده منية سمنود ، أبو الحسن (٤) ، كوم برا ، تهيا (٥) ، بلقيا ، دنديل ، حكامنا ، دشنا ، ضوابط ، أهناس المدينة أهناس الخضراء ، وكانت الحكومة المصرية تدرّ من محاصيل هذه القرى واحدا وعشرين ألف إردب من الحبوب وترسلها إلى بندر السويس ومن هناك إلى ينبع بواسطة نوع من المراكب تسمى سبنودا من هناك إلى المدينة المنورة محملة على الجمال وكانت هذه الحبوب وقف دشيشة التكية المرادية.

إلى هذا التاريخ لم تكن فى المدينة المنورة مؤسسة خيرية مثل هذه وكان أهل المدينة محتاجين لمثل هذه التكية حقا لأجل ذلك يهدى أهل المدينة إلى الآن لروح السلطان المغفور له المشار إليه الفاتحة بكل إخلاص.

__________________

(١) تتبع هاتان القريتان ناحية البحيرة لعلها «نكلا ، ظاهرية».

(٢) كانت من توابع ناحية المنوفية.

(٣) كانت تتبع ناحية القليوبية.

(٤) كانت هذه القرى من نواحى الدقهلية.

(٥) كانت هذه القرى داخل نواحى بهنساوية والوجه القبلى.

٦١

نكتة لطيفة

كان قد خصص للبغلين اللذين يستخدمان لإدارة الطاحونة التى فى داخل العمارة المرادية إردبين من الشعير يوميا لكل واحد منهما ، ولما كان إردبان من الشعير اللذان خصصا بالإرادة السلطانية كثيرا جدا ، سأل رجال الدولة السلطان قائلين : «ما الحكمة فى تخصيص إردبين من الشعير يوميا لكل واحد من البغلين مع أنكم تعرفون أن إردبين من الشعير يكفيان لإطعام ثمانية وأربعين بغلا فى اليوم؟ فأجابهم قائلا : «يأتى يوم لا يقدم لهذين البغلين المسكينين من هذين الإردبين حتى حفنة واحدة» وفعلا هذا ما حدث فيما بعد.

تأسف

ولم تبق من العمارة العظيمة المذكورة فى زماننا غير خرابة وليس فيها قطرة ماء فى خزانة سبيلها فضلا عن المأكولات والمشروبات ، وكان قد اتخذ ركن فيها قبل يومنا هذا مدرسة يعلم فيها ثلاثة أو خمسة من الأطفال ، والآن يقيم فيها العساكر السلطانية من ركاب الهجين.

وكان السلطان مراد المرحوم قد أسس بجانب التكية مدرسة مشترطا أن يدرس فيها خمسون طفلا سنويا ، ويأخذ مكان الأطفال الذين يحفظون القرآن الكريم ويغادرونها أطفال آخرون وما خصص لمدرسى هذه المدرسة وطلابها من المخصصات لإعاشتهم والملابس كانت توزع عند حلول مواعيدها.

وعقب ختام بناء تلك المدرسة بنيت زاوية ، وعمرت بعشرة من المتصوفة وشيخهم ، وخصصت لهم الأشياء اللازمة لإعاشتهم من العمارة سالفة الذكر ثم أضيف لها عدد من الخبز لتحسين أحوالهم وذكر الله فيها صباحا ومساءا.

وفى ختام مبانى تلك الزاوية المذكورة وظف من الصلحاء أربعون نفسا نفيسا وخصص لكل واحد منهم اثنى عشر دينارا سنويا ، وكان هؤلاء الصلحاء

٦٢

يجتمعون فى داخل الروضة المطهرة يتوغلون فى تلاوة سورة الأنعام ويهدون أجر ذلك للروح المحمدية اللطيفة وكانوا يتوسلون بالروح النبوية من أجل نصرة الجنود المسلمين ، كما وظف مؤخرا ثلاثون فقيها وخصص لكل واحد منهم قطعتين من الذهب سنويا وكلفوا قراءة القرآن فى داخل الروضة المطهرة كل يوم ، وهؤلاء أيضا كانوا يرفعون أياديهم بالدعاء ويهبون أجر مثوبة قراءاتهم لأرواح سلاطين المسلمين.

وقد رتب كذلك ثلاثون من قراء أجزاء القرآن بشرط أن يختم القرآن فى داخل الروضة كل يوم مرة ، على أن يأخذ كل واحد منهم سنويا ثلاثة دنانير ونصف دينار كما عين مائة نفر لأداء الحج لابسين ملابس الإحرام واقفين على جبل عرفات فى مواقيت الحج على أن يأخذوا سنويا عشرة دنانير ، وكان قراء أجزاء القرآن يختم كل واحد منهم القرآن على الوجه المشروع كما أن الذين وظفوا لأداء الحج كانوا يلبسون ملابس الإحرام فى مواقيت الحج ويسافرون إلى مكة وكانوا يواظبون فى أثناء وقفة عرفات على الدعاء لترقى الدولة وسعادتها ولزيادة شوكة الدولة العثمانية.

وكان السلطان مراد وظف خمسة من المدرسين من المذاهب الأربعة وخصص لهم رواتب كافية ، بشرط أن يكون أحدهم من خطباء الشافعية وكان لكل واحد منهم وظيفة تدر عليه أربعين درهما سنويا.

ولا تقتصر الخدمات التى أداها مراد الرابع للبلدة النبوية المسعودة على هذا ، بل رمم سطح الحرم النبوى الشريف كاملا لاقتضاء الأمر ذلك ، كما جدد آجر الروضة المقدسة ، وغير صبغة جدران مسجد السعادة لتوأم حرم الجنة الأربعة وأمر بطلاء عدد أسطوانات مسجد السعادة البالغة ثلاثمائة أسطوانة على لون واحد.

والفنانون الذين استخدموا فى طلاء هذه الأعمدة بشموس ونجوم كل واحدة

٦٣

منها تختلف عن الأخرى قد أظهروا فى عملهم هذا مهارة جعلت الذين يدخلون إلى حرم السعادة السعيدة يرتعشون من شدة التعجب ويتحولون إلى الجدران الساكنة ويبتهلون.

من مؤلف طبقات ابن سعد نقلا عن محمد بن عبد الرحمن أن محمد بن عبد الرحمن قال : «كان أبى حاضرا عندما انهار الجدار الذى فى مربع السعادة فى عهد عمر بن عبد العزيز ؛ وكان يقول : عندما انهار جدار مربع قبر السعادة كنت بجانب حجرة السعادة ، فنظرت من مكان السقوط داخل مربع القبر الجليل. كان من بين مرقد السعادة وحجرة عائشة ـ رضى الله عنها ـ المنيرة قدر شبر واحد ، فأنا أيضا أصدق أن نعش النبى صلى الله عليه وسلم قد وضع إلى اللحد الشريف من الناحية القبلية وأؤيد تلك الرواية ، وبما أن روح النبى صلى الله عليه وسلم قبضت فى هذا المكان فالمكان الذى توفى فيه أشرف بقاع الأرض فمن هنا يؤخذ أنه صلى الله عليه وسلم دفن فى هذا المكان لذلك». انتهى.

بعد أن كنس سطح حجرة السعادة وأخرجت أنقاض الجدار المنهار إلى الخارج شرع شمس بن زمن فى بناء الأماكن المنهدمة ذاكرا اسم الله وجعل عرض الجدار الشرقى فى عرض أساسه الأصلى يعنى فى سمك ثلاثة أذرع كذلك ذراعين ونصف من السمك ، وأدخل العمود الملاصق للجدار الشامى فى داخل الجدار المذكور ، ومن هنا جاء سمك الجدار الشامى لمربع قبر السعادة أكثر سمكا من جدران الجهات الأخرى وأصبحت جدران جميع الجهات يختلف بعضها عن البعض فى السمك ، وكان اليوم الذى بدأت فيه العمليات يوافق السابع عشر من شهر شعبان من السنة المرقومة.

ولما كان ما بين الجهة الغربية والشرقية على شكل طولى ، وكان بناء القبة عليه يرى غير قابل للتنفيذ ولكن بما أن قرار اقتضاء إنشاء قبة فوق مربع القبر الجليل كان قطعيا والتحرك خارج هذا القرار غير ممكن فقد جعل شمس ابن زمن ـ بناء

٦٤

على تصويب المهندسين ورأيهم ـ حجرة السعادة مربعة وذلك بفتح باب من جهة قدمى السعادة من الحجرة المعطرة ، فى ارتفاع اثنى عشر ذراعا ، يعنى قد ضيق وقصر طول الجدارين والباب المفتوح وجعل داخل مربع حجرة السعادة فى شكل مربع ولما بنى الجدار الشامى بأحجار منحوتة شيد فوقه قبة فى ارتفاع ثمانية عشر ذراعا آدميا عن سطح الأرض وفتح فى وسط الجدار الشامى بابا صغيرا وأدخل الحجرة الشريفة ابن أخيه وصهره لتسوية ما فوق القبور الثلاثة ، والرجلان اللذان أدخلا داخل قبر السعادة قد فرشا فوق القبور الثلاثة رملا على شكل ظهر السمك مثل قبور بلاد الروم. انتهى.

بعد أن وقف السلطان محمد خان القرى المصرية ضعف مرتبات الحرمين حسب الترتيب ، ثم أرسل إلى الروضة المطهرة سجادة منسوجة من الحرير وسجادة أخرى لتفرش على محراب النبى وكسا مرقد السعادة بكسوة مزخرفة جميلة وذلك فى سنة ١٠٠٣ ه‍ وكانت فوق الكسوة الشريفة التى أهداها لمسجد السعادة ، قد كتبت الكلمة المنجية الشهادتان والصلاة والسلام وأسماء أصحاب النبى الكرام نسجا ، كما رسم فى ذيلها اسم السلطان وما اشتهر به من الألقاب.

وأراد السلطان أحمد خان بن السلطان محمد خان الثالث أن يلاطف ويجامل أهالى الحرمين الشريفين من جديد ، فوحد إدارات دشيشة الحرمين فى سنة ١٠١٣ ه‍ وأعطى نظارتها لشخص اسمه داود أغا وأحال الإشراف على حسن تسوية الأمور وتمشيتها فى جميع ما يتعلق بهذه الإدارات لمحافظ مصر إبراهيم باشا ، وسبب هذه التعيينات وحكمتها ما عرف من ضياع حقوق سكان مدينة الرسول بسبب عدم اهتمام محافظى مصر ووقاحة نظار الدشيشة وطمع مشايخ العربان إذ كانت الدشائش التى اعتيد إرسالها إلى أهالى الحرمين الشريفين مثل الدشيشة الكبرى ، والمرادية والمحمدية والخاصكية ودشائش الأوقاف وأخرى من غلال الجراية والصدقات فضلا عن عدم إرسالها فى وقتها كانت المقرّرات ترسل ناقصة وغير منتظمة ومن هنا تعرض أهالى الحرمين لمضايقات شاقة ، ولما

٦٥

وصلت هذه الفوضى لأسماع السلطان أدركته الغبرة وأراد أن يقف دون هذه الشرور وأن ينقذ أهالى البلدتين الطيبتين من بلاء القحط والغلاء فألغى نظارات الدشيشة كلها ، ورفعها ثم أمر بأن تضم جميع النظارات تحت نظارة واحدة بعد أن خصص ألف إردب قمحا لهذه النظارة كما عرف صورته فى الأمر العالى الذى سيأتى فيما بعد ، وهذا التصرف دليل واضح على ما أولاه السلاطين العثمانيون من الرعاية والحرمة نحو الحرمين الشريفين ولا شك أن رعاية هذه البقاع المقدسة وتطييب خاطر سكانها فرض عين على العامة والخاصة ولا سيما الملوك العظام.

صورة الأمر المرسل إلى المحافظ إبراهيم باشا من قبل السلطان والخاصة بنظارة الدشيشة الكائنة فى مصر :

هذا الحكم الصادر لإبراهيم باشا وزيرى فى محافظة مصر ، لما كانت مكة ووادى البطحاء غير ذى زرع ولما كان انتعاش سكان الحرمين ومعاشهم متوقفا على الجراية والحبوب التى ترسل من الديار المصرية ووصولها إليهم ، وأن دشائش الأوقاف مثل الدشيشة الكبيرة والمحمدية والخاصكية وغلال الجراية والصدقات لم تكن ترسل فى وقتها منذ عهد المرحوم المغفور له والدنا العظيم ، وذلك لعدم اهتمام أمير الأمراء بإرسالها وبسبب كثرة أطماع النظار ومشايخ العربان وقلة تدينهم ، فضلا عن إرسالها ناقصة ، فزادت حالة فقراء الحرمين الشريفين والخدم والمجاورين بؤسا بسبب القحط والغلاء وصاروا يعانون الآن جميعا من الضيق الشديد ، لمّا ألقى إلى مسامعنا السلطانية بحثنا عن سبب هذا الإهمال فوجدنا أن لكل دشيشة ناظرا ومباشرا خاصّا وأن النظار وأمراء الحج لا يحرصون على إيصال العربان الدشائش وغلال الصدقات ونقلها بجمالهم فى أوقاتها ، بل يحرصون على نقل غلالهم الخاصة التى سيبيعونها كما أن بعض الأشخاص من الخارج يؤجرون جمال العربان لينقلوا غلالهم الخاصة.

٦٦

وعدم نقل غلال الدشيشة فى وقتها وأكلها بالاتفاق بين النظار والعربان من الأمور التى اعتادوا عليها ، ورأينا أن حل هذه المشكلة أن تلغى نظارات الدشيشة الكبيرة ، والمرادية والمحمدية والخاصكية وغلال الصدقات والجرايات ، وأن توحد نظارتها وتسند إلى إنسان موثوق فيه ، يعتمد عليه ، رجل متدين قانع يكتفى بما يأخذ من الرسوم العوائد العادية ، فلا يطمع فى حق الفقراء ولا يتجاوز حقه ، كما أن مشايخ العربان عندما يرون قناعة الناظر وعفة نفسه فإنهم لا يخونون ولا يتجاوزون الاعتدال فى تعاملهم ، وبهذا يمكن أن تنقل غلال الدشيشة والجراية والصدقات إلى أماكنها فى أوقاتها تماما هذا ما نهاه إلينا بعض أهل الخير وأصحاب العارفين بحقيقة الأمر ، والآن لما كان احترام أقدس بقاع الأرض الحرمين الشريفين ورعاية جانب سكانهما ومساعدتهم من واجب العامة والخاصة ولا سيما السلاطين العظام ، ولما كان أجدادنا السلف الصالح قد حملوا لقب خادم الحرمين الشريفين واستحقاق هذا اللقب قائم على رعاية سكان الحرمين الشريفين واحترام وتحسين حالتهم المعيشية بتوسيع أرزاقهم ونفقاتهم وأن ثبات هذه النعمة السلطانية العظيمة ودوامها لا يتيسر إلا بإقبال هذه الطائفة من الناس الصالحين بالدعاء المجاب لها فارغى البال ومترفى الحال ، وهذا ما جزم به اعتقادى السلطانى ، لذا فأقصى مرادى ومبتغى فؤادى أن تصل غلال الدشائش والصدقات والجرايات إلى أصحابها فى وقتها فى عز سلطنتى الميمونة فمن هنا قررت أن تلغى جميع نظارات الدشائش المذكورة وتجمع كلها تحت نظارة واحدة ، وإننى أرى أن يكون هذا الشخص داود أغا من خدم الحرم المحترمين سابقا ومعتمد المتقاعد حاليا فى المحمية المصرية قدوة الخواص ، والمقربين ومعتمد الملوك والسلاطين ، وبما أننى أعتمد على وفرة تدينه وأمانته وفرط استقامته رأيت أن أعينه ناظرا على جميع الدشائش ، وكذلك رأيت أن توضع دشيشة الملك قايتباى تحت نظارة المشار إليه داود أغا بناء على رأيك وبناء على شرط الواقف؟ الذى جعلنى ناظرا عليه أصالة وجعلك ناظرا بالوكالة ، وصدر أمرنا عليه أن توضع جميع الدشائش تحت نظارة داود أغا.

٦٧

ولتوزع بعد ذلك دشائش الحرمين الشريفين على جمال العربان التى ستحمل غلال الدشيشة والصدقات والجراية على قدر ما تتحمل جمالهم ، ويجب ألا يتعدى أمير الحاج أو غيره على جمل واحد من جمال العربان أو يتعرض إليه قبل أن تنقل الأشياء المذكورة إلى بندر السويس ، كما يدبر من مخازن مصر ألف إردب قمحا وصدقة باسم جلالتى وتنقل إلى الحرمين الشريفين قبل جميع الدشائش التى ترسل عقب إرسال صدقتى ، هذا ما صدر به أمرى العالى مقرونا برسالتى.

وقد تفضلت بمجرد وصول أمرى هذا أن توضع دشائش الدشيشة الكبيرة ، والأشرفية ، والمرادية والمحمدية والخاصكية وكذلك نظارة الصدقات الأخرى والجرايات تحت تصرف المشار إليه ، وتوزع الدشائش التى عينت إلى مشايخ العربان لتنقل بواسطتهم إلى ميناء السويس ، ولتحرص على ألا يتعرض أمير الحاج أو شخص آخر إلى جمل من جمال الحمل والنقل وما عين من قبل جلالتى مجددا من ألف إردب قمحا من مخازن مصر صدقة لأهل الحرمين وأن تنقل بعدها الدشائش الأخرى وغلال الصدقات والجراية ، منبها بألا ينقص قدح قمح واحد عند إرساله ونقله وإننى أعتمد فى هذا الخصوص على تدينك وأمانتك ومهارتك واستقامتك وحسن فراستك ومزيد كياستك وإن ثقتى فيك لا يعلو عليها شىء.

وزد اهتمامك بهذا الموضوع لأن الدشائش والصدقات والجرايات من حق الفقراء فإذا ما وصلت تامة كاملة وفى وقتها المحدد ، أنقذ فقراء الحرمين من القحط والغلاء ويعمهم الرخص والسعة ويخلو بالهم وتتحسن حالتهم المعيشية فيقبلون على الدعاء بالغدو والآصال لدولتى وعلو شأنها.

وإذا ما أبرز أحد من أغوات الحرمين المحترمين أو واحد من أمراء مصر أو غيرهم أمرا أو إذنا من قبل ديوانى السلطانى أو إدارتى المالية ، بعد فرمانى السلطانى هذا ، فلا يلتفت إليه ويسحب منه رخصته ويرسل إلى عتبتى

٦٨

السلطانية ، وابعث إلىّ بأسماء الذين يعوقون وصول الدشائش أو يؤخرون وصولها ، والذين يتدخلون فى أمور جمال العربان ويتعرضون لهم ، ويجب عليك أن تتخذ حكمى السلطانى هذا دستور عملك وأن تصونه من التغيير والتبديل وقف دون الذين يريدون مخالفة ما جاء فى مضمونه.

تحريرا فى سنة ثلاث عشرة وألف. انتهى.

وقد جدد السلطان أحمد خان فى يوم جلوسه الميمون أبسطة حرم السعادة وستائر الكعبة المعظمة والحجرة المعطرة المزركشة ، والكسوة التى فوق قبر حضرة فاطمة ـ رضى الله عنها ـ وغطاءى (١) عمودى الحنان والمنان وأرسل خمسة آلاف دينار لتوزيعها على أهالى الحرمين الشريفين كصدقة سلطانية ، وأرسل لوحة غالية الثمن تتكون من ٢٢٧ قطعة ماسية ، وقد سبق تعريفها فى مقالة خاصة ، على أن تعلق مكان الكوكب الدرى الذى فى ضريح السعادة وذلك فى سنة ١٠١٢ ه‍.

وبعد أن علق لوحة الكوكب الدرى المزينة ، دليل حبه السلطانى الذى يفوق الحد للنبى صلى الله عليه وسلم ، فى ضريح ظاهر الأنوار كشارة لوحة النبى الكريم ، فى تعليقها فوق الباب الذى يطلق عليه باب التوبة ، وكانت لوحة جميلة مصنوعة من الفضة الخالصة ومزينة غاية التزيين ، وذلك فى سنة ١٠٢٦ ه‍ ، وكان طول اللوحة ذراعين وعرضها ذراع واحد كتب عليها تاريخها باللغة العربية.

لوح السلطان أحمد أهداه حبا خالصا وقطع وقفا على أعتابك يا سيدى لتقبيل تراب عتبتك وياله من تراب ، وقمنا تجاه الوجه نرجو الشفاعة إلى الله فى بحر الإساءة والذنب.

وقد علقت هذه اللوحة على الكمر الخارجى لباب التوبة وكانت ترى من داخل الروضة المطهرة.

وقد ضم السلطان أحمد خان لصرة الحرمين ألف قطعة ذهبية سنويا ، وأنعم بعطايا كثيرة لأيتام السادة والأشراف لا تعد ولا تحصى ، وأمر رجال الدولة أن

__________________

(١) قطعة القماش هذه كانت نسجت من ١٨١٥١ مثقال من الخيوط الذهبية.

٦٩

يقتدوا بآثاره السلطانية ، وبناء على هذه الإرادة السلطانية وبهذه المعونات الكافية زوجت بنات السادات بأكفائهن.

كما بنى مؤخرا منسوبا للاسم السلطانى الكريم سبيل بالقرب من باب الرحمة كما بنى للطلاب الذين ينتمون للمذهب الحنبلى مدرسة خاصة لإقامتهم ، كما صنع حوض وبركة فى طريق المحمل المصرى لسقيا الحجاج ، وخصص لتعميرها كثير من النقود ، وما زالت البركة والحوض موجودين مع السبيل الذى لا مثيل له بالقرب من باب الرحمة وأبناء السبيل ينتفعون منه إلا أن المدرسة التى أنشئت من أجل الطلبة فى المذهب الحنبلى خربت مع مرور الأيام ولم تعمر بعد ذلك.

كان السلحدار مصطفى باشا المغفور له قد أرسل بواسطة قاضى مصر شعبان أفندى لوحة فى غاية الزينة زينت أطرافها الأربعة بأحجار ملونة لوحة ماسية كبرى وذلك فى عهد السلطان مراد برجاء تعليقها فى ذيل الكوكب الدرى سالف الذكر ، وعندما وصل المرحوم شعبان أفندى إلى المدينة علق اللوحة التى حملها تحت لوحة الكوكب الدرى هدية السلطان أحمد فى سنة ١٠٤٧ ه‍.

وفى عهد السلطان محمد خان بن السلطان إبراهيم أشرفت مئذنة باب السلام وبعض أماكن حرم السعادة على الانهيار والسقوط ، وقد أبلغ إلى السلطان صاحب القرار فى حزن وألم فما كان إلا أن أمر والى مصر أحمد باشا بأن يرسل إلى دار الهجرة من يقومون بإصلاح ما يقتضى إصلاحه مع تدبير المبالغ اللازمة والأدوات إلى المدينة فأرسل الباشا المشار إليه الأشياء اللازمة إلى دار السكينة متتالية فهدمت مئذنة باب السلام من أساسها وجددت فى صورة جميلة وطراز بديع وفرشت الساحة الرملية التى حول الروضة المطهرة بقطع رخام مجلاة وذلك فى سنة ١٠٦٠ ه‍.

غريبة

كان أحمد باشا سالف الذكر الذى قد وفق فى فرش الساحة الرملية بالرخام كان قد نوى أداء الحج فى حين ولايته لديار بكر ومصر إلا إنه ذهب إلى مكة

٧٠

المكرمة بعد عزله ، بينما كان أحمد باشا ذاهبا إلى المدينة المنورة مع قاضى مكة محمد بن إسماعيل أفندى فى يوم من الأيام قال مخاطبا محمد أفندى إننى أريد أن أعرض على أعتاب الومضات النبوية خدمة ، وحصول أملى هذا يتوقف على أن أتولى ولاية مصر ، فأرجو منك إذا ما قدر لنا أن نتعبد فى الحجرة المعطرة واضعين جباهنا على ساحتها ساجدين لنستدر من الله شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا العبد العاصى العاجز وأن تدعوه ـ تعالى ـ أن يشفعه صلى الله عليه وسلم فى تحقيق ما فى ضميرى بأن يسند إلى عهدة هذا العبد العاجز ولاية إيالة مصر ولما وصلا إلى المدينة المنورة وأخذا فى زيارة حجرة السعادة ، تذكر محمد أفندى بن إسماعيل رجاء المرحوم أحمد باشا وشرع فى دعاء مخلص محرق قائلا : «يا رسول الله! إن عبدك الذى يقف أمامك رافعا يديه معظما من عبيدك يتمنى أن ينال شفاعتك يوم القيامة ، وإنه يريد أن تطلبوا أن توجه إليه ولاية إيالة مصر حتى يقوم بخدمة لعتبة مرتبتك النبوية!!! «ولم يكن محمد أفندى قد أنهى دعاءه بعد إذ استولى على أحمد باشا حالة وجدانية خاصة وقال لمحمد أفندى : «كفى ، كفى قد استجيب دعاؤك ، من قبل الله» فقال له محمد أفندى متعجبا ، «ماذا حدث؟» قال له : «ما أعجبك!! ألم تر الهياكل النورانية التى أمامنا؟ وقد رأيتها أنا ولله الحمد والمنة! بينما كنت تدعو كانوا يؤمنون على دعائك» وعرف ما حدث وفى ختام كلامه استولت على الزوار حالة غريبة ؛ والله على كل شىء قدير. انتهى.

وصار أحمد باشا بعد هذه الغريبة بمدة حسب القدر واليا على مصر ، وأمر من قبل السلطان محمد خان بتجديد مئذنة باب السلام بعد هدمها وقام بالمهمة التى أحيلت إليه خير قيام ولم يطمع فى غلال صرة الحرمين أدنى طمع وأرسلها فى وقتها وزمانها وأخيرا أصبح صدرا أعظم وارتحل عن الدنيا مقتولا شهيدا رحمة الله عليه.

وبناء على إبلاغ مقام الخلافة العليا بأن جدران سور المدينة احتاجت إلى تعمير شامل فى خلال سنة ١٠٧٧ ه‍ وأن الباب الذى فتح فى جهة البقيع ساء حاله وأصبح لا يفتح ولا يغلق صدر الأمر السلطانى إلى مدير حرم السعادة إبراهيم

٧١

أغا بتعمير سواء أكان الباب المذكور أو جدران السور التى أشرفت على الانهيار فى صورة لائقة كما أرسل مقدارا كافيا من النقود والمهمات فعمر ورمم إبراهيم أغا أماكن السور التى تحتاج إلى التعمير تعميرا جيدا ، كما قوى وشيد باب البقيع بلوحات حديدية وكتب تاريخ التجديد فوق أكماره.

جدده السلطان الغازى محمد خان ابن إبراهيم خان ، سنة ثمان وسبعين وألف وأبلغ ما تم عمله مركز السلطنة السنية فى سنة (١٠٧٨).

وبعد فترة أخطر باب السعادة برسائل متعددة ومحاضر أن مؤخرة حرم السعادة وسقوف دكة الأغوات قد خربت وأشرفت على الانهيار فجأة ، وفهم من المضبطة التى صدرت من المجلس الذى انعقد لدراسة هذا الموضوع أن ترك المواقع المقدسة على حالتها تلك سيؤدى إلى فتح باب نفقات كثيرة ، فى المستقبل كما أن سقوطها فجأة سيؤدى إلى إتلاف نفوس كثيرة فوجه إلى مدير حرم السعادة سابق الذكر أمانة البناء بتعمير وتقوية الأماكن التى تحتاج إلى التعمير بالفرمان السلطانى الصادر إليه.

وأرسل مهندسا ماهرا والمبالغ المقتضية ولوازم الأبنية ، وجدد إبراهيم أغا بقرار الأهالى ورأيهم السقوف اللازم تجديدها بعد هدمها وشيد بعضها بالترميم ثم كتب التاريخ على مؤخرة سقف الحرم السعيد :

«جدد الحرم الشريف من فضل الله تعالى وعونه وجزيل عطائه العميم السلطان محمود خان بن السلطان إبراهيم خان كان له ناظرا إبراهيم أغا وكان الفراغ فى سنة ألف وثلاث وتسعين».

كما كتب عليه قصيدة مناسبة ثم أبلغ الأمر بواسطة شيخ الحرم عثمان أغا إلى مركز السلطنة ، ولما حظى هذا العمل باستحسان السلطان أكرم كثيرا من سادات البلاد والموظفين الحكوميين الكثيرين وذكر ما بذله الأغا المذكور من سعى وجهد وذلك فى كشف مخصوص وقدر عمله وذلك فى سنة (١٠٣٩ ه‍).

كما أحيا إبراهيم أغا كثيرا من الآثار الجليلة باسم المرحوم السلطان محمد

٧٢

خان ، إلا أن مرور الأيام ودوران الزمن خرب جميع هذه الآثار ولم يبق أحد يعرف حتى أماكن هذه الآثار الخربة ، إلا أن إبراهيم أغا قد صنع صهريجا كبيرا وحوضا واسعا عميقا فى جهة المساجد الأربعة التى تقع فى ناحية جبل سلع وخلفه وذلك بناء على الأمر السلطانى الذى تلقاه ، وأسس فوق هذا الضريح قصرا مرتفعا بهيجا ، وكانت أطرافه الأربعة محاطة بحقل أخضر خال من الجبال والمنازل على مدى الرؤية ، واشترى لزوار المساجد الأربعة وأبناء السبيل.

ومازال الصهريج الذى صنعه إبراهيم أغا قائما ينتفع منه المارّون إلا أنه أشرف على الخراب والانهيار.

وإذا ما ترك فترة مهملا فمن اليقين أنه سيصبح غير صالح للاستخدام.

ومن السلاطين الذين رعوا حرمة أهالى الحرمين السلطان مصطفى خان الثانى.

وقد راعى جانب أهالى الحرمين وقدم لمبانى مسجد السعادة خدمات كثيرة ، فإلى عهده لم تكن الحفلات تقام بمناسبة الولادة النبوية مرة فى السنة وقد استن فى عهده انعقاد الجمعيات مرة فى السنة لقراءة منظومة المولد النبوى وأمر بتدبير ٣٣٠٠ قرش من الخزانة المصرية وإرسالها إلى المدينة وذلك فى سنة ١١١٣ ه‍.

وكانت هذه المجالس تنعقد بعد إشراق شمس اليوم الثانى عشر من ربيع الأول كل سنة ، وتعقد الاحتفالات بالمولد النبوى الباهر فى زماننا فى الليل.

صورة انعقاد مجالس الاحتفالات بالمولد النبوى الميمون

كان مدير حرم السعادة قبل ليلة تلاوة المولد بيوم يجهز مشروبات حلوة ويملأ بها زوارق حرم السعادة ويرسل إلى منازل أعيان البلاد وموظفى الحكومة وأصحاب الخواطر عدة زوارق من الشراب يشير بذلك إلى انعقاد جمعية الاحتفالات بالمولد النبوى فى حرم السعادة ويعلنه ويفرش على ساحة مسجد

٧٣

السعادة ـ حسب عادة البلد ـ الأغطية والسجاجيد والمقاعد ويأتى بالكراسى ويزين المكان ، وبما أن كل من أرسل إلى بيته الشراب يعدّ مدعوا للاشتراك فى الجمعية ففى القرب من مساء اليوم الثانى ، يأتى المدعوون الكرام أفواجا إلى مسجد السعادة ، وأفراد الجماعات الذين يرون هؤلاء المدعوين يتركون أعمالهم ويتجهون إلى مسجد السعادة حتى يكونوا فى هذا المجلس البهيج ويجلسون فوق الأغطية والوسائد والسجاجيد التى فرشت.

وقد توضع فى ساحة مسجد السعادة كراسى ذات غطاء (١) أبيض تكون الوسائد التى بالقرب من دكة الأغوات قد غطيت بأقمشة حمراء فيجلس شيخ الحرمين ومدير الحرم ونائب الحرم والمفتون والقضاة والأغوات وأعاظم السادات ، وموظفو الحكومة فوق هذه الوسائد ويوقدون أعواد العود والعنبر فى المباخر الفضية ويستغرق الجماعات عامة فى بحار السكوت والحيرة نتيجة لهذه الروحانية المدهشة التى يكتسبها المكان ، وبعد ما يستمر هذا الصمت فترة يجلس أربعة من الخطباء ذوى أصوات رخيمة حزينة فوق الكرسى سالف الذكر بعد أداء مراسم الصلاة والسلام ويشرعون فى تلاوة منظومة المولد النبوى ، وبعد الحمد والصلاة يدعون دعاء مؤثرا مناسبا للسلطان مؤسس هذه الجمعية وللسلطان الذى ما زال حيّا ، ثم ينزلون من الكرسى.

وبعد أن ينزل هؤلاء الخطباء الأربعة من فوق الكرسى يصعد خطيب آخر ويدعو على الطريقة التى سبق ذكرها وينزل ، وبعده يصعد خطيبان واحد تلو الآخر ويكملان الدعاء الخاص بمجلس الجمعية النبوية لمولد النبى وينزلان ، وبعدهما يصعد خطيب آخر يتلو منقبة ولادة سيد العالمين وعقب ذلك يلقى قصيدة (٢) بليغة فيملأ قلوب الحاضرين بالبهجة والسرور.

__________________

(١) أرسلت أغطية هذا المقعد المزينة فى عصر السلطان أحمد بن السلطان محمود خان ، وكان قبل ذلك خاليا من الغطاء.

(٢) تركت قراءة هذه القصيدة فى وقتنا الحالى.

٧٤

وبينما تتلى منظومة المولد الشريف يسقى السقاة (١) بشراب حلو يروى الجماعة العطشى ، ويكسى من اشترط الواقف إتحافهم بالخلع خلعا فاخرة.

تكون فى هذه الجمعية أشواق وشفافية وروحانية بما لا يمكن وصفه ، وتتولد دهشة فوق العادة من الأعمدة ذات القباب والخيم والهيئات المرئية للسادة الخطباء فوق الكرسى ، دهشة وجدانية فتترك الجماعة غائبين عن وعيهم وعقلهم.

وتعقد عين هذه الجمعية كل سنة فى ليلة السابع والعشرين من رمضان فى مكة المكرمة على أن تعطى نفقاتها من وقف السلطان مصطفى خان المشار إليه.

والجمعية التى تعقد فى مكة المعظمة تعقد فى جهة المحكمة من ساحة المسجد الحرام ذات الفيوضات ، ويجتمع فى هذه الجمعية أمير مكة المعظمة ووالى الحجاز والعلماء وجميع الصالحين وإن لم يكن توزيع الشراب فى الزوارق من النظام المتبع فى تلك الجمعية إلا أن من العادة فرش الحرم الشريف وتهيئته ، فنائب الحرم يفرش الجهة التى تقع فى ناحية المحكمة بمقدار كاف من السجاجيد والوسائد فى يوم انعقاد الجمعية ويدير مقدارا كافيا من الشراب واللوازم الأخرى ويفيد الحضور الذين اعتادوا المجئ بنفس الكيفية ، ويأتى سواء أكان الأشخاص اللذين أخبروا بالأمر أو موظفو الدوائر الحكومية لابسين ملابسهم الرسمية إلى الحرم الشريف ويجلسون فوق السجاجيد التى هيئت كل واحد منهم حسب مراتبهم ، وبعد مدة وجيزة توقد المجامر بالعود والعنبر فيمسكونها بأيديهم ويتوجهون إلى مسقط الرأس الشريف للنبى محمد صلى الله عليه وسلم ، إلى الدار التى شهدت ولادة النبى صلى الله عليه وسلم وكل ذلك فى موكب فخم عظيم ، إن هذه الدار قد اشتهرت باسم مولد النبى وفى هذا المكان الذى يشبه الجنة تتلى منظومة المولد الشريف وتلبس الخلع بجانبه حسب النظام المتبع.

__________________

(١) فى زماننا كان الأغوات هم الذين يوزعون الشراب.

٧٥

وبعد ذلك تعود هيئة الجمعية إلى المسجد الحرام ويشرعون فى تلاوة الأدعية المأثورة وينهون الاجتماع بشرب الشراب الذى أعده نائب الحرم.

وقد أضاف لهذه الجمعية فى أواسط سلطنته السلطان عبد العزيز المأكل الحلو والملبس واتخذ إرسال هذه الملابس من باب السعادة نظاما خاصا ومن هنا يرسل كل سنة مع محمل الشام هذه الملابس ، وعند عقد جمعية المولد يوزع أطباق منه إلى الحاضرين.

أشرفت فى سنة ١١٠٧ ه‍ بعض أماكن من سقوف مسجد السعادة على الخراب كما أوشكت بعض أعمدته على الانهيار والخراب ، فأبلغ ذلك من قبل بكر أغا شيخ الحرم إلى باب صاحب القرار وبناء على هذا الأمر السلطانى أرسل المهندس سليمان بك إلى المدينة المنورة بمهمة تعمير الأماكن المقدسة التى تحتاج إلى ذلك وأمر والى مصر بتدبير المبالغ اللازمة ولوازم المبانى وإرسالها إلى المدينة المنورة ، وتحرك سليمان بك من مصر القاهرة وقد أخذ معه ما جهز من المهمات وما دبر من المبالغ إلى دار الهجرة ووصل إليها فى سنة ١١٠٨ ه‍ وبقرار وجوه البلاد وكبار موظفى الدولة شرع فى العمل فجدد السقوف المتضررة ومعها اثنى عشر عمودا كما أصلح من مسجد السعادة وبعد أن زين كل جهات حرم السعادة بأنواع النقوش والرسوم ، هدم مسجد قباء والمصلى النبوى ، ومسجد على ، من أسسها وجددها بناءا حجريا جاعلا لها قبابا وأسس بجانب مسجد على مدرسة ودار كتب وسبيلا مشهورا باسم الاسم السلطانى ، وبعد أن أتم هذه الأعمال كما فصل فى أماكنها جدد مشهد حمزة ـ رضى الله عنه ـ وأتم مهمته بأن طهّر مجرى عين الزرقاء وبئرى على ، وعاد إلى باب السعادة وحظى عمله هذا بالابتهاج السلطانى فأحسن إليه حيث رقى إلى رتبة أمير الأمراء.

وقد نظم أحد شعراء المدينة المنورة تاريخا يعرف ما قام به سليمان بك من إحيائه لبعض المواقع وقد كتب هذا التاريخ بعد الاستئذان على قطعة رخام وحك وألصق على عمود بالقرب من باب الوفود.

٧٦

وهذه صورة التاريخ المذكورة الذى ما زال قائما.

عربى

حمدا من آل عثمان الملوك المصطفين

حيث جاد كالمطر على من أعلى القلم

وقصر للخير نسلا بعد نسل فانتهى

دور إحسان إلى من كان ينبوع الكرم

حضرة سلطان ثانى مصطفى أولهم

صب أموالا لتجديد الخير المحتشم

ثم أحيا مسجد التقوى المؤسس فى قباء

والذى يدعى مصلّى الحبيب المحترم

مشهد حمزة عم النبى المصطفى

جدد والحمد لله على الوجه الأتم

ونظف فى ذى الحليفة داخل بئر على

أحلى فى مظاهر منتها الذى كان الأهم

ثم أجرى عين الزرقاء من أم القبة

بعد تنظيف لها من طين مجرى منقسم

طول مجراها من الأم إلى أرض الجرف

طال ما لم يتفق تطهيرها منذ القدم

جاء مقبول العرب من عون أنظار العجم

فارق الله تعالى بالقبول والرضا

٧٧

صانه صاخرا اليوم تلتقيه لا جرم

ثم إن حاولت تاريخا لتجديد ذكر

فاستمع من حق ما يتلى عليك من رقم

عد مفصولات الفات فذاك التاريخ

جدد السلطان الأعظم مصطفا هذا الحرم فى سنة ١١١ ه‍.

خرب أحد سقوف مؤخرة حرم السعادة إذ أصابته صاعقة وذلك بعد عودة سليمان باشا إلى باب السعادة بعدة أشهر ، وبناء على ما قدم من الرجاء قد رقى الباشا المشار إليه إلى رتبة أعلى وأسندت إليه ولاية جدة وأمر بأن يهتم بتعمير سقوف الحرم السعيد الذى تعرض للخراب ، فوصل سليمان باشا إلى المدينة المنورة وعمر المواقع المذكورة كما يجب وعلى الوجه المطلوب وكتب على ركن من أركان ذلك السقف :

جدد هذا السقف الشريف ، ملك البرين والبحرين ، خادم الحرمين الشريفين السلطان الغازى مصطفى خان ، خلد الله ملكه وذلك بنظارة العبد الفقير المعترف بالتقصير ، الحاج سليمان باشا ، المحافظ فى جدة المعمورة المشرف بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك فى سنة ١١١٢ ه‍.

وللسلطان أحمد خان الثالث بن السلطان محمد خان الرابع خدمات مشكورة لحرم السعادة ، قد أخبر فى سنة ١١٣٢ ه‍ أن اثنى عشر عمودا متصلة بالساحة الرملية التى فى الجهة الغربية لجدران حرم السعادة أشرفت على الخراب ، من قبل أعيان البلدة وموظفى دار السكينة وصدرت الإدارة السلطانية بإرسال موظف بسرعة لتجديد تلك الأعمدة وتعميرها فوجهت أمانة البناء لشخص يدعى الحاج موسى أغا وأرسل إلى المدينة المنورة.

ووصل الحاج موسى إلى دار الهجرة العالية وبعد كشف المواقع الشريفة بدلالة أصحاب الخبرة جدد تلك الأعمدة الإثنى عشر والجهات الأخرى من حرم السعادة

٧٨

فى صورة كاملة فى سنة (١١٣٣ ه‍) وكتب على أحد الأعمدة التى ركزت جديدا أيد الله نصر دولة من جدد هاتين المنامتين الشريفتين ، ملك البرين والبحرين خادم الحرمين الشريفين السلطان بن السلطان الغازى أحمد خان ، ابن الغازى محمد خان ، خلد الله ملكه وذلك بمباشرة العبد الضعيف ، الحاج موسى ووافق بتجديد تاريخ المنامتين بالمسجد ، سنة ألف ومائة وثلاثة وثلاثين ، وأمر بكتابة هذا التاريخ.

وبعد أن أتم تعمير الأعمدة المذكورة فهم بعد الكشف والمعاينة أن بعض أعمدة حرم السعادة آلت إلى الخراب فهدم تلك الجهات فى الحال أيضا وأحكم تشييدها هكذا ثم عاد إلى باب السعادة وقد أتم مهمته على خير وجه ، وقد رقى إلى رتبة أمير الأمراء ومنح مكافأة سلطانية خاصة له.

وخدمات السلطان محمود خان الأول بن السلطان مصطفى خان للحرمين كثيرة بدرجة فوق العادة ، فقد ظهرت علامات السقوط والانهيار فى سقف حرم السعادة وأبلغ ذلك إلى الباب العالى وعرض الأمر إلى عتبة السلطان المشار إليه ، فأحال الأمر إلى الحاج أحمد باشا والى جدة على أن يرسل أحد الأشخاص الذين يعتمد عليهم فى تعمير السقف الشريف فأرسل الباشا المذكور محمد أغا من خاصة أتباعه وذهب محمد أغا إلى المدينة المنورة وقام بأداء مهمته وكتب حول السقف الذى جدده عبارة : «أمر بعمارة هذا الرواق الشريف ، ملك البرين والبحرين ، خادم الحرمين الشريفين مولانا السلطان الغازى محمود خان ، بن المرحوم السلطان مصطفى خان ، عز نصره وذلك بمعرفة الحاج أحمد باشا محافظ بندر جدة المعمورة وبمباشرة تابعه الحاج محمد آغا ثم عاد ، وذلك فى سنة ١١٤٩.

كان السلطان المشار إليه قد أرسل ثريا مجوهرة لتعليقها فى قبر الرسول كما أرسل غطاء جميلا من أجل قبر فاطمة الزهراء وأرسل إلى الروضة المطهرة ٨٨ قطعة من أبسطة وعددين من الشمعدان الذهبى ، وقد أرسلت الأشياء المذكورة فى عهدة عثمان أغا من أغوات باب السعادة ، وبما أن المؤرخين قد وصفوا هذه

٧٩

الهدايا بأن كل واحدة منها كانت أغلى ما أرسل وأجمل ما بعث إلى الحجرة المعطرة وأجملها ؛ اقتضى الأمر أن نعطى فرصة لقلمنا ليجول ويصول فى وصف كيفية صنع تلك الأشياء وصورة إرسالها.

وكان أحد الأشياء التى أوصلها أغا باب السعادة عثمان أغا إلى المدينة المنورة كما سبق ذكره أعلاه قطعة من ثريا لا مثيل لها ، كانت هذه الثريا فى صفاء الماء وألوان أزاهير نباتات الحقول ومن حيث لمعانها تضارع لمعان سهيل اليمانى ، وزنها ٧٢٥ قيراط مثلثة الشكل ، وكانت فى الجهة الأخرى منها زمردة أخرى تتوهج كعين شمس تبهر العيون وزنها ٧٦٨ قيراط ، وكانت فى الجهة الثالثة قطعة زمرد أخرى نورها كأنوار الصباح تلمع فى الجهات الأربع قطعة تحير العقول بجمالها وفى وزن ٢٥٧ قيراط ، وقد بلغ مجموع وزنها ٢٢٧٢ قيراط.

وهذه القطع الثلاث من الزمرد التى تشتهر بالمعدن القديم والتى لا نظير لها كانت أطرافها دائرة ما دار وأعلاها مرصع باثنتى عشرة قطعة كبيرة من الماس كأنها بدر ينير محيط الأبراج السماوية وبأربعين قطعة ماس من حجم متوسط واثنتين وستين قطعة من الماس أقرب إلى الوسط و ١١٤ قطعة ماس التى تعتبر صغيرة بالنسبة للقطع الكبيرة لم يكن لها مثيل ، وقطعة ماس كبيرة تحير العقول ، وكان طوق تلك الثريا مزينا بتسع عشرة قطعة من الماس مختلفة وكانت حلقتها التى تعلق بها والتى تشبه هالة البدر مزينة بأربع قطع من الماس وكانت تتكون من ٣٥٢ حبة قيمة من الدر اليتيم مع ثلاثة عشر صفّا من المزين بثلاث عشرة حبة من الزمرد وكانت لائقة أن تكون ثريا عذارى الحور العين.

وكانت الثريا تشمل فى الأماكن التى تجذب الأنظار دررا وغررا وجواهر لا عدّ لها كما تشتمل على صورة غريبة وكانت فى غنى عن الوصف حقا.

إن النقوش تحير العيون والتى نقشت على وجهها الواحد هى أثر من فنانى الياقوت ومن هنا فهى كانت فى نظر من رآها من المؤرخين كعروس تجلت فى حجرة نومها بل كانت من قبيل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.

٨٠