موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

بقدر سيد المرسلين.

بفوز هذا الرائد الأغر ..

واجعلنا إلى طريق رضوان من المهتدين .. فنحن بالضلالة من الهالكين

فهذه الدنيا إلى فناء .. وكل ما فيها إلى انتهاء

بالسهو لا تجعل قد منا تذل .. حينما قدمنا على الصراط ننقل

ليكن لهذا الفقير زاد النجاة .. إذا تحركت بالنعت الشريف منه شفاه

ولما كانت هذه القصيدة لأحد أصحاب الطريق المعنوى والذى أنشدها فى أثناء استقرائه عندما وصل لمقام الغناء فى الرسول وهى قصيدة نادرة فريدة قد رأينا أن ندرجها هنا متبركين بها.

القصيدة

هذا الجناب الذى تشفى به الكرب

ويذهب البؤس والآلام والنصب

هذا الجناب الذى تشتاقه أبدا

هذا منى النفس هذا السؤال والطلب

فعفر الخد ذلا فوق تربته

والثم ثراه وخل الدمع ينسكب

وقر عينا وطب نفساو ته فرحا

لقد بلغت الذى ترجو وترتقب

قد كنت صابه لا تستفيق جوى

يهزك الشوق من ذكراه والطرب

إن هبت الريح من تلقاء كاظمة

أو لاح برق الحمى تبكى وتنتحب

وإن ترنم حادث رحت ذا قلق

فالعقل مختبل والقلب مكئتب

٥٢١

ترعى نجوم الدجى وجدا وفرط أسى

والجفن يهمل والأحشاء تلتهب

هذا الحبيب الذى ترجو شفاعته

فليهنك القرب زال الهم والتعب

فاخنع على سائق الأظعان معتذرا

حشاشة شفها التبريح والوصب

وهب له النفس شكرانا وما ملكت

فذاك فى حقه بعض الذى يجب

منازل كنت تهوى قربها أبدا

فالنوم شوقا لها والصبر مستلب

انزل هنيئا مريئا خير منزلة

علت فدون علاها السبعة الشهب

واقر السلام على المختار من مضر

من اهتدى بهداه العجم والعرب

محمد خير خلق الله قاطبة

المصطفى الطهر من زالت به الريب

أزكى النبيين أعلى الخلق منزلة

من قد علت بمعالى قدره العرب

طه البشير الذى تجرى مواهبه

ومن زكا قوله والفعل والنسب

بر رؤوف رحيم قد علا شرفا

من هاشم وبنى عدنان منتخب

وبشرت سائر الرسل الكرام به

وأعربت عن معالى وصفه الكتب

٥٢٢

له العلا والنهى والفضل منتسب

والعلم والحلم والآلاء والأدب

إذا بدا فبدور التم كاسفة

والبحر متصف بالنقص إذ يهب

بنانه قصرت عن فيضها السحب

وعنده عرف المعروف والحسب

أسرى به الله تشريفا لرتبته

وقال سل فلك العلياء والأرب

دنا وشاهد رب العرش وارتفعت

من دونه حين ناجى ربه الحجب

وبالملائك صلى رفعته وعلا

وهو الشفيع إذا اشتدت بنا النوب

أتى بمعجز قرآن غدا عجبا

وكم له معجزات كلها عجب

تظله الشمس من حر النهار ولم

تزل على رفعة فى ظله السحب

وخمسة إذ تشكى القوم من ظمأ

غدت ومنها الزلال العذب ينسكب

أطعم الجيش إذ باتوا على سغب

نزر الطعام فزال الجهد والسغب

والبدر شق له والوحش خاطبه

والوجود والبر من علياء يكتسب

وكان بالرعب والأملاك منتصرا

ولم يزل لعداه الويل والحرب

٥٢٣

وانشق إيوان كسرى عند مولده

وأحرقت سارقى سمع السماء الشهب

وأصبحت سائر الأصنام ناكثة من

بعد عز علاها الذل والعطب

فى كفه سبحت صم الحصى علنا

والجذع حن له إذ قام يحتطب

بنى صدق ورضوان ومغفرة

لكل خير وإحسان هو السبب

هو الذى جلّ أن تحصى فضائله

حدث عن البحر ما شئت لا عجب

هو الحبيب الذى سحت مكارمه

هو الرسول الذى تعظيمه يجب

هو الذى طابت الدنيا بمولده

هو النبى الذى عزت به العرب

هو الذى جاء بالبيضاء ساطعة

هو النجيب الصفى الفرد لا كذب

شعاره الزهد والإجمال والرهب

والذكر والفكر والإرشاد والرغب

صام النهار وقاما الليل محتسبا

ولم يثبت جده لهو ولا لعب

تشرف الكون وانجابت حنادسه

ببعثه وأزهرت أبوابه القشب

يا من يؤمل أن يحصى مدائحه

لقد حكيت ولكن فاتك الشعب

٥٢٤

هو الذى نزل القرآن يمدحه

فما عسى أن يقول الشاعر الدرب

إليك ها يا رسول الله زاهرة

من دونها لعلاك الدر والذهب

تجلو مناقبك الحسنى التى بهرت

تثنى القلوب وللألباب تختلب

وذو الرجاء أبو بكر منظمها

عبد لبابك أمسى وهو منتسب

فاشفع له كرما يا خير ذى كرم

ومن فضائله فى الكون تنسكب

وإن ما يبيت منك يرجوا العطف ممتدحا

فما لصارم العضب بعد السل ينتدب

عبد بفضلك قد أمسى أخاثقة

على جميلك بعد الله يحتسب

فكن له شافعا فضلا ومرحمة

إذا جهنم قد جادت لها لهب

ووالديه فجد واشفع لهم كرما

فإن فضلك للراجين مقترب

وأنت أرحم من لاذ المسئ به

وخير من يرتجى إن جلت الكرب

شوقى إليك شديد لا يفارقنى

حتى أرى سائرا والنعش لى قتب

صلى عليك إله العرش ما طلعت

شمس وأصبح نجم وهو محتجب

٥٢٥

ولاح برق أهاج الشوق لامعة

وهب نشر الصبا فاهتزت القصب

وألك الغر والصحب الذين غدوا

هم السادة الكرام والسادة النجب

أجل آل وصحب فضلوا شرفا

زكوا وطابوا فلا لغو ولا صخب

هم نجوم الهدى والفائزون غدا

ومن فضلهم والنهى يملى ويكتتب

٥٢٦

القصيدة

التى يقرؤها أهل المدينة فى حضرة السعادة

يا رحمة للخلق يا واصل

يا بحر جود ما له ساحل

يا من به لا يحرم السائل

أنت شفيع الخلق حصن النزيل

أيا رسول الله! إنى دخيل

يا من عليه الضب قد سلما

والظبى تعظيما له كلما

يا من رويت الجيش بعد الظما

ماءا فراتا من نبات يسيل

أيا رسول الله! إنى دخيل

يا من عليه الله قد أنزلا

ذكرا حكيما معجزا للملا

كن لى معينا فى البلا

لا سيما فى الحشر عند الجليل

أيا رسول الله! إنى دخيل

يا من له تجلى جميع الكروب

لهوت عن موقف يوم الخطوب

ما فقت حتى أو بقتنى الذنوب

وما بقى فى العمر إلا القليل

أيا رسول الله! إنى دخيل

جاوزت خمسينا ولم أنتبه

بين حرام عشت والمشتبه

آمنت بالله وما جئت به

وبالذى حدثت عن جبريل

أيا رسول الله! إنى دخيل

أزكى صلاة الله طول المدى

إليك تهدى يا نبى الهدى

وآلك الأمجاد أهل الندى

جارك يرجو بك سترا جميل

أيا رسول الله! إنى دخيل

٥٢٧

استطراد

إن هذه القصيدة التى اعتاد أهل المدينة حفظها قصيدة بليغة تنسب إلى عثمان البصير الحموى قصيدة للثناء والمدح.

وعثمان البصير من قرية دير سمعان (١) التابعة لمدينة معرة النعمان وأخذ الإنابة من المرحوم ابن الجندى شيخ الصلحاء الشيخ عبد الرحمن والشيخ اسحق ، وضرب مثلا فى فضله وكماله فى ديار الشام وحلب ، وكان متفوقا فى العلوم والفنون العربية مع كونه ضريرا ، وتاريخ ولادته ليس مضبوطا ، ولكن وفاته بعد سنة ١٢٥٠ الهجرية.

وكان الأديب المشار إليه قد يئس من قرار الأطباء وحزن أشد الحزن وبعد الحزن الشديد ترك اللجوء إلى الأسباب الظاهرية واختار مسلك الإمام البوصيرى «عليه رحمة الله القوى».

إذ مسح النبى صلى الله عليه وسلم فى رؤياه جسم عثمان البصير العليل المشلول بيمناه الكريمة ولمسه ولم يبق أثر من مرض الشلل فى جسمه واستيقظ من نومه وقام وأخذ يسير ويمشى.

ولما كان الشيخ عثمان البصير شخصا فاضلا يحب المرح والتحدى فبعدما شفى من مرضه واطمان تمام الطمأنينة على زواله فاستدعى الطبيب المسيحى الذى وعى عدم وجود دواء لمرض الشلل قائلا الفالج لا تعالج وطلب منه أن يعالج مرضه ولكن الطبيب المعالج قال إننى وجدت دواء سريع التأثير وأنشد القصيدة التى نظمها تلك الليلة وهو يتمشى وانبهت ذلك الطبيب وتحيره.

وأجبرت هذه القصيدة الطبيب المتحير على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يظهر إسلامه خائفا من ضياع ما فى يده من الثروة والغنى. إلا أنه مات على الإسلام هذا ما يرويه العارفون بالتواتر انتهى.

__________________

(١) دفن عمر بن عبد العزيز فى هذه القرية.

٥٢٨

فضائل المدينة خواص تراب المدينة المنورة وفواكهها

يلزم أن يكون معلوما لدى الذين سافروا فى الأراضى الحجازية المقدسة وقاموا بالسياحة ولا سيما الذين اطلعوا على الأحاديث النبوية والذين يعتقدون فيها أن الغبار الصحى من قبل الله ـ للمدينة المنورة يشفى من علتى «الجذام والبرص» ، والعلل الأخرى المزمنة المخيفة ، ومن المروى المحقق أن الذين يستخدمون تراب المدينة بإخلاص تام وعقيدة صحيحة يشفون من أمراضهم إن الذين حملوه إلى بلاد الروم والممالك الأخرى واستعملوه فى أى علة من العلل شفوا وأفاقوا من عللهم ، إذ قال شافى مرضى المعصية عليه أقوى التحية : «غبار المدينة شفاء من الجذام» وبهذا الحديث الشريف بين أن غبار المدينة ذو رائحة عنبرية وترابها دواء شاف من مرض الجذام.

عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم داخلا إلى المدينة عائدا من غزوة تبوك الغراء استقبله بعض الذين لم يستطيعوا أن يشتركوا فى تلك الغزوة لأسباب مختلفة من سكان دار الهجرة ، استقبلوا الجيش الظافر النبوى ، وعند ما تلاقى المستقبلون بصفوف الغزاة ارتفع الغبار نتيجة لحركات أقدام الجمال والخيول وزاد عن حد الاعتدال فأزكم أنوف الغزاة ، فانزعج الأصحاب الكرام وأمسكوا أنوفهم ؛ فلما رأى قائد فرسان الأنبياء «عليه أكمل التحايا» ذلك قال : «والذى نفسى بيده إن غبار المدينة الطاهر دواء لكل داء وهو شفاء لمرضى الجذام والبرص». وبهذه البشارة نشر فى نفوس الصحابة التسلية والحبور.

خاطرة

إن مثل هذه الكلمات التى تطيب خاطر الجنود تلقى لتهدئتهم ودفع الملل والضجر عنهم ، حتى إن قواد الجيوش والفيالق يلقون بعض الخطب الحماسية

٥٢٩

وبعض الكلمات المثيرة للشوق والحماس للجنود الذين تحت قيادتهم حتى يزيلوا ما فى نفوسهم من الضجر والانزعاج ، وأن يشحنوا نفوسهم بالغيرة والشوق الجديد ، إذا ما قيل هذا ، فتقول لهم : إن ما يسرده قواد الجيوش فى خطبهم من الأدلة وما يستندون إليه من النقاط والحجج والمسائل ليست خالية من النفع والفائدة ، ولكن أليست هذه الأدلة التى يأتون بها تذكر بالنعم الإلهية التى بشرت بها الأحاديث الشريفة؟ وإذا اشتملت هذه الخطب لبعض درجات الوعود وإذا ما تحققت مقاصد القواد بحمية الجنود وهممهم وغيرتهم فإذا ما قيل لا يبق لتلك الوعود أى قيمة وكأنها لم تكن فهذا صحيح وهو محقق كذلك.

ولكن هل يقاس منزلة القواد لدى الملوك بالمكانة التى يتمع بها النبى صلى الله عليه وسلم عند الله سبحانه وتعالى؟

وهل يتصور قائد لم يكذب على الأقل مرة واحدة؟ وأين هو ذلك القائد الذى قدم جنده على نفسه؟! ومع هذا فمن المحقق أن الملوك يلون بدون تردد شكر قوادهم وشكاياتهم فى أثناء الحرب ، وعندما يساق الجنود لإنقاذ شرف الدولة والمحافظة عليها ، وليس فقط فى مثل هذه النقاط المهمة حتى الآن يقبل شكر القواد وشكاياتهم ولا يرد.

وبما أن الأقوال الصادرة من فم النبى صلى الله عليه وسلم المحسن تقترن بالوحى الإلهى ، فالأحاديث الشريفة مهما كان موضوعها ومحتواها فيجب أن يبعد عن الذهن عدم صحتها ، أعاذنا الله تعالى من مثل هذه الأمور ؛ فالذين يتخيلون مثل ذلك يقتضى عليهم أن يصححوا عقائدهم وأن يجددوا إيمانهم. انتهى.

قد حدث ذات يوم أن قام بعض الأفراد من قبيلة بنى الحارث بالتظاهر بالمرض والضعف وقالوا إنهم فى غاية الضعف والتعب من جراء مرض الحمى ، فنالوا شرف المثول بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم ، فأخذ كاشف الغمة «عليه السلام والتحية» بعضا من التراب من مكان يقال له حصيب ووضعه فى مقدار من الماء ثم قال لهم فليتفل واحد منكم وينفخ فى هذا الماء قائلا : «بسم الله من تراب أرضنا ، بريق

٥٣٠

بعضنا ، شفاء لمريضنا ، بإذن ربنا» ، ثم يشرب كل واحد منكم من هذا الماء ، ففعلوا مثل ما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجوا من مرضهم ، إن هذا الحديث يكفى للدلالة على أن تراب المدينة شفاء محض.

فائدة

كان قريبا من حديقة «مدشونية» حفرة ، وكان أهل المدينة يأخذون من هذه الحفرة قليلا من التراب وكانوا يسقونه لمرضى الحمى كما ذكر فى الحديث الشريف ، قال ابن النجار : إننى قد رأيت تلك الحفرة ، وما زال الناس يأخذون ترابها ويرسلونه إلى أطراف البلاد بأمل الشفاء ، ويروون أن من يتداوى به يشفون من أمراضهم ، وقد استعملته بنفسى.

وقال الإمام السمهودى : «إن الحفرة المذكورة ما زالت فى زمنه وإن الناس يأخذون من ترابها ويرسلونه إلى بلاد بعيدة ، كما أن علماء السلف قد أروا تلك الحفرة لتلاميذهم فاكتسبوا الشفاء باستعماله وكثيرون من الصالحين استعملوه وشفوا».

ثم قال : إننى تأكدت من صحة ما يقال باستعماله شخصيا «ثم أضاف : كان أحد أقاربى تعرض لمرض الحمى ولم يستطع أن يتخلص منها مدة عام كامل ، فأخذت مقدارا من التراب وضعته فى ماء كما سبق توضيحه وسقيته بعد التفل ، قد شفى المريض فى ذلك اليوم وقام على رجليه» وبكلامه هذا أكد رواية ابن النجار وصدقها.

ويبتدر بعض الناس الآن غسل المريض بالحمى بأخذ تراب من حفرة ما معتقدين أنها تلك الحفرة المذكورة ويخلطونه بمقدار من الماء ولكن الأولى أن يستخدم وفقا للرواية التى سبق ذكرها آنفا ، ثم الاغتسال بعد ذلك حتى يشفى وفق مفهوم الحديث سالف الذكر ، والله الشافى.

أنا المؤلف لم أوفق فى زيارة حفرة المدشونية ، ولكننى رأيت بعض الناس يأخذون تراب تلك الحفرة وبعد التخمير يمهرونه بمهر خاص بتراب بتراب خاص ويوزعونه على الحجاج مقابل عطاياهم ، إنه تراب مائل إلى اللون الأبيض ، وإذا

٥٣١

ما نظر إلى شفاء الذين يستعملون ذلك التراب بعد التخمير يمكن الحكم بأنه مأخوذ من حفرة «المدشونية» التى عرفها الإمام السمهودى.

المدشونية : اسم بستان جميل يقع فى جهة المدينة المنورة من البساتين التى يطلق عليها العوالى ، وفى داخل هذ البستان الجميل عدة حفر قديمة ومع خلو هذا البستان من سور يحميه فاللصوص لا يستطيعون أن يصلوا إلى محاصيله ويسرقوها ، مع أن البساتين المحاطة بالأسوار وفى داخلها عدة حراس تنقذ محاصيلها من البلح بصعوبة كبيرة ، وعلى هذا يمكن أن يعد عدم دخول اللصوص فى بستان المدشونية من جملة خصائصه. انتهى.

وكان النبى صلى الله عليه وسلم كلما أحضر له مريض أو مجروح يتلو الدعاء سالف الذكر ثم يأخذ من الأرض قليلا من الغبار بأصابعه المباركة ويمسح به المريض ؛ جاءه يوما مريض يشتكى من جرح رجله وعرض عليه أنه لا يستطيع أن يتحمل الأوجاع فما كان من النبى صلى الله عليه وسلم مداوى جروح أمته إلا أن رفع قطعة الحصير التى كان يجلس عليها وأخذ قليلا من الغبار بسبابته (١) المباركة ومزجه بريقه السعيد ثم قال : «بسم الله ريق بعضنا يشفى سقيمنا» ثم مس به جرح الجريح ، وبناء على ما نقله من كان فى مجلس النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك اليوم قد التئم جرح المجروح وعوفى من علته وعاد سالما معافى.

كما أن بلح المدينة يفيد من شفاء بعض العلل والأمراض ، إذ ترى مرضى البلدة الطاهرة يشفون بتناول سبعة أعداد من العجوة صباحا فى سبعة أيام ، وإذا ما سئل عن سبب يشفون يقولون : «إن الصديقة ـ رضى الله عنها ـ نبهت المصابين بعلة (٢) «الدوام والدوار» يأكل فى كل صباح سبعة تمرات وينقل عن سعد بن أبى وقاص أنه قال : «قد مرضت فى فترة ما وشرفنى إذ ذاك طبيب مرضى القلوب من أمته ـ رضى الله عنه ـ فى منزلى ووضع يده السعيدة بين نهدى وطيب خاطرى بلفتة كريمة تساوى الدنيا بما فيها قائلا «إنك رجل شجاع»

__________________

(١) يطلق السبابة على إصبع الشهادة.

(٢) دوام دوار : يعنى الصداع المزمن يقال للصداع المزمن فى الاصطلاح الطبى دوار الرأس.

٥٣٢

وإذ ذاك ورد من الأطباء الحذاق الحارث بن كلدة ، فأحضر عدد سبع حبات من بلح العجوة واسحقها وأخذ ماءها وبدأ يعالجنى بها وسقانى من ذلك الماء ، وفى الواقع أن بلح المدينة المنورة يجمع خصائص عديدة فمن يأكلونه فى الأوقات التى عينتها الأحاديث الشريفة لا يؤثر فيهم لا السحر ولا سمّ هلاهل المهلك ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال : «ومن تصبح بسبع تمرات من العجوة لم يضره يومئذ سم ولا سحر» و «من أكل سبع تمرات عجوة ما بين لابتى (١) المدينة على الريق لم يضره فى يومه ذلك شىء حتى يمسى وإن أكلها حين يمسى لم يضره شىء حتى يصبح» و «من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» «حديث شريف».

و «اعلموا أن الكمأة (٢) دواء العين» و «إن العجوة من فاكهة الجنة ، والكمأة من المن وماءها شفاء للعين ، والعجوة من الجنة وهى شفاء السم». «حديث شريف».

البرنى :

وبما أن البلح المسمى بالبرنى كان من البلح المرغوب لدى الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك مدحه النبى صلى الله عليه وسلم قائلا : «يا أهالى المدينة إن أفضل أنواع البلح الذى ينبت فى بلدكم البرنى» «حديث شريف» إنه يخرج الأمراض والعلل من بطن آكله وإنه غير مضر ولا يجلب العلل» والحديث الشريف الذى يشمل ذلك المعنى «خير تمركم البرنى يخرج الداء ولا داء فيه» ، ولا نعرف حكمة تخصيص الشفاء بسبعة أعداد من بلح العجوة ولا سره ، ولكنه يلزم الاعتقاد بكل إخلاص وطمأنينة لحكم الحديث الشريف وأن يعتمد على أن البلح العجوة يجمع الفيض والبركة ، لأن الذين داوموا على أكله قد تواتر شفاؤهم.

إن العجوة معروفة لدى أهل مكة ، إنها نوع من البلح يحتوى على الشفاء المحصن ، لأنها خلقت من بقايا طين حضرة أبى البشر (٣) وتجمع بين جميع

__________________

(١) لابتى : معناه التل والربوة.

(٢) كمأة : نوع من عش الغراب ينبت فى أماكن ظليلة وجمعها أكماء. وانظر فى هذه الأحاديث كتاب الطب النبوى لابن القيم ص ٢١١٤ وما بعدها. ط ١٤ دار الوعى ـ حلب بتحقيق الدكتور عبد المعطى أمين قلعجى.

(٣) جاء فى الحديث الشريف : «أكرموا عماتكم النخلة ..». انظر تفصيل ذلك فى كتاب النخلة للسجستانى.

٥٣٣

الخواص لذا ينقل أنها أنفع الفواكه جميعا للإنسان ، وبناء على قول ابن الأثير ، إن هذا البلح من نوع أكبر من «الصيحانى» ولكن لونه مائل إلى السواد. وإن كان الإمام داود يذهب إلى أن العجوة أوسط أنواع البلح من إنتاج المدينة وذهب بعض المؤرخين إلى أنها من أنواع بلح مكة ، إلا أن الإمام البزار قال : «إن بلح العجوة من جنس البلح الذى غرسه النبى صلى الله عليه وسلم بنفسه» لذلك رجّح أهالى المدينة قول الإمام البزار على سائر الأقوال وينقلون أن اليهود قد أحرقوا نواة تمرة ثم قدموها إلى النبى صلى الله عليه وسلم قائلين يا محمد : أغرس هذه النواة قإذا ما نمت وترعرعت نصدق نبوتك» فأخذها النبى صلى الله عليه وسلم وابتدر بغرس النواة بنفسه ومن هذه النخلة نشأت العجوة وأثمرت الشجرة فى الحال» ، وفى سبيل تأييد مدعاهم استدلوا على ذلك بالرائحة الخاصة التى تمتاز بها العجوة ، وفى الواقع أن ما يدعيه أهالى المدينة الطيبة مقترن بالصحة إذ يحس فى حين تناولها برائحة طيبة.

ومع هذا ليس هذا البلح عين ما غرسه صاحب المعجزات بيديه السعيدتين من البلح.

ولم يبق فى عصرنا شىء من التمر الذى غرسه النبى صلى الله عليه وسلم بيده المؤيدة بالإعجاز ، هناك من يدعى وجود نخلة واحدة بين نخيل المدينة المنورة من جنس التمر الذى غرسه النبى صلى الله عليه وسلم إلا أن هذا الادعاء من قبيل الظنيات ، وإن كان بلح العجوة موجودا الآن إلا أنه ليس من نوع البلح الذى غرسه النبى صلى الله عليه وسلم ولكنه نوع متفرع من بلح يسمى «الجادى». ويلزم أن يكون تمر النبى من صنف البلح الذى يعرف ب «الحلية» إلا أن العجوة نوع من البلح بين الحلية ، وحجمها يشبه حجم الحادى ولونها يشبه لون البلح المسمى «غراب» وطعمها يشبه للحلية ، وحجمها يشبه حجم الجادى ، لذلك يظن الذين لا يعرفون أشياء عن أجناس البلح أن العجوة بلح النبى صلى الله عليه وسلم ، كما أن الذين لا يعرفون عن حقيقة بلح الحلية شيئا يدعون أنه لم يبق بلح من جنس بلح النبى صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر آنفا إلا أن أهل الخبرة أثبتوا مدعاهم بكثير من الأدلة المقنعة والتى تؤكد على أن لهم خبرة ومهارة فى تعيين جنس البلح أثبتوا أن بلح الحلية من جنس بلح النبى صلى الله عليه وسلم.

٥٣٤

ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم يحب العجوة حبا جمّا أمر ورغب أهالى مكة فى أكل هذا البلح ، ولما كان الأصحاب الكرام يعملون بموجب الأمر النبوى أحبوا بلح العجوة وأقبلوا على أكله وفق تعليمات النبى صلى الله عليه وسلم ، وما زال أهل المدينة يراعون هذه الأصول إذ يجمعون بلحهم فى موسم الجنى ويملئون به أزيار ويأكلونه فى أيام الشتاء وإنهم يحرصون على حفظ البلح أكثر من أى شئ آخر ، وليس هناك مدنى لم يحفظ فى أيام الصيف ما يكفيه من العجوة لأيام الشتاء.

وفى إستانبول يعد الناس الحطب والفحم ، وفى البلاد العثمانية الأخرى يعدو للشتاء جريش البر المسلوق «برغل ، وما يلزم لحساء «طارخنة» (١) والذين لا يخزنون هذه الأشياء فى مواسمها يعانون كثيرا فى الشتاء ويتعبون ، هكذا يعانى من لم يخزن بلح العجوة فى الشتاء من سكان دار السكينة ويتعبون كثيرا ، وما زالت هذه العادة قائمة إلى الآن بين أهالى المدينة ، ولكن ما جمعوه وادخروه من البلح على أنه عجوة ليست من العجوة المأثورة ، ويطلع على ما يدخرونه من البلح «مجلات وحشية» وهو خليط ومزيج من هجين نوع من البلح ، ولما كان هذ النوع من البلح أرخص ثمنا فعربان البوادى والفقراء من الناس يرغبون فى تخزينه ظنا منهم أنهم يخزنون بلح العجوة ، أما الأغنياء من الناس يخزنون للشتاء بلحا من جنس «حلية ، شقرى ، بيض ، حلوة» وثمن هذه الأنواع أغلى بالنسبة للبلح المخلوط.

ويبين مؤرخو المدينة الطيبة سبق تسمية بلحها بأسماء معينة ويقولون فى تعريف بلح الصيحانى : إن نخلة قد صاحت مصدقة للنبوة أو أن البلح نبت أولا فى حديقة يطلق عليها الصيحانى ، والذى نقل القول الأول هو جابر بن عبد الله الأنصارى ، ولما كان هذا القول يروى مستندا إلى أسانيد جيدة يرجح على القول الثانى وتؤتى هذه الرواية بكرامة أهل البيت وقربتهم وشرفهم.

وقال حضرة جابر وهو يبين سبب تسميته بلح الصيحانى ، كنت قد ذهبت يوما

__________________

(١) نوع من الحساء يصنع من الزبادى أو الحليب المتخمر ويخلط بالدقيق أو بماء اللحم ثم ينشف فيطحن.

٥٣٥

مع النبى ـ عليه صلوات الله الملك المنان ـ إلى بساتين النخيل ، وكان معنا على بن أبى طالب وكانت يده المؤيدة بالفيض فى يد النبى صلى الله عليه وسلم.

وكان كلاهما أمامى بعدة خطوات ، ومرا بجانب نخلة وكانت تلك النخلة موزونة القامة فصاحت صيحة شوق وابتهاج وقالت «إن ذلك الشخص سيد الأنبياء محمد «عليه صلوات الأحد» وبجانبه سيد الأولياء أبو الأئمة الطاهرين» كذلك نطقت إحدى النخيل القريبة منها وقالت صائحة : «إن هذا الشخص محمد رسول الله وبجانبه على سيف الله» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا على «فلتسم هذه الأشجار بعد هذا «بصيحانى» ، وانتشر الخبر بين الأهالى وشاع وأخذوا يطلقون لهذا الجنس من النخيل «الصيحانى» انتهى.

وإن كان بلح المدينة كثير الأجناس مختلف الأنواع إلا أننى استطعت أن أعد ما يقرب من مائة وثلاثين نوعا «ولا يشبع للطاقة نوعى العجوة والبرنى وحلاوة مذاقها».

بناء على ما فصل فى الصورة الثانية من الوجهة الأولى لم تبق من أنواع البلح فى زماننا القدر الذى ذكره المرحوم السمهودى ، لذا قرر أن يطلق على جميع أنواع البلح «اللون» (١) ما عدا الأسماء التى ذكرت فى الوجهة المذكورة وعددت.

__________________

(١) روى فى بعض كتب التاريخ أن أول من غرس النخلة هو شيث عليه السلام.

٥٣٦

فى بيان وتعريف نجاة سكنة دار السكينة

من مضرة الطاعون والدجال

قال النبى صلى الله عليه وسلم ليبين مدى حبه القلبى للمدينة المنورة «اللهم حبب لنا المدينة كحب مكة أو أشد» ، وبهذه الطريقة كرر النبى صلى الله عليه وسلم الدعاء للمدينة ، وسبب تكراره يومئ بزيادة رغبته ـ عليه السلام ـ ، والداعى لهذا الدعاء ما قاله بلال بن رباح الحبشى اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن أبى ربيعة وأمية بن خلف إنهم أخرجونا من بلادنا وكانوا سببا فى الهجرة إلى بلد كثيرة الوباء.

قال بعض الأئمة : «إن النبى صلى الله عليه وسلم قد كرر الدعاء المذكور مرات عديدة ؛ مع أن استجابته قد ظهرت بعد أول مرة» ، إن الحكمة من هذا التكرار هى وفرة الوفرة فى أوزان دار الهجرة وأكيالها على شكل محسوس ، إذ أن الفيض والبركة اللذين فى مد أوصاع المدينة المنورة لا يظهران فى أكيال وأوزان سائر البلاد ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم كلما عاد من سفر إلى المدينة المنورة كان يمد نظره إلى جدران تلك المدينة وأحجارها وأسواقها وأشجارها ويرخى النظر بالفرح والابتهاج إليها ، ثم يدعو عارضا دعاءه إلى واهب الآمال إذ يقول : «يا رب قدر لنا القرار فى المدينة ويسر لنا سبل المعيشة بالرزق الحسن ، يا رب! بارك فى المدينة بضعفى بركة مكة ، اللهم اجعل مد المدينة وصواعها وأكيالها مباركا لهم».

وكما هو معلوم لدى من يدققون النظر أن الفيض والبركة اللذين يسودان المدينة فى يومنا هذا هما أثر من آثار استجابة الله ـ سبحانه وتعالى ـ لذلك الدعاء إن مؤونة إدارة المدينة المنورة لسنة كاملة تقابل مؤونة إدارة البلاد الأخرى لستة أشهر ، إذ يحدث أحيانا أن طعاما يرى غير كاف لإشباع نفر واحد يشبع عدة أشخاص ثم يفيض أيضا ، إن هذه الأمور الدقيقة معروفة سواء أكان عند أهالى

٥٣٧

المدينة أو كان لدى المجاورين والمسافرين الواردين ، كما أن المدققين من الزوار يزيدون من محبتهم ورعايتهم لأهل المدينة إذا جربوا ذلك ورأوا بأعين رءوسهم ذلك الفيض وتلك البركة.

وإذا كانت الأشياء محسوبة لهذا البلد هذا القدر من الفيض والبركة لا شك فى أن أهالى ذلك البلد يفضلون الآخرين فى أمور دينهم وآخرتهم وبناء على هذا فإن طاعات وعبادات سكنة دار الهجرة تستلزم تضاعف أجرها ومثوبتها.

وكان أهالى دار الهجرة فى عصر النبوة عند ما ينضج التمر ويصل إلى كماله ، يأخذ كل واحد منهم عنقودا من التمر ويقدمونه لعتبة رسول الله حتى ينالوا دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمسك التمر بيديه المباركتين ويدعو لأهل المدينة بسبب ما يؤخذ إليه من البلح الطازج قائلا : اللهم أنعم على مدينتنا وأكيالها بالبركة ، يا رب كان إبراهيم عبدك ورسولك ، وإننى عبدك ورسولك ، وقد دعا إبراهيم لمكة المكرمة ، وأنا أدعو أن تنعم بمثل ما أنعمت على مكة المكرمة من الفيض والبركة على المدينة المنورة ، وشرف فى يوم ما مع على بن أبى طالب المحل الذى كان يسكنه سعد بن أبى وقاص فى «حرة سقيا» وتوضأ الرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا المكان ثم استقبل القبلة ودعا قائلا : اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك ودعاك لأهل مكة بالبركة ، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك فى مدهم وصاعهم مثلى ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين ، وقال ابن شبّة : إن ملك السرائر المصطفى ـ عليه من الصلوات أصفاها ـ قد كبر فى خاتمة دعائه.

وخرج رئيس ينابيع الفيض والبركة ـ عليه أصفى التحية ـ فى يوم ما للذهاب إلى مكان يقال له «بيرحاء» فى نواحى المدينة المنورة ، وكان فى معيته أبو هريرة ـ رضى الله عنه ـ ، وعند ما وصلا إلى المكان المذكور استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم القبلة ورفع يديه حتى ظهر بياض إبطيه تحت منكبيه وقال : يا رب كان إبراهيم خليلك ودعا لأهل مكة ، أنا أيضا رسولك ، أدعو لأهل المدينة طالبا الفيض

٥٣٨

والبركة ، وكما أحسنت إلى أهل مكة فألق ببركتك لمد سكان المدينة وصواعهم وضاعف قليلهم وكثيرهم ضعفين ، يا رب كل من يقصد أهل المدينة بالسوء فألجه وأذبه كما يذيب الماء الملح (١)» «حديث شريف» هذه الرواية منقولة عن أبى هريرة بالتواتر.

نقل علة الحمى خارج المدينة المنورة

تعرض بعض أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى ابتداء الهجرة المستلزمة للحكمة لعلة الحمى واشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعد شافى الأمة من أدوائها ـ عليه أجمل التحية ـ المنبر وقال : «اللهم أنقل عنا الوباء» وبهذا الدعاء رجا من الله ـ سبحانه وتعالى ـ الحكيم المطلق العلة إلى نقل العلة إلى أو إلى أماكن أخرى وفى الغد قال : قد جاءتنى الليلة عجوز فى ملابس سوداء وقالت لى : إن العلة التى دعوت لنقلها هذه هى فأين تريد أن أنقلها من المدينة المنورة؟ فأجبتها ، أن تنقلها إلى «خم» وبهذا أخبر بأن علة الحمى قد نقلت إلى موقع «خم» وبعده بيوم مثل أحد أبناء السبيل أمامه آتيا من جهة مكة ، فسأله قائلا : من الذى قابلته فى الطريق؟ فأخذ الرد الذى يقول «لم أقابل أحدا غير عجوز منكوشة الشعر فى ملابس سوداء» فقال المطلع على السرائر ـ عليه سلام الله القادر ـ إن تلك العجوز علة الحمى وإنها لن تستطيع أن تعود إلى المدينة مرة أخرى.

وهكذا نقل ما جرى ، وعلى هذا فعلة الحمى بين حرات قريضة وعريض ، اللهم أحمنا فى المدينة وأنقل حماها إلى مهيعة (١)! وإذا بقى منها شىء أبقه خلف مشعط (٢) ، وقال إذا كان فى جزء من المدينة وباء فهو فى «ظل مشعط» (٣) وكل من شرب ماء فى جحفة بعد هذا الدعاء تعرض للحمى ، وكل طائر طار من فوق نواحى هذه القرية أصيب بمرض ووقع على الأرض.

وجاء فى سيرة ابن هشام ، أن تلك الأحاديث تومئ إلى أنه قد ظل فى المدينة نوع من المرض قليل الخطر وهو المرض الذى فى المدينة الآن ، ولكن هذا المرض

__________________

(١) تقدم تخريج هذه الأخبار.

(١) تقدم تخريج هذه الأخبار.

(٢) مهيعة اسم آخر للجحفة.

(٣) مشعط على وزن مرفق اسم قلعة فى بلاد بنى هذيل وفى الجانب الغربى من مسجدهم وبالقرب من «بقيع الغرقد».

٥٣٩

ليس بشىء خطير نتيجة لاستجابة دعاء الرسول الكريم ، ولكنه مرض رجع فى عصر الرسول لكفارة الذنوب وهو مرض خفيف ، وهذا المرض هو حمى «أم ملدم» وبناء على الرواية التى نقلت عن جابر بن عبد الله ـ رضى الله عنه ـ أن حكيم الأنبياء ـ عليه أفضل التحايا ـ حينما دعا ، فى الصورة المشروحة ، رأى ذلك المرض ورغب أن يرحل إلى نواحى «قباء» وكان المرضى الذى رآه الحمى المسمى ب «أم ملدم» الذى اتجه ناحية قباء رأسا ، بناء على الأمر الذى صدر له من النبى صلى الله عليه وسلم ، وأخذ يزعج سكانها ، ولم يكن فى استطاعة مخلوق أن يفهم سر هذا الحكم وقد انزعج سكان قرية قباء من الحمى العارضة لبلدهم ، وذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه ما حدث وطلبوا منه أن يدفع عنهم تلك الحمى.

فرد عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا : «الدعاء لرفع الحمى وإزالتها ممكن ولكن تحملكم لها كفارة لذنوبكم» فقالوا : «إننا نتحمل المرض بأمنية كفارة الذنوب ثم عادوا».

إخطار

وإذا قيل بما أن المرض من الأشياء المحسوسة فكيف يظهر على شكل امرأة عجوز؟ يقال لهؤلاء : إن أقوال النبى صلى الله عليه وسلم وأفعاله إخضاعها لقواعد العلوم المضبوطة والفنون المعلومة من جهة ، ومن هنا يجب أن تنحى فكرة التحليل والتطبيق جانبا تأدبا ، ومن جهة أخرى ينبغى أن يقبل كل ما يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم دون تردد ، وأن يصدق. انتهى.

إن النبى صلى الله عليه وسلم المطلع على أسرار الحكمة قد تفضل قائلا : قد أرانى جبريل الطاعون والوباء ومرض الحمى ، وكلفنى أن أبقى واحدا من هذه العلل فى المدينة ، وإننى أبقيت على الحمى ورددت الطاعون ، وإن كان الطاعون باعث استشهاد لأمتى إلا أنه زاجرا للكفار ، وهذا ما ينقل عن النبى صلى الله عليه وسلم ويروى ؛ لذا لا يقدر لا الطاعون ولا الوباء الدخول فى المدينة المنورة ، أما الحمى فهى ليست وباء ولكنها رحمة من الله.

٥٤٠