موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

إلى باب السلام تولى ملك مصر المظفر سيف الدين محمود بن ممدود خوارزم شاه ، بدلا من منصور نور الدين على مظفر بن الملك عز الدين أيبك الصالحى للتعطيل ، وبذل سيف الذين المعزى أيضا لإعمار مسجد السعادة جهده ، فبنى الجهة الشرقية من باب السلام إلى باب الرحمة والجهة الغربية من باب جبريل إلى باب النساء فى صورة متينة ، إلا أنه مات فى نهاية السنة المذكورة مقتولا فتعرضت مبانى الحرم الشريف للتعطيل ثانية.

وتولى حكم مصر والشام بعد سيف الدين الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى البندقدارى ، ولما كان يرجو أن يكمل بناء مسجد السعادة عيّن جمال الدين محسن الصالحى من رجالات مصر لأمانة البناء وأرسله إلى المدينة المنورة فى رفقة ثلاثمائة وخمسون نفر من العمال المهرة كما دبر له المال اللازم والأشياء الأخرى وأرسلها إلى جمال الدين محسن دون تأخير.

عندما وصل جمال الدين إلى دار الهجرة بنى المسجد الشريف للمرة الثانية من باب الرحمة إلى باب النساء وجعل للجهات الغربية والشرقية والقبلية سقفين لطيفين فأعاد أبنية المسجد لحالتها الأولى.

وظل مسجد السعادة تسعة وأربعين عاما إلى أوائل عصر الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحى على هيئة بناء الظاهر ركن الدين ، وفى سنتى ٧٠٥ ، ٧٠٦ ه‍ هدم محمد بن قلاوون الصالحى السقوف التى على يمين جهة الساحة الرملية ويسارها وجددها بأن جعلها سقفا واحدا (١) مثل الجهة الشمالية وبعد ٢٣ سنة أضاف عقدين إلى الجهة القبلية فوسع المسجد الشريف قليلا ورمم الجهات التى فى حاجة إلى التعمير وجعلها فى غاية المتانة وذلك فى سنة ٧٢٩ ه‍ ولكن العقدين اللذين أقامهما محمد بن قلاوون لحق بهما البلى ولم يعودا صالحين وخيف من سقوطهما بغتة فيكون ذلك سببا فى هلاك الناس وهذا ما أزعج الناس وأقلقهم ، ولما عرف الأمر الملك الأشرف برسباى بعث أمين البناء مقبل

__________________

(١) كانت الجهة الشمالية لمسجد السعادة وجهاته الأخرى مبنية بسقفين.

٤١

القائد وأعطى له مقدارا من النقود التى حصل عليها من حوالى جزيرة قبرص فجدد العقدين المذكورين كما جدد الأماكن التى فى حاجة إلى التجديد فى السقف الشمالى ، وذلك فى سنة ٨٣٧ ه‍.

ولما لزم تعمير بعض أماكن المسجد الشريف بعد ٢٢ عاما بعث الظاهر جقمق المصرى فى سنة ٨٥٣ ه‍ المهندس أمير برد لتجديد سقوف الروضة المطهرة وسقوف الأماكن الأخرى المباركة كما أن الأشرف قايتباى جدد فى سنة ٨٧٩ بعلم شمس بن زمن بعض أماكن السقف الشرقى بعد هدمها إلى المئذنة الشرقية.

وجدد شمس بن زمن بعد سنتين سقف الجهة القبلية وبدل قبة الحجرة المعطرة (١) بقبة حجرية وهكذا رصن حجرة السعادة.

ولكن عندما ضاقت جهة مسجد السعادة الشرقية كثيرا أضاف إليها من الخارج ذراعين وربع ذراع فوسع حرم السعادة كما أن هذا الجدار قد سحب إلى الخارج عند التعمير الأخير أى فى عصر السلطان عبد المجيد قدر خمسة أذرع ولم يكن لذلك الوقت قبة فوق الحجرة المعطرة فكان بناء عمر بن عبد العزيز متصلا بسقف مسجد السعادة على شكل سقف مستو ولكى ينفصل عن سقف المسجد الحرام أقيمت حظيرة من الآجر بارتفاع ذراعين ، وحوّل الملك المظفر هذه الحظيرة إلى قبلة مثمنة فى أعلاها ومربعة فى أسفلها ، وغلفها من أعلاها بألواح خشبية وغلف الألواح الخشبية بألواح رصاصية ثم غطاها بستارة من المشمع.

وفى سنة ٧٥٦ جدد تلك القبة المذكورة الملك الناصر حسن بن محمد قلاوون وجددها مرة أخرى بعد اثنتى عشرة سنة إلا أنها حولت فى سنة ٨٨٦ ه‍ إلى قبة حجرية فى عهد الأشرف قايتباى المصرى.

__________________

(١) وقد قدر الأهالى هذه القبة فى ذلك الوقت وسموها القبة الزرقاء.

٤٢

فى تعريف احتراق مسجد السعادة للمرة الثانية

وكيفية وصورة تجديده

فى الليلة الثالثة ، وعلى رواية فى الليلة الثالثة عشرة ، من رمضان سنة ٨٨٦ ه‍ وفى الثلث الأخير منها بينما كان رئيس المؤذنين شمس الدين بن الخطيب يهم بالطلوع على المئذنة الرئيسية والمؤذنون الآخرون إلى المآذن الأخرى للتهليل والتذكير والترحيم.

ظهرت فجأة على وجه السماء غيوم سوداء مخيفة وظهرت أصوات مدهشة كأنها طلقات المدافع فأصبحت دار العزة ونواحيها المتجاورة داخل نار ملتهبة ، وزادت أصوات الرعود والصواعق بالتدريج فأصابت صاعقة شديدة مئذنة رئيسية فهدمت أعلى شرفتها والجهة الشرقية من المسجد الشريف وخربته وقتلت شمس الدين بن الخطيب وعشرة من الخدم والجماعة وكان من ضمنهم نائب خازن الحرم.

والصاعقة التى هدمت المئذنة الرئيسية وخربتها سرت نيرانها إلى سقف مسجد السعادة ومن هناك دخلت داخل المسجد بحيث أصبح مسجد السعادة فى وسط النيران فجأة.

وإن كان أغوات حجرة السعادة فتحوا أبواب الحرم الشريف وأخبروا الأهالى بالحادث فتكاثروا وتكاتفوا لإطفاء الحريق وبذلوا كل جهودهم ، ولكن النيران الملتهبة قد أحاطت بجهات مسجد السعادة الأربعة بشدة حالت بين من يحاول أن يدخل إلى داخل المسجد ومع هذا فمن دخلوا داخل المسجد مضحين بأرواحهم اندفعوا خارج المسجد بطريقة شديدة حتى ينجوا بأرواحهم وزادت النار التهابا واشتعالا فلم يبق أمام الأهالى إلا أن ينسحبوا بعيدا وأن يتفرجوا على النار.

٤٣

بينما كان مسجد السعادة يحترق والنار تنتقل من هناك لهنا أخذ الأهالى ينقلون أشياءهم إلى خارج المدينة وفى نفس الوقت ينظرون إلى النار المخيفة نظرة حيرة ودهشة ؛ ولم يخرج من داخل المسجد إلا بعض المصاحف الشريفة فى أول الحريق ، واحترقت الكتب النادرة القيمة والأشياء الثمينة وكل ما أهدى من قبل السلاطين والأسلاف من الأشياء الذهبية الثمينة ولم ينقذ إلا القبة التى كانت فى وسط الحرم الشريف واحترق عشرة أنفار من الذين دخلوا داخل المسجد بغتة لنقل بعض الأشياء وماتوا متأثرين من النار.

استطراد

اسم القبة التى ذكرت اسمها قبة الشمع وقد بنيت من قبل الناصر لدين الله لتوضع فيها لوازم حرم السعادة وهى الأشياء التى ترد منذ ثلاثمائة سنة حتى مصحف عثمان بن عفان كان محفوظا فى داخل هذه القبة ، ولما ساءت حالتها مع مرور الزمان وخربت ، هدمها السلطان سليمان بن السلطان سليم حتى سوّيت بالأرض وبناها من جديد فى تاريخ ٩٧٤ ه‍ وكتب على القطعة الرخامية التى وضعت خارج جدارها الخارجى بخط جلى مذهّب (لمولانا السلطان الملك المظفر ملك البرين والبحرين ، السلطان سليمان أعز الله نصره) ، ولما رأى محمد رائف باشا الذى عين لأمانة البناء من قبل السلطان عبد المجيد سنة ١٢٧٤ ه‍ أن إبقاء القبة داخل مبانى حرم السعادة مضرا ، رفع تلك القبة من ساحة الحرم الشريف الرملية وأخرجها إلى خارج الجدار الشامى كما ذكر فى الصورة الثالثة من هذه الوجهة ، وفعلا قام بعمل مناسب. انتهى.

وقد اتسعت تلك النار واشتدت واشتعلت حتى إنها جعلت المسجد الشريف يتحول إلى بحر من شعل ولهيب حتى ظن الناس أنها ستحرق جميع حوانيت المدينة المنورة ومنازلها فهربوا إلى أماكن بعيدة ، إلا أنها لم تسر خارج المسجد.

٤٤

معجزة باهرة

رأى أحد الصالحين فى رؤياه أن بعض الجراد ينتشر إلى الأطراف وعقب ذلك شاهد ظهور شرارة النار وأن النبى صلى الله عليه وسلم يقول : «إننى أمنع هذه النار وفعلا منع انتشار النار إلى الأطراف ، هذا ما نقله هذا الرجل الصالح» ، وفعلا قد رئى فى أثناء الحريق ظهور طيور بيضاء لا حصر لها وتمنع بأجنحتها انتشار النار خارج مسجد السعادة.

وقد رئيت تلك الرؤيا فى الليلة الثانية من رمضان أو الليلة الثانية عشرة ونقلت إلى أمير المدينة السيد الشريف زين الدين ابن الشريف زين بذاته أن الشخص الذى رأى الرؤيا من صلحاء العرب ونال حسن ظن جميع الناس.

حرم النبى محمد فيما مضى

مسته من أثر الصواعق نار

ما تلك صاعقة ولكن لمعة

نورية قدحت بها الأنوار

وسرى زفير المذنبين ملامسا

لحبالها فبدى لها الآثار

وهذه الأبيات ارتجلها بداهة بسبب احتراق الحرم السعيد للمرة الثانية مفخرة العلماء وسند الفضلاء صاحب السماحة أبو الهدى أفندى ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا نظير لمثل هذه الموهبة الشعرية فى شعراء الأسلاف.

بعد انطفاء الحريق بعدة أيام أطفأ أهالى دار الهجرة النار الباقية فوق القبة الخضراء ، وعجبوا لما رأوا أن القبة المزينة التى بنيت قبل الحريق فوق الحجرة المعطرة لم تحترق واحترقت فقط القبة الخضراء التى فوقها وذاب الرصاص الذى فوقها وأخذ يسيل فوق قبة حجرة السعادة ولكنه لم يضر الأشياء التى كانت فى داخل الحجرة المعطرة.

٤٥

عبرة

والغريب فى الأمر أن القبة الكبيرة التى تحيط بالقبة الصغيرة والمخازن التى فى داخل مسجد السعادة والمصاحف الشريفة و ١٢٠ من الأساطين الحجرية ومقصورة مرقد السعادة ومنبر النبى المنير وصندوقه مصلى السعادة قد احترقت كلها وانمحت الأعمدة المتصلة بالحجرة اللطيفة المسعودة ، ورفعت بعد الحريق الأشياء التى كانت فى الجهة القبلية من الحجرة المعطرة ونجت بعض أجزائها كالأشجار والبقايا الأخرى من الحريق إلى جهة الجدران الشامية وكتب الأمر إلى السلطان قايتباى المصرى وقد حزنت قوافل الزوار التى وردت من مكة وتكدرت.

ظهور السيل المروع بجوار مسجد الحرم

عند عودة الذين احترقت قلوبهم بنار احتراق مسجد السعادة كانت تنتظرهم مصيبة أخرى عند عودتهم إلى مكة المكرمة ، وذلك بظهور سيل عظيم وكأنه بحار متلاطمة ، ملأت الصحارى والأودية وفى النهاية ملئ حرم الكعبة المعظمة فهدم كثيرا من المنازل والدكاكين وليس فى الإمكان إحصاء من غرقوا فمن قائل أنهم كانوا ثمانين غريقا ومنهم من يقول مائة ووجدت جثثهم بعد انقطاع السيل ، وروى أنه لم يقع مثل هذا السيل العظيم بعد الجاهلية.

تجديد مسجد السعادة وقصر عزة الوحدانية

لما أطلع السلطان قايتباى على تعرض الكعبة العلياء موئل الرحمة والوحدانية الحرم المحترم لهجوم السيل وخرابه حتى تحول كل ركن منه إلى عش بوم أو غراب ، فعين سيفى سنقر الجمالى لأمانة بناء الكعبة المعظمة وشمس بن زمن لأمانة بناء المدينة المنورة وأخرجهما إلى الطريق وأمر بأن يبعث الأدوات اللازمة للبناء عن طريق جبل الطور وينبع البحر وهما فى مصر وأن يصاحب كلا من سنقر الجمالى وشمس بن زمن أربعمائة من مهرة العمال وكذلك الدواب اللازمة للنقل.

وتوجه سنقر الجمالى وشمس بن زمن نحو مكة المكرمة فى خلال شهر ربيع

٤٦

الأول سنة ٨٨٦ ه‍ ، وحيثما نزلوا فى الطريق أو قضوا ليلهم وجدوا كثيرا من الموظفين المكلفين بحمل الأدوات اللازمة للبناء كما أرسل موظفون لإحصاء المكلفين بقطع الخشب اللازم من حوالى المدينة المنورة والأخشاب التى وردت من المدينة المنورة ونواحيها ولوازم البناء قد تحولت إلى جبال راسيات وامتلأ الطريق البحرى والبرى بالأشياء اللازمة لتعمير الأماكن المقدسة ، ورأوا أن أهالى كل بلدة وضيعهم أو شريفهم مشغولين بنقل مهمات البناء.

وبمجرد أن وصل شمس بن زمن إلى دار العز المدينة المنورة شرع فى هدم الجهة القبلية للمسجد ابتداء من المئذنة الرئيسية إلى باب السلام وهدم الجهة الشرقية إلى باب جبريل وأخرج الجهة الشرقية إلى خارج ما يقرب من ذراع ونصف ذراع ووسع محراب عثمان الشريف وجعله فى صورة جميلة وطبيعية وجدده ، ورفع عليه قبة جميلة وقصر من طول الأعمدة ووضع عليها عقودا من اللبن ورفع هذه العقود بالأخشاب وصنع عليها سقوفا كاملة منتظمة ، وصنعوا قبابا عالية متينة على الأساطين التى بجانب محراب عثمان والأساطين التى تحيط بحجرة السعادة وغيروا الأعمدة التى فى مقصورة الحجرة المعطرة فى شكل جميل.

ولما كانت القبة التى أقيمت فوق حجرة السعادة أعلى من القباب الأخرى وضع مهندسو التعمير عقودا محكمة فوق الأساطين التى على جوانب الجدار الشرقى الأربعة والشمالى حول هذه القبة وبنوا فوق تلك العقود أربعة أعداد من القباب المتينة وفتحوا منافذ بين المئذنة الرئيسية والعقود سالفة الذكر لتيار الهواء ، عند ما كانت تمد عقود القباب الجديدة أضيف للجهة الشامية لمثلث حجرة السعادة عمود وعندما كان يحفر أساس هذا العمود ظهرت علامة قبر ، ولما حكم أمين البناء شمس بن زمن أن هذا القبر قبر حضرة (فاطمة) رضى الله عنها فجعل ذلك القبر داخل علامة خاصة ، وبعد وضع هذه العلامة أخذ زوار الرسول صلى الله عليه وسلم يزورون هذا المكان أيضا.

٤٧

كان مكان باب المئذنة الرئيسية قبل الحريق فى الطرف الغربى أى فى المكان الذى يوجد الآن فأداره شمس بن زمن إلى جهة الشام وأسس صفة أمام الأبواب الجديدة ذات الأربع درجات خصصت هذه الصّفة لاستراحة الأئمة يوم الجمعة إلا أن شاهين الجمالى عندما جدد المئذنة الرئيسية فى سنة (٧٩٨) هدم تلك الصفة وأعاد باب المئذنة إلى مكانه القديم أى الجهة الغربية.

والآن يجلس خطباء مسجد السعادة قبل الخطبة أمام هذا الباب ، وبعد أن أتم شمس بن زمن عمليات المواقع المذكورة زين باب السلام بقطع رخام ملونة ، وبنى قبتين رصينتين فى جهة الباب الداخلية فقوى ورصن ذلك الباب ، ثم أمر بحفر أطراف الروضة المطهرة الأربعة وسوى أرضية المسجد وسطحها ، وركز محل الصندوق الذى كان علامة مصلى النبى عمودا وزين أعلاه بالحجارة الملونة الخاصة بالمحراب النبوى ، وفرش أطراف الحجرة المعطرة بالرخام كشكلها القديم ، ثم أتم عمليات المقصورة ومنبر السعادة والمحفل ، وعقب ذلك أمر بصنع صفة صغيرة فى المحل الذى بين باب السلام ونهاية المسجد ، ولكن الصفة التى فى الجهة الشمالية أعلى قليلا من الصفة التى صنعها شمس بن زمن.

بعد ما تمت عمليات المحلات المشروحة هدم رباط الحصن العتيق الذى فى جهة باب السلام ثم هدم مدرستى دار شباك وجوبانية وبنى على ساحتيهما مدرسة جميلة باسم السلطان قايتباى ، وبنى كذلك رباطا ، وقد أقيمت مبانى هذه المدرسة والرباط المذكور فوق ثلاثين عقدا وكانت ذات ثلاثة طوابق وكان بناء ضخما له ثلاثة أبواب ، والنافذة التى تنسب إلى أسبق المهاجرين وأفضل أصحاب الدين حضرة أبو بكر الصديق أحد أبواب ذلك المبنى الضخم وهو الباب الذى استثنى عندما أمر النبى صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الأخرى.

كان شمس بن زمن أمر ببناء عقود كثيرة على جدار مسجد النبى القبلى وهو يتصور أنه سيبنى الرباط والمدرسة المنسوبين إلى السلطان قايتباى فى الجهة القبلية لحرم السعادة ، ولكنه غير فكره مؤخرا وسد جميع العقود التى صنعت فى الجهة

٤٨

القبلية ما عدا العقود التى تحاذى المحراب العثمانى ، ولذلك زينها كلها بقطع زجاج ملونة بمختلف الألوان وشبك طرفها الخارجى بأسلاك نحاسية ، ثم شرع فى تأسيس الرباط والمدرسة (١) سالفى الذكر وبنى مئذنة فى جهة باب الرحمة للمدرسة كما بنى حماما وعمارة وسبيلا وطاحونة (٢) ومخبزا ومطبخا للدشيشة (٣) ووكالة ، وأتم كل هذه الإنشاءات فى سنة ٨٨٨ ه‍ وأبلغ الأمر إلى مصر وعرضه ، وعاد ولكن السلطان قايتباى قد أبلغ أن تزيينات مسجد السعادة الداخلية وتذهيباته ليست منسقة وجميلة فأرسل فى سنة ٨٨٩ ه‍ بعض النقاشين والرسامين من مهرة العمال والأشياء اللازمة لذلك فزينوا داخل الحرم الشريف فى صورة غاية فى جمال الصنعة ، وأرسل من مصر مصاحف شريفة وكتبا نادرة لتقوم مقام المصاحف المحترقة والرسائل النفيسة ، وهكذا أكمل وظائف عبوديته ، وأرسل بعد مدة لأجل الرباط سالف الذكر عشرة أعداد من القدور الكبيرة وجميع أنواع لوازم الطبخ ، وأصدر أوامر مشددة بخصوص إبطال المكوس وأنه سيبعث بدل المكوس ألف إردب من قمح لولاة المدينة سنويا كما كتب أن القمح سيرسل سنة عن طريق ينبع.

مكوس

جمع مكس وهو أخذ الخراج من الأشياء التى تباع فى الأسواق والطرق ومن الأشياء التى تخرج من المعايير وشراء شىء أقل ثمنا من الآخر ويروى أنه من مخترعات النمرود وقبله لم يكن هذه الأشياء موجودة.

وبعد ما أتم السلطان قايتباى آيات بره المشروحة ، أو لم وليمة لأهالى دار العز لم يروا مثلها من قبل ، ثم اشترى من يد السادات المنازل التى تسمى عباسا وما حولها من المساكن والبيوت وبنى مكانها الرباط والوكالة سابقتى الذكر وأوقف لأهالى المدينة ألف وخمسمائة إردب قمح سنويا واللوازم الأخرى وعين لكل

__________________

(١) واليوم تسمى هذه المدرسة «المدرسة المحمودية».

(٢) وإلى هذا الوقت لم يكن فى المدينة حمام ولا طاحونة.

(٣) حساء يصنع بطحن القمح فى طاحونة يدوية وهو يصنع من القمح المكسر مثل البرغل.

٤٩

واحد من أهالى المدينة شهريا سبع أرادب مصرية قمح وهى تساوى خمسة أمداد مدنية ، كما عين؟ للمجاورين كل يوم قطعتين من خبز ومقدارا كافيا من طعام الدشيشة وجعل للأغنياء والفقراء معينات وافية لكل واحد حسب حاله ، وصار عطاءه هذه الأشياء كل سنة عادة.

يقول الإمام السمهودى : إن السلطان قايتباى المصرى أنفق لأجل اللوازم والأدوات وأجور الدواب فى سبيل تجديد المبانى المقدسة مائة وعشرين ألف دينار.

وأخبر مؤلف روضة الأبرار : أنه أنفق مائتى ألف قطعة ذهبية خالصة العيار تقربا للرسول الله صلى الله عليه وسلم وأتم عمليات تجديد وتعمير الأبنية المقدسة فى حوالى سنتين. وهذه الأخبار أخبار دقيقة.

ذيل

ولا ينكر أن ما قام به قايتباى المصرى فى إيجاد العمارات والوقف شىء لم يسبق إليه من قبل وأن هذا العمل تضحية عظيمة ، إلا أنه فى عهد السلطنة العثمانية والخلافة الكبرى قد زادت المرتبات الحجازية وترقت وقد روعى جانب سكان المدينة بدرجة لو كان السلطان قايتباى حيّا وعرف ذلك لشعر بالخجل ، وكل ما يقال عن خدمة الخلفاء العثمانيين للأماكن المقدسة بشهادة صفحات التاريخ وباعتراف أولى الأبصار.

وبناء على ما فصل فى الصورة الثامنة من الوجهة الأولى فإنه قد طرأ فى فترة ما تقصير وإهمال فى توزيع الصدقات فأعطيت مخصصات الأهالى أربعة أشهر وتركوا ثمانية أشهر مكشوفين ؛ ولما سمع ذلك بعث بالموظفين المخصوصين لتحرى الأسباب المؤدية لذلك ، ثم عين شيخ الحرم المتصف بالعدل والتزام الحق ، فأعطيت مخصصات الأهالى شهرا بشهر فدعوا للسلطان بالخير.

كان السلطان قايتباى المصرى أرسل سنة ٨٩١ ه‍ شاهين الجمالى إلى المدينة المنورة ونصبه شيخ الخدم وتولى سماطا وطعاما وأودعه الأدوات والأشياء اللازمة لتعمير وتشييد مئذنة السعادة ، وجددها فى صورة متينة رصينة جميلة بأحجار

٥٠

منحوتة وبعد ست سنوات أصابت الصاعقة تلك المئذنة وخربت وأصبحت مأوى للبوم والغربان فهدمها حتى الأرض وجددها فى شكل منسق جميل بعد الاستئذان.

فى بيان عرض الخدمات والعبودية

من قبل السلاطين المشار إليهم إلى المسجد النبوى

أو شكت بعض جدران مسجد السعادة وقبة حجرة السعادة ومبانى مسجد قباء على الانهيار ومالت إلى الانهدام والسقوط حتى أصبحت الصلاة فى داخل الحرم النبوى الشريف خطرا ، وبلغ الأمر إلى باب أصحاب القرار ، ولما كان هدم حرم السعادة هدما كاملا غير مستساغ شرعيا طلب أن يسمح بهدم بعض الأماكن الآيلة إلى السقوط من المواقع الشريفة.

وقد وصل الطلب الذى أرسل من قبل سادات وأعيان المدينة باهرة السكينة فى خصوص الأمر المعروض فى الوقت الذى يعمر فيه سور المدينة المنورة فصدر الفرمان السلطانى إلى والى مصر أن يبلغ المكلفين بتعمير السور بهذا الأمر ، وأن يعد الأدوات اللازمة والمبالغ الكافية والعمال ورؤساء العمال وأن يرسل سريعا إلى المدينة المنورة ، وأرسل الأمر السلطانى بعد أن كتب فى قلم الديوان السلطانى إلى والى مصر ، ولما كانت الإدارة السلطانية الهامة ومطالبها قد فصلت فى كشف خاص وعرف بها الوالى المذكور فهيأ والى مصر المهندسين والمعماريين ورؤساء العمال والبناءين والمبالغ الكافية وأرسل جميع المطالب برا وبحرا بكل احترام وتعظيم كما بعث رسالة إلى أمناء البناء بها تعليمات خاصة. وتفقد أمين البناء كافة المواقع مع السادات والأعيان بناء على ورود الأشياء اللازمة والتنبيهات التى وردت من والى مصر.

وشيد وأصلح داخل الحجرة المعطرة وخارجها كما سبق أن عرف فى بحث حجرة السعادة ثم هدم باب مسجد السعادة المشهور ب (باب السلام) وبنى مكانه بابا عظيما من الرخام المجلى يجذب الأنظار وذلك فى سنة ٩٤١ ه‍.

٥١

وبعد هذا التعمير بست سنوات هدم ابتداء من الباب الذى يطلق عليه باب الرحمة إلى المئذنة الشكلية مع المئذنة والجدار الواقع فى الجهة الغربية وجدد كل هذه الأماكن فى صورة رصينة محكمة وذلك فى سنة ٩٤٧ ه‍ ، وبعد أن جدد هذا الجدار الشريف على الوجه المطلوب فهدم الجدار الشرقى الذى يمتد من باب النساء إلى آخر الحرم مع مئذنته وجدده.

وبنى قبة الشمع وبنى فوقها مكان خلوة عاليا كما أسس بجانب مئذنة الشكلية واتصالها دار خلوة أخرى فشيد تلك المئذنة من جديد على شكل مآذن بلاد الروم ؛ وذلك فى سنة ٩٤٨ ه‍.

وبعد أن تغير شكل هذه المئذنة أصبح الأهالى يذكرون مئذنة الشكلية باسم المئذنة السليمانية (١).

وبعد التعمير المذكور بست وعشرين سنة أخذت بعض أماكن الجدار الغربى لامعة الأنوار تخرب ، فأمر السلطان سليمان ـ عليه رحمة الله المنان ـ بهدم الجدار الذى يمتد من باب الرحمة إلى آخر حرم السعادة وجدده كما جدد تلك الأماكن التى مالت للخراب وغير أعلام محراب النبى صلى الله عليه وسلم والمنبر النبوى والمآذن التى هى من شعائر الدين المصطفوى ، وأضاف إلى قناديل وشمعدانات الروضة المطهرة والحجرة المطهرة كثيرا من القناديل والشمعدانات الأخرى ، فأضاء مسجد السعادة كقلوب الموحدين ، ثم اشترى بيوت الديار العشرة المشهورة وأسس رباطا خاصا بالفقراء والغرباء.

كما بنى عشرين رباطا أخرى غير هذا الرباط إلا أن كلها قد اندرس وزال ؛ وخرج رباط الديار العشرة من شكل العمارة وجعل مكانه مخازن لوضع لوازم مسجد السعادة ودائرة خاصة لإدارة شيخ الحرم وسبيلا وحديقة جملية.

وليس إشراف رباط الديار العشر على الخراب حالة يؤسف عليها حالته هذه

__________________

(١) يطلق على هذه المئذنة الآن العزيزية.

٥٢

أنفع لمسجد السعادة ؛ من حالته الأولى ؛ لأنه قد فتحت فى الجدار القبلى للمسجد الشريف نافذة كبيرة تحاذى نافذة المواجهة الشريفة وهذا ما زاد حرم السعادة جمالا على جمال ؛ ولو كانت أطراف المسجد كلها حديقة لما بقى أثر للعفونة ولما وجد فى مسيرة الكائنات مكان أكثر بهجة وانشراحا من هذا المكان.

عندما جدد باب الرحمة كتبت على يمينه ويساره التواريخ بعد البسملة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) أمر بتجديد هذا الباب الشريف سيدنا ومولانا السلطان الملك المظفر ؛ السلطان سليمان بن السلطان سليم ابن السلطان بايزيد خان ، ابن السلطان أورخان خان ابن السلطان عثمان خان ، خلد الله ملكه وأعز نصره ، بمحمد وآله وذلك فى شهر رمضان المعظم سنة سبع وأربعين وتسعمائة ، كما كتب على يمين ويسار باب السلام الذى صنع مجدّدا أيضا بعد البسملة.

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الأحزاب : ٤٠)

اللهم أدم له العزة والتمكين والنصر والفتح المبين بقاء عبدك ومولانا السلطان سليمان شاه ابن السلطان سليم خان بن بايزيد خان بن السلطان محمد ابن السلطان مراد ابن السلطان محمد بن السلطان بايزيد ابن السلطان مراد بن السلطان اورخان بن السلطان عثمان خان ، أعز الله نصره وخلد الله ملكه وختم بالصالحات أعماله بمحمد وآله وصحبه وسلم.

وذلك مع تاريخ سنة إحدى وأربعين وتسعمائة فى شهر صفر ، كما كتب على الجهة اليمنى لهذه التواريخ مولانا السلطان الملك المظفر سليمان شاه بن السلطان سليم بن السلطان بايزيد خان ملك البرين والبحرين خادم الحرمين الشريفين ، خلد الله ملكه.

شعر

رسول الله إنى مستجير

بجاهك والزمان له اعتداء

٥٣

وجاهك يا رسول الله جاه

رفيع ما لرفعته انتهاء

كتبت هذه القطعة ، كما كتب على رواقها الخارجى الآية الكريمة الجليلة.

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد : ٢٤).

والآية :

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب : ٥٦).

وبعد ذلك كتب النعت الشريف

وظنى فيك يا طه جميل

ومنك الجود يعهد والسخاء

وحاشا أن أرى خزيا وذلا

ولى نسب بمدحك وانتماء

وكم لك يا رسول الله فضل

كقدر الأرض لابل والسماء

وكم لك معجزات ظاهرات

كضوء الشمس ليس له خفاء

وفوق هذا البيت كتب على طاق الرواق المذكور حديث «من زارنى بعد موتى فكأنما زارنى فى حياتى» ، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الطاهرين.

وطهر محمد باشا ، وهو من وزراء السلطان سليمان بن السلطان سليم ، مجرى عين الزرقاء ووكل فى ذلك السيد أحمد بن سعد الحسينى نقيب أشراف المدينة المنورة وطلب منه راجيا أن يعمر ويحيى تلك الأماكن ، وأخذ السيد أحمد أفندى بستان عيينة المشهور وعقب ذلك بئر الخاتمى وهى فى جهة قباء باسم محمد

٥٤

باشا وأجرى مياه هذه الأماكان إلى مجرى عين الزرقاء وحتى يزيد من مياهها قد حفر عدة آبار أخرى فوسع وطهر مجرى العين المذكورة إلى باب الرحمة ، وصنع سبيلا بالقرب من باب الرحمة ، ومن هنا فتح طريقا إلى حى الأغوات وجعل منهلا فى ذلك الحى ينزل إليه بسلم والماء الذى أوصله إلى هذا المنهل ، أجرى مياه هذا المنهل إلى حوش المغاربة بحفر مجرى خاص ، وصنع فى داخل أربطة الديار العشر والمغاربة سبيلا لكل واحد منهما كما صنع حماما بجوار القلعة وطهر بئر على وعمقها فى النهاية.

بعدما انتهى سيد أحمد أفندى من هذه الأعمال ، بنى سبيلا أمام مسجد قباء وميضأة ثم اشترى بستانا أوقفه للحمام ، ثم بنى بيتا فى منصة بئر خاتمى ثم أمر بحفر حوض بالقرب من هذا البيت ، ثم اشترى البيت المتصل بهذا البيت ووضع فى طرف من أطرافه محرابا فجعله على شكل المسجد ، ووقف المنزل الذى يمتلكه لإقامة الفقراء والغرباء واشترط ذلك ، وكل ذلك رعاية للصاحب القديم لذلك البيت وذلك فى سنة (٩٩٢ ه‍) لأن ذلك المنزل كان المنزل السعيد الذى كان يسكن فيه الصديق الأكبر.

ولكن لشدة الأسف أن مدير الحرم الشريف جدد مسجد أحمد أفندى باسم محمد باشا والنزل الذى بنى باسم سيد أحمد أفندى ثم وقف ، جددهما وجعلهما مسكنا لأهله وترك الفقراء المجاورين فى العراء وأظهر دناءته إذ بنى على الساحة التى تنسب للصديق الأكبر حماما وميضأة وذلك فى سنة (١٢٥٤ ه‍).

وكان السيد أحمد أفندى قد اشترى البستان الذى أمام حمام محمد باشا وبنى أمامه حوضا يملأ بمياه عين الزرقاء وحصر المياه الزائدة لهذا الحوض لرى البستان المذكور ثم وقف سواء أكان البستان أو الحوض لحمام محمد باشا.

إن الحوض الذى حفر مقابل بستان حمام محمد باشا كان غاية فى الكبر وبما

٥٥

أنه فى طرف الساحة الواسعة التى ينصب عليها قوافل محامل مصر والشام خيامها كان أهالى القافلة يستخدمون هذا الماء وما زالوا يرتوون منه.

ولا يعرف الآن ما حدث لحمام محمد باشا إلا أنه يوجد فى زماننا فى المدينة المنورة حمامان يستخدم أحدهما فى دائرة الترجمة للحرم النبوى وهو حمام أحمد نظيف أفندى فى المناخة والنزل الذى اتخذ مستشفى للعساكر النظامية السلطانية مقابل هذا الحمام ، وأحد الحمامين المذكورين فى حى حارة الزوران التى تلاصق السور الداخلى لمسجد السعادة من الجهة القبلية ، وهو الحمام الذى ينسب إلى الشهيد نور الدين. انتهى.

لقد أقام السيد أحمد أفندى أيضا مستشفى على اسم محمد باشا خاصة لعلاج غرباء دار السكينة ، ولقد كفل لها الأطباء والخدم اللازمين وأوقف لها مقدارا كافيا من العقارات والأملاك ، ومع مرور الأيام انهارت أكثر أماكن هذه المستشفى وخربت ؛ وإن لم ترمم أبنيتها لقد خصص فى سنة ١٢٥٥ ه‍ جراية خبز لمرضاها ، ومن هنا كان المرضى الذين ملوا من حياتهم لشدة حاجتهم وامتداد عللهم يدخلون فى هذه المستشفى حتى يسلموا أرواحهم فيها.

وقد عمر والد السلطان كثير المحامد الأماكن الخربة من هذه المستشفى وألحق بها صيدلية ومخزن أدوية وخصص لها الأدوية الطبية واللوازم الجراحية كما هيأ لها ما يلزمها من أطباء وجراحين وصيادلة والخدم ، وكانت هذه المعدات كافية لعموم أهالى المدينة والحجاج ، وبهذا أحيا أهالى المدينة من هذه الجهة أيضا.

وقد أدخل السلطان مراد خان الثالث بن السلطان سليم خان الثانى شونة مخزن ينبع البحر داخل السور حفظا لها من هجمات العربان وأسس مخزنا آخر لوضع ما خرب من الجدار القبلى ومحرابه وأصلح جدرانه الأخرى وشيدها فى غاية من المتانة والإحكام وأعاده إلى حالته الأولى ، كما عمر وأحكم المرفأ الذى على شاطئ البحر والذى يبلغ عرضه ٥٣ ذراعا وطوله ٢٤ ذراعا والذى كان

٥٦

أشرف على الانهيار ، وخصص بعد ختام هذه الأعمال صرة سلطانية تحتوى على أربع وأربعين قطعة ذهبية على أن يكون أحد عشر ألف دينار منها لأهل مكة وباقيها لسكان دار السكينة المدينة المنورة ، وذلك كل سنة ، كما عين بعد ذلك لجيران رسول الله أربعة آلاف إردب قمحا وللحجاج الذين انقطع بهم الطريق خمسمائة إردب قمحا وذلك فى سنة (٩٨٦ ه‍) وكانت هذه الذخيرة ترسل من مصر إلى ينبع ومن هناك إلى المدينة المنورة وتوزع على الأهالى المحتاجين وتقسم عليهم.

وقد جدد السلطان المشار إليه فى سنة ٩٨٨ ه‍ مطبخ الدشيشة «وهى عبارة عن نوع من الحساء المصنوع من القمح المدشوش» وسر خدمته بإعطائهم قطعة ذهبية يوميا كما سر طباخيه بإعطائهم إردب قمح فوق القطع الذهبية ؛ وذلك فى سنة ٩٨٨ ه‍.

وعانى فى هذه الفترة أهالى المدينة فى محلاتهم مضطربين من العطش ، ولما أبلغ الكيفية إلى مسامع السلطان أسس فى القرب من باب المضر سبيلا وخصص لكل واحد من خدمه ونظاره مقدار ستين درهما من النقود وعين لهم سنويا خمسين اردبا قمحا لكل واحد منهم وأمر أن يملأ هذا السبيل يوميا بواسطة السقائين ليروى عطاشى المسلمين وذلك فى عام ٩٩٠ ه‍.

وبعده بعام خصص لأغوات الحرم الشريف (حب الجراية) يوميا كما خصص لعبيد عين الزرقاء (حب الجراية) (١) يوميا وعين لفقراء المجاورين والعلماء الصالحين ألف إردب حنطة سنويا وكان ذلك فى سنة ٩٩١ ه‍ عندما كان عدد أغوات الحرم الشريف سبعة وخمسين وعبيد عين الزرقاء سبعة عشر نفرا.

وكان المسجدان الشريفان اللذان لأبى بكر الصديق وعلى بن أبى طالب رضى الله عنهما ـ أشرفا على الخراب وحرم الزوار الكرام من شرف زيارتهما ،

__________________

(١) كان يطلق على الخبز المصنوع من الحبوب المرسلة من مصر حب الجراية.

٥٧

ولما وصلت الكيفية إلى أسماع السلطان أمر بترميم وتعمير هذين المسجدين كذلك ما بجوارهما من الأربطة القديمة الخربة ، وجامل خدمها بأن خصص لهم عامة رواتب كافية ، وذلك فى سنة ٩٩٤ ه‍ ، وفى خلال تلك السنة كان الجدار الذى فى جهة باب النساء من حرم السعادة قد مال للسقوط وأصبح تعميره واجبا ورجى من السلطان صاحب القرار أن يأذن بإجراء ما يقتضى عمله ، وبناء على الأمر السلطانى الصادر هيئ الموظفون والعمال والأدوات اللازمة للبناء وأرسلوا عن طريق مصر القاهرة ، وعندما وصل أمين البناء إلى المدينة المنورة وتفقد المسجد الشريف بناءا على آراء السادات والأهالى ، وقرر أن يهدم الجدار الشرقى للمسجد ابتداء من باب النساء إلى نهاية حرم السعادة ، ولما استلم القرار من قبل العلماء هدم المكان المذكور من أساسه وأبلغ وجوب تجديده إلى عتبة الباب العالى السامى ، ووافق هذا القرار رأى وأفكار السلطان ، وبناء على ذلك أبلغ الأمر كتابيا إلى أمين البناء وطلب منه الإسراع فى تجديد المكان المذكور وفقا لإرادة الأهالى الكرام كما أرسل قطعة من التاريخ محكوكة على رخام ، وبين فى الرسالة الكتابية أن وضع هذا التاريخ فى مكان مناسب وإلصاقه من بعض الأوامر السلطانية.

وشرع أمين البناء بناء على التعليمات السلطانية العالية فى أداء مهمته وفى ختام العمليات وضع حجر التاريخ فى ركن من أركان الجدار المجدد ، وبين الأمر وأبلغه إلى مركز السلطنة ولأجل ذلك أرسل لأمانة البناء وسائر الموظفين وأعيان البلدة خلعا فاخرة وعطايا وفيرة وذلك فى سنة ٩٩٥ ه‍.

وكان طول الجدار الذى جدد ٩٥ ذراعا وارتفاعه ١٧ ذراعا والتاريخ الذى أرسل من باب السعادة لإلصاقه على الجدار المذكور يتضمن الآتى : «اللهم خلد ملك من جدد هذا الجدار المحترم وهو مولانا السلطان الأعظم والخاقان الأكرم ، سلطان القبلتين وخادم الحرمين الشريفين ، السلطان مراد خان».

٥٨

تاريخه :

جدد جدار المسجد النبوى ، السلطان مراد لوجه الله ، سنة خمس وتسعين وتسعمائة فى سنة ٩٩٥.

وبعد سنة خمس وتسعين ببضع سنين تعرضت ثلاثة صفوف من سقف حرم السعادة للضرر إذ أصابها حريق ورعود فاكتست منظرا قبيحا مخيفا ، واستحال أداء الصلاة فى تلك الجهات ، وإن إبقاء حرم السعادة على حالته الحاضرة إلى أن تنهار تلك الأسقف كليا سيؤدى إلى هدم وخراب حجرة السعادة ، ولما كان هذا غير جائز أبلغ الأمر بمحضر كتابى إلى الباب العالى ، ودرس الموضوع طويلا فى الباب العالى ، وبعد أن خمن الأضرار التى ستتسبب عن هذا الأمر فى المستقبل والخسائر التى سيؤدى إليها ، عرض الأمر على السدة السلطانية فأمر السلطان بإرسال أحد الأمراء الصالحين ، بعد تعيينه لأداء هذا العمل وتدبير الأدوات اللازمة التى تقتضيها المهمة وإرسالها سريعا إلى دار العز المدينة المنورة وأبلغ هذا الأمر إلى والى مصر وأرسل الأمر الصادر من قبل السلطان أيضا إليه ، فأرسل أمين البناء المعين مع المهمات التى دبرت ومهرة العمال إلى دار السكينة.

ولما وصل الموظفون الذين أرسلوا من مصر إلى المدينة المنورة تفقدوا الأماكن التى تحتاج للتعمير والتجديد من حرم السعادة وذلك مع موظفى الحكومة فى المدينة وسادتها ، وبناء على الإرادة السلطانية وآراء العلماء والأهالى قوضت ثلاثة صفوف من الأسقف التى اقتضى الأمر هدمها ، وبنى مكانها ثلاثة صفوف من القباب الخشبية بمبان حجرية.

وكتب فوق الجدار الشامى الذى فى ناحية الساحة الرملية : هذا تاريخ بناء الروضة الشريفة روضة النبى خير العباد قام بتجديده السلطان مراد ، فى سنة ٩٩٩ ه‍.

وأبلغ الأمر بواسطة والى مصر إلى عتبة صاحب القرار ، ومن هنا جزا السلطان من يستحقون المكافأة بالعطايا السلطانية وبالخلع الفاخرة التى لا مثيل لها.

٥٩

والثلاثة صفوف التى جددت كان كل صف منها يتكون من تسعة قباب ، وفتحت فى محاذاة الصف الأول من القباب وفى التقاء سطح حجرة السعادة هوايتين لتلطيف جو حرم السعادة فى أيام الصيف وتبريده وقد اكتسب مسجد السعادة بهاتين الهوايتين زينة أخرى.

وقبل أن تختتم عمليات بناء القباب المذكورة ، صدرت الإرادة السلطانية السنية لشراء ساحة كبيرة فى غاية الوسع لبناء عمارة منسوبة لاسم السلطان السامى ، وبعد إتمام عمليات مسجد السعادة قد دبروا الساحة فى خارج المدينة وبنوا هناك عمارة كبيرة عظيمة جميلة كما أسس فى قرية قباء رباطا خاصا بالفقراء وعين له الموظفين اللازمين وذلك فى سنة ٩٩٨ ه‍ ولم يسمع أهالى الحرمين حتى ذلك اليوم عن مثل هذه العمارة ولم يروا مثلها.

وقد بنيت هذه العمارة بطلب الأهالى وإرادتهم وأنشئ لإسكان خدمها أربعة عشر بيتا مستقلا ، فأطلق أهالى المدينة المنورة على تلك العمارة التكية المرادية لإظهار مدى سرورهم القلبى وابتهاجهم.

وعندما يقال لهذه العمارة تكية ، فلا يفهم أنها تكية عادية للذكر والفكر ، والتى يطلق عليها خانقاه ، ولم تكن هذه التكية من التكايا التى نعرفها بل كانت عمارة خاصة بجميع الأهالى.

وكانت ثمانية أو أربعة عشر منزلا خاصة لسكنى المتزوجين من الخدم وستة فيها خاصة لسكنى الخدم العزاب.

وكانت تلك التكية فى ناحية باب المضر وخارج السور وكان لها مخزن كبير ومطبخ ومخازن صغيرة متعددة وفى داخلها طواحينها وعدة مخابز وحجرات لوضع اللوازم الأخرى ، وكان يخبز الخبز كل يوم فيها وكانت تصنع الحلوى فى ليلتى الجمعة والاثنين أكثر مما اعتيد.

ويطبخ فيها الأرز والزردة (وهو طعام حلو يطبخ بالزعفران) ويوزع على الفقراء ، وكانت هذه العمارة تعد مبرة خيرية لا مثيل لها فى البلاد العربية كما كانت تقدم ما تقوم به حياة كل الفقراء من الأهالى.

٦٠