موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

أول من دفن فى البقيع الشريف هو عثمان بن مظعون. وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد نصب حجرا على القبر من ناحية رأسه كعلامة خاصة.

ولما أصبح مروان بن الحكم واليا على المدينة المنورة أخرج تلك العلامة فجعل القبر مجهولا ، أو على رواية أخرى نقل الحجر إلى قبر عثمان بن عفان ساطع الأنوار.

سانحة : نصب الحجارة شئ أحدث فيما بعد ، وفى الأول كانوا ينصبونها على قبور من اشتهروا بالعلم والصلاح ، وفيما بعد تعمم الأمر. وبما أن الشيخ أبا صالح التركمانى قد كره بدعة نصب الحجر فقد رغب فى عدم نصب حجر على قبره وترك وصية مكتوبة فى هذا الخصوص لأحفاده.

رقية بنت النبى ـ رضى الله عنها ـ كريمة رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقبرها بجوار قبر أختها أم كلثوم وبجانب قبر عثمان بن مظعون.

وقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم الواقف على أسرار الحكمة ـ عندما نصب ذلك الحجر على قبر عثمان بن مظعون : «فليكن هذا الحجر علامة على قبر أخى فى الرضاعة وليدفن من يتوفى من أهل بيتى فى هذا المكان» ، لأجل ذلك قالت رقية وهى على فراش الموت فى حالة احتضارها : ادفنونى بجانب عثمان بن مظعون ومسح النبى صلى الله عليه وسلم دموع السيدة فاطمة بجانب هذا القبر المنيف لأن السيدة فاطمة كانت قد تأثرت أشد التأثر من موت أختها وكانت تبكى بجانب هذا القبر لامع الأنوار.

السيدة رقية التى تشرف عثمان بن عفان بالزواج منها أولى الجميلتين اللتين نال شرف الزواج منهما.

ولما كان والدها الجليل صلى الله عليه وسلم قد زوجها بعثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ عند ما كان بمكة المكرمة وقد هاجرت مع زوجها إلى الحبشة فى الهجرة الأولى وبعد العودة هاجرت إلى المدينة المنورة فى الهجرة الثانية. وقد مرضت فى السنة الثانية للهجرة وبناء على ذلك لم يشترك فى غزوة بدر ليظل بجانب زوجته المحترمة تنفيذا للإرادة النبوية ، وقد لحقت بالرفيق الأعلى ، حينما وصلها خبر

٢٨١

انتصار الجيش النبوى إلى المدينة المنورة ومن هنا تزوج عثمان بن عفان أختها الصغرى أم كلثوم ـ رضى الله عنها ـ فسعد. ولما كانت فى الحبشة ولدت ابنها عبد الله بن عثمان وعاش الغلام خمس أو ست سنوات بناء على بحث ابن الأثير ثم نقر عينه الديك فتورم وجه الصغير المعصوم ومات فى خلال السنة الرابعة الهجرية ، وفى شهر جمادى الأولى متأثرا بهذا الحادث.

سواء أكانت رقية أو أختها أم كلثوم ـ رضى الله عنهما ـ كان عقد نكاحهما أولا لابنى أبى لهب عتبة وعتيبة ، أى عقد نكاح رقية لعتبة ونكاح أم كلثوم لعتيبة ، وبما أن زوجة أبى لهب أم جميل شعرت بالخزى والعار عند نزول سورة تبت فسخت نكاحهما قبل الزفاف ، مع أن هذا الفعل كان بالنسبة إلى المشار إليهما مصدر خير ولطف وإحسان وبالنسبة لعتبة وعتيبة مجلب ذل وخسران وهوان.

فاطمة بنت أسد ـ رضى الله عنها ـ بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف القرشى ووالدة سيدنا على ابن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ المشفقة. قد دفنت فى دار عقيل أول أضرحة بنى هاشم والضريح كان أمام حمام (١) أبى مطيعة فى الروحاء وعند البعض بالقرب من ضريح عباس بن عبد المطلب.

قطعة شعرية

هى جوهر سبط اللآلىء

فاطمة بنت أسد أم حيدر الكرار على

أثنى عليها الحق تعالى كل الثناء

إنها جدة جميع الشرفاء

وإن كانوا ينسبون القبر والضريح الذى فى آخر مقبرة البقيع إلى فاطمة بنت أسد ، ولكن على أرجح الأقوال أنها لم تدفن فى هذا الضريح بل دفنت فى

__________________

(١) هذا الحمام ليس حماما عاديا إنه اسم نخلة مشهورة فى الجهة الشمالية لقبر إبراهيم ـ عليه وعلى أبيه التعظيم.

٢٨٢

الضريح سالف الذكر. لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحب السيدة فاطمة حبا جما وهذا ثابت وبما أنها ماتت فى حياة الرسول فمن المحال أن يكون قد دفنها خارج البقيع الشريف ، ويمكن الاستدلال على ذلك بما قاله النبى صلى الله عليه وسلم عندما نصب حجرا على رأس قبر ابن مظعون قائلا : «فليكن هذا الحجر علامة قبر أخى فى الرضاعة وليدفن هنا من توفى من أهلى» ، وبناء على ذلك فقبر المشار إليها إما فى «الروحاء» أو فى «دار عقيل» ولا شك فى ذلك وقد كفن النبى صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت أسد بقميصه وأنزلها بنفسه فى القبر وبعدما أهال التراب فوق التراب وغطى القبر بكى كثيرا.

التوضيح : لم ينزل النبى صلى الله عليه وسلم فى أى قبر لوضع الجنازات إلا فى قبر خديجة الكبرى ، عبد الله المزنى ، وابن الخديج ، وأم رومان ، وفاطمة بنت أسد.

وأنزل الأشخاص الذين ذكرناهم فى قبورهم ودعا لهم بما يليق. حتى أنه جلس على رأس قبر فاطمة بنت أسد بعد الدفن وبكى بكاء شديدا مديدا ودعا على النهج التالى :

«الله الذى يحيى ويميت وهو حى لا يموت ، اللهم اغفر لأمى فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلى فإنك أرحم الراحمين».

عبد الرحمن بن عوف ـ رضى الله عنه ـ : دفن بالقرب من قبر عثمان بن مظعون الكائن فى الجهة الشرقية لزاوية دار عقيل ، قد أرسلت عائشة ـ رضى الله عنها ـ أحدا إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يحنضر ليقول له إذا ما شئت هيأت لك قبرا بالقرب من قبر النبى.

فرد قائلا لا أستطيع أن أضيق لك بيتك ، وكنا قد تعاهدنا مع عثمان بن مظعون على أن يدفن الثانى بجانب الذى يموت أولا فادفنينى بجانبه فأتت بجنازته وبعد الصلاة عليها أمرت بدفنها فى دار عقيل.

وكان عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين من الأصحاب بالجنة ، وأبوه عوف بن عبد الحارث بن زهرة ابن كلاب بن مرة ، وأمه شفاء بنت عوف بن

٢٨٣

الحارث بن زهرة ، ولد بعد عام الفيل بعشر سنين ، وأسلم بواسطة الصديق الأكبر قبل اختفاء المسلمين فى دار الأرقم ، هاجر أولا إلى الحبشة وبعد عودته منها هاجر إلى المدينة المنورة وتآخى هو وسعد بن الربيع ، واشترك فى جميع غزوات النبى صلى الله عليه وسلم. ومات فى السنة الحادية والثلاثين من الهجرة وعمره سبعون عاما أو خمسة وسبعون عاما على قول آخر ، وأوصى أن ينفق خمسون ألف دينار من ماله فى سبيل الله ، كما أوصى أن يعطى لبقية أصحاب بدر لكل واحد منهم أربعمائة دينار (١).

وبقى له بعد وفاته مائة رأس فرس و (٣٠٠٠) غنم و (١٠٠٠) جمل ، وأصاب كل واحدة من زوجاته الأربع ثمانون ألف دينار كحصة إرثية ، عندما هاجر إلى المدينة المنورة عقد رابطة الأخوة مع سعد بن الربيع سالف الذكر وأخذ فى الأخذ والعطاء والتجارة. وبفضل دعاء النبى صلى الله عليه وسلم أحسن الله إليه وأنعم له بأموال لا تحصى ونقود لا تعد ونال بسهولة المعيشة الرغدة فى الدنيا ، وقد استخرج مما تركه من سبائك الذهب والفضة من حفرة خزانتها بالفأس والمجرفة.

وقد جرحت يدى حافر حفرة الخزانة إلى أن أخرج السبائك كلها. وأوصى أن تعطى لأمهات المؤمنين حديقة نخيل غير ما أوصى بإعطائه لأصحاب بدر. وقد بيعت الحديقة التى عين اسمها لإعطائها لأمهات المؤمنين بأربعمائة قطعة ذهبية وعرضت لأمهات المؤمنين كن على قيد الحياة. كان عبد الرحمن بن عوف سخيا كريما لاحد لسخائه وكرمه ، حتى إنه حرر فى يوم واحد ثلاثين نفرا من ربقة العبودية. وتصدق فى ذلك اليوم بسبعمائة ناقة عائدة من التجارة بكل ما تحمله من أمتعة وأغذية. وكان فضل المشار إليه وكمال أخلاقه كما يجب إذ اشترك فى غزوة تبوك وتولى أمانة النبى صلى الله عليه وسلم فسماه النبى صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة.

سعد بن أبى وقاص ـ رضى الله عنه ـ : دفن سعد بن أبى وقاص فى الجهة الشرقية السامية من دار عقيل حيث أراه بنفسه وعينها. إذ أخذ ذاته السامية قبل وفاته عدة أوتاد مدببة وذهب مع الصحابى أبو دهقان إلى مقبرة بقيع الغرقد

__________________

(١) كان حيّا عندما توفى عبد الرحمن بن عوف من غزاة بدر وأصحاب الصفة مائة نفر.

٢٨٤

وركز تلك الأوتاد فى الركن الشرقى الشامى من المنزل سالف الذكر ثم قال : «يا أبا دهقان! إذا ما مت احفروا هذا المكان وادفنونى فيه» وحينما توفى بحث أبو دهقان عن ابن المتوفى وروى له الحكاية وأراه المكان المذكور ذاهبا إلى بقيع الغرقد فأخرج ابن سعد الأوتاد ودفن جنازة والده هناك وأوفى بوصيته.

كان سعد يكنى بأبى إسحاق وأبوه وهيب أو أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى ابن أبى وقاص مالك ، وأمه بنت سفيان أو أبو سفيان ابن أمية بن عبد شمس حمنة أسلم وعمره سبعة عشر عاما اشترك فى جميع غزوات النبى صلى الله عليه وسلم وكان الخامس أو السابع من السابقين إلى الإسلام وهو أحد المبشرين العشرة بالجنة وأحد أصحاب الشورى الستة.

وقد مات فى عام خمسة وخمسين هجرية بناء على قول الواقدى أو فى ثمانية وخمسين من السنة الهجرية بناء على قول أبى نعيم الفضل بن دكين أو مات فى سنة أربع وخمسين من الهجرة بناء على تدقيق وتحقيق الزبير بن عمرو ، ومات فى مكان ما من وادى العقيق على بعد سبعة أميال من المدينة المنورة ثم حمل نعشه إلى المدينة المنورة ودفن فى المكان الذى سبق وصفه ، وهو آخر من توفى فى المدينة من المهاجرين الكرام. وفى حالة احتضاره خلع جبته الصوفية ، وقال موصيا : ادفنونى بهذه لأنها كانت على ظهرى حينما لاقيت مشركى قريش فى بدر.

عبد الله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ : مات عبد الله بن مسعود فى السنة الثانية والثلاثين من الهجرة وقد تجاوز الستين من عمر ، ودفن فى مكان قريب من ضريح عثمان بن مظعون. لأنه قد ذهب قبل موته إلى البقيع وأوصى بأن يدفن فى ذلك المكان الذى عينه. وكان حضرته من فضلاء الصحابة الزاهدين وأبوه مسعود بن غافل بن حبيب بن سمح بن فار بن مخزوم ابن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تيم بن سعد بن هذيل ابن مدركة بن إلياس بن مضر ، وأمه أم عبد الله بنت عبد ود بن سواء الهذلية.

وكان عثمان بن عفان حين وفاة عبد الله بن مسعود خليفة فزاره وعاده عند احتضاره وقال له عند عزمه على العودة :

٢٨٥

إذا ما رضيت فأنا أرغب فى أن أقدم لبناتك بعض العطايا وكان يريد بهذا الاستفسار أن يحسن إلى بنات عبد الله بن مسعود. فرد ابن مسعود قائلا أنا لا أخشى على بناتى من الفقر والخصاصة ، وقد نبهتهن إلى ضرورة قراءة سورة الواقعة كل ليلة مرة وأوصيهن بأن يداومن على هذه الأصول لأنى كنت سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : كل من دوام على قراءة سورة الواقعة فى الليالى يأمن تسلط الفقر والحاجة عليه.

وبهذا القول امتنع عن تقديم العطايا لبناته ؛ رضى الله عنه.

حنيس بن خذافة السهمى (١) ـ رضى الله عنه ـ كان خنيس بن حذافة بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص ابن كعب بن لؤى القرشى السهمى زوج حفصة بنت عمر بن الخطاب الأول وهو أحد مهاجرى الحبشة ، خرج فى غزوة أحد ومات بعد ملحمة بدر الكبرى بخمسة وعشرين عاما ودفن فى مكان قريب من ضريح عثمان بن مظعون.

أسعد بن زرارة (٢) ـ رضى الله عنه ـ : هو سعد بن زرارة أبو أمامة ابن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم ابن مالك بن النجار بن ثعلبة بن الخزرج الأنصارى وهو أحد الأنصار السابقين للإسلام بل أولهم ونصب نقيبا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبيلة بنى ساعدة التى ينتسب إليها.

وقد وجد فى بيعات العقبة الأولى والثانية والثالثة وعرض البيعة قبل الكل وتوفى فى خلال شهر شوال من العام الهجرى ؛ فدفن فى مكان قريب من ضريح عثمان بن مظعون ، وقبره لامع الأنوار فى وسط مقبرة البقيع ، وبجانب ضريح ابن الرسول عليهما السلام إلا أنه ليس لقبره علامة خاصة. وعند ما يزار ضريح إبراهيم ـ عليه التعظيم ـ فلا تنس قراءة الفاتحة على روحه لتذكره.

فاطمة بنت رسول الله «عليهما الصلاة والسلام» : ارتحلت السيدة فاطمة الزهراء ـ رضى الله عنها ـ عن دنيانا بعد والدها بسبعين يوما ودفنت ـ على القول الأرجح ـ على زاوية دار عقيل اليمانية التى تقع فى داخل مقبرة بقيع الغرقد.

__________________

(١) انظر ترجمته فى الإصابة ٢ / ١٤٢.

(٢) انظر ترجمته فى الإصابة ١ / ٣٢.

٢٨٦

قطعة شعرية

إن فاطمة من شمس الرسالة نور

فاجعل من غبار عتبتها لعينيك الدواء

فليس فى الإمكان دخول إلى سلطان كونها

وبناء على الروايات الموثوقة اغتسلت قبل احتضارها ولبست ملابس جديدة وقالت إننى الآن سأستجيب لدعوة «ارجعى» ولكننى لست فى حاجة للغسل والكفن!!!

وسلمت روحها بعد ذلك ودفنت فى المكان المذكور.

قطعة شعرية

ثمرة القلب وقرة عين الرسول

زهرة فلك النبوة البتول

سيدة كل نساء الجنان بقيت

ورأسها على حجر عند قدم الرسول

وقرر المؤرخون بناء على قول على بن حسين بن على بن أبى طالب ، أن السيدة فاطمة مدفونة فى مكان يبعد عن دار عقيل خمسة عشر ذراعا وعلى قول ثلاثة وعشرين ذراعا وفى مواجهة الطريق المتصل بالزاوية اليمانية لدار عقيل وقول عبد الله بن رافع الذى قال : قد دفنت فخر النساء فى مخرج الطريق الذى يقع بين دار عقيل بن أبى طالب ، ودار أبى ، وبناء على الروايات الأخرى أن السيدة فاطمة ـ رضى الله عنها ـ فى مقبرة بقيع الغرقد الشريفة ، ولكن البعض الآخر ـ روى خطأ هذا القرار وخرجوه وادعوا أن قبرها الشريف فى جهة صفة أصحاب الصفة من شبكة مرقد السعادة ، وأيدوا ادعاءهم هذا بما يروى عن عمر بن عبد العزيز بأنه قال : بأن السيدة فاطمة قد دفنت فى دارها من جهة أسماء

٢٨٧

بنت عبد الله بن الزبير أى فى الجهة الشامية من الحجرة المعطرة ، وقال إن هذه الرواية قد نقضت الرواية الأولى ، ولكن إذا نظرنا لما قاله ريحانة النبى صلى الله عليه وسلم الحسين بن على بن أبى طالب حين احتضاره ادفنونى فى البقيع بجانب والدتى ودفن بعد موته فى مقبرة البقيع بناء على وصيته ، وإذا ما نظر إلى قطعة الرخام التى عثر عليها فى سنة ٣٣٢ ه‍ فوق قبر فى بقيع الغرقد حيث كتب عليها هذا قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء العالمين.

وقبر الحسن بن على وعلى بن الحسين بن على وقبر محمد بن على وجعفر بن محمد ـ رضى الله عنهم بالبقيع ـ هذا يقتضى التصديق بأنها دفنت فى البقيع الشريف.

وقد كشف الشيخ أبو العباس المرسى ـ وهو من مشاهير أولياء الله ـ ظاهر الكرامات بأن قبر السيدة فاطمة فى مقبرة بقيع الغرقد كان يقف فى داخل ضريح عباس ابن عبد المطلب وفى الجهة القبلية منه ويقرأ الفاتحة لروح المشار إليها وجعل ذلك عادته مدة حياته. ويقول أهل المدينة بأن السيدة فاطمة ـ رضى الله عنها ـ فى داخل حجرة السعادة ويزورون إلى الآن حجرتها فى داخل المسجد النبوى ، إلا أنهم عندما يزورون قبر عم النبى صلى الله عليه وسلم عباس ـ رضى الله عنه ـ يقفون حيث وقف الشيخ أبو العباس المرسى ويقرءون الفاتحة لروح فاطمة الزهراء أيضا ، لأن الرواية التى تقول بأنها مدفونة فى داخل شبكة الحجرة المعطرة نقل فقط عن الأحمق شمس الدين بن زمن ؛ فلا قيمة لهذه الرواية حتى بين علماء المدينة المنورة.

التأسف

إن المدفن الذى عين على أنه مدفن فاطمة ـ رضى الله عنها ـ فى زمن شمس بن زمن قد زين بستائر مزركشة وغطيت أطرافه الأربعة بستائر ذات أهداب ذهبية إلا أن مدفنها الذى فى البقيع والذى ثبت دفنها هناك فيه بأقوى الأسانيد

٢٨٨

والأقوال ظل ضريحها فى البقيع مغطى بقطعة قماش خضراء قديمة عادية مما يثير فى قلوب الزائرين الأسى والأسف.

وإن كان قيمة القماش الغطاء لا يزيد فى فضل صاحبة القبر إلا أنه مهما وقرت واحترمت السيدة فاطمة دعا ذلك إلى ابتهاج الروح النبوية ، ويقاس مدى حب أهل الإيمان لنبيهم بمدى ما يظهرون إلى المشار إليهم من الرعاية والاهتمام ومن هنا يقتضى الأمر أن يحظى ضريحها فى بقيع الغرقد بالعناية والنظام.

ألا فليرض الله سبحانه وتعالى عن والد السلطان كثير المحامد قد أحاط قبر والدتنا المشار إليها دائرا ما دار بسياج من النحاس وبهذا أزال ما جاش فى قلوب المحبين للنبى صلى الله عليه وسلم من الأسف والحزن درجة ما.

استمرت سيدة النساء بعد أن ارتحل والدها الكريم تنوح وتنتحب فى المكان الذى محل قبرها فى البقيع حتى أطلق عليه دار الحزن ، ومسجد فاطمة ، وذلك المكان المقدس قبة أهل البيت ويقع فى الجهة القبلية من جوار ضريح عباس بن عبد المطلب ، وقد جدده السلطان محمود خان الثانى فى سنة ١٢٣٣ ه‍ ورمز له بكتابة القطعة الآتية فوق طاق بابه :

لحاكم الدهر لطف الله

لا يردن على الخاطر لماذا

ابك وادع لذلك السلطان

الذى أقام مسجد الحزن هذا

الحسن بن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه : قبره الأنور بجانب والدته السعيدة فاطمة ـ رضى الله عنها ـ والكائن فى داخل ضريح العباس بن عبد المطلب ، كان قد بعث قبل وفاته إلى أمنا عائشة ـ رضى الله عنها ـ من يخبرها

٢٨٩

راجيا بأنه يرغب أن يدفن داخل حجرة السعادة فأجابته قائلة : وفعلا فى داخل حجرة السعادة مكان يسع لقبر واحد وكنت قد هيأته لنفسى مادام ذاته السامية يرغب فى الدفن فى مدفن السعادة أتنازل عن المكان الذى هيأته لنفسى وأقدمه له وأدبر لنفسى قبرا فى مكان آخر.

وأخذ أمراء بنى أمية ينشرون ترهاتهم ويثرثرون هنا وهناك قائلين : فلا سبيل لدفن الحسن بن على ـ رضى الله عنه ـ فى مدفن الرسول إننا سنخالف رغبة الإمام الحسن هذه بل أننا سوف نتجرأ على مقاتلة بنى هاشم فى هذا السبيل.

وانفعل الحسن بن على من أمراء بنى أمية وغضب وقال مخاطبا أخاه الحسين الشهيد إننى تنازلت عن رغبة الدفن فى مدفن الرسول فادفنونى بجانب والدتى فى البقيع ولكن لا تحملوا جنازتى إلى البقيع قبل أن تذهبوا بها أمام مواجهة السعادة للتشفع ، هذه كانت وصيته. وعندما ارتحل عن دنيانا أراد حضرة حسين أن يدفنه فى حجرة السعادة ، ولكن المعاندين من بنى أمية تصدوا لذلك قائلين فلن نوافق على ذلك أبدا فهيأ حسين قبرا فى البقيع بجانب قبر أمه باهر الأنوار ودفنه فيه بعد أن حمل جنازته إلى مواجهة السعادة للاستشفاع وهكذا وفى بوصية أخيه ـ رضى الله عنه ـ ولم يكن والى المدينة فى ذلك الوقت سعيد بن العاص يمانع فى دفن حضرة الحسن فى الحجرة المعطرة إلا أن مروان بن الحكم جمع أعوانه وعارض الحسين وخالفه فى فكرته وعند ما أحس مروان من الإمام شدة دفاعه قال له : كان أخوك قال إذا لوحظ ظهور الفتنة فادفنونى فى البقيع فسكت حضرة الحسين ، وصلى على الحسن عمرو بن سعيد بن العاص وقال الحسين ـ رضى الله عنه ـ لو لم تكن صلاتك على أخى سنة لما سمحت لك بالصلاة عليه.

حكمة

عارض أمراء بنى أمية دفن الحسن بن على وعثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ فى المحل الخالى فى الحجرة المعطرة على اعتبار أن هذا الموضع سيكون مدفن عيسى ابن مريم.

٢٩٠

لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد تفضل قائلا : إنّ عيسى بن مريم سيهبط على وجه الأرض وسيتزوج وسينجب الأولاد وبعد أن يعيش ما يقرب من خمسة وأربعين عاما سيتوفى ويدفن بجانب قبرى ولسوف أبعث أنا وعيسى بن مريم بين أبى بكر وعمر.

ودفن الإمام زين العابدين وابنه الإمام محمد الباقر وابنه الإمام جعفر الصادق بجانب الإمام الحسن بن على بن أبى طالب كما أن رأس الإمام الحسين دفنت بجانب قبورهم ، لأن يزيد الشقى كان قد أرسل رأس سيد الشهداء المقطوع إلى والى المدينة عمرو بن سعيد بن العاص فجهزه وكفنه ودفنه بجانب قبر فاطمة ـ رضى الله عنها ـ فى بقيع الغرقد ، والآن عندما يزور الكرام ضريح عباس بن عبد المطلب يتذكرون الأئمة الكرام المشار إليهم ويعرضون عليهم تحيتهم ويتحفظون سلامهم هناك من يدعى أن رأس الإمام حسين لم يدفن فى البقيع حتى إنهم يمنعون من يريد زيارة الشهيد ممن يصدقون وجود رأسه هناك. ولكن العلامة ابن سليمان يؤكد على وجود رأس الحسين المبارك فى البقيع فى كتابه «الذخر النافع» كما ذكر الزبير بن بكار بإسناد موثوق أن جنازة على بن أبى طالب قد نقلت إلى البقيع مؤخرا ، ومن هنا فذكر اسميهما عند الزيارة تبركا مع تذكر أهل البيت لا يخلو من فائدة العباس بن عبد المطلب ـ رضى الله عنه : عباس بن عبد المطلب مدفون بجانب قبر منسوب لفاطمة بنت أسد ـ رضى الله عنها ـ ، أم على بن أبى طالب وضريحه المنيف أول مقابر بنى هاشم ومدفنه قريب من دار عقيل ، والقبة التى تشمل على قبر عباس يطلق عليها قبة أهل البيت ولضريحه بابان شامى وغربى وتنحصر وظيفة الحراسة فى سلالة زنجية ببراءة من مفتى المدينة الشافعى سيد جعفر بن سليمان.

صفية بنت عبد المطلب ـ رضى الله عنها : قبر والدتنا صفية فى مكان عند المخرج من باب البقيع أى فى اتصال دار المغيرة بن شعبة. وفى زماننا لا يزورون هذا المكان ويزورون الضريح الذى خارج البقيع وفى اتصال سور المدينة ، ويقولون هذا هو قبر صفية بنت عبد المطلب ولكن قول الزبير بن العوام بن

٢٩١

صفية للمغيرة بن شعبة عندما كان يبنى بيته يا مغيرة ارفع رفرف سقف دارك من فوق قبر أمى وتحويل مغيرة بن شعبة مجرى سقف بيته إلى جهة أخرى يؤيد ويؤكد صحة القول الأول.

سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ـ رضى الله عنه : سفيان بن الحرث مدفون فى داخل دار عقيل بن أبى طالب كان سفيان ينتزه فى داخل مقبرة بقيع الغرقد فى السنة العاشرة من الهجرة وعلى قول فى السنة الثانية والعشرين من الهجرة عندما ذهب إلى الحج ورجع منه ، فلاقاه عقيل بن أبى طالب وقال له : ابن عمى! لما تتمشى هنا؟ فرد سفيان قائلا : أريد أن أهيئ لنفسى مكانا للقبر ثم دخل فى دار عقيل بن أبى طالب ، ثم قال له احفر هنا قبرا لى. عنده ساعة جلس وجعل عقيلا يحفر له قبرا ، ومات بعد يومين ودفن فى القبر الذى حفره عقيل ، وعلى رواية أخرى ، حفر بنفسه ومات بعد ثلاثة أيام ودفن فى القبر الذى حفره بنفسه ولا شبهة فى أن سفيان ابن الحرث مدفون فى الضريح الذى ينتسب إلى عقيل بن أبى طالب ، ولكن الشخص الذى دفن فى هذا الضريح ليس عقيل بن أبى طالب بل عقيل بن النجار ، لأن عقيل بن أبى طالب قد توفى فى الشام.

والدة سفيان بن الحرث غزنة بنت قيس بن طريف بن فهد بن مالك وأبو أبيه عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشى فهو عم النبى صلى الله عليه وسلم وبما أنه رضع من حليمة بنت أبى ذؤيب السعدية (١) فهو الأخ للنبى من الرضاعة. وقبل أن يسلم كان ضد النبى صلى الله عليه وسلم وكان قد جرح خاطر النبى بما كتب فى حقه من الهجاء ، وبعد الإسلام قام بأعمال لا بأس بها وحاز إعجاب النبى صلى الله عليه وسلم.

عبد الله بن جعفر الطيار : عبد الله بن جعفر الطيار ابن أبى طالب مدفون فى دار عقيل أيضا ، بما أن حضرة عبد الله كان أجود العرب كان يلقب ب جواد القبيلة وإن كان بعض المؤرخين قالوا إن عبد الله توفى فى خلال سنة ٩٠ الهجرية ودفن فى الأبواء لكن القول الأول أكمل من الرواية الثانية.

الأزواج الطاهرات ـ رضى الله عنهن ـ أجمعين : أولى زوجات النبى صلى الله عليه وسلم

__________________

(١) أنظر نسبها فى : ابن هشام ١ / ١٦٨ ، الإصابة ٨ / ٥٢ ـ ٥٣.

٢٩٢

خديجة بنت خويلد ـ رضى الله عها ـ مدفونة بمقبرة الجنة المعلا فى مكة المعظمة كما أن أمنا «ميمونة رضى الله عنها» مدفونة فى مكان اسمه سرف بين وادى فاطمة ووادى التنعيم كل واحدة فى ضريحها الخاص.

وغيرهما ، كلهن ، مدفونات فى مقبرة بقيع الغرقد وفى الضريح الخاص لزوجات النبى المطهرات فى الجانب الشرقى من دار عقيل بن أبى طالب.

رواية

لما أشرفت حبيبة حبيب الله عائشة ـ رضى الله عنها ـ أمنا على الموت استدعت عبد الله بن الزبير وقالت له مواجهة «ادفنى بجانب صاحباتى اللائى فى داخل بقيع الغرقد» ونفذت وصيتها بعد موتها.

رواية : حفر عقيل بن أبى طالب فى داره التى فى البقيع بئرا ولما وجد فى حين حفره حجرا محكوكا عليه فسد البئر المحفورة وبنى فوقها منزلا عظيما ، وكان مكتوبا على الحجر المذكور «قبر أم حبيبة بنت صخر بن حرب» أى أم المؤمنين حينئذ دخل حضرة ابن السائب داخل البناء الذى أسسه وزار قبر أم حبيبة ـ رضى الله عنها ـ وحفر محمد بن زيد بن على محلا مكشوفا على بعد ثمانية أذرع من قبر فاطمة ـ رضى الله عنها ـ فوجد حجرا محكوكا عليه «إنه قبر أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقد نقل هذا محمد بن زيد بنفسه ، وظهور هذه الحجارة يدل على أن ذلك المكان مكان قبر زوجات النبى صلى الله عليه وسلم ، كما أن قول عائشة ـ رضى الله عنها ـ : «ادفنى بجانب صاحباتى ..» يؤيد الرواية التى تحكى أن الأزواج المطهرات دفن فى بقيع الغرقد.

أزواج النبى الطاهرات هن : خديجة ، عائشة ، سودة ، حفصة ، أم حبيبة ، أم سلمة ، زينب بنت جحش ، زينب الهلالية ، جويرية ، ميمونة ، صفية ـ رضى الله تعالى عنهن أجمعين ـ ومجموعهن إحدى عشر سيدة المقرونات بالعصمة وتسع منهن دفن فى الضريح الذى سبق تعريفه.

عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ المنان : استشهد عثمان بن عفان فى السنة

٢٩٣

الخامسة والثلاثين من الهجرة فى السابع عشر من شهر ذى الحجة ، وعلى قول الثامن عشر. وقيل مات يوم الجمعة ودفن فى مقبرة بقيع الغرقد وفى ساحة بستان يقال له حش كوكب وفى منتهى ذلك البستان.

وكان الشهيد المشار إليه قد حصل فى حياته على رخصة من أمنا عائشة ليدفن فى داخل الحجرة المعطرة ولكن المصريين الذى تجرءوا على قتله رفضوا دفنه فى مدفن السعادة قائلين : نحن سنمنع الصلاة على جنازة عثمان بن عفان فضلا عن دفنه فى حجرة السعادة ، وبمثل هذه الوقاحة أتموا دناءتهم ، وتلفظوا فى هذا الخصوص بكلمات غير مستحبة وكل ذلك داخل مسجد السعادة ، ولما طال الوقت ولم يدفن ذهبت والدتنا أم حبيبة من زوجات النبى المطهرات إلى باب المسجد وقالت : أعطونى جنازة عثمان لأدفنها فإذا امتنعتم عن إعطائها أرفع ستارة مرقد السعادة وأشكوكم للرسول صلى الله عليه وسلم! ولما ترك المصريون الجنازة وانسحبوا إلى جهة ما أخذ جبير بن مطعم وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير وكثيرون من الأجلاء نعش عثمان المبارك وحملوه إلى البقيع ، إلا أنهم قوبلوا أيضا بالمخالفة والرفض أى رفضوا دفنه فى البقيع الشريف فنقلوه من هناك إلى بستان يقال له حشّ كوكب حيث حفروا قبرا ودفنوه.

ومنذ استشهاد حضرة عثمان ـ رضى الله عنه ـ أخذت طائفة الجن تولول وتنتحب فوق مسجد السعادة ثلاثة أيام وثلاث ليال.

حكمة

وإن كان سبب عدم دفن الشهيد المشار إليه فى الظاهر مخالفة المصريين لذلك ورغبتهم فى دفنه بعيدا عن النبى صلى الله عليه وسلم ولكن السبب المعنوى لذلك قد وضح فى الصورة الأولى من الوجهة السادسة عشرة وفى بحث بئر أريس وهو عندما بشر حضرة عثمان بالجنة والمصيبة لم يكن قد وجد بجانب الرسول محلا خاليا وجلوسه فى مكان بعيد عنه.

يروى الإمام مالك أن قتلة عثمان بن عفان لم يسمحوا بدفن جثته إلا فى

٢٩٤

اليوم الثالث من استشهاده. وسبب ذلك فقد الصوت الذى سمع من الهاتف صلوا على جنازة عثمان وادفنوها ، إن الله سبحانه وتعالى قد رحمه.

قال الإمام : بناء على الأخبار التى تلقيتها ، عندما سمع القتلة ذلك الصوت من الهاتف تحيروا واستولى عليهم قلق عظيم ، فتركوا النعش الشريف فى مسجد السعادة وتفرقوا ، ولما تركت الجنازة وحدها وفى ليلة ذلك اليوم أخذ جدى ومعه أحد عشر رجلا الجنازة من المسجد وأخرجوها منه وخرجوا للطريق ليحملوا الجنازة إلى المقبرة. فصادفهم بعض الرجال من كلاب قبيلة بنى مازن وقالوا : إن كنتم تريدون أن تدفنوا الجنازة فى مقبرة البقيع نخبر القتلة ونجعلهم يخرجونها من قبرها.

فخافوا من وقوع فاجعة أخرى وحملوا الجثمان إلى بستان «حش كوكب» لدفنه فيه ، كانت بنات حضرة عثمان يسرن أمام التابوت وقد أمسكن فى أيديهن القناديل فى تلك الليلة العجيبة بينما رأس الجثمان يصطدم بالتابوت الخشبى ويخرج صوتا ، ولما ساروا قليلا سمعوا خشخشة فخاف الذين يحملون التابوت وزاد هذا الضجيج وأحاط بهم من الجهات الأربعة قالوا : لا تخافوا أتينا لنحضر صلاة جنازة الخليفة وإذا بهذه الخشخشة كانت قد صدرت من أجنحة الملائكة واهتزازتها الذين أتوا ليحضروا صلاة جنازة عثمان ـ رضى الله عنه ـ وقد اختلف فيمن صلى على الجنازة ، ففى قول أن الذى صلى هو جبير بن مطعم أو مروان ابن الحكم وفى قول آخر حكيم بن حزام ، ودفنوها فى المقبرة التى هيئت فى البستان المذكور ، وحضر الدفن الزبير بن العوام وحسن بن على وأبو جهم بن حذيفة ومروان بن الحكم.

وألحق أمراء بنى أمية بعد مدة بستان حش كوكب بمقبرة البقيع ، وهكذا وسعوا هذه المقبرة وأخذ الناس يدفنون جنازاتهم فى هذا المكان ، كان أهل المدينة يتجنبون دفن موتاهم فى حش كوكب من قبل وكأنهم تمنوا بأن يدفن أحد الصلحاء فى بستان حش كوكب حتى يقبل الناس على دفن موتاهم هناك. هذا ما

٢٩٥

كان يتمناه عثمان ـ رضى الله عنه ـ وكأنه أومأ بهذا بأنه سيدفن فى بستان حش كوكب وسيلحق هذا البستان فيما بعد بمقبرة بقيع الغرقد وأخذ الأهالى يدفنون موتاهم فى هذا البستان وألحقوه بمقبرة بقيع الغرقد.

وقد أبتلى كل واحد من قتلة عثمان بالجنون ، وهلك كل منهم إثر فضيحة لحقت به ، وقد ندم قتلته على ما ارتكبوا من جريمة شنعاء والتجئوا إلى مسجد السعادة يعرضون ندمهم وتوبتهم وأخرج كل واحد منهم مصحفا وأخذوا فى تلاوته بكل خشوع وندم وهم يبكون إلا أنه ظهر على وجه السماء شخص على شكل إنسان وخاطب هؤلاء وهو يقرأ الآية الكريمة :

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (سورة الأنعام / ١٥٩)

سعد بن معاذ الأشهلى ـ رضى الله عنه : إن سعد بن معاذ مدفون فى الضريح الذى ينسب إلى فاطمة بنت أسد بن هاشم الذى فى نهاية مقبرة البقيع ، وقد ذهب بعض الناس إلى أن فاطمة بنت أسد مدفونة فى هذا الضريح. إلا أنه من المحقق أنها لم تدفن فى هذا الضريح كما فصل فى موضوع قبرها.

كان حضرة سعد معروفا بكنيته أبى عمرو ، ووالده معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن النبيت بن مالك بن الأوس الأنصارى الأشهلى ، وأمه كبشة بنت رافع ، وقد جرح فى ملحمة الخندق جرحا بالغا ولكنه دعا إلى الله أن يمد عمره حتى يرى نهاية يهود بنى قريظة ، ولما استجيبت دعوته انقطع نزيف جرحه ، أسندت إليه مسألة تحديد جزاء يهود بنى قريظة ، فحكم بقتل جميع ذكور يهود بنى قريظة كما هو مفصل فى كتب السير وانفجر نزيف جرحه عقب ذلك وارتحل عن الدنيا ، فصلى عليه النبى صلى الله عليه وسلم ودفن فى أقصى مقبرة البقيع وبجانب بيت المقداد بن الأسود فى القبر الذى حفر له.

وكان النبى صلى الله عليه وسلم بجانب سعد بن معاذ حين وفاته ودعا له بأن تصعد روحه إلى

٢٩٦

أعلى العليين ، فاستجيب دعاؤه فنزل من قبل الله على وجه الأرض سبعون ألفا من الملائكة وأوصلوا روحه الشريفة إلى رياض الجنان بكل إعزاز وإكرام

أبو سعيد الخدرى ـ رضى الله عنه : حضرة أبو سعيد الخدرى سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر وهو خدرة ابن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصارى الخدرى واسمه زيد ، ومات سنة أربع وستين من الهجرة ودفن فى المكان الذى أراده بنفسه فى انتهاء مقبرة البقيع ، قال لابنه عبد الرحمن قبل موته بثلاثة أيام. «يا بنى قد تقدم بى السن وعجزت وسئمت تحريك رجلى ، أمثالى وأقرانى توفوا ، خذ بيدى لنذهب إلى البقيع» وأخذنى إلى مقبرة البقيع ، وتمشينا فترة بين القبور ، وفى النهاية وجد محلا خاليا فى أقصى المقبرة حيث لم يدفن أحد وقال لى ادفنى فى هذا المكان حينما أموت.

وقد خرب الضريح الذى فوق قبر أبى سعيد الخدرى فى الوقعة الوهابية فجدده السلطان محمود خان الثانى وكتب فوق بابه البيتين الآتيين.

قطعة

أقيم قبر أبى سعيد الخدرى

فكان مثيرا لحسد حرم السماء السابعة

كل ما تعاون مع السلطان

رضى الله تعالى عنهم

كان بالقرب من ضريح أبى سعيد الخدرى قبر منسوب إلى حليمة السعدية.

قطعة

شرفت بأن تكون لخير الرسل ظئرا

حليمة السعدية حسبها هذا فخرا

أراد السلطان محمود خان الثانى أن يعرض للنبى صلى الله عليه وسلم خدمة مقبولة فبنى فوق قبرها ضريحا وقبة.

٢٩٧

مشهد النفس الزكية اللطيف

النفس الذكية محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنه ـ مدفون فى جوف المسجد الكبير الواقع بالجانب الشرقى فى جبل سلع وليس فوق قبره قبة خاصة ، ومنهل عين الأزرق ، خلف الجدار القبلى لذلك المسجد وسقّاء والمدينة يأخذون منها الماء ليمدوا البيوت والمحال بالماء.

ويروى أيضا بأنه دفن فى موقع أحجار الزيت القريب من ضريح مالك بن سنان المنيف أى المكان الذى استشهد فيه. إلا أن هذه الرواية ضعيفة لدى أهل المدينة فالأرجح القول الأول.

استشهد النفس الزكية فى زمان أبى جعفر المنصور من خلفاء العباسيين ، وسبب استشهاده نفرة أهالى المدينة الطاهرة من أبى جعفر المنصور وعرضهم البيعة للمشار إليه وتبعيتهم له ، وسبب نفرة أهالى المدينة جميعا غدر المنصور وإهانته لهم ، لأن المنصور المختلف الشعور هذا كان قد حبس والد الشهيد المشار إليه فترة طويلة مع جميع أقاربه ونتج عنه غضب أهل المدينة منه وعرض جمع غفير منهم البيعة على النفس الزكية ، وخرجوا ضد المنصور وخالفوه.

وبمجرد ما سمع المنصور هذه الواقعة اختل شعوره وأرسل عمه عيسى بن موسى بأربعة آلاف من الجند إلى المدينة الطاهرة حتى يقف دون تطور الأمور. وقبض عيسى بن موسى على النفس الزكية فى مكان يطلق عليه «أحجار الزيت» وقتله وضرب الإمام مالك ضربا مبرحا واستولى على السيف الذى وصل إلى النفس الزكية عن طريق الإرث من على بن أبى طالب وهو ذو الفقار وقدمه لأبى جعفر المنصور.

٢٩٨

توضيح :

حج المنصور فى سنة ١٤٤ ه‍ فى مكة المكرمة وبعد عرفة مر بالمدينة المنورة فاستقبله أشراف وسادات المدينة الميمونة حتى كان فى ضمن مستقبليه من أعاظم العلويين عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبى طالب ، وسر المنصور من تنازل عبد الله باستقباله ودعاه أن يحضر طعام المساء ، وأثناء تناول الطعام سأل المنصور عبد الله قائلا : ما سبب عدم تنازل ولديك إبراهيم ومحمد لاستقبالى فرد عبد الله على هذا السؤال غير اللائق : إننى لا أعرف مكانهما حتى أعرف سبب عدم حضورهما لاستقبالك وأقسم على ذلك ، ولكن المنصور لم يهتم بجوابه ولا قسمه وكرر السؤال فغضب عبد الله من هذا الإصرار وقال : يا منصور قلت لك إننى لا أعرف مكانهما وأقسمت على ذلك فلم تقتنع ، وبعد الآن إن أقف على مكان وجودهما فلن أخبرك به فاغتصب ذلك الغدار جميع أموال عبد الله وصادر جملة أملاكه وألقاه فى السجن مع أحد عشر ولدا من أولاده ، وأمر ألا يخرجوا من الحبس إلى الأبد ، ويرد بعض المؤرخين هذه الرواية قائلين إن والى المدينة المنورة رباح بن عثمان هو الذى حبسهم بناء على الرسالة التى وردت له من المنصور. وسبب حبس المنصور عبد الله والسؤال عن ابنيه إبراهيم ومحمد بيعة بعض الناس فى أواخر الدولة الأموية من أهالى الحجاز النفس الزكية محمد بن عبد الله بالخلافة ، مع أن المنصور كان أحد المبايعين له ولكن بعدما أخذت شمس الخلافة تنتشر أشعتها على مفرقة آل عباس وانتقل زمام الحكم بعد فترة إلى يد المنصور قال فى نفسه إننى كنت قد بايعت قديما محمد بن عبد الله بالخلافة ، وإننى إذا لم أقتل محمدا وأخاه إبراهيم لن أستطيع أن أقوم بمهام الخلافة ، وبهذا الوهم أخذ يبحث عن سبب لقتلهما. واطّلع هذان على أوهام المنصور المضرة فسافرا إلى اليمن أولا ثم إلى الهند حيث تنزها قليلا ثم عادا إلى المدينة المنورة بعد فترة واختارا الانزواء فى ركن منها ، ولكن ذوى المصالح كتبوا رسالة وأرسلوها إلى جعفر المنصور قائلين عاد محمد بن عبد الله وأخوه إبراهيم الى المدينة المنورة واختفيا فى مكان ما فيها وأخذا يثابران لتكليف أهل المدينة بالبيعة

٢٩٩

لهما فانزعج المنصور من هذا الخبر أشد الانزعاج وأخذ يفكر فى التخلص منهما بالقضاء عليهما ، وقرر أن ينفق فى هذا السبيل ما لا يحصى من الأموال ولأجل ذلك كان يغير ولاة المدينة من حين لآخر بالعزل والتبديل ويخشى ما فى ضميره لكل واحد منهم ، ولما كان المشار إليهما مطلعين على سوء نية أبى جعفر فإنهما كانا يسافران فى موسم الحج إلى مكة المكرمة ويعودان بعد عرفة إلى المدينة المنورة حيث يختفيان فى مكان ما.

وقد فهم المنصور أن الأمر الذى يريد أن ينفذه لن يتم بواسطة الولاة الذين يبعثهم إلى المدينة أى فهم أن من لديه أقل ذرة من الإيمان لن يقوم بهذا العمل ، فأخذ يتحرى عن شخص غدار سفاك ليثق فيه وأخيرا وجد رجله فى رباح بن عثمان الموصوف بالقسوة عديم الرحمة محتاج لفلس أحمر وفهم من عينيه أنه كلب بن كلب ، فاستدعاه فجاءه ليلة من الليالى وعهد إليه بولاية المدينة المنورة قائلا : يا عثمان! يجب أن تذهب سريعا إلى المدينة المنورة وأن تبحث عن حل سريع لقتل محمد بن عبد الله وأخيه إبراهيم ، وهكذا نبهه وأمره بقتل المشار إليهما وجهز له كل ما يلزم من عظمة ودبدبة ووجه ذلك الدنئ الذى يخرب البيوت بعد أن رقاه إلى والى المدينة ، وكان رباح بن عثمان دنيئا لا يتحرج حتى عن قتل الأنبياء وهدم البيت العالى ولا يتورع عن ارتكاب أى جرم ، وعند ما وصل إلى المدينة أراد أن يتظاهر أمام الأهالى بأنه من أنصار الحق فذهب تلك السنة إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وبعد العودة أخرج السادة والعظام الذين كان قد حبسهم المنصور بنفسه من آل حسن بن على من السجن فكبل أرجلهم وأيديهم بأكبال حديدية وربط كل واحد منهم بالآخر بالسلاسل الحديدية وارتكب دناءة وجرم سوقهم بهذا الشكل إلى بغداد دار الخلافة.

وكان مع المسجونين المشار إليهم من يلقب ب «الديباج» لكمال حسنه وملاحته : أبو عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن عفان.

أبو عبد الله محمد بن عبد الله الديباج كان أخا عبد الله ابن حسن لأم وقطعة كبد فاطمة بنت حسين بن على بن أبى طالب ، وكانت بنتة رقية متزوجة بابن

٣٠٠