موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

الرقم

الإشارات المخصوصة

١ ـ

حجرة السعادة

٢ ـ

الخط الداخلى علامة الجدار الداخلى والخط الخارجى علامة الجدار الخارجى.

٣ ـ

بيت فاطمة الشريف

٤ ـ

مقام جبريل

٥ ـ

جهة القبلة

٦ ـ

جهة الشرق

٧ ـ

جهة الغرب

٨ ـ

جهة الشمال

إحاطة حجرة السعادة بجدار من الرصاص

كان الملك العادل الشهيد نور الدين محمود بن زنكى أقسنقر من صلحاء الملوك ، وكان من عادته أن يتهجد كل ليلة بعد أداء صلاة العشاء وبعد أداء الصلاة كان يتلو القرآن ويقرأ أورادا خاصة ، وفى ليلة من الليالى قام بأداء الصلاة وقراءة أوراده الخاصة وفق عادته ، ثم ذهب لينام ، وفى أثناء نومه رأى ثلاث مرات النبى صلى الله عليه وسلم كنز خزنة الإعجاز ، وفى كل مرة يرى فيه صاحب الآيات الباهرة عليه التحية الزاهرة كان يريه شخصين قبيحى السحنة أحمرى الوجه ويقول : يا نور الدين! خلصنى من هذين الشخصين!!! وحينما استيقظ من نومه استدعى وزيره جمال الدين الموصلى والذى كان من صلحاء الأمة ، وبناء على رأى وزيره اصطحب معه عشرين من جنوده الفرسان ، ودون أن يخبر أى مخلوق توجه صوب المدينة المنورة عن طريق مصر وقيل من الشام ووصل إلى دار السكينة بعد ستة عشر يوما وبعد الزيارة أراد أن يوزع العطايا من الذهب والفضة على أهالى المدينة فردا فردا وفق ما هو مقيد فى سجلات الأسماء.

٢١

وكان هدف الشهيد نور الدين من توزيع العطايا أن يجد أو يتعرف على الخائنين من بين أهل المدينة وأن يعاقبهما العقاب الذى يستحقانه ، وأخذ الناس يردون إلى حضرته ليحصلوا على عطاياهم ، وكان يقارن وجوه كل من أتوه بصورة وجوه هذين الشخصين اللذين رآهما فى منامه ؛ وكان متلهفا لإظهار هذين الشخصين ولكن للأسف لم يتمكن من العثور على هذين الشخصين ضمن الذين حضروا لتلقى الصدقة ، وانقطع سيل الواردين من أهل المدينة ، عندئذ قال : «أليس هناك من لم يأخذ صدقته؟! إذا كان هناك من لم يأت استدعوهم لينالوا صدقاتهم». «فقالوا» لن يأتى أحد لأخذ الصدقة لأنه لم يبق هناك أحد ؛ إلا أن هناك شخصان يتصفان بعزة النفس وزهد عن الدنيا وهما من أهل المغرب ومعروفان بكمال الصدق والعفة وهما فقيران مستدينان ولن يقبلا أخذ الصدقة» ، وعندما تلقى هذا الرد قال : «لا ، لا بد من إحضارهما أيضا ، وبهذه الإفادة الصائبة أمر بإحضار هذين الملعونين ظاهرى القذارة ، ولما رأى مواطنو دار السكينة أن نور الدين مصر على رأيه ، أحضروا مضطرين هذين اللذين تشبه سحنتهما سحنتى الغيلان ، ولما كان هذان الشخصان يشبهان الخنزيرين اللذين أراه النبى صلى الله عليه وسلم تمام الشبه ، أخذهما نور الدين إلى حجرتهما الكائنة (١) قرب حجرة السعادة ورأى كتبا نفيسة وأشياء غالية ولم يغتّر بشهادة الذين كانوا معه لهذين الوغدين بحسن السيرة ، ورفع الحصيرة التى تغطى الحجرة فرأى نفقا عميقا وكان هذا النفق طريقا مائلا إلى السعة وينتهى إلى حجرة السعادة!! وكان سادات المدينة يشهدون بحسن سلوك هذين النجسين ويثنون عليهما ، وعندما حدث ما حدث أحنوا رءوسهم خجلا واستحياء ولم يجدوا ما يقولون ، وتولى نور الدين بنفسه استنطاق هذين الخبيثين وشمر ساقه مستفسرا عن حفر النفق ، إلا أنهما أصرا على إنكارهما وهنا أمر بتعذيبهما وتهديدهما حتى يحصل على السبب الحقيقى فى حفرهما النفق ، وضربهما ضربا مبرحا ، وعندئذ عرف المغربيان أنهما لن يخلصا من آلة التعذيب بدون قول الحقيقة وشرعا فى

__________________

(١) كانت أبنية رباط العجم فوق ساحة هذه الحجرة.

٢٢

الكلاتم وقالا : «إننا من مشركى أرض المغرب ، ولسنا مسلمين إلى الآن ، وقد جئنا إلى المدينة بحيلة أداء فريضة الحج وزيارة مرقد صاحب المعراج وأقمنا فى هذه الحجرة وغايتنا أن نسرق نعش النبى محمد ونحمله إلى أرض المغرب!! ، وقد بعث لنا المغاربة نقودا طائلة أكثر أنفقناها واستهلكناها ولمّا رأينا أننا لن نستغفل أهل المدينة بصرف النقود وإنفاقها لبسنا رداء الزهادة والتففنا بستار العفة حتى نظهر فى هيئة الصدق والوفاء وبهذه الصورة وفقنا فى استغفال الأهالى.

وأخذنا فى مزاولة عملنا ، كنا نقضى الليالى بحفر النفق ، وفى النهار كنا نملأ الأكياس بتراب ما حفرناه ونذهب إلى مقبرة بقيع الغرقد بقصد زيارتها حيث نفرغ الأكياس من التواب ، وعندما اقتربنا بقبر السعادة ظهرت فى السماء أصوات الرعود والصواعق ، الأمر الذى أقلقنا بل أخافنا خوفا شديدا ، وفى الصباح انتشر خبر تشريف سلطنتكم ، هذه هى الحقيقة.

واستمع نور الدين إلى هذه الأقوال بآذان ملؤها الحيرة والاضطراب وأسال دموع الرقة فى نهايتها ، وأمر بقتل وإعدام المغربيين فأعدما بدون توقف تحت الشباك الشريف ، وبهذا بين أن الذين يقصدون حجرة السعادة بسوء يستحقون جزاء الإعدام.

علاوة وإضافة

سمعت أنا محرر هذه الحروف من بعض الأشخاص أن الشهيد نور الدين أوقد فانوسا ونزل فى النفق المحفور وذهب حتى نهاية الحفرة وهنا سقط بعض التراب وامتدت يد جسمان النبى الطاهر فقبلها وعادت ، فما أحسن ما ناله من سعادة أبدية ، ونعم ما حصل عليه من عناية سرمدية.

بعد أن أعدم حضرة نور الدين هذين السافلين حفر حول الحجرة الشريفة التى طاف حولها بخشوع وأزال التراب قرب سطح الماء ولما صار المكان الذى أخرج منه التراب خندقا عميقا فأسال فى هذا الخندق العميق رصاصا مذابا أى حفر خندقا حول مرقد السعادة حتى مكان ظهور الماء دائرا ما دار وملأ داخل هذا

٢٣

الخندق برصاص مذاب فأحاط حجرة السعادة بسور من الرصاص ، وذلك فى سنة (٥٥٧ ه‍).

ونقل المؤرخ جمال الدين المطرى هذه القصة بصورة أخرى ولم يذكر الجدار الرصاصى الذى مد حول مرقد السعادة ، وبناء على نقل جمال الدين المطرى أنه فى سنة خمسمائة وسبع وخمسين دخل السلطان نور الدين محمود بن زنكى بن أقسنقر إلى المدينة الطاهرة بغتة بألف من الفرسان ، وأخذ يوزع العطايا ـ كما ذكر آنفا ، ولكنه لم ير أحدا ممّن يشبه الغيلان مثل اللذين رآهما فى رؤياه فسأل : هل هناك من لم يأخذ الصدقة؟ فأجيب من قبل سادات المدينة المنورة أن هناك فى داخل الديار العشر أى فى دار آل عمر التى تقع فى الجهة القبلية للحجرة الشريفة يسكن مجاوران إلا أنهما معروفان بأنهما لا يأخذان الصدقة وموصوفان بالزهد والصلاح فإنهما لن يأتيا هنا فأحضرهما بالقوة وابتدر فى إجراء التعذيب وفهم منهما أنهما قد أرسلا من متعصبى مشركى المغاربة بغرض نقل نعش الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلادهما فقطع عنقيهما أمام الجدار الشرقى للمسجد الشريف وبين أن هذين الشخصين قاما بحفر بئر فى دار آل عمر فى داخل الديار العشرة وملئوا هذه البئر بتراب النفق الذى حفراه.

رواية المطرى هذه تشعر بوصول الشهيد نور الدين إلى المدينة المنورة ، وإذا ما نظر إلى أن الرباط (١) الذى سكن فيه المغربيان يعرف اليوم برباط العجم فالرواية الأولى أقرب إلى الصحة.

قال بعض أصحاب الوقوف من أهالى المدينة : «لما استدعى الشهيد نور الدين أهل المدينة لتوزيع العطايا أو لم وليمة بعد أن نصب خيمة أمام باب الحصن الذى يطلق عليه الآن اسم باب الضيافة ، وأطلق فيما بعد على هذا المكان اسم دار الضيافة وبهذا التعريف يقصون مجئ المشار إليه إلى المدينة المنورة حسبما فصل أعلاه ، إلا أنه ليس بصحيح أن الشهيد نور الدين أقام ضيافة وإطلاق دار الضيافة لذلك المكان.

__________________

(١) دائرة المشيخة يعنى دار شيخ الحرم فوق ساحة هذا الرباط.

٢٤

وإن كان فى الجهة الشامية من مئذنة العزيزية دكانا يطلق عليه دار الضيافة إلا أنّ هذا المكان ليس الموقع الذى استضاف فيه الشهيد نور الدين أهل المدينة بل ساحة البيت الذى كان يملكه حضرة عبد الرحمن بن عوف ، وبما أن النبى صلى الله عليه وسلم الكريم المحب للضيافة يطعم الضيوف الواردين فى هذه الدار أطلق عليها دار الضيافة وظل اسمها كذلك ، وبما أن شارع حصن المدينة الميمونة يمر من هنا وينتهى إلى الباب الذى فى تلك الجهات فأطلق على هذا الباب باب الضيافة.

ينقل ابن النجار فى تاريخه الذى سطره عن بغداد ـ شبيهة الجنة ـ حكاية تشبه واقعة الشهيد نور الدين ويقول : «إن زنادقة العبيديين ذوو أفكار مشينة ابتدروا فى دس الدسائس واحتالوا على إضلال ملك مصر وقالوا : «إذا وجدنا يا ملكنا طريقة لإحضار أجساد النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصديق وعمر إلى مصر ذات الأهرامات ، كان كبراء الممالك التى حولنا وأشراف بلاد الأكناف ، يأتون إلى هذه الجهة رغبة فى الزيارة وبهذا تصبح القاهرة تكية الأنام ومستند الإسلام».

استحسن ملك البلاهة ما عرضه الزنادقة وتلقاه قبولا حسنا ورأى أن يبنى فى مصر ضريحا مزينا فخما وينقل جسد النبى الشريف فى هذا الضريح ، وأمر أبا الفتوح من أقرب عبيده لنفسه وأخلص أتباعه بعد أن أرسله إلى المدينة واستعجله بأن يرسل الأجساد الثلاثة إلى مصر بأية طريقة كانت ، ولما وصل أبو الفتوح إلى المدينة أخذ يلمح إلى سادات الأهالى عمّا فى ضميره وأنه سيعمل على إيفاء مأموريته وبين لهم سبب وروده إلى المدينة. وأراد السادات الذين أصابهم الهم والغم من هذا الموضوع أن لا يكشفوا عن الموضوع إلى أهل المدينة علنا بل أن يفهموهم ضمنا.

ومن هنا أحضروا المرحوم الزلبانى من مشاهير قراء المدينة وطلبوا منه أن يقرأ

٢٥

عشرا من القرآن الكريم ، وتلاه المرحوم الزلبانى (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (التوبة : ١٣).

وقد فهم الحاضرون مما تفيده الآيات الكريمة من المعانى سبب مجئ أبى الفتوح وأخذوا فى القيل والقال وبعد منازعات طويلة ومناقشات مديدة قرروا أن يقتلوا الخوف والهم إلا أنهم قالوا : «إن البلاد الحجازية تحت الإدارة المصرية الآن ، فإذا ما قتلنا أبا الفتوح فكأننا نثير غضب ملك مصر ونستدعيه ليبعث جنودا كثيرة إلى المدينة ليؤدب سكان دار السكينة ، ومن رأينا أن نعيد أبا الفتوح إلى مصر صفر اليدين من هنا تفرق القوم وقد صرفوا النظر عن قتل أبى الفتوح ، وانسحب كل واحد منهم إلى جهة ما وكونوا جماعات صغيرة وبادروا فى التشاور فيما يجب عمله بهذا الخصوص.

عندما رأى أبو الفتوح هذه الحالة فاق لنفسه واستجمع عقله وقال : «إن الخوف من الله خير من الاحتراز عن عباده ، وإننى لن أتجرأ بعد ذلك على إجراء مهمتى وإن تأكدت أن ملك مصر سيهلكنى لعدم تنفيذ هذا العمل الشنيع».

وقد بلغ قلقه واضطرابه حدا لم يعرف منهما كيف انصرف من المجلس ، ومع ذلك كان يرجو أن يظهر فى الميدان حكمة ما تسكن من غيظ وحدة ملك مصر ، وبعد انتهاء الاجتماع ظهرت عاصفة شديدة وترك أهالى المدينة دون عقل وشعور وكأن الكرة الأرضية قد تحركت وأخذت تضرب الحيوانات بعضها ببعض الحيوانات التى تسير فى الصحارى والحقول والجبال فأتلفتها جميعا ، وهذه الحالة كانت باعثا للفرح والسرور لأبى الفتوح ، إذ عاد إلى مصر دون تأخير قائلا : «أعرض على ملك مصر هذه الحالة المفزعة وأعتذر له عن عدم تنفيذ أمره».

٢٦

إخطار

كلما تعرضت الحجرة المعطرة لسوء قصد ظهر فى المدينة الزلازل المفزعة والعواصف المخيفة ، وفى الواقع لم تظهر فى المدينة المنورة بعد نار الحجاز المنذرة عواصف يحترز عنها ولا الزلازل ولا الحالات المخيفة ما لم تتعرض الحجرة الشريفة لسوء قصد ولم يثبتها التاريخ ولكن كلما حدث سوء قصد للحجرة الشريفة أو حدث شىء مخلا بالآداب أمام القبر النبوى حدث إما زلزال كبير وإما عواصف شديدة مخيفة وقد حدثت لتوقظ أهالى المدينة من غفلتهم ، الزلزلة الأخيرة فى سنة ١٢٩٦ الهجرية فى شهر المحرم ثلاث مرات فى يوم واحد مائلة إلى الشدة مما أقلق أهل المدينة وملأهم فزعا.

وسبب هذه الزلزلة ما أظهره نائب الحرم والحجرة المعطرة تحسين أغا من وقاحة وسوء أدب أمام قبر النبى صلى الله عليه وسلم إذ ذهب حالت باشا والى الحجاز فى السنة المذكورة لزيارة المدينة المنورة وأراد تحسين أغا أن يعرض له ولاءه التام لأنه أراد أن يكسب رضا حالت باشا وحسن توجهه له ونتيجة لهذه الفكرة الفجة قال له : «يا حضرة الباشا إن أهل دائرتك يظهرون مخلصين وذوى عقيدة متينة ، والمعلومات التى وصلتنا عن حريم سيادة الوالى فى نفس المستوى ، هذه فرصة لا تحدث دائما يجب أن تقتنصها إذا أذنتم سيادتكم ، ندخل عقائل حريمكم توائم العصمة إلى داخل الحجرة المعطرة ونبهج خواطرهن بشرف زيارة القبر النبوى ، «وقال حالت باشا» : «إن النساء قد لا يستطعن أن يظهرن واجبات الحرمة والزيارة حسب المقتضى ، فإذا ما زرن من الخارج فهذا أفضل» ، فأجابه تحسين أغا قائلا : «لا ، لا إن زيارة النساء عادة هنا ، تتوضأ النساء ويدخلن داخل الحجرة ويزرن وإذا ما تفضلتم بالموافقة على أصول البلد تحسنوا الصنع» ، وهكذا استحصل تحسين أغا الإذن من الباشا ، وبناء على هذا جلب تحسين أغا جميع النساء فى دائرة الباشا فى الساعة الرابعة ليلا من ليالى أوائل شهر محرم الحرام وأدخلهن واحدة تلو الأخرى وجعلن يزرن حجرة السعادة ، وكان غرض تحسين أغا أن تنال

٢٧

النساء شرف الزيارة ولم يكن يعرف أن دخول النساء الحائضات داخل الحجرة المعطرة غبر جائز ولم يخطر بباله أنه يجب ألا تكون بين الزائرات حائضة.

لذا حدث زلزال شديد ثلاث مرات متتالية صباح ليلة الزيارة تماسك الأهالى فيما بينهم ، وفى النهاية عرف ما حدث وظهرت الحقيقة فأخرج حالت باشا من المدينة المنورة فى صورة مهينة وأرسل إلى مكة! وإذا كانت الأمور ظلت على هذه الحالة لأمكن أن يقال إنها تأديب خفيف ، إذ تعرض حالت باشا بسبب هذه الزيارة للكثير من الكوارث إذ هلك جميع أفراد دائرته واضمحلوا وتشتتوا فى أرجاء الدنيا.

نعم ، فالذين يسيئون أدبهم أمام النبى صلى الله عليه وسلم يمحون ويتشتتون عقب إساءتهم أمّا محاكمة تحسين أغا يظهر أنها ستجرى أمام حكيم الأنبياء لأنه كان سببا فى القضاء على حالت باشا.

جرأة غريبة

حدث فى زمن شيخ خدمة الحرم السعيد شمس الدين أن بعض الحلبيين أرادوا أن يخرجوا نعش أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب ليأخذوهما إلى بلدهم.

ودخلوا فى ليلة إلى مسجد السعادة ، كما سيأتى تعريفه فيما بعد ـ إلا أن كلهم هلكوا وانعدموا وقد بلعتهم الأرض.

كتب مؤلف الرياض النضرة محب الطبرى راويا عن هارون بن الشيخ عمر بن قائلا : «قال شيخ خدمة الحرم النبوى شمس الدين صواب اللمطى بالذات : «كان لى صديق من خاصة والى المدينة المنورة وكل ما يتعلق بالأعمال الحكومية كنت أكلف هذا الشخص القيام به ، وشرفنى يوما فى حجرتى المتواضعة وقال : جاء اليوم بعض الناس من حلب ورجوا أن يؤذن لهم بإخراج الجسدين اللطيفين للشيخين الكريمين ـ رضى الله عنهما ـ وأخذوا إذنا من أمير المدينة بذلك وقد

٢٨

أعطوه نقودا طائلة وبمجرد ما أنهى كلامه جاء رسول من قبل أمير المدينة المنورة وقال تفضلوا معى إن أمير المدينة يريدك ، فأخذنى وذهب بى عند الوالى ، وعندما دخلنا فى الدائرة الحكومية ورآنى الوالى فقال مؤكدا : «يا صواب سيدق باب مسجد السعادة بعض الناس ووقتما يدق الباب يجب أن تفتح الباب وتدخل من دقوه فى الداخل ولا تعترض على أى شىء يفعلون وأن تصمت» هذا كان أمره ، إننى جلست هذه الليلة فى جهة من جهات المسجد وأخذت أبكى من شدة الهم والغم وسبحت فى بحر الفكر والحيرة عسانى أجد حلا لهذا الموضوع».

وعقب صلاة العشاء أغلقت الأبواب حسب الأحوال الجارية ثم جلست فى جانب من حجرة السعادة وأخذت أبكى ، ودق فى منتصف الليل الباب الذى فى محاذاة دار الوالى ، وبناء على الأمر الذى تلقيته فتحت الباب ووقفت خلف مصراعه ، فدخل بعض الناس فى الداخل وأغلقوا الباب ، فأحصيتهم فردا فردا كانوا أربعين نفرا كاملين وكان كل واحد منهم يحمل على ظهره زنبيلا أو زنبيلين مملؤين بأدوات الحفر ، فتوجهوا رأسا إلى حجرة السعادة ، وفى الوقت الذى مروا من محاذاة مئذنة باب السلام واقتربوا إلى أمام المنبر السليمانى ، فانشقت أرض المسجد وبلعت هؤلاء الناس جميعا بآلاتهم وأدواتهم واختفوا عن الوجود ، ولما التأمت الأرض المنشقة ظل نصف ملابس أحد الأشخاص الذين ابتلعتهم الأرض خارجها وهكذا أشير من قبل الحق أن هذا المكان هو مكان الانشقاق (١) وبعد مرور مدة طويلة استدعانى والدى عنده وقال لى : «كنت بعثت لك بعض الأشخاص ، هل أتوا؟ وكان يريد بهذا السؤال أن يستكشف الأحوال ، فقلت له نعم قد أتوا إلا أن الأرض انشقت وبلعتهم ونقلت له القصة كما حدثت ، فقفز من مكانه وذهب إلى مسجد السعادة ورأى قطعة الملابس التى ظلت خارج

__________________

(١) ويخبر بعض أهل المدينة أن الكيفية قد عرفت للناس فى تلك الليلة بصوت من الهاتف.

٢٩

الأرض وفهم حقيقة ما حدث ثم التفت إلى قائلا إذا ما قلت شيئا فى هذا الموضوع سأعدمك وبعد هذا التهديد أوصانى بأن أكتم ما حدث.

كتب هذه الحكاية أبو محمد بن عبد الله بن المرجانى أيضا فى تاريخ المدينة إلا أن الأشخاص الذين ابتلعتهم الأرض كانوا خمسة عشر نفرا أو عشرين ، ثم أضاف إننى سمعت هذه الحكاية من أبى عبد الله بن أبى محمد المرجانى كما أنه سمع من أبيه محمد المرجانى ، كما أن محمد المرجانى سمع من خدم الحجرة الشريفة ، وفى آخر الأمر سمعت أنا من ناقله ، وبهذه الرواية نقل وبين الحكاية السالفة.

وإن كانت الرواية التى ينقلها أبو محمد تظهر مختلفة عن رواية محب الطبرى إلا أن القول الأول بما أنه منقول عن شمس الدين صواب اللمطى بالذات فإنه مرجح على القول الثانى.

يخبرنا مؤلف طريقة محمد بعد أن ينقل ما قاله حضرة صواب برواية محب الطبرى ، كيف مات والى المدينة ، وأين تعرض حضرة صواب ومن طرف أى الأشخاص للهجمات بصورة واضحة ، وبناء على تحقيق المؤلف المشار إليه أن والى المدينة قد تعرض لمرض الجذام عقب هذه الواقعة وارتحل إلى دار البوار بعد أن تقطعت أعضاء جسمه إربا إربا.

إن الزنادقة الظالمين أرسلوا بعض السفاحين وقد اطلعوا على مصير الأشخاص الذين بعثوهم من حلب وكيف بلعتهم الأرض واختفوا إلى الأبد أرسلوهم ليقضوا على حضرة صواب ويقتلوه وقد فرح هؤلاء الأشخاص وابتهجوا إذ دعوا صوابا إلى مجلس حيث تجرءوا لقطع لسانه ، إلا أن النبى صلى الله عليه وسلم مسح على لسان صواب فرجع اللسان على حالته الأولى كأثر من آثار المعجزة النبوية وأخذ يتحدث ومن هنا تبدل فرح هؤلاء السفاحين وابتهاجهم غما وهما.

أرادت فرقة الزنادقة أن يخفوا ما ارتكبوه من الإهانة عن أهالى الممالك المتجاورة وذلك بفكرة رفع وجود صواب المبارك عن خريطة الحياة فدبروا له

٣٠

حيلة ورموه فى السجن وجرحوا جسمه المبارك ومزقوه وعرضوه لجروح غير قابلة للالتئام ، ولكن طبيب أدواء الأمة صلى الله عليه وسلم أخرج صوابا من السجن. كما أنه ـ عليه السلام ـ أزال جميع آثار الضرب والجروح ومن هنا أمكن إخفاء أحداث الواقعة وسترها.

وأراد والى المدينة أن يخفى عن الناس مكان قطعة الملابس بقطعها ولكن صوابا كان قد أرى مكان انشقاق الأرض لأهالى البلدة المباركة فى أثناء وقوعه فى أجولة السفاحين ، وشرح لهم ما حدث ومن هنا وضع الناس فى هذا المكان قطعة من الحجارة وعرفوا الزوار الذين يقصدون قبر السعادة بأن ذلك المكان مكان الانشقاق ومع مرور الأيام تبدل ذلك الحجر ، وفى النهاية وضعت قطعة من الرخام متعددة الألوان الأصفر يختلف لونها عن قطع الرخام الأخرى لتجذب الأنظار.

وما زالت هذه القطعة الرخام فى زماننا هذا ، فإذا ما سئل أى واحد من أهالى المدينة يشيرون إليها ، وبما أنه لا يوجد فى ساحة حرم السعادة الرخامية قطعة رخام أخرى تشبهها فلا داعى للسؤال عنها من زيد أو عمرو ، وعلى الزوار الذين يريدون أن يروا هذه الرخامة أن يبحثوا عنها فى الساحة الرخامية فى مواجهة السعادة بعد أن يدخلوا من باب السلام بين مئذنة باب السلام والمنبر السليمانى.

ينقل لنا مؤلف روضة الأبرار أن لعينا اسمه أرناط حاكم قلعة كرك مدينة صغيرة فى ولاية الشام وهى ملحقة بسنجق البلقاء يسكنها ثمانية آلاف ، نسمة ستة آلاف منهم مسلمون والألفان مسيحيون.

ومركز هذه المدينة قرية كرك التى تقع على مسافة خمس أو ست مراحل من نابلس التى تقع فى الجهة الجنوبية من البلقاء أراضيها ذات محصول وفير منبتة خصبة ، لكن بما أن سكانها عشائر غير متحضرة فأحوالها العامة غير منضبطة ، وإدارتها محولة إلى الشيخ الذى يطلق عليه القائم مقام ، وهذه القرية فى ممر قوافل مصر والحجاز ، ولما كان موقعها ذا استحكام طبيعى كانت فى الأوائل

٣١

مركزا تجاريا ، وقام الصليبيون ببناء بعض الحصون فيها كما أن الأيوبيين قاموا بتعميرها وإصلاحها بصورة رصينة متينة حتى أصبحت فى حالة فوق العادة من العمارة ومازالت بعض قلاعها قائمة إلى الآن آثار ملك الفترة المزدهرة.

وقع أرناط فى سنة ٥٧٨ ه‍ فريسة لفكرة نبش مرقد النبى المنير ونقل جسده الشريف تلك الفكرة الخائبة ، ومن هنا أمر بصنع بعض المراكب الصغيرة فى قلعة (كرك) وأوصلها إلى البحر الأحمر جرّا على اليابسة ، كما أرسل ثلاثمائة وخمسين نفرا من الأشقياء السفلة لاستخدامهم فى تسيير المراكب ولإرسالهم إلى المدينة المنورة إذا اقتضت الأحوال.

وكان غرضه أن يؤخذ الجسد النبوى الطاهر إلى ميناء ينبع ومن هناك إلى بلاده ، ولما وصلت تلك المراكب إلى ميناء ينبع تكونت جماعة كبيرة مع العربان الذين وافقوا على الفكرة وترك فى الميناء قدر كاف من الحراس لحراسة السفن وأخذ الباقى يتسرب إلى ناحية المدينة المنورة منفردين ، ثم اجتمعوا فى مكان معين وأخذوا يتقدمون ، ولما وصل هذا الخبر الذى أثار الدهشة إلى مسامع من يعرف بين المشايخ باسم الشيخ محيى الدين النووى فى الشام ظنّ أنّ والى الشام يريد إرسال الكتب النفيسة التى فى مكتبة الجامع الأنورى الشريف إلى ديار أخرى.

وعندما اطلع الإمام على حقيقة الأمر ذهب إليه وأراد أن يثنيه عن قراره بكلام لين ونصيحة خالصة ، ولما رأى أن كلامه لا يؤثر فيه غير كلامه وأخذ يهدده بفقرات باردة ، وظن الوالى أن الإمام شخص عادى كآحاد الناس فأمر بحبسه وتوقيفه فابتدر من بجانبه الشّيخ ليحملوه معهم ، لكن فراء الأسود والنمور التى كانت مفروشة فى الحجرة تراءت لهم كالحيوانات المفترسة الحية فامتلأ قلب الوالى بالخوف والفزع ولا سيما قلوب الذين كانوا أمسكوا بالإمام وهكذا جعلتهم يفرون جميعا ، وبناء على ذلك ثاب الوالى إلى رشده وندم على ما فعل وطيب خاطره وقبل يده وقدمه إنقاذا من هذه الورطة المخيفة المفزعة.

٣٢

بينما تصدر الأمور الخارقة للعادة من الإمام النووى والآخرين ممّن يتباهون بانتسابهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف يجوز التردد فى تصديق ما ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ملك جنود الملائكة من الخوارق هذا النبى الذى اتخذه خالق العالم ـ جل شأنه ـ حبيبا له.

كن مجذوبا بحب الله ... وكن فى كمال الأدب أمام النبى.

٣٣
٣٤

الوجهة الثانية عشرة

تشتمل على ثلاث صور

فى ذكر الوقت الذى احترق فيه مسجد السعادة

وكيف احترق ومن الذى جدده

٣٥
٣٦

تعرف كيفية احتراق مسجد السعادة للمرة الأولى وكيف جدد

دخل أبو بكر بن أوحد (١) من فراشى المسجد النبوى فى ليلة يوم الجمعة الأولى سنة ٦٥٤ الهجرية (٢) إلى مخزن القناديل الكائن بالزاوية الشمالية لجدار المسجد الغربى ليخرج قناديل المآذن ووضع الشمعة التى فى يده فوق قفص أحد القناديل ونسى أنه ترك الشمعة فوق قفص القناديل ولما كان ذلك القفص قابلا للاحتراق فاحترق فجأة وانتقل الحريق إلى الأقفاص الأخرى للقناديل ومن هناك سرت النار إلى حصير المخزن ثم إلى سقف المسجد الشريف وتركت المسجد فى ظرف ساعة فى حالة أليمة من شدة الحريق واللهيب ، وأخبرت الإدارة الحكومية قبل أن تسرى النار إلى الأطراف فجاء أهل المدينة مع السادات والموظفين وبذلوا الجهود لإطفاء الحريق ولكن محاولاتهم ذهبت سدى فاحترق الحرم الشريف تماما ولم يمكن إخراج شىء من داخله.

ولم يصب الحريق المسجد النبوى وحده ، إذ كان فى ذلك التاريخ فوق صندوق قبر النبى صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة قطعة غطاء بعضها فوق بعض ومصاحف شريفة وكتب نفيسة وأشياء ذهبية ثمينة فاحترقت كلها فظهرت عظمة الأنوار الإلهية كالشعلة الملتهبة.

وقد وقع هذا الحريق بعد نار الحجاز المنذرة وكان هذا الحريق إشارة إلى ما ارتكبه الخوارج فى داخل مدينة الرسول وسوء عاقبة الذين يتصرفون خارج الآداب الشرعية هؤلاء الخوارج الذين فصلت أحوالهم وجرمهم وعرفت فى الصورة العاشرة من الوجهة الثالثة وفى الصورة العاشرة من الوجهة الأولى ، إذ

__________________

(١) اشتغل هذا الشخص قيما فترة ما.

(٢) ادعى بعض المؤرخين أن هذا الحريق وقع فى عام ٦٥٥ ولكن الحقيقة أنه وقع فى عام ٦٥٤.

٣٧

ظهر بعض الزنادقة عقب نار الحجاز المنذرة ، كما فصل فى الصور المذكورة ، وأحدثوا بدعا كثيرة خارج الأدب المشروع للشريعة الإسلامية.

وقد رأى أهل المدينة هذين البيتين قد كتبا عل جدران مسجد السعادة فملأهم خوفا ورهبة وخشية.

لم يحترق حرم النبى لحادث

يخشى عليه وما به من عار

لكنما أيدى الروافض لا مست

تلك الرسوم فطهّرت بالنار

إن البيتين اللذين رؤيا بعد الحريق على جدران مسجد السعادة يدلان على أن الروافض كانوا سببا فى الحريق بسلوكهم المشين إلا أن الأبيات الآتية التى ذكرت بعد الحريق ب ٦٥٠ سنة توضح أسباب الحريق فى صورة أكثر وضوحا.

وكان يقضى أن الروافض هم الذين يتحملون عذاب تلك النار ، فأفهمهم بطريقة ظريفة حكمة احتراق مسجد السعادة وقائل الأبيات محمد أبو الهدى الجالس على صدر ديوان الأدب وزينة مجمع البلغاء.

تجاوز فى المقام حدود شرع

أناس غافلون عن الإشاره

أراد الحق إعظاما لحقه

عقابهم فأرسل عز ناره

فقال بغيرة رب اهد قومى

فرد النار عنهم للحجاره

٣٨

ولم يبق فى الحريق المذكور غير القبة (١) التى أمر بصنعها الناصر لدين الله لحفظ لوازم مسجد السعادة ، فالصناديق التى كانت موجودة فى المخازن الموجودة فى خارج مسجد السعادة ، وفى الجهات الأخرى من مسجد السعادة احترقت كلها.

وكانت القبة التى بناها الناصر لدين الله فى وسط المسجد وكان فى داخل القبة المصحف الشريف العثمانى ، وبعض الصناديق الكبيرة التى صنعت فى السنة الثلاثمائة من الهجرة فنجت النصاديق المذكورة من النار بحرمة المصحف الشريف الذى كتبه حضرة عثمان بيده ، وبعد أن انطفأت النار تماما كانت الأعمدة التى ظلت فى الساحة تهتز كأنها أشجار النخيل وتتمايل على جهتين وقد ذاب الرصاص الذى فيها وأخذت تسقط على الأرض واحدة تلو الأخرى.

وكان بين هذه الأعمدة أعمدة لم يذب رصاصها ولم تقع إلا أنها تأثرت من صدمة وقوع الأعمدة الأخرى وأخذت تسقط واحدا تلو الآخر ولم يبق عمود يمسك سقف المسجد الشريف فوقع سقف المسجد الشريف فوق الحجرة المعطرة كما أن سقف الحجرة المعطرة وقع على مرقد النبى الجليل ، وفى اليوم الثانى نظف من ساحة المسجد الشريف المحترق ما يستوعب عدد مصلى صلاة الجمعة وأبلغ الأمر إلى المستعصم بالله بن المنتصر بالله البغدادى وبعثوا المحضر العمومى الذى كتبه الأهالى راجين من الخليفة سرعة تعمير المسجد.

وبعثت الأشياء اللازمة من قبل المستعصم من بغداد مع قافلة حجاج بغداد مع الأمر بسرعة الشروع فى تجديد البناء فبدئ فى إجراء عمليات البناء وفكروا فى تجديد حجرة السعادة أولا ورفع الردم الذى وقع فوق القبور الشريفة وتطهير

__________________

(١) وقد عمرت هذه القبة سنة ٥٧٦ وأطلق عليها اسم قبة الشمع ، فهدمها السلطان عبد المجيد وأضاف ساحتها لساحة حرم السعادة الرملية فى سنة ١٢٧٧ ه‍.

٣٩

داخل الحجرة المعطرة قدر الإمكان وفعلا فهذا ما كان يجب عمله ، ولأن سقف الحجرة المعطرة كان قد احترق ووقعت الحجارة والتراب وما يشبههما فوق القبور الشريفة ، ولكن مهابة القبور الشريفة والرهبة منها حالت دون ذلك ، فلم يتجرءوا عل تنفيذ ذلك ؛ ومن هنا اجتمع مجلس شورى برئاسة والى المدينة منيف بن شيخة بن هاشم بن قاسم بن مهنى الحسينى وقرر فى هذا المجلس بموافقة أكابر المدينة كتابة عريضة وإرسالها إلى بغداد لتبليغ الأمر إلى الخليفة ولما كان ذلك فى أثناء استيلاء التتار على بغداد لم يأخذوا أى رد فتركوا مسجد السعادة على حالته تلك.

لما كان الضمير لن يقبل ترك مسجد السعادة فى حالة خراب كما أن ورود الإذن بخصوص تعمير المسجد قد تأخر كثيرا فعمر ورمم سادات المدينة وعلماؤها وأعيانها جهات الحجرة المعطرة الثلاث تاركين الجهة الشامية ، وفهموا أن الحكومة البغدادية وموظفيها لن يستطيعوا تعمير مسجد السعادة لما ابتلوا بهجوم التتار فى المحرم الحرام من سنة ٦٥٦ ه‍ ، فراجعوا ملوك المسلمين الآخرين فى الأطراف ، وكانت تعميرات الأهالى لحجرة السعادة مقتصرة على تغطيتها فقط ، وقد بدئ فى هذا التعمير سنة ٦٥٥ ه‍ فصنعوا غطاء من قماش يسمى محايس يمنية وغطوا فوقها ، وكانت بطانة هذا الغطاء من قماش أزرق وكانت الستارة أربع قطع وكانت كل قطعة على شكل باب فضموا بعضها ببعض وألصقوها بلوحة خشبية مصنوعة من خشب يسمى الساج الهندى ولم تكن فى هذه اللوحة زينات ونقوش وكان اسم عاملها محكوكا عليها.

إن أول من استجاب لطلبات الأهالى لتجديد المسجد الشريف صاحب مصر المنصور نور الدين على بن الملك المعز عز الدين أيبك الصالحى وأرسل الأشياء اللازمة للبناء ، ثم وصلت اللوازم التى أرسلها صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور بن عمر بن رسول فقرر بناء مسجد السعادة من جديد وشرع فى العمل بناء على أمر صاحب مصر وإشعاره وبعد أن بنيت الجهة القبلية

٤٠