موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

شبكة الحجرة المعطرة اللطيفة كما سبق تعريفها ظلت بين القواعد والدعامات التى أنشئت لتشييد القبة الخضراء ولأجل ذلك فرؤية هذه الجدران غير ممكنة.

وبناء على ما فهم من هذا التفصيل فالقبة الخضراء التى تشاهد من خارج المسجد الشريف هى تلك القبة التى تطلق عليها القبة الخضراء فهى قبة خضراء كبيرة فوق قبة الحجرة التى تقع فوق مربع قبر السعادة ، وكما سيبين فيما بعد أن القفص المصنوع من السلك الذى يغطى المربع المقدس تحته قبة صغيرة وهذه القبة فوق مرقد السعادة وتعرف باسم قبة الحجرة.

وكان داخل الجدران الأربعة المتصلة والذى يقال له مربع القبر الشريف كان فى الأصل دار أمنا السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ فنعوش صاحب الشريعة ـ عليه أكمل التحية ـ وأبو بكر الصديق وعمر الفاروق ـ رضى الله عنهما ـ مدفونة فى داخل هذا المكان السعيد.

قد زينت الأطراف الأربعة لمربع القبر الشريف بالأغطية الغالية التى أرسلها السلاطين العثمانيون خاصة للحجرة المعطرة ، لهذا ليس هناك من رأى ظهر مربع قبر السعادة فى الأزمنة القريبة ، ويرددون أن هذا المحل مستور بقفص مصنوع من الأسلاك وظهر هذا القفص الجهة الداخلية للقبة الخضراء التى ذكرت ، ويدخل شعاع الشمس من نافذة قبة النور التى تقع فى الناحية القبلية من هذه القبة ، فينير سواء أكان داخل مربع القبر الشريف أو جدرانه وما بين القفص الذى يطلق عليه شبكة السعادة.

ليس فى زماننا من رأى داخل مربع قبر السعادة ، يعنى داخل الجدار الذى يحيط بأطراف القبور الثلاثة ، وإن كان للمربع المقدس فى جهة السعادة نافذة صغيرة ، ومن الواضح أن من ينظرون من هذه النافذة الصغيرة يستطيعون أن يروا داخل مربع القبر الشريف إلا أن من رعاية شروط الأدب عدم النظر إلى داخل المربع ولأجل ذلك لا يمكنهم أن يجيلوا أنظارهم فى داخل المربع ، ويجرى

١٤١

أهالى المدينة رسم الولادة كما عرف فى الصورة الثالثة من الوجهة الثالثة ، بأن يلقوا أولادهم حديثى العهد فى داخل هذه النافذة.

كان قد أخرجت خلال سنة ٥٥٤ من داخل مربع قبر السعادة جيفة هرة متعفنة ، وبناء على الظن القوى أن تلك الهرة قد دخلت من تلك النافذة ولم تستطع الخروج فهلكت وتعفنت وحتى يزال أثر تعفن الجيفة الكريه قد ترك فى داخل المربع الشريف من تلك النافذة خشب شجرة الصندل الذى نقع بدهن الورد وهذه القصة تروى بين الأهالى بسند قريب من الصحة ، حتى إن تعطير الحجرة المعطرة على هذا المنوال قد أخذ صفة العادة.

حتى إنهم فى زماننا ـ كما سبق تعريفه فى المكان الخاص ـ يعطرون نشارة كافية من شجرة الصندل بدهن الورد ويلقونها فى يوم معين داخل مربع قبر السعادة من تلك النافذة ، وبعد سنة يستردون القديم ويضعون الجديد ويقتسمون القديم فيما بينهم ، ومع ذلك فسواء عند استرجاع نشارة الصندل أو إلقائها لا يدققون النظر إلى داخل حجرة السعادة ، وهذه الشبكة أى القفص الحديدى الذى يحيط بمربع قبر السعادة من جوانبه الأربعة يطلق عليه شبكة السعادة ، ويقال لداخل هذه الشبكة الحجرة المعطرة ، وينال الزوار الكرام مرامهم بزيارة قبر السعادة من خارج هذه الشبكة (١).

بعض تفصيلات مهمة :

لما جاء الدور لتعمير قباب الروضة المطهرة صنعت ستارة خشبية عارضة فوق الأعمدة التى بين حدود الحجرة المعطرة والروضة المطهرة حتى لا يسقط تراب ولا تقع حالات تؤدى إلى عدم الرعاية والاحترام ، ولم يحدث أن هتك العمال الذين يشتغلون فى هذا المكان ستارة الاحترام والأدب ، فيعمل العمال فوق الستارة الممدودة بكل وقار وهدوء وينهمك العباد الذين فى داخل الروضة المطهرة فى

__________________

(١) وإن كان الزوار المتصفون بالجراءة يزورون الحجرة بالواسطة من داخلها إلا أن زيارتها من الخارج أولى تأدبا.

١٤٢

عبادتهم وطاعتهم دون إحداث ضجة حتى الهمسة ما كانت تسمع حتى يظن أن فوق الستارة الخشبية لا يوجد عمال يعملون ، ابتداء من الأعمدة التى فى الصف الثالث التى توجد فى الحدود الأصلية لمسجد النبى من ناحية الشام إلى أسطوانة الوفود ، وفى الجهة الغربية من المسجد الثانية من المنبر النبوى وباعتبار ما بين الأسطوانتين الواقعتين فى جهة الجنوب ومن الجدار القبلى.

وسواء هاتين الأسطوانتين أو الأساطين الشريفة الأخرى إلى أنصافها كانت مزينة بألوان بيضاء وحمراء ومحلاة بذهب خالص ومذهبة وكانت هذه من آثار السلطان سليم بن السلطان عبد الحميد خان المبرورة قد أبقيت كما هى وغيرت زخارفها ، ومن تلك الأساطين ما تكسّرت قطع رخامها بشكل لا يمكن ترميمها وقد صنعت جيدا وحتى يعرف أنها كانت مرممة كالأساطين الأخرى قد نقشت عليها رسوم الرخام باللون الأبيض والأحمر ، وشبهت بالأخرى وجميع الأعمدة التى فى الجهة الشرقية من الأعمدة الملاصقة لشبكة المنبر المنير وتحت المنبر الشريف المذكور بنى هذه الأساطين إلى السقوف التى أمام الروضة المطهرة كلها وقد جددت قطع رخامها ، ولكن قطع رخام الأعمدة التى بين مواجهة السعادة وحول الحجرة اللطيفة لم تغير ، على أنها علامة لازمة لحدود الروضة المطهرة من الجهة الشمالية ، وأصلح ورمم بعض أماكنها ، وبهذا قد حفظ حكم الحديث الشريف الذى يقول : «ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة» والأسطوانات التى سطرت عليها قصيدة السلطان سليم بن عبد الحميد خان والتى سبق ذكرها فى موضوع الأساطين كانت ضمن الأساطين المذكورة التى بقيت كلها على حالاتها القديمة وغيرت زخارفها وخطوطها فقط.

وبينما كان يحفر أسس أسطوانة السرير فى محاذاة رأس السعادة وأسطوانة التوبة ظهر ماء عذب لطيف ، ولما كان لهذا الماء رائحة طيبة أخذ منه أكثر الأهالى وتبركوا به وأرسلوا منه إلى أهالى البلاد الأخرى ، قد انهمك الأهالى بتدبير

١٤٣

الأوانى والزوارق لأخذ الماء ولما وصل صياحهم إلى قدر هتك ستارة الأدب فألقى الأساس رأسا حفظت حرمة المسجد.

وبينما كانت أسس هذه الأسطوانات والأسطوانات الأخرى تحفر وتفتح نثر البخور ، وأحرقت أقراص الطيب وأنواع أخرى من الطيب ، فى نقط وضع الأساطين ، وحينما كان يحفر أساس الأسطوانة التى فى ركن الجهة الغربية القبلية للشبكة التى تحيط بالحجرة المعطرة ظهرت بئر تنزل إليها بسلم ذات تسع درجات وكان ارتفاع وعرض كل درجة شبرا واحدا ، وكان وليد بن عبد الملك قد حفرها للسيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنها ـ فى دار عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ ويلزم أن تكون هذه البئر مخرج الطريق الذى سده موظفو السلطان قايتباى حتى يمنعوا اختلاط الرجال بالنساء ، وكان عمر بن عبدا لعزيز قد أخذ بأمر الوليد بن عبد الملك دار أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنهما ـ التى كانت فى الجهة القبلية من دار عائشة ـ رضى الله عنها ـ وأعطى لها فيما بعد فى مقابلها الدار التى يطلق عليها دار عمر بن عبد الله (١).

وكان قد فتح لهذه الدار طريقا إلى مسجد النبى ، ظل ذلك الطريق مفتوحا إلى الوقت الذى زار فيه الخليفة المهدى المدينة المنورة ولكن موظفى الحكومة لم يستصوبوا ذهاب المهدى من هذا الطريق إلى مسجد السعادة لأسباب خفية ، فسدوا الباب الذى يؤدى إلى المسجد ، وفتحوا طريقا من دار عبد الله بن عمر من تحت الأرض حتى شبكة السعادة حتى يدخل المهدى فى داخل المقصورة دون أن يراه أحد ، وهذا هو الطريق الذى نتحدث عنه ، وقد ذهب المؤرخون إلى أن فى مخرج الطريق الذى فتح ثلاث درجات وأطالوا فى تعريف هذا الموضوع.

ولما كان عدد الدرجات التى ظهرت تسع كما حرر من قبل فيصل خطأ رأى

__________________

(١) وسبب تسمية هذه الدار بدار عبد الله بن عمر انتقالها من السيدة حفصة إلى عبد الله بن عمر والدار المسعودة المعروفة اليوم بديار عشرة أقيمت على أرض تلك الدار.

١٤٤

المؤرخين إلى درجة الثبوت ، حتى إن مقدار ذراع ونصف ذراع من مخرج الطريق الذى ظهر مليا ، ولما كان محتملا أن يكون فى هذا المكان ثلاث أو أربع درجات يقتضى أن يكون مخرج ذلك الطريق ثلاث عشرة درجة ، وبعد زيارة الخليفة المهدى بعدة عصور أصبحت زيارة حجرة السعادة بهذه الطريقة عادة ، ولكن فيما بعد حدثت أشياء منكرة ولم تراع الأدب والحرمة فسد باب المخرج الذى فى داخل شبكة السعادة فى سنة ٨٨٤ وهكذا أنهيت تلك الأحوال المنكرة.

بينما كانت نوافذ الجدار القبلى لقبة المحراب العثمانى تجدد على حالتها القديمة أضيف عقد كبير لتدعيمه وجددت الأعمدة التى تحمل القبة بحجر أحمر ووسعت الجهة العليا من القبة وفتح على أطرافها صفان من النوافذ إحداها فوق الأخرى ، وجعلوا أعالى النوافذ مقوسة فظهرت على شكل فى غاية الحسن والجمال ، وحتى يقووا ويدعموا القبة التى فوق مواجهة السعادة ركزوا فى الجهة الشرقية من القبة العثمانية أسطوانتين كبيرتين مصنوعتين من الحجر الأحمر مثل الأساطين الموجودة حول الحجرة المعطرة ، والقبة العثمانية الجميلة أكبر وأوسع وأكثر زينة من جميع قباب مسجد السعادة ما عدا القبة الكبيرة الخضراء التى تعلو على القبة الصغيرة التى فوق الحجرة المعطرة وقد أسست أول مرة فى عهد السلطان قايتباى عقب الحريق الثانى ، وإن كان رمم وأصلح بعض جهاتها فى عهد السلطان محمد بن إبراهيم خان ـ عليهما الرحمة والغفران ـ ولكنها سقطت فى سنة ١١٤٧ وانهارت فجددت فى عصر السلطان محمد بن مصطفى بن السلطان محمد خان سنة ١١٤٨ لعدم حرمان هذا المكان من جماعة الصف الأول ، بدون أن يركز أعمدة فى الجهة القبلية من الجدار مكتفيا بالعقود الملقاة على الجدار المذكور.

وقد خالف محمد راشد أفندى آمال الأهالى وأفكارهم حيث ركز أربعة أعمدة بجانب باب السلام ، وبما أن نقاط هذه الأعمدة قد حرمت من شرف أداء الصلاة

١٤٥

فيها طلب إزالتها ، ولكن رفع هذه الأعمدة وإزالتها كانت تحتاج لنفقات كبيرة وهذا العمل سيؤدى إلى إضرار خزانة الدولة كما أنها لو أبقيت لن تصيب زينة المبانى المقدسة ورزانتها بعيب أو نقص فلم يمسوها ، كما أبقت هيئة الشورى الأسطوانة التى تكون فى الجهة اليسرى للصاعدين على المئذنة الرئيسية ، على أنها من جملة الأساطين القديمة مع أن رفع هذه الأسطوانة كان أولى. انتهى.

وبعد ما تمت عمليات الأبنية العالية بكل مشتملاتها ومتفرعاتها ، كتبت جميع الكتابات التى كانت فوق طلاء داخل القباب وداخل الجدار القبلى باهر الأنوار كما سبق ذكره فى مكانه ، وزيّن ذلك المقام العالى مرة أخرى ، وكانت الخطوط المنقوشة من آثار قلم زهدى أفندى (١) من سلالة تميم الدارى ـ رضى الله عنه ـ من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم ومن تلاميذ رئيس العلماء الحاج مصطفى عزت المشهورين ، وهى آثار لم يشهد لها مثيل.

وأراد السلطان الغازى عبد المجيد خان أن يحتفظ بصورة مصغرة لما كتب لهيئة مسجد النبى القديمة فى جامع خرقة السعادة ، لذلك أمر بصنع هيكل مجسم لمسجد النبى حينما أمر بتجديده ، وقد عهد بهذا الأمر واجب الامتثال وإجراء مضمونه إلى البكباشى الرسام الحاج عزت (٢) أفندى من أعضاء مدرسة الهندسة البحرية السلطانية.

كما وجه إليه هندسة المبانى المقدسة العالية وأرسل إلى المدينة المنورة.

وعندما وصل عزت أفندى إلى المدينة المنورة دار السكينة قاس مساحة الحجرة المعطرة إلى أن وصل إلى جدار الضريح من الداخل والخارج أو حرم السعادة بدقة شديدة وبعد ذلك صنع تمثالا هيكليا من الخشب وأرسله إلى باب السعادة سنة ١٢٦٨ ، وقد نال ذلك الهيكل القبول الحسن وحسن التقدير وبناء على الأمر

__________________

(١) استطاع زهدى أفندى كتابة هذه الخطوط خلال ثلاثة أشهر.

(٢) عزت أفندى أخو القائم مقام شكرى بك مدرس رسم بمدرسة البحرية السلطانية.

١٤٦

السلطانى نقل إلى جامع خرقة السعادة بجانب جامع على باشا القديم ، ووضع فى مقصورة المؤذنين ومازال محفوظا فى صندوق زجاجى.

وذلك المعبد من جملة الخيرات الجليلة للسلطان المذكور المشار إليه ، وكان ذلك الهيكل نفس المسجد النبوى الذى يخدمه الملائكة بشكله القديم ، وكانت مساحته الطولية جزءا من خمسين جزء منه (١) ، ويروى أن نحته الخشبى قد صنع من قبل الحافظ الحاج على (٢) أفندى الذى وجد فى قطعة الحجاز المقدسة سنة ١٢٦٧ ه‍ وهو صاحب ألف فن.

ولما كان هذا التمثال يشبه أصله مشابهة تامة نوصى أصحاب الإخلاص والمحبة برؤيته فالنظر إليه ومشاهدته يشبهان زيارة مسجد المدينة الشريف ، وفى هذا النموذج بناء على ما تم عده وبناء على قيده وكتابته فى التواريخ القديمة (٣٠) قبة فى الجهة الغربية و (٢٢) فى الشمال و (٦٨) فى الشرق (٣٤) فى الجهة الجنوبية و (٥٩) فى الجهة الغربية من الحجرة المعطرة وكانت جميع قباب مسجد السعادة قبل تجديده (٢١٣) قبة متناسقة ، وقد صنع (١٨٣) قبة فى سنة ٨٦٨ ه‍ من قبل السلطان قايتباى المصرى ، كما أن (٤٩) قبة منها صنعت من قبل السلطان مراد خان الرابع ، وقد زين السلطان قايتباى مبانى المسجد النبوى الشريف من جهاته الأربعة دائرا ما دار بالقباب المنيرة والسقف الملاصق للقباب سالفة الذكر والقباب التى فى مؤخرة حرم السعادة رعاية للهيئة القديمة الأصلية مكشوفا وفرشه بالرمل الأحمر ، ولما احتاج السقف الذى أنشأه السلطان قايتباى فى عهد السلطان مراد خان الرابع إلى التعمير هدم هذا السقف واستصوب تحويله إلى قباب كسائر الجهات ، ودرست الكيفية فى الاجتماع الذى عقد من علماء المدينة وأصبحت موضع البحث وقرر تجديد النصف الشامى من ذلك السقف على حاله

__________________

(١) لما كان هذا الجزء بمقياس الذراع المعمارى فإن الذراع الواحد من التمثال الهيكل يساوى ثلاثة وخمسين ذراعا من سطح المسجد النبوى اللطيف.

(٢) كان هذا الشخص من خدمة السلطان محمود خان الثانى وأحيل إلى التقاعد لكبر سنه فى فترة ما ، وبعد ذلك عين معلما فى المدرسة التى أنشأها مصطفى أفندى قريبا من شهر أمين مضافة إلى حى يايلاق بجانب جامع إبراهيم جاوش ، ومازال موجودا وليس له مثيل فى فن النحت الخشبى.

١٤٧

وتحويل النصف الثانى من القبلى إلى القباب لما فى ذلك من محسنات ، وقد عرضت المذاكرات السابقة على مقام الخلافة وقد وافق العرض للأفكار السلطانية وأرسل مع الموظف إلى المدينة عددا من العمال المهرة حيث يتم إجراء الأمور على وجه السرعة فهدمت السقوف المذكورة وبنى على النصف القبلى ثلاثين عددا من القباب العالية وعلى النصف الثانى من الشامى وهى الجهة الرملية ، بنى سقفا جديدا لطيفا.

وكانت السقوف التى صنعت فى عهد السلطان مراد الرابع (١٩٥) والمساحة الرملية التى تركت مكشوفة فى عهد السلطان قايتباى المصرى (٣٨٢٥) ذراعا معماريا مربعا ، وبناء على هذا الحساب أن غير (٤٠٢٠) ذراعا معماريا من الساحات قد أخذت كلها تحت السقوف والقباب ، بالقرب إلى سنة ١٢٧٧ ه‍ قد أمر السلطان عبد المجيد خان بأن تحول السقوف والقباب التى صنعت فى عهد السلطان مراد خان إلى أبنية حجرية وتشيد وتقوى المبانى المقدسة فى صورة لائقة كما أرى فى خريطة تجديد حرم السعادة وهيئته القديمة ، وبناء على ما جاء فى خريطة هدم السقف سالف البيان بنى مكانه تسع عشرة قبة لطيفة إحداها أبيض اللون وكبيرة وثمان وعشرين منها مستديرة وأصغر من الأولى وحول جميع القباب الأخرى إلى بناء حجرى وبذل جهودا جبارة لتشيد مبانى حرم السعادة على الوجه المطلوب ، وبلغ عدد قباب المسجد النبوى إلى (٢٤٢) قبة وعدد أساطين المسجد إلى (٤٢٣) أسطوانة مع أساطين مؤخرة حرم السعادة ، إذ كان داخل حرم السعادة وخارجه (٤٢٣) عمود وكان (٣١٣) منها غير قابل للاستخدام وفى حاجة قصوى إلى التعمير بعد هدمها ، وقد هدم منها مائة وعشر أعمدة وجددت وعمر (٣١٣) منها وشيدت ، وقد رصنت جميع الجهات الأربعة للجدران والأساطين والقباب العالية بأحجار منحوتة ، وأمن جميع جهاته قبل أن يتطرق إليها الخطأ والخلل وكذلك جميع مشتملاته وفروعه.

ألا فليحفظه الله من جميع الآفات السماوية والأرضية ، وقد عمر مسجد

١٤٨

السعادة بطريقة متينة ، لم تبق جميع جهاته بدون تعمير عدة قرون فلن يتعرض للمخاطر.

وسيظل مصونا بدون شك حتى إذا قضى الموجودون من الفرقة المنجية الإسلامية عمرهم كله تاركين أعمالهم ، الشكر والثناء على ما قام به السلطان عبد المجيد خان من الخدمات ما أوفوا بحقه.

وما أعظم الخدمات التى أسداها هذا السلطان للمسجد النبوى الشريف وما أعظم ما أنفقه من النقود ، فما بذله من السعى والجهد إلى أيامنا هذه يفوق بكثير ما بذله ملوك بنى أمية.

وعندما تمت عمليات أبنية السعادة وأصبحت رهن الختام فى سنة ١٢٧٧ ه‍ فى أواخر ربيع الأول ولم يبق إلا أشياء صغيرة تافهة ، وأماكن محدودة للمفتين والمجاورين أولم أحمد أسعد أفندى وليمة للأهالى فى الجبل الأحمر ، وكانت وليمة عظيمة حضرها موظفو الحكومة وأكابر البلاد والعلماء والأغنياء ومالا يحصى من الفقراء والمساكين ، وتليت منقبة مولد السعادة وعلق على المحجر لوحة كتبت عليها عبارة : «قد أخرج من هنا الأحجار التى احتيج إليها لتجديد حرم السعادة.

وقد وقع تحت النظر فى دفتر إجمال النفقات أنه قد أنفق لتعميرات الأبنية العالية والإنشاءات الجليلة سبعمائة ألف قطعة من الذهب المجيدى وكل قطعة تساوى مائة قرش ومائة وأربعين ألفا من الصرر والدراهم ، كما أن ما أرسل من باب السعادة من الألواح الخشبية والحديد والقصدير ، والنحاس وأشياء ثقيلة أخرى كان خارج هذا الحساب ، وقد استخدم فى العمل يوميا ثلاثة وخمسين عاملا ما عدا الموظفين والكتبة والمهندسين والمباشرين ، وهذا التوفيق الخارق للعادة من آثار والد السلطان الكثير المحامد السلطان عبد المجيد خان المشكورة والجميلة.

وما زال أهالى البلاد الحجازية يقدسون روح السلطان المشار إليه ويعرضون

١٤٩

شكرهم وثناءهم عليه فى كل آن وساعة كما أنهم يذكرون بكل خير عريانى زاده أحمد أسعد أفندى الذى بذل جهودا مشكورة فى سرعة إنجاز عمليات الإنشاء والتعمير.

ولم يقتنع السلطان عبد المجيد خان بتوفيقه فى إحياء وتعمير حرم السعادة ، فقد هدم مدرسة بشير أغا التى أشرفت على الخراب من أساسها بنى مكانها سبيلا فى سنة ١٢٦٢ ه‍ ، كما طهر البالوعات التى حول حرم السعادة وأصلح الأرصفة ونظفها فأنقذ أطراف المسجد الأربعة من القذارة والتعفن وأرسل مقدارا كافيا من السجاجيد لفرشها فى حرم السعادة وأرسل قطعتين من الشمعدانات الكبيرة فى ناحية المحراب العثمانى وأضاء تلك النواحى السعيدة مثل جهات المسجد الأخرى ، وقد كانت جهات المحراب العثمانى فى تلك الأوقات خالية من الشمعدانات وكانت جماعات المسلمين من قبل يؤدون صلواتهم فى الظلام.

وبناء على ما كتب فى مرآة مكة ، قد عمر السلطان عبد المجيد وجدد سور مقبرة المعلا ، والأساطين التى أشرفت على الخراب فى المسجد الحرام ، وجدار الحطيم الشريف ومسجد الخيف ومسجد الطائف ومرقد الطاهر ابن الرسول ، ومحمد بن الحنفية ابن حيدر وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم ، ومولد الصديق الأكبر ومولد على بن أبى طالب ودار مولد النبى السعيدة ودار الخيزران ومولد حمزة وبركة اليمانى ومرقد الشيخ محمود ، وقباب مقبرة الشهداء ومذبح إسماعيل وضريح ميمونة رضى الله عنها.

١٥٠

للأمر السلطانى الذى صدر متضمّنا

كيفية إعمار الأبنية العالية

إلى الدستور المكرم ، والمشير المفخم ، نظام العالم مدبر أمور الجمهور بالفكر الثاقب ومتم مهام الأنام بالرأى الصائب ، ممهد بنيان الدولة والإقبال ، مشيد أركان السعادة والإجلال المحفوف بصنوف عواطف الملأ الأعلى ، من مشيرى الجنود النظامية السلطانية شيخ الحرم النبوى الحائز على الوسام المجيدى السلطانى من الطبقة الأولى وزيرى طوسون باشا ـ أدام الله تعالى إجلاله.

وإلى المختص بمزيد عناية الملك الدائم ، من رجال دولتى المتميزين ومدير المدينة المنورة والحائز الوسام المذكور من الدرجة الثانية وحامله ، وفخر الأمراء الكرام ، معتمد الكبراء الفخام ، ذو القدر والاحترام ، صاحب العزة والاحتشام المختص بمزيد عناية الملك الأعلى ، من كرام أمير أمرائى موظف الأبنية العالية أدهم باشا ، دام إقباله.

وإلى أقضى قضاة المسلمين والى ولاة الموحدين ، معدن الفضل واليقين ، رافع الأعلام الشريفة والدين ، وارث علوم الأنبياء والمرسلين ، المختص بمزيد عناية الملك المعين ، مولانا قاضى المدينة المنورة ـ زيدت فضائله ـ.

فليكن فى علمكم عندما يصل فرمانى الرفيع الشأن ، أن الحاج محمد راشد ـ دام علوه ـ وهو من أعضاء دار الشورى العسكريين ومن رجال دولتى الممتازين ، افتخار الأعالى والأعاظم كان قد أرسل إلى المدينة المنورة بمهمة تفتيش وتحقيق التعميرات التى تجرى فى ممسح جباه الموحدين الحرم النبوى الشريف فعاد من هناك بمعلومات جديدة وآراء محلية ومضابط وخرائط والأوراق الأخرى فمن مقتضى الأمر الملكى أن يدرس هذا الموضوع بناء على ما استجد من المعلومات

١٥١

وليدرس ويذاكر فى مجلس خاص للوزراء علما بأن هذه التعميرات الجليلة تنقسم إلى قسمين :

الأول : مؤخرة الحرم الشريف ومتفرعاته.

الثانى : تعمير مشتملات داخل الحرم الشريف.

وبما أن كيفية تجديد مؤخرة حرم السعادة وتعميره قررت حتى إن أكثر عملياته قد ختمت على أحسن وجه كما أكمل بعض مشتملاته وتفرعاته كما قرر بالاتفاق العام ، فى محله أن تنشأ آثار قايتباى الملتصقة بآخر الحرم الشريف على الهيئة الجديدة إلى القباب التى أنشئت حديثا فى محاذاة باب الرحمة.

والآن فموضوع البحث هى المسألة الثانية ، قضية كيفية تعمير القباب والسقوف والأساطين التى تحمل تلك السقوف ، وبناء على الكشف والتحقيقات فالسقوف المذكورة مصنوعة من الخشب والأساطين التى تحتها صنعت من حجارة صغيرة أخذت فى التفتت والتجرد فربطت بدعامات حديدية ، وبعضها مال للانحراف فاتفق على لزوم تجديدها وتعميرها فى محلها وبناء على هذا الاتفاق حدث مسوغ شرعى ، ولكن الجانب الجدير بالتدقيق فى هذا البحث والذى أدى إلى الاختلاف والنزاع فى محله مسألة تغير هيئتها القديمة أو عدم تغيرها ، والمهم أن يعرف لهذا الموضوع الحكم الشرعى الصحيح ، وحتى ندقق النظر فيما أورد من الدلائل النقلية والعقلية بموجب الشرع الشريف وتعرف أهميتها للمصلحة العامة أمرت بتشكيل مجلس خاص يتكون من فحول العلماء وبعض الوزراء فى دار الإفتاء ، وبعد معاينة الأوراق والمضابط والخريطة التى أرسلت من المدينة ، وتدقيق النظر فيها كلها وصلوا إلى قرار وهو أنه يمكن تقليل عدد الأساطين وتغيير أماكنها وتعديلها لتوسيع أماكن الصلاة ولإحداث تناسق بين الأساطين وقدموا أدلتهم وحججهم وإن كانت كل هذه الأدلة لا بأس بها ، وبهذا يمكن أن يوسع داخل الحرم الشريف لدرجة ما ، ويتناسق مع مؤخرة الحرم الشريف الذى جدد على هيئة حديثة إلا أن هذه المواقع التى جددت فى مؤخرة حرم السعادة ، كان تجديدها

١٥٢

مبنيا على مسوغ شرعى صريح ، إلا أن داخل الحرم الشريف لا يمكن مقارنته بمؤخرة الحرم ، كما أن تعمير آثار قايتباى باتفاق وأجرى التجديد بناء على هذا بالاتفاق ، وبما أن داخل الحرم الشريف الأصلى من الآثار القديمة الجليلة ويتشرف بهيئته القديمة ، وإن مسألة التناسق والتناسب لن تكون لتحويل رسم وهيئة المسجد الحرام ، ولما كان عدد الأساطين التى تحتاج إلى التعمير والترميم مائة وبضعة وأربعين ، وأن ثمان منها من الآثار النبوية لا يجوز تغييرها وتبديلها قطعيا ، كما أن الأساطين التى ركزت فى داخل الحرم الشريف فى عهد أبى بكر الصديق وعمر الفاروق ـ رضى الله عنهما ـ زيدت باتفاق الصحابة فى توسيع المسجد فهى فى حكم الآثار ، فمثل هذه الآثار التى وجدت باتفاق الصحابة والتى لم يسم أى جانب من جوانبها فلا يجوز تغيير هيئات أماكنها لمجرد التوسيع والتنسيق ، وهذا من الأمور المسلمة ، وفى هذه الحالة فالأسطوانات التى ستجدد على طراز حديث ستكون عرضة للتغير وللتبديل فهى الأساطين التى أضافها وأنشأها السلطان مراد خان والسلطان قايتباى وتترك الأساطين الأخرى ، ومع تغيير هذه الأساطين وتحويل أماكنها فلن يحدث التناسق المنتظر.

ومع هذا فالقباب القديمة من آثار السلطان مراد قد وضعت فوق الأساطين التى كانت قائمة ولم يتصدّ أحد ، فى ذلك طالبا تغيير رسم وأماكن تلك الأساطين ، والتوسيع المرغوب حدث منسوبا إلى اسمى ، وبإنشاء المواقع والقباب الجديدة حاليا ، وبناء على الأقوال الموثوقة وإن كان بين هذه الأساطين ما يحتاج للتجديد ، ولكن بعض ما انحرف منها وبعض ما احتاج للتعمير الجزئى منها ، فلا يلزم تجديدها فمثل تلك الأساطين ترمم وتسوى فى أماكنها على هيئاتها القائمة ، بحيث تقوى على حمل القباب الحجرية التى ستوضع عليها ، وبما أن الأساطين الموجودة فى المسجد مبنية بحجارة سوداء فمن المستحسن أن تنشأ ما يراد تجديدها من الحجارة السوداء حتى تشبهها ، وعند تعمير الأساطين التى غلفت بقطع الرخام تغطى أيضا بالرخام بعد تعميرها ، ولما كان معظم قباب السلطان مراد سليمة والأساطين المحتاجة للتعمير لا تتجاوز ثمانية أساطين أو عشرة ، ولما كانت

١٥٣

بعض أماكن المسجد النبوى قبابا حجرية وكان أكبرها سقوفا خشبية احتاجت إلى التعمير وستعمر على هيئة القباب الحجرية ، وبهذا ستجنب المخاطر مثل الحرائق وغيرها ، وعلى هذا لن يكون هناك أى مسوغ لتغيير أماكن هذه الأساطين أو تقليل عددها أو تغيير الآثار المباركة بها ، وبناء على هذه التفصيلات المشروحة رجح الرأى القائل بتجديد وتعمير ما فى داخل حرم السعادة فى مكانه وعلى هيئته وشكله القائمين ، وعلى هذا تعين إجراء العمليات كما تبين من الواقع ، ويشرع فى العمل من بين باب الرحمة وبين باب السلام ومن بين باب السلام إلى ما بين المئذنة الرئيسية ، وبما أن المحراب العثمانى وسقوفه قد كشف أولا فمن الأهمية تجديد القبة العثمانية ، وإنشاء ما بين دكة الأغوات إلى باب الرحمة ، وتعمير القباب الجديدة وتشييدها وإحكامها والأبنية العالية كذلك والتى تقرر إنشاءها بناء على المسوغ الشرعى وتوسيع الأماكن التى يمكن توسيعها والتى قد وضعت أسسها لن تخلو من الحسنات وإتمام بناء تلك الأماكن وفق كشوفها ، وبما أن الجدار الكبير الذى يبدأ من المئذنة الرئيسية وينتهى عند باب السلام قد ظهر ميله وانحرافه فليزال ويجدد ويعمر على الوجه المطلوب ، وبما أنه لا يجوز وضع الأنقاض المختلفة من عمليات التعمير والترميم والأحجار المكسرة التى ستخلّف من تعمير وتجديد الأساطين فى أماكن غير مناسبة فمن الأجدر أن تستخدم فى بناء الجدران العادية من الحرم الشريف أو فى مثل هذه الأشياء ، ولما كانت حجارة المكان الذى بين شبكة السعادة والحجارة المفروشة ، والستارة قد تزحزحت من أماكنها ، يجب أن توضع فى أماكنها بدون إحداث أى تغير ، وقد نبه مرارا على ألا يرفع أحد صوته فى أثناء العمل وألا يأتى بحركة مخلة للآداب ، وأن يظهر أقصى ما يمكن للإنسان أن يقوم به من توقير وحرمة للمكان ، وقد جاء ذكر كل هذه الأشياء فى المجلس الخاص وقيدت فى مضبطة.

ولما كانت هذه التعليمات الشرعية الدقيقة التى بحثت ستؤدى فى الآخر إلى عدم تغيير ما لا يراد تغيير هيئته الحالية من جهة وأن تتحقق قضية المتانة والرصانة

١٥٤

من جهة أخرى ، يجب أن تنفذ العملية وفقا لما سبق شرحه وذكره ، وأن تحفظ الأشياء التى ستصرف للأبنية العالية من التلف والسرقات ، وأن يراعى حسن معاملة العمال المستخدمين ، وأن تشكل هيئة مؤقتة من الموظفين الموجودين والمهندسين ورؤساء الحجارين للإشراف على أمور الإنشاء والتعمير.

وقد تقرر فى مجلس الوزراء الخاص أن يعمل أعضاء تلك اللجنة المكونة وفقا لما جاء فى اللائحة التنظيمية لسير العمل ، وعرض هذا الأمر على ذاتى السلطانية بعد الاستئذان ، فتعلقت إرادتى السلطانية على أن ينفذ ما جاء فى قرار مجلس الوزراء الخاص وصدر أمرى هذا إعلاما وتنبيها وتقييدا من ديوانى السلطانى وقد ذيلت اللائحة المنظمة بختم أعضاء المجلس الأعلى ، وصدق من مقام الصدارة العظمى ، ثم أرسلت فرمان بأمرى السلطانى.

والآن وأنتم شيخ الحرم ومدير المبانى العالية وموظفىّ الذين أثق فيهم فلتعلموا ، أن كل أملى وأقصى مناى أن تعملوا على إتمام بناء ذلك المكان المبارك السامى رصينا متينا واسعا! بحيث يسر الروح النبوى ، ولن يتحقق هذا إلا باتباع ما جاء فى فرمانى هذا وألا تجيزوا أبدا تغيير هيئات الأساطين أو تبديل أماكنها لأن هيئتها وأشكالها القديمة مما يتشرف بها ، وأن يبذل كل ما فى طاقة الإنسان من إظهار الاحترام والتوقير لإسعاد روح النبى صلى الله عليه وسلم وأن تعملوا على إجراء التعميرات وفق القرار الذى ذكر عاليه ، وأن تحرص أن تتحرك وفق ما جاء فى اللائحة التنظيمية وأن تتجنب وتتقى العمل خلاف القرار مغيرا لأحكام اللائحة التنظيمية ، لأن المخالفة ستؤدى إلى عدم رضا الله وإلى عدم إسعاد روح النبى صلى الله عليه وسلم فضلا عن المسئولية والندامة فى الدنيا والآخرة وسيخالف رضاى السلطانى من جميع الوجوه ، وعدم إظهار أى نوع من التكاسل والتراخى فى هذا الخصوص من مقتضى إرادتى الملكية القاطعة فأعد نفسك وفق ما جاء فى هذا الأمر واعمل على إتمام تعميرات هذا المكان الجليل بكل ما فى طاقتك من جهد وبذل وسعى ، فليكن هذا فى علمكم ، واعتمدوا على علامتى الشريفة.

تحريرا فى أوائل ذى الحجة الشريفة سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف سنة (١٢٧٣).

١٥٥

للفرمان العالى الذى صدر إلى عريانى

زاده أحمد سعد بن محمد أفندى بخصوص

تعينيه لمأمورية الأبنية العالية

إلى الدستور المكرم ، المشير المفخم ، نظام العالم ، مدبر أمور الجمهور بالفكر الثاقب ، متمم مهام الأنام بالرأى الصائب ، ممهد بنيان الدولة والإقبال ، مشيد أركان السعادة والجلال المحفوف بصنوف عواطف الملك الأعلى ، والحائز على وسامى المجيدى السلطانى من الدرجة الأولى والحامل حاليا لقب شيخ الحرم النبوى وزيرى المحب مصطفى (١) باشا أدام الله تعالى إجلاله ، وإلى أولى ولاة الموحدين ، معدن الفضل واليقين ، رافع أعلام الشريعة والدين ، وارث علوم الأنبياء والدين ، المختص بعناية الملك المعين ، وهو قاضى المدينة المنورة حاليا ، مولانا أسعد ـ زيدت فضائله ـ والذى عهد إليه فى هذه المرة مهمة إدارة مبانى الحرم النبوى العالية ، فليكن فى علمكم عندما يصل فرمانى بتوقيعى السلطانى الرفيع ، قد مات عمر جمال موظف الأبنية العالية للحرم النبوى توأم الجنة ولزم تعيين من يناسب فى مكانه ، وأنتم ذلك الشخص المناسب بما اتصف به من العفة والاستقامة والحكمة وبعد النظر وقد رئى تعيينك لوظيفة مأمورية الأبنية المباركة.

وبناء على ثقتى فيك واعتمادى على أمانتك قد صدر أمرى أن تظل فى المدينة المنورة حتى تكمل تعمير وتجديد الأبنية العالية بعد أن تنتهى مدة مهمتك الأولى ، وعليك أن تعمل بموجب هذا الأمر وأن تكمل تعمير الأبنية العالية وتجديدها على هيئة تسعد روح النبى صلى الله عليه وسلم وهذا هو الغاية ألزم بها ذاتى السلطانى ، وفى هذا الخصوص أن ترسلوا سريعا بموجب الكتابات التى أرسلت لكم من وزارة المالية

__________________

(١) إن هذا الشخص يعرف ب «اسكودارى» وقد أبلى بلاء حسنا فى تجديد الأبنية الشريفة.

١٥٦

حساب النفقات التى صرفت سواء أكان من قبل الموظفين المستقلين أو القائم مقامهم أو كلاهما وما استلموه مما أرسلت لهم الدولة ، والاطلاع على هذه الحسابات المستقلة والدفاتر اللازمة الموضحة لتلك الحسابات ، وأن يعامل المستخدمون من العمال بطريقة حسنة وأن يعطوا رواتبهم فى وقتها ، وأن يعملوا بكل خضوع وخشوع وأن يلزموا جانب الأدب والتعظيم والتوقير ، وأن يؤدوا صلاتى الظهر والعصر مع الجماعة وألا يلجئوا إلى طرق ملتوية للتنصل من العمل ، وعليك ألا تهمل ما يجب إتمامه من الأعمال المهمة حتى لا يتعطل العمل ، وأن تبذل كل جهدك بما عرف عنك من إخلاص فى العمل والحرص عليه ، وأن تعنى بأداء مهام وظيفتك متفقا مع شيخ الحرم المشار إليه ، وأن تحقق ما تنتظره منك ذاتى الملكية من المآثر العظيمة والفطانة ، وأن تبذل أقصى طاقتك ، وعندما تجزم بمضمون أمرى الشريف وأنت ذلك الشيخ المحترم للحرم الشريف عليك أن تنفذ إرادتى السنية الملكية ضاما جهودك مع الآخرين موحدين طاقاتكم وقد صدر أمرى هذا فليكن ذلك فى علمكم ، اعتمدوا على علامتى الخاصة.

حرر فى اليوم الخامس عشر من شهر صفر الخير سنة ست وسبعين ومائتين وألف (١٢٧٦) ه.

نريد أن نعقد هنا مقارنة فكرية بين الملوك العثمانيين وأسلافهم من الملوك من حيث نيتهم وأعمالهم متخذين ما أدوه من خدمات للحرمين الشريفين دليلا لذلك ، وقد ثبت لدى نظر التاريخ أن أكثر من خدم الحرمين الشريفين هم : أمراء بنى أمية وخلفاء بغداد ، وملوك الشراكسة ، وإن كانت خدمات هؤلاء لا تقارن بالخدمات المشكورة التى أداها السلاطين العثمانيون محبو الخير والبر ، لو لم تكن خدمات هؤلاء تنطوى على أغراض نفسيه لكانت خدماتهم أيضا موضع الشكر والثناء ، ولكن لأشد الأسف ما أدوه من خدمات لم تساو شيئا لأنهم أخافوا أهل الحرمين وروعوهم ، وربما يكونوا قد خدموا الحرمين رئاء الناس ، وكان وليد بن عبد الملك أكثر بنى أمية خدمة لآثار الحرمين الجليلين ، ولما كان فكره غير صائب ونيته غير خالصة فإن كل ما أنفقه من النقود فى هذا السبيل كانت لتحقير

١٥٧

الأحفاد المصطفوية والأولاد المرتضوية وإجراء خبثه فيهم بما كان يضمره ، وبناء على ذلك هدم حجرات زوجات النبى صلى الله عليه وسلم وخربها ، وأخرج أولاد أحفاد السبطين من منازلهم مرتكبا فى حقهم من الإهانات التى لا تليق حتى بالأعداء وجعل سادات المدينة وأعيانها يتجرعون الدماء وحقر زاهدا عابدا مثل عمر بن عبد العزيز بأن عز له من وظيفته.

وكان منصور العباسى أعظم من خدم البلدتين المذكورتين ، وكان قد أمر بتهيئة مصلب فى البلد الآمن المنجى الذى قيل عنه «ومن دخله كان آمنا» لسفيان بن سعيد الثورى لمجرد إسماعه الحق ، وساق كثيرين من الذرية المحمدية من المدينة المنورة مقيدين مكبلين إلى بغداد وتجرأ على إعدامهم وإتلافهم فى صورة شنيعة ملعونة ، وسار خلفه على طريقته وهكذا أعلنوا وأشاعوا ما يضمرونه فى قلوبهم من عداوة قديمة لآل النبى صلى الله عليه وسلم ذوى الكمال.

قايتباى المصرى أعقل ملوك الشراكسة وأعلمهم ، فخدماته للحرمين أكثر من خدمات أسلافه وأخلافه ، وهذا أيضا قد أظهر دناءته ـ بناء على ما سيأتى ذكره فيما بعد ـ إذ غير موقع منبر النبى الأنور لتحقير فضلاء الحرمين متبعا رأى المتمرد شمس بن زمن وكأنه قام بعمل خير إذ بنى رباطا للفقراء باغتصاب ثلاثة أو خمسة أذرع من أرض شارع المسعى ، وعزل من يصدقون فى الكلام من وظائفهم وأتى مكانهم بمن يكذبون وينافقون ، ينقل لنا قطبى فى أثره تاريخ مكة هذه الحكاية ويرويها : «كان الملك الأشرف قايتباى المصرى قد اتخذ الشيخ شمس الدين محمد بن عمر بن زمن مصاحبا له قبل أن يرتقى عرش مصر ، وعندما تولى سلطنة مصر أرسل شمس بن زمن لتعمير المسجد الحرام وبناء بعض المؤسسات الخيرية باسمه إلى مكة المكرمة ، فاشترى شمس بن زمن مبانى الميضأة التى فى شارع المسعى وبين الميلين الأخضرين وهدمها حتى الأرض ، وكانت هذه الميضأة تنسب إلى الملك الأشرف شعبان بن الناصر حسن بن قلاوون وكانت أمام الباب العالى ، وكانت جهتها الشرقية متصلة بمنازل الأهالى ، والجهة الغربية بالمسعى الشريف والجهة الجنوبية متصلة بسوق الليل ، والجهة الشمالية بدار

١٥٨

العباس بن عبد المطلب ، وحفر شمس بن زمن أساس رباط يريد أن يقيمه لإسكان الغرباء مكان الميضأة إلا أنه دخل ثلاثة أذرع فى شارع المسعى رغبة فى توسيع البناء ، وأثار هذا العمل بين الأهالى القيل والقال ، فرجا قاضى مكة برهان الدين إبراهيم بن على ظهيرة الشافعى شمس بن زمن لترك الأرض التى اغتصبت من المسعى ، وبين له أنه لا يوجد مسوغ شرعى لإقامة مبان فى هذا المكان.

وبما أن شمس بن زمن رد هذا الطلب ، فتكون مجلس علمى للشورى بإغراء علماء المذاهب الأربعة واستدعوا شمس بن زمن وقالوا له أمام الفقهاء «أيها السيد الفاضل! كان عرض المسعى الشريف (٣٥) ذراعا ، وقد قسناه من حفرة أساس الرباط الذى أقمتموه فبقى (٢٧) ذراعا ، وأرادوا أن يثبتوا مدعاهم قائلين بأن مساحة المسعى الشريف فى تاريخ الفاكهى خمسة وثلاثون ذراعا ، إلا أن شمس بن زمن رد عليهم قائلا : فقولوا ما تقولون إننى لن أتنازل عن فكرى مستمعا إلى أقوالكم ، وإنكم غير قادرين على منعى من القيام بهذا العمل فأطال العلماء القول فى هذا الموضوع وانضم الأهالى أيضا إلى العلماء وخالفوا ابن زمن فأجبروه على ترك العمل وكتبوا محضرا فى هذا الخصوص ، وأودعوه لدى العلماء الذين حملوه إلى قايتباى فى مصر ، كما أن شمس بن زمن كتب رسالة خاصة وأرسلها إلى قايتباى (فالذى يعجبكم من فعل قايتباى؟!) فعزل قاضى مكة وعين مكانه أحد الذين أيدوا شمس بن زمن ، وأعاد العلماء الذين قدموا المحضر يائسين مكسورى الخواطر ، وجلب الشخص الذى عين فى تلك السنة أميرا للحج وأمره قائلا : «عندما تصل إلى مكة يجب عليك أن تحفر أساس الرباط وفق رأى شمس بن زمن ، وأن تشرف بنفسك على العمال وقد أوصل أمير الحج موكب الحج إلى مكة سنة ٨٧٥ ه‍ وبمجرد وصوله إلى مكة جمع العمال رأسا وجعلهم يحفرون أساس الرباط ليلا حتى الصباح ، وأنقذ أمر قايتباى ، انتبهوا لذلك! كيف انكشف قايتباى الذى أراد أن يصل إلى تنفيذ فكره الأنانى السيئ ضمن خدمته التى يريد أن يقوم بها لكعبة الله ، وإن كان شمس بن زمن على قدر

١٥٩

من العلم ويسعى لعمل الخيرات والحسنات إلا أنه بذل أقصى جهده لتحقيق علم لا يسوغه الشرع.

وإن كان قايتباى أعقل ملوك الشراكسة وأزهدهم إلا أنه قد أظهر فى هذا الموضوع تعصبا كبيرا ، وو قد أصر على التمسك برأيه وقد خدعه شمس بن زمن وساعده على اغتصاب ثلاثة أذرع من مكان المسعى ، وعزل قاضى مكة الذى أراد أن يمنعه عن ارتكاب الفعل المنكر ، وكأنه لم تكن غايته خدمة الحرمين ، بل كان غرضه إظهار سطوته وشوكته وإجلاله على صورة خدمة الحرمين.

وقد تحاشى السلاطين العثمانيون الأغراض النفسية وإبراز العداوة وفوق ذلك فإنهم وقفوا بجانب الأهالى ، كما تبين ذلك فى صورة الفرمان العالى المكتوب عاليه ، ولم يكن الأهالى بجانب الحق وكانوا يريدون أن يطيلوا عمليات تعمير المسجد الشريف والمبانى المقدسة وذلك بتعويقها بعض الوقت ليستفيدوا من ذلك ماديا وقد ثبت ذلك ، ومع هذا أمر السلطان عبد المجيد أن يتم العمل وفقا لآراء الأهالى وأفكارهم وفى سبيل ذلك عزل أصدقاءه مثل : محمد رائف باشا ، ومحمد راشد أفندى ونقل مكانهم الآخرين وعينهم وبهذا أظهر للأصدقاء والأعداء أن خدماته السلطانية لم تكن إلا لإسعاد الروح المحمدى العالية خالية من جميع الأغراض النفسية والمادية. رحمه الله رحمة واسعة انتهى.

١٦٠