موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

الصيف مثل أصحاب الصفة وعندما يرد الحجاج والزوار كانوا يجتمعون فى هذا المكان ويؤدون الصلاة.

أبلغ الباب العالى بوفاة أبى بكر باشا وإحالة وكالة أمانة البناء إلى شيخ الحرم دلاور باشا ، وأسند أمانة الأبنية العالية إلى أمير الأمراء ناظر المدرسة البحرية سابقا أدهم باشا بعد أن انتخب لذلك المنصب فى مجلس خاص بالوزراء وصدر الأمر السلطانى بذلك بعد الاستئذان فى أواخر سنة ١٢٧١ ه‍ وأرسل إلى المدينة المنورة فى سنة ١٢٧١ ه‍.

وصل أدهم باشا إلى المدينة دار العز فى الخامس عشر من شهر صفر الخير من سنة ١٢٧٢ ه‍ ، وثابر فى إيفاء مهمته وجدد فى فترة ، تقرب من سنتين ، الأساطين والقباب التى بين باب النساء ومئذنة العزيز والجدران الكائنة فى تلك الجملة فى صورة غاية فى الكمال والنظام.

كان السلطان سليمان خان الغازى قد جدد فى سنة ٩٤٠ ه‍ المئذنة العزيزية الجميلة كما بين فى الصورة الثامنة من الوجهة الأولى وجعلها ذات شرفات ثلاث مثل مآذن باب السعادة ، لذا أطلق عليها فى ذلك الوقت المئذنة السليمانية.

وتلك المئذنة محاذية للمئذنة الشكلية التى وفق فى تجديدها المرحوم السلطان عبد المجيد ، وعند ما عمر مسجد السعادة اقتضى الأمر إصلاح تلك المئذنة أيضا فربط ـ عندئذ ـ محمد راشد أفندى من موظفى أمانة البناء حبالا ما بين المئذنتين ليعلق عليها المحيا مثل مساجد باب السعادة إستانبول وذكر أن هذا الفعل سيعطى للمدينة المنورة الميمونة رونقا آخر وزينة أخرى ، واستأذن بعد تعمير المئذنة السليمانية بأن تقام محيا (١) هناك فى ليالى رمضان واستكره السلطان الذى يتصف بصفات الزهد لشدة حبه لشفيع المذنبين صلى الله عليه وسلم وفرض عبوديته إحداث بدعة فى دار

__________________

(١) إن بناء محيا فى الجوامع ذات المنارتين كان بدعة سيئة أحدثها إبراهيم باشا الذى تولى الصدارة نحو اثنتى عشرة سنة فى عهد السلطان أحمد الثالث وذلك فى عام ١١٣٢ ه‍.

١٢١

الهجرة وتجنب ذلك بتقبيح الفكرة التى عرضها محمد راشد أفندى ولذلك تأخر تعمير المئذنة المذكورة ، ولما كان جميع لوازم بنائها جاهزة فعمرت فى عهد السلطان عبد العزيز بشرط عدم إقامة المحيا ، وأنفق لتعميرها بعد الكشف عليها خمسة وأربعين ألف قرش وسميت بالعزيزية.

بينما كان أدهم باشا مشغولا بتعمير وتجديد جهة باب الرحمة صدر الأمر السلطانى بخصوص إرسال محمد راشد أفندى من أعضاء دار الشورى العسكرية لأنه كان قد التزم قديما من جانب محمد رائف باشا تجديد القباب والأعمدة التى فى مقدم الحرم الشريف كقباب وأساطين مؤخر الحرم الشريف وكان قد رأى فى هذا العمل نوعا من المحسنات والجمال لحرم السعادة.

ولكن العمل بهذا الرأى كان سببا فى وقوع منازعة كبيرة ، وكان أهالى المدينة فى ذلك الوقت قد أبلغوا الأمر مع بعض الأوراق والمضابط إلى باب صاحب القرار كما سبق ذكره ورجوا من السلطان أن يجدد داخل حرم السعادة وفق أفكار وآمال الأهالى ؛ ومن هنا قرر إرسال محمد راشد أفندى وتعيينه ليحقق فى منشأ هذا النزاع وللكشف عن تعميرات مبانى الحرم الشريف وكيفية سير العمل فيها ، وحساب نفقات تجديدها.

وصل محمد راشد أفندى سنة ١٢٧٢ ه‍ خلالها ، إلى دار السكينة وكشف عن الأماكن المتنازع عليها فى مؤخرة حرم السعادة وفى داخله ، وبعد العودة سلم الباب العالى لائحة رأيه الشخصى مع المضابط التى قدمت من طرف الأهالى وموظفى الدولة مع الخريطة والأوراق الأخرى إلى الباب العالى ، وبعد عمل ما يجب إجراؤه عرض الأمر على عتبة السلطان العالية الذى أصدر أمره بأن يدرس الموضوع فى مجلس خاص للوزراء ثم استذكرت الناحية الشرعية من الموضوع فى مجلس دار الإفتاء السلطانى الذى يتكون من العلماء والفضلاء والوزراء القدماء وقرر المجلس المذكور عدم جواز تغيير محال وأشكال ثمانية أعداد من الأعمدة التى تعد من الآثار النبوية الجليلة الخالية من العيب وكذلك الأساطين التى ركزت

١٢٢

فى عهدى عمر وعثمان ـ رضى الله عنهما ـ عندما وسعا مواضع الصلاة فى المسجد باتفاق آراء الصحابة ، من مائة وثلاثة وأربعين عمودا فى حاجة إلى التعمير فى داخل الحرم النبوى الشريف ، وبما أن شكل القباب والأساطين ومحالها التى أضيفت فى عهدى السلطان مراد خان الرابع ، وقايتباى المصرى لم تخضع للتغيير فى زمانهما ، ورأى أن يعمر ويجدد الأعمدة التى ستحمل عليها القباب الحجرية بدلا من السقوف على هيئاتها الحالية ، وبما أن الأساطين القديمة كانت مصنوعة من الحجر الأسود ومغلفة بقطع رخامية رئى أن تترك الأساطين غير المحتاجة إلى التعمير والتصليح فى حالتها القديمة والقباب من دكة الأغوات إلى باب الرحمة التى قرر صنعها بناء على الكشف القديم ، وأن يجدد الجدار القبلى من باب السلام إلى المئذنة الرئيسية وألا تترك أنقاضها ومربع مرقد السعادة سيحتاج إلى التشييد والإحكام وعرض الأمر على العتبة السلطانية ملخصا فى مضبطة.

وأن تجدد وتعمر المواقع المسعودة على الوجه المذكور والمشروح وأرسل ذلك الأمر (١) السلطانى بمضبطة مخصوصة إلى طوسون باشا شيخ الحرم النبوى.

وكان مضمون ومندرجات اللائحة التى أرسلت إلى طوسون باشا الانتباه إلى ما جاء من قرارات فى اجتماع مجلس الوزراء الخاص والعمل بموجبها ووقاية الأشياء التى تستخدم فى البناء من التلف والإسراف فيها ، وتكوين مجلس من الموظفين المحليين ومهندسى الأبنية ورؤساء الحجارين بخصوص النظارة على العمال وحسن استخدامهم ؛ وتعيين الوظائف الأساسية لهذا المجلس وذيل اللائحة بتوقيعات أعضاء المجلس الفخم كما صدقت من مقام الصدارة العظمى.

وكان سبب حدوث المنازعة هو كشف محمد رائف باشا داخل الحرم الشريف

__________________

(١) قد كتبت صورة من هذا الأمر السلطانى فى ذيل الصورة تحت رقم (١). (فى أصل المؤلف).

١٢٣

وتعميره لمؤخرة حرم السعادة وكانت تعميرات حرم السعادة تنقسم إلى قسمين الصورة الأولى عمليات مؤخرة حرم السعادة ومتفرعاتها ، والصورة الثانية تعمير داخل الحرم الشريف ومشتملاته وفق الخريطة لتعمير مؤخرة حرم السعادة وتجديده والتى قدمت للمقام السلطانى السنى وحازت الموافقة ، وفعلا قد بدئ فى العمل وفقا لهذه الخريطة ، وختم بهدم آثار قايتباى مع مشتملاتها من محاذاة باب الرحمة إلى آخر الحرم الشريف الملاصق لتلك الآثار وبما أنه كان قد تم الاتفاق على هدم قباب قايتباى وإنشاء قباب جديدة ؛ لهذا لم يكن فيه ما يثير النزاع ، ولكن الأساطين التى تحمل السقوف والقباب فى داخل حرم السعادة والتى صنعت من حجارة صغيرة ومع مرور الزمن انفصلت عن بعضها ولما رئى أنها ستكون سببا فى سقوط السقوف والقباب أحيطت بأحزمة حديدية وظلت بعضها معوجة متمايلة ، ومن هنا وجب تعميرها ورضى الأهالى على ذلك ، وأراد محمد رائف باشا أن يجدد الحرم النبوى فى طراز جديد جميل بتقليل عدد الأعمدة وتغيير شكلها مثل أعمدة مؤخر حرم السعادة وأن يوسع مواقع الصلاة وأراد أن يعين ثمانية أعداد من الأعمدة التى تعد من الآثار النبوية بتركها على حالتها القديمة ، لو كان مسجد المدينة قد جدد وعمّر على هذا الشكل لكان الحرم الشريف اتسع وبلغت زينة البناء إلى الكمال وحدث تطابق وتناسب وتناسق فى هذه القضية الفنية ، وكل ذلك بناء على قول محمد رائف باشا.

وإذا ما طبق فن الهندسة على تعمير مبانى الحرم فكان رأى محمد رائف باشا صحيحا كما أن الأدلة التى ساقها بخصوص زينة المبانى ترى لا غبار عليها ، إلا أن كون داخل حرم السعادة من الآثار المباركة القديمة كما أن جميع الأعمدة التى فى هذه الجهة من الأعمدة التى تتشرف بقدمها ، جعل مسألة تغيير تلك الأعمدة وتغيير أماكنها بادعاء توسيع الموقع والمحل ، مسألة غير لائقة.

ومن أجل رد خواص دار السكينة آراء الباشا المذكور الفنية وملاحظاته ، قالوا ردّا على رأى الباشا : «إن عدد الأساطين التى تحتاج للتعمير فى الحرم الشريف مائة وثلاثة وأربعون عمودا ثمانية منها من الآثار النبوية ، ولا يجوز تغيير أشكالها

١٢٤

ومواقعها بالمرة ، وكانت الأعمدة التى أضافها حضرة عمر وعثمان ـ رضى الله عنهما ـ كان بقصد توسيع مواقع الصلاة وبإجماع آراء الصحابة وبما أن هذه الأساطين قد ركزت باتفاق الصحابة وإجماعهم ولم يتجرّأ أحد إلى الآن على تغيير طرزها وهيئاتها ، يقتضى النظر إليها على أنها من الآثار أيضا ولا يجوز تغيير هيئاتها أو تقليلها بحجة التناسق الفنى ، ولا بأس فى تغيير غير هذه الأعمدة ، كما أنه لن يحدث تناسب بتقليل عدد الأعمدة وتغيير أماكن الأعمدة التى أضافها السلطان مراد الرابع طاب ثراه والسلطان قايتباى المصرى ، ومع هذا كانت القباب التى صنعت وأسست فى عهد السلطان محمد الرابع كانت قد أسست فوق الأساطين التى كانت قائمة فى ذلك الوقت ، ولما كانت الأساطين التى ستؤسس وتوضع عليها عقود الباب التى تصنع الآن تستدعى التعمير والترميم لميلها وقرب سقوطها فإذا ما رممت على هيئاتها الحاضرة ، وبهذا يراعى جانب الآثار القديمة ، وامتنع عن تغيير صورها وهيئاتها وإذا ما صنع ما قرّر تعميره من الأساطين القديمة من الحجر الأسود حتى تشبه الأساطين الأخرى ، فهذا هو رأينا».

إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقنعوا محمد رائف باشا فعرضوا الموضوع إلى باب السلطان ذى القرار العادل وتسببوا فى صدور الفرمان السلطانى الذى سطرت صورة منه فى ذيل المقال.

ادعاءات الأهالى هذه جديرة بالتصديق والقبول ، لأن داخل حرم السعادة لا يقاس بمؤخرة المسجد ولما كانت هذه الجهة قد جددت وفق الخريطة التى وضعت لها وكان لتجديدها مسوّغ شرعى صريح ، وأجرى لها ما يلزم ، ولما ثبت بالدلائل الواضحة أن أحدا لم يتصّد لتجديد الحرم الشريف بإحداث التناسب فى داخله ولم يقدم أحد على تغيير رسمه ومحله ، ومن هنا لا يجوز تغيير تجليات الآثار القديمة بتقليل عدد أساطينها وتغيير نقطها أو توسيع مواقع الصلاة فيه فهذه أفكار فجة سطحية ، فتخريب الوليد بن عبد الملك حجرات زوجات النبى العليا لم تؤد إلا إلى انقراض الدولة الأموية وزوالها.

١٢٥

وقد رممت الأساطين الثمانية التى ركزت فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم والأساطين التى ركزت فى العهد الميمون القريب من عهده وعمرت على هيئاتها القديمة ، وقد حدث اتفاق عام بناء على وجود مسوغ شرعى لتغيير شكل وأماكن الأساطين التى أضافها السلطان مراد خان الرابع والسلطان قايتباى المصرى.

وإذا ما صنع وفق الطرز الجديد بتقليل عددها وتغيير أماكنها وإذا ما اتبع طريق تجديد القباب على الهيئة المطلوبة منسوبا لاسم السلطان عبد المجيد ، فإنه لن يؤدى إلى التناسب الفنى ويكون داخل حرم السعادة قد جدد بعض أماكنه حسب النظام الجديد وسيظل الباقى على النظام القديم ، والأمكنة التى عدت بمرور الزمان ومجاورة الحجرة المعطرة من الآثار القديمة المباركة تكون قد بدلت هيئاتها ومواقعها وغيرت.

وبدلا من أن تبذر الأموال عبثا لتجديد الأعمدة التى انحرفت قليلا أو اعوجت والتى يمكن تعميرها وتقويتها وتحويل أماكنها وشكلها ، فإذا رممت الأساطين الموجودة على هيئاتها وأشكالها حيث وجدت بحيث تتحمل القباب الحجرية وإذا ما رممت بالأحجار السوداء مثل الأعمدة المتينة المصنوعة من الحجر الأسود وإذا ما غلفت الأساطين التى كانت مغلفة بقطع الرخام نكون قد ادخرنا النقود وحافظنا على أشكالها وهيئاتها الأصلية ، ولما كانت الأساطين التى تحمل القباب العالية المصنوعة من عهد السلطان مراد ثمانية أو عشرة أعمدة منها فى حاجة إلى الترميم والتعمير ، ولما كان بناء القباب الحجرية مكان السقوف جائزا شرعا لوقاية أبنية الحرم من الخطر وكان عامة الناس متفقين فى هذا الموضوع ولم يكن فى هذا سبب يؤدى إلى النزاع ، والمنشأ الحقيقى للنزاع كان فى تقليل عدد الأساطين داخل الحرم النبوى وتغيير أماكنها ، وقد اختار أهل المدينة شق تعمير وترميم الأساطين فى أماكنها ، ورجحوا ذلك على استصواب محمد رائف باشا من تقليل الأعمدة وتغيير أماكنها ، عرضوا الأمر على الباب العالى ورجوا بأن يعمر داخل حرم السعادة وفق ما يرغبون ، وقد بحث الأمر فى دار الإفتاء

١٢٦

السلطانية بعمق وعرض ولما كان رأى أهل المدينة الكرام موافقا للشرع الشريف عرض الأمر على العتبة السلطانية التى أصدرت أمرها بذلك وأرسل الفرمان السلطانى إلى المدينة المنورة.

وبما أن تغيير شكل وهيئة الأبنية العالية غير جائز أرسل لأدهم باشا للعمل بما جاء حسب ما يقتضى الأمر السلطانى كما أرسل له تحريرات سامية توصى ببذل الجهود فى هذا الأمر إذا كان مدير أمانة البناء.

وجدد أدهم باشا دكة الأغوات بحجارة منحوتة حمراء فى غاية الجمال وصنع على أطرافها أربعة أسوار مشبكة وأسس فى ذيل هذه الدكة دكة أخرى ويذهب من بين هاتين الدكتين إلى باب جبريل.

ولما كان محراب التهجد فى وسط مقصورة الدكة التى صنعت فى مواجهة دكة الأغوات وفى طرف الجهة الشامية شبكة السعادة التى جددها أيضا ، ووضعوا حول الدكة الأسوار المصنوعة من النحاس الأصفر ، وكان بجانب دكة محراب التهجد مخزنان ، فهدمهما وجددهما بأن جعلهما أربع حجرات ، كما أمر ببناء سقف عال لخلف دكة الأغوات وجهتها اليسارية وتحت هذين السقفين محرابا وعدة حجرات عالية خاصة بخدم الحجرة المعطرة ، ويذهب إلى السقفين الجديدين من بين باب النساء ودكة الأغوات.

كان مشايخ الحرم النبوى يؤدون صلواتهم الخمس فى النقطة التى يوجد فيها المحراب سالف الذكر فى الأوائل ثم أخذوا يصلون فى دكة الأغوات ، والآن يصلى الأشخاص الذين يتولون مشيخة الحرم فى هذا المكان ويحدث أحيانا أن يصلوا فى دكة التهجد التى أمام دكة الأغوات ، ولكن صلوات التراويح لا بد أن يؤدوها بجانب المحراب سالف الذكر.

وأمر أدهم باشا فصنع خارج باب النساء وفى جهة باب جبريل من ذلك الباب ، وجدد فمد القفص الخشبى الذى أحدث سنة ١٢٥٠ ، هذا القفص كائن ما بين كل ثلاث أسطوانات من باب النساء إلى مؤخرة مسجد السعادة فتؤدى

١٢٧

النساء صلواتهن داخل هذا القفص ، واستشار شيخ الحرم حافظ محمد باشا مع علماء المدينة فى غضون سنة ١٢٨٠ ه‍ فمد ذلك القفص إلى قرب محاذاة المئذنة السليمانية ، لأن جماعات النساء تكاثرت ولم يستوعبهن القفص كلهن فكانت بعض النساء يؤدين الصلاة خلف النخيل ، ولما كان الرجال الذين يدخلون من باب التوسل لا يجدون أماكن للصلاة أمامهم فيضطرون أن يؤدوها خلف النساء.

ويطلق أهالى المدينة على هذا القفص قفص النساء ولونه أخضر وله أبواب مصنوعة من القطع المشبكة ، تأتى النساء فى ليالى الجمع ويؤدين الصلاة ، ويحضرن أولادهن حديثى العهد بالولادة فى يوم الأربعين من ولادتهم لإدخالهم فى شبكة حجرة السعادة ، وتأتى بهم أمهاتهم أو أقاربهم ويسلمونهم لموظفى إدارة الأغوات ، ويطلق أهل المدينة على مثل هؤلاء الأطفال الذين تركوا فترة تحت أغطية مربع القبر الشريف فى حجرة السعادة ولد الحجرة فيلزم أن يكون خاصة أهل المدينة من هؤلاء الأطفال.

ولما كان أدهم باشا قد توفى بعد أن أكمل تلك الأقفاص بفترة قليلة فى أواخر شهر شعبان المعظم سنة ١٢٧٣ ه‍ ، فاختير معاون المبانى المقدسة صالح أفندى لوكالة أمانة البناء باتفاق موظفى الحكومة وأعاظم السادات وعلماء البلاد وبلغ الأمر مع وفاة أدهم باشا إلى باب صاحب القرار العظيم.

وكانت وفاة أدهم باشا قبل أن يكمل سقف الجهة القبلية وسقف الجهة الغربية الذى يمتد من باب السلام إلى باب الرحمة إلا أنه كان جدد هذه الأماكن والقباب الجديدة التى أمر السلطان بإنشائها فى اتصال الساحة الرملية لحرم السعادة ، ودكة الأغوات مستلهما أمر السلطان كما أنشأ كل هذه الأماكن مطابقة لآمال الأهالى وأفكارهم.

حدود السقوف العتيقة : كانت فى الجهة القبلية من مسجد السعادة ثلاثة أروقة ، وألحق كل من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فى عهديهما رواقا كما ألحق الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحى للجهة الشامية رواقين كما أن السلطان

١٢٨

مراد خان الرابع ألحق ثلاثة أروقة فى الجهة الشامية أيضا ولما لم ينته بناء هذه الجهات ظهرت الحاجة إلى بناء عدة أروقة أخرى فى هذه الجهة ، وعقب وفاة أدهم باشا ، استصوب صالح أفندى إضافة رواقين بموافقة رأى مجلس هيئة الأبنية السعيدة ، وشرع فى العمل من هذه الجهة ، وأراد أن يساوى ما بين أسطوانات الجهة القبلية لأسطوانات الجهات الثلاث الأخرى ، فرأى أن ترفع بعض الأسطوانات من هذه الجهة وإزالتها وبين الكيفية للهيئة العامة للمجلس الذى انعقد تحت رياسة شيخ الحرم لأن توسيع هذه الجهة فى حالتها هذه غير قابل للتوسيع والإصلاح وقام بعض الذوات معترضين على هذا أيضا إلا أن هيئة المجلس (١) استصوبت رأى صالح أفندى بالأغلبية واستحسنته وأثنوا عليه ، وكتبوا فتاوى شاملة بجواز رفع الأعمدة بنية توسيع المسجد الخالصة حتى يسكتوا المعترضين معتمدين على الشرع.

وأراد المعترضون أن يسقطوا حكم الفتاوى التى صدرت من العلماء واحتجوا على عدم جواز إزالة الأعمدة المأثورة القديمة بالأحاديث التى أوردها الإمام السّمهودى من البخارى وابن النجار والتى تقول : يجب أن يصلى فى جميع جهات مسجد السعادة ، الصحابة الكبار قد صلوا فى جميع جهات هذا المسجد وقد أجابتهم هيئة المجلس إجابات مقنعة إلا أنهم طوروا الموضوع حتى وصل إلى مرتبة الجدال والنزاع ، وأبلغوا الحالة بمضبطتين مستقلتين إلى الباب العالى وقرروا تأجيل العمل فى مسجد السعادة إلى أن يصل الرد ، وحينما وصلت المضبطتين إلى باب السعادة وأطلع الوزراء على مضمونيهما ، وصدق قرار الأغلبية رأيها وأحالوا الموضوع إلى محمد راشد أفندى الذى كان قد سافر إلى المدينة وحقق فى النزاع الأول الذى حدث فى أمانة البناء العالى ، فاستدعوه وأمروه بأن يسافر حالا إلى المدينة المنورة.

وشرع محمد راشد أفندى فى العمل من بقية مؤخرة حرم السعادة ، وأتم العمل فى الأساطين التى تقع بين باب الرحمة وباب السلام ، وفى بعض عقود

__________________

(١) وكان للسادة والأهالى فى هذا المجلس نفوذ ، وكذلك أكابر العلماء وكل المفتين.

١٢٩

القباب ، وخمسة عشر ذراعا من المكان الذى فى جهة باب السلام من الجدار القبلى ، وعندما أوصل تعميرات الحرم الشريف إلى حدود الروضة الميمونة التى يصدق عليها الحديث الشريف روضة من رياض الجنة وعندئذ ظهرت وتجددت المنازعة المعلومة مع أن محمد راشد أفندى كان مطلعا على مندرجات الفرمان السلطانى فأصر على تطبيق أفكار محمد رائف باشا فى حصول تناسب ، وابتدر فى تغيير مواضع الأساطين التى فى جهة المدرسة المحمودية للحرم الشريف والتى أضافها إلى الحرم عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ وبهذا أثار الناس مرة أخرى ، ومع هذا أخذ يعرض على الباب العالى بعض أشياء غير مفيدة ، وأخذت محاضر الشكاوى من قبل الأهالى تصل تباعا ، كل هذا أوقع الباب العالى فى الشك والشبهة فعزله وأرسل مكانه عمر جمال الدين أفندى من رجال الدولة القدماء ، ولكنه توفى حين وصوله إلى مكة المكرمة فى سنة ١٢٧٥ ه‍ فتعطلت تعميرات الأبنية المقدسة فترة ما.

قد أخذت فرقة المدينة المنورة المعترضة خزانة الدولة ، وبما أن هذا الشخص كان جريئا وحريصا استطاع أن يهيئ أكثر الأشياء اللازمة لعمليات أبنية السعادة والحجارة المنحوتة اللازمة للأساطين ، إلا أن هذه الغيرة والسعى وشدة الاهتمام أنتجت قيام المعترضين ضده ؛ لأن أفراد الفرقة المخالفة كانت لهم منافع شخصية فى تدخلاتهم فى عمليات البناء لأنهم كانوا يريدون أن تطول هذه العمليات أطول مدة حتى يحافظوا على تلك المنافع ، ومنذ أن عزل محمد راشد أفندى إلى تعيين عمر جمال الدين أفندى وإلى ورود أحمد أسعد أفندى بعد وفاة سلفه قد أعطيت كثير من الأجور للمستخدمين فى أمور أبنية السعادة من الكتبة والعمال بدون فائدة ، واستمرت هذه الفترة ما يقرب من سبعة أشهر ، إذ مات عمر جمال الدين أفندى وعرض الأمر على باب السعادة وكان أحمد أسعد أفندى فى ذلك الوقت قاضى مكة المكرمة فوصل إلى المدينة المنورة فى جمادى الأولى أوائله من سنة ألف ومائتين وست ١٢٧٦ وسبعين هجرية.

١٣٠

وكانت الفرقة المعترضة قامت ضد محمد راشد أفندى باحثين عن تغيير مواضع بعض الأعمدة وكان هذا موضع النزاع.

إلا أن هذا القيام لم يكن كالقيام السابق إذ كان بدون وجه حق وبدون مناسبة ، إذ استصلح محمد راشد أفندى أماكن السقوف التى هدمت من قبله وهى التى تلى السقف الذى ألحق فى الجهة القبلية ، وبترميمات قليلة للأعمدة التى ركزت فى عهد صالح أفندى نقلها فى محاذاة الأعمدة الأخرى وحرص على أن يركز هذه الأعمدة فى أماكنها القديمة ولكن فيما بين أعمدة السقوف الثلاثة التى تلى الجهة القبلية حدث تخلف قدر ثلاثة أذرع بينها وبين الأعمدة التى ركزت مجددا ، وقد وقف محمد راشد أفندى لهذا التخلف وهو يهدم الفاصلة التى تفصل بين سقف الجهة القبلية والأسقف الثلاثة التى تليه ، وإن هذا التخلف ظاهر فى العمود الرابع من صفوف الأساطين الأربعة التى تقع فى اتصال الساحة الرملية التى فى الركن الشرقى من مسجد السعادة ولا يوجد فى أساطين الصفوف الأخرى ، وإن كان فى أساطين الركن الغربى من الساحة الرملية تخلفا جزئيا وإذا لم يمعن النظر فيه فلا يمكن تعيينه فهذا التخلف إذا ما طبق على قواعد الفن المعمارى الكلية فلا يعد من العيوب ، وكان اثنا عشر عمودا ما الأعمدة الستة عشر التى يعرف التخلف فيها من النظرة الأولى والتى تكون الصفوف الأربعة من الأعمدة ، كانت ركزت من قبل أسلافه ولما كانت الفرقة المعترضة غير راعية بهذا الموضوع ظنوا أن هذا التخلف قد حدث فى عهد محمد راشد أفندى وخدعوا الناس بهذا الزعم الباطل وأغروهم بالقيام ضده. انتهى.

قد خدم محمد راشد أفندى فى تزيين داخل مسجد السعادة وقد تركت جهة الجدران الغربية أعلى من الجهات الأخرى كعلامة على الجدران القديمة وكان هذا الارتفاع أساء لجمال سطح المسجد.

١٣١

أزال محمد راشد أفندى هذا العلو وأبقى جملة «هذا حد مسجد النبى» التى كانت محكوكة على هذا الصف من الأعمدة ، لو كان حدد هذه الجملة قائلا : «هذا حد المسجد الأصلى» لأحسن فعلا لأن عبارة «هذا حد مسجد النبى» تفيد أن خارج هذا الحد ليس من جملة مسجد النبى وهو ليس كذلك.

بعد أن سوى محمد راشد أفندى وسطح ومهد أرض المسجد وهدم المخازن فى التقاء الحد القبلى للمسجد الأصلى أنشأ جدارا منخفضا من شبكة الحجرة المعطرة إلى انتهاء الأعمدة التى فى الجهة الغربية من جدار باب السلام وبنى فوقه سورا مشبكا جميلا مصنوعا من النحاس الأصفر وفتح ثلاثة أبواب من الروضة المطهرة للخروج منها ناحية القبة العثمانية ، ولما انتهى من سقوف الجهة القبلية لمسجد السعادة إلى محاذاة الساحة الرملية جهز حجرا أحمر مزينا لكتابة التاريخ وأرسله إلى باب السعادة حتى يكتب عليه ما انتخب مما كتبه أدباء المدينة ثم يأمر بإعادته إلى المدينة ، إلا أن السلطان ذا الخصال الحميدة لم يستصوب أن يكتب لذلك المكان المقدس التاريخ وأمر بأن يعطى للمؤرخين اثنا عشر ألف قرش وحتى يتخذ قرارا ما ينبغى إحالة الموضوع إلى مجلس العلماء المنعقد فى المشيخة الجليلة ، وقرر فى المجلس أن يكتب على هذا الحجر الحديث الشريف ، وفق اقتراح أمين الفتوى للمجلس محمد رفيق أفندى «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام» ، وأبلغ الأمر إلى دار الخلافة. وأمر الخليفة أحمد أسعد أفندى الذى تعين لأمانة أبنية السعادة بعد عمر جمال الدين أفندى بإجراء ما يقتضى الأمر عمله.

والتواريخ التى ستذكر فيما بعد هى التواريخ التى اختارها محمد راشد أفندى لتحظى بالنظرة السلطانية وأرسلها إلى الباب العالى.

١٣٢

عربى (١)

بشرى مليك الورى عبد المجيد

بما قد فاز من فخر دنياه وعقباه

توجهت بعظيم الأجر همته

وكى ينال من المختار زلفاه

فجددت مسجدا تهوى ملائكة

لو أصبحت فيه من عمال مبناه

ولكن بذاك إله الحق خصصه

يا فوز من خصه بالخير مولاه

وإنه أثر ما حازه ملك

من قبله بل ولا من بعد يحظاه

بطالع اليمن والإقبال آخره

على أساس التقى مذ تم منشاه

قالت الملائكة البشرى مؤرخة

على قواعد يمن عز أخراه

١٢٧٥ الآخر (٢)

الله أكبر فاز سلطان الورى

عبد المجيد بأعظم الإحسان

__________________

(١) هذا التاريخ الفريد للفاضل حسن أفندى الأكسوبى.

(٢) هذا التاريخ للأديب عمر أفندى.

١٣٣

طوبى له قد شاد أرفع مسجد

يسمو على الأفلاك بالعدنان

حرم زهى بالروضة الفيحا التى

جلت وأضحت من رياض الجنان

ويميز الهادى سمو بحجرة

هى مهبط الأملاك والغفران

بشرى لقد حاز الثواب مليكنا

وحدى عظيم الأجر من رحمان

برفيع همته أجاد بناءه

فى غاية الأحكام والإتقان

حرم على تاريخه حقّا زهى

تم البناء بهمة السلطان

١٢٧٥

وظلت أعمال المئذنة المجيدية ناقصة وقد أنشأها محمد راشد أفندى على طراز مآذن بلاد الروم وفى غاية الجمال وجعل حول شرفاتها أسوارا بشبكة حديدية.

التاريخ الآتى الذكر هو التاريخ الذى ذكره الأديب كامل عبد الجليل براده (١) بخصوص المئذنة المجيدية.

عربى

سلطاننا الملك الغازى المجيد بنى

فى مسجد الهاشمى المصطفى طه

__________________

(١) هذا الشخص رئيس كتاب السجلات اليومية.

١٣٤

منارة لم تطاول رفعة وبها

يحق للدهر فخرا لوبها باها

فريدة إن بدا شكل يماثلها

فإنما ذاك حقا عكس مرآها

ودت نجوم السماء لو أنها

انتظمت فى جيدها تزهو ثرياها

لغاية ابتهاج الفكر أرخها

منارة بالبهاء تم مبناها

١٢٧٥

ولما مات عمر جمال الدين أفندى ـ الذى بعث مكان محمد راشد أفندى ـ توفى وهو يؤدى فريضة الحج المشروعة فى أثناء وجوده فى مكة المكرمة ؛ اقتضى تعيين شخص آخر وإرساله لتولى وظيفة أمانة المبانى العالية فأبلغ ذلك من قبل أمير مكة المعظمة شرف عبد الله باشا إلى الباب العالى وعرض ذلك السلطان من قبل الصدر الأعظم محمد باشا القبرصى وشيخ الإسلام سعد الدين أفندى وتأنّى فى تعيين شخص وإرساله ، وسكت السلطان فترة وهو يفكر ثم شرع فى الإجابة قائلا : «لا بد أن فى هذا الأمر سرّا خفيّا وحكمة ، وقد أرسلنا هناك من الباب العالى من نثق فيهم مثل حليم أفندى الصغير ، ومحمد راشد أفندى ، وعمر جمال الدين أفندى فلم يستطيعوا أن يكملوا مهمتهم ، ثم أرسلنا من أمراء جيوشنا من له اليد الطولى فى فن الهندسة مثل محمد رائف وأبو بكر وأدهم من الباشوات ، وكذلك لم يوفقوا فى إتمام المهمة ؛ فلنول ـ كتجربة ـ أحدا من رجال الطريق العلمى المقتدرين ، يا سعد الدين أفندى فاعثروا على رجل يتصف بالصدق والروية ومعروف بالتقى والتدين وأرسلوه إلى المدينة المنورة حتى يكمل تلك الخدمة التى تجلب الفخر والزهو ، ولما قال له سعد الدين أفندى الأمر لكم

١٣٥

يا سلطاننا ، وإننا سنعثر على داعية مستقيم الأفكار قد سلح نفسه وزينها بأفكار توافق أفكار سلطنتك وسنعرض الأمر على عتبة سلطنتك بعد الاستئذان ، فقال له السلطان لا كلا لا لزوم لتعيين موظف من هنا.

وحتى لا تتعرض تعميرات البناء المقدس للانقطاع فترة أخرى قد أحلت مهمة أمانة الأبنية العالية إلى ابن عريانى أحمد أسعد (١) أفندى قاضى المدينة المنورة ـ على صاحبها أكمل التحية ـ والذى يوجد الآن فى مكة المكرمة وفوضت الأمر إليه لكفائته ، ولما كان أحمد أسعد أفندى أبا عن جد من رجالنا المشهورين والداعين للدولة والمستقيمين فإننى أثق فيه ، بسبب تجاربى السابقه ، وإن شاء الله يوفق فى إتمام مهمته على أحسن وجه ، وتلقى أحمد أسعد أفندى هذه الإجابة التى تنطوى على الإرادة السلطانية فأرسل الفرمان السلطانى الذى يتضمن تعيين أحمد أسعد أفندى بالمدينة المنورة سنة ١٢٧٥ ه‍ وبلغت التوجيهات السلطانية وحسن ظن السلطان فيه عن طريق آخر ، كما طلب منه أن يبادر فى العمل دون تأخير وأن يبذل أقصى جهوده لإتمام مهمته ، وأوصى بإخطارات أخرى مبينا دقة الموقف وأهميتها وبلغت إدارة مكة المكرمة أنه إذا ما استدعى الأمر من جانب أحمد أسعد أفندى نزاع الأهالى فعلى أمير مكة أن يذهب بذاته إلى المدينة المنورة لحل المشكلة.

ولما أخذ أحمد أسعد أفندى الأمر (٢) السلطانى بتعيينه فى عمارة المسجد النبوى بكى من سروره وسجد لله ـ سبحانه وتعالى ـ على تعيينه لتلك الخدمة المسعودة دون أن يكون له دراية بهذا الموضوع ، فتحرك رأسا من مكة المعظمة ووصل إلى المدينة المنورة فى أوائل جمادى الأولى سنة ١٢٧٦ ه‍.

وزار حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم المعطرة ـ عليه أعظم التحايا ـ وعرض عليه تذلله وافتقاره وأبان عجزه واستعان برسول الله صلى الله عليه وسلم فى إتمام مهمته راجيا نصرته وعونه وشرع فى إتمام مهمته بعد أن بدأ فى عمله ذاكرا اسم الله ، وأتم ذلك العمل

__________________

(١) تولى الأفندى المشار إليه منصب المفتى فى اليوم الثامن من شهر ذى الحجة عام ١٢٩٥.

(٢) وصورة هذا الفرمان مندرجة فى ذيل الصورة رقم (٢).

١٣٦

المعقد فى أول ذى الحجة من سنة ١٢٧٧ دون أن يستعين حتى بالشريف عبد الله باشا ودعوته إلى المدينة ، وأنهى تلك الأعمال التى عجز عن إتمامها أسلافه الكرام فى سبع أو ثمانى سنوات فى ظرف سنتين ونصف سنة كما سيعرف فيما بعد وعرض الأمر على الباب العالى وأعلمه.

مطالعة ورأى

إذا ما نظرنا إلى إتمام العمل وحسن عريانى قاضى المدينة المنورة ، ندرك أن إتمام العمل وختامه سواء أكان فى حرم المدينة المنورة توأم الجنة أو حرم المسجد الذى تخدمه الملائكة وتعميرهما قد تم على يد موظفين ينتمون إلى العلوم الشرعية ، ومن يعمق الفكر فى هذا الموضوع يجده من غرائب المصادفة فى العصر ومن أحكام اللطائف الغيبية وهذا بديهى ، كيف لا تعد من الاتفاقات الغربية وقد تمت عمليات تعمير وتجديد مبانى الكعبة المعظمة فى عهد السلطان مراد خان الرابع على يد صاحب الفتوى سيد محمد أفندى الأنقروى الذى كان فى ذلك الوقت قاضى مكة المكرمة والذى رقى إلى مقام المشيخة الإسلامية فى سنة ١٠٩٧ ه‍ ، كما تم إجراء عين عرفات التى بدأت العمليات فيها فى عهد السلطان سليمان بن السلطان سليم خان الغازى وتمت فى عهد السلطان سليم الثانى على يد وعلم مفتى مكة الشافعى حسين بن أبى بكر الحسينى ، ولا سيما تطهير مجرى عين عرفات الذى دام سبع عشرة سنة.

والذين تولوا نظارة عمليات التطهير قد توفوا الواحد تلو الآخر وقد أتم المشار إليه حسين أفندى أبو بكر ما لم يستطع إتمامه أسلافه فى ظرف سبعة عشر عاما أتمها فى ظرف خمسة أشهر وبصورة وعلى هيئة كان يتمناها الجميع.

والتعميرات الكاملة للمسجد الحرام تمت فى ظرف أربع سنوات إذ كانت تحت نظارة المفتى المشار إليه.

وأراد أحمد أسعد أفندى ـ وقد تلقى الأمر السلطانى والإرادة السنية ـ أن يعمل بموجب النص الجليل ويجدد داخل حرم السعادة موضع المنازعة فيه ،

١٣٧

وحتى ينفرد بذلك العمل عين سيد محمد أفندى من أفاضل علماء المدينة نائبا له فى المحكمة الشرعية فاستدعى السادة الكرام والعلماء المشهورين والموظفين ذوى الاحترام للمدينة المنورة وعقد معهم اجتماعا للمذاكرة والدراسة فى المكان الذى يطلق عليه الديار العشر والذى يقع فى الجهة القبلية من المسجد النبوى ، وعرض جميع جهات العمل واستشارهم فيها ، وبعد دراسة الخرائط التى وضعها أسلافه وتدقيق النظر فيها ، قرر العمل بناء على قاعدة هدم الجهات التى يراد تجديدها وإتمام العمل فيها ثم الانتقال إلى الجهة الأخرى وهدمها وتشييدها ، وبدأ العمل من مؤخرة الحرم الشريف يعنى من النقطة التى كان محمد راشد أفندى قد اقترب من بدايتها داخل الحرم الشريف ، كما أرى فى مسطح الرأس المضبوط فجدد تجديدا متينا رصينا مزينا القباب التى بالقرب من باب السلام إلى المئذنة الرئيسية مع عقودها وبقية الجدار القبلى مع القبة العثمانية الجسيمة وقباب الروضة المطهرة مع القباب التى فى مواجهة قبر الرسول والقباب البالية الأخرى مع عقودها ومع مصاريفها وخلاصة القول كافة أسس أساطين وطاقات المسجد الشريف النبوى وقبابه المختلفة.

كما عمّر وقوى الحجرة المعطرة النبوية والمئذنة الرئيسية ومآذن باب السلام وباب الرحمة كلها وفق ما جاء فى فكر الأمر السلطانى وأحكامه وطبقا لقرار مجلس الاستشارة ، وهكذا أتم تعمير جميع جهات حرم السعادة كما سبق تعريفه على أحسن وجه وجعل جميع القباب الخشبية التى شيدها من الحجر وبهذا قد حظى بشكل وثناء أهالى الحرمين المحترمين ، شكر الله سعيه.

كان شيخ الحرم النبوى فى عهد أحمد أسعد أفندى شيخ الوزراء المرحوم مصطفى باشا فى اسكودار وكان لمهارته فى فن العمارة وهمته وغيرته وجهوده فى استكمال أسباب إنشاءات المبانى المقدسة ، ومساعى محافظ دار الهجرة من قدماء الرفقاء الكرام المرحوم خالد باشا ومعاونته وإقدام واستقامة رئيس مراجعى الأبنية العالية بدر الدين (!) ورئيس المهندسين الحاج محمود أفندى وسائر الموظفين ، أكبر أثر فى تسهيل المهمة وسرعة إنجازها ومن ثمة فى إتمام إنشاءات حرم السعادة قبل الأوان بفترة.

١٣٨

وقد حكّ مذهبا ليوضع فوق طاق باب السلام ذى الفيوضات منظومة تاريخية كما صنع طغراء غراء على أن توضع فوق المكان الخاص الذى هيئ فى وسط القباب المجيدية العالية التى تقع فى جهة من الساحة الرملية فى مؤخرة حرم السعادة ، وقد أرسلت المنظومة التاريخية التى كتبها قاضى المدينة المنورة السابق يعقوب عاصم أفندى ليعرض على أعتاب السلطان بواسطة أحمد أسعد أفندى إلى شيخ الإسلام سعد الدين أفندى وأن تعاد إلى المدينة فى حالة نيلها القبول.

وقدم ذلك التاريخ إلى السلطان حتى يلقى عليه نظرة ، وإن كان قد وافق مزاج السلطان الفطرى إلا أن استخدام بعض التعبيرات التى توافق الصنعة الشعرية أراد السلطان ذو السمات الملائكية الذى يتوسل إلى روح محمد ـ عليه صلوات الأحد ـ فى كل أمور السلطنة وخصوصياته أن يحرر التاريخ الذى سيوضع فى داخل المسجد النبوى الشريف من الخيالات الشعرية وفى صنعة معبرة عن سليقة الإخلاص ولذا قال : «من أنا حتى أتجرأ على تعليق الطغراء داخل البناء المقدس الذى بناه سلطان الأنبياء ـ عليه أعظم التحايا ـ بذاته! فمن الأنسب أن يكتب فى المكان بدلا من التاريخ والطغراء حديث شريف مناسب لذلك المقام المقدس ويعلق هذا التاريخ بعد تصحيحه فوق كمر أحد أبواب حرم السعادة وهذا أنسب ، وبعد أن يصحح زيور (١) أفندى هذا التاريخ فليرسل إلى المدينة المنورة باهرة الشرف» ؛ وبناء على هذا الأمر السلطانى صحح ذلك التاريخ وأرسل إلى المدينة على أن يعلق فوق طاق أحد أبواب حرم السعادة ، وأن يكتب على حجر التاريخ ، الذى أرسله محمد راشد أفندى قديما ولم يلق قبولا لدى السلطان ، الخبر الصحيح : «صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام» ، وأن يكتب مكان الطغراء عبارة «قال النبى عليه السلام» وبما أن هذا الأمر السلطانى قد أبلغ إلى أمانة المبانى العالية قد وقر وفخم ذلك المقام ووجد الاحترام للأمر السلطانى ووضعت الطغراء الغراء المجيدية فوق طاق باب السلام مذهبة حيث زينته.

__________________

(١) هو من مشاهير الشعراء ، تولى منصب وزارة الأوقاف لمدة طويلة وتولى منصب مشيخة الحرم مؤخرا.

١٣٩

وبعد أن جدد وعمر وشيد وأصلح جميع القباب والأساطين الكائنة فى مؤخرة حرم السعادة أو فى داخله كما عرف آنفا ، وحتى يقووا ويدعموا أساس القبة الخضراء المرتفعة التى فوق الحجرة بنوا جدارا لصق أسس شبكة الحجرة المعطرة وبإقامة بعض العقود فوق هذا الجدار دعموا القبة الخضراء الشريفة وحافظوا عليها فى صورة متينة.

وإن كانت تلك القبة اللطيفة عمرت فى عهد السلطان محمود خان الثانى إلا أن جهة من عقود القباب الجديدة التى ستؤسس فوق جدران القبة الخضراء أدرك لدى الكشف عليها أن هذه الجدران ليست متينة بدرجة تتحمل العقود الجديدة ومن هنا قرر تدعيم قواعد الجدار العتيق ، وبناء على هذا القرار حفر حول الشبكة الشريفة أساسا عميقا قدر ستة أذرع وجدد أساس الجدار الذى صنع فى عهد السلطان محمود فأسس وطرح أسس الجدار الجديد مطابقا لهذا الأساس الغير قابل للاندراس.

فالقبة اللطيفة التى عمرت فى عهد السلطان محمود خان العدلى قد حفرت قاعدة أساسها إلى أن ظهر تراب سليم ، والحجارة التى وضعت كأساس كانت فى غاية الصلابة والإحكام وفوق ذلك قد ربطت بعضها ببعض بقيود من حديد ورصاص مذاب ، وإن كان هذا الأمر تبين عند المعاينة.

ولكن حتى توضع عقود ما اقتضى تجديده من القبة العالية وحتى تقوى وتحكم الجوانب الأربعة للقبة الخضراء درجة أخرى رئى أن يبقى على الجدار الذى بنى فى عهد السلطان محمود خان حول الحجرة المعطرة وأن يبنى حول هذا الجدار جدار آخر وتوضع عليه عقود القباب الجديدة فوق الجدار الجديد ، وبهذه الطريقة قد رصنت سواء أكانت القبة الخضراء أو القباب الأخرى العالية فوق المطلوب ، وبناء على هذا التعريف يقتضى أن يرى الجداران المحدثان من الخارج إلا أن شبكة السعادة العارضة تحيط سواء أكان بالجدارين اللذين بنيا فى عهد السلطان محمود أو الجدارين اللذين بنيا فى عهد السلطان عبد المجيد ، وبما أن

١٤٠