موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٤

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

وأنشئوا متاريس وأبراج لحماية أنفسهم ، مع أن العربان حاصروا الجهات الأربعة للجبل الأحمر وأخذوا يسببون الخسائر للمحاصرين وكانوا يهربون كلما أرسل ضدهم الجنود والعساكر وقد تصدعت المواضع التى رممت من قبل من مسجد السعادة ، كما أشرفت بعض مواضعه على الانقراض ، وساءت حالة المسجد إلى أقصى درجة من درجات السوء فى خلال سنة ١٢٦٠ ه‍ ، ولما كانت السقوف والقباب قد تصدعت فى عدد من المواضع وخيف من سقوطها فجأة ، أسف موظفو الحكومة لذلك أشد الأسف وحاروا فيما يفعلون ، ثم اجتمعوا للتشاور وتدبير الأمر ، فقر قرارهم على رفع الأمر إلى الباب العالى.

وقد وصلت حالة الأبنية فى عهد داود باشا شيخ الحرم رحمه الله ، إلى درجة من السوء بحيث كان الأهالى الكرام يتحاشون الاقتراب من بعض مواضعها ، وكانوا يدعون الله كى يلهم السلطان بما ينبغى عمله نحو حرم السعادة ، وفى نهاية المطاف اتفق أعيان المدينة وسادتها على رفع الأمر إلى داود باشا الذى كان فى شدة الألم من إشراف مبانى الحرم النبوى الشريف على الانقضاض وكونها فى أشد الحاجة إلى التعمير والترميم ، فما كان من داود باشا إلا أن أحضر الدواة والقرطاس وكتب إلى مقام الصدارة العظمى رسالة بين فيها إشراف مبانى الحرم النبوى الشريف على الانهيار ما لم ينظر إلى حل هذه المشكلة الآن وأرسل هذه الرسالة إلى باب السعادة فى سنة ١٢٦٣ ه‍.

ولما وصلت رسالة داود باشا هذه إلى باب السعادة وعلم فحواها أولو الأمر أدركوا الحالة التى وصلت إليها أبنية حرم السعادة ، وحصلوا على معلومات كافية بخصوص هذا الأمر ، وقد شكلت لجان فى دار الإفتاء السلطانى لمذاكرة الأمر فى عمق ، وفى ظل المسائل الشرعية ، ثم قرروا كإجراء أولى إرسال مهندس مجرب ليقوم بالكشف على تلك الأماكن ثم يتداولون الأفكار وفقا لما يرسمه ذلك المهندس من خريطة لتلك الأماكن ، وبناء على الأمر السلطانى الذى صدر بعد

١٠١

الاستئذان أرسل فى رفقة رمزى أفندى من رجال الدولة أمير الاى عثمان بك الأمرد من ضباط دائرة المدفعية السلطانية العامرة وبعد أن شرح له الموضوع وبينت الكيفية أرسل إلى المدينة المنورة.

ووصل رمزى أفندى مع عثمان بك إلى دار الهجرة واطلعا بناء على القرار العالى على أحوال المسجد النبوى الشريف وعادا إلى الأستانة وعرضا الخريطة التى خطوها وشرحا رأيهما ووجهة نظريهما ثم اجتمع الوزراء فى دار الإفتاء السلطانية والمجلس الخاص ودققوا النظر فى الخريطة المذكورة وعاينوها ، وقرروا تجديد المسجد بتعميره وبناء على صدور الأمر السلطانى بذلك أرسل حليم أفندى الصغير مدير الأبنية الخاصة من رجال الدولة العلية بوظيفة الإشراف على المبانى المفتخرة إلى مدينة الرسول فى سنة ١٢٦٦ ه‍.

وأرسل المهندسون وعمال البناء المهرة والعمال والأشياء المتنوعة عن طريق باب السعادة (١) ومن مصر القاهرة بالتتابع ، كما أرسل ما أمكن تدبيره من النقود تدريجيا ، وأبلغ شيخ الحرم النبوى وقاضى المدينة المنورة بإشعارات مختلفة على أن يبدأ العمل بعد أن شكل مجلس خاص من مشاهير السادات والعلماء من المدينة المنورة يتولى توصية العمال الذين سيرسلون بحسن أداء أعمالهم وأن يحافظوا على الأدوات المرسلة من التلف وأن يعملوا فى الإنشاءات وفق الشريعة الأحمدية وأن يعملوا بكل تعظيم وحرمة لصاحب المقام وألا تصدر منهم ألفاظ مخلة بالآداب وألا يرفعوا أصواتهم وألا يقوموا بحركات غير لائقة وأن يعنوا أعظم عناية بأداء صلواتهم فى جماعات كما فى السابق ، وقد أمر السلطان ذو الخصال البايزيدية أن تكون المبالغ التى ستنفق فى تجديد حرم السعادة من الحلال

__________________

(١) كان حسين أفندى معاون الأبنية من أصحاب الرتبة الثانية قد عين مشرفا على تحسين الرواتب التى ستربط لمعيشة أولاد وعيال العمال المسافرين ولإرسال العمال والأدوات اللازمة التى ستدبر من باب السعادة فى الوقت المحدد إلى المدينة. وقد فضل حسن شوقى أفندى عمله الخاص بحرم السعادة على أشغاله الأخرى وقام به أحسن قيام وقد نال إخلاصه فى عمله هذا تقدير الجهات العالية ولما أريد مكافأته على إخلاصه دنيويا قد كوفئ فى ختام عمله بأن أحسن إليه بقطعة من وسام مجيدى قيم سنة ١٢٧٩.

١٠٢

الطيب مهما كان مقدارها ولما كان إنقاذ واردات الخزانة المالية السلطانية من الواردات المخلوطة من شبهة لضيق الوقت ، فكلما احتيج إلى إرسال النقود إلى المدينة المنورة لتعمير الحرم النبوى كان يبادل ما تهيأ فى الخزانة السلطانية من أموال مع من يثق بهم من الذوات عن طريق الاقتراض أى كان يرسل هذه المبالغ موافقة لأحكام الشريعة الغراء.

وقد سطر فى التواريخ القديمة أنه كلما احتاج الحرمان الشريفان ومبانيهما للتجديد والتعمير أن الأموال التى ستنفق لذلك كانت تصرف من أموال الجوالة التى يصدق العلماء أن أموالها حلال.

وكان السلطان عبد المجيد خان يرسل الأموال اللازمة للإنفاق على الأبنية المذكورة على الوجه المشروح السابق رحمه الله رحمة واسعة.

أرسل حليم أفندى الصغير الذى أسندت إليه عهدة البناء عندما وصل إلى ينبع رئيس البناء الحجرى نواحى دار الهجرة لعلهم يجدون محجرا ، كما أنه توجه نحو المدينة المنورة ووصل إليها فى أوائل رجب الفرد وتفقد لوازم البناء التى وصلت قبله وبعد أن جمع ورتب مجلس العلماء الذى أمر بتشكيله بالإرادة السنية ، فأراد أن يشرع فى عمله باتفاق الآراء ، ولكن بما أنه كان فى حاجة إلى تهيئة الأحجار التى تستخدم فى البناء وتسهيل الحصول عليها اضطر أن ينتظر وصول رئيس البنائين إبراهيم أغا ، إلا أن إبراهيم أغا عاد يائسا من أنه لم يصادف معدنا من هذا القبيل ، وطلب منه أن يبعثه إلى مكان آخر مع الحجارين حتى يتحرى عن الحجارة ، وتشكل عندئذ مجلس ليبحث هذا الأمر فرأى المجلس أن يرافق المجلس لإبراهيم أغا عدة حجارين من أهل المدينة وشرح له الجبال التى يحتمل وجود الحجارة فيها ، وتحرى إبراهيم أغا هذه المرة جميع الجبال التى حول المدينة المنورة ثم وجد فى جهة بيار على من وادى العقيق على بعد ساعتين من المدينة المنورة فى جهة مكة المكرمة ، محجرا غنيا بالحجارة وكانت هذه الحجارة

١٠٣

المستخرجة غاية فى اللطف وكان لونها قريبا من اللون الوردى ، فسّر أفراد الهيئة وأهالى المدينة من هذا الأمر وقالوا : «إن ظهور هذا المعدن من جملة ما وفق فيه السلطان».

وهذا عين الصواب ، ولا يخفى على الذين يقفون على الوقائع التاريخية لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الملوك الذين بذلوا المساعى والجهود لتعمير مآثر البلدة النبوية لم يوفقوا فى كشف معدن مثل ذلك واضطروا لجلب تلك الحجارة اللازمة للتعمير من مصر والجهات الأخرى البعيدة ، وقد ظهر هذا المعدن اللطيف فى وادى العقيق الذى عظم قدره بحديث مخصوص.

العقيق

كما عرف فى مكانه واد مبارك ، كان اسمه القديم السليل ، ولما قال تبع الحميرى هذا عقيق الأرض فعرف باسم العقيق ، ومن المحتمل تسميته بهذا الاسم لاحمرار رماله.

غريبة

بينما كان إبراهيم أغا يتحرى عن الحجارة فى الجبال مع أصحاب الوقوف من أهل المدينة ، ظهر شخص على شكل أعرابى وقال له : «يا إبراهيم أغا إننى أعرف فى هذه الأماكن معدنا ، تعالى أريك إياه. قد ينفعك فقادهم وهو سائر أمامهم إلى الجبل الأحمر حتى وجد ذلك المعدن فى هذا المكان وأراه لهم ، وسر إبراهيم أغا من مروءة هذا الأعرابى وأراد أن يكافئه بعطية ، إلا أن الأعرابى قد اختفى عن الأنظار فى الحال.

إن هذه الإشارة علامة شاملة البشارة على أن خدمات والد السلطان كثير المحامد قد حظيت بحسن القبول عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

١٠٤

ونصب حليم أفندى على الجبل المذكور الخيم وبعث الآلات والأدوات اللازمة : النجارين ، والحجارين وفتح منجما فى قمة الجبل ، ورفع الصخور التى عليه فاستخرج قطع حجارة كبيرة وأمر بنحتها لتكون صالحة للاستعمال.

لأن الحجارة التى استخرجت كانت غير قابلة للنقل من جهة إلى أخرى فضلا عن نقلها وحملها على الجمال ، وفى الآخر سوى الطرق التى بين الجبل المذكور والمدينة المنورة ، وهيأ مكانا واسعا خاصا بالحجارين ، وبعد مدة عين محمد رشيد أفندى محافظ المدينة وكيلا له ثم عين شريف أفندى من أقاربه لرياسة معتمر العمال ، ولما ذهب إلى مكة لأداء فريضة الحج انقطعت أنفاسه الأخيرة فى منى وارتحل عن دنيانا ، ورحل حليم أفندى الذى أتى من باب السعادة كما أن أشرف أفندى هو الآخر قد ارتحل عن دنيانا فى منى أيضا بعد وفاة حليم أفندى.

وكان هذا الشخص قد أرسل من قبل حليم أفندى إلى باب السعادة بعض ذهب مجيدى من فئة مائة ، وإثر وفاته قد اخذت هذه المبالغ الذهبية بمعرفة الحكومة وأرسلت إلى شورى هيئة البناء المقدس. وإن كان حليم أفندى قضى ما يقرب من ستة أشهر فى مهمة البناء المقدس وبذل جهده لأداء عمله على أحسن وجه إلا أنه فى أثناء هذه المدة وجد المعدن المذكور وسهل الصعوبات التى ظهرت فى نقل تلك الحجارة من الجبل الأحمر ومهده وبنى محلا خاصا لتقطيع الحجارة ونحتها فى موقع يطلق عليه دار الضيافة وجهز الآلات والأدوات اللازمة فقط ومن هنا لم تتقدم عمليات مسجد السعادة.

وعقب وفاة حليم أفندى أرسل رجل يصدق لدى الباب العالى درايته وأهليته ، لكشف أبنية مسجد المدينة المسعودة ومعاينتها إلى دار السكينة ، وقرر فى مجلس الوزراء الخاص تفويض هذا الأمر الجليل إلى محمد أسعد (١) مؤلف «دريكتا» من أجلاء العلماء المتبحرين الذى قرر أن يذهب فى تلك السنة إلى

__________________

(١) محمد أسعد أفندى المشار إليه يعرف باسم إمام زاده وكان فى ذلك الوقت من أعضاء المجلس الأعلى.

١٠٥

أراضى الحجاز لأداء فريضة الحج ، واستأذن السلطان فى هذا الأمر وصدرت الإرادة السنية بذلك وأخبر بذلك أسعد أفندى وكان فى هذا الكشف الثانى والى الحجاز آكاه باشا أيضا ولما فسر قرار مجلس الوزراء بخصوص كيفية كشف ذلك المقام السامى بطريقة مع داود باشا شيخ الحرم النبوى ، وبين له المهمة التى كلف بها ثم استفسر منه فى أثناء حديثه عن الذين يقتضى وجودهم معه فى أثناء كشف الأماكن المقدسة ، وسر داود باشا من اختيار محمد أسعد لهذه المهمة وبين له أصحاب المعلم فى هذا الموضوع ذكر أسماؤهم وأسرع بتشكيل هيئة كشف من سادات البلد وموظفى الحكومة ومن العالمين بكشف المكان وأصحاب الوقوف فيه.

وقد كشفت تلك الهيئة وعاينت داخل حرم السعادة وخارجه وعثرت على الجدران المتشققة والقباب التى بليت والسقوف التى مالت للسقوط والانهيار وبعد أن رأى تلك الأماكن قال شيخ الحرم ، السيد المحترم ، قد عرفتم أن تعمير الحرم الشريف قد وصل إلى درجة الاستحالة ، فإذا ما أصلح بعض أماكنه بإنفاقه نقود طائلة ، فمن البديهى أن المواقع الأخرى ستحتاج إلى الإحكام والإصلاح وهذا بديهى ، وإذا التزم جانب إصلاحه وتعمير بعض أماكنه فعلى هذا التقدير سيكون قد فتح باب لصرف نفقات باهظة بإصلاحه كل عام.

إلا أن محمد أفندى أسعد قال : «إن المبالغ التى ستنفق لتعمير أبنية الحرم النبوى تقتضى أن تكون من الحلال الطيب المطلق» ، وألمح أنه ليس مع الذين يريدون أن يعمروا الحرم النبوى كاملا وبين أنه يمكن إحكام الحرم النبوى بتعمير بعض جهاته ، وأسكت الذين يقولون بأن تعمير بعض جهات الحرم النبوى مضر للخزانة السلطانية.

وقد تأثر شيخ الحرم داود باشا (١) من رأى محمد أسعد أفندى أعظم تأثر كما

__________________

(١) منذ أن دخل الحجاز فى حوزة السلاطين العثمانيين إلى يومنا هذا لم ير الناس شيخا للحرم فى نبل داود باشا.

١٠٦

أن الأهالى عامة تغيروا منه ولم يلتزموا جهة إقناعه بإتيان أدلة مقنعة ولكنهم بالاتفاق توجهوا ناحية سلطان الأنبياء ـ على نبينا وعليهم التحايا ـ وعطفوا النظر إلى الحجرة المعطرة وحصروا أنظارهم قبل حضرة النبى صلى الله عليه وسلم لعله تصدر منه إشارة معنوية ، وسكتوا عن الأمر.

ولما رأى محمد أفندى أسعد تأثر داود باشا وأعاظم أهل المدينة وساداتها وعلمائها واغبرارهم ، ندم على أنه اتخذ رأيا يؤدى إلى إنقاص الخاطر ، إلا أنه على حق لأنه ما كان يستطيع أن يتصرف خلاف التعليمات التى صدرت له من الباب العالى.

سقوط قبة ـ كان ذلك عقب أداء صلاة الصبح بعد أن شكل محمد أسعد أفندى الهيئة الكشفية لكشف ومعاينة مسجد السعادة ، وعقب القرار أخذت تسقط قطع طلاء قبة من القباب التى فى مقدمة الجهة القبلية من حرم السعادة ، وكأنها تخطر بلسان حالها لزوم تجديد أبنية المسجد ، الشريف المقدسة ، إن هذه الحالة قد أقنعت إمام زاده بلزوم تجديد المسجد ، قد أدت الأنقاض التى سقطت من القبة إلى مقتل الشيخ محمد إسكندر الذى كان يقف أمام نافذة المواجهة النبوية وفى النقطة التى يقف فيها من يزورون عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ولو وجدت الهيئة الكشفية فى النواحى التى وقعت الأنقاض فيها فى هذه الساعة ، لحدثت مصائب أكثر من ذلك ، قد توفى محمد أفندى متأثرا بإصابته بالجرح فى رأسه وتوفى قبل أن ينقل إلى الحى الذى يسكن فيه ، وكان من الإسكندرية ومن أجلاء طلاب الشيخ الصاوى وكان رجلا فطنا وغاية فى الإخلاص ، رحمه الله رحمة واسعة وانهار عقب هذه الواقعة جهة سقف من سقوف مسجد السعادة فى الجهة الشرقية وبما أنه لم يكن تحته إنسان لم يتسبب فى أية خسائر فى الأرواح.

ولما ظهرت تلك المعجزة المذكورة استيقظ إمام زاده من نوم غفلته الثقيل وفهم رأيه السقيم وأذعن لخطئه وأخذ يستغفر نادما وصدق قرار مجلس المدينة سالف الذكر ونقل مكانه مدير الخزانة النبوية عبد اللطيف أفندى وعين بدرى أفندى من

١٠٧

الكتبة لكتابة مصاريف الأبنية السعيدة ، وأمر بفتح المضيفة التى فى الجهة الشامية من المسجد وجعلها سكنا للكتاب والعمال كما عين إسطبلات عديدة للحيوانات التى تستخدم فى عمليات البناء وعاد بعد ذلك إلى باب السعادة وكتب تقريرا عن مشاهداته الذاتية ومطالعاته من أولها إلى آخرها.

ويناء على المضبطة التى فهمت من قبل الباب العالى وبناء على التقرير الذى قدمه محمد أسعد صدرت الإرادة من الخلافة المعظمة بسرعة إجراء ما يقتضيه الحال.

ولما عاود العمال العمل مرة أخرى فى إعمار حرم السعادة كان العربان يتعدون على العمال ، وقد دامت هذه الاضطرابات فترة طويلة وفى النهاية أرسل من باب السعادة الفريق الحاج خالد باشا فشتت شملهم وذلك فى سنة ١٢٧٤ ه‍.

وكان محمد رائف باشا فى أثناء عصيان العربان يسعى لأداء مهمته ويهتم بالمحافظة على الجهات التى فى الجبل الأحمر وطريقه ومع ذلك يتأسف ويحزن كلما رأى حال مؤخر حرم السعادة المؤسف ويضطرب ، لأن فى الوقت الذى بين وفاة حليم أفندى وتاريخ وصوله إلى المدينة توقفت عمليات بناء الأبنية المقدسة فساءت حالة بعض جهات مؤخر حرم السعادة وأوشكت على الانهيار فجأة وبناء عليه قد قويت الأعمدة التى اعوجت بدعامات وبهذا قد أنقذت لوقت قليل من المخاطر الآتية ، بعد ما أحكم محمد رائف باشا تلك الدعائم كشف وعاين بكل دقة وعناية حرم السعادة وفهم أنه إذا لم تقتلع الأعمدة المعوجة وتركز أعمدة جديدة رصينة فى أماكنها لن يسلم سقف مؤخر المسجد النبوى من الخطر ، ولن تنقذ الساحة الرملية من الضيق والازدحام إلى أن يفتح باب فى الجدار الشامى وذلك بنقل قبة الشمع الكائنة فى الساحة الرملية إلى خارج الجدار الشامى ، ونظم فى هذا الخصوص خريطة كاملة وعرضها على من يهمه الأمر وقال : «إنه يجب أن يطلق على هذا الباب ، الباب المجيدى وتنشأ على جهتى هذا الباب مدارس فوقه وتحت وأن نطلق عليها ، مكاتب مجيدى ، وأرسل نسخة من هذه

١٠٨

الخريطة إلى الباب العالى ليعرض على الأنظار السلطانية وإذا ما استلم هذه الخريطة فإنه سيحدد مؤخر حرم السعادة وفقا لهذه الخريطة.

ولما كان نقل قبة الشمع خارج الجدار الشامى وإنشاء مدارس خاصة من أجل الصبيان خدمة عظيمة تسدى لرعية المسجد النبوى الشريف.

من هنا كان تدبير محمد رائف باشا الواقعى من جميع الوجوه يستحق التقدير بل الحمد والثناء لأن أطفال سكان المدينة المنورة كانوا يتلقون تعليمهم الابتدائى قبل قباب مؤخرة حرم السعادة فى حالة متفرقة وكانوا يقومون حسب الصباوة بحركات غير لائقة ، ولما كانت هذه الحالة تخالف الحديث الشريف الذى رواه ابن ماجة عن واثلة بن الأسقع والذى يقول ما معناه : «أبعدوا عن مساجدكم أطفالكم ومجاذيبكم وامنعوا البيع والشراء والخصومات وإقامة الحدود ورفع الأصوات وسل سيوفكم واجتنبوا مثل هذه الحالات وداوموا فى تبخير مساجدكم أيام الجمع» (١).

ولما كانت فى تلك الأوقات فى الحرم الشريف نظيفة ، كما أنه لم تنعم جماعات الموحدين فى الحرم الشريف بالسكون من وقاحة من يسمون بالمجاذيب من الحمقى غير المتدينين ، كما أنه لم يبق مجال للتأمل والتفكير أمام المواجهة النبوية من ثرثرة المزورين والأغوات ، ووجود قبة الشمع فى الساحة الرملية وإدخال الجمال التى تحمل زيت الوقود من باب الرحمة إلى حوض تلك القبة قد أخلت نهائيا بالتعظيم والرعاية اللازمين للحرم الشريف.

وقد حظيت الخريطة المرسلة إلى باب السعادة بالتقدير وأمر أن يجدد مؤخر الحرم الشريف كما جاء فى الخريطة المذكورة وأن يحول اسم الباب المجيدى إلى أسم باب التوسل وأن يؤخذ آراء ورضا أهل المدينة بخصوص الأماكن التى

__________________

(١) ونص الحديث : «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم ، وأصواتكم وسل سيوفكم وإقامة حدودكم ، وجمروها فى سبع واتخذوا على أبواب مساجدكم المطاهر» وحديث واثلة رواه ابن ماجة ورواه الطبرانى عن أبى الدرداء وأمامة وواثلة ، وينحوه عن معاذ بن جبل وانظر : مجمع الزوائد للهيثمى ٢ / ٢٥ ـ ٢٦.

١٠٩

يقتضى الأمر تجديدها ، بهذا صدر الأمر السلطانى وأبلغت الكيفية إلى محمد رائف باشا بالرسالة وبناء على التحريرات السامية التى وردت عرض الباشا تلك التحريرات إلى من يقتضى الأمر عرضها عليهم وبين أنه سيعمل وفق هذه الأوامر السلطانية وإن كان بعض الأهالى اعترضوا على تغيير الأساطين وقالوا : «لا لزوم لتغيير الأساطين ، وإذا ما غيرنا الأعمدة التى ظلت لمدة مديدة فى مؤخرة حرم السعادة وجاورت الحجر المعطرة نكون قد ارتكبنا نوعا من عدم الرعاية ؛ ولأجل ذلك يقتضى الأمر إبقاء هذه الأعمدة فى أماكنها وتقويتها بدعائم كما أن القباب التى تحملها تجدد بهذا الشكل». وبهذا التزموا القول الذى يقول بإبقاء جميع الأعمدة التى فى مؤخرة حرم السعادة وأن تعمر وتجدد دون أن يحدث أى تغير فى جميع جهات الحرم النبوى الشريف.

فأجابهم محمد رائف باشا قائلا : «إن هذه الأعمدة كثيفة جدا أولا وضيقة وبالية ، فإذا ما اقتلعنا هذه الأعمدة وحولنا وبدلنا أماكنها نكون قد وسعنا أماكن الصلاة ، كما ننقذ القباب التى ستصنع من المخاطر المستقبلية ، وكافة الأعمدة القديمة قد ركزت فوق حجارة عادية وبما أن تلك الأحجار قد وضعت فوق الأرض وقد تكسرت بثقل القباب وتضييقها وظلت الأسياخ الحديدية التى فى أطرافها فى الأرض».

وإذا ما لم تغير هذه الأعمدة فالقباب التى تقرر تجديدها مهما كانت خفيفة تحطم الأعمدة القديمة التى يراد إبقاؤها كما أنها تقتل من تحتها منهارة بعد مرور وقت قليل ، وإذا لم نهتم بالمخاطر المعروضة وبنينا القباب ، نكون قد بذرنا الأموال بعملنا وهذا عمل يخالف الشريعة الغراء وهو عمل غير معقول لا تقبله ضمائر الموحدين ، وإذا ما استرخصنا بصنع القباب التى صدر الأمر السلطانى بتبديلها بالبناء فالقباب الخشبية التى سنصنعها لا تتحملها هذه الأعمدة القديمة ، وإذا ما سمحتم فلنقتلع أولا واحدا من هذه الأعمدة ونعاينها».

١١٠

فإن لم يتحقق ما قلته نبقيها على هيئاتها الأصلية ، وإذا كانت الأخرى نلجأ لرأى عموم الناس وفكرهم ونتحرك وفق رأى الأهالى وقرارهم وبهذا الجواب المفخم أقنع معترضيه من الوجهاء والأعيان من سكان البلد فقبلوا أن يقتلع أحد الأعمدة لمعاينتها ظانين أنه سيكون فى حالة سليمة متينة نظرا لهيئتها الخارجية وجعل من أحضرهم من نجارى المدينة يعاينون ذلك العمود ، وإذا بالعمود كان قد ركز فى أيام قايتباى فوق حجر أسود بال وضع فوقه التراب دون قاعدة والأحجار المذكورة قد تحطمت تحت ثقل القباب وصدمات الزمان المتقلب وتسببت فى اعوجاج الأعمدة والأسياخ الحديدية التى فى أطرافها فدست فى الأرض وتسببت فى انحراف الأعمدة عن مراكزها.

كانت الأسطوانة التى اقتلعت وعرضت على فريق العمل والأهالى كانت مكونة من عدة أعمدة مجوفة وسبب ذلك إبقاء الأعمدة على هيئتها الأصلية كلما عمر حرم السعادة وكل عمود قد صبغ مرة واحدة وهذه الصبغة قد تحجرت بمرور الأيام وظلت على شكل أسطوانة مجوفة. وابتدر قسم من سكان المدينة إذ رأوا الاسطوانة المقلوعة كما وصفها الباشا فوافقوا على تغيير الأساطين رأسا وقال قسم آخر وقد اطلع على الأمر أن الأساطين القديمة ستنتزع والقباب ستعلق فوق الأعمدة وستقلل الأعمدة وستبدل إلى أسطوانتين أو ثلاث قطع من الأعمدة الرخامية المجلاة هذا الإنسان لا يسمع الكلام ، ولا يريد أن يراعى هيئات الأبنية العالية المقدسة ، ويريد أن يغير ويبدل الأعمدة التى لم يمس طرازها ورسمها ، كاملة ويغير أماكنها ويقلل عدد الأساطين.

وأمعنوا ، أفكارهم بنشر هذه الأقوال المضرة وعملوا على تشويش أفكار العامة ، لكن رائف باشا لم يعر سمعا لهذه الاعتراضات فانتزع جميع الأعمدة التى فى مؤخرة الحرم الشريف بعد أن أسند القباب التى فيه وفق ما جاء فى الخريطة ووضع أسس وقواعد الأعمدة الجديدة التى سيركزها فى نسبة واحدة وبعد أن ملأ البئر التى حفرها بين الباب الشامى وباب الضيافة وخارج سور المدينة المنورة بالتراب والأنقاض التى نتجت عن تلك العمليات ، وهدم

١١١

الجدار الشامى للحرم الشريف وأخذ يجدده وأسس على طرفى باب التوسل الذى فتحه وسط الجدار المذكور أربع مدارس مجيدية كما أسس أربعة مخازن لوضع زيت الوقود والأشياء الأخرى على الجدار الشامى وبهذا وسع الساحة الرملية قدرا ما.

وهناك فى داخل المدينة المنورة وفى المواقع التى سيأتى ذكرها إحدى عشرة مدرسة أخرى ما عدا المدارس المجيدية التى سبق ذكرها وتلك المدارس من جملة ما بناه محمد رائف باشا.

١ ـ فى داخل الرباط الذى فى جهة الطاحونة من مسجد بهرام أغا من أغوات باب السعادة فى العنبرية.

٢ ـ هذه المدرسة فى السبيل الكائن فوق جسر سيل أبى جيد.

٣ ـ فى التكية المرادية التى خربت.

٤ ـ وهذه المدرسة بالقرب من المخبز الأميرى وهى مدرسة سليم أفندى وهو من قرناء السلطان عبد المجيد الرئيسية.

٥ ـ مدرسة الحوش التاجوري.

٦ ـ مدرسة بيت الخليفة أمام المناخة.

٧ ـ مدرسة زاوية العشاقي.

٨ ـ مدرسة زقاق النخاول.

٩ ـ مدرسة السلطان محمود خان الأول فى داخل دار توقيت باب السلام.

١٠ ـ مدرسة قبة سيدنا مالك رضى الله عنه.

١١ ـ مدرسة زقاق قفا.

وكل هذه المدارس خاصة بالصبيان الذكور وهناك مدارس كثيرة خاصة بالإناث ولا حاجة لذكرها.

١١٢

وكان حفر محمد رائف باشا البئر التى خارج السور لوضع ودفن الأتربة والأنقاض المتبقية من التعمير كان برجاء الأهالى واسترحامهم ، لأن الحجارة ذات الحجم الكبير التى نقلت من الجبل الأحمر كانت تصطدم ببعض المنازل ويزعج ذلك الأهالي ، وبما أن الأهالى رجوا محمد رائف باشا أن يجد حلا لهذه المشكلة فتح بابا فى سور المدينة فى الجدار الذى يوازى ويحاذى دار الضيافة وبعد الاستئذان أطلق عليه الباب المجيدي.

والمبانى التى يطلق عليها الأهالى قبة الشمع هى المبانى التى فوق حوض زيت الزيتون الذى يحضر من مواقع معلومة والذى حفر لحفظ الزيت ووضعه فيه ، وكانت الجمال التى تحمل الزيت تدخل من مدخل باب الرحمة ، كما ذكر آنفا وتوصل الزيت داخل تلك الأبنية وكان هذا العمل فد دخل فى حكم العادة بين الجمالين.

وقد وفق محمد رائف باشا بخدماته هذه فى عرض مراسم التعظيم والتفخيم للحجرة المعطرة وذلك بإخراج مبانى القبة المذكورة خارج الجدار الشامى وبتسطيحه الساحة الرملية وسع وسط حرم السعادة ووضع نظاما حسنا بعدم إدخال الجمال فى داخل الحرم الشريف المشحون بالنور ، كما هدم وجدد الجدار الذى بين باب الرحمة والمئذنة المجيدية (١) والقباب والأساطين الكائنة فى الجهة الغربية من هذا الجدار ، والجدار الذى بين باب جبريل والمئذنة الرئيسية ، ومع هذا قد اعترض عليه لأنه جدد الجدار الذى فى باب جبريل ، وكانت تلك الاعتراضات كلها على غير وجه حق ، لأن المحل الشريف الذى هدم وجدد فيما بين باب جبريل والمئذنة الرئيسية ، كان فى الجهة الشرقية من الأبنية العالية المقدسة وكان فى محاذاة قدم السعادة ذات شرف ، كان الفراغ بين الحجرة المعطرة والجدار الذى هدم ضيقا جدا وكان يحول دون مرور الزوار وعبورهم وكان هذا الأمر يؤدى بالضرورى إلى ما يخل بآداب الزيارة وأراد

__________________

(١) كان يقال لهذه المئذنة قبل التجديد الشكلية.

١١٣

محمد رائف باشا أن يزيل ما كان يحدث من عدم رعاية آداب الزيارة وأن يحقق للزائرين الطمأنينة.

وأراد أن يوسع ذلك المكان المذكور قدر الإمكان ، فنقل جدار جهة باب جبريل إلى الخارج مقدار خمسة أذرع وجدده وقلل عدد الأعمدة وغير أماكنها وركز اسطوانة رصينة قوية موزونة بدل كل ثلاثة أعمدة وشيد أعمدة وقباب تلك الجهة على طراز جديد وفى شكل جميل متناسق فأعجب الناس من رصانتها وتناسقها ، إلا أنه لم يهتم بما فى مؤخرة الحرم الشريف من أشياء أخرى متفرعة وتركها فى حالة خراب.

واستقبح من قبل الأهالى هدمه الجدار الذى فى ناحية القدم النبوى السعيد ونقله إلى الخارج مقدار خمسة أذرع دون أن يأخذ رأى أحد أو رضاهم وأدى إلى قيل وقال وإشاعة أقوال فى حقه ومن هنا طلب بعض خواص الناس أن يعتنى بمؤخرة حرم السعادة أيضا وأن يراعى جانبه ، وقال المعترضون من عامة الناس : «إننا لم نستطع أن نبين قلة رعاية هذا الرجل وقد أظهر عدم احترامنا حينما دفن أنقاض الحرم الشريف فى البئر التى حفرها خارج السور ، فإذا ما سكتنا لفعله هذا لا نكون قد أحسنّا فعلا ولهذه الحركات التى تدل على عدم الاحترام مسئولية كبيرة وهى فى أعناقنا وقد اقتنع هؤلاء الخاصة بمثل هذه الأقوال وعرضوا الأمر إلى باب صاحب القرار وقد أوردوا أقوالا عجيبة واشتكوا من محمد رائف باشا ورجوا منه أن يعين مكانه شخصا آخر ويرسله إلى المدينة المنورة.

ولما كانت أنقاض حرم السعادة وترابه كلما يتجدد أو يعمر تدفن فى مكان على سفوح جبل أحد وكان هذا المكان قد أحيط بسور من جهاته الأربعة ، لذا كان الأهالى محقين فى هذا الخصوص ، وما زال هذا المكان موجودا إلى يومنا هذا وهو من المزارات التى يزورها الناس ويصلون هناك ركعتى

١١٤

صلاة التحية ، ولكن محمد رائف باشا قد دفن الأنقاض والأتربة الناتجة من التعمير والتجديد فى البئر التى حفرها خارج السور مراعاة لمصروفات خزينة الدولة ، وكان ذلك سببا فى قول الأهالي : «إن محمد رائف باشا لا يراعى حرمة الأماكن المقدسة»

وإن كنا نحن أيضا نوافق الأهالى فى خطأ محمد رائف باشا وشكاياتهم فى حفره ذلك البئر المذكور ، إلا أن تأخير الجدار التى فى مواجهة قدم السعادة إلى الخلف وما فيه من حسنات غير قابل للإنكار فادعاءات المعترضين فى هذا الخصوص كانت واهية ، لأن المكان الذى وسع كان مكانا ضيقا فى دائرة الحرم الفاخر وكان زوار الحجرة المعطرة يعانون أعظم معاناة عند زيارتها من الازدحام.

ولنعرف حال مسجد السعادة القديم والأماكن التى حددها محمد باشا واحدا واحدا بناء على القواعد الهندسية لنبين مدى ضعف ادعاءات المعترضين الذين قاموا ضده ، حتى لا يظلم الموصى إليه من قبل القراء.

حال مسجد السعادة

والمواقع التى أنشأها محمد رائف باشا

كانت أكثر أماكن المسجد الشريف تتكون من سقوف واقعة على أعمدة صنعت من حجر أسود والعقود المصنوعة من الخشب ، كانت الحجارة التى تشكل هذه الأعمدة قد وضعت بعضها فوق بعض قطعة قطعة وكانت قطع الحديد التى تربط بين الحجرين قد ربطت بالرصاص المذاب ، وقد هدم محمد باشا هذه السقوف من جهة الشام إلى المئذنة السنجرية.

وبما أن الجدار الذى بين مئذنة السنجرية والمئذنة الشكلية والخشبية قد هدم مع المئذنة السنجرية فى أواخر عهد السلطان سليمان وحدد ؛ فظلت تلك المئذنة باسم السليمانية ، ولما كانت الأعمدة التى هدمت فى الجهة الشامية والتى كانت تحمل سقوفها أربعة صفوف وكانت متقاربة من بعضها وكأنها متلاصقة فجعلها محمد رائف باشا صفين وبنى عقودها من الحجارة التى أحضرها من الجبل الأحمر

١١٥

وبدل القباب القديمة التى كانت مصنوعة من الخشب إلى قباب حجرية ، وفتح بابا كبيرا فى المكان الذى يلى المئذنة السليمانية وسماه باب التوسل.

يفرض أن يكون باب التوسل فى مكان مقابل دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف ـ رضى الله عنه ـ كان الوليد بن عبد الملك أدخل ذلك البيت داخل مسجد السعادة ، ولما آلت تلك الدار إلى حميد بن عبد الرحمن عن طريق الميراث من جده وكان النبى صلى الله عليه وسلم اعتاد أن يضيّف ضيوفه فى هذا المكان فسمى ذلك البيت فى عصر السعادة بدار السعادة.

كانت دار حميد بين مئذنتى الشكلية والسنجرية فى نقطة تتصل بخارج الجدار الشامى للمسجد الحرام وكان فى جهتها الشامية مخبز ولبعض الدور والمخازن أبواب تفتح من داخل المسجد ، وكانت توضع فيها قناديل حرم السعادة والأشياء التى تتعلق بالقناديل. وكانت ميضأة (١) الأغوات التى يفتح بابها إلى داخل المسجد فى مكان متصل بهذه المخازن ، واشترى محمد رائف باشا تلك المنازل والمخبز من أصحابها بإعطائهم خمسمائة وسبع وعشرين قطعة ذهبية ، وهدم سواء أكانت هذه الدور أو ميضأة الأغوات وما بجوارها من المخازن ومئذنة الشكلية التى تشققت حتى الأرض والسقوف الغربية التى تتصل بهذه المئذنة وبنى يمين ويسار باب التوسل سالف الذكر مدرستين فوقيتين وجعل أقفاصا حديدية لنوافذ هاتين المدرستين كانت تفتح إلى مسجد السعادة ، وخلف الحجرات التى تصادف للجهة اليسارية من باب التوسل صنع حنفية طويلة أى شادروان ثم أسس على جهة يقال لها الزقاق الشامى من تلك الحنفية ميضأة ذات دورين بدلا من ميضأة الأغوات كما أسس فى جهة الميضأة التى فى الدور الثانى حماما خاصا يخدم حجرة السعادة ، ولحمام ميضأة الأغوات باب يفتح إلى داخل المسجد وعند الضرورة يخرج من هذا الباب بسلم كما ينزل إلى الميضأة من فوق الكمر الذى فوق الحنفية ، وبعد ما أنهى محمد رائف باشا عمليات ميضأة الأغوات

__________________

(١) وكانت والدة الخليفة الناصر لدين الله هى التى أسست هذه الميضأة.

١١٦

بنى أربعة من المخازن على الطرف الغربى من الميضأة أى فوق سلم المخازن التى سلف ذكرها.

ولهذه المخازن ميدان واسع مكشوف ، وتحفظ فيها زيوت زيتون قناديل مسجد السعادة ولوازمه الأخرى ، وقد فتح بابا كبيرا خارج المسجد لتدخل من المخازن المذكورة المحروقات والباب القديم الذى فتح فى داخل المسجد ترك على حاله فى مكانه لينفتح عندما يصلح قناديل حرم السعادة ، وبنى فوق أرض ميضأة الأغوات مخزنا آخر لوضع الأشياء الخاصة بالمسجد الشريف ولهذا المخزن بجانب باب المئذنة وفى داخل المسجد باب يفتح للزقاق الواقع فى الجهة الغربية من المسجد وهو باب مشبك.

وبعد أن أتم محمد رائف باشا بناء هذا المخزن أزال المخزن الذى فى جهة مئذنة الشكلية لعدم نفعه وحفر مقدار ذراع المرتفع الذى فى الجهة القبلية من مسجد السعادة وسواه وهدم الدكك التى انتشرت هنا وهناك فهدم القبة التى فى وسط الحرم الشريف ، بينما هدمت هذه القبة وكانت تسوى أرضها بفرش الرمل ظهر حوض تحت الأرض ينزل إليه بالسلم ، ويلزم أن يكون هذا الحوض البركة التى عرفها ابن النجار.

قال ابن النجار وهو يصف هذا الحوض : «كان فى وسط مسجد السعادة وفى الجهة الغربية من النخيل ينزل إليه بسلم من عدة درجات ، قد صنع من الأحجار والجص والألواح الخشبية وكان ماؤه يتدفق من فسقية فى وسطه ، وكان ماؤه من عين الزرقاء ، وكان خاصا بموسم الحج والعثور على الماء فيه فى الأيام العادية غير محتمل».

وذهب إلى أن هذا الحوض أثر من آثار أحد أمراء الشام يسمى شامة ولكن رأيه هذا لا يخلو من خطأ.

إذ قال المؤرخ المصرى : وينسب هذا الحوض إلى الأمير سيف الدين الحسين بن أبى الهيجاء ، إن الأمير سيف الدين الحسين بن أبى الهيجاء حفر فى تاريخ خمسمائة وستين هجرى من عين الزرقاء إلى باب السلام فأجرى إلى الميدان الذى

١١٧

بجانب الباب المذكور مقدارا كافيا من الماء ، ومؤخرا أدخل جزءا من هذا الماء فى الساحة الرملية لمسجد السعادة ، وصنع هنا منهلا كما صنع فوقه كمرا وتحته فسقية ؛ كان الناس يجدون هنا وضوءهم ، ثم حدث ما يهتك حرمة الحرم الشريف بجانب الحوض ، بعد أن أزال محمد رائف باشا قبة الشمع من ساحة الحرم الرملية هدم ما بين جدار مسجد السعادة الشرقى مع مئذنته الرئيسية وبنى باب جبريل وسحب جدرانه إلى الخلف قدر خمسة أذرع وربع ذراع إلى الخارج وبنى مكانا للخلوة فى دورين فى الميدان الصغير الذى استحدث نتيجة للهدم بين مئذنته الرئيسية وركن الجدار الجديد ، ولم يلمس الأعمدة التى حول حجرة السعادة ودعاماتها ولكنه أراد أن يقوى ما جدده من أعمدة الجدران وعقد القباب الجديدة فركز الأعمدة فى محاذاة الأعمدة المدعمة لحجرة السعادة ، وأبقى باب جبريل فى مكانه وزين باب المئذنة الرئيسية بأحجار منحوتة حمراء لترصيعها وصنع لهذا الباب سلما ذا أربع درجات وترك مكان الباب العتيق للسادة الخطباء ، وبينما كان يحفر أسس الجدران الجديدة ظهر مصرف مياه ولعله كان مكان اجتماع مياه البالوعات ، وكان فوق الرصيف وخارج مسجد السعادة ، وإن كان ذلك المصرف بعيدا عن الحجرة النبوية إلا أنه نقل إلى مكان أبعد تعظيما للمسجد النبوى ، ولما وصلت أعمال حرم السعادة لهذه النقطة وقبل أن تركب عقود القباب الشرقية ، كانت شكايات المعترضين وصلت إلى الباب العالى حيث درست وحتى يقضى على النزاعات والخلافات التى حدثت نقل محمد رائف باشا وعيّن الفريق أبو بكر باشا ناظر معهد الهندسة البرية السلطانية مكانه وأرسل إلى المدينة المنورة.

وتحرك أبو بكر باشا من باب السعادة وفى رفقته الحاج محمود أغا الجناح ، وهو من مدرسى معهد الهندسة المذكور (١) وعثمان باشا الذى عين شيخا للحرم ووصلا إلى المدينة المنورة فى اليوم الحادى عشر من شعبان المعظم سنة ١٢٦٩ الهجرية ، وكشف الباشا المذكور وعاين كل ما تم عمله سواء أكان فى عهد حليم

__________________

(١) وما زال الحاج محمود أفندى مدرسا فى المدرسة الحربية السلطانية للرسم ويحمل رتبة قائم مقام.

١١٨

أفندى الصغير أو محمد رائف باشا ، من طريق الجبل ومواقع الحرم المبجل ، ثم وضع خريطة أخرى وفق أفكاره وصمم على أن يجدد ويعمر جميع جهات مسجد السعادة حتى تصير رصينة متينة وعزم على الشروع فى العمليات ـ كسلفه ـ من جهة مؤخرة حرم السعادة ، ولما رأى أن القباب التى بين المئذنة الرئيسية وباب جبريل أولى بالتعمير من الجهات الأخرى أكمل تلك القباب ، وأسرع فى حفر وتعميق أساس المئذنة الشكلية ، وبما أن المياه زادت قدر قامة رجل كلما حفر ذلك الأساس وعمق فغرس أوتادا وبنى قاعدة صلبة وجعل أساس المئذنة فوق هذه القاعدة وبنى المئذنة حتى كرسيها ثم عمر الأماكن التى انهارت من قديم فانتقل إلى الجهة الغربية من مسجد السعادة ، وبما أن جدران هذه الجهة كانت رصينة لم يمسّها ووسع فقط ما بين الأعمدة التى تحمل القباب وأحد السقوف ، لأن هذا المكان كان يتكون من أربعة سقوف مبنية على أربعة صفوف من الأعمدة.

وألغى أحد الصفوف من الأعمدة وسقفا واحدا فنظم هذه الجهات على ثلاثة سقوف فوق ثلاثة صفوف من الأعمدة وألصق صفا من الأعمدة على الجدار حتى يضع عليها العقود ، وهذه الأعمدة مراكزها ملاصقة للجدران ، كما سبق ذكره ، وعقد عقود القباب فوق هذه الأعمدة ثم انتقل إلى الجهة الشرقية فهدم الجدار الذى بين المئذنة السليمانية وباب النساء ، ونصب بعض الأعمدة وأخذ يبنى الجدار الذى هدمه بحجارة سوداء وقبل أن يكمل عمله وكّل عبد اللطيف أفندى من رجال الدولة العالية وأنابه عن نفسه ثم سافر إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وعاد بعد الحج وبذل جهده لإتمام عمليات الجهة الشرقية من مؤخرة حرم السعادة ، ولكنه توفى قبل أن يختم عمليات الجهة ودفن يوم التاسع عشر من جمادى الأولى سنة ١٢٧١ فى القبر الذى هيئ له فى البقيع الشريف ، رحمة الله عليه.

كان أبو بكر باشا فى الوقت الذى عزم فيه على الحج كتب تقريرا إلى شيخ الحرم النبوى عثمان باشا فى أن يعين عبد اللطيف أفندى وكيلا له وأخذ من الباشا المشار إليه الجواب الآتى :

١١٩

الأمر :

إننى عجزت عن فهم تقرير الباشا مدير الأبنية العلية ولما كانت للأبنية المسعودة مواد جسيمة وأمور عظيمة ولما كنت الموظف المسئول عن نقل هذه الأشياء ، ولما كان النفع والضر عائدا لك لمسئوليتكم وحتى لا يحدث ما يؤدى إلى تعطيل سير الأمور وتأخيرها ولبذل الهمم للمقبوضات والنفقات فعملتم على اختيار وكيل لكم وهذا منوط ولائق لرأيكم السامى.

صورة التقرير :

وقد قررت كما تعرفون أن أسافر فى هذه الأيام إلى مكة المكرمة بنية أداء الحج المفروض ولما لزم أن تدار المهمة التى ألقيت على عاتقى وقبلت نظارتها بواسطة وكالة أحد موظفى الأبنية العلية ، يا ترى هل من المناسب أن يختار لها أحد المقربين إلى وهو مدير الحرم الشريف صاحب العزة لطيف أفندى الذى سبق أن وجهت له الوكالة ، أو ترون شخصا آخر أنسب لهذه المهمة؟ ومهما كان اختياركم للشخص الذى ستنتخبونه وكيلا مكانى أرجو أن تبينوا فوق هذه الورقة البيضاء ما ترونه وأن تسطروه والأمر فى هذا الخصوص لمن له الأمر.

حرر فى ١٩ ذى القعدة سنة ١٢٧٠.

وقد صادفت وفاة أبو بكر باشا للوقت الذى كان فيه دلاور باشا شيخا للحرم ، وبناء على التكليف الذى حدث من محافظ المدينة ومن هيئة مجلس الشورى إلى دلاور باشا كان قد قبل وكالة أمانة البناء حتى لا تتعثر عمليات البناء ، وأمر بأن تهدم الجهات التى فى ناحية باب الرحمة الغربية فبناها مجددا وتمم الأماكن التى ظلت ناقصة فى الجهة الشرقية بأن جعل سقفها فى وسع سقوف الجهة الشامية والغربية ، وبنى أمام الجدار القبلى الرصيف الواسع الذى يطل عليه موضع الجنائز وعلى يسار من يخرجون من باب جبريل ، يعنى فى الجهة الشامية من ذلك الرصيف ، محلين مشبكين ومسقفين وفرش ما بين المحلين بقطع رخامية.

وكان كثيرون من الفقراء والغرباء يبيتون فى هذا الموقع الشريف فى أيام

١٢٠