موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

طول عمرى» ثم امتد مرة أخرى واضعا رأسه على ركبتى فضيل ورجليه على ركبتى سفيان بن عيينة (١).

وعقب ذلك وصل خبر هلاك المنصور وهو أنه كان يركب حصانا ووقع منه ، وتناولت الأفواه الخبر فى أرجاء مكة. وبما أن دعاء سفيان قد استجيب فقد تحرك المنصور من بئر ميمونة ووصل إلى «الحجونين» الكائن بين جبلين حذاء مقبرة المعلى وسقط من فوق حصانه على عنقه ومات متأثرا بذلك.

يقول مؤلف (لطائف الأخبار) عمر بن فهد : ولما كان المنصور متسلطا على الناس يضطهدهم ؛ خاف رجال السلطة من انتقام الشعب من جثته وأمروا بحفر مئة قبر ودفنوه فى القبر المائة ، وأخفوا عن الناس القبر الذى دفن فيه وكتموا أمره. وكان سبب رغبة المنصور فى إعدام حضرة سفيان واستثقاله ما وجهه إليه من النصائح والوصايا.

اتفق ذات يوم أن التقى سفيان بالمنصور فى (منى) (٢) وقال له «يا منصور اتق الله رب الكائنات واذكر ما رفعك إليه من منزلة ، لقد بلغت هذه المنزلة العالية بفضل سيوف المهاجرين والأنصار وأولادهم وأحفادهم وما بذلوه من جهد ، والآن قد عصفت بهم صروف الدهر ، وأما أنت فشحيح ممسك (٣) ولم يستطع عمر بن الخطاب أن ينفق أكثر من خمسة عشر دينارا فى أثناء حجه ، ومثله مثل الحجاج قد قنع بالجلوس تحت ظل شجرة ، وأنا أعرف أن الرجل الحق هو من إذا ما ازدانت ذاته بالعلم والعمل أصلح حال الأمة وهذا الرجل هو من أتجه إليه بالخطاب فرد عليه المنصور فى حدة وغضب «هل تريد أن تساوى نفسك بى» فأجابه الشيخ قائلا «لا ، لا يجب أن تكون فى منزلة أقل مما أنت فيها وأنا فوق ما أنا عليها» فطرده المنصور من مجلسه.

__________________

(١) الخبر بطوله فى تهذيب التهذيب ٤ / ١١٤.

(٢) كان هذا اللقاء فى حج المنصور الأول.

(٣) كان قصد سفيان بهذه الجملة معرفة مدى بخل وخسة أبى جعفر لأن المنصور كان رجلا مقترا يبحث عن حساب كل شىء حتى آخر دانق لذا اشتهر بلقب المنصور الدانقى.

٦١

سفيان الثورى :

إنه سفيان بن سعيد بن مسروق ، أبو عبد الله الكوفى من قبيلة «ثور» بن عبد مناة بن أد بن طابخة ، ويكنى بأبى عبد الله ، ولد فى السنة الخامسة والتسعين الهجرية ، واستجاب لدعوة ربه فى سنة مائة وستين ، يروى أنه دفن فى البصرة إلا أن قبره فى النجف الأشرف ، وبناء على هذا يقتضى وفاته فى النجف الأشرف رحمة الله عليه. (١)

* * *

__________________

(١) أمير المؤمنين فى الحديث وحيد زمانه فى الفقه والحديث والزهد أحد الثقات الإثبات مقدم عند الجميع ، أخرج حديثه الجماعة ، وهو إمام من أئمة المسلمين. انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب. ٤ / ١١١ ـ ١١٥.

٦٢

الصورة الرابعة

فى توسيع المسجد الحرام وتزيينه للمرة الرابعة

قد وسع المسجد الحرام للمرة الرابعة «محمد المهدى العباسى وذلك حينما رأى فى أثناء حجه أن المسجد الحرام فى حاجة إلى التوسيع. وقد سافر بنية أداء الحج وزيارة الروضة النبوية المطهرة ، واتجه إلى الحجاز الجالب للفيض الإلهى والمغمور بالغفران ، وعندما وصل إلى مكة المكرمة أقام فى «دار الندوة» الخاصة بالخلفاء العباسيين ، وهناك اطلع على أن الحرم الشريف فى حاجة للتوسيع والتعمير وظهرت لديه الرغبة فى إجراء ذلك. وفى أثناء ذلك شرف بالمثول بين يديه عبد الله بن عثمان بن إبراهيم من خدم الكعبة المعظمة.

وقال له «يا مولاى : أريد أن أقدم لك هدية لم تقدم لأحد من الخلفاء قبلك ، وقدم له حجر (مقام إبراهيم) المبارك لأجل زيارته. سر (المهدى) من صنع (عبد الله بن عثمان) فأمسك بالحجر الشريف ومسح به عينيه ووجهه ثم قبله. ثم أمر أن يملأ أثر القدم فوق الحجر بماء زمزم وشربه ، ثم بعث بالحجر الشريف إلى قصر حريمه فتشرفن برؤيته والتبرك به ، ثم أعاده إلى عبد الله بن عثمان ليعيده إلى مكانه.

وعقب ذلك مثل بين يديه بعض الأشخاص من كبار خدمة البيت وقالوا له «مولاى! كثرت الكسا على كعبة الله ، ومن المحتمل أن تنهار جدران الكعبة تحت ثقلها» وكأنهم كانوا يلوحون بأنه قد حان وقت تغيير الكسوة وتجديدها.

فأمر الخليفة بإزاحة ما تراكم على الكعبة من أكسية ، ثم أمر بتعطير الكعبة بدء من أسطحها وداخلها وخارجها بالمسك والعنبر والعطور الأخرى ، ثم ألبسها بثلاث طبقات من كساء ذا بهاء ، ثم أمر بأن تبدل سلاسل القناديل التى فى داخل

٦٣

كعبة الله بالذهب ، ثم قدم عطايا وفيرة ثم اشترى المنازل التى بين المسجد الحرام والمسعى الشريف ، وأمر بأن تلحق بالحرم الشريف وعاد.

وبناء على ما يرويه المؤرخون الذين اهتموا بما وزعه المهدى وأعطاه لأهل مكة من العطايا الملكية ونوعها ومقدارها فى ذلك العام إذ أنفق الخليفة فى تلك السنة ستمائة ألف ذهب جعفرى. وثلاثة ملايين درهم وخمسة عشر ألف ثوب من الثياب البغدادية الفاخرة وحمل خمسمائة جمل من الثلج والجليد ، وهكذا حرر كل أهل مكة مما أثقلهم من الفاقة والخصاصة.

إن الشخص الذى عين فى مديرية بناء الحرم الشريف للقيام بإنجاز الأمر الصادر من قبل المهدى ، استدعى أصحاب البيوت التى يقتضى هذا الأمر شراؤها ، بعد عودة الخليفة وأوصاهم بأن يدفع لهم مقدار ثمانية وخمسين ألف مثقال من ذهب ، ثم هدم المنازل المشتراة وضم عرصاتها إلى الحرم الشريف ، وهكذا وسع الجدار الغربى للحرم الشريف إلى باب العمرة والجدار الجنوبى إلى «قبة الشرابة» المعروفة بقبة العباس وذلك فى سنة (١٦١ ه‍).

وإن كان متولى أمر البناء يرغب فى توسيع الجهة الجنوبية من الحرم الشريف أكثر ، إلا أن المكان الذى يلزم إلحاقه كان متصلا بمسيل الوادى ولما كان إرساء الأساس فى مجرى السيل من الصعوبة بمكان فلم يستطع توسيعه ، ومع هذا قد اتسع ما بين كعبة الله المعظمة وجدار الحرم الشريف الجنوبى قدر (٦٣) قدما.

بعد ما أتم متولى أمر البناء جلب كل ما ينقص الحرم الشريف من مصر جلب أربعمائة وثمانين عمودا حجريا ، وركزها فى الأماكن الخاصة وصنع فوقها أربعمائة وثمان وتسعين قبة ، وهكذا أحكم قبب الحرم الشريف التى تحيط به.

ثم أنشأ بين المسعى اللطيف والحرم الشريف بقعة غاية فى الزينة التى تعرف «بدار القوارير» وفى ختام التعمير عرض الأمر على مقام الخلافة العالى.

٦٤

وكان قد بقى ميدان صغير عقب التعمير بين المسجد الشريف والمسعى اللطيف ، فأخذ جعفر بن يحيى البرمكى وزير «هارون الرشيد» عهدة هذا الميدان ، وفيما بعد استقطع عدة بيوت ومساكن ثم ساحة (دار القوارير) وأقام فى المتسع دارا منقطعة النظير.

وبعد مدة انهارت كل هذه المبانى ما عدا دار القوارير. واندرست أسسها وضاع أثرها وأقيمت فى مواضعها ربط حصينة ، كما أن هذه الربط انهدمت على مر الزمان ، ولكن السلطان (قايتباى) المصرى ابتاع هذه الربط بتمامها وهدم ما تبقى من آثارها ، وبنى المدرسة والرباطان اللذان ينسبان لاسمه ، وبنى بعض العقارات وأو وقف ريعها للإنفاق على ترميم المدرسة والرباط المذكورين وتعميرهما.

والبيت الأنيق الذى بنى على أرض دار القوارير انتقل بمرور الزمان ليد جواد البربرى ، وفرش جواد داخل ذلك البيت وزينه بالزجاج الملون ، كما زين خارجه بالرخام المصقول المختلف الألوان ، لكن ذلك البيت فقد قيمته بوفاة جواد ، وانتقل المنزل من يد لأخرى ثم انهار وبنى مكانه الربط والمدارس.

ولما أبلغ متولى أمر المبانى (المهدى) بإتمام تعمير المسجد الحرام ؛ رغب الخليفة فى زيارة أبنية المسجد الحرام الجديدة ، وتوجه إلى مكة المعظمة ورأى أن ناحية مسيل الوادى لم توسع ، وأن هناك فاصلة كبيرة بين البقعة المقدسة لبيت الله وبين الجدار الجنوبى للحرم الشريف ، ورأى أنه إذا ما وسعت هذه الجهة سيضيف هذا إلى المسجد رونقا وجمالا زائدا ، وستتوسط الأبنية المربعة للبيت الأعظم مساحة مسجد الحرام ، واستدعى الموكلين ببناء المسجد ، وأطلعهم على ما يجول فى خاطره وأمرهم بأن يجددوا ذلك المكان وفق اقتراحه ورأيه ؛ ولكن متعهدى البناء قالوا إذن يجب أن تهدم جميع البيوت التى على الضفة المقابلة لمسيل الوادى ، ويحفر مجرى آخر ويضم المسيل القديم كلّه إلى الحرم الشريف ، وهذا الأمر فى منتهى الصعوبة بل مستحيل.

لأنه يلاحظ أن السيول التى سترد من وادى إبراهيم ستهدم جميع الأبنية

٦٥

الجديدة التى ستبنى بعد تغيير المجرى من أساسه ، وستدخل المسجد الحرام وتخرب جدرانه ؛ لهذا يجب شراء منازل كثيرة أخرى وهدمها حتى ترسى أسس جدران مجرى السيل الجديد ، وهذا يقتضى مصروفات باهظة ونفقات لا تعد ولا تحصى.

وأرادوا أن يعلقوا رغبة المهدى إلى المستحيل بمثل هذه المغالطات الفكرية.

إلا أن (المهدى) أصر على رأيه وأكده قائلا : «إن التفكير فى النفقات من شأنى أنا وعليكم أن تبادروا من الآن أن تقوموا بعمل ما بينت لكم فقوموا بتقدير مساحة الموضع ووفقا للخريطة التى سترسمونها» وقد رأى القائمون بالبناء أن الخليفة لا ينثنى عن رأيه ، فوجدوا أنفسهم مضطرين للقيام بالقياس ، فركزوا الأعمدة فى المواضع التى ينبغى تركيزها فيها ومدوا الحبال.

وعينوا مقدار توسيع الحرم الشريف ، ثم قدموا كل ما قيدوه فى مضابطهم مع الخريطة التى رسموها للموقع إلى الخليفة ، ثم صعد الخليفة فوق جبل أبى قبيس ورأى أن أبنية الكعبة المعظمة قد توسطت الأعمدة التى ركزت وحددت بالحبال ، أى أن الكعبة أصبحت فى وسط المسجد الحرام كما رأى عدد البيوت التى ستشترى وتهدم ، ثم أمرهم بأن يبادروا فى تجديد الجدار بموجب خطه فى الخريطة ، ثم عاد.

وبناء على هذا جلب العدد الكافى من العمال وشرعوا فى شراء المنازل التى توجد فى الأماكن التى يلزم ضمها وإلحاقها بالمسجد الحرام ، وهدمت تلك المنازل ، وهكذا وسعوا المسجد الشريف من باب (هاشم) إلى باب (أم هانئ) وبهذا أصبحت الفاصلة بين الكعبة المعظمة والجدار الجنوبى لحرم المسجد الحرام (١٢٧) قدم وست بوصات.

قد تمت هذه العمارة فى ظرف أربع سنوات كاملة ، وكان فى ضمن البيوت التى اشتريت (دار أرزق) ودار (خيرة بنت سالم الخزاعى) وبيت (جبير بن

٦٦

مطعم) ودار (شيبة بن عثمان) وقد ضمّت أراضيها إلى ساحة الحرم الشريف ذات الفيوضات ، وهكذا وصلت الفسحة ، ووسع الحرم الشريف بهذا القدر.

إن بنيان وتعمير الخليفة المهدى وصل إلى غايته وانتهى قبل أن ينتهى تعمير أبنية المسجد الحرام ؛ إلا أن ابنه حينما اعتلى كرسى الخلافة وهو (موسى الهادى) أمر بإتمام تعمير أبنية المسجد الحرام ، واستعجل ذلك فتم البناء فى أواخر سنة (١٦٩) (١).

* * *

__________________

(١) توفى الخليفة المهدى فى أوائل سنة (١٦٩) ، وكان يحب الإحسان ولا سيما فى الحرمين الشريفين. وقد أمر بحفر أحواض فى اثنى عشر موقعا من الطريق الذى يبدأ من بغداد وينتهى بمكة المكرمة ، وسقى الحجاج شرابا مخلوطا ، وعلق القناديل التى فى داخل بيت الله بسلاسل ذهبية. وقد غير كسوة بيت الله القديمة سنة ١٥٨ وألبس «ليلى» هذه التى يعشقها العالم ملابس جديدة ، وأصبح منذ تلك الليلة تغيير كسوة الكعبة الشريفة عادة بين المسلمين. قد جدد حجر إسماعيل وكذلك الأميال التى توجد فى مراحل الحج ومنازله ، وقام بحفر الآبار فى الموقع التى فى حاجة إليها ، وكذلك جعل إرسال الصرر لأهالى الحرمين بين الخلفاء عادة ، ولم يكن أحد يرسل الصرر إلى الحرمين قبله وقد عطر سطح كعبة الله فى سنة حجه بالمسك والعنبر ، وكذا غالبية الأماكن وجميع أركانها وألبس كعبة الله ثلاث طبقات من الكسا الحريرية طبقة فوق طبقة.

٦٧

الصورة الخامسة

فى شتى ضروب تعمير المسجد الحرام وتزيينه العرض والبيان

الباب المعلا ـ خلعت عضادة باب كعبة الله المكفت بالذهب بمعرفة الحكومة ، فى عهد الفتنة التى قامت عام ٢٥١ هجرية ، وألواحه الذهبية كذلك فى عام ٢٦١ هجرية وصرفتها للإنفاق منها للقضاء على الفتن والاضطرابات ، وقد حفر جب عميق فى الجاهلية لتحفظ فيه الأموال والهدايا الثمينة المرسلة من قبل أكاسرة الفرس وملوكهم تعظيما للكعبة وتفخيما لها بغية حمايتها من نهب الأشرار المغيرين ثم غطى الجب. وكما أن المجوهرات الثمينة المتنوعة المهداة منذ عصر إبراهيم (عليه الصلاة والتسليم) وضعت فى داخل هذا الجب إلا أن هذا الجب لم يكن (الأخسف) الذى حفره إبراهيم ـ عليه السلام ـ بل كان حفرة أخرى ، فى داخل كعبة الله.

وقد عثر عليه قائد المجاهدين ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى عام الفتح وأمر بفتحه ، وأخرج منه أشياء ثمينة من ذهب وغيره لا تعد ولا تحصى من هدايا الملوك والأمم.

واستصوب أن تحفظ في خزينة بيت الله الأعظم وكان مقصد سلطان الأنبياء من هذا تعليم أمته أنه يجب ألا تمتد الأيدي على أموال كعبة الله.

كما أنه هدم بيت الله وبناه من جديد ليؤلف قلوب قريش. قد استصوب حيدرة (١) الكرار ـ رضي الله عنه ـ استخراج تلك الأموال وإنفاقها في أمور الجهاد ، وكان ذلك في أول مرة في عصر النبوة السعيدة وفي المرة الثانية في عهد الصديق ـ رضي الله عنه ـ واضطر أن يسكت إذ أخذ الرد بالنفي من كليهما.

__________________

(١) من ألقاب أمير المؤمنين على بن أبى طالب (رضى الله عنه).

٦٨

وأراد الفاروق الأعظم في عهد خلافته أن يقسمها بين المسلمين وأن يوزعها عليهم إلا أن أبا شيبة بن عثمان ـ رضي الله عنه المنان ـ قال له :

«يا عمر : كيف تتنكب أثر النبي الكريم والصديق المحترم؟ وقد نبتا في حياتهما على الاحتفاظ بتلك الأموال فى خزينة بيت الله «فصدق على قوله قائلا : «إنهما قدوة الأنام وإمامان واجبا الاحترام ويجب علينا أن نقتدي بآثارهما «وقرر على حفظ تلك الأموال فى خزينة كعبة الله.

وفي الواقع لم تمتد يد إلى خزانة بيت الله فترة طويلة بناء على القرار السابق ، ولكن وآ أسفاه أن الثائر «حسين الأفطس» (١) هجم على مكة المشرفة واستولى عليها بتحريض خبيث من بعض السفلة وأخذ الأموال المحفوظة في خزينة بيت الله منذ الفتح قائلا : ما جدوى هذه الأموال للكعبة؟ إننى سآخذها وأنفقها فى أمور الجهاد ، ثم ابتدر في تبذيرها وتوزيعها كما يحلو له منذ ذلك الوقت انقطع إرسال الهدايا إلى خزينة بيت الله من قبل الملوك إذ غلبت عليهم فكرة ظهور غاصب آخر يستولى على الهدايا المرسلة لبيت الله المعظم.

وبعد نهب حسين الأفطس الأموال التي كانت مدخرة في خزينة بيت الله المعظم وإنفاقها باثنين وخمسين سنة بعد هذا الحادث ، ظهرت فتنة إسماعيل السفاك.

قد رفع السفاك المذكور علم العصيان بغتة وهجم على مكة ففرّ واليها ثم اقتحم مقر الحكومة ونهب كل ما يخص من أموال الوالى وأتباعه وأشياعه وكسوة كعبة الله وخزينتها وجمع من الأهالى مائتى ألف قطعة ذهبية بالقوة واتجه إلى دار الهجرة وهو يقصد قتل حاكم المدينة المنورة إلا أن الحاكم قد عرف قدومه فاختفى عن الأعين فعاد السفاك يائسا آيسا إلى مكة حيث ضيق على أهلها وحاصرهم فكان سببا فى موت كثير من الأبرياء من العطش والجوع. وأغار فى فترة ما على جدة ونهب أموال التجار وتجرأ على أن يقطع طريق مكة وأن يعلن الحرب على الحجاج الذين ذهبوا إلى عرفات لأداء شعائر الحج وقتل منهم ألف

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى ٨ / ٥٣٦ ـ ٥٣٨.

٦٩

ومائة نفر فاستشهدوا وهم يلبسون ملابس الإحرام. ونهب أموال المسلمين الذين لجئوا إلى قمم الجبال فى هذه الاضطرابات والفتن فى سنة (٢٥١) ، أما المسجد الحرام فقد أهملت العناية به بسبب هذه الاضطرابات إحدى وعشرين سنة ، وبناء على هذا ظهر الخلل المفضى إلى الانهيار فى الجدار للمسجد الحرام ، كما أن البيت الذى أقامته السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد قد تقادم وأوشك على الخراب ، وكانت هذه الدار متصلة بالجدار الغربى للحرم الشريف وبدا فيها البلى جليا ، مما أفضى إلى انهياره بغتة فتسبب بذلك فى هدم الجدار الغربى للحرم الشريف وخربه فمات تحت أنقاضه عشرة أشخاص. وقد بلغ الأمر لحكومة بغداد بالتفصيل ، وحينئذ أمر الخليفة (الموفق بالله العباسى) بهدم الجدار من أساسه ليقام من جديد كما ينبغى أن يكون وذلك فى عام ٢٧٢.

أما (دار الندوة) التى أقيمت لسكنى خلفاء بغداد فيها ، فأصبحت ميدانا تراكم فيه القمامة بعد أن تهدمت وأصبحت أطلالا مستقبحة المنظر وكان السيل الذى يأتى بين الفينة والفينة تتجمع مياهه فى ذلك الميدان وتجرف معها الكناسات إلى ساحة المسجد الحرام فتملؤها وتفسدها ، كما أن سقوف الحرم الشريف تقادمت وقد امتزج المطر فى أماكن مجرى السيل ، وعلت فأصبحت مياه السيل تفيض وتدخل فى داخل الحرم الشريف وتزيل حصى جدران الكعبة الداخلية وفسد الرخام على سطحها حتى أصبحت إقامة الصلاة فى داخل المسجد الحرام فى حكم المستحيل.

إن اللوحة الفضية المزخرفة التى ألصقت بدلا من اللوحات الذهبية لباب كعبة الله ذات الفيوضات التى كانت قد انتزعت من قبل واستخدم ثمنها لدفع الفتن والزخارف الثمينة قد محيت فى أثناء تضرعات الحجاج وتوسلاتهم فأصبح أعلى الباب فى لون وأسفله فى لون آخر ، كما فسد رخام الحطيم وأرضية المطاف الرخامية كذلك داخل البيت الحرام وخارجه وجميع جهات ساحة المسجد الحرام قد تضررت.

٧٠

قد أخبر الشريف عج ابن حج بالاتفاق مع (محمد بن عبد الله) شيخ مكة المعتمد بالله العباسى بجلية الأمر كما ابتدر بعض خدمة كعبة الله بالذهاب إلى بغداد وبينوا الوضع شفهيا للخليفة وأوضحوا له أن هذه الحالة تدمى قلوب أهل الإيمان ، وأنه إذا ترك الحال كما هو فالمظنون أنه سيفتح بابا لمصروفات كبيرة فى الأيام القادمة.

وكان لهذا القول أثر كبير فى نفس الخليفة ، فأمر بتعمير الأماكن المتضررة من المسجد الحرام وكذلك البقعة المقدسة لكعبة الله وهدم دار الندوة وبناء مسجد مكانها كما أمر بحفر وتطهير مجرى السيل المتصل بالجدران الشرقية والجنوبية ، حتى يصل إلى عمقه القديم وذلك لحماية الحرم الشريف من مياه السيول التى يتوقع حدوثها. وبعث مبالغ طائلة مع مندوب خاص له.

وبمجرد ما وصل رجال الخليفة من بغداد إلى مكة ابتدءوا فى تعمير المسجد الحرام فى خلال سنة (٢٨١).

وغطوا باب كعبة الله بصفائح ذهبية خالصة العيار كما كان من قبل. ثم أخذوا فى حفر الأماكن التى سبق شرحها. ثم حفروا سبعة أدراج من السلم المطل على مجرى السيل والتى كانت قد غاصت فى الطين إلى أن ظهر الدرج الأخير. ثم هدموا أبنية دار الندوة وبنوا فوق أرضها مسجدا منفصلا ثم قسموا الجدار الذى ظل بين هذا المسجد والمسجد الحرام وفتحوا ست بوابات كبيرة الارتفاع كل واحدة منها سبعة عشر قدما وعرضها سبعة أقدام وبوصة واحدة ، كما فتحوا أبوابا صغيرة بين كل اثنين من البوابات ارتفاع كل واحد منها أحد عشر قدما وأربع لنيات وعرضه ثلاثة أقدام وثلاث لنيات. وفتحوا للخروج من مسجد الندوة بابين بابا من جانبه الشمالى وبابا واحدا من جانبه الغربى ثم غطوا فوق الأبواب بأسقف عالية وأروقة معينة ثم صنعوا له مئذنة. إن هذا التعمير قد اكتمل سنة (٢٨٤) وظل شكله كذلك اثنتين وعشرين سنة ، ولكن رئى مؤخرا أنه يوضع بشكل أجمل وبناء على الأمر الذى صدر من دار الخلافة إلى والى

٧١

مكة المعظمة القاضى محمد بن موسى بتجديد مسجد دار الندوة فقام به ، كما عمر وقوى كمر الأبواب التى فتحت فى جدار الحرم الشريف ، وقد فعل ذلك بحيث يمكن لمن يقف فى داخل الأرض الزائدة عن دار الندوة يستطيع أن يرى الكعبة المعظمة بكل سهولة.

ثم ركز أعمدة مستديرة مصنوعة من الحجارة السوداء المنحوتة ، وربط ما بين الأعمدة بالأكمار القوية المستحكمة وصنع سقفا منقوشا من خشب الساج الملون بألوان مختلفة ، وضم مسجد دار الندوة لساحة المسجد الحرام فى سنة (٣٠٦) وإن ظل الحرم الشريف إلى عهد المقتدر بالله على شكله الذى عرفناه دون زيادة أو نقصان ودون تغيير أو تبديل. إلا أن الخليفة المشار إليه اشترى الأرض الزائدة عند باب إبراهيم عند استعلائه العرش. وضمها للحرم الشريف ثم أنفق لسكان الحرمين المحترمين من الزوار (٣١٥٤٢٦) عددا من الذهب الفيلورى (١) ثم اتخذ لنفسه عادة إرسال ذلك القدر من الصرة كل عام سنة ٣١١ (٢).

زيادة :

إن باب إبراهيم منسوب إلى شخص اشتغل بالخياطة ويسمى «إبراهيم» كان لهذا الشخص بجانب الباب المذكور حانوت كبير نوعا ما وكانت شهرته فى صنعته ذائعة.

وقبل أن تلحق الأرض الزائدة لباب إبراهيم كان هناك قرب (باب حزورة) باب (الخياطين) المتصل برواق الحرم الشريف ، وكان بجانب هذا الباب بابان شهيران باسم (حجج) وكان خارج هذين البابين دار السيدة (زبيدة) زوجة هارون

__________________

(١) إنه يساوى بقيمة العملة الحالية ١٥٧٧١٣٠٠ قرش وسنتحدث عن الذهب الفيلورى فى بحث المسكوكات ونبين قيمة تداوله.

(٢) إن إرسال الصّرر يعدّ سنة من آثار الخليفة المقتدر بالله الخيرة وبناء على تحقيق كاتب جلبى أن إرسال الصرة إلى عهد ذلك الخليفة لم يكن من عادة الخلفاء وأن فقراء أهل الحجاز كانوا ينالون نصيبهم من مرتبات مستخدمى الحكومة وكان قدره مليونا وخمسمائة ألف قرش ، وكانت مائة ألف من هذه النقود ترد من اليمن وخمسمائة ألف من البحرين وثلاثمائة ألف من عمان وستمائة ألف من اليمامة.

٧٢

الرشيد. ومع مرور الزمن قد مال ما بين منازل زبيدة وباب حجج للخراب ، وقد تهدمت تلك الأماكن فى عهد الدولة العثمانية الباعثة للتعمير ، واتخذت شكلا آخر ولم يبق الآن أثر لأى من دار السيدة زبيدة ولا من الميدان الواسع الذى سبق ذكره. انتهى.

وظل الحرم الشريف بعد تعمير المقتدر بالله العباسى ما يقرب من خمسين عاما على نفس الحالة.

وفى خلال هذه المدة لم تمتد يد التعمير إلى الأماكن التى تحتاج إلى الإصلاح ، فتلف معظم رخام المطاف فاستحالت الصلاة عليه ، كما لم يكن فى الإمكان السير عليه ، لذا بدل معظم رخام المطاف الشريف فى عهد المستنصر بالله العباسى وعمر تعميرا جيدا ثم كتب فوق قطعة رخام هذه السطور :

(بسم الله الرحمن الرحيم ، أمر بعمارة هذا المطاف الشريف ، سيدنا ومولانا الإمام الأعظم مقتضى الطاعة على سائر الأمم أبو جعفر منصور المستنصر بالله أمير المؤمنين ، بلغه الله آماله وزين بالصالحات أعماله ، وذلك فى شهور سنة إحدى وستين وثلاثمائة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم).

ثم علقت وألصقت على الجدار الشرقى الملاصق لحفرة مقام جبريل والكائن فى جهة مقام إبراهيم لكعبة الله. فى سنة ٣٦١.

وبعد مرور ست سنوات على العمارة التى قام بها المستنصر بالله العباسى وفى عام ٣٦٧ ه‍ بنى فاعل خير يسمى الأمير شرف الدين على يمين الداخل من باب السلام مدرسة لا عيب فيها وألحق بها دار كتب وملأ أصونتها بكتب متنوعة لا حصر لها (١).

وفى سنة ٥٤٢ أصلح المقتفى بالله العباسى السلم الذى يؤدى إلى سطح

__________________

(١) قد خربت هذه المدرسة ودار كتبها فيما بعد ونقلت كتبها إلى قاعات الدروس فى الرباطات ولكن مع الأسف تعرضت تلك الكتب للنهب والسلب فى خلال ثورة سنة (٤٦١) كما انهار ذلك الرباط ومكتبته وأصبحا خرابا.

٧٣

الكعبة المشرفة. وبعد عشرة أعوام من تعمير الخليفة المقتفى بالله تقادم باب الكعبة وانكشفت أخشابه واستوجب الإصلاح. وفى خلال عام ٥٥٢ أمر الخليفة المقتفى بالله بتغليف الباب المذكور وتزيينه بصفائح الذهب والفضة وبسبب الزلزال الذى وقع بعد سبع سنوات تعرض الجدار اليمانى لبيت الله المعظم للسقوط والانهدام فبادر المستنجد بالله بن المقتفى بالله بإصلاحه وتعميره فى سنة ٥٥٩.

وقوع حريق فى الحرم الشريف للبيت العتيق :

فى ليلة السبت من أواخر شهر شوال عام (٨٥٢) هجرية اندلعت النار فجأة من غرف رباط رامشت المتصل بباب حزورة وباب زيادة إبراهيم ، وامتدت النار إلى جهة الشمال والغرب للحرم الشريف ، وأحرقت سقوفه مع (١٣٦) عمود من الأعمدة الرخامية ، وانطفأت النار بجانب باب العجلة ، لأن السيل الذى حدث قبل الحريق المذكور قد دخل فى المسجد الحرام وأوقع كمر عمودين صلبين عند الباب السالف الذكر وخربه فحدث فاصل كان سببا فى انطفاء الحريق ، ولو لم يكن ذلك الفاصل موجودا كان من المحتمل أن يستمر الحريق ويمتد ، وأبدى موظفو الحكومة وأهل البلاد همة عظيمة فى إخماد الحريق ولكن جميع الجهود ضاعت سدى ولم تنفع فى إخماد الحريق ، ولم تعد الأماكن المحترقة صالحة لأداء الصلاة فامتنع المصلون عن الصلاة فى تلك الأماكن مدة طويلة.

ويرى بعض المدققين أن ظهور السيل العظيم الذى هدم العمودين بالقرب من باب العجلة محدثا الفجوة التى سبق ذكرها كان مقدمة لهذا الحريق ؛ لأن هذا السيل بدخوله الحرم الشريف ارتفع إلى محاذاة القناديل المعلقة بالأعمدة التى تحيط بالمطاف الشريف ، ودخلت المياه فى داخل البيت الحرام من خلال مصراعى باب الكعبة وأسقط العمودين بكمرهما بالكائنين بجانب باب العجلة كما خرب كثيرا من البيوت الرصينة فى داخل المدينة ، وقد سكت بعض المؤرخين عن تعيين سبب الحريق ، وقال بعضهم إن أحد سكان رباط رامشت أوقد مصباحه وخرج خارج حجرته ، وعقب ذلك ظهرت نار من تلك الحجرة ، وأحاطت بالأطراف

٧٤

وأحرقت الحرم الشريف ، وإذا نظرنا لهذه الحالة فعلينا أن نفهم أن فأرا قد حمل فتيل ذلك المصباح المشتعل وتسلق سقف الحجرة وانتشرت النار من ذلك الفتيل إلى أطراف السقف وتسبب فى الحريق.

تجديد المسجد الحرام :

ذاع خبر الحريق فى جميع البلاد الإسلامية وتأثر الجميع من هذه الواقعة التى تنفطر لها الأفئدة ، فلما سمع بذلك الملك الناصر أبو السعادات فرج بن برقوق وهو من ملوك الشراكسة فى مصر أراد تجديد الحرم الشريف وإصلاح أماكنه الأخرى ؛ فعين الأمير ببسق الظاهرى أميرا للحج ، وعهد إليه بوظيفة أمانة الأبنية المقدسة السامية وأرسله إلى مكة المكرمة فى سنة ٨٠٣.

ووصل الأمير ببسق إلى مكة المكرمة وقام بتنفيذ ما عهد إليه فأمر بتطهير ساحة المسجد الحرام وتنظيفها وكذا الأماكن التى تعرضت للحريق وتعميق حفر الأسس ، ثم بادر إلى جلب ما تمس الحاجة إليه من الأحجار والأخشاب ، وأسرع بتجديد البناء وتحتم تجديد الجدران فى أواخر عام سنة ٨٠٤ ه‍ ، وفى ظرف ثلاث أعوام أتم تجديد السقوف ثم أخذ يجدد السلاسل التى تعلق بها القناديل وفعلا علق القناديل التى أعدها من قبل ، ثم أصلح وعدل مقامات الأئمة الأربعة (١) والمواقع التى تحتاج إلى التعمير على خير وجه ، ثم عاد وكان قد جلب الأخشاب التى استخدمها لإصلاح السقوف الشريفة من قاهرة مصر فى سنة (٨٠٧).

وكان الأمير ببسق المصرى قد ترك أرض «رباط رامشت» المحترق على حاله

__________________

(١) قد جدد المقام الحنفى وعمره على التوالى ابن السلطان برقوق المصرى فى سنة (٨٥٧) ، ثم الملك جاقمق المصرى فى سنة (٨٤٣) ، ثم السلطان مراد خان الثالث فى سنة (٩٢٣) ، وبعده بستة وعشرين عاما وفى سنة (٩٤٩) السلطان سليمان ، وفى سنة (١٠١٧) السلطان أحمد خان ، وفى سنة (١٥٤٣) السلطان مراد خان الرابع ، وفى سنة (١٢٥٩) ه السلطان عبد المجيد خان. وكان التعمير فى عصر برقوق وعصر جاقمق (٩٢٣) و (١٠١٧) ه وجدد فى عام (١٠٤٣) من حجر شمليس ، كما جدد (المقام الشافعى) فى سنة (٧٠٧) من قبل برقوق المصرى. كما جدد المقام المالكى والحنبلى فى سنة (١٠٤٣) من قبل السلطان مراد خان الرابع من حجر شمليس.

٧٥

وإن كان بقاء هذه الأرض المحترقة فى حالة خراب سيؤدى إلى أن تكون مقلبا لقمامة الحوانيت التى حولها ، كما أنها ستحول دون النظام والنظافة المرجوان فى مكة المكرمة ، فأراد الشريف حسن بن عجلان أن ينظم أزقة مكة المكرمة على قدر المستطاع.

كما أنه جدد الرباط المذكور وطهر جوانبه ونظفه رغبة فى البر والخير ولإيواء المحتاجين والمجاورين ، ثم جعله وقفا لسكنى الغرباء فى سنة (٨٠٧).

كان السلطان غياث الدين المعظم أرسل النقود التى صرفها الشريف ابن عجلان مع رسول يسمى ياقوت وأمره بصرف جزء منها فى إنشاء مدرسة ورباط والتصدق بالجزء الآخر على الفقراء ، وكان مع ياقوت هذا رسالة موجهة إلى الشريف حسن بن عجلان يبين فيها السلطان أن ياقوت قد ألحقه بمأمورية خاصة ، كما أنه قد أذن له بإنفاق النقود التى أرسلها ، ولما وصل ياقوت إلى مكة المعظمة أعطى الرسالة المذكورة إلى الشريف حسن بن عجلان ، كما أنه ترك النقود التى رخص له بإنفاقها أمام الشريف الذى نحى ثلث النقود جانبا ووزع الباقى على الفقراء. وبنى ياقوت بالثلث الموقوف من النقود مدرسة ورباطا ، وعين أربعة من علماء المذاهب الأربعة مدرسين على ستين طالبا من الذين اختارهم وهيأ لهم جميع ما يحتاجون إليه من المعونات.

كما أنه أصلح طرق «عين بازان» والبركة الخربة فى المعلى وأجرى مياه العين المذكورة إلى هذه البركة ؛ وذلك وفق تعليمات شهاب الدين الذى عينه الشريف حسن مساعدا له.

ويروى أن الشريف حسن بن عجلان أخذ من ياقوت لبناء الرباط والمدرسة باسم السلطان غياث الدين سبعة آلاف مثقال من الذهب ، كما أخذ لتعمير العيون خمسة آلاف مثقال من الذهب ، كما أنه استولى على الصدقات التى أرسلت إلى أهالى المدينة المنورة.

٧٦

وسبب ذلك إصرار محافظ المدينة ألا يكون تحت إمارة الشريف وفق الأصول الجارية فى ذلك العصر. ومن عادات زمن إمارة الشريف حسن بن عجلان أن يأخذ ربع الأموال والأمتعة التى يمكن إخراجها إلى البر من السفن التى ترسو على الشاطئ فى سواحل جدة والشعيبية ويقتسمها مع الأشراف.

إن السفينة التى كانت تحمل الأموال التى بعثها الملك غياث الدين الأعظم قد تعرضت لحادث إلا أنه أمكن إنقاذ معظم حمولتها ، وأخذ حسن بن عجلان ربع الأموال التى أنقذت وفقا لعادات ذلك الوقت ، إلا أنه اغتصب جميع الأموال التى أرسلت إلى دار الهجرة ، وهكذا ظلم أهالى المدينة المنورة وغدر بهم.

إن تجرؤ الشريف حسن بن عجلان على التصرف بشكل يخالف عادات الأشراف كان سببا فى عصيان محافظ المدينة المنورة السيد حجاز وطغيانه ، ولكن لشدة الأسف أن هذا العجلان قد كان سببا فى خذلان عامة أهل المدينة ، وبعد مرور أربعة أعوام على تجديد هذا الرباط انهارات قنطرة المروة فأصلحها الناصر فرج الذى كان من ملوك الشراكسة فى مصر وفق طرازها القديم فى سنة (٨١١) ه (١).

* * *

__________________

(١) إن هذه القنطرة كانت فوق الجبل الذى يطلق عليه جبل المروة وبما أنها أنشئت عندما فتحت البلاد الحجازية أصبحت تعد من الآثار العتيقة.

٧٧

في العام الذي انهار كمر المروة وسقط اشترى ملك البنغال الشاه غياث الدين بن إسكندر الأعظم منزلين متصلين بباب أم هانئ ، وأسس أربعة مدارس مكية من أجل علماء المذاهب الأربعة ، ورتب لها وقفا لشراء كثير من العقارات ، وعين لكل مدرسة مدرسا من المذاهب الأربعة وخمسة عشر طالبا لكل مدرسة ، وتكفل بإعاشتهم.

وأصلح طرق عين عرفات وعين بازان وبركة المعلى ونظفها كما ينبغي فأجرى المياه إلى مكة المكرمة في سنة ٨١١.

فائدة :

إن بلاد البنغال الآن من مستعمرات إنجلترا الشرقية وتقع بين خطي عرض (١٦) و (٣١) شمالا وبين خطي طول (٤٧) و (٩٦) شرقا ومساحتها (٣٥٨٧٦٩) ميلا مربعا ، وعدد سكانها (٩٧١٠٠٠) وهي ولاية كبيرة ومهمة ، وتنقسم إلى ثلاث أقسام (العليا ، الوسطى ، السفلى) ، وتشمل مدنا كثيرة مثل كلكتا ، باتنة ، مرشد اباد ، دكاو ، بناري ، بريلي ، عصم واراقان ، وتحد البلاد المذكورة شمالا نابول والبوتان ، وشرقا عصم وجنيخ ، وجنوبا خليج البنغال وأجزاء من ممالك أوربا ، وأراقان ، كما تحدها من الغرب ولاية بهار التي تحيطها بأراضيها ، كما أن نهر غنخ يفصل هذه البلاد من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي.

مدينة كلكتا وهي حاضرة بلاد البنغال ومقر حكومة الهند ، وفي الجهة الشرقية من وادي حو تملي الفرع الغربي لنهر غنج ، وتبعد عن شاطئ المحيط بما يقرب من مائة ميل ، ويبلغ عدد سكانها (٧٠٠٠٠٠) نسمة وفق الإحصاء الذي أجري سنة

٧٨

(١٨٤٢) الميلادية ، ولذا سميت هذه المدينة الشهيرة قالكوتة لوجود كوتة معبد الهنود الشهير فيها والذي يضم في داخله الصنم المسمي ب «قالي» من الهة الهندوس القديمة ، من هنا اقتضي إطلاق اسم قالكوتة على المدينة. انتهي.

وبعد سقوط كمر باب المروة بثلاث سنوات أصلح سطح بيت الله وبعض المواضع من المسجد الحرام في عام ٨١٤ ، وذلك لأن سطح كعبة الله المقدسة وكذلك أماكن كثيرة من المسجد الحرام آلت إلى الخراب.

ولما لم يعمر سطح بيت الله الحرام منذ (١٥٣) عاما لحق به الخراب إلى حد بعيد ، وبهطول الأمطار أخذت المياه تنفذ داخل الكعبة من بعض مواضع السطح ؛ لذا أصبح لزاما أن تمتد يد الإصلاح والتعمير إلى معظم مواضع الحرم الشريف ، واقتضى الأمر إلى معاينة سطح الكعبة والمواضع التي ينبغي إصلاحها في المسجد الحرام فتم الترميم والإصلاح على الوجه المطلوب.

وبعد مرور سنة على ذلك الترميم تعرضت المدينة المقدسة إلى القحط واكتوت بناره ، وقد وصل ثمن حمل بعير متوسط من الغلة إلى عشرين قطعة ذهبية ، وبيع البطيخ الواحدة بقطعة ذهبية وذلك في سنة (٨١٥).

عجيبة :

حدث في أواخر شهر ذي الحجة أن حمل أحد الجمالين الذي عرف بتحميل جمله حملا فوق طاقته والذي كان يلقب ب «القارونى» أراد الجمل أن يتخلص من ظلم صاحبه ، وبطريقة ما دخل إلى المسجد الحرام وأخذ يدور ويطوف ببيت الله (١) وقد طاف حول كعبة الله المعظمة إحدى وعشرين مرة ، ومسح وجهه

__________________

(١) كان هذا الحيوان يسكب دموعا من عينيه كقطرات المطر في أثناء طوافه ، وفي موسم الحج من سنة ١٢٩٩ حدث مثل هذا الحادث في المدينة المنورة إذ دخل جمل شبيه بالجمل السابق صباح يوم إلى المسجد النبوي السعيد ومسح وجهه في باب السلام وبرك ، ولم يقم حتى دفع ثمنه لصاحبه ودفع رجال الحكومة ثمنه لصاحبه ثم أرسل إلى حظيرة الدولة وعاش هناك إلى أن مات دون أن يستخدم في عمل. يروى أن صاحبه كان يؤذيه بشدة وكان يتركه جائعا.

٧٩

بالحجر الأسود ثم وقف أمام المقام الحنفي أي حذاء الميزاب الذهبي فترة ما ، ثم برك على الأرض وأسلم روحه وهو يسكب دموعا مثل حبات الحمص.

قد أثار الحدث عجب الناس وحدتهم ، وشد انتباههم ثم رفعت جثة الجمل ودفن في مكان في شارع المروتين أي في محل وسط المسعى الشريف وذلك في سنة (٨١٥) ، وبعد وقوع هذه العجيبة بعام واحد ابتاع الشريف حسن ابن عجلان ساحة المستشفى التي أقامها المستنصر بالله الكائن في جهة الشمال من جدار المسجد الحرام ، ثم جدد المستشفى وأوقفه على علاج المرضى الفقراء ، كما أصلح وجدد كمر بابين أوشكا على السقوط في الجهة الجنوبية من جدار الحرم الشريف في سنة (٨١٦) ، كما أن الملك المؤيد زين ألواح مصراعي باب كعبة الله بأن طلاها بالذهب في خلال تلك السنة أى (٨١٦).

زيادة :

قد انهدمت المستشفى التي جددها الشريف عجلان بعد (١١٠) سنة ، واشترى السلطان سليمان خان من سلاطين العثمانيين ساحة المستشفى المذكور وخرائب تكايا أحمد كجراوي من سلاطين الهند والشيخ طاهر وكذلك المنازل المتصلة بها ، وبنى أربع مدارس كبيرة لعلماء المذاهب الأربعة وجعلها وقفا. إن هذه المدارس الأربعة مازالت قائمة إلى يومنا هذا وعامرة كما سيأتي ذكرها فيما بعد.

قد اتخذ جلبي سلطان بن سلطان يلديرم بايزيد خان ـ عليهما الرحمة والرضوان ـ إرسال صرة (١) إلى أهالى الحرمين الشريفين من ريع أوقافه الخاصة ، كما اقتفى نجله النجيب السلطان مراد خان آثار أبيه ـ جعل الله مثواه الجنة ـ فأرسل إلى أهالي الحرمين ما مقداره (٥٠٠ ، ٣) من الذهب الفيلوري واتخذت هذه العادة حكم القانون في سنة ٨١٧ ، وترسل كل سنة ، كما أرسل السلطان مراد الثاني في سنة (٨٥٥) لجميع أهالي الحرمين (٨٠١) كيس من النقود.

__________________

(١) ولم تكن البلاد العربية قد ضمت إلى الدولة العثمانية بعد ، وبما أن هذه الصرة كانت تبعث من بلاد الروم أطلق أهل الحرمين على صرة السلطان المشار إليه (الصدقة الرومية).

٨٠