موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

التذييل

قد تم التوسيع المذكور للمسجد الحرام بعد سيل (أم نهشل) (١) بخمس سنوات.

حكمة :

يظهر فى مكة المعظمة كل عشر سنوات أو اثنى عشرة سنة سيول مرعبة مفزعة ـ لحكمة ما ـ وتعقب السيل بركة عظيمة ورواج وتقل الأسعار وتعم النعمة الإلهية والكرم اللامتناهى الجبال والبوادى. انتهى.

قد نكبت مكة المكرمة بكثير من السيول كالسيل الذى مر ذكره ، وغدت البلدة العظيمة المقدسة خربة وسكانها حيارى متعبين وهم يبحثون عن حل لنكبتهم.

يقول الإمام الفاسى وهو يتحدث عن صواعق مكة المكرمة وأخطارها ، ناقلا عن الإمام الأزرقى عن محمد بن يحيى وابن يحيى عن عبد العزيز.

١ ـ من السيول الشهيرة التى شهدتها مكة المكرمة «سيل القارة» قد اجتاح هذا السيل المفزع مكة فى الجاهلية فى زمن سيادة بنى خزاعة وأثناء حكومتهم ، قد ظهر سيل القارة بشكل مفزع سريع ودخل فى المسجد الحرام واقتلع دوحة عظيمة فى طريقه وجرفها إلى أقصى حدود مكة المكرمة ، ويروى أن رجلا وامرأة غرقا فى هذا السيل. ولم يعثروا على جثة الرجل ولكنهم وجدوا جثة المرأة ، وكان اسمها «قارة» وكانت من كريمات نساء قبيلة بنى بكر المشهورة لذا أطلق على هذا السيل «سيل القارة».

قد نظف صناديد بنى خزاعة الحرم الشريف بعد انقطاع المياه التى تأتى من الأطراف ، وبنوا حول بيت الله وحجر إسماعيل (٢) حائطا منخفضا تفاديا لما قد يظهر من السيول فيما بعد ، وظل هذا الحائط إلى عهد حكم قريش.

__________________

(١) انظر الإصابة لابن حجر ٨ / ٢٨٦.

(٢) يطلق حجر إسماعيل على ما تحت الميزاب الذهبى.

٤١

٢ ـ من سيول مكة الشهيرة ـ نوعا ما ـ السيل العظيم الذى وقع عقب «سيل القارة».

قال الإمام الأزرقى وهو يعرف هذا السيل نقلا عن سعيد بن المسيب : قد وقع فى الجاهلية سيل آخر مخيف وكان السيل المذكور أشد قوّة من سيل القارة» وبلغ درجة متناهية فى الشدة إذ غمرت المياه ما بين الجبلين وغابت المنازل عن الأنظار.

٣ ـ من السيول التى اجتاحت مكة المعظمة «سيل أم نهشل» الثالث من تلك السيول. وحدث هذا السيل فى السنة الحادية عشرة الهجرية وفى عهد الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) ، وبدأ ظهوره على نحو مرعب من ناحية بيت (أبى سفيان بن حرب) أى من ناحية طريق مكة المعظمة الذى ينتهى إلى المعلى ، فتدفق بشكل مخيف داخل الحرم الشريف وانتزع المقام الشريف من مكانه وجرفه حتى الوادى.

وجرف أم نهشل بنت عبيدة بن سعيد بن العاصى بن أمية من بنات «عبد شمس بن عبد مناف» أمامه وأغرقها. لذا عرف ذلك السيل باسم «سيل أم نهشل».

وبعد ما توقف السيل المخيف وانتهت صولته وجولته وانسحبت المياه الراكدة التى فى داخل المدينة ، وجرت إلى بطن الوادى ، اتحد سكان مكة المعظمة وطهروا مدينتهم ونظفوها وهم يد واحدة ، وعثروا على المأثر اللطيف للمقام الشريف فى أسفل الوادى وحملوه إلى الحرم الشريف ، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يعينوا مكان الجوهر الثمين لحجر المقام ، ومن هنا أبلغوا الأمر إلى الخلافة الإسلامية السنية وعرضوا عليها الوضع.

٤٢

وحينما أطلع الخليفة الفاروق الأعظم على الأمر اضطرب اضطرابا شديدا ، وأسرع بالسفر إلى مكة المفخمة ناويا العمرة ، وبمجرد وصوله إلى مكة المكرمة أخذ يبحث عن رجل قدير على تعيين موضع المقام الشريف.

ووجد ضالته فى «مطلب» (١) بن أبى وداعة السهمى «الذى يستطيع أن يعين موضع المقام الشريف فاستدعاه واستفسر منه الكيفية.

وإذا بمطلب بن أبى وداعة كان قد قاس المسافة بين الباب المعلى للكعبة الشريفة وبين المقام الشريف ، وكذلك المسافة بين جدران بئر زمزم والمقام المنيف بحبل متوقعا أن يحدث مثل هذا الحادث ، واحتفظ بالحبل فى مكان أمين فى منزله.

واستدعى حضرة الفاروق مطلب بن أبى وداعة ، وأجلسه أمامه وطلب منه أن يحضر الحبل المذكور. وبعد مسح المكان وتعيين موضع المقام الشريف ، وضع أساس البناء العالى الذى يطلق عليه إلى يومنا هذا «المقام الشريف».

إن الحجر الشريف الذى وضع فى داخل البناء الذى بناه عمر بن الخطاب هو الحجر الذى كان يضع عليه حضرة إبراهيم (على نبينا وعليه التعظيم) قدميه فى أثناء رفع قواعد البيت.

وقد فصل فى بحث الأثر الشريف كل ما يتعلق بهذا الحجر الميمون المبارك ، وأين وجد؟ وكيف حفظ إلى الآن؟ وأين حفظ؟ كما فصل فى باب قدوم النبى الجليل إلى مكة المكرمة وكيفية سفره وشكل الحجر الميمون وهيئته المرئية ومبانيه فى هذا المكان الذى يرجى قبول الدعاء فيه.

بعد ما أنهى ابن الخطاب (رضى الله عنه) العمليات الخاصة بمبانى المقام الشريف أصلح وعمر الأماكن الأخرى لحرم المسجد الحرام ، كما أصلح ما خرب

__________________

(١) أحد الأصحاب الكرام ، ذكر ابن سعد فى مسلمة الفتح ، انظر الإصابة ٦ / ١٠٤.

٤٣

من السد الذى يطلق عليه «ردم بنى جمح». إن السيل الذى ظهر بعد تعمير سد «بنى جمح» قد فاض من جهة السد المذكور ، وأخذ يصب إلى المياه الرمادية التى تراكمت فى سهل وادى إبراهيم ؛ لذا أطلق على السيل الذى أتى من هذا الطريق اسم «سيل وادى إبراهيم».

إن المياه التى تتكون من الأمطار التى تنزل عل جبال مكة فى ذلك الوقت تشكل سيلين عظيمين وتدخل فى داخل المدينة وأحيانا تدخل حتى حرم الله وتخرب الأماكن المقدسة بالحرم.

إن السيل الذى قلنا عنه وادى إبراهيم أحد هذين السيلين العظيمين ، وكان يظهر من جهة سد بنى جمح ويمر بوادى إبراهيم المذكور ويجرى نحو شمال الوادى.

هو أحد السيلين السالف ذكرهما وهو سيل مخيف مرعب. وكان هذا السيلى يهبط من جبال مكة الجنوبية ويدخل إلى المدينة سالكا طريق محلات جياد ، ويبلغ البركة اليمانية ويرتد من هناك ويجرى صوب أسفل البلاد.

وكان سد ردم بنى جمح الذى وقع بين المحلات المسماة فى زماننا «المدعى» فى أوائل ظهور الإسلام كان بيت الله بجانب السد المذكور الذى كان موجودا انذاك ، كان يبرز جمال هيئته لعشاق بيت الله وزواره.

ولما كان الدعاء مقرونا بالاستجابة حال رؤية بيت الله ؛ فإن الحجاج الذين يطئون هذا الموضع كانوا يجتهدون فى الدعاء.

وفيما بعد حجبت المنازل والبيوت التى أقيمت فى هذا الموضع رؤية البيت الأعظم ؛ وعلى الرغم من ذلك ظل الدعاء على حاله كما كان فى الماضى إذ إنه من الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وقف للدعاء فى هذا المكان. حتى إنه يشاهد على جانبى الطريق لافتة خاصة مكتوب عليها : (هنا محل دعاء).

٤٤

رواية :

قال حافظ الدين فى كتابه «النافع» نقلا عن صاحب الهداية : «كنت قد نويت الذهاب إلى مكة المعظمة لأداء مناسك الحج ، وعندما استأذنت من شيخى وطلبت منه الوصية قال لى : إن ثمة مكان مبارك فى مكة يقال له «سوق الكراع» ، ومن هذا الموقع الشريف تبرز كعبة الله المتعال فى جمال لا مثيل له ، وعندما تصل إلى هذا المكان وتنال شرف مشاهدة جمال بيت الله ، فعليك أن تدعو قائلا : «اللهم اجعلنى من عبادك الذين تستجاب دعواتهم» لأن الدعاء عند رؤية بيت الله رهين الاستجابة. انتهى.

بناء على ما ذكره أهل العلم والدراية من سكان مكة المكرمة أن سيل جياد يحدث مرة كل عشرة أعوام ، ويطغى بشدة منقطعة النظير ويفوق سيل «وادى إبراهيم» إلى حد جد بعيد ، ويملأ المسجد الحرام بالطين والحصى ، ولقد بذل أشراف البلد وأعيانهم من السلف الصالح كل جهدهم وصرفوا كل همتهم إلى حفر كثير من القنوات تحت الأرض لاستيعاب جريان مياه «سيل جياد» ، ولكن القنوات امتلأت بالمياه على مر الزمان ولم تخطر بذلك دواوين الخلافة ، فاستمر تدفق السيل فى مجراه القديم تدفقا شديدا ـ حين حدوثه ـ وما زال يهدم البيوت ويخرب الكثير من المنازل.

٤ ـ سيل الحجاف : هو السيل الرابع الذى أفزع أهالى مكة المفخمة ، ولقد ظهر هذا السيل فى عهد عبد الملك بن مروان ، وفى خلال العام الثمانين من الهجرة النبوية.

وقد ظهر ذلك السيل فى وقت صلاة الصبح وكان الحجّاج ذوى الابتهاج فى وادى مكة ، وبدأ جريان المياه من قبل صلاة الصبح ، ثم ازدادت شيئا فشيا فجرف السيل الحجاج القائمين فى محل الوقفة كما جرف أثقالهم وأمتعتهم إلى المسجد الحرام.

٤٥

وأحاط بالبيت المعظم وهدم المنازل والحوانيت الكائنة فى ناحية الوادى وخربها ، وأغرق كثيرا من الناس وأهلكم.

وبما أن الناس قد لجئوا إلى الجبال لإنقاذ أرواحهم تاركين أمتعتهم وأموالهم أطلق عل ذلك السيل اسم «سيل الحجاف». وحينما أبلغ هذا الخبر المخيف لعبد الملك ؛ أرسل إلى مكة المعظمة الموظفين المختصين من قبله لبناء ما تهدم من البيوت ، ولحفر مجارى السيل وتعميقها ، وبناء جدران من الحجارة الكبيرة والمتينة حيث يستدعى البناء ، وقدم للأهالى أموالا طائلة وأشياء لا تحصى وهكذا عجل بإظهار جوده وسماحته.

٥ ـ السيل الخامس من سيول مكة «سيل عمر بن عبد العزيز» حدث هذا السيل فى السنة السابعة والتسعين أو الثامنة والتسعين من الهجرة ، وكان سبب ظهور هذا السيل دعاء عمر بن عبد العزيز ، لأن عمر بن عبد العزيز كان قد غادر الشام بنية الحج متجها إلى الأراضى الحجازية الجالية للغفران.

فاستقبله أشراف مكة وأعيانها وتحدثوا عن الجفاف قائلين : «يا سيدنا إن الحجاز ومكة معرضة للجفاف فى هذه الأيام ، ويخشى من نقص الماء وإن أهل الحرمين فى أشد الاضطراب من هذا الأمر وفى شدة الحزن مما سيصيب الحجاج الكرام من العطش فى موسم الحج هذا العام. وهكذا أجبروا عمر بن عبد العزيز على دعاء الاستسقاء. وفى الحال هم الخليفة بدعاء الاستسقاء بكل ما أوتى من عقيدة قوية وإيمان صادق بناء على الاتفاق الذى تم بينه وبين الوفد المكى ، واشترك فى الدعاء قافلة الحجاج التى صاحبته وكذلك الوفد المكى الذى جاء لاستقباله.

ولحكمة ما انهمرت الأمطار بطريقة لم يسبق لأهالى البلاد الحجازية أن رأوا مثلها من قبل. وجاءت السيول من جميع الجهات وأحاطت مكة المعظمة من

٤٦

جهاتها الأربع ، وعمر الحجاز بالخيرات وعم الخصب ورخصت الأسعار ؛ وذلك ببركة دعاء عمر بن عبد العزيز.

٦ ـ السادس من سيول الحجاز سيل أبو شاكر : وقد ظهر هذا السيل فى السنة السادسة والعشرين بعد المائة الهجرية وفى عهد هشام بن عبد الملك. وكان «أبو شاكر» من أجلاء رجال الدولة ، وكان ضمن قافلة من قوافل الحجاج وقد اضطرب اضطرابا شديدا من شدة صولة السيل ، وأظهر قلقا لذا ذكر ذلك السيل العظيم بعد فترة ما «بسيل أبى شاكر».

٧ ـ من السيول التى خربت مكة المعظمة سيل مخيل : وقع سيل مخيل سنة مائة وثمانين واجتاح المسجد الحرام بقوة وسبب ضررا غير قليل. ولا يمكن حصر البيوت التى انهارت والأرواح التى أزهقت.

٨ ـ السيل الثامن من سيول مكة «سيل حنظلة» ظهر هذا السيل فى سنة مائتين واثنتين وفى عهد الخليفة المأمون. وبما أن هذا السيل قد ظهر بقوة شديدة نقل مقام إبراهيم الهمام إلى مكان مرتفع خيفة انتزاع السيل له. وقد خرب هذا السيل المسجد الحرام ، وهدم كثيرا من المنازل وأهلك بالغرق كثيرا من النفوس. ولما كان والى مكة فى تاريخ ظهور السيل يسمى «حنظلة» فسمى السيل «سيل حنظلة».

٩ ـ قد ظهر سيل آخر بعد سيل حنظلة بست سنوات سنة (٢٠٨) ، وقد اقتلع هذا السيل العظيم أركانا كثيرة من المسجد الحرام ، وهدمها كما سبب غير قليل من الخسائر والمضرات لأهل مكة ، كما جلب فى ساحة المسجد الحرام السعيد كثيرا من الطين والرمل مما دعا إلى إشراك النساء فى خدمة تطهير المسجد الحرام. قد ظهر هذا السيل فى عهد الخليفة المأمون ، وفى خلال السيل العظيم وسيل حنظلة تعرض الناس لمرض شديد ومات ما لا يحصى من الناس.

٤٧

١٠ ـ ومن السيول التى أفزعت الناس فى البلاد الحجازية سيلان وقع أحدهما وهو السيل العاشر بمكة سنة ٢٥٣ والثانى وهو الحادى عشر فى مكة فى سنة ٢٦٦. يعتبر السيل الذى وقع ٢٥٣ من الأحداث المهمة التى حدثت فى البلاد الحجازية ، إذ دخل إلى المسجد الحرام وارتفعت المياه حتى وصلت إلى الحجر الأسود ، وجلبت للمسجد خسائر عظيمة إلا أن السيل الذى حدث بعده بخمسة عشر عاما كان أكثر رعبا وفزعا. إن هذا السيل قد خرب المنازل والمدارس والحوانيت التى فى طريقه ، وبخلاف هذا فقد جرف الرمال التى كانت تفرش ساحة الحرم الشريف ، وقد بلغ شدة جريانه حدا أنه جرف معه كل ما يقع أمامه من الأجسام الثقيلة بدون قيد ولا احتراز ، كما أنه اقتلع جميع الحجارة التى فى داخل ساحة المسجد الحرام.

وبعد هذه الواقعة أى بعد سيل عام ٢٦٦ ظهرت سيول أخرى خلال ٣٤٤ سنة ، إلا أنه لا يعرف التاريخ أوقات ظهورها ، ولكن مما يروى أنه فى خلال تلك الفترة هبطت على مكة سيول من الجبال التى تحيط بها ، وهى سبعة سيول أو ثمانية ، وقيل إنها كانت مفزعة رهيبة ، وقد جرف إلى ساحة الحرم الشريف الأتربة وعظام الحيوانات وغير ذلك ، وتحول داخل المسجد الحرام إلى جبال مما سبب لأهل مكة التعب الشديد فى نقل المخلفات وترميم ما خربته السيول وتعميره.

وقد نقل مؤلف «لطائف الأخبار» عن قاضى مكة برهان الدين بن ظهير فى ذلك الوقت «أن أشد السيول التى هبطت هو السيل الذى ظهر فى شدة مخيفة فى يوم الأربعاء الرابع عشر من ذى القعدة عام (٦٨٣) وكأنه شعبة من المحيط الهادى.

إن السيل الذى يذكره القاضى برهان الدين قد ملأ ساحة المسجد الحرام ذات الفيوضات الباهرة ، وهدم كثيرا من أساطينه وخربها ، وأهلك فى داخل الحرم الشريف وخارجه وأغرق خمسائة وسبعين شخصا.

٤٨

قد ظل هذا السيل فى داخل الحرم الشريف ما يقرب من أربعة أيام ، من يوم الأربعاء إلى يوم السبت وظلت المياه تتزايد بغزارة فى تلك الأيام الأربعة ؛ إلا أنها أخذت فى النقصان يوم السبت ، وقد أصاب أهل مكة من شدة هيجان ذلك السيل فزع شديد».

ويقول القاضى برهان الدين فى رسالة كتبها وأرسلها إلى مصر بعد أن تحدث عن وقت ظهور السيل ومدة بقائه فى الحرم الشريف «إن المسنين الذين عاصروا السيل يذكرون أن مثل هذا السيل لم ير له مثيل لا فى العصور الجاهلية ولا فى العهود الإسلامية.

إن المياه التى تجمعت فى ساحة المسجد الحرام ، ارتفعت مقدار سبعة أذرع وثلاثة أرباع ذراع» وفى خاتمة رسالته أومأ إلى أن أهل مكة كانوا على حق فيما أصابهم من شدة الفزع.

١١ ـ من السيول التى يعرف التاريخ ظهورها السيل العظيم الثانى عشر الذى حدث فى سنة ١٥٣٨ الهجرية. إن السيل المذكور قد ظهر فى ليلة الخميس العاشر من شهر جمادى الأولى من السنة المذكورة ، واجتاح ساحة الحرم الشريف من البطحاء وارتفعت المياه قدر ذراع من فوق عتبة باب بيت الله ، وأوقعت كثيرا من أبواب المسجد الحرام على الأرض.

وكان عدد الغرقى والموتى لا حصر له ، ولم يكن بين أهالى مكة من رأى مثل هذا السيل العظيم ؛ فلو لم يكف هطول الأمطار بعناية الله لما كان هناك شك أن كثيرا من حوانيت مدينة مكة المكرمة كانت ستخرب.

١٢ ـ من السيول الشهيرة السيل الذى ظهر مثل البحر بعد السيل الثانى عشر بأربع وستين سنة. وقد ظهر هذا السيل ليلة الخميس العاشر من شهر جمادى الأولى سنة ثمانمائة واثنتين. ودخل فى المسجد الحرام من جهة وادى إبراهيم واقتلع كثيرا من أبوابه وحطمها ، وكانت كثرة الأمطار هى

٤٩

التى تسببت فى ظهوره وقد اشتد هطول المطر حتى ظن الذى كان يراه كأنه ينسكب من أفواه القرب.

وقد بلغ ارتفاع المياه التى تجمعت فى المسجد الحرام خمسة أذرع ، وارتفعت بمقدار ذراع ونصف ذراع من عتبة باب الكعبة المعلى. والماء الذى دخل الحرم بلغ من قوة جريانه أن هدم عمودين كبيرين ، وهوى السقف الذى يحمله العمودان فمات ستون شخصا ممن كانوا تحته.

١٣ ـ وحدث السيل الرابع عشر الذى ألحق بأهل مكة أبلغ الأضرار بعد السيل الثالث عشر بثمانية أعوام. وقد ظهر هذا السيل فى اليوم الثانى والعشرين من شهر ذى الحجة من عام ثمانمائة وعشرة للهجرة فى وقت الظهيرة ، وهدم السدود التى صنعت لتمنع المياه الفائضة من القنوات ومجارى العيون فى وقت ظهور السيول ، وأغرق داخل البلد بالمياه وهجمت المياه بشدة ودخلت فى ساحة الحرم الشريف بشكل مفزع ، وسرعان ما ارتفعت إلى الدرج الخاص بجلوس الخطباء فى المنبر الشريف.

وبلغ الخبر من قبل والى الإمارة إلى مقام السلطنة الذى عين مديرا من قبله لإجراء ما يقتضى إجراءه ؛ وأرسله إلى مكة المعظمة ، وبادر المدير فور وصوله بتعمير السدود الخربة وتشييدها كما عمق قنوات عين زبيدة ومجاريها وجددها.

١٤ ـ من السيول التى أرهقت أهل مكة والمتهم السيل الخامس عشر الذى وقع فى خلال عام ثمانمائة وثمانين ، ولم ير مثيل له لا فى خلال أعوام الجاهلية ولا العصور الإسلامية.

وبالنظر لما ينقله المرحوم الإمام السمهودى فإن السيل المذكور ظهر قبل وصول الحجاج إلى مكة ، وغمر ما بين الجبلين وارتفع إلى أسطح المنازل الكائنة فى ناحية المعلى ، ومن هناك اجتاح بقوة خارقة للعادة ساحة المسجد الحرام وألحق به خسائر جمة.

٥٠

ولا يعلم إلا الله ـ تعالى ـ عدد ما انهار من البيوت وما حاقت بهم من الخسائر وما فاضت من الأرواح.

وعندما سحبت مياه السيل من المسجد الحرام أخرجت من تحت أنقاض المسجد الحرام جثث مائة وثمانين رجلا ، ولم ير الطاعنون فى السن من أهل مكة سيلا يشبه هذا السيل الخطير.

١٥ ـ من السيول التى جعلت أهل مكة ينتفضون مضطربين : السيل الذى حدث فى اليوم الرابع عشر من شهر ذى القعدة عام ٨٨٧ للهجرة. وكان سيلا عظيما يخلع القلوب رعبا ، وكان وقوعه فجأة فى اليوم المذكور واتجه نحو المسجد الحرام وسرعان ما تسرب إلى بيت الله وارتفع بطول قامة إنسان داخل الكعبة المشرفة ، أما ما ترتب عليه من خسارة فلا يقع تحت الحصر فانهارت الدكاكين فى أرجاء البلد والمدارس والمنازل ، وانهارت بعض أساطين المسجد الحرام ولم تقم صلاة الجمعة فيه.

وما كان فى الإمكان حصر عدد الهالكين تحت ما انهدم من أطراف المسجد الحرام وما بجانبه من الدكاكين والبيوت والمدارس ، إلا أن سبعين جثة أخرجت من المسجد الحرام.

وكتب قاضى مكة الذى كان يتولى منصب القضاء إلى حكام مصر قائلا : «إن هذا السيل الذى وقع هذه المرة كان سيلا مفزعا حقا ، فقد ظلت جدران المسجد الشريف الأربعة مغمورة فى الماء ، وارتفع الماء على امتداد مساحته فى جانبه الأيمن والأيسر إلى سبعة أذرع وربع.

١٦ ـ من السيول التى أحدثت خسائر عظيمة فى مكة المكرمة السيل السابع عشر من تلك السيول العظيمة. ولم نستطع أن نعرف فى أى يوم من أى شهر وقع ، إلا أن المياه قد غمرت الصحارى والسهوب والجبال والأحجار وملأ المسجد الحرام بالطين والحجارة وخربت المياه كثيرا من الدكاكين والبيوت بما

٥١

فيها من أمتعة وبضائع. وما كان فى مقدرة أحد أن يخمن عدد المتضررين ، أو ما ألحق بالناس من أضرار هذا السيل ، وبعد انحسار المياه وجدت مائة جثة فأودعت الثرى. ولم يرد منذ عصر الجاهلية أخبار عن سيل من السيول أبشع وأكثر رعبا من هذا السيل.

١٧ ـ السيل الثامن عشر ظهر بعد عام من ظهور السيل السابع عشر من سيول مكة. ولا يعرف فى أى يوم من أى شهر ظهر هذا السيل ، إلا أنه قد تسبب فى ضرر كبير وأدى إلى تلف كثير من ممتلكات أهل مكة.

١٨ ـ السيل التاسع عشر وقع بعد السيل الثامن عشر بمائة وخمسين سنة (١٠٣٩) ، وهو من السيول العظيمة التى أخافت وأرعبت أهل مكة. وقد غرق فى خلال هذا السيل عدد لا يحصى من الناس وأصاب أهل مكة بخسائر وأضرار لا يستطيع الإنسان أن يخمنها ، وكان سببا فى هدم وسقوط أبنية الكعبة المفخمة (١).

١٩ ـ من السيول التى أحصيت السيل العشرون الذى حدث فى سنة ألف وتسعين أما عدد الحجاج الذين ماتوا غرقا فى هذا السيل فيفوق الحصر وما أصاب سكان مكة من سوء وخسائر فلا يمكن معرفته بالتخمين.

٢٠ ـ وبعد مرور عام على سيل عام (١٠٩٠) ظهر سيل عظيم آخر هو السيل الحادى والعشرون الذى أورد أهل مكة مورد التهلكة وسبب لهم خسائر كبيرة. وبالنظر إل ما ذكره مؤرخو مكة فإن السيل المذكور وقع فى اليوم الثالث والعشرين من شهر ذى الحجة عام (١٠٩١) الهجرى. وقد وقع هذا السيل فى اليوم المذكور بعد صلاة الظهر بنصف ساعة على أثر هطول أمطار

__________________

(١) بما أن قد كتب فى الوجهة الثانية والصورة الثالثة عشرة ما أحدث هذا السيل من خسائر عند دخول المياه فى كعبة الله ، وكيف أخليت الكعبة من الأشياء التى جرفها السيل لذا لم تعد هناك حاجة إلى تكرار ذكرها.

٥٢

خفيفة وجاء من الجبال المتسلسلة التى تحيط بمكة وكان المطر قد انقطع تماما فى أثناء ظهور السيل.

وإن لاح فى بدء ظهوره سيلا خفيفا إلا أنه أخذ يتزايد بالتدريج ، وتدفق تدفقا مرعبا ودام مدة طويلة حتى دخل المسجد الحرام ، وجاوز ارتفاع المياه العتبة العليا لباب الكعبة السعيدة بذراع واحد ، ودامت الحالة هكذا مدة أربع وعشرين ساعة ، وأخذ جريان المياه يقل شيئا فشيئا حتى انقطعت المياه ووجد فى ساحة الحرم الشريف ما يقرب من خمس وعشرين جثة.

وكان فى ناحية المعلى شجرة جوز تحتها مقاهى متعددة ، وعندما بدأ السيل وظهرت المياه تسلقها ما يقرب من مائة وخمسين نفرا من رواد المقاهى خائفين على أرواحهم من هول المنظر.

وحينما اكتسب جريان السيل شدة كان فى ظل الشجرة بضعة مقاهى ؛ ولكن السيل المرعب قد اقتلع الدوحة العظيمة من جذورها وجرفها إلى أمام باب الصفا ، والمساكين الذين لجأوا لأغصانها حماية لأرواحهم كان مصيرهم الغرق.

كما هلك غير هؤلاء كل هؤلاء الذين تصادف وجود حوانيتهم ومنازلهم على حافة جريان السيل ، إذ انهدم ما يقرب من مائة وخمسين من تلك المنازل والحوانيت وفى داخلها أصحابها ولا يحصى عددهم إلا الله.

وقد امتلأت البركة اليمانية الكائنة فى الجهة الجنوبية لمكة المعظمة المقدسة بجثث الدواب النافقة وقد ثبت نفوق خمسة آلاف من الحيوانات التى تصادف وجودها فى طريق السيل.

وبعد انقطاع السيل المفزع فتح طريق يسمح بالطواف حول البيت وذلك بهمة والى مكة المكرمة وشهامته ، واستعين بهذا الطريق لتنظيف جميع أرجاء الحرم الشريف وتطهيرها ؛ إلا أن النظافة لم تصل إلى الحد المطلوب كما أن مجارى

٥٣

السيل وقنوات عين زبيدة قد خربت تماما ولم تصلح للاستخدام ، لذا أبلغ الأمر إلى السدة السلطانية لاستئذانه بتصليح ما خرب ؛ فأرسل السلطان مدير أصطبلاته سليمان أغا ليقوم بالإشراف على التعمير وقد بادر المذكور بتطهير ساحة الحرم الشريف على الوجه المطلوب ، كما أصلح مجرى السيل وقنوات عين زبيدة وعمقها وذلك فى سنة ١٠٩٢ الهجرية.

٢١ ـ السيل الثانى والعشرين الذى أضر أهالى مكة حدث فى سنة (١٢٧٨) وفى خلال أوائل سلطنة السلطان (عبد العزيز جعل الله مثواه الجنة). وبناء على بعض المعلومات المستقاة من مسنى مكة أن ذلك السيل كان أشد فزعا وهو لا من سيل عام (١٠١٢).

وظهر ذلك السيل بينما كان الناس نياما فى ليلة من الليالى واجتاح الحرم الشريف وأحاط بالكعبة المعظمة هائجا مثل البحر لمدة أسبوع ، وظل يتموج ولا يعرف أحد عدد الغرقى من الغرباء الذين ماتوا فى فتحة باب السلام.

قد وجد فى مجرى الماء الذى يبعد عن مكة المعظمة بساعتين أو ثلاث ساعات ظهرت جثث لفترة شهرين أو ثلاثة كما أنه قد غرق فى داخل المدارس والحوانيت خلق كثير.

وقد غرق جميع المساكين الذين وجدوا على الساحة المفروشة بالرخام (١) بين بابى ـ باب السلام ـ الداخلى والخارجى ، ولم يبق فرد يتنفس من الناس الذين كانوا يبيتون فى داخل دكاكينهم فى سوق المسعى الشريف ، أما الأشخاص الذين كانوا يقضون ليلهم تحت قباب الحرم الشريف فقد غرق أكثرهم. إلا أن قلة منهم قد تعلقوا بما تدلى من حبال من القباب فصعدوا فوقها بعد ما لقوا فى ذلك تعبا شديدا ومشقة عظيمة حتى فازوا بالنجاة.

وبعد مضى أسبوع أخذت المياه تنحسر شيئا فشيئا ، أما الناس شريفهم

__________________

(١) كان هذا المكان سوقا للكتب وكان مجلسا للغرباء والمساكين والشحاذين ليلا ونهارا.

٥٤

ووضيعهم فشمروا عن ساعد الجد فى حماسة دافقة ، وأقدموا على تنظيف الحرم الشريف وتطهيره مما جرفه السيل من الحجارة والتراب وغيرهما ، وبصعوبة شديدة استطاعوا أن يطهروه فى خلال ثلاثة أشهر.

قد تكون فى داخل الحرم الشريف بما جلبه السيل من الكناسة والتراب أكوام كأنها تلال وجبال هنا وهناك.

وتحول كل واحد من أهالى مكة الكرام إلى فرهاد حافر الجبل (١) ، إذ أخذوا ينقبون تلك الجبال والتلال ويهدمونها ويفتتونها ثم يحملون الأحجار والأتربة إلى خارج البلد. ولا يعرف عدد من مات من الناس وما نفق من الحيوانات وما محى من أموال وأمتعة.

٢٣ ـ وفى عام (١٢١٣) ظهر السيل الثالث والعشرون من تلك السيول التى ألفت مكة أن تشاهدها. وهذا السيل كان سيلا هائلا ، وما كان شبها للسيل الذى وقع قبله بخمسة عشر عاما إذ لم يتأذ الناس بأضرار كثيرة.

إذا لم يعمق طريق المسعى الشريف ـ وهو مجرى السيل كما ينبغى فإن ظهور السيول وجريانها سيكون شيئا طبيعيا ، وكلما لاحت فى السماء قطعة من السحاب أصبح من المجرب أن يظهر السيل بعد ساعتين ، وإذا ما أتى السيل نهارا لا يسبب ضررا كبيرا للناس ، ولكنه إذا وقع ليلا يتسبب فى خسائر عظيمة للناس فى أموالهم وحيواناتهم.

__________________

(١) هو فرهاد الحفار أو الذى عشق (شيرين) جارية (كسرى) كان هذا الملك يحب شيرين حبا جما ، واتصل بعلمه أن قلبها خفق بحب فرهاد وشاء أن يتخلص منه وأمره بحفر طريق فى الجبل ، وضرب له موعدا قريبا ليعجزه عن ذلك ، ووعده بأن يهب له شيرين إذا أنجز عمله فى موعده ، وامتثل فرهاد لأمر كسرى وأنجز عمله قبل الموعد المعين ، فأسقط فى يد الملك ولكن عجوزا احتالت لتخلص الملك من فرهاد وأخبرته بأن شيرين ماتت فصدم فرهاد وكره أن يعيش بعدها وألقى بنفسه من رأس الجبل. وهى قصة تداولها شعراء الفارسية والتركية والأردية بالنظم وضمنوها رموزا صوفية. (المترجم).

٥٥

وعلى ذلك فإن ما يصيب أهل مكة من أضرار من مياه سيل يتدفق فى العام مرة أو مرتين أصبح أمرا مألوفا ؛ إلا أن ما سبق ذكره من سيول مثل الذى وقع فى عهد (الفاروق الأكرم) المعروف بسيل (أم نهشل) والسيل الذى وقع بعده بتسعة وستين عاما والذى عرف ب (سيل حجاف) وما ذكر من سيول وقعت فى عام ثمانمائة وثمانية وثمانين وفى عام ألف وتسعة وثلاثين وعام ألف وتسعين أضرت بأهل مكة أبلغ الضرر.

ولا سيما السيلان اللذان وقعا فى عامى ١٠٩٠ و ١٢٧٨ قد تسببا فى غرق وهلاك عدد لا حصر له من الحجيج وأهل مكة.

* * *

٥٦

الصورة الثانية

فى توسيع حرم المسجد الحرام للمرة الثانية

بعد سيل «أم نهشل» الذى سبق التعريف به آنفا بخمسة عشر عاما وفى العام السابع والعشرين من هجرة النبى. صلى الله عليه وسلم أراد سيدنا عثمان بن عفان (رضى الله عنه المنان) توسيع ساحة الحرم الشريف أكثر من قبل وأراد شراء بعض البيوت القريبة من الحرم ، إلا أن أصحاب تلك البيوت جأروا بالشكوى وألحوا فى التمسك بعدم الرضوخ لرغبة الخليفة ، وأطالوا ألسنتهم بكلام مستهجن لا يليق ، فجمعهم الخليفة وقال لهم : «إنما أطمعكم فىّ ما أتصف به من حلم وحياء فأخذتم تصيحون وتطيلون ألسنتكم ولم تستطيعوا أن تخرجوا ألسنتكم بالسوء فى أيام سلفى» واستمر يوبخهم لفترة ما ثم أمر بأن يحبس ويؤدب كل الذين لا يريدون تسليم منازلهم لتوسيع ساحة المسجد الحرام فجمع كل المخالفين وقبض عليهم وحبسوا.

إلا أن عبد الله بن خالد تقدم بالشفاعة لدى الخليفة ووفق فى تخليص جميع المخالفين ، وأدخل الخليفة الأراضى التى استولى عليها من المخالفين المذكورين ضمن ساحة المسجد الحرام ، فأصبح طول الحرم الشريف (٢٨٨) قدما و (٨) بوصات ، وعرضه (٢١٢) قدما و (٦) بوصات ، ورفع سور الجدار الذى بناه عمر بن الخطاب وأضاف إليه كثيرا من الأسقف ، وبذلك اتسعت مساحة الحرم الشريف على النحو المرغوب ، وبلغت عمارة الحرم الشريف غاية كمالها ، وعندما استعد للعودة جاء وفد من أهل مكة ورجوه أن ينقل الميناء الكائن فى ساحة «الشعيبية» إلى جدة إلا أن صلاحية جدة لتكون مرفأ كان لا بد من التأكد منه برؤية العين لذا تفضل بتشريف جدة بذاته ليكشف صلاحية المكان ويعاينه.

٥٧

وقد عرف الخليفة أن شاطئ جدة أقرب إلى مكة المفخمة وطريقه خال من الخطورة ، وأن جعل جدة ميناء أكثر أمنا وصلاحية من جميع الوجوه ، وبعد أن أجرى فى هذا الخصوص التدقيقات والبحوث الكاملة بأن يترك تشغيل ميناء «الشعيبية» ويتخذ جدة مرفأ للسفن ، وبما أن الاستحمام فى البحر كان مفيدا للجسم أمر بأن يستحم من كان معه فى البحر كما أنه بالذات! استحم فى البحر ثم عاد فى النهاية من طريق (عسفان) إلى قصر الخلافة فى مهجر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعد هذا التعمير بفترة (١) اشترى حضرة معاوية دار الندوة وضمها إلى ساحة الحرم الشريف ، وفى سنة (٧٥) الهجرية قام عبد الملك بن مروان ببعض الإصلاحات فى الحرم الشريف ، وكذلك فعل ابنه وليد بن عبد الملك فى سنة (٩١) الهجرية.

وقد أرسل إلى والى مكة عبد الله القسرى كثيرا من الأعمدة الرخامية ، وكتب له موصيا بأن يعمر الحرم الشريف بشكل يليق بمكانته وليس هناك قبل الوليد من أرسل أعمدة رخامية لتعمير الحرم المكى.

* * *

__________________

(١) فى السنة الرابعة والأربعين من الهجرة.

٥٨

الصورة الثالثة

فى توسيع حرم المسجد الحرام للمرة الثالثة

بما أن حرم المسجد الحرام قد أهمل خلال إحدى وأربعين سنة ولم يلتفت إليه بعد عمارة وليد بن عبد الملك ، لذا بنيت الأسقف التى أقامها عثمان بن عفان وكذلك الأماكن التى أقامها عبد الله بن الزبير ، كما بنيت الحجارة الرخامية التى أرسلها وليد بن عبد الملك ، وزاد عدد أهل الإيمان فاقتضى توسيع ساحة المسجد الحرام ، وبلغ الأمر إلى أبى جعفر عبد الله المنصور البغدادى ؛ فما كان منه إلا أن وسع الحرم الشريف من ناحية جداره الشامى ، وبدأ من حذاء المقام الحنفى إلى دار الندوة ، كما وسع من جهة باب العمرة وأوصل إلى باب العمرة فى سنة ١٣٩ الهجرية.

أراد أبو جعفر أن يجدد الجهة الجنوبية من الجدار الذى يتصل بمسيل الوادى ؛ ولكنه تركها على حالها حينما رأى أن تعميره غير قابل للإصلاح اشترى المنازل القريبة من الجدار الشرقى وهدمها ، وألحق أرضها بالمسجد الحرام وبنى فى أماكنها مئذنة لا نظير لها. وزين أبو جعفر عقب ذلك جهات المسجد الحرام الأربعة بالذهب والفضة الخالصة والفسيفساء (١) النفيسة ، وفرش داخل الحطيم الكريم بالرخام المجلى ، وزينه وأتم التعمير فى خلال ثلاث سنوات ثم سجل كل ما تم صنعه فى زمانه على لوحة رخامية وعلقها على كمر فوق باب بنى جمح (٢) الكائن فى ناحية باب الصفا.

فى نفس العام الذى تم فيه التعمير وبلغ غايته من الكمال سافر «أبو جعفر»

__________________

(١) يطلق الفسيفساء على الأشياء الملونة الصغيرة المصنوعة من الزجاج والنقوش المختلفة التى تكسى بها جدران المبانى الفخمة.

(٢) إن هذا الباب كان الباب المتصل بباب الخياطين الذى يتصل بباب إبراهيم ، وقد ضم المقتدر بالله العباسى باب إبراهيم إلى الحرم الشريف سنة ٣١١.

٥٩

لأداء فريضة الحج وزيارة الحرمين ، ورأى ما تم توسيعه وزيادته فى حرم المسجد الحرام فعبر عن ابتهاجه وسروره البالغ.

وكان أبو جعفر يتصف بصفة البخل الدنيئة ، فكان يضرب به المثل فى شدة البخل إلا أنه ـ لحكمة ما ـ فاق ما قدمه من البر والإحسان جميع الكرماء الذين ظهروا من قبله إذ أكرم سكان الحرمين ومجاورى المسجدين وأحسن إليهم إحسانا عظيما (١) ثم ذهب لزيارة القدس الشريف.

وكان المنصور معروفا ـ بجانب بخله وتقطيره ـ بالظلم ، ويروى أنه قتل فى أثناء حكمه الذى دام اثنتين وعشرين سنة ستمائة ألف من المسلمين وأيديهم مغلولة ؛ كل ذلك ليقرب الناس منه وليحطم أصحاب الثروة والنفوذ فى الدولة وليخوفهم ، وفى أواخر أيامه بيت سوء النية لقتل «سفيان الثورى» ـ رضى الله عنه ـ إلا أنه عندما خرج لأداء فريضة الحج للمرة الخامسة متجها إلى مكة المعظمة ووصل إلى المكان المعطر الذى دفنت فيه أمنا ميمونة ـ رضى الله عنها ـ ، أمر والى مكة بإعداد مشنقة لشنق سفيان الثورى وفعلا قد تم إعداد المشنقة واتخذت جميع تدابير الشنق.

وعندما شاع هذا الخبر فى مكة كان سفيان الثورى قد امتد متوجها إلى الكعبة واضعا رأسه فوق ركبتى الفضيل بن عياض ورجليه فوق ركبتى سفيان بن عيينة.

قال أحد أولياء الله المحبين الصالحين : يا سفيان قد جاء المنصور قاصدا صلبك وإعدامك ووصل إلى بئر ميمونة وكتب إلى حكومة مكة حتى تعد مشنقة لصلبك ، وقد أعدت فعلا مشنقة لذلك ، وإذا ما استطاع هذا العدو الحاقد أن يضع يديه على جسمك الشريف إننا نتعرض لشماتة الأعداء ، ونقع فريسة للمصائب والاضطرابات فقام سفيان من مكانه منتفضا ، والتصق بستارة الكعبة المعظمة وقال بصوت مرتفع «لو وصل المنصور لهذا المكان فإننى لن أذكر الكعبة

__________________

(١) قد أعطى لكل واحد من أشراف قريش ألف (فلورى) ولم يكن هناك مكى يعرف إلى ذلك الوقت من أعطى له هذا القدر من النقود.

٦٠