موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

إن هذه الدار النيرة تقع فى الجهة الشرقية من جبل الصفا فى اتصال دار بنى شيبة وفى زقاق ضيق. إن هذا الموقع أفضل من كل الأماكن وأقدسها فى مكة المكرمة ما عدا دار أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها.

دار الأرقم :

هذا المكان المقدس هو المكان الذى كان يجتمع فيه النبى صلى الله عليه وسلم مع تسع وثلاثين من صحابته خفية ، قد تشرف عمر بن الخطاب باعتناق الإسلام فى داخل هذه الدار ، واكتمل به عدد الصحابة أربعين صحابيا.

وانتقلت تلك الدار إلى ملكية والدة هارون الرشيد الخيزران (١) وقد اشترتها ولشدة تعلقها وحبها لهذه الدار اشترت الدور المجاورة لها وألحقتها بهذه الدار.

وانتقلت الدار بعد ذلك من يد إلى أخرى حتى وصلت إلى أشراف بنى حسن ، وفى نهاية الأمر انتقلت إلى ملكية دفتر دار مصر القاهرة إبراهيم بك ، فأهداها إلى السلطان سليم خان الثانى عليه رحمة الله فجددها نجل ذلك السلطان وهو السلطان مراد خان الثالث على شكل مسجد فى سنة ٩٩٩ ه‍.

وحينما أراد أن يجدد ذلك المسجد مصطفى جاويش الذى كان يشغل منصب أمانة البناء وكان أمين بناء جدة ، قد استدعى إلى باب السعادة ، وبهذا لم يستطع أن يأخذ دور الكبراء التى تحيط بالمسجد ، ولو لم يعزل لفترة ما من منصبه كان سيجدد مسجد دار الخيزران فى هيئة أجمل وشكل أحسن. إن عرصة مسجد دار الأرقم فى جهاتها الثلاث أربعة عشر قدما إلا الجدار الشرقى أربعة وعشرون قدما. وله أربع قباب جميلة وله ساحة مكشوفة وله مئذنة.

صخرة المحتبى :

مكان فى داخل المسجد وعلى يمين من يتوجهون إلى المحراب ، وإلى الآن مرئى وظاهر.

__________________

(١) خزيران أو خيزران بانية مسجد دار الأرقم كانت جارية المهدى المفضلة وقد أعتقها سنة ١٥٩ ه‍.

٣٨١

ومنتهى هذه الصخرة كان مكانا خاصا للنبى صلى الله عليه وسلم ، عند جلوسه وحوله تسعة وثلاثون من أصحابه الكرام عندما كان يدعو إلى الإسلام خفية ، من الروايات الموثوقة أنه كان يمضى أوقاتا تحت هذه الصخرة.

الأثر التاسع عشر : الحجر المتكلم

يقع فى جدار دكان أبى بكر وفى الجهة التى تواجه الحرم الشريف وقد وضع فى مكان يعلو عن الأرض مترا. وطول الحجر المتكلم ذراع معمارى ، وقطره ثمانية أصابع ، وهو نصف إسطوانى الشكل وبارز عن الجدار بمقدار ستة أصابع.

وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله : «إننى أعرف حجرا كان يلقى على السلام قبل البعثة فى المجئ والذهاب». ويظن أن ذلك الحجر هو المقصود به وكتب عليه البيتين الآتيين :

أنا الحجر المسلم كل حين

على خير الورى فلى البشارة

ونلت فضيلة من ذى المعانى

خصصت بها وأنى من الحجارة

قد ترك ذلك الحجر مكشوفا إلى ولاية الحاج عزت باشا الأرزنجانى الأخيرة وقد حفظه الباشا المذكور فى ولايته الأخيرة بأن غطاه بقفص حديدى وكتب كيفية عمله على حجر آخر ووضعه فوقه.

الأثر العشرون : حجر المتكأ

يقع أمام الحجر المتكلم وفى صف دار خديجة الكبرى وعلى صفحة هذا الحجر أثر لطيف ، ويقال أنه أثر مرفق النبى صلى الله عليه وسلم إذ شرف النبى صلى الله عليه وسلم دكان أبى بكر فى يوم من الأيام واستند على ذلك الحجر وعندما التفت لأبى بكر قائلا : يا

٣٨٢

أبا بكر انطبع أثر مرفقى على ذلك الحجر. كان حجر المتكأ قديما على جدار بيت أبى بكر ثم انتزعوه منه ووضعوه فى المكان الحالى.

كان المكان الذى وضع فيه من جدران بيت مصطفى أفندى الحريرى ، واحترق هذا المنزل فى أوائل سنة ١٣٠٠ ه‍ والحجاج فى عرفات ؛ إلا أن الحجر المذكور لم يصب بسوء ، وقد حفظ بأن وضع فى إطار له غطاء خشبى وعمر تلك الدار.

الأثر الحادى والعشرون : دار العباس

تقع دار العباس فى شارع المسعى وبالقرب من الميلين الأخضرين وأمام باب العباس ، والآن أصبحت رباط الفقراء والمساكين والغرباء.

الأثر الثانى والعشرون : رباط الموفق(١)

يقع فى زقاق المقرارية وشارعه ، وقد اشتراه فى سنة ٦٠٤ ه‍ القاضى الموفق جمال الدين على بن عبد الوهاب السكندرى وعمره ووقفه. إذا ما دعى فى داخله أو أمام بابه يستجاب.

قال الشيخ عبد الله بن مطرف من مشاهير أولياء الله : كلما وضعت يدى على حلقات باب رباط الموفق أحس كأن كثيرا من أيادى أهل الله توضع فيه ، ويسكن الفقراء ومساكين الممالك المغربية فى ذلك الرباط ويقيمون فيه. وبما أن كثيرا من أهل الله ما زالوا يذهبون إليه لغرض الزيارة فلا يخلو ذلك المكان من ملازمة الأولياء ومرورهم.

الأثر الثالث والعشرون : منى

تقع «منى» فى الجانب الشرقى من مكة المكرمة بين غار المرسلات وهذا المكان المقدس مكان جميل المنظر وصحراء تثير الشوق ، وطوله ٣٠٥ ذراعا ، يبدأ من جمرة العقبة وينتهى فى الجمرة الثالثة ، ويبعد عن مكة المعظمة أربعة أميال. ومنى

__________________

(١) والآن يسمى رباط عثمان.

٣٨٣

مدينة تميل إلى الكبر وتتزين جوانبها بدكاكين كبيرة ومنازل عالية ويحد نهايتها مسجد الخيف ، إلا أن عمرانها يتوقف على موسم الحج ، ففى غير موسم الحج تخلو المدينة من الناس ، ويستأجر الحجاج فى منى منازل بعد عودتهم من عرفات ، ويتاجرون مع التجار الذين وفدوا من الشام وحلب.

وإن كتب أن وقت الدعاء فى منى محدد فى منتصف الشهور القمرية وليلة ما يستدير الهلال بدرا ، ولكن بما أن المكان غير معمور فى كل الأوقات فليدع الداعى متى يمكنه الدعاء فيه.

ومنى هى المكان الذى يرسل بواسطته أمانة الصرة إلى الشريف الهاشمى النسب علنا.

وإننا أدرجنا صورة من الأمر السلطانى الذى أرسل إلى ذات السيادة الشريف عون الرفيق باشا فى سنة ١٣٠١ ه‍ متيمنا.

صورة الخط السلطانى

الحمد لله الذى جعل سرة البطحاء صدف درة البيضاء ، وحلى بها أجياد عرائس المصنوعات ، من الثرى إلى سدرة المنتهى ، وصير أم القرى محتد نبيه المجتبى وصفيه المرتضى ، وأوحى إلى خليه إبراهيم أن يرفع القواعد من البيت ، وأمرنا أن نتخذ من مقامه مصلى ، وتوجهت الوفود المتوشحة بوشاح الهدى ، ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتلبية ، وقصدوا نحو منى ، فطوبى لمن سعى بين الصفا والمروة ، وصلى بمقام إبراهيم بخضوع القلب ، وانتهج نهج القربى والزلفى ، وبيض وجهه باستلام الحجر الأسود متلألئا كسناء ذكاء (١).

والصلاة والسلام على من بعث رحمة للورى ، وصارت زيارة قبره من أرقى مدارج السعادة فى الدنيا والعقبى ، وعلى آله وصحبه الطيبين الذين طهروا الكعبة العليا من أدناس الأوثان ، وأحكموا بنيان الشريعة المصطفوية بإقامة أحكام القرآن ما ناحت الحمائم بتسبيح الله تعالى وتقديسه جل وعلا ....

__________________

(١) ذكاء : الشمس.

٣٨٤

أما بعد فهذا خطابنا الشريف الخاقانى وكتابنا المنيف السلطانى النافذ حكمه بعناية الله المعين فى أقطار الأرضين ، مطاعا لأساطين الملوك والسلاطين ، لازال ناشرا فوايح العدل والأمان وما برح زاهرا بين حدائق البر والإحسان وما سجعت الطيور ورتعت الغزلان ، أصدرناه منطويا على فرائد التحيات الرائقة ، ومحتويا على قلائد التسليمات الفائقة ، مظهرا عرف رياحين المحبة والاستئناس ، وممهدا لمبانى المودة المحفوظة عن الإندراس ، إلى جانب الأمير الأمجد الأوحد المقتفى آثار أسلاف الأشراف من آبائه الغر صناديد آل عبد مناف وأجداده الحميدى السير الجميلى الأوصاف ، فرع الشجرة الزكية النبوية ، طراز العصبة العلوية المصطفوية ، المنتمى إلى أشرف جرثومة علا عنصرها ، والمنتسب إلى أنفس أرومة غلا جوهرها ، زبدة سلالة الزهراء البتول ، عمدة آل بيت الرسول ، المحفوف بصنوف عواطف الملك الصمد ، من أفاخم وكلاء دولتنا وأعاظم وزراء سلطنتنا السنية ، الحامل النيشان المرصع بالعثمانية والمجيدية ، أمير مكة المكرمة الشريف (عون الرفيق باشا) ، لا زالت العناية الربانية له ملاحظة ، والكلاءة الصمدانية عليه حافظة ، ننهى إلى نادى الشريف أن الله جل شأنه وعز برهانه ، اصطفانا من بين عباده خلفاء للأنام ، وأعطانا سيف الجهاد ، وأمرنا بتأسيس ركن الإسلام ، وشرفنا على الملوك بسدانة بيت الله الحرام والركن والمقام ، وزين منشور سلطنتنا بخدمة روضة نبينا وشفيعنا عليه أسنى التحية وأزكى السلام.

نحمد الله على ذلك بأتم الشكر وأكمل المحامد. ونحلّى ترائب عرائس هذه النعم من جواهر الأثنية بأغلى القلائد وأنفس الفرائد ، فلا جرم وجهنا وجهة النهمة الواسعة ونخبة الهمة الشائعة ، لرفع رايات الشكر فوق القمة التاسعة ، وصرفنا أزمة صريمتنا الجليلة إلى طريق إيفاء ما وهبنا الله من المواهب الجزيلة ، وامتطينا صهوة مطايا الإقدام ، فى تنفيذ مصالح الشريعة ، جاريا مجارى الجد والاهتمام ، لا سيما مهام الأوقاف المشروطة لفقراء الحرمين المحترمين ، والأرزاق المعينة المضبوطة للشرفاء شرفهم الله ـ تعالى ـ فى الدارين ، وللعباد العاكفين فى المقامين المكرمين ، وأرسلنا من شامل عنايتنا على

٣٨٥

الرسم القديم فى العام السابق ـ وهو عام ثلاثمائة وألف من هجرة من أسس قواعد الإسلام ـ صبت على ضريحه سجال التحية والسلام ـ كافة الأموال المحصلة من ريع الأوقاف الموقوفة المربوطة ، والنقود المعروفة والوظائف المضبوطة التى خصصت بلائذى الحرم ويثرب ممن سكن فيهما ، واخترنا الجواد من حيثما المشارق والمغارب ، وجملتها مثبته وأعدادها مفصلة ومقررة كما هو مسطور ومرقوم فى الدفتر المعلوم والمختوم ، جميعها الدنانير التضاد والخدمة الصافية من النقود الرائجة فى عام البلاد الدانية والقاصية ، وسلمنا تلك الصرر إثر ما وضع فى الأكياس الموسومة بختمنا الشريف دفعا للالتباس إلى يد حامل ذلك المنشور السلطانى ، وناقل هذا المثال الخاقانى ، المنتسب لسدتنا السنية ، من خدام عتبتنا العلية السلطانية ، المأمور لخدمة الحميدية الخاقانية ، الحامل نيشان المجيدية من الرتبة الرابعة ، أمير الكرام السيد «بسيم باشا» دامت معاليه وعمدة أصحاب التحرير والتقرير ، كاتب الدفتر قدوة الأماثل والأقران ـ زيد قدره ـ بعد ما قلدناهما تلك الخدمة الجليلة ، وأعطيناهما دفترا مختوما بختمنا المبارك السلطانى لازال عنوانه زينة على صحيفة مناشير الأمانى ، مخبرا عن المصاريف المعينة ، متضمنا بالمواهب المقننة ، فأمرناهما بإيصال تلك الصرر إلى خزانة المديرية المأمورة بالسعى مع الاهتمام على جرى الأصول المؤسسة فى سوالف الأيام فى الصرر المقررة ، فى مصاريفها المحررة المقدرة ، على ما صرح ونص عليه فى الجريدة التى هى فى جيد الأمانة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (النساء : ٥٨).

واغتراف من مشارب الأجواد الجزيلة قراح عذبها ، ونهلها وتوزيعها إلى مستحقيها من السادات والعلماء والضعفاء ساكنى مكة المكرمة ، وقاطنى المدينة المعظمة ، المستمسكين بأذيال سرادقات بيت الله الحرام ، والمتشرفين بجوار نبينا شفيع الأنام (عليه أفضل الصلاة والسلام).

٣٨٦

ورسمنا ألا يفض خاتم أكياس هذه المبرة ، ولا توزع على أصحابها إلا بمعرفة المأمورين الذين وجب حضورهم ، ولا يستنسخ دفتر مستقل غير هذا الدفتر ، بل يعلم على اسم كل من وصل إليه نصيبه بالمداد الأحمر ، فإن غاب واحد منهم أو قضى نحبه ولم يوجد مسميات بعض الأسماء يعلم على اسمه بالدفتر حسبما يظهر ، وتحفظ حصصهم ونصيبهم مفرزة محرره ، كيلا يحتال أحد لأخذ الصرة المقررة ، ويؤتى نصيب من توفى أو غاب لأشخاص توافقت أسماءهم وألقابهم ونسبهم ، وتشابهت الأسماء والألقاب والنسب والأنساب ، هذا وقد أهدينا إلى جنبكم العالى ، مغرس شجرة المفاخر والمعانى فى صحبة حامل كتابنا اللطيف وخطابنا المنيف خلعة من تشريفاتنا البهية ، وأكسيتنا السنية تجديدا لمراسم الموالاة ، وتأكيدا بمعاقدة المصافاة ، فلا بد من استقبالها بتقديم مراسم الإكرام والتعظيم والتزيين ، والاكتساء بها علامة الاحترام والتكريم ، وبذل القدرة الكاملة فى رعاية الرعية وصيانة الحجاج والمجاورين والمسافرين والمقيمين من العنت والشقاوة ، لإفاضة الأمن والراحة وحراسة تلك الطرق والممالك ، واستجلاب الأدعية الصالحة من العلماء العالمين والسادات المهديين ، والفقراء الصالحين ، والمواظبة على الدعوات بمزيد التضرع والابتهال ، لإعلاء أعلام دولتنا العلية ، وثبات أركان سلطنتنا السنية ، إنه سبحانه لجدير بالسؤال ، وقدير على تبليغ الأمال ، تعالت ذاته عن المضاهى ، وجلّ جوده عن التناهى ، وفضله حسب من بجنابه لاذ ، وطوله كفاية من به استعاذ.

وصلى الله على سيدنا محمد الذى تأسست قواعد شريعته البيضاء بأركان المواهب الربانية ، ناشرا ظلال سدتها فوق الثرى ، واستهل بأرجاز نعوته الملائكة المقربون على العرش سربا فسربا ، وعلى آله وعترته الذين فتحوا بسيوفهم البلاد شرقا وغربا ، ولمن تبعهم من أمته إلى يوم الدين عجما وعربا ، رضوان الله ـ تعالى ـ عليهم أجمعين.

٣٨٧

الأثر الرابع والعشرون : الجمرات الثلاث

الجمرات الثلاث التى سبق ذكرها قد عينت بعلامات خاصة فى ثلاثة أماكن من منى.

مسألة :

قال علماء المذهب الحنفى : «عندما تلقى الجمرات عند الجمرة الأولى (١) والجمرة الثانية يعنى عندما يرجم الشيطان الأول والشيطان الثانى ينبغى أن يتوقف قليلا ، لأنه لا ينبغى الوقوف عند الجمرة الثالثة ، بناء على هذا القرار الذى اتخذه العلماء يستحبّ ألا يوقف عندها للدعاء ، بل ويدعى فى أثناء السير لأن الحسن البصرى أوصى أن يدعى فى هذا المكان أيضا ؛ لأنه مكان من ضمن الأماكن التى يستجاب فيها الدعاء.

جمرة العقبة :

أنها الجمرة الثالثة وهى بالقرب من قبة الكبش وهى جدى أبيض فى طول خمسة أذرع وذراعين عرضا. وبما أن الشيطان ظهر لحضرة الخليل لأول مرة فى هذا المكان ورجم فلزم رجمه إلى يوم القيامة.

الجمرة الثانية :

يطلق على الجمرة الثانية الجمرة الوسطى أيضا وهى تخمينا على بعد خمسين خطوة من جمرة العقبة ، وفى ناحية مسجد الخيف وقد ظهر الشيطان لخليل الرحمن مرة ثانية فرجم ، وقد أشير إليها مثل جمرة العقبة بجدار صغير.

__________________

(١) ومعنى الجمرة نار ملتهبة ، ولها معنى آخر بمعنى حصاة صغيرة ، وبهذه المناسبة أطلقت الجمرات على الحصوات الصغيرة التى تلقى فى منى وهو من جملة مناسك الحج.

٣٨٨

الجمرة الأولى :

الجمرة الأولى على بعد مائة خطوة من الجمرة الثانية ، وفى ناحية مسجد الخيف أيضا.

وهو المحل الذى ظهر فيه الشيطان لإبراهيم ـ عليه السلام ـ للمرة الثالثة فرجم ، وعين مكانها بجدار صغير مثل الأخريين.

يرمى جميع الحجاج فى هذه الجمرات الثلاث سبع حصوات ويستحسن أن يكون الرامى مترجلا ويجوز إلقاء الجمرات راكبا وكان حضرة معاوية أول من ألقى الجمرات وهو راكب.

رواية ـ يروون حديثا بمعنى «أن من يقبل حجّه ترفع جمرته» (حديث شريف) وقد سأل أحد أئمة الحديث ـ ولم يكن قد سمع هذه الرواية ـ سأل سعيد بن جبير «لماذا لم يتكون جبل من كل هذه الحصوات التى ألقيت إلى الآن؟» فرد عليه قائلا : إن كل من يقبل حجه ترفع جمراته بأمر إلهى من قبل الملائكة».

قال الإمام مجاهد «قد علّمت الجمرات التى ألقيتها فى السنة التى سمعت فيها رد سعيد بن جبير بعلامات معينة ، وبعد الحج بحثت عنها فلم أجدها ، فصدقت ما قاله سعيد بن جبير وأنه يوافق معنى الحديث.

الاستطراد

يروى لإلقاء هذه الجمرات فضائل كثيرة. يروى مؤلف «نزهة المجالس» نقلا عن كتاب الحقائق الحكاية الآتية : «قال أحد المؤمنين صادق النية مخاطبا السبع جمرات التى فى يده عند إلقائها» أشهد أيتها الجمرات أننى أؤمن بعدم وجود إله آخر غير الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله» وقد حلم هذا الشخص تلك الليلة أن القيامة قد قامت ، وعند المحاسبة قد زادت سيئاته عن حسناته فيصدر الأمر الإلهى بأن يساق إلى جهنم ، فيؤتى به فى جهنم. ولكن زبانية جهنم يرون أن باب جهنم قد سد بالجمرات التى ألقاها فى منى ، فيتحيرون كثيرا ويحاولون أن

٣٨٩

يفتحوا الباب فلا يوفقون ، ويذهبون ، تحت عرش الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليعرضوا الحالة ، إلا أن الحجارة كانت قد سبقت الزبانية ، وحصلت على الأمر الإلهى بإدخال هذا الرجل فى الجنة بعدما غفرت ذنوب الرجل ، ويقف كل حجر فى باب من أبواب الجنة ويقول راجيا : يا فلان أدخل الجنة من الباب الذى أقف فيه» انتهى.

لاحقة

إلى أواسط سنة ١٣٠٣ ه‍ الهجرية عانى الحجاج مشقة كبيرة من قلة المياه فى منى ، وكان من جملة فضائل السلطان أن أمر والى الحجاز الحالى عثمان باشا بإقامة صهريج عظيم له ستة عشر صنبورا. ولقد تم ذلك بفضل همة لجنة عين زبيدة وحسن خدماتهم ، وهكذا نجى الحجاج من مشقة العطش.

وكنا قد كتبنا معلومات أولية فى الصورة السادسة من الوجهة الثالثة من المرآة أن عثمان باشا قد أنشأ فى أرض المدرسة المجيدية بناءا فخما مقرا للحكومة للجيش ، وحول القلعة الهندية إلى ثكنة عسكرية باسم «غيرتية».

وهدم قسم الشرطة الرئيسى وثكنة المدينة السلطانية وبناهما من جديد.

ومن هذه المرة أخبرت فى رسالة واردة من مكة المكرمة والمؤرخة بتاريخ ١ جمادى الآخرة سنة ١٣٠٣ أن ذلك المقر الحكومى الفخم قد تم بناؤه ، وفرش فرشا جميلا ، كما هدمت بعض جهات قلعة جياد ، وبنى فى بعض جوانبها مخزن للأسلحة ، ووضع فوق المبنى صادة للصواعق ، وبدأ فى إنشاء ثكنة عظيمة فى الجانب الآخر.

وقد قسمت أرض عرصة المدرسة السالفة الذكر من قبل والد السلطان الكثير المحامد السلطان عبد المجيد خان ـ طيب الله ثراه ـ وبنى على طرف منها مدرسة ، وبجانبها سبيلا ومكتبة وعدة منازل خاصة بأمناء الكتب ، وفعلا شرع فى الإنشاءات ، ووضعت الأسس وفى هذا الموقف رحل ذلك السلطان عن دنيانا ، فأوقفت عمليات البناء وأهملت لتتحول تلك الساحة إلى مقلب قمامة. ولما كان

٣٩٠

الجنود السلطانية الذين يتولون حراسة مكة المكرمة يسكنون تحت الخيم ، وكان هذا مخالفا لآمال السلطان ، لذا انزعج عثمان باشا انزعاجا شديدا وأخذا ضميره يؤنبه ، فقرر أن ينشئ فوق أرض تلك المدرسة ثكنة عسكرية تستوعب فرقة من الجند السلطانى.

وبعد الاستئذان شرع فى أواخر سنة ٩٩ المالية فى عمليات الحفر ذاكرا اسم الله ، وقد استصوب فيما بعد أن تكون الدائرة الحكومية متصلة بالثكنة المذكورة ، وعدلت خريطة الثكنة السلطانية على أن يكون جانب من المبنى مقرا حكوميا ، والجانب الآخر من المبنى ثكنة عسكرية ، وهكذا بنيت ثكنة عسكرية متقنة الصنع والبناء وسميت بالحميدية.

وبلغت نفقات إنشاء الثكنة الحميدية بناء على التقديرات الأولية ألف وأربعمائة ليرة ، وإذا ضمت إليها نفقات إنشاء الدائرة الحكومية ألف وثمانمائة ليرة ، عرف أن مجموع النفقات يصل إلى ثلاثة آلاف ومائتى ليرة.

ولكن إذا ما ضم لهذه النقود ما أنفق لتزيين المبانى من الداخل والخارج تزيينا جميلا ومحكما تصل النفقات إلى ما يقرب من مليون قرش.

طرحت فكرة إنشاء ثكنة (الغيرتية) ونفذت فى عهد الشريف غالب ، ووسعت فى عهد تاتار عثمان باشا لتسع مائة عسكرى من عساكر الشرطة وبنيت فوق خرابة قلعة صغيرة.

وكان لهذه القلعة أربعة أبراج ، وهدمت الأبراج التى فى الجهة الغربية وحولت إلى ثكنة عسكرية يمكن الدفاع عنها ، وتتسع لألف من الجنود السلطانية.

وبما أنه تم بناء تلك الثكنة لما سيقوم به هؤلاء الجنود من خدمات جليلة ، وبما قدمه أصحاب الحمية والكرام من نقود ، وسميت «غيرتية» لذلك ، وقد صرف على بنائها مائة وعشرين ألف قرش ماعدا المنح الأخرى.

ثكنة المدفعية السلطانية :

كانت هذه الثكنة مكانا محاطا بأربعة جدران ، قد بنى فيه «عنبران» يستوعبان

٣٩١

ما يقرب من مائة جندى من المدفعية ، وحجرة للقيادة تسع ثلاثة ضباط ومطبخ ، وتم ذلك بهمة عثمان نورى باشا وسعيه واشتراك الجنود فى العمل. قد اشترك الأصحاب الكرام فى بناء هذه الثكنة بما دفعوه من مبالغ قريبا من ثمانين ألف قرش.

المخفر الرئيسى :

مبنى متين يتسع لإيواء أربعين جنديا ، وهناك مخفر غير هذا المخفر فى حارة الباب يتسع لعشرين جنديا أيضا ، وهما مبنيان رصينان وقد أنفق لبنائهما مائة ألف قرش كاملة.

وفى سنة سنة ١٣٠٢ الهجرية أمر عثمان باشا نورى الأمير الاى صادق بك الذى حضر مع أمانة الصرة المصرية بأخذ صور فوتو غرافية للأماكن المذكورة ، وقد حصلنا على نسخ هذه الصور وأثبتناها فى الأجزاء المناسبة من المرآة.

وقد كتب فى صفحة من المرآة إن مجرى عين زبيدة قد حفر على (حارة الباب) لتجديدها إلى ضريح الشيخ محمود ، وبناء صهريج احتياطى فى ذلك المكان ، وقد سطر فى هذه الرسالة التى وصلت والتى مر ذكرها أن ذلك المجرى قد أوصلت مياهه إلى ضريح الشيخ محمود ، وقد أنشئ أمام الضريح حوض مياه كبير ، وركبت فيه الصنابير ، وأن وصول مياه عين زبيدة إلى هذا المكان قد أحيا سكان هذه الأماكن ، ووسع مدينة مكة المكرمة.

قيل فى صفحة من المرآة «يأتى ويذهب كل سنة ما يقرب من ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف من الحجاج»

وفى الرسالة الواردة من مكة المكرمة يقول صاحبها : إن عدد الحجاج لم يزد على مائتى ألف حاج حتى فى سنين الحج الأكبر. إلا أنه لم يدخل فى هذا الحساب عربان البادية والمقيمون من أهل مكة ، ويقول صاحب الرسالة «إن نظام إقامة وليمة فى مقر الإمارة قد ألغى بعد وفاة الشريف عبد الله باشا بثلاث أو أربع سنين وهذا شىء يؤسف له.

٣٩٢

الصورة الثانية

فى ذكر المساجد المأثورة فى مكة المكرمة

الأثر الخامس والعشرون : مسجد أبى بكر :

المسجد المشهور بمسجد أبى بكر يقع فى الجهة اليمانية وفى مكان يسمى «مسفلة» عليه قبة وفى داخله كوخ.

يزور الحجاج هذا المكان كما أن أهل مكة يزورونه ويقيمون فيه حلقات الذكر ويدعون الله ، بما أن أبا بكر الصديق قد ولد فى هذا المكان السعيد فإنه يشتهر أيضا باسم «دار أبى بكر» ، وطول سطح هذا المكان من كل جهة عشرون قدما وعرضه خمسة عشر قدما ، إلا أن له فى الجهة الجنوبية حديقة محاطة بالسور مساحتها أربعمائة ذراع ، إن النبى صلى الله عليه وسلم ، قد شرف جبل الثور قادما من هذا البيت ، إن هذا الحادث الجلل قد فصل فى المقام الرابع والعشرين من «محمود السير». وقد أشرفت مبانى ذلك المسجد مع مرور الأيام على الخراب ، لذا عمره وأصلحه مدير الحرم الشريف أحمد أفندى على أحسن وجه وبشكل رصين فى سنة (١٢٩٦).

الأثر السادس والعشرون : مسجد ذى طوى :

يقع هذا المسجد فى الجهة الشمالية من مكة المعظمة وفى الوادى الذى أطلق عليه أهل مكة «ما بين الحجرتين» وفى المحل الذى خصص لإقامة المحمل المصرى ، وعلى الجهة اليمنى فى طريق العمرة ، وقد بات قائد الأصفياء ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى هذا المكان فى حجة الوداع ، وبعد أن صلى فيه صلاة الفجر اتجه إلى مكة المكرمة.

٣٩٣

وقد ذكر صاحب «العقد الثمين» أن بانيته سيدة تسمى زبيدة ، ولكنه لم يبين لنا من هى زبيدة هذه ومتى بنته.

الأثر السابع والعشرون : مسجد التنعيم :

إن مسجد التنعيم فى مكان قريب من مسجد عائشة ويبعد عن المسجد الحرام ما يقرب من ثلاثة أميال (١) أو أربعة ، وكل جهة من جهاته عرضها خمسين قدما.

وفى يمينه جبل نعيم وعلى يساره جبل ناعم ، لذا أطلق على الوادى الذى أسس فيه وادى النعمان ، وإن كان المؤرخون يخبروننا أن هذا المسجد كان يطلق عليه اسم هليلجة وكانت بجانبه شجرة قديما إلا أن ابتعاد هذا المسجد عن ميلى الحرم (يعنى ابتعاد مسجد عائشة الذى يوجد فى ناحية جبل نعيم عن الميلين) فالمسجد الذى قال عنه المؤرخون أنه مسجد هليلجة غير المسجد الذى يكتسى فيه الحجاج ملابس الإحرام بنية العمرة ، وهو مسجد التنعيم.

ويظهر أنه المكان الذى يقع فوق قمة الجبال التى خلف صهاريج «سنان باشا» وعلى الجهة الشمالية من مسجد عائشة والذى أحيط بجدار هو أرض مسجد التنعيم.

وهذا الجدار كثيرا ما ينهار بصدمات الرياح ويخرب إلا أن الزوار الكرام يبتدرون لتعميره وترميمه.

الأثر الثامن والعشرون : صهاريج سنان باشا

كان فى الزمن القديم فى هذا المكان صهريج واحد وكانوا يملئونه عند نزول المطر يتوضئون منه ، وعندما زار سنان باشا مكة المعظمة فى أثناء سنة (٩٨٧ ه‍) حين عودته من اليمن رأى أن مياه ذلك الصهريج قد نفذت ، كما أن مياه البئر الذى بجانبه قد انقطعت ، فاحتاج المعتمرون والحجاج حتى إلى قطرة ماء للوضوء

__________________

(١) يذهب الحجاج إليه فى ظرف ساعة.

٣٩٤

وإزالة عطشهم ، فتأثر من ذلك أشد التأثر ، ثم أمر بحفر البئر المذكورة ، وأوصل الماء إلى الصهريج المذكور بحفر مجرى ، وعين من يهتم بهما ويسقى الناس ، ولكن لشدة الأسف لم يبق إلى الآن ، لا السقاءون ولا المجرى ، وعندما تهطل الأمطار يمتلئ ذلك الصهريج ثم يخلو من المياه مرة أخرى فيظل فارغا.

وبعد ما أمد سنان باشا ذلك الصهريج بالماء فرش أرض المطاف بالرخام (١) ، وغير رمل الساحة الرملية للمسجد الحرام ، وأمر بصنع سبيل وحوض فى طريق العمرة ، وحفر فى أماكن بعيدة آبارا عميقة واسعة لملء السبيل والحوض بالماء بواسطة مجارى حفرها ، وقد اندرس كل هذا ولم يبق له أثر ، إلا أن الأصحاب الكرام حفروا كثيرا من الآبار فأصبح المعتمرون لا يعانون من قلة الماء كما كان من قبل.

لاحقة

وقد ثبت أن كل من يذهب إلى مسجد عائشة بنية العمرة ويلبس هناك ملابس الإحرام وفقا للسنة النبوية ، ثم يعود مهللا ملبيا إلى الحرم الشريف ويطوف مرملا مضطّبعا (٢) يسعى ، فإنه ينال ثواب أداء الحج فى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم الذى غفر له ، وذلك ثلاث مرات فى شهر رجب ومرتان فى شعبان المعظم ، ومرة فى رمضان المبارك ، لذلك يقبل الحجاج الكرام على العمرة بكثرة فى تلك الشهور.

تنبيه

ويجب أن يزار المكان الذى صلب فيه حاتم بن عدى ـ رضى الله عنه ـ الذى يقع فى الجهة الغربية من مسجد عائشة ، وفى ناحية جدة إذ كان ـ رضى الله عنه

__________________

(١) لأن المطاف الشريف فى ذلك الوقت كان مفروشا بالرمل فكان الحجاج يعانون فى أثناء السير.

(٢) إن الصورة الإجرائية لهذه الأصول مسطورة فى الصفحة الثالثة عشرة من تكملة المناسك والاضطباع أن يجعل المحرم وسط الرداء تحت كتفه اليمنى ويرد طرفيه على كتفه اليسرى ويبقى كتفه اليمنى مكشوفة ، وهو سنة عند جمهور الفقهاء : الشافعية والحنفية والحنابلة فى كل طواف يرمل فيه. ولا ترمل المرأة ولا تضطبع.

٣٩٥

 ـ ورفقاؤه مع عاصم بن ثابت ـ رضى الله عنهم ـ يحاربون سفيان بن خالد الهزلى وشرذمته فى مكان يسمى «رجيع» ، فأسر حاتم بن عدى وسيق إلى جبل التنعيم حيث صلب ، وقد أشير إلى المكان الذى صلب فيه حاتم بعلامة على شكل مئذنة ويطلق عليه أهل الحجاز اسم «ميل».

وإن كان مكان صلب حاتم بن عدى مجهولا لدى أهل مكة ، إلا أن الأشخاص الذين يذهبون إلى مسجد عائشة ويزورون الميل الذى بين الجبلين يكونون قد زاروا مصلب حاتم ، لأن هذا الميل علامة خاصة لمكان الصلب وقد كتب عليه بخط عربى قديم عبارة «هذا مصلب حاتم بن عدى» ، وبما أنه يطلى كل سنة كانت فالصباغة تمحو الكتابة التى عليه.

ولكن عندما ينزل المطر ويبتل ذلك الميل تظهر آثار هذا الخط ، وإذا ما أمعن فيها النظر يمكن قراءته تماما.

وقد استفسرت من علماء مكة عن مصلب حاتم بن عدى ، ولكننى لم أحظ منهم بإجابة شافية.

فاعتمدت على نفسى فى الكشف عن هذا المكان ، بينما كنت فى يوم من الأيام فى مسجد عائشة وكان رفيقى يتوضأ أخذت أجيل النظر فى الجهات الأربعة ، وأنا أفكر فى هذا الموضوع وأقول محدثا نفسى : يا ترى أين يقع مصلب حاتم بن عدى؟ وعندئذ رأيت ميلا قصيرا على شكل مئذنة فى جهة جدة ، فسألت رفيقى الذى كان رئيس الخدم والذى يطلقون عليه هنا «شيخ العمرة» ما هذه العلامة؟! إذا ما قلت أنها ميل الحرم ، يجب أن تكون فى جهة الوادى بالنسبة للمسجد ، فأما المكان الذى أقف فيه فهو فى ناحية جدة وفى سفح جبلين.

ألا نكون قد أصبنا عين الصواب إذا ما قلنا أنه علامة مصلب حاتم؟! ولكن شيخ العمرة قال أنا أزاول هنا مهنة الشياخة منذ ثلاثين عاما ؛ فلم أر أن فى هذا المكان علامة مثل هذه ، كما أننى لم أسمع من أحد أجدادى ، وانقضى الأمر

٣٩٦

بالتوقف قليلا فى مسجد عائشة احتماء من المطر ، وبتّ شيخ العمرة فى الموضوع مقررا عدم وجود مصلب حاتم بن عدى فى وادى التنعيم ، وأن العلامة التى أشرت إليها علامة لإشعار المحرمين بمكان الإحرام ، ولكننى كنت أعلم أن مصلب حاتم كان فى وادى النتعيم نتيجة الاطلاع فى كتب سير العلماء ، وإن ما يطلق عليه «معلماته» حيث يبدأ الحجاج والمعتمرين لبس ملابس الإحرام يجب أن يكون عجائب المسجد وفى وسط الطريق ، كما أن هذه العلامة كانت فى اتصال المسجد من الجهة الشرقية وقائمة فعلا ، إلا أن العلامة التى قال الشيخ عنها علامة الشروع فى لبس ملابس الإحرام كانت فى جهة حجرة للمسجد المذكور ، وكانت تختلف عن العلامتين فى الشكل والهيئة ، وكل هذا مما أثار فى نفسى شكوكا كثيرة ، وانقطع المطر وذهبت إلى تلك العلامة ، وكانت قد ابتلت من المطر وظهرت ظلال جلية لكتابة ، لكن قد غيرت ألوان تلك العلامة حتى تخالها ألوان الحرباء ، وحال ظلام الجو دون قراءة الحروف ، فاستصوبت أن انتظر إلى وقت الزوال ، وقد أصاب سهم اجتهادى مرماه ، وهدانى الله إلى الطريق الصحيح ، إذ انقشع الظلام وزادت حرارة الشمس ، وجف صدأ العلامة فقرأت عبارة «هذا مصلب حاتم بن عدى» ، وأريتها لشيخ العمرة الذى شكرنى بدوره كثيرا وسر سرورا عظيما ، وأخذ المعتمرون والحجاج فى الذهاب إلى مصلب حاتم بن عدى.

الأثر التاسع والعشرون : مسجد الجن

مسجد يقع فى الجهة الثابتة من مكة المكرمة وفى مقابل جداره مقبرة المعلا الملحقة ببطن الوادى ، أى فى مواجهة جبل الحجون ، وهو مسجد شريف تحت الأرض.

فالذين ينتهون من زيارة مقبرة المعلا يعودون إلى ذلك المسجد لأداء ركعتين لتحية المسجد ، وفى طرفيه شارعان واسعان.

٣٩٧

إن كل واحد من طرفى أرضه فى الشمال والجنوب ثمانية أقدام ، والجهة الشرقية أحد عشر قدما ، وطرفه الغربى ستة عشر قدما ، وبما أنه مؤسس تحت مكان اسمه «فرهادية» لا قبة له ولا مئذنة ، وقد عرضت طائفة من الجن تبعيتها للنبى صلى الله عليه وسلم ، فوق أرض هذا المسجد فى ليلة عودته من الطائف.

ودخلوا فى دائرة الإسلام المنجية ، وبما أن حراس مكة المكرمة يجتمعون فى هذا المكان ليلا أطلق عليه مسجد الحرس أو موضع الخط.

وسبب إطلاق مسجد الخط عليه هو أن النبى صلى الله عليه وسلم ، خط عدة خطوط فى تلك الليلة على الرمل وهو يشير إلى عبد الله بن مسعود المحمود العاقبة ، ومن أسماء هذا المسجد اللطيفة «مسجد البيعة» إشارة إلى مكان بيعة طائفة الجن ، وهؤلاء سبعة أنفار من الجنة ، ينتسبون إلى الطائفة من جن بلدة نصيبين وأسماؤهم : حسأ ، مسأ ، سأصبرا ، ناصبرا ، ابنا الأرب ، ابنين ، أخصم ، وبعض الرواة يضعون بدل «ابنا الأرب» : «ازريان» ومكان «ابنين» : «أحقب» ، إن هذا المكان هو الذى بايع فيه الجن النبى صلى الله عليه وسلم ، قبل البعثة ، وقد أماط محيى الدين بن عربى ، اللثام عن هذه الحقيقة.

حتى إن معاذ بن عبد الله بن معمر ، وهو ممن أيدوا هذه الحقيقة ، روى أن واحدا قد لف جنيا يسمى عمرو ـ نال الشهادة فى عهد خلافة الفاروق ـ فى خرقته ودفنه والحكاية تالية الذكر تعود إلى سيدنا معاذ.

حكاية :

قال معاذ رضى الله عنه : كنت جالسا مع عثمان بن عفان ، فمر علينا رجل وقال : بينما كنا نمضى من ذاك المكان هبت على طرقنا عاصفة كأنها زوبعة فى مكان قريب منا ، أذرت ما على الأرض من قش فى الهواء ، ثم أعقبتها زوبعة أخرى غاية فى شدتها ، والتصقت بالزوبعة التى هبت أول الأمر وتشاجرتا مدة مديدة وكأنهما حيوانان يقتتلان ثم سكنتا ، وهاتان الزوبعتان كانت كل منهما قد

٣٩٨

هبت من سفح جبل ، ولأن إحداهما حملت على الأخرى قلنا : لا بد من وجود سر فى هذا ، وما كان فى وسعنا التقدم خطوة أو التأخر خطوة ، لذا توقفنا هنيهة فى مكاننا.

وبعد أن اختفت إحدى هاتين الزوبعتين التى تخلع القلوب ببشاعتها والأخرى بالجبل لفترة انفصلت كل منهما عن الأخرى ، وتوجهت كل منهما إلى جبل ولم يعد لهما من أثر.

وعند انفصالهما بدت إحداهما ضعيفة خائرة القوة ، لذا تملكنا شديد الفضول فمضينا إلى مكان لقائهما فرأينا كثرة من الحيات وقد نفقت ، وكانت تنبعث منها رائحة ذكية ، ولكى نعرف أى حية تنفح هذه الرائحة الذكية شرعنا نقلب الحيات النافقة ، وفى النهاية أدركنا أن رائحة المسك تلك تنفح من بطن حية صفراء الظهر بيضاء البطن.

ويا لها من حية عجيبة تنفح مسكا لم أر مثلها فى حياتى ، فلففتها حول عصاى وفى قول آخر حول خرقتى ودفنتها فى طرف الطريق ، ثم قفلت راجعا إلى رفاقى ، وما أن هممنا بالذهاب حتى تراءت لنا من الجهة الغربية للمكان الذى كنا نجلس فيه أربع نساء قلن لنا : ليعلم من دفن عمرو ـ أى الحية المقتولة ـ أنه دفن شخصا صوام النهار قوام الليل ، يرعى أحكام القرآن ، وهذا الرجل قد آمن برسول الثقلين قبل أن تأتيه الرسالة بأربعمائة عام ، وبعد البعثة لمبايعته وكان يستمع إلى الوحى ، قلن هذا من كلامهن واختفين عن الأنظار.

كان هذا ما رواه معاذ رضى الله عنه.

وروى ابن حبّان هذه الواقعة كذلك فقال : إن الرجل المذكور قص على سيدنا عمر ما حدث فقال له الفاروق رضى الله عنه : نعم ، فقد قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «أن ثمة من بايعونى قبل بعثتى بأربعمائة عام» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاء فى كتاب المرجان فى أحكام الجان الذى ألفه أبو البقاء الحنفى إن رسول الثقلين

٣٩٩

صلى الله عليه وسلم ، دعا طائفة الجن إلى الإسلام ست مرات : فى جبل حراء ، وشعب الحجون ، وأعلى جبال مكة ، وبقيع الغرقد ، وعلى مشارف طيبة الطيبة ، وإحدى رحلاته الشريفة.

ولوجود عبد الله مسعود فى المرة الرابعة ، وعبد الله بن الزبير فى الخامسة فى خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد شاهد كلاهما جنا ممن أسلموا ، حتى إن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ سمع أصواتهم وشبههم بقوم «الزط» (١).

الأثر الثلاثون : مسجد الراية :

يقع هذا المسجد فى الطرف الشمالى من البلدة الطاهرة مكة المكرمة يقع بجانب بئر جبير بن مطعم بن عدى المشهورة ، وفى الجهة الجنوبية لمسجد البيعة ، وفى جوانبه الأربعة منازل كثيرة ودكاكين وافرة وسوق عظيم.

والزوار بعدما يزورون مسجد الجن ، يزورون مسجد الراية حيث يصلون ركعتى تحية المسجد ثم يعودون ، ومساحته السطحية طولها أربعة وعشرون ذراعا وعرضها عشرة أذرع.

مسجد الراية الشريف ، إنه المكان الذى ركز فيه النبى صلى الله عليه وسلم ، رايته فى يوم الفتح المنير وصلى ركعتين تحية له. وبناء على قول الإمام الأزرقى بأن بانى هذا المسجد هو عبد الله بن عبد الله بن عباس بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم ، وقد رممه وعمره المعتصم بالله البغدادى.

الأثر الحادى والثلاثون : مسجد المدعا :

إن أرضه طبقا لما نقله عبد القادر الجيلانى بالقرب من دار أبى سفيان بن حرب ، وهو مكان طوله عشرون قدما ، وعرضه خمسة أقدام ، وكان بيت الله يرى من هذا المكان ، وبما أنه لا شك فى استجابة الدعاء الذى يرفع إلى الله من مكان ، أول ما يرى الإنسان فيه بيت الله ، فالدعاء مقبول فيه ، وهو فى هذا المكان من سنة رسول الله السنية.

__________________

(١) «الزط» قوم غاية فى طول القامة ، سحنتهم مخيفة.

٤٠٠