موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

أمتار ، وقرر الأشراف أن يخرجوا الشخص الذى سقط وأن ينظفوا البئر فى نفس الوقت ، وبناء على رأى معلمى أحمد البناء قد ركبنا فى بكرات البئر ثمانية دلاء كبيرة ، وأخذنا ننزح البئر وكنت أعمل بجانب معلمى أحمد ، وبعد فترة استطعنا أن ننقص قليلا من مياه البئر ، فنزلت مع أستاذى فى قاع البئر لتنظيفه وتطهيره ، وإذا بعيون ماء ثلاث فوق خزانة ماء البئر ، اثنتان تحاذيان البيت الأعظم ، والأخرى تحاذى جبل أبى قبيس ، وكانت المياه التى يقال إنها تمتزج بماء زمزم تأتى من هذه العيون.

ويؤيد قول محمود البناء ما قاله عبد الله بن المبارك : إن عين الماء التى تجرى من ناحية ركن الحجر الأسود عين ماء ، كما يؤيد قول ابن شعبان : إن الماء الذى ينصب فى بئر زمزم من ناحية الحجر الأسود عين من عيون الجنة.

قد انخفض ماء البئر عن العيون التى سبق ذكرها ولذلك كان مزيتا قليلا ، فسددنا تلك العيون سدا محكما ، ونزحنا الباقى من المياه ثم ملأنا الدلاء بالطين المتراكم ، وطهرنا خزانة الماء وظهر فى الطين الذى أخرج كأسان من البلور ، وواحدة من الزنك وثلاثة من النحاس ، وأربعة أعداد من الصحون الصينية ، وعددان من عقد مرصع ، وكان غير ذلك كثيرا من قطع خشب الأبنوس والخردوات المتنوعة. وبعد أن نظفنا البئر من الطين حتى أصبح البئر خاليا من قطرة ماء بعد أن طهرناها ونظفناها أدى كل واحد منا فى سطح قاع البئر ركعتين ، وفتحنا العيون التى سددناها وخرجنا إلى ظاهر البئر ، وبعدما خرجنا من البئر أخذت المياه تتدفق من العيون التى ذكرناها فى غاية القوة حتى ملأت البئر فى نفس اليوم ، وتعدت المياه ما كانت عليه من قبل قدر شبر واحد». «انتهى».

وقد صدق الشيوخ الذين كانوا مع محمود على قوله قائلين : «نعم كل هذه الأقوال صحيحة ، ونحن أيضا كنا حاضرين فى ذلك الوقت». إن هذه الحكاية تؤيد تماما القول الذى يقول إن مياه أخرى تمتزج بماء زمزم.

٣٤١

وقد عرف البناء محمود شكل داخل البئر وقال إن مقدار ٦٦ قدم و ٨ بوصات من البئر ، قد طلى بما يقال له لوكون (١) ومقدار ١٠ أقدام و ٨ بوصات قد بنى بحجارة منحوتة ، وقال عن خزانة الماء : إنها حفرة ذات تراب ممتزج بالزيت ، إن التراب الممزوج بالزيت يشبه كلسه (نوع من الصلصال الذى تستخدمه النساء فى الحمامات).

والعيون الثلاث تنبع من هذا الطين وأن هذه العيون فى خارج خزانة الماء قليلا. انتهى.

وفى خلف أبنية بئر زمزم الجسيمة قبة الفراشين ، وخلفها قبة العباس وهما قبتان فى غاية الجمال ، ويحفظ فى قبة الفراشين قناديل البيت وفى عصر النبى صلى الله عليه وسلم ، كان الماء يوزع على الحجاج الكرام.

وقبة الفراشين مخزن متصل بأبنية دار التوقيت والمكتبة من ناحية باب الصفة ، وكان أغوات البيت الأعظم يحفظون فيها الشمعدانات والمباخر الخاصة بالكعبة المعظمة والشموع وأشياء أخرى مباركة. وحينما هدموا مبانى المكتبة ودار التوقيت ؛ هدموا هذا المخزن وسووا مكانه وضموه إلى البيت الحرام ، وهذا المكان ساحة خالية تؤدى فيها الحاجات المسلمات صلواتهن. والأشياء التى كانت تحفظ فى ذلك المخزن توضع الآن فى قبة العباس المتصلة بأبنية بئر زمزم.

ولما كان سقف قبة العباس عاليا ، فحينما هدمت قبة الفراشين فى سنة ١٢٩٩ ه‍ رأى القائم مقام صادق بك من مهندسى أركان الحرب أن يضيف لقبة العباس ما يشبه طابقا ، ووضع تحت الأشياء المبروكة الخاصة بالبيت الأعظم فى هذا المكان.

فوق بئر زمزم :

مكان مقبب يطلق عليه مظلة مؤذنى الشافعية ، هذا المكان محفل مؤذنى

__________________

(١) عجين كلس مع الزيت.

٣٤٢

الشافعية ، وفى الأول كان له سقف بدون قبة ، ولما سقطت أبنية ذلك المكان مع سقفها ؛ جدده الملك المؤيد المصرى بشكل جميل.

وبينما كان السلطان مراد الثالث يجدد المسجد الحرام فى سنة (٩٨٥ ه‍) ، جدد تلك المظلة أيضا وبنى عليها قبة جميلة. وبما أنها لم تعمر ولم يعتن بها فترة طويلة مالت فجأة إلى الانهيار بعد أن أصابها الوهن ، ولأجل ذلك قد عمر وشيد تلك القبة مدير الحرم الشريف سنة ١٢٩٦ ، كما أنه أصلح وعمر خارج المبنى وداخله وزينه.

وكان المؤذنون إلى قرب عهد هارون الرشيد ، كانوا يؤذنون تحت الشمس صيفا وشتاء. وقد عين المشار إليه عبد الله بن محمد بن عمر واليا على مكة فبنى أيضا مظلة صغيرة وهكذا حفظ المؤذنين من حرارة الشمس.

الأثر التاسع : ما خلف مقام إبراهيم

إن هذا المكان خلف مبانى مقام إبراهيم المقدس وبين بئر زمزم والمقام الشريف المذكور ، والمكان الذى يجب أن يدعو فيه الإنسان فوق الحجر الرخامى الذى يقابل مفتاح الباب الذى يدخل منه إلى ذلك المقام. إن ذلك المكان هو الذى صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ودعا ربه.

يجاور هذا المحل اللطيف للجهة اليسرى لمنبر الحرم الشريف ، وإن كان أداء الصلاة فيه والدعاء صعبا ولكن بقليل من الانتظار يمكن للإنسان أن يصل إلى أمله. واستجابة الدعاء فيه سريعا مشهورة لدى العلماء إذا ما دعا الداعى فى أوقات الفجر فى ذلك المكان اللطيف.

* * *

٣٤٣

المنبر الشريف

يقع المنبر فى الجانب الشمالى لأبنية مقام إبراهيم ، وعلى بعد ثلاثة أذرع تقريبا ، وهو مرتفع مصنوع من الرخام وفى غاية الزخرفة والجمال.

ولم يكن هناك منبر فى ساحة المسجد الحرام إلى أن زاره حضرة معاوية آتيا من الشام ، وقد صنع المشار إليه منبرا ذا ثلاث قوائم ، وقرأ فوقه الخطبة. وفى سنة (٤٤ ه‍) وقبله سواء أكان الخلفاء الكرام أو الولاة العظام يلقون خطبهم وهم واقفون سواء أكانوا عند حجر إسماعيل أو عندما يتجهون إلى كعبة الله المفخمة. (محاضرة الأوائل).

وقد أخرج المنبر الذى صنعه ابن أبى سفيان من الحرم عندما ورد المنبر الذى بعثه والى مصر فى عهد هارون الرشيد.

وبدل المنبر الخشبى فى سنة (٧٦٦ ه‍) حينما أرسل ملك مصر الملك الأشرف منبرا وفى سنة (٧٩٧ ه‍) أرسل الملك برقوق المصرى منبرا ، وسنة (٨١٨ ه‍) أرسل الملك المؤيد منبرا آخر. وفى سنة (٨٨١ ه‍) أرسل السلطان قايتباى (١) منبرا خشبيا أيضا ، وهكذا كان يتغير موقع المنبر وشكله كلما جددت أبنية المسجد الحرام إلى أن جاء عصر السلطان سليمان ـ طاب ثراه ـ فأرسل من باب السعادة منبرا فى سنة (٩٥٦ ه‍) ووضع حيث هو الآن. إن المنبر المذكور قد صنع من الرخام ، وقد أظهر فى صنعه المهارة اليدوية إلى حد أنه إذا ما رآه من أظهر المعجزات فى نحت الرخام يظل حائرا مبهوتا أمام هذا المنبر.

الأثر العاشر : الصفا

اسم تل ملتصق بجبل أبى قبيس وسبب تسميته بهذا الاسم نزول (آدم صفى

__________________

(١) كان المنبر الذى أرسله السلطان قايتباى مصنوعا فى غاية الجمال وكان مزخرفا بأنواع الذهب الملونة.

٣٤٤

الله فوق هذا التل عندما جاء إلى مكة أول مرة). ولم يبق الآن أثر للتل وقد أشير إلى محل الأثر بمبنى ذى طاق وكمر.

لما كانت الصفا تثير حسد الفلك ووجهك نحو الحجر الأسود اصطفت عليها حشود من الملائكة وظهرك إلى الجبل ذى الكرم ومن يريد السعى يذهب أولا إلى هذا المكان ويصعد إلى مراقى المبنى المعروف بطاق الصفا ومن هناك يبدأ السعى.

والمسافة بين طاق الصفا والكعبة المعظمة مائة وستون ذراعا ، كما أن المسافة بين المروة والصفا سبعمائة وستون ذراعا ، والشخص الذى يريد أن يدعو فى هذا المكان يصعد إلى درجة من طاق الصفا ثم يتوجه إلى الكعبة ، ويستدبر الطاق ثم يشرع فى الدعاء ، ويمكن للإنسان أن يدعو فى هذا المكان متى شاء إلا أن الوقت المفضل للدعاء فيه أوقات العصر.

* * *

٣٤٥

الشكل الرابع والعشرون

الأثر الحادى عشر : المروة

إن المروة فى جهة مستشفى الغرباء ، وهى جبل فى اتصال السوق الطويلة التى يطلق عليها السويقة أو الشامية ، وسبب تسميتها بهذا الاسم نزول حواء (عليها السلام) فوق هذا الجبل عندما جاءت إلى مكة المكرمة. والكلمة محرفة من كلمة مرأة. وسبب تسميتها بهذا الاسم عند مؤلف القاموس تكون هذا الجبل من حجارة قاسية متينة ، صارمة ويطلق اسم مروة على مثل هذه الحجارة.

بين المروتين :

عندما يسعى الحجاج متحركين من الصفا يأتون إلى هذا المكان وهنا أيضا طاق عال عند أسفله بضع درجات ، والداعى يصعد إلى أعلى درجة ويدعو متوجها إلى الصفا.

نظم

المروة التى بلغت الفلك الأزرق

على حافة قمتها قدح منقلب

إذا كان القمر يطلع مثلك من

الجبل فإنه يحطم عظمة الفلك

(فتوح الحرمين)

ويمكن للإنسان أن يدعو فى هذا المكان وقتما شاء إلا أن الوقت المفضل هو وقت العصر ، ومن هنا عرفنا أن الصفا والمروة جبلان صغيران من جبال مكة.

رواية

يروى أن المشركين فى زمن الجاهلية قد وضعوا فوق جبل الصفا صنما يسمى إساف وعلى المروة صنما آخر يسمى نائلة ، وكانوا يطوفون حول هذين الجبلين ،

٣٤٦

وعد المسلمون هذه الفعلة فى يوم فتح مكة من عادات الجاهلية ، ورفضوا القيام به معتبرين هذا العمل عارا عليهم ، أى أنهم رفضوا أن يسعوا بين المروتين ، وبناء على هذا نزل الأمر القرآنى (فَلا جُناحَ) (البقرة : ١٥٨) وأصبح السعى من مناسك الحج الواجبة.

وكان العرب فى الجاهلية يصعدون فوق سفوح هذين الجبلين بعد انتهاء مناسك الحج ، وكان الذين يجدون فى أنفسهم ما يفتخرون به يفتخرون بحسبهم ونسبهم ، كما أن بعضهم كانوا يطلبون أمورا دنيوية.

ولم تكن هناك مبان فوق هذين الجبلين إلى عهد أبى جعفر المنصور ، وكان الحجاج الذين يريدون أن يسعوا يصعدون فوق قمتى الجبل وينزلون عند سعيهم ، فبنى أبو جعفر فوق الصفا طاقا ذا اثنتى عشرة درجة ، وفوق المروة طاقا آخر ذا خمس عشرة درجة حجرية ، وبهذا أنقذ الحجاج من مشقة الطلوع والنزول فوق الجبلين. سقط طاق المروة فى سنة (٨٠٢ ه‍) وانهار فجدد السلطان فرج بن برقوق المصرى طاق (١) المروة المذكور ، وكذلك طاق الصفا وجعلهما فى شكل متناسق.

إن الطاقات التى صنعت فى عهد أبى جعفر المنصور قد جددت ، فى عهد فرج بن برقوق المصرى عدة مرات ورممت وعمرت ، ولكنها احتاجت للتعمير والتجديد بفعل الزمان ، لذلك عمر وزخرف مدير الحرم الشريف السيد أحمد هذين الطاقين ، بعد الاستئذان بشكل جميل وذلك فى سنة (١٢٩٦ ه‍).

الميلان الأخضران :

يوجد ما بين الجبلين ما يطلق عليه ما بين الميلين الأخضرين وهذا مكان مبارك طوله ٢٢ ذراعا معماريا. إن هذا المكان هو الذى رجعت فيه السيدة هاجر بسرعة لرؤية ابنها إسماعيل ـ عليه السلام ـ وكان ذلك المكان إلى سنة

__________________

(١) يروى عن أحد العلماء الذى يسمى سنجارى ، قوله إنه لم تكن هناك حاجة لبناء هذين الطاقين إلا أنه لا بأس بهما لدلالتهما على حدود السعى.

٣٤٧

(٣٤٧) مخيفا جدا لتركه مظلما ، ولم تكن هناك علامات تدل على المكان الذى يجب الجرى فيه.

وفى السنة المذكورة أرسل الملك جاقمق من ملوك الشراكسة فى مصر إلى مكة رسولا يطلق عليه سودون المحمدى لتعمير بعض نواحى الحرم الشريف. ورأى سودون المحمدى أن ذلك المكان الذى يلزم الجرى به وهذا يعدّ من مناسك الحج مجهول من الناس ، فوضع ميلين أخضرين علامة فى مسافة تمتد بينهما قدر مائة وعشرين ذراعا ، ثم علق فوقهما قنديلين وعين شخصا لإيقادهما ليلا ، وبهذا أضاء المسعى الشريف وأناره ، كما أنه عين المكان الذى هرولت فيه هاجر : (١)

ويطلق الآن على ما بين هاتين العلامتين أى ما بين الميلين الأخضرين.

صورته فى الصفات قامة الخضر وضفة ماء الحياة أحد أطرافه المروة والطرف الآخر الصفا ليس ساعيه سوى أهل الوفاء أن الناس قاطبة فى هذا المقام وهم يحثون خطاهم فى المسعى لكثرة تلاحم أجنحة الملائكة فيه ليس فيه موضع لقدم

الأثر الثانى عشر : المسعى

إن هذا الطريق ما بين طرفى الصفا والمروة فهو طريق وسوق ذو مدخلين. ويقع فى الجهة اليمنى بالحرم الشريف بالنسبة للشخص الذى يتوجه من المروة إلى الصفا ، وفى الجهة اليسرى بالنسبة للشخص الذى يتجه من الصفا إلى المروة ، ولما كان المكان مزدحما جدا ولا يخلو من الناس فيستحسن أن يدعو الإنسان فى أثناء السير والحركة.

ويجب أن نقدر هذا المكان وأن نعظمه غاية التعظيم. وأن نتذكر أن جميع

__________________

(١) وقد جدد السلطان مراد خان الثالث هذه الأبنية فى سنة ٩٨٥ ه‍. كما أن السلطان مراد خان الرابع قد غير بابها وجدد طلاءها الداخلى فى سنة ١٠٤٣ ه‍.

٣٤٨

الأنبياء العظام والأولياء الكرام قد سعوا فى هذا المكان ، يجب علينا أن ندعو قائلين : «إلهى بحرمة أقدام جميع الأنبياء العظام والأولياء الكرام الذين سعوا بهذا المكان».

إنه وادى المسعى وترابه لرفعة منزلته فأصبح درا وكحلا لأهل السلف إن نقش قدمك على هذه الأرض هو روضة الفردوس يوم الدين بما أن قدمك فى طريق الصدق والصفاء على أثر قدم المصطفى ما كان من نبى ولا ولى إلا وطأت قدمه هذا المسعى

رواية

يروى أنه قد دفن فى المسعى سبعون نبيا ذوو شأن ولأجل هذا فالذى يسعى بين المروتين له أجر كمن أعتق سبعين عبدا ، ولما كان ما بين الصفا والمروة باب من أبواب الجنة فهذا المكان أيضا من الأماكن المباركة التى يستجاب فيها الدعاء ، ويجب ألا يشك فى هذا لأنه مؤيد بالأحاديث النبوية.

استطراد :

ذهبت أنا الفقير إلى منزل الرجل الورع الحليم الفاضل أحمد خانى أفندى لزيارته ، وذلك بينما كانت أتعارف مع كرام الناس لجمع المعلومات عن مكة والكعبة ، وقال فى أثناء حديثنا : «وإن كان أهل مكة الآن يبدون بالنسبة إلى سكان أهل مكة فى العصور السابقة ، أناسا لا يستحقون رعايتهم واحترامهم ، مع أنهم جيران بيت الله ، يجب علينا أن نعد أقلهم شأنا أعظم الناس قدرا ، وإننى لا أرى ضرورة لأن أذكر لكم أن من يحملون فى قلوبهم هذه النية الصادقة سينالون مطالبهم».

يقال :

بناء على رواية إنسان يوثق فى كلامه : «كان قديما فى مكة بين أهالى مكة شخص تافه حشاش فاضح للأسرار ، لم يعرف رأسه للسجود طريقا ، ذهب هذا الرجل فى يوم من الأيام إلى مقهى الحشاشين ، وأعطى ما بيده من المخدرات إلى

٣٤٩

صاحب القهوة ، وطلب منه أن يعد له نارجيلة بما أعطاه ، وبينما صاحب المقهى يعد له نارجيلة قال : إلهى إننى لم أسجد لك فى طول حياتى إذا ما قلت بأننى أبكى سيكذبنى أهل بلدتى لما يعرفون عنى» ، وأخذ يندم ويأسف على أنه أمضى حياته عبثا ، ثم صاح قائلا : «الله» ، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة.

وقبل أن يشيع موت هذا الرجل ألهم أحد الصالحين بالآتى : «قد مات فى مكان فلان أحد الناس ، فإذا ما جهزت جنازته بشكل حسن وحملت تابوته فإن الله يرضى عنك ويتقبل أعمالك».

وبعد التحقيق عرف أن الذى مات هو ذلك الحشاش الذى يذمه الجميع ويتحاشاه ، وقد مات فى مقهى الحشاشين كما بيناه آنفا ، فظن الرجل أن ما ورد لقلبه من الإلهام قد يكون خطأ فتحير لذلك كثيرا.

وعندما كشف أمره لبعض الذين يتوسم فيهم حسن الظن عرف أنهم ألهموا نفس ما ألهم به ، وبناء على هذا لم يبق إلا أن يجهز جنازة الرجل ويغسلها ويكفنها على أحسن وجه وفق السنة بمساعدة أصحابه ، ثم وصلوا على جنازته ودفنوها فى قبر هيئ فى مقبرة «المعلا».

ولم ير كثرة المشيعين واختلاف أنواعهم فى أية جنازة من أعيان مكة كما حدث فى تشييع جنازة هذا الرجل.

وبشر الذين حملوا التابوت فى طريقهم إلى المعلا بهاتف يقول : «قد غفر لكم».

وبناء على هذه الرواية فمن الأفضل للإنسان أن يظن خيرا بأهل مكة من أن يظن شرا ناظرا لأحوالهم وتصرفاتهم الظاهرة. ولم يقع هذ الحادث فى عهدى إلا أننى لا أتردد فى تصديقه ، وقبل هذا تعرضت مكة المكرمة لمرض وبائى مفزع ، وسواء أكان الحجاج أو أهالى مكة كانوا يموتون فجأة وهم سائرون فى الطريق. ومن كثرة الجثث أصبح الذهاب إلى المسجد الحرام غير ممكن ، وفى الأيام التى اشتد فيها المرض قد استولى على أنا الفقير خوف وخشية شديدين ؛ لذا قررت أن أؤدى الصلوات الخمسة فى بيتى ؛ ولكننى لم أستطع أن أضحى

٣٥٠

بصلاة الجماعة ، فذهب إلى الحرم الشريف لصلاة العصر ، وبعد أداء الصلاة خرجت من باب الصفا كالعادة واستطعت بصعوبة أن أصل إلى مراقى طاق الصفا ، وقد رقد الناس على طرفى الطريق ولم يبق فى طريق المسعى مكانا لقدم من كثرة جثث الموتى المسلمين.

ولما رأيت كثرة الجثث وقد رقد زيد على عمرو فزعت بشدة ، ولم أستطع أن أتقدم خطوة بعد طاق الصفا وظللت مستندا على مراقى الصفا وكأننى جماد بلا روح.

وبعد فترة صفع آذانى هاتف يقول : ألا تستحيى؟! ألا تؤمن بما جاء فى الآية الكريمة : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف : ٣٤) وإنك عالم بقدر ما ، قد قرأت عدة كتب تفسير ، وطالعت كتب الأحاديث إن شجرة الإيمان قد مدت جذورها فى روضة قلبك ، وإذا ما تخلصت من وهم الخوف الذى استولى عليك وداومت على قراءة سورة (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (قريش : ١) فلا تحترز من شىء ، وإذا ما قلت هذ السر لأى واحد تنقذه مما تلقيه الأوهام عليه.

واه! إن هذا لعيب وإثم كبير أيضا! وكأننى كنت ميتا قبل أن أسمع هذا الصوت ، وكأن الصوت قد نفخ فى روحا ووهب لجسمى المنتفض الحياة.

فلم يبق أى أثر لهذه الأفكار التى أصبت بها فنظرت حولى ، فوجدت أن ليس هناك نفر يتنفس ، فوقعت مرة أخرى فى براثن الأوهام فسبحت فى أمواج بحر الاضطراب.

وفى النهاية فهمت أن الصوت من التلقينات الإلهامية ، وأخذت فى قراءة السورة المباركة التى سبق ذكرها ، وأخذت الصور العجيبة والأشكال المخيفة التى ألقتها الأوهام فى نفسى تزول تدريجيا ، ولما وجدت فى جسمى قوة كافية للتحرك ، قمت واتجهت إلى بيتى وأنا أقرأ سورة (لِإِيلافِ) ولما وصلت إلى بيتى نبهت الجميع بلزوم قراءة السورة المذكورة والاستمرار فيها. ولما رأيت أن أوهام الخوف قد زالت عن أهلى أيضا أصبحت أوصى كل من أصادفه بقراءة سورة (لِإِيلافِ). ولم يبق فى جميع الذين استمروا فى قراءة هذه السورة آثار

٣٥١

لأوهام الخوف ، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أذهب عقب كل صلاة إلى جبل الصفا وأمكث فى هذا المكان المبارك الميمون فترة.

نعم :

إن المسعى مكان غاية فى اللطف والسعد ، وقد دفن فى هذا الطريق أنبياء كثيرون وليس هناك نبى لم يسع بين المروتين ، ويجب على الذى يسعى فى هذا المكان أو يمر به أن يتذكر الأنبياء الكرام ويدعو.

ويجب الاستمرار فى قراءة سورة (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ليس فقط فى مكة المكرمة ، ولكن فى جميع البلاد وكل الأماكن.

فالذين يعتقدون بأن هذه السورة تدفع عن الإنسان الفزع والوهم والخوف لا تعتريهم أوهام الخوف». انتهى.

وتصيب الإنسان حيرة وهو يرى على جانبى طريق المسعى المحال والدكاكين ، ووسط هذه المحال مكان للعبادة ، ويدور فى خاطره استحسان رفع هذه السوق من هناك ، وإذا ما لاحظنا أن هذه السوق كانت موجودة فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم ، ولم يأمر بنقلها فلا ينبغى علينا إلا أن نسكت تأدبا قائلين : لا بد أن هناك حكمة من بقاء هذه السوق وهذا من الضرورات الدينية التى يجب أن يسلم بها كل مؤمن.

الأثر الثالث عشر : الحجر الأسود

هو ذلك الحجر السعيد الذى يشبه رأس إنسان والذى وضع فى الركن الشرقى من الكعبة المعظمة على ارتفاع (٣ أقدام و ١٠ بوصات).

وكانت قطعة من هذا الحجر سقطت فى عصر القريشيين وحفظت فى بيت واحد من آل شيبة ، وعندما حدد عبد الله بن الزبير بيت الله فى سنة (٦٤ ه‍) أحضرها وألصقها بفضة.

وحينما حج هارون الرشيد أدخله داخل غلاف فضى وفى خلال سنة (٤١٣ ه‍) كسر أحد الملاحدة المصريين فى أثناء طوافه ذلك الحجر بضربة دبوس قائلا : إلى متى سيعبد الحجر ويحترم إن حضرة محمد ـ عليه السلام ـ وعلى ـ رضى الله عنه ـ يمنعاننى من كسر هذا الحجر ، وها أنا ذا كسرت الحجر الأسود بضربة واحدة ، وهدمت بيت الله الواحد. وهجم الموحدون الطائفون على ذلك

٣٥٢

الرجل وقتلوه. إن أربعة عشر من الفرسان كانوا ينتظرون إنقاذ هذا الرجل ، ولما رأوا هجوم الموحدين على القاتل وهلاكه نزلوا من ظهور خيولهم ، وشهروا سيوفهم ، وزحفوا داخل الحرم الشريف وتكاثروا فيه حتى كونوا جماعة ، وخرّبوا بعض الأماكن وأتلفوا كثيرا من النفوس. وسقط الحجر الأسود من صندوق على الأرض فى أثناء هذه الفتنة ، وظل فوق الأرضية الرخامية للمطاف ، وفى اليوم الثالث جمع شجعان بنى شيبة قطع الحجر الأسود وألصقوها مستخدمين المسك والعجين المسمى لوكون (١) ، ووضعوه فى داخل ظرفه وأعادوه إلى مكانه ، وتعقب أهالى مكة كلهم القافلة المصرية ونهبوا كل ما يملكونه وقتلوا كثيرين منهم بسيف الشريعة المسلول.

وكان الشخص الذى أسقط الحجر الأسود على الأرض بضربة شقيا ذا وجه أحمر ، طويلا سمينا كان خبيثا لا دين له ولا إيمان. وبناء على الرواية التى حققها محمد على بن عبد الرحمن العلوى إن هذا الحادث الأليم وقع فى سنة ٤١٣ ه‍ وبناء على قول ابن كثير أنه وقع فى سنة ٤١٤ ه‍.

وفى سنة ٤٢١ حدث أن أحد ملاحدة الفرس (من البابيين) دنيئا جهنميا كسر جانبا من الحجر الأسود بضربة سيف ، ولكنه ألصق بفضة خام وأحاطوا جوانبه الأربعة بحلقة فضية ، وبعد مرور مائة وإحدى وخمسين سنة نزعه الشريف داود بن عيسى بن فليتة عند فتنته المفزعة وشيده وسواه السلطان مراد الرابع فى سنة ١٠٤٣ ه‍ من جميع جوانبه بطريقة جيدة كما هو الآن ، كما أن السلطان مصطفى خان هدم جدران جهاته الأربعة وبناها من جديد.

وبعد مرور مائة وإحدى وستين سنة يعنى فى سنة ١٢٠٤ ه‍ عندما حدث ذلك الحادث المؤلم قد تكسر أحد جوانبه قدر إصبعين ، إلا أنهم ألصقوه بلوكون الأسود دون أن يظهر الكسر.

__________________

(١) عجين من الكلس مع الزيت.

٣٥٣

والسبب فى ذلك الحادث القتال الذى شب بين الشريف غالب وأخيه الشريف عبد الله ، إذ قام قتال عنيف بين الشريف غالب وابن أخيه الشريف عبد الله فى التاسع والعشرين من شهر صفر الخير. وفى السنة المذكورة أطلقت من القلعة المدافع والبنادق مدة ثلاثة أيام فلم يؤذن فى داخل الحرم لثمانية عشر وقتا من أوقات الصلاة ، ولم تصل صلاة جماعة فى تلك الأوقات المذكورة.

وقد أصابت رصاصة الحجر الأسود فى أثناء ذلك الحادث وكسرت منه قطعة قدرها ثلاثة أصابع وأسقطتها ، فألصقت القطعة المكسورة بمادة لوكون ، وفى سنة ١٢٥٩ ه‍ أمر السلطان عبد المجيد بإدخال الحجر فى ظرف فضى وأعاد تصليح مادة اللوكون بشكل جيد ، وإلى الآن فالحجر الأسود على هذه الحالة ، ولما كان قد ألصق بمهارة ودقة لا يفرق الإنسان إذا كان ملصقا أم غير ملصق ، وهيئة الحجر مربع قريب إلى الاستدارة وحجمه أكبر من شبر وأوسع.

* * *

٣٥٤

معلومات دينية عن الحجر الأسود

إن الحجر الأسود الشهير حجر خرج من خزانة الجنة ، وهو ياقوت مشع ويقال إنه عندما أنزل على وجه الأرض كان مضيئا وعدوا حدود الحرم الميمونة هى المناطق التى كان يضيئها.

إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ سيبعث الحجر الأسود يوم القيامة بلسان وعينين ، وسوف يشهد الحجر الشريف بالخير للذين استلموه بإخلاص ونية صافية ، وبالشر للذين استلموه مستهزئين.

إن لمس الحجر الأسود والركن اليمانى يمحو الخطايا ، وإن هناك بين الركن اليمانى وركن الحجر الأسود باب من أبواب الجنة ، بناء على قول الحسن البصرى (رحمة الله عليه) ، وكل من يدعو بين الركنين يستجاب دعاؤه ، كما أن تحت ميزاب الرحمة مكان يستجاب فيه الدعاء.

وبناء على بعض الأقوال أن بجانب الركن اليمان ملكين ، وبجانب الحجر الأسود عدد لا يحصى من الملائكة ، وإنهم مأمورون بقول آمين لاستجابة دعاء الداعين ، وثابت بالحديث أن بين هذين الركنين قد دفن ٩٩ نبيا ، وأن ذلك الموقع روضة من رياض الجنة.

كان الحجر الأسود فى الأصل ملكا. وعين ليمنع آدم ـ عليه السلام ـ من أكل ثمرة الشجرة المنهية وأن يصونه. وقيل له «إذا أراد أن يتناول من هذه الشجرة فنبّهه بأنه منع من أكل ثمرة هذه الشجرة» وبينما شغل ذلك الملك بمشاهدة عجائب الفراديس وجمالها ، أكل آدم ـ لحكمة ما ـ من ثمرة تلك الشجرة وأخرج من الجنة.

وعقب ذلك وجه إليه العقاب الربانى مثل الصاعقة : «يا أيها الملك كنت سببا

٣٥٥

فى خروج آدم من الجنة» فتجمد الملك من شدة خوفه حجرا ثم أرسل إلى وجه الأرض.

قد كتبت هذه الرواية مترجمة فى تاريخ خميس ، ويؤيد هذه الرواية الحديث الشريف الذى يقول بأن الحجر الأسود سيبعث ملكا ذا عينين ، عندما خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلاق العالم ـ الأرواح ، خاطبها قائلا : ألست بربكم ، وأسرعت الأرواح المخاطبة للإجابة قائلة : بلى ، وهذا ثابت عند عموم الناس ومصدق.

وحينئذ خلق نهرا باردا أحلى من العسل ، وأمر بأن تكتب حجة تتضمن إقرار واعتراف الأرواح التى قالت بلى ، واتخذ قلم القدرة الإلهية النهر السالف الذكر مدادا ، وكتب نتيجة إقرار الأرواح ، ووضعت تلك الاعترافات فى داخل الحجر الأسود وعبئ بها. واستلام الحجر الأسود الآن تصديق بذلك الإقرار الأزلى ويذكر به. لأجل ذلك قال الإمام الباقر فى أثناء استلام الحجر : «اللهم أمانتى أديتها وميثاقى وفيت به ليشهد لى عندك بالوفاء» وهكذا أيد إقراره الأزلى.

كان لون الحجر الأسود حينما نزل على الغبراء ناصع البياض نقيا لامعا ، ولكن أخطاء البشر المستمرة ، ولمس واستلام النساء الحوائض للحجر ؛ أدى إلى تغير لونه فأصبح حالك السواد.

قال عبد الله بن عمر رضى الله عنه : «إن جبريل عليه السلام حمل جوهرة الحجر الأسود من خزانة الجنات ، كلما كان ذلك الجوهر الحجرى فى نفوسكم يزيد الخير والبركة ... فلتحذروا أن تستهزئوا به وتحقروه وإلا فجبريل ـ عليه السلام ـ يرفعه من هنا ويوصله إلى مكانه القديم». وهكذا كان ينصح أهل مكة ويبين لهم مزيته وعظمته.

وفى الواقع أن ذلك الحجر غاب فترة ما فى عهد الجراهمة والعماليق والخزاعيين ، وعندما ترك مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمى حكومة مكة الله المعظمة لأحفاد بنى إسماعيل ، وتفرق مع قومه فى البلاد المجاورة ، أخرج حلية جمال كعبة الله ، الخال الأسود ، الحجر الأسود من مكانه ورماه فى بئر زمزم.

٣٥٦

إن الروايات التى ذكرت ابتداء من اللاحقة كلها صحيحة ؛ لأنها نقلت بالأحاديث الصحيحة والأسانيد الموثوقة ولا شك فى ذلك.

استطراد :

إن مضاض بن عمرو بن الحارث الذى رمى الحجر الأسود فى بئر زمزم هو الثانى عشر من الملوك الذين حكموا القطر الحجازى ، وأول من تربع على العرش من ملوك الجراهمة هو جرهم بن قحطان بن عابر. بينما كان يعرب أخوه يحكم فى اليمن مكان أبيه استولى جرهم على أرض الحجاز.

وانتقل حكم البلاد الحجازية للجرهم السابق الذكر وبعد وفاته لابنه (عبد يا ليل) وبعد ارتحاله إلى (جرشم) بن ياليل وبعد وفاته إلى (عبد المدان) بن جرشم بعده إلى (ثقيلة) ابن عبد المدان وبعد وفاته إلى (عبد المسيح) بن ثقيلة ، وبعده إلى (مضاض) بن عبد المسيح ، وبعده إلى (عمرو) بن مضاض ، وبعده إلى أخيه (حارث) بن مضاض ، وبعده إلى (عمرو) بن حارث ، وبعد وفاته إلى أخيه (بشر) بن الحارث ، وبعد وفاة بشر إلى (مضاض) بن عمرو بن الحارث ، وانتقل حكم الحجاز فى عهده إلى أيادى الخزاعيين الغالبة.

عجيبة

يحكى أن المستعصم بالله البغدادى كان يملك حجرا أسود ، وأنه كان يجعل الناس يزورونه وكان بجانب ذلك الحجر كمرا ، وكان ذلك الحجر فى حجم الحجر الأسود وشكله ، وكان الكمر الذى بجانبه مستورا بستارة سوداء مصنوعة من قماش الأطلس.

وكان من آيات نخوة المستعصم أن من كان يريد أن يقابله من السلاطين والملوك لا يلقاه أحدهم قبل أن يزور ذلك الحجر ، ويقبله كما يزورون الكمر المستور. وقد أرسل فى عهد آتابك سعيد مظفر الدين أبو بكر قاضى القضاة مجد الدين واسمه إسماعيل إلى المستعصم حاملا رسالة له ، وفى اليوم الذى حدد للقاء الخليفة طلب منه أن يزور الكمر والحجر ويقبله مستلما ، ولما كان مجد الدين رجلا تقيا فى غاية التقى وزاهدا أراد أن يعود دون لمس الحجر ورؤية

٣٥٧

المستعصم ، إلا أن رجال الدولة رجوه ألا يفعل ، فدخل عند المستعصم حاملا فى يده مصحفا ووضع المصحف فوق الحجر وقبله وهكذا أدى رسالته.

نقل الحجر الأسود إلى ديار هجر

انتزع ملاحدة القرامطة الحجر الأسود من مكانه فى ركن الكعبة المعظمة سنة (٣١٧ ه‍) ، وحملوه إلى ديارهم وأعادوه فى سنة (٣٣٩ ه‍) إلى مكانه.

كان القرامطة قد أخذوا الحجر الأسود ظانين أنه مغناطيس البشر ، وأرادوا أن يجذبوا إليهم الناس ، ولما سئلوا عن سبب ذلك قالوا : أخذنا الحجر الأسود مأمورين وأعدناه مأمورين إلى مكانه بشرط أن يكون فى المكان الذى وضعه فيه خليل الرحمن.

وقد رأيت أنا المؤلف الفقير أن الحجر الأسود يجذب البشر ـ رؤية عين ـ رأيت أن العربان الذين يقطنون فى أطراف مكة ونواحيها يفرون إلى مكة فجأة ، وكلهم يقبلون على طواف كعبة الله والسعى قبل مضى الحجاج إلى عرفات ببضعة أيام ولسان حالهم يقول :

كأن الحجر الأسود فى وجه الكعبة خالا

أنا حاج لتقبيله أسعى إليها حالا

ويقتحمون المكان بقوة لتقبيل الحجر الأسود ولمسه ، فى حال يظن الرائى من بعيد أن كثيرا من رءوس الناس تسير فوق العربان ، ثم إن العربان يرضون أن يموتوا دون العودة من غير تقبيل الحجر الأسود ، أى لا يرضون بالاستلام فقط ، أليس هذا كافيا للدلالة على أن للحجر الأسود خاصية جذب الناس ، ومن يريد أن يرى قوة جاذبية الحجر الأسود للناس رؤية العين يقتضى أن يكون فوق المحفل الخاص بمؤذنى الشافعية ، والكائن فوق مبنى بئر زمزم حينما يفد البدو.

تقول كتب التاريخ وهى تحكى كيفية نقل الحجر الأسود إلى بلاد هجر : قد ظهرت حركة القرامطة فى عهد هارون الرشيد أو المأمون ، وعلى قول المقتدر بالله كما سيوضح فيما بعد ، ظهرت فى هجر وتجرءوا بعد ذلك تدريجيا على الإضرار

٣٥٨

بممالك الشام والعراق والحجاز ، إن رئيس هذه الطائفة الباغية الضالة الشقية أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد جنابى ، بنى بيتا للضلال فى ناحية هجر (١) فى سنة ٣١٣ ه‍ أو على رأى آخر فى سنة ٣٠١ ه‍.

وسمى هذا البيت «دار الهجرة» وأراد أن يصيب سوق كعبة الله بالكساد بتحويل طريق الحجاج إلى ناحية هجر ، وابتدر للاستيلاء على مكة المكرمة بمن تجمع حوله من الأشقياء الخبثاء ، ودخلوا حرم الله دار الأمن على حين غفلة فى يوم الأحد الذى يوافق يوم التروية فى سنة ٣١٧ ه‍ وقتل ثلاثين ألفا (٢) من أهل مكة ، ومسلمى البلاد الأخرى الذين كانوا فى أرض المطاف والمسجد الحرام داخله وخارجه ، وخاصة فى داخل كعبة الله المعظمة ، وبعد ما ألقى بأجسامهم فى داخل بئر زمزم وآبار مكة المكرمة الأخرى ، ثم خاطب الناس بصوت عال : يا أيها الذين يعتقدون أن من كان فى داخل الحرم آمنا ، انظروا لهذا الأمن والأمان ، وماذا فعلت بكم؟ وأخذ ينهق مثل الحمار ويهذى بلسان الاستهزاء الملعون.

وفى أثناء ذلك أمسك أحد الموجودين الشجعان بزمام دابة أبى طاهر غير الطاهر وقال له : يا ظالم الله ليس معنى الآية الجليلة اللطيف (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (آل عمران : ٩٧) كما تفهمه ، وسكت أبو طاهر غير الطاهر عن الكلمة القذرة ، ووجه مطيته نحو باب المعلى لكعبة الله ولم يستطع أن ينال ذلك البطل بضرر. ومع ذلك ازدادت جرأته درجة فدرجة فانتزع بيده ـ شلت يده ـ ألواح كعبة الله المزينة ، ونهب ستارة بيت الله وما فى خزانة البيت من الهدايا الثمينة ، ووزعها على جنوده الضالين وأمر أحد القرامطة أن يصعد فوق سطح الكعبة لينزل الميزاب الذهبى ، ولما رأى أنه قد أسقط على الأرض بسهم أطلق من جبل أبى قبيس أمر بصعود قرمطى آخر.

واللعين الذى صعد فوق سطح الكعبة فى المرة الثانية وقع رأسا على عقب وهلك ، وحينئذ عرف اللعين أنه لن يستطيع أن يقتلع الميزاب الذهبى ، وأخذ

__________________

(١) الاسم الآخر للهجر البحرين.

(٢) قتل ألف وسبعمائة منهم محرمين يطوفون بالكعبة.

٣٥٩

يبحث عن حجر مقام إبراهيم ولما لم يجده غضب أشد الغضب ، وخرب مبانى بئر زمزم والمبانى الأخرى من الحرم الشريف ، وبعد العصر اقتلع الحجر الأسود الأمانة الكبرى وفى يوم الثامن من دخوله فى مكة المكرمة ، وعلى قول فى اليوم الحادى عشر منه ثم مضى متجها نحو هجر.

وفى هذا العام لم يستطع أحد أن يكمل حجه ذاهبا إلى عرفات غير بضعة من الذين آثروا الموت غير مهتمين بالحياة.

ولما وصل ذلك الملعون إلى هجر زاعما أنه قد حقق أمله كتب إلى عبد الله المهتدى من الملوك الفاطميين يخبره بما فعل ، ويعرض تبعيته له ويذكره فى خطب الجمعة متقربا منه ، ولكنه تلقى منه الرد الذى يستحقه والذى قال فيه : واعجبا ، إنك ارتكبت فى بلد الله أنواع الفضائح ، ثم اقتلعت الحجر الأسود من مكانه وأخذته معك إلى ناحية هجر فى جرأة بالغة ، إنك قد هتكت وأزلت ستارة الكعبة الشريفة التى ظلت معززة ومكرمة منذ العصر الجاهلى ، ومع هذا تريد أن تذكرنى فى خطبك ألا فليلعنك الله.

وحينما تلقى منه هذا الرد أعلن عصيانه عليه أيضا ، واحتفظ بالحجر الأسود فى هجر اثنين وعشرين عاما إلا أربعة أيام ؛ رغبة فى أن يتوجه الحجاج إلى هناك لأجل الزيارة ، ولكنه تعرض لحكم القضاء الذى يقول «الجزاء من جنس العمل» إذ أصابه مرض الأكلة (١) ، وهلك وألقى فى حفرة البوار.

لاحقة

يروى أن من جملة أوامر أبى طاهر غير الطاهر بقر بطون الجثث وإخراج الأمعاء وملئها بالخمر بعد غسلها.

وقطع ألسنة الذين يطفئون القناديل قائلين «بوف» وإقرار اللواط بعدم الإيلاج ب (فرطا) ، وسحب الذين يولجون بالإفراط على وجوههم وسحلهم ما يقرب من أربعين ذراعا ، وقتل الشبان الذين يمتنعون عن اللواط وتعظيم الزنا.

__________________

(١) أكلة : مرض يطلقه الأطباء على السرطان وهذا المرض نوع من المرض مثل جرح ينتشر حوله حتى يهلك المريض.

٣٦٠