موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

وهكذا نحو مما تعرضوا له من المصائب والقحط وهذا الحجر موجود إلى هذا اليوم ، وبناء على قول ابن حجر كلما سرق من بيت الله حجر أو أشياء أخرى يتعرض أهل مكة لمرض مهلك ينتشر إلى جميع البلاد الأخرى ، وكان قد سرق فى وقت ما حجر من أحجار بيت الله فظهرت أمراض مهلكة فى مكة الله وانتشرت إلى أكثر البلاد ، وفى نهاية الأمر خرس لسان السارق ومات ووجد الحجر المسروق فى ميراث ذلك الرجل وأعيد إلى مكانه ، ورفعت تلك الداهية الدهياء من فوق العباد.

الأثر السادس : مقام إبراهيم :

يطلق مقام إبراهيم على ذلك الحجر المبارك الذى استخدمه إبراهيم ـ عليه السلام ـ كسقالة عند بناء كعبة الله المعظمة.

وبناء على هذا التعريف فإن هذا الحجر الذى يطلق عليه مقام إبراهيم هو الحجر الذى استخدمه إبراهيم ـ عليه السلام ـ كسقالة عندما كان يبنى جدران كعبة الله وحينما صعد إبراهيم ـ عليه السلام ـ فوق هذا الحجر لبناء جدران الكعبة جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ ذلك الحجر كالعجين فغاصت أقدام سيدنا إبراهيم الشريفة فى صدر الحجر حتى كعبها ، وعندما نزل إبراهيم ـ عليه السلام ـ من فوق الحجر رجع إلى هيئته الأولى جامدا كما كان.

وقد رأى أنس بن مالك هذا الحجر الشريف فى الآثار المباركة التى تركها إبراهيم ـ عليه السلام ـ كما يروى صاحب بدائع الزهور بعد التدقيق.

وكان يقول للذين يسألون : إننى رأيت آثار أقدام خليل الله فوق المقام الشريف ، وكانت آثار أصابع قدميه ظاهرة. إلا أن هذه الآثار تكاد تمحى من كثرة ملامسة الناس. إن حجر المقام الشريف الذى يساوى الجواهر لا يشبه الرخام الأبيض ولا الحجارة العادية البيضاء أو السوداء. وفوقه عروق تميل إلى السواد أو الصفار وإن كان لونه قارب لون السكر الخام إلا أنه لم ير فى الدنيا حجر لطيف

٣٢١

فى اللون أو الخلقة أو جدير أن يقال لم يخلق حجر مثله. حجمه الأصلى فى ارتفاع واحد وعشرين إصبعا ، والجهات التى تحمل آثار قدميه فى عرض ثمانية عشر إصبعا.

إن وسطه أرفع بالنسبة لطرفيه وأسفله يشبه اللبن ، ومسافة محيطه أكثر من أربعة أقدام قليلا ، إن أثر قدمى إبراهيم ـ عليه السلام ـ فوق المقام قد غطى بغلاف فضى إلا أنه لا يعرف متى حدث ذلك ومن قام بتغليفه.

إن الحجر المذكور محفوظ الآن فى داخل أبنية أنشئت فى الجهة الشرقية لكعبة الله وأمام باب بيت الله.

وكان فى مكان (١) ملاصق لأبنية كعبة الله يوم فتح مكة ، وقد أمر قائد المجاهدين (عليه سلام الله المعين) بنقله إلى مكانه الحالى ، وهو يبتعد عن شادروان الكعبة المشرفة ابتداء من الشبكة الحديدية ثمانية وعشرين قدما.

ويبعد عن ركن الحجر الأسود خمسة وثلاثون قدما ، ومن حدود جبل الصفا مائتين وخمسة وعشرين قدما.

ويوجد تحت الحجر المبارك صفة مبنية بالحجارة ، وفوق الصفة صندوق وطول الشبكة الحديدية التى تحيط بهذا الصندوق من يمين مصلى الشافعية ويساره نحو وجه الكعبة خمسة أذرع وعشرة أصابع ، وعرضها ذراع وسبعة أصابع ونصف إصبع ، ومازالت الجهة الشرقية لتلك الشبكة المكان الذى يصلى فيه أئمة الشافعية مع جماعتهم وهو فوق عمودين رخاميين وفى طول سبعة أقدام وأربع بوصات.

مسألة

قال جماعة : المقصود بالمقام فى الآية الكريم (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة : ١٢٥) هو المكان الذى ما بين العمودين الرخاميين.

__________________

(١) إن هذا الموقع الجهة اللطيفة لباب كعبة الله ، حينما أتم إبراهيم ـ عليه السلام ـ مبانى كعبة الله السعيدة تركه فى هذا المكان.

٣٢٢

وقال جماعة : إن المقام الشريف حرم المسجد الحرام كله ، حتى إن الإمام مالك كاد أن يذهب إلى فرضية أداء صلاة الطواف فى ذلك المكان (١).

بشرى :

ينقل أئمة الدين الكرام فى روايات صحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم ، أن الذين يصلون خلف مقام إبراهيم ركعتين يغفر الله لهم جميع آثامهم السابقة وينعم عليهم بحسنات قدر مخلوقاته والذين يصلون بعدهم ينقذهم من الفزع الأكبر يوم القيامة ، ويأمر جبريل وميكائيل (عليهم السلام) بأن يستمروا فى الاستغفار لهم إلى يوم القيامة.

كان المبنى القديم للمقام الإبراهيمى يتكون من مظلة قائمة على شبكة خشبية وكانت مياه السيل الذى ظهر فى عهد عمر الفاروق ـ رضى الله عنه ـ جرفت هذا المبنى والمقام الشريف إلى الوادى اليمانى ، وأسس الفاروق مظلة جديدة متينة حسب الحاجة فى زمنه.

وقد زينه فى سنة (١٦٠ ه‍) الخليفة المهدى البغدادى العباسى وفى سنة (٢٣٥ ه‍) المتوكل على الله بن المعتصم وفى سنة (٢٥٦ ه‍) زين المهتدى بالله بن الواثق المظلة التى أنشأها عمر الفاروق وأنفق عليها كثيرا من النقود الذهبية.

لم يكتف الخليفة المهدى بتزيين المقام الشريف بل أنفق كثيرا من النقود الذهبية لإلصاق الجزء المنكسر من الحجر الذى يطلق عليه مقام إبراهيم ، وقال الإمام الأزرقى نقلا عن عبد الله بن الشعبى وهو يشير إلى همة المهدى : «بما أن المقام الشريف كان لينا جدا قد انقطع جزء منه فى أثناء التعمير ، ولما أبلغ الأمر إلى المهدى بن المنصور ألصقه بإذابة ألف قطعة ذهبية».

__________________

(١) وكان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ سببا فى نزول هذه الآية الكريمة واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى لأنه قال لرسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم «يا رسول الله ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟! «فنزلت هذه الآية الكريمة الجليلة» (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة : ١٢٥) فاتخذ ذلك المقام مصلى ونزل القرآن بهذا موافقا رغبة عمر بن الخطاب رضى الله عنه.

٣٢٣

وقد أنفق فى عهد المتوكل بالله ثمانية آلاف ، وفى عهد المهتدى ألف تسعمائة وتسعين مثقالا من ذهب.

مع أن جعفر بن فضيل ومحمد بن حاتم ، قد اقتلعا هذه الألواح الذهبية وصنعوا بها عملة ذهبية ، أنفقاها للمستلزمات الحربية فى فتنة إسماعيل العلوى.

إن الباب الذى يواجه الكعبة الشريفة لشبكة المظلة المذكورة قد ترك مفتوحا للزوار ، ولم يغير أى جهة منها ، كان من يرغب فى زيارته يستطيع زيارته ومسح وجهه وعينه بالحجر (المقام الشريف).

وقد ذكر أن الدعاء يستجاب بالقرب من المقام الشريف ولذلك كان أصحاب الحاجات يدعون الله ويناجون عارضين حاجاتهم وينالون أقصى مطالبهم عندما يدعون وباب الشبكة الذى يواجه الكعبة مفتوحا.

وكما أن الداعين بقلوب نقية لا يردون يائسين ؛ لذا أخذ بعض المفسدين وذوى النيات السيئة يدعون ضد الأشراف والصناديد ووجهاء القبائل ، كما ظهرت مساوئ أخرى ، وحينما رأى ذلك شخص اسمه يوسف الذى حكم البلاد الحجازية واليمانية فترة من الزمان هدم تلك المظلة ، وأدخل حجر المقام المبارك فى داخل قبة حديدية ، ووضع مكان الشبكة الخشبية شبكة حديدية ، وفى زماننا قد صنع فوق المقام الشريف صندوق من خشب شجرة الطرفاء ، ويحيط بهذا الصندوق قفص حديدى ، وذلك القفص تحت قبة حجرية ، وتحيط بهذه القبة من جهاتها الأربعة شبكة حديدية ، ولذلك الصندوق باب فى الجهة الشرقية ، وهناك قطعة قماش مزخرفة بالذهب تحيط بهذا الصندوق ، وكلما غيرت كسا الكعبة المفخمة الداخلية غيرت هذه الستارة أيضا.

وقد غير الملك الناصر محمد بن قلاوون المصرى الشبكة التى تحيط بالصندوق فى سنة (٧٢٨ ه‍) وكتب على إحدى جهاتها اسمه.

وبعد اثنين وثمانين سنة وفى سنة (٨١٠ ه‍) قد صنع سقف لطيف لداخل القبة ، وكتب فى أحد أماكنه اسم صانعه وتاريخ صنعه.

٣٢٤

وقد غطى السلطان جاقمق المصرى القبة المذكورة بالرصاص فى سنة (٨٤٣ ه‍) ولما احتاجت بعض أماكنها للتعمير بفعل مرور الزمن عمرها السلطان الأشرف الغورى ، وزينها بالذهب فى سنة (٩١٥ ه‍) وبعد مرور ثلاث سنوات وفى سنة (٩١٨ ه‍) غطى القبة بالرصاص.

وإن كان صندوق المقام الشريف والشبكة الحديدية التى فوقه قد صنعت فى شكل رصين كما ذكر من قبل وعمرت عدة مرات ، إلى أن أخذ بعض أجزائها فى البلى وزال طلاؤها وسقطت بعض أخشابها ، وصعب حفظ ذلك المقام فأقيمت المبانى بناء على الطلب والاستئذان من السلطان سليمان بن السلطان سليم فى سنة (٩٤٧ ه‍).

وصنعت فى شكل محكم وهيئة متينة. وشبكة القفص المصنوعة من الحديد غيرت بشبكة نحاسية ، وأخذت الأبنية التى صنعها السلطان المذكور يصيبها البلى بالتدريج ، وأشرفت على السقوط والخراب ، وعرض الأمر على السلطان مراد الرابع طاب ثراه فبادر إلى تجديدها وتزيينها فى سنة (١٠٤٥ ه‍) وبعد سبعين سنة من ذلك ساءت حالة الصفة التى تحمل الحجر الذى عليه آثار قدم إبراهيم ـ عليه السلام ـ فكتب حامل مفتاح الكعبة المعظمة الشيخ محمد الشيبى تقريرا إلى ولاية مكة ، وأبلغت الولاية الأمر متضمنا التقرير السابق إلى الباب العالى. فبادر الباب العالى بتجديد تلك الصفة وجدرانها والصندوق الخشبى للمقام المذكور ، والأماكن الأخرى التى تحتاج إلى التجديد وذلك فى سنة (١١٦٥ ه‍).

وأكد الشيخ محمد الشيبى فى تقريره لزوم تجديد الغطاء الفضى الذى يزين الصندوق الفضى وكسوة الصندوق الذى يحتوى على حجر المقام. وبناء على ما يقتضى عمله فى مكة فلقد أرسل السلطان مصطفى خان الثانى بن المرحوم محمد خان الرابع بالأمر السلطانى الذى تفتقت به قريحته ، والذى تجب طاعته إلى إبراهيم أفندى مدير التعمير فى مكة المكرمة ، وبناء على هذا الأمر السلطانى عاين إبراهيم أفندى مع شريف مكة وقاضيها والآخرين ومن يجب وجودهم المقام

٣٢٥

المذكور ، وبناء على القرار الذى اتخذوه رمم صندوق المقام ، وبعث بالغطاء الفضى القديم للمقام ، وبعض العينات من التراب الذى وجد حول الحجر المبارك إلى باب السعادة للتبرك ، وقد قدمت هذه الأشياء بكل توقير إلى العتبة السلطانية مما أثار فرحة وسرور السلطان ، وبعد أن رآها أمر بأن تحفظ هذه الأشياء المباركة فى صورة تليق بها ، وهكذا وضعت فى الخزانة السلطانية لحفظها.

إن التراب المبارك الذى أخذ من المقام وأرسل إلى باب السعادة كان من الطين الذى تحجر حول آثار قدم سيدنا إبراهيم عليه السلام ، لأنه كان قد صنع جدير من الجص حول آثار قدمى إبراهيم عليه السلام فى ارتفاع شبر ، وغلف الجدير بغلاف من الفضة ، وذلك لملئه بماء زمزم الذى يعد شربه تبركا بآثار قدمى ذلك النبى الكريم ، كما كان يحدث فى أوائل العصور الإسلامية ، ومازال يحدث فى ذلك الوقت ، وكلما فتح باب الشبكة الحديدية للمقام يصب الزوار والحجاج فى داخل ذلك الجدير ماء زمزم ويشربونه متبركين.

ثم يضعون فيه بعض القروش ثم يأخذونها ويضعونها فى أكياس نقودهم للتبرك بها ، وحينما يكون فى داخل ذلك الجدار ماء زمزم وتوضع فيه النقود ، ثم تؤخذ بعد فترة وتوضع فى كيس النقود ؛ يجلب ذلك البركة واليمن لهذا الشخص.

ولما شاع هذا الخبر بين الناس أخذ الحجاج يضعون فى داخل هذا الجدير عملة مجيدية صغيرة أو مسكوكات ذهبية أخرى ، ثم يأخذونها ويضعونها فى أكياس نقودهم معتقدين أن مثل هذا الكيس الذى يحتوى على مثل هذه النقود لا يخلو فى يوم من الأيام من النقود ، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد استجاب لدعاء إبراهيم ـ عليه السلام.

إن مقام إبراهيم ومبانيه دامت متماسكة مائة وإحدى وثمانين سنة بعد أن عمرها السلطان مراد خان الرابع فى سنة (١٠٤٣ ه‍) وبعد أن رممها وأصلحها السلطان مصطفى خان الثانى ابن السلطان محمد خان الرابع بعده باثنتين وسبعين سنة فى سنة (١١١٥ ه‍) وظلت مبانى المقام الشريف متماسكة إلى يومنا هذا بعد

٣٢٦

إجراء الترميمات والإصلاحات من حين لآخر إلا أن مبانيه بليت بغتة وكادت تنهار ، وحينئذ استأذن مدير الحرم الشريف فى تعمير الصندوق والستارة التى عليه والشبكة التى تحيط به وناحية المقام الشافعى على قدر الإمكان ، حتى أمكن أن تستمر المبانى متماسكة لفترة ما.

وفى سنة (١٠١٦ ه‍) جدد السلطان مراد الرابع مبانى المقام الشريف وفى سنة (١٠٤٣) جدد بابها وأماكن الشبكة التى صبغها بلون أخضر وطلى الأماكن التى احتاجت للطلاء بالذهب ، إلا أنه غير وجدد المبانى المذكورة كليا بعد سنة وذلك لشدة الحاجة إلى هذا التجديد.

الأثر السابع : داخل البيت المعظم

ساحة تبلغ (١٨٦٠) قدم مربع فى داخل كعبة الله المشحونة بالفيوضات الإلهية وقد نقش وزين داخل جدران البيت الأعظم بقطع رخام ملونة. وللسقف الشريف الذى يحاذى الركن العراقى سلم مثل سلم المآذن الحلزونى ذى سبع وعشرين درجة ، ومصنوع من الخشب ، ولقد أرسل هذا السلم من قبل الملك المؤيد من مصر عام (٨١٧ ه‍).

وبعد مرور إحدى وخمسين سنة احتاج السلم الذى أرسله الملك المؤيد إلى التجديد ، فصنع الملك خوشقدم سلما غاية فى الجمال ، وأرسله إلى مكة فى خلال سنة (٨٦٨ ه‍) ، وجدد السلطان مصطفى خان سلم الملك الظاهر فى سنة (١١١٥ ه‍) جاعلا سبعا من درجاته من الرخام والباقى من الخشب.

وفى داخل بيت الله كرسى خاص بحامل مفتاح الكعبة السيد الشيبى ، وهذا الكرسى فى غاية الجمال وقد أهداه السلطان الغورى فى سنة (١٠٤٣ ه‍) وجدد من قبل السلطان مراد خان الرابع.

٣٢٧

وفى يمين الوالجين داخل البيت الحرام توجد حفرة للخزانة ، إن هذه الحفرة التى نسيت من قبل التاريخ هى الحفرة التى حفرت لوضع الهدايا التى ترد من قبل الناس لإبراهيم ـ عليه السلام ـ وعلى الستائر المعلقة على الجدران كلمات طيبة وأدعية مأثورة منسوجة بالحرير ، ولباب الكعبة فى الداخل ستارة فى طول قامتين ونصف للإنسان وقد شغل عليها بعض الرسوم بالخيوط الذهبية ، وسواء أكانت هذه الستارة أو الستارة الخارجية تغيران كل سنة ويقسم قديمهما بين خدمة بيت الله وكمر الستارة وستارة الباب من نصيب السيد الشيبى فى هذا التقسيم.

إن لبيت الله خدم زنوج عددهم واحد وخمسون ، ويطلق عليهم بين الناس اسم الأغوات المخصيون.

ولا يجوز أن يزيد عددهم على الأربعين أو ينقص ، وإذا ما حدث وزاد فهناك كثيرون يلازمون البيت ليقبلوا ضمن الأغوات (١) حتى بلغ عددهم الآن إلى واحد وخمسين نفرا.

الأوقات التى يفتح فيها باب بيت الله

يفتح باب بيت الله تسع مرات فى السنة على أن يكون الفتح لمدة ثلاث ساعات فى كل مرة ، وذلك فى :

يوم عاشوراء العاشر من شهر المحرم.

والثانى عشر من ربيع الأول.

والثالثة : الخامس عشر من رجب.

والرابعة : السابع والعشرين منه.

والخامسة : الخامس عشر من ذى القعدة.

والسادسة : السابع والعشرين منه.

والثامنة (٢) : العاشر من ذى الحجة. وقد جرت العادة أن يفتح فى المرة التاسعة

__________________

(١) ذكر تاريخ استخدام الأغوات فى الكعبة المعظمة والحجرة النبوية المعطرة وسبب استخدامها فى مجلد مرآة المدينة.

(٢) لم يذكر المترجم المرة السّابعة التى تفتح فيها الكعبة المشرفة.

٣٢٨

بعد أداء صلاة العيد ، وفى المرات السابق ذكرها بعد شروق الشمس ، والجميع يحترمون هذا النظام وهذه المواعيد.

ويدخل الحجاج داخل بيت الله لزيارته عندما يفتح باب كعبة الله ولما كانت هذه الزيارة للخير المحض للجميع قد خص يوم من هذه الأيام لدخول الحجاج ، ويوم آخر لزيارة نساء الحجاج ، ومن العادات القديمة المستحسنة أن تلبس الكعبة كسوتها فى السابع من ذى الحجة وفى ليلة الخامس عشر من رجب وليلة اليوم السابع والعشرين يدعو حامل مفتاح بيت الله السيد (الشيبى) فى داخل بيت الله لأجل السلطان ، وفى ختام الدعاء يلبس الخلعة المهداة من السلطان ، وفى الأيام التى يفتح فيها باب بيت الله يؤتى بالسلم المتحرك الخاص بباب كعبة الله وبعده يتوجه كل دليل مع الحجاج التابعين له إلى الكعبة ليدخلوا فى بيت الله ، وهنا يزدحمون ويحاول الحجاج أن يدخلوا كلهم مرة واحدة فيجرح كثيرون.

* * *

٣٢٩

سلم بيت الله

لا يعرف من الذى وضع سلم باب بيت الله لأول مرة. إلا أن الملك المؤيد المصرى قد أرسل فى سنة (٨١٧ ه‍) سلما مزينا ومنذ ذلك العهد أخذ يجدد من قبل النواب الهنود ، والآن لباب بيت الله سلّمان ، أهدى أحدهما فى سنة (١٢٤٠ ه‍) من حاكم مدراس منور خان وأهدى الآخر فى سنة (١٢٩٧ ه‍) من حاكم (رامپور) كلب على (١) خان وقد وضع الجديد منهما فوق عجلتين متحركتين ، وقد صنعت بعض أجزاءه من الحديد ، وقد غطيت كل جهاته من مراقيه وارتفاعها والدرابزين وكل ما يرى فى خارجه وكل أماكنه بفضة ، وطليت بماء الذهب ستة من الأصص التى وضعت فى مواضع ستة من السلم ، والخشبة الموضوعة فوق الدرابزينين الجانبيين ، والفراغات الموجودة تحت كل درجة ، والفراغ الموجود تحت الدرجة الأخيرة للسلم ، وأطراف فراغات السلم كافة ، وعامة كل السلم كما يرى فى الصورة الخاصة به ، وبما أن ذلك السلم المزين زادت زخرفته عن كل حد قرر العلماء بالاتفاق أن يستعمل ذلك السلم فى طلوع النساء ونزولهن ، وكلما أريد أريد أن يفتح باب الكعبة لزيارة النساء يجلب ذلك السلم أمام باب كعبة الله ، إن سمك الألواح الفضية لذلك السلم قدر مليمتر (٢) واحد وعيار فضته من نفس عيار الروبية الهندية.

قد حك فوق السلم القديم جملة (عبده منور) وإن بدا بزينة مصنوعة فى غاية الجمال وقد صبت من النحاس الأصفر وزخرفت بالذهب وقد صنعت أطرافها من خشب الأبنوس وبمهارة فوق تخمين البشر.

__________________

(١) قد حج هذا الشخص فى سنة ١٢٨٩.

(٢) المليمتر هو جزء من ألف جزء من المتر.

٣٣٠

والأقسام التى صبت من خليط النحاس لما زيد فيها النحاس فالزخرفة التى عليها تلمع كأنها قد زخرفت اليوم ، ولما كانت مراقى السلم مصنوعة من خشب شجرة الطرفاء فهى متينة جدا ، الأخشاب التى فى خارج السلم صنعت كالأطراف من خشب الأبنوس فى شكل مزخرف ، ووضع فوق ثلاث عجلات.

وكان الرسول الذى أوصل السلم الذى أهداه كلب على خان طلب أن يهدى إليهم السلم الذى أهداه (منور خان) للتبرك به ولما عرض الأمر على سلطات الخلافة للاستئذان صدر الأمر السلطانى بأن يحفظ السلمان لاستخدامهما بالتناوب وخصص السلم الذى أهداه (منور خان) لاستخدام الرجال والسلم الذى أهداه (كلب على خان) لاستخدام النساء كما سبق ذكره أعلاه وعلى هذا عندما يفتح باب الكعبة للرجال يستخدم السلم الذى أهداه منور خان وعندما يفتح باب الكعبة للنساء يستخدم السلم الذى أهداه كلب على خان.

نصيحة

لا يمكن لإنسان ألا يتمنى الدخول فى داخل البيت الحرام ، ولكن يجب أن يراعى الأمور الآتية ، وكل من لا يراعى هذه الحقيقة ويدخل فى الكعبة على عماه يكون قد ارتكب حراما ورضى أن يصاب بالإعاقة ونقل صاحب (شفاء الغرام) وأن النبى صلى الله عليه وسلم قد دخل بعد الهجرة أربع مرات فى البيت الحرام ، وصلى فيه فى أحد تلك الأيام الأربعة ، وهذا اليوم هو الفتح واليوم الثانى للفتح ، والثالث فى حجة الوداع والرابع فى عمرة القضاء ، وكان فى ذلك الوقت لبيت الله ستة أعمدة ، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دخل فى الكعبة حضرة بلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة ، وبناءا على ما يروى هؤلاء أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة جاعلا عمودان فى جهته اليمنى ، وعمودان فى جهته اليسرى ، وثلاثة من الأعمدة خلفه ، وكان الناس فى القديم يدخلون داخل الكعبة بالأحذية ، ولما خلع وليد بن المغيرة حذاءه عند دخوله الكعبة أخذ الناس يخلعون أحذيتهم وبعد ذلك لم يدخل الكعبة أحد بحذائه «محاضرة الأوائل».

٣٣١

ول وجهك شطر الحرم العظيم هذا

وأقم فيه فى سود الثياب

إن صحن الحرم هو روضة الخلد المقيم

فاقعد فى صحنه المربع

إن وجهه هو قبلة أهل الحسن من العرب

وسجدة ملاح العجم نحوه

وبما أن الريح تعلقت بحضنه

نثرت الغالية فى جيب الدنيا

ولما رفعت الريح طرف كسوته السوداء

اكتحلت عين الروح من حجره

«فتوح الحرمين»

مسألة : (١)

إذا ما أمكن الدخول فى بيت الله حين يخلو المكان من الازدحام بدون مشقة ويمكن الصلاة فيه بسكينة وهدوء فالصلاة فيه حلال ، ولكن الدخول فيه عندما يزدحم المكان ويضيق فحرام ، وبما أن ستة أذرع من ناحية حجر إسماعيل يعد من داخل البيت الحرام فأولى بالإنسان أن يدعو فى هذا المكان.

قال الزاهدى وجلبى فى شرح القدورى والإمام مالك والإمام الشافعى فى بعض أقوالهم : لا يجوز أداء الفرائض فى داخل كعبة الله ، وأعلن بعض الأئمة عدم جواز التنفل أيضا. مع أن النبى صلى الله عليه وسلم قد أدى فيه الصلاة أربع مرات.

__________________

(١) أنظر فى المسألة : إعلام الساجد للزركشى ص ٩١ وما بعدها.

٣٣٢

والواجب فى هذه المسألة أن يستقبل الإنسان بعض جهات البيت الأعظم لذا أجاز أئمة المذهب الحنفى أداء الفرائض أو النوافل ، وبناءا على هذا يجوز أن يصلى فوق كعبة الله أيضا ، إلا أنه مكروه لأنه إخلال بتعظيم البيت ، حتى إن فوق الكعبة المكان السادس من الأماكن التى كره فيها النبى صلى الله عليه وسلم ، الصلاة كما جاء فى هذه الأبيات.

نهى الرسول أحمد خير البشر

عن الصلاة فى بقاع تعتبر

معاطن الجمال (١) ثم المقبرة (٢)

مزبلة (٣) طريقهم (٤) ومجزره(٥)

وفوق بيت الله (٦) والحمام (٧)

والحمد لله على التمام

الأثر الثامن : قرب بئر زمزم

هذا المكان بين مبانى بئر زمزم وشبكة مقام إبراهيم ، ويمكن للإنسان أن يجد فيه مكانا يدعو فيه متى شاء.

إن عمق بئر زمزم ١٣٤ قدم و ٣ بوصات ، وقطر فتحتها العليا ثمانية أقدام وبوصتان ويبعد من الجدار الذى على فتحته ناحية جدار الكعبة المعظمة ٤٧ قدم و ٩ بوصات ، ومقام إبراهيم ٢١ قدم و ٩ بوصات.

وقد أعطى النبى صلى الله عليه وسلم شرف سقاية زمزم إلى عمه عباس بن عبد المطلب ، وكانت السقاية تنتقل إلى أبناء وأحفاد بنى عباس ، ولما فضل بنو عباس عدم الإقامة فى مكة كانوا يقومون بهذه الخدمة بتوكيل أحد مشايخ بنى الزبير ، وحينما انتقلت الخلافة إلى بنى العباس أديت خدمة السقاية فترة طويلة بالوكالة ،

٣٣٣

وذهب فيما بعد أحد مشايخ بنى الزبير ورجا أن تجعل خدمة السقاية فيهم بالأصالة ، ولما حصل على الإذن بذلك أصبحت السلالة التى تنتهى إلى عبد الله بن الزبير تقوم بخدمة السقاية الكريمة.

وقد أديرت خدمة السقاية عدة عصور كما شرحنا من قبل إلا أنه مع كثرة الحجاج وزيادة السكان أصبح حصر هذه الخدمة كما كان فى عهد بنى عباس ، أو فى عهد شيخ زمزم من أبناء وأولاد الزبير بن العوام ، فى شخص واحد غير ممكن لإرواء الحجاج والأهالى ، ولذلك اتخذ من قبل شيخ السقاية فى كل ركن من أركان الحرم الشريف سقاء لإرواء الموجودين ، ولكن بعد عصر من الزمن رئى أن هذا النظام أيضا لا يكفى لإرواء آلاف الحجاج والأهالى ، فزيد من عدد السقائين. حتى لا يتعرض الحجاج المسلمون لبلوى العطش ، وحتى يجد بعض الفقراء وسيلة لكسب مصادر الرزق ، فقد عين لحجاج كل ولاية من الولايات الإسلامية سقاء ، وجعل هؤلاء السقاءون تحت رياسة الشخص الذى تعهد بالقيام بمهمة السقاية من المشايخ الزبيرية ، والآن كل بلد إسلامى له سقاء معروف ، وكل واحد من هؤلاء مكلف بحسن معاملة الحجاج الذين يتبعون له. كما أن حجاج ذلك البلد يلجأون إلى السقاء الذى عيّن لهم فى أمور السقاية ، وهكذا استراح الحجاج من مشكلة السقاية ، كما أن كثيرا من أهل مكة وجدوا مصادر رزق فعاشوا فى رفاهية.

ولكل سقاء الآن فى كل سنة خمسة أو عشرة وأحيانا عشرون وثلاثون أو أكثر من الحجاج ، يأتون إلى مكة ويذهبون. ولما كان كل سقاء يقوم بإقامة وليمة حسب حاله مرة لحجاجه الجدد لأجل ذلك يطيب الحجاج خواطر السقائين بإعطائهم بعض النقود عند وصولهم إلى مكة ، وعند حلول عيد الأضحى ، كما أن كل حاج يحاول أن يرضى سقاءه عند عودته إلى بلاده ، كما أنهم يساهمون فى تسهيل معيشة أسرة السقاء بإعطائه بعض النقود كل أسبوع.

٣٣٤

ويؤوى السقاءون حجاجهم فى وكالات جيدة ويحرصون على خدمة مرضاهم ، ويأخذون سجاجيد صلواتهم ويفرشونها فى الأماكن التى يود الحجاج أداء صلواتهم الخمس فيها ، قبل حلول وقتها.

ويجد كل حاج قبل صلاته سجادته التى فرشت له ، وبهذا يؤدى صلواته الخمس فى هدوء وراحة ، ولذا يجب على الحاج أن يقابل خدمات سقائه بإعطائه بعض النقود ، كما سبق أن ذكرناه ، كما أن على السقائين أن يراعوا حجاجهم ويحسنوا معاملتهم ويعدون العدد الكافى من الناس حتى يقوموا بمهمتهم على أحسن حال.

فهم علاوة على فرش سجاجيد الصلاة فى الأماكن التى تعود الحاج أداء صلاته فيها حين حلول وقت الصلاة ، يقدمون لحجاجهم عقب أداء فرائض الصلاة طاسا من ماء زمزم البارد ، كما أنهم يحضرون الماء لحجرات الحجاج كل صباح من ماء زمزم.

إن شرب زمزم فى داخل الحرم الشريف ليس حكرا على المواقع التى يوجد بها السقاءون ، لأن هناك فى شرق المسجد الحرام وغربه سبل يستطيع الحجاج العطشى أن يزيلوا ظمأهم بالشرب من هذه السبل ، وإذا أرادوا أن يشربوا يستطيعوا أيضا بالشرب من الدلاء التى فى داخل مبانى بئر زمزم.

وبما أن ما يعطيه الحجاج لسقائيهم من النقود لا تقابل ما يدفعه السقاءون سواء أكان لضيافة الحجاج أو للخدمة الذين يستخدمونهم إلا أن الحجاج الذين أسقطوا عن كواهلهم فريضة الحجاج يرسلون فى كل سنة من بلادهم رسالة ومعها جرة معينة يستطيع السقاءون أن يتعيشوا بها فى غير مواسم الحج.

ويخجل السقاءون حجاجهم بأن يقدموا لهم فى الأيام الحارة مياه زمزم مبردة والسبب فى تبريد المياه هم الحجاج الذين تعودوا أن يرسلوا الرسائل للسقائين.

لأن الحجاج يكتبون أسماءهم أو أسماء أصدقائهم وهم فى مكة على أوانى

٣٣٥

الماء التى يطلق عليها الزورق بحبر لا يمحى ويتركونها لسقائيهم. وعندما تصل الرسائل التى اعتاد إرسالها أصحاب الزوارق يملئون هذه الزوارق بماء زمزم ويصفونها على الساحة الرملية فى الحرم الشريف ، ويغطونها بالحصر فيبرد الماء فى داخلها غاية البرودة وعندما تحل أوقات الصلاة يوزعون الزوارق على الحجاج الكرام.

إن خدمة السقاية المباركة تدار الآن بالطريقة التى ذكرت ، يعنى يملئون زوارقهم بماء زمزم ، ويأخذون بعضها إلى غرف الحجاج كما يبردون كثيرا من الزوارق فى الحرم لسقى الحجاج ، ولما كانت سقاية الحجاج إلى الآن فى أيدى المشايخ الزبيريين فأبنية بئر زمزم وأبوابها تفتح من قبل واحد منهم كما أن أحدهم يطلق عليه اسم شيخ زمزم ورئيسه. ولما كان الإشراف على المؤذنين ورئاستهم فى يد المؤذن الشافعى فشيخ زمزم هو الذى يتولى هذا الأمر ، ولما كان أول من يبدأ بأداء صلوات الفجر أئمة المذهب الشافعى فشيخ بئر زمزم يغلق باب بئر زمزم كل ليلة ، ويفتحه كل صباح فى الوقت الذى اعتاد فتحه ، وبهذا يعلن لسقاة الحرم الشريف أن الوقت قد حان للحصول على ماء زمزم ، والشيخ الذى يتولى مهمة السقاية يأخذ من بئر زمزم عدة أوان من الماء قبل أن يفتحه للآخرين لشربه ، أو لتقديمه لأصحابه ، ولما كان هذا الماء زبدة ماء زمزم فطعمه لذيذ جدا ولونه لامع وصاف ولا يشبه ماء زمزم الذى يأخذه السقاة ، وليكن فى علم الشاربين أن ماء زمزم كفاية عن خلاصة قطرة واحدة لماء عين تسنيم ، وماء الكوثر ، ماء الحياة الذى هو زبدة خالصة ومن هنا يستحق أن يطلق عليه الزبدة.

ولما كان الشراب من زبدة ماء زمزم يفيد فى تصفية الدم ولإدامة صحة الإنسان عامة فمن يريد أن يشرب من هذا الماء يجب عليه أن يحل عند شيخ زمزم.

شيخ زمزم فى عصرنا هذا هو الشيخ عبد الله (١) بن على بن محمد بن عبد

__________________

(١) ساق المؤلف نسبا طويلا للشيخ عبد الله هذا ينتهى به إلى سيدنا عبد الله بن الزبير (رضى الله عنه) إلا أن البادى عليه شدة الاضطراب فاختصرنا العبارة كما هنا.

٣٣٦

السلام من نسل سيدنا عبد الله بن الزبير (رضى الله عنهم) وقد تعهدوا بأداء هذه الخدمة المشكورة سنة ١٢٨٢ ه‍.

إننى ـ المؤلف ـ قد تلاقيت مع عبد الله أفندى وحضرت مجالسه ونلت شرف شرب زبدة ماء زمزم كل صباح فى صحبته ودلالته. كان المرحوم السيد عبد الله من الأشخاص الذين يتمعتون بخصال حميدة وفضائل جليلة وكان من أذكياء علماء مكة ، شخص خزانة علم ، فريد فى الحلم والحكمة ، ملكى الصفات ، والسعداء الذين يتشرفون بصحبته يتمنون ألا يفارقون صحبته دقيقة واحدة.

تطهير بئر زمزم الشريف

نضبت مياه بئر زمزم فى عهد العباسيين وكادت أن تنقطع وبعد ما عمقها بناء يقال له محمد بن ضحاك قدر ستة أذرع لم ينقص ماؤها أبدا.

وكان أهل مكة يعتقدون أن مياه بئر زمزم يفور فى الليالى المباركة ويفيض ، وأن مياه الكوثر تختلط بمياه زمزم فى تلك الليالى ، وبناء على ذلك كانوا يهجمون على بئر زمزم ويقتحمونها بقوة حتى يخاف أن يصاب بعضهم بعاهات فى تلك الليالى ، وهم يبذلون الجهد لأخذ مياه زمزم ولكن تحقيقاتنا لم تثبت ما يدعونه.

وقد حصلنا على روايتين بخصوص فيضان بئر زمزم.

الرواية الأولى :

اختلاط بعض المياه الجارية بماء زمزم ولما كان باب بئر زمزم يغلق فى الليالى المباركة من العصر إلى المساء ؛ لذا كان يزيد الماء الموجود فى البئر قدر شبر.

والرواية الثانية :

عندما انسدت البئر المذكورة توارد إلى مكة كثير من الروحانيين ، وفى تلك الليلة تغير طعم ماء زمزم وردوا ذلك إلى سبب سؤر الروحانين فى البئر. والحكاية الآتية كافية لتصديق هذه الرواية وتأكيدها.

٣٣٧

القصة :

استيقظ أحد الفضلاء من المشايخ الزبيريين وقام من نومه ظنا أن وقت الترحيم قد حان ، واتجه إلى الحرم الشريف ، وبعد الطواف بالبيت صعد إلى المكان الخاص برؤساء مؤذنى الشافعية ، وفوجئ بأن أبواب بئر زمزم قد فتحت ، وأشعلت القناديل ودخل كثير من الناس فى أبنية بئر زمزم ، وتعجب من الأمر ، لأن من الأصول المتبعة أن يكون مفتاح بئر زمزم معه ، ولكنه قال لنفسه : لا بد وأننى استيقظت متأخرا وهؤلاء بعثوا إلى بيتى وأخذوا المفتاح. وبناء على هذه الملاحظة لم يقم من مكانه يتحقق من الأمر ، ومن شدة حيرته وتعجبه لم يخطر على باله أن ينظر إلى الساعة ، وبعد فترة أدرك أن المؤذنين لم يصلوا بعد ، فظل جالسا فى هذا المقام قائلا : ما هذه الحال؟! وبينما هو يفكر فى هذا الأمر غلبه النوم وراح فى سبات ، واستيقظ بعد فترة فإذا بالقناديل مطفئة وأبواب مبنى بئر زمزم مغلقة ، فبادر بالقيام وأخرج ساعته من جيبه فرأى أن وقت الترحيم لم يحل بعد ؛ فتوهم من هذا الأمر وخاف ، وأخذ يتلو القرآن ، وبعد ما وصل والده بفترة قص عليه الحكاية بكل تفصيلها ، فقال له والده ـ يا بنى إن ما تشربونه صباحا من بئر زمزم من ماء حلو قائلين إنه زبدة ما هو إلا سؤر أولياء الله الروحانيين ، ولا يشبه ماء زمزم الذى يأخذه السقاة : إذ يأتى أولياء الله الصالحون بعدما ينسحب الزوار فى الليل ، وبعدما يطوفون بالبيت الحرام يدخلون فى مبنى بئر زمزم ، ويشربون ماء زمزم حتى الصباح ، ولا يمنعهم لا الباب ولا المدخنة ، وبهذا الرد اطلع على هذا السر شديد الخفاء. انتهى.

وفى الواقع أن الماء الذى قلنا عنه الزبدة من ماء زمزم لا يشبه ماء زمزم الذى يؤخذ منها سواء فى الطعم أو اللون ، إن طعم الزبدة فى غاية اللذة ولونها فى غاية الشفافية يفوق عن التصوير والتعريف. وقال بعض المدققين إن لماء زمزم الصافى خاصية زيت الزيتون ، وبما أن ماء زمزم غير قابل للامتزاج بالمياه الجارية الأخرى فعندما يغلق باب أبنية بئر زمزم فماء زمزم يطفح فوق الماء ، كما يطفح

٣٣٨

زيت الزيتون ؛ لذلك يختلف طعم ماء زمزم الذى يؤخذ صباحا. إن هذا التوجيه الوجيه غير قابل للاعتراض ؛ لأنها خاصية ينفرد بها ماء زمزم عن المياه الأخرى مهما كانت لطيفة خفيفة لا يمكن منعها من الامتزاج.

فإذا ما أضيف قدح ماء مر إلى قدحين أو ثلاثة أقداح ماء حلو فيفسد طعم الماء الحلو ، ومهما ترك من الوقت فالماء الحلو لا يطفح فوق الماء ويسترد لذته الأولى.

إن بئر زمزم الشريف يقع فى مواجهة باب كعبة الله المعظمة ، وفى داخل مبانى حجرته (١) ولمبانيها ثلاث نوافذ مقابل باب كعبة الله. وينظر باب إلى الجهة الشرقية وفوقها خاص بمؤذنى الشافعية. ولا سيما شيخ زمزم أى الخاص برؤساء مؤذنى الشافعية. ومن هنا ينبه لأداء أذان صلوات الأوقات الخمسة.

لم يكن فى الأزمنة الأولى سور لفتحة بئر زمزم ، وكان يحيط بها سور منخفض. وحدث فى عهد أبى جعفر المنصور من خلفاء بغداد أن سقط أحد الناس قضاء فى داخله ، وحتى يمنع وقوع مثل هذه الحوادث قرر أن يبنى على فتحتها سورا بناء على الأمر الوارد من الخليفة. وبعد البحث والتحرى وجدوا حجرا فى ارتفاع ٦ أقدام و ٣ بوصات واستدارة قطره ٢٥ قدم فثقبوا وسطه ووضعوه فى فتحة البئر.

ثم أحاطوه دائرا ما دار بشبكة حديدية ، ومع ذلك بعض العشاق وأصحاب الشوق كانوا يرمون أنفسهم فى البئر ويغرقون ، ولما أطلع السلطان أحمد خان الأول على هذا الأمر أراد أن يحول دون أن يقتل الناس أنفسهم ، فأمر بصنع شبكة حديدية فى إستانبول وأرسلها إلى مكة المكرمة فى سنة (١٠٢٤ ه‍) فأنزلت تلك الشبكة إلى البئر وربطت بسلاسل حديدية تحت الماء بعدة أذرع. ولله الحمد لم تقع بعد ذلك حوادث محزنة مثل ما حدث.

__________________

(١) وقد جدد السلطان مراد خان الثالث هذه الأبنية فى سنة ٩٨٥ ه‍. كما أن السلطان مراد خان الرابع قد غير بابها وجدد طلاءها الداخلى فى سنة ١٠٤٣ ه‍.

٣٣٩

إن مبانى البئر الشريف الموجودة فى يومنا هذا من آثار السلطان عبد الحميد خان الأول كما هو موضح فى التاريخ الذى فوق الباب.

وعمق بئر زمزم المكرم ٩٩ قدما و ٣ بوصات كما ذكر آنفا ، وماؤه فى كل آن وزمان (٤٥ قدما) ، إذا ما نظرنا إلى أقوال المسنين من السقاة الذين يوثق بهم أنه إذا ما سحب الماء من بئر زمزم ليلا ونهارا ولفترة طويلة من الصعب أن ينزح ماؤه.

مساحة بيت الله الأكرم

قال المرحوم السيد غبارى لأحد أحبائه وهو مؤلف كتاب مساحة بيت الله الأكرم : «سقط شخص فى بئر زمزم فى عهد السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم ، وأرادوا أن يطهروا البئر وفقا للشريعة بأن ينزحوا كل مياه البئر ، وسحبوا المياه وبثمانية دلاء فى خمسة أو عشرة أيام على الدوام ، ومع ذلك لم يستطيعوا أن ينقصوا المياه ولو بقدر إصبعين ، وكان فى البئر ذلك الوقت ما يقرب من تسعة أذرع فلم يزد هذا الماء ولم ينقص ، وقد تعجبت من هذه الحالة وقلت لنفسى ما الحكمة فى عدم نقص المياه فى البئر مع سحبها ليلا ونهارا؟ وأخذت أسأل عن سبب ذلك ممن أتوسم فيهم الصدق وأثق فيهم دون كلل ، وفى أحد الأيام قابلت البناء محمود الذى تجاوز المائة من عمره والذى يتوسم فيه قول الصدق.

فسألته وبجانبه بضعة أشخاص متقدمين فى السن موضحا له زيادة فضولى بهذا الخصوص ، وقد تلقيت منه هذا الجواب :

جواب غبارى أفندى كما تلقاه من البناء محمود :

قال غبارى أفندى : «لم ينزل المطر الذى يسبب سيولا فترة تقرب من إحدى عشرة سنة فى عهد السلطان قايتباى المصرى ، وجفت مياه جميع آبار مكة المكرمة ، وأخذ الناس يأتون من بعيد وقريب مضطرين للحصول على المياه من بئر زمزم ، وإننى كنت فى ذلك الوقت شابا ، ولما كنت متضخم الجسم كنت صبى البناء ، وحدث أن سقط أحد فى البئر كما حدث الآن. ونقصت المياه بمقدار أربعة

٣٤٠