موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

هذا التقدير يقتضى أن يكون الدرهم الشرعى سبعة أعشار المثقال الشرعي ، والمثقال الواحد يساوى درهما وسبعة أرباع الدرهم ، أى أن وزن المثقال يساوى ثقل سبع شعيرات متوسطة ، واعتبر سبعة أعشار المثقال درهما واحدا ، ويترتب على ذلك اعتبار الدرهم الواحد ثقل خمس حبات شعير وخمسين من حبة واحدة.

وقد قرر فى عصر السلطان أورخان الغازى وعهده اعتبار ربع الدرهم العرفى درهما شرعيا واحدا ، واعتبار الدرهم ونصف العرفى واحدا ٢٦٦ مثقالا ، واعتبار ٤٠٠ درهم عرفى أوقية واحدة.

ومن فروع ذلك القرار اعتبار الذرتين قطميرا ، والقطميرين نقيرا ، والنقيرين فتيلا ، و ٤ فتائل حبة حنطة ، و ٤ حبات حنطة تساوى قيراطا ، و ٤ قراريط تساوى درهما ، وبناء على هذا التقدير إن مائة الودرة تساوى قنطارا ، و ٤ قناطير تساوى جكّيا واحدا وأن الجكى الواحد يساوى مائة وستا وستين أوقية عتيقة.

* * *

٢٠١

الصورة الثانية

تعرف من قدم إلى الكعبة المعظمة المعلقات والستائر القيمة

إن ملوك العجم كانوا يوقرون الكعبة المعظمة ويعظمونها بتقديم الهدايا وما يعلق عليها ، وإن كان أول من قدم الهدايا إلى كعبة الله توقيرا لها وتعظيما لشأنها مجهولا فى نظر التاريخ ، إلا أنه من المحقق أن من أرسل ما يطلق عليه العرب «غزالتى الكعبة» هو اسفنديار أو على قول ساسان بن بابك من ملوك الفرس ، وكانتا من ذهب خالص.

حتى إن العرب يعتقدون اعتقادا جازما أن أول ما قدم من هدايا إلى الكعبة المعظمة هما هاتان الغزالتان ، كما أن العرب يروون أن بابك أهدى إلى الكعبة المعظمة غير الغزالتين الذهبيتين أنواعا من الهدايا الذهبية والجواهر.

كما أنهم يروون بالأدلة أن أول من أهدى من العرب إلى الكعبة المعظمة من الهدايا هو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة من قبيلة قريش إذ علق على الكعبة سيفين مذهبين.

وقد دعا كلاب بن مرة قبل جميع سكان الجزيرة العربية وأعيانها إلى إحراز شرف تقديم الهدية إلى الكعبة. إن أبا زوجه قدم له سيفا ذا قيمة مذهبا ومشهورا لدى العرب. وكان «أسد بن سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر بن الحارث بن عمليق بن خشعمة بن يشكر بن بشير بن صعب بن دهمان بن نضر بن الأزد» الذى اشتهر بترصيع السيوف ، واختراع هذا النوع من السيوف المذهبة ، قد صنع هذين السيفين وأهدى أحدهما إلى ابنته فاطمة ، والآخر لزوج ابنته كلاب بن مرة وهما أهديا هذين السيفين إلى الكعبة المفخمة ليحفظا فى خزينة بيت الله.

٢٠٢

إن هذين السيفين المخترعين لم يكن للعرب عهد بصنعهما ، لذا زادت فى عيون شجعان العرب الذين يفتخرون بعمل أجمل الأسلحة.

وعد إهداؤهما إلى الكعبة تضحية عظيمة من قبل كلاب بن مرة ، ومن أجل ذلك علت مكانته فوق صناديد العرب والأشراف. وإن لم يقدم بعد كلاب بن مرة إلى عصر عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف هدية إلى الكعبة ، إلا أن عبد المطلب بن هاشم حينما أخرج من بئر زمزم الغزالتين الذهبيتين وسيفا ثمينا مرصعا وكثيرا من الذهب أهداها كلها إلى الكعبة المعظمة محبة لها ، وكانت الغزالتان هما اللتان أهداهما ساسان بن إسفنديار إلى الكعبة كما سبق ذكره.

وأول من زين بيت الله فى الدولة الإسلامية هو عمر الفاروق ، وبعده عبد الله بن الزبير وقد علق عمر الفاروق ما اغتنمه فى أثناء فتح المدائن من هلالين ذهبيين في داخل كعبة الله ، كما كسا عبد الله بن الزبير أساطين الكعبة بصفائح من ذهب ، وجعل مفتاح الكعبة من الذهب الخالص.

وقد أهدت مارية بنت أرقم من بنات ملوك بنى حنيفة زوجا من القرط الغالى النفيس ، وكان هذا القرط من در نادر من حجم بيضة الحمامة ، ويساويان أربعين ألف دينار تقريبا ، وبما أن أحدهما كان لا نظير له سميت صاحبته بذات القرطين. وقد انتقل هذان القرطان فيما بعد إلى أيدى الملوك ، حتى انتهى الأمر إلى عبد الملك بن مروان الأموى وعندما زوج ابنته فاطمة من عمر بن عبد العزيز أعطاها هذين القرطين. وأخذ عمر بن عبد العزيز فى عهد خلافته هذين القرطين ووضعهما فى خزينة الدولة.

ولما توفى عمر بن عبد العزيز وتولى السلطة يزيد بن عبد الملك ، أخذ القرط ورده إلى أخته فاطمة ، إلا أنها لم تقبله ، وعندئذ أهدى يزيد القرط إلى زوجته ولا يعرف بعد ذلك إلى أين انتقل ذلك القرط ومن الذى امتلكه.

وقد بين «الإمام تقى الدين» من مؤرخى الكعبة الأوائل كيف زين كلاب بن مرة الكعبة معلقا سيفا محلى. ثم ذكر ناقلا من تاريخ الإمام الأزرقى أسماء الذين قدموا أشياء ثمينة متنوعة لتلك البقعة المقدسة واحدا تلو الآخر.

٢٠٣

ومن ضمن ما ذكره الهلالان الذهبيان من غنائم بلاد كسرى ، وكأسا مزينة بالزبرجد (١) غالى الثمن أهداها «سفاح بن زائد» من خلفاء بنى العباس.

كما أن هارون الرشيد علق في سقف كعبة الله فى سنة ١٨٦ ه‍ قطعة حجة منمقة كتب عليها تجديد عهد وميثاق لابنيه محمد الأمين ، وعبد الله المأمون بعد توقيعها من رجال دولته وذلك فى أثناء حجه.

الاستطراد

حينما علقت تلك الحجة فى المكان الذى رآه هارون الرشيد مناسبا وسقطت على الأرض بطريقة ما وشاع الأمر بين الناس ، قالوا «إن ما تحتويه الحجة المذكورة لا يوافق حكم القدر». وفعلا هذا ما حدث إذ محا محمد الأمين عقب وفاة ولده ، وبرأى «فضل بن الربيب» وتدبيره مسح اسم المأمون من تلك الحجة ، ووضع مكانه اسم ابنه الصغير «موسى» ، أو على قول آخر مزق التعهد القديم ووضع مكانه التعهد الجديد.

وأرسل «محمد الأمين» بن هارون الرشيد بعد وفاة والده (١٨٠٠) قطعة من ذهب لتزيين الكعبة وذلك فى سنة ١١٥ ه‍ وعند وصول هذا المال إلى مكة الله أخذ أهل مكة صفائح الفضة التى كانت على باب الكعبة ، وزينوا مصراعى الباب وجعلوا حلقاته من الذهب الخالص. أما المأمون العباسى فعلق على باب الكعبة ياقوتة ثمينة فى سلاسل من ذهب ، كما أن المتوكل علق على واجهة الكعبة حلية تشبه الشمس مرصعة بأنواع الياقوت والزبرجد ، وكان (٢) إرسال ذلك فى موسم الحج سنة ٢٤٤ ه‍.

وزين الخليفة المتوكل بالله بناء على طلب صاحب مفتاح البيت زوايا كعبة الله بالذهب ، وعلق فوق الستارة الداخلية للكعبة حزاما من الفضة طوله ثلاثة أذرع ، وكان لهذا الحزام كمر من الذهب.

__________________

(١) الزبرجد حجر ثمين أخضر اللون كالزمرد ، ولكن خضرته فاتحة ويطلق على هذا اللون اللون الفستقى.

(٢) وكانت تعلق تلك الأشياء على الكعبة فى عصور الخلفاء العباسيين.

٢٠٤

وغلفت بعد ذلك عتبة باب بيت الله بلوح فضى ، وبلغ ثمن الشريط السابق الذكر واللوح الفضى ثمانية عشر مثقالا من الذهب.

وأمر المعتصم بالله العباسى بصنع قفل ثمين بألف مثقال من الذهب ، وأرسله إلى واليه في مكة المكرمة «صالح بن عباس» طالبا منه أن يضع القفل فى مكانه القديم ، وأن يرسل القفل العتيق إليه ليتبرك به وذلك عام ٢٦٧ ه‍ إلا أن خدم البيت بعد التشاور بينهم لم يستصوبوا إرسال القفل العتيق إلى الخليفة ، وأخبروا بذلك صالح بن عباس والى مكة المكرمة ليبلغه بدوره إلى الخليفة الذى رضى برأى الخدم ، وسمح أن يبقى القفل العتيق فى مكانه وأهدى القفل الجديد إلى الخدم.

وأرسل حاكم إقليم «السند» منطقا جميلا ليعلق على كعبة الله ، وكان ذلك المنطق مرصعا بالزمرد والياقوت وكان أثرا لامعا مشعا (١) فعلق على وجه بيت الله اللطيف سنة ٢٥٩ ه‍.

استطراد

يطلق السند على إقليم كبير فى الهند ويحده من الغرب إيران ، ومن الجهة الشمالية «قندهار» ، ومن الجهة الشرقية الشمالية الصحراء الكائنة فى الجهة الشرقية من إقليم سيق ، وتحاط من الجهة الجنوبية بمواقع قج ويقع بين الدرجة العرضية ٢٥ و ٢٦ شمالا وإن طول هذا الإقليم (١٦٠) ميلا ، ويمر من وسط أشهر بلاده نهر السند ، وبما أنه يحاذى مجرى هذا النهر العظيم ويمتد إلى موقع «مولتان» البعيد عن منبعه مسافة (٣٠٠) ميل عرف باسم السند.

إن نهر السند الكبير الذى يمتاز بعذوبة مياهه ونفعه العميم يعرف أيضا باسم نهر «هندوس» ، وينبع هذا النهر من مكان يسمى تبد (٢) الذى يقع بين خطى عرض (٣٨ ، ٣١) شمالا.

__________________

(١) فى وسط هذا العقد ياقوتة خضراء عظيمة.

(٢) يطلق عليه العرب اسم «التبت».

٢٠٥

وفى سلسله جبال «بولور» (١) التى تفصل تاتارستان عن البلاد الصينية ، ثم يجرى نحو الغرب الجنوبى ويفيض عند وصوله إلى الأراضى الهندية في خط عرض (٣٥) شمالا ، ويعد بمثابة الخط الدفاعى عندما تتعرض البلاد الهندية للاعتداء من الجهة الغربية. ويفيض فى مدينة «كابل» البعيدة عن منبعه بستين ميلا بدرجة لا تسمح بالمرور ، وعندما يصل إلى الإقليم الذى يتفرع فيه إلى فرعين والذى يسمى باسمه والفرع الأكبر الذى يقع فى الناحية الغربية ، ويتفرع إلى شعب وفروع ، ويشكل عند مصبه شكل مثلث الشكل مثل نهرى «النيل والبنج» (٢) إن علماء طبقات الأرض يطلقون على ذلك الشكل اسم الدلتا والعرب يسمونه دالية (٣).

إن مجارى فروعه التى سبق ذكرها غير عميقة ، ولا تسمح بسير المراكب والسفن ويمكن للقوارب الصغيرة السير فيها.

إن المسافة بين منبع نهر السند ومصبه تصل إلى (١٣٥٠) ميلا ، وأكثر أجزاء هذا النهر عميقة تسمح بسير سفن كبيرة حمولتها مائتى طن ، ولما كان سكان شاطئيه جهلة فى فن تجارة الأنهار قلت تجارتهم عبر النهر «انتهى».

وعقب وصول الحزام الذى أرسله حاكم السند إلى مكة المعظمة ، صنع المعتمد بالله العباسى صندوقا صغيرا فضيا جميل الشكل ، ووضع فى داخل هذا الصندوق حجة ولاية عهد الخلافة بعده لابنه جعفر أولا ولأخيه «الموفق» بعده من وراء الخلافة وأرسله إلى كعبة الله مع «فضل بن عباس» وذلك فى سنة ٢٦١ ه‍ وكان ذلك الصندوق على شكل مقلمة داخل وعاء فضى ، علق داخل كعبة الله بثلاث سلاسل فضية مزخرفة بآلة لا مثيل لها.

وإن كان المؤرخون يخبروننا عن أشياء كثيرة نفيسة قيمة أهديت إلى كعبة الله ، إلا أن ذكر هذه الأشياء على حدة سيجلب الملل والسأم للقراء لذا اكتفى بذكر أشهرها.

__________________

(١) يقال لها بين الناس «بلور».

(٢) مأخوذ من شكل حرف دلتا باللغة اليونانية.

(٣) مأخوذ من حرف الراء المهملة.

٢٠٦

ولكن لشدة الأسف أن ما ذكر من الهدايا القيمة أو ما لم يذكر قد أنفقت واستهلكت من قبل ولاة الحرمين لإطفاء نار الفتن والشغب التى شبت فى الحرمين ، وهكذا خلت خزينة بيت الله مدة طويلة من هدايا الملوك والسلاطين.

وكان السلطان مراد خان الثالث ابن السلطان سليم الثانى قد أرسل ثلاث قطع من القناديل (١) لا مثيل لها فى النفاسة وجمال الشكل. واستقبل أهالى مكة المكرمة «محمد جاوش» حامل القناديل المذكورة بكل حفاوة وأوصلوه إلى حرم المسجد الحرام ، حيث قرئ الأمر السلطانى السنى فوق كرسى خاص لذلك ، وكسى خلعا فاخرة لبعض الناس الذين اعتيد حضورهم قراءة الأمر السلطانى ، وبهذا غمرهم الفرح والسرور وذلك فى سنة ٩٨٥ ه‍ كان محمد جاوش (٢) كاتبا للأبنية المقدسة فى عمارة السلطان سليم ، ثم أصبح بعد ذلك مربيا للسلطان مراد خان الثالث ، ولما أريد مكافأته لخدماته الكثيرة كلف بحمل القناديل المذكورة وتوصيلها إلى مكة المكرمة ، ومعها الخلع الفاخرة التى أنعم بها السلطان على الشريف «أبو نمى بن بركات» والقاضى «حسين بن أبى بكر الحسينى» وشيخ مكة «لطفى بك زاده» وأمين المبانى «أحمد» بك ووصل إلى مكة فى خلال سنة ٩٨٤ ه‍ (٣).

الذيل

وقد أصبح استقبال الهدايا السلطانية المرسلة إلى كعبة الله بكل توقير وحفاوة عظيمة في حكم العادة لدى أهالى مكة المكرمة ، وكذلك قراءة الأمر السلطانى على كرسى فخم سلطانى ، وكانت مراسم تبادل الولاة تتم على نفس الصورة.

وقد حضرت أنا جامع حروف هذا المؤلف فى سنة ١٢٨٩ مراسم قراءة الأمر السلطانى السنى الذى يتضمن تعيين محمد باشا واليا على الحجاز.

__________________

(١) كانت هذه القناديل مصنوعة من الذهب ومرصعة بحجارة كريمة ثمينة ، وكانت صناعتها في غاية الجمال.

(٢) إن الشخص المعروف ب محمد باشا هو محمد جاوش وبعد أن أصبح مربيا للسلطان مراد خان الثالث رقى إلى رتبة أعلى وأسندت إليه الوزارة فيما بعد.

(٣) وفى قول آخر إن محمد جاوش وصل إلى مكة سنة ٩٨٥ ه‍.

٢٠٧

وقد اجتمع أهل مكة كلهم أمام المقام الحنبلى الكائن بين ركن «الحجر الأسود» وبئر زمزم ، وانتظروا قدوم شريفا مكة المكرمة. وعندما قدم المشار إليهما محاطين برجال الشرطة ومعهما كثيرون من ضباط الجيش ، ومر الجميع بكل عظمة واحتشام ونظام من أمام باب السلام ، وقفوا أمام الجماعات المجتمعة ، واعتلى موظف مكلف بقراءة الأمر السلطانى كرسيا وضع من قبل بين البيت المعظم وبئر «زمزم» ، قرأه أولا باللغة العربية ثم باللغة التركية ، وبينما كان يقرأ الأمر السلطانى ألبس مفتيّو المذاهب الأربعة والعلماء الذين حضروا الحفل خلعا فاخرة.

وعقب الانتهاء من قراءة الأمر السلطانى اعتلى واحد من أعلم العلماء وأصلح الصلحاء الكرسى ، وبينما كان حامل مفتاح الكعبة فى داخل بيت الله أخذوا يدعون الله ـ سبحانه وتعالى ـ بطول عمر السلطان ، وللوالى الجديد بالتوفيق فى عمله ، وسواء أكان أثناء قراءة الأمر السلطانى أو الدعاء بطول عمر السلطان ودوام ملكه كان باب كعبة الله مفتوحا.

وكان القارئ والداعى يتجهان نحو مقام إبراهيم العالى ، لذا كان بيت الله الأعظم فى يسارهما وكان بئر زمزم فى يمينهما ، وفى ختام الدعاء طاف جميع المشاهدين ورجال الحكومة بالبيت المعظم ، وكان الشريف عبد الله باشا والوالى المشار إليه من ضمن الطائفين انتهى.

وبعد انتهاء مراسم استقبال القناديل التى قدمها السلطان مراد خان الثالث إلى الكعبة طاف بالكعبة الشريفة الشريف «حسن بن أبى نمى» ، وعليه الخلعة السلطانية كما طاف رئيس المؤذنين ودعوا الله سبحانه وتعالى ـ بطول دولة السلطان.

وبعد طواف الشريف بالكعبة دخل مع الأشراف والعلماء الكعبة ، واعتلى السلم الذى كان قد جهز من قبل ، وعلق القنديلين واقفا في المكان الذى صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ـ يوم فتح مكة ، أى المكان الأول الذى تقع عليه عين الداخل فى الكعبة ، ودعا بالأدعية المناسبة بدوام بقاء الدولة العثمانية.

٢٠٨

وبعد ذلك سلم الموظف المذكور قنديلا آخر ليعلق فى الحجرة النبوية المعطرة حسب التعليمات ، وأرسل إلى المدينة المنورة وفى رفقته كثير من الموظفين لتبليغ محافظ المدينة المنورة ، بالأمر والإسراع فى اتخاذ ما يلزم إجراؤه.

والسلطان مراد خان الثالث أول من نال من السلاطين العثمانيين شرف تعليق القناديل فى الحرمين الشريفين. وبعد ما أرسل ذلك السلطان المغفور له ثلاث قناديل أرسل مع دفتردار مصر إبراهيم بك قنديلا عجيب الشكل مصنوعا من الذهب الخالص.

وكان فى داخل هذا القنديل عرضحال مسطور بيد السلطان وملفوف بمنديل مزركش بالذهب ، ووصل القنديل المذكور إلى مكة المعظمة فى سنة ٩٩٨ فى أوائل شهر المحرم وعلق فى داخل بيت الله.

وأرسل السلطان «أحمد خان» الأول فى سنة ١٠٣٤ قطعتين من الماس (١) ، على أن تعلقا فى داخل الكعبة المعظمة.

وأرسلت والدة السلطان عبد العزيز خان بن السلطان محمود الغازى كثيرا من الشمعدانات على أن تعلق بعضها أمام المقامات الأربعة وبعضها فى الساحة الرملية للحرم الشريف ، وأحال داخل المسجد الحرام إلى سماء ذات نجوم زاهرة وذلك فى سنة ١٢٨٩ ه‍.

وقد أرسلت إلى بيت الله أشياء أخرى نفيسة وغالية غير ما ذكر ولكن مع مرور الوقت نسى واقفوها ومهدوها وأسماؤها ولهذا لم يكن فى الإمكان التحقق من شخصياتهم.

قد أفتى علماء السلف بخصوص تزيين الكعبة بالمعلقات المصنوعة من الذهب أو الفضة على وجهين أحدهما بالتحريم والآخر بالجواز. وعلى هذا التقدير فإن تزيين بيت الله والحجرة النبوية المعطرة بناء على ذلك جائز.

__________________

(١) وكانت قيمة هذه الهدية تساوى (٨٠٠٠) قطعة ذهبية وكانت غاية فى جمال الشكل والصنع ، وقد أرتئى إهداؤها إلى الحجرة النبوية المعطرة من قبل السلطان ولذلك أرسلت إلى المدينة المنورة ، ووضعت فوق الكوكب الدرى الذى يلمع فوق الجهة الجنوبية.

٢٠٩

الصورة الثالثة

تذكر وتفصل كيف علقت الكسوة على كعبة الله ومن الذين نالوا شرف كسوتها مؤخرا وما هو نوع القماش الذي كسيت به وكيف تم الحصول عليه وكيف تجرى الاحتفالات فيى مختلف المناسبات؟

إن أول من كسا البيت الملك اليمنى من ملوك التبابعة «كرب بن أسعد بن عمر» سؤال ذى الأزعار بن أبرهة ذى المنارين الرايش بن عدى بن حيفى بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد الجمهور بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطنى غريب بن زهير بن هميسع بن العرفج حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

وكان حاكم اسمه «فيطون» سببا فى كساء كرب بن أسعد الكعبة المعظمة ، وبناء على ما نقله أحد المؤرخين يروى أن أوسا وأخاه «الخزرج» بن الحارث بن ثعلبة العتيق هاجرا إلى المدينة المنورة قبل هجرة النبى (عليه أفضل التحية) بسبعمائة سنة. وقد كثر أولاد وأحفاد الأوس والخزرج وهما من آباء أجداد الأنصار الكرام ، وشكل كل واحد منهما قبيلة وكان حاكم المدينة فى ذلك الوقت رجل اسمه «فيطون».

وكان فيطون الدنئ هذا يهوديا من أشرار اليهود ، ولم يكن يسمح لأية واحدة من فتيات اليهود بالزواج إلا إذا أزال بكارتها بنفسه ، ثم حاول أن يطبق عادته المستكرهة هذه على فتيات الأوس والخزرج ، إلا أن هذا الأمر قد اشتد على بواسل رجال قبائل الأوس والخزرج ، وأخذوا يفكرون في طريقة للتخلص من فيطون هذا ، وحدث فى ذلك الوقت أن حان وقت زواج أخت «مالك بن عجلان من حفيدات الخزرج ، وبناء على هذا اقتضى الأمر أن ترسل الأخت إلى بيت فيطون المنكوب.

وفكر مالك في أن يجد طريقة للتخلص بها من فيطون فلبس زى النساء ،

٢١٠

وذهب إلى دار فيطون وهناك استطاع أن يقضى عليه فى مكان ضيق من البيت ، إلا أنه تأكد بعد ذلك أنه لا حياة له فى يثرب ، فارتحل إلى اليمن وعرض الأمر على ملك اليمن فى ذلك الوقت وهو «تبع أسعد بن أسعد».

وكان تبع أسعد رجلا سديد الرأى عادلا فاستاء كثيرا مما أخبره به ابن عجلان من أخبار مثيرة منفرة ، وعقد العزم على أن يزيل ريح يهود يثرب ويسوى دورهم بالأرض هدما ، فأعد العدة للرحيل وساق جيشه إلى حدود يثرب والبطحاء ، وعندما بلغ تلك المدينة أعمل السيف فى ثلاثمائة من وجهاء القوم.

وبذلك ألقى الرعب فى قلوب من تبقى من اليهود ، واستأذن يهودى يسمى شامول بلغ من العمر مائتين وخمسين عاما فى الدخول إلى مجلس الملك ، وعندما أذن له بالدخول قال أيها الملك : قد جاء فى الكتب المقدسة أن هذا البلد سيكون مهجرا لنبى آخر الزمان ، وإن اسمه الشريف «أحمد» ، وهو من مكة المكرمة ومن صلب إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام ، وسيبطل جميع الأديان الأخرى وسيشتهر بلقب «خاتم الأنبياء».

وبناء على ذلك فنيّتك الملكية في تدمير البلد وتخريبه تخالف تقدير الله ، لذا يجب عليك أن تتخلى عن فكرتك هذه ، وأن تظهر الندامة وهذا أولى بك وأجدر.

وهكذا نطق اليهودى بما أوجب القدر النطق به ، وبما أن نطق شامول الذى خاطب به الملك قد أثر فيه ، وأضاء نور المحبة المصطفوية جنبات فؤاده ، ترك حرب اليهود وأكرم أهل المدينة المنورة ببذل العطايا لهم ، وأظهر المحبة التى فى قلبه نحو حبيب الله ، ثم اصطحب ذلك اليهودى ـ أو على رواية أخرى ـ اصطحب ثلاثة من أحبار اليهود الزهاد ، وسار نحو الكعبة المعظمة لابسا ملابس الإحرام ، وبعد الزيارة توجه نحو بلاد اليمن عائدا مصطحبا معه ابن يامين بن عميرى من أحبار قبيلة بنى نضير وعلى ما سبق ذكره ، وأخذ معه «شامول» أو «سحيت وبامين».

٢١١

ويلزم بناء على هذه الرواية أن يكون مقدم طائفة اليهود إلى المدينة المنورة منذ زمن بعيد وقال : «بينما كانت المدينة المنورة واديا خاليا من آثار العمارة قدم إليها (تبع) من ملوك اليمن.

وكان ملكا ذا شأن ، قدم إليها مع حاشيته وجنوده وطلب منه العلماء اليهود الذين كانوا معه أن يسمح لهم بالإقامة فى هذا المكان ، واستغرب تبع من طلب اليهود الذين يتسمون بالفطنة فى رغبتهم فى الإقامة فى هذا المكان الموحش ، واستوضح منهم غرضهم من هذه الإقامة ، فقالوا له : قد استنبطنا من آيات التوراة أن هذا المكان سيكون مهجرا لنبى عالى المنزلة ، هو نبى آخر الزمان ، ومن الواضح والمؤكد أننا لن ندرك زمن ظهور هذا النبى ، إلا أننا أردنا أن نوصى أحفادنا الذين سيدركون هذا النبى باعتناق ذلك الدين الحنيف ، وأن يفدوا بأرواحهم فى سبيل الدفاع عن هذا الدين».

وقد تأثر الملك من هذا الرد العجيب ، وعرف صفات باعث إيجاد الماء والطين «عليه سلام الله المعين» بالسؤال والبحث ، فسمح لأربعمائة من العلماء بالبقاء فى هذا المكان ، وبما بزغ فى قلبه من حب النبى صلى الله عليه وسلم أمر ببناء منزل فخم يعادل «الخورنق» لكل واحد منهم كما أمر بإعطاء جارية لا مثيل لها لكل واحد منهم.

وأنشد تبع الأبيات الآتية وسلمها لأفضل هؤلاء العلماء اليهود وأكثرهم تبحرا فى العلم ، والذى كان مع الملك المشار إليه ورغب فى البقاء فى أرض يثرب من شدة إخلاصه لسلطان الأنبياء «عليه أذكى التحايا».

شهدت على أحمد أنه

رسول من الله بارى النسم

فلو مد عمرى إلى عمره

لكنت له وزيرا وابن عم

وأودع هذه الأبيات بعد أن كتبها فى لوحة مزينة إلى ذلك الفاضل السالف الذكر ، وألقى خطبة يبين فيها إيمانه بما جاء به صلى الله عليه وسلم قبل بعثة بسبعمائة سنة.

صورة خطبة الملك تبع

«يا أيها الفاضل فريد عصره إن هذه الدار العظيمة التى هيأتها لمحمد صلى الله عليه وسلم ذات

٢١٢

صفات عالية ، فلتسكن أنت وأولادك وأحفادك فى هذه الدار ، وأى واحد من نسلك يدرك البعثة النبوية ليقدم هذه اللوحة التى تركتها أمانة فى يدك إلى النبى اللامع النور ، وليعرض عليه إخلاصى وصدق إيمانى به راجيا منه أن يقبلنى أنا ـ أضعف العباد ـ ضمن أمته».

وبناء على رواية ابن إسحاق فإن اللوحة المذكورة وصلت إلى يد خالد بن زيد «رضى الله عنه» ، من نسل المشار إليه وقدمها إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، وبهذا حصل على شرف ضيافة الرسول صلى الله عليه وسلم فى داره ، إلا أن مؤلف «خلاصة الوفا» الإمام السمهودى يرد هذا القول ، ويقول كما ورد فى بعض فصول «مرآة المدينة» : لا يصدق كثيرا أن خالد بن زيد من نسل ذلك الفاضل ؛ لأن أجداد الأنصار الكرام كلهم من أبناء العرب ، وجملة فروعهم أنسابهم صحيحة ، فإن ما ذهب إليه ابن إسحاق غير صحيح ، وقوله أن أجداد الأنصار قد اختلطوا باليهود سهو صريح ، لأن أبا خالد هو زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك ابن النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج ، وأمه «هند بنت سيد وأباها عمرو بن امرئ القيس بن مالك بن كعب ابن الخزرج ، وهذا يدل على أن خالد ليس من نسل علماء اليهود.

ومع كل هذا قد رد على القارى فى كتابه المسمى ب «الدرر المضيئة» كل الأقوال السابقة ، وروى أن سليمان «على نبينا وعليه سلام الله المستعان» بينما كان يمر من صحراء المدينة المنورة قال : «إن نبى آخر الزمان سيدفن هنا ، وترك هناك أربعمائة من أحبار بنى إسرائيل العلماء ؛ ليكونوا فى انتظار البعثة النبوية ، ولكن للأسف عندما هاجر سلطان رسل الأمصار «عليه أعظم التحية» إلى المدينة أنكره أحفاد علماء بنى إسرائيل ، وأظهروا له وجوه المخالفة.

إن أئمة الأسلاف اختلفوا كثيرا فى مسألة إيمان الملك تبع. إلا أن وهب (١) بن منبه (٢) ادعى إيمان المشار إليه. وقال إنه آمن بإبراهيم عليه سلام الله الرحيم.

__________________

(١) المشار إليه من التابعين.

(٢) إنه من الأصحاب الكرام.

٢١٣

وروى الإمام السهيلى الحديث الشريف الذى يقول «لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا» (حديث شريف) وبهذا حكم على إيمانه بالنبى صلى الله عليه وسلم!! وذهب بعض المؤرخين إلى أن الملك الذى آمن قبل البعثة هو «تبع أبو كرب بن أسعد الحميرى» الذى علق الكسوة على الكعبة ووالده هو أبو كرب بن أسعد الحميرى ووفق قسم من المؤرخين بين الأقوال المختلفة قائلين «إن المنزل الذى وضع أساسه تبع واللوحة المذكورة انتقلتا إلى خالد بن زيد الأنصارى بطريقة ما ، وقدم خالد منزله واللوحة إلى النبى صلى الله عليه وسلم ولهذا نال شرف ضيافة النبى عليه السلام. ومهما كان من الأمر فحقيقة الأمر يعرفها عالم السر والخفايا ، وأن غرضنا من حكاية كل هذه الأقوال كان التحقق من تزيين تبع الحميرى للكعبة المعظمة بتعليق الكسوة عليها.

إن الملك تبع الذى اختلف المؤرخون فى اسمه وإيمانه وتجادلوا فيما بينهم كثيرا بخصوص هذين الموضوعين كما سبق ذكره فيما سلف ووصل إلى مكة المكرمة عند عودته من المدينة ، وفى نفس اليوم طاف بالبيت وذبح أضحية وحلق شعره وأقام بمكة ستة أيام ، وعلى قول آخر عشرة أيام ، ودعا جميع أهل مكة إلى وليمة ، وأسرع بعد الطعام بإلباس الخلع الغالية لبعضهم ، وفى أثناء إقامته بمكة أمر فى رؤياه بكساء الكعبة المعظمة ، وفى صباح تلك الليلة ألبس الكعبة كسوة مصنوعة من قماش يطلق عليه حصيف ، ولكنه رأى فى رؤياه فى الليلة التالية أن يغير كسوة الكعبة بقماش أغلى من «الحصيف». وفى اليوم الثانى كسا الكعبة بقماش يقال له «مغافر» بعد أن أنزل الكسوة المصنوعة من الحصيف ، ولكنه مع هذا رأى فى منامه فى الليلة التالية أن يغير كسوة الكعبة المصنوعة بقماش غالى الثمن ذى هدب وأغلق باب بيت الله بقفل وأنشأ يقول :

عربى

وكسوت البيت الذى حرم الله

ملاء مغافرا وبرودا

أقمنا من الشهر عشرا

وجعلنا إليه إكليلا

وخرجنا منه توأما سهيلا

قد رفعنا لواءنا منصورا

٢١٤

ثم سافر متوجها نحو بلاده ..

وإن كان الإمام الواقدى قد نقل عن أبى هريرة أن أول من علق الكسوة على الكعبة ذلك الملك السعيد إلا أن عبد الرزّاق قال ناقلا عن ابن جريج ، أن الذى علق الكسوة على الكعبة قبل جميع الناس هو إسماعيل (عليه السلام).

وادعى «زبير بن بكار» بناء على أخبار بعض أئمة الرواة أن أول من كسا الكعبة المعظمة هو «عدنان» أو رجل آخر عاش فى عصره «انتهى».

وبعد عودة الملك تبع شرع فى إرسال الكساء إلى البيت المكرم من جميع أقطار العالم. وكانت بعض الكسا تعلق على الكعبة وبعضها تحفظ فى خزانة الكعبة وكانت ، تجدد من حين لآخر. وكانت الكسا تعلق بعضها فوق بعض ، ولم يكن تعليق الكسا خاصا بالرجال بل هناك نساء كسين الكعبة.

إن والدة عباس بن عبد المطلب «نتيلة» أو «نتلة» كانت أولى النساء اللاتى كسين الكعبة. ولم تنل هذا الشرف من نساء قدماء العرب غيرها ، وكان سبب نيلها هذا الشرف نذرها لابنها وهى نتيلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر ، وكان ابنها عباس ضاع منها فى صغره ، فنذرت قائلة إن وجدت ابنى سأقدم كسوة إلى الكعبة ولما وجدت ابنها أوفت بنذرها بأن كست الكعبة بالديباج وأنواع أخرى من الأقمشة الغالية.

وقرر القرشيون كساء الكعبة عن طريق المناوبة ، وذلك بفرض الضريبة على القبائل ، والنقود التى تجمع منها تنفق فى كساء الكعبة ، وقد راعوا هذا القرار ابتداء من عهد قصى «بن كلاب بن مرة إلى عصر أبى ربيعة بن المغيرة بن عبد الله ابن مخزوم ، ولكن «أبا ربيعة» أقنع أفراد القبيلة بأن تكون كسوة الكعبة سنة بين جميع أفراد القبائل ، وسنة تكون على حسابه ، كما ذكرنا سابقا ولذا كان القرشيون كلهم يكسون الكعبة سنة ويكسوها «أبو ربيعة» بمفرده سنة ، واستمرت هذه الحالة إلى أن توفى أبو ربيعة.

وكانت الكسا التى تعلق على الكعبة من أقمشة مختلفة وكانت تصنع فى زمن تبع الحميرى من أقمشة مثل الحصيف والمغافر والحصايل والعصب والمسوح

٢١٥

والسراء والتطابح. وفى عهد جاهلية العرب من المنسوجات مثل «الخطارف والخزن والخضر والصفر والكرار والنمارق العراقية والحبرات اليمانية وفيما بعد أطلق على الجزء السفلى من الكسوة والذي يلى أرضية المطاف «الإزار» كما سيرد فيما بعد.

والكسا التى تعلق فى أيامنا ليست قطعتين كما كانت من قبل بل قطعة واحدة ، والكسوة البيضاء التى نرتديها وقت الإحرام تتكون من قطعتين لأن البيت الأعظم يكسى بالإحرام ، بينما يخرج الحجاج إلى عرفات أى تعلق على الكعبة قبل حلول عيد الأضحى بأيام كسوة بيضاء ، واسم هذه الكسوة البيضاء بناء على تعبير عرف البلد إحرام ، وهى بدل الكسوة التى كان يطلق عليها قديما «الإزار» وغيرت الكسوة فى عهد نبينا السعيد ، مجدد بنيان الشريعة (عليه أقوى التحية) بالأقمشة اليمانية ، وفى أيام الخلفاء الراشدين غيرت بالديباج المزركش ، وأخذت تغير مرتين فى السنة فى يوم «التروية» ويوم «عاشوراء» وهذا التجديد أصبح عادة متبعة.

روى أبو عروبة أن النبى صلى الله عليه وسلم علق على الكعبة كسوة مصنوعة من قماش يسمى القباط كما يروى بعضهم أن عمر وعثمان ـ رضى الله عنهما ـ علقا كسوة على الكعبة.

وروى الإمام «الباقر» أن الذى حول ستارة الكعبة إلى الديباج هو يزيد بن معاوية.

وينقل أن الذى غير كسوة الكعبة إلى الديباج هو عبد الله ابن الزبير (١) ويقول الإمام الفاكهى «إن أول من علق الديباج الأبيض على الكعبة هو هارون الرشيد.

وكان صنع الكسوة من الديباج الأبيض من القواعد الجارية إلى عهد محمود سبكتكين». وبدل محمود سبكتكين الكسوة إلى الديباج ذا اللون الأصفر ، كما بدلها ناصر العباسى بقماش أخضر ، وفيما بعد بدلها بالقماش الأسود كما سنبين فيما يأتى.

يطلق يوم التروية على اليوم الذى قبل يوم عرفة ، وكان قديما يعلق على سطح

__________________

(١) وقد جدد ابن الزبير الستارة الشريفة عام ٦٤ ه‍.

٢١٦

بيت الله أنواع من الديباج الغالى الثمن ، ولم يكن يحاك كالكسوة حتى لا تخسر من ملامسة الأيادى ، ولم يكن الأزرار يدرج فيها ، وفى يوم عاشوراء كانت الأقمشة التى علقت يوم التروية تحاك بعضها ببعض ، وتأخذ شكل الكسوة وتظل على هذا الشكل إلى اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان ، وتعلق فوق هذه الكسوة كسوة أخرى من قماش القباطى السميك.

وقد قرر فى عهد المأمون العباسى تغيير الكسوة الشريفة ثلاث مرات فى السنة ، فكانت تعلق فى يوم التروية كسوة مصنوعة من قماش أحمر ، وفى غرة رجب كسوة مصنوعة من القباطي السميك ، وفى أول أيام عيد الفطر المبارك تعلق كسوة من ديباج أبيض ، وأخيرا اتخذ تغيير الملاصق للديباج الأحمر فى يوم عاشوراء عادة متبعة ، إلا أن هذا الإزار كان مصنوعا من قماش رقيق ولا يتحمل سنة واحدة ؛ ولذا رئى تغييره فى يوم عيد الفطر المبارك مع تجديد الديباج الأبيض.

وفى عهد المتوكل بالله تمزق الإزار المذكور إربا من أيدى المتوسلين ولم يتحمل إلى شهر رجب.

فأرسل من بغداد عاصمة دار الخلافة إزارين ، وتقرر أن يصل الديباج الأحمر الذى يطلقون عليه «القميص» إلى الأرض ويلامسها وأن يجدد الإزار مرة كل شهرين.

وسبب تجديد الإزار مرة كل شهرين كون القميص غاية فى القصر لأن قطعة الستارة التى يطلق عليها القميص كان قد صنع قصيرا جدا بحيث لا تصل إليه الأيادى ، وذلك فى عصر المتوكل بالله وكان الناس مضطرين أن يتوسلوا بالإزار ، لذا كان الإزار يتمزق سريعا ويصير قطعا صغيرة.

وكانت ستارة الكعبة فى العصور الإسلامية ولا سيما في عصر المتوكل بالله تصنع من قطعتين : «القميص» و «الإزار» وكان الجزء العلوى من هذه القطع يطلق عليه قميص والجزء الأسفل إزار تشبيها لهما بالقميص والإزار.

٢١٧

لازمة

إن ما يستر النصف الأسفل من الجسم يسمى بالإزار بكسر الهمزة ، أما الثوب الذى يستر ما فوق الخصر فيسمى الرداء. ولما كان لبس الرداء والإزار من القواعد المرعية فى الجزيرة العربية ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبسهما أيضا ، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم عند ما ودعنا لعالم الغيب كان يلبس رداءا مرقعا وإزارا منسوجا من خيوط غليظة ، وكان الإزار الذى يكتسيه الرسول صلى الله عليه وسلم يصل إلى نصف ساقه (١) ويرى أن استعمال إزار أطول من هذا مكروها.

وأشار النبى صلى الله عليه وسلم وهو يشرح يوما لحذيفة بن اليمان ما يجب أن يكون عليه طول الإزار لساق المشار إليه أو لساقه عليه السلام : «هاهنا موضع الإزار» حديث شريف. إذا أردت أن تعمل بالأفضل يمكن أن يكون طول الإزار ما بعد نصف الساق وفوق الكعب وإذا أردت أن تنزل الإزار إلى الكعبين فإن هذا غير جائز لأن الإزار لا حق له فى الكعبين.

واختلف العلماء فى تعيين مدى طول إزار النبى صلى الله عليه وسلم بالأذرع ، فقال ابن الجوزى : «إن طول الإزار الذى كان يرتديه الرسول صلى الله عليه وسلم كان أربعة أذرع وذراعين ونصف فى العرض «أما ابن القيم فقال «إن طوله كان أربعة أذرع وشبرا وعرضه ذراعين» ، وقال الواقدى «إن طوله كان ستة أذرع وثلاثة أذرع وشبرا فى العرض».

إن ما قيل فى طول الإزار وما يجب أن يكون عليه خاص بالرجال ، وأما إزار النساء فيلزم أن يكون أطول من إزار الرجال شبرا أو ذراعا ويسرى هذا الحكم على القميص وسائر الملابس. وبما أن الإزار والرداء معروف لدى الحجاج فإن قطعة القماش التى يلفون بها خصورهم يطلق عليها الإزار ، وما غطوا به ظهورهم يطلق عليه الرداء.

وكانت الكسا التى تعلق على الكعبة من عهد المأمون العباسى إلى عهد الناصر لدين الله أى فترة ٣٧٠ عاما تصنع من ديباج أبيض. وفى عصر الناصر لدين الله

__________________

(١) يطلق على العظام التى بين الركبة والعقب الساق.

٢١٨

قرر اتخاذ الكسا من نسيج مصنوع من قماش أسود ، والآن تصنع من قماش أسود.

نكتة

حينما بدل لون الكسوة الشريفة إلى الأسود سر الكل من هذا التغيير وفق ما فهمه ، وكان سببا فى كثير من القيل والقال وحمل الفاضل القسطلانى هذا التغيير إلى نكتة وقال «إن البيت المعظم حينما رأى قلة زواره لبس ملابس الحزن» انتهى.

وفعلا إن نكتة الفاضل القسطلانى تطابق الواقع. إلا أن غرض الناصر لدين الله العباسى لم يكن الإيماء إلى تلك النكتة ، بل كان يريد أن يعلم الناس شعار العباسيين القديم. لأنه عندما أفل نجم الدولة الأموية وتلألأ بدر الدولة العباسية أعلن العباسيون شروق شمس دولتهم بالرايات السوداء ، حتى أنهم اتخذوا استعمال جبة سوداء وعمامة سوداء أيضا عادة لهم.

وسبب هذا عندما مات إبراهيم بن محمد فى سجن مروان لبس المحزونون عليه ملابس المأتم السوداء ، لأنه عندما ثار أبو مسلم الخراسانى بكل عنف طالبا من الناس البيعة لإبراهيم بن محمد ، قبض مروان على «إبراهيم وسجنه ، وعندما علم الخراسانى أنه لا خلاص لإبراهيم من بئر مروان ، أخذ يدعو الناس ليبايعوا السفاح بن محمد ، وفى ذاك الوقت خنق مروان الحمار محمد بن إبراهيم ورمى جثته ، وعندئذ لبس المبايعون للسفاح ومحبو العباس بن عبد المطلب الملابس السوداء إظهارا لحزنهم ، وأخذوا يدعون الناس لأخذ الثأر رافعين الرايات السوداء.

وبناء على ما سبق ذكره أصبح لبس الجبة السوداء والعمامة السوداء من شعار الخلفاء العباسيين إلى عهد المأمون بن هارون. لأن المأمون أراد أن يظهر حبه لآل الرسول فبايع الإمام على الرضا ، وزوجه ابنته ، واتخذه وليا للعهد ، وخلع الملابس السوداء شعار العباسيين ، ولبس جبة خضراء ، وأعلن بذلك أنه يجب

٢١٩

على الأشراف والسادة وعظماء العباسيين والجعافرة وسائر فرق المسلمين لبس الملابس الخضراء ؛ إذا أرادوا أن يمتازوا على الآخرين.

عندما اختص المأمون السادات الكرام بلبس جبة خضراء وعمامة خضراء أيضا كان المسلمون مختلفين فى حرمة لبس العباسيين الملابس السوداء وسائر المسلمين الملابس البيضاء ، واليهود الملابس الصفراء كما يخبرنا به «ابن حجر» فى كتابه الصواعق .. ، ولذلك اختار المأمون من أجل السادة الكرام اللون الأخضر ، ولما بقيت الخلافة فى بنى العباس استمر أشراف العلويين فى لبس ملابس خضراء. إن اعتمام الأشراف منهم بعمامة خضراء عادة بقيت من أيام المأمون ، وللأسف الشديد توفى الإمام بعد فترة قصيرة فلبس المأمون جبة سوداء حزنا عليه.

ويتفق أكثر الرواة على أن المأمون حينما لبس الجبة الخضراء كان فى خراسان ، عندما مات الإمام رجع إلى بغداد مرتديا الملابس الخضراء التى اختارها ، ولكنه لبس الملابس السوداء بعد عودته إلى بغداد بثمانية أيام وذلك بعد إلحاح عليه من بعض وزرائه.

ويذهب ابن خلكان إلى أن المأمون قد أمر المسلمين بعدم ارتداء الملابس السوداء ، وشاع فى هذه الفترة أنه ينفر من لبس الملابس السوداء شعار العباسيين. ولكنه فى النهاية لبس الملابس السوداء نتيجة وفاة أحد أقاربه وأصدقائه وذلك فى سنة ٢٠٤ ه‍.

وادعى فريق من المؤرخين أن اعتمام المأمون بالعمامة الخضراء لم يكن ناشئا من حبه لآل وأبناء الرسول ، بل نشأ من حرصه على ألا يقع زمام السلطنة فى أيدى العلويين ، وأيدوا ادعاءهم قائلين : «قام العلويون فى عهد المأمون يطلبون الخلافة متفقين ، فأراد المأمون أن يصلح ما بين العباسيين والعلويين ، وأراد بذلك أن يتنازل العلويون عن مطالبهم ، وبعث بأخى والدته رجاء بن الضحاك إلى المدينة المنورة لدعوة الإمام على الرضا بن موسى الكاظم إلى بغداد وعندما وصل إلى بغداد جمع جميع العباسيين والعلويين فى مجلسه ، وخاطبهم قائلا : «يا أيها المسلمون : لأننى لم أجد بين آل عباس وآل الإمام على من هو أولى بولاية العهد من الإمام على ولذلك عينته وليا للعهد ، ثم كتب حجة فى صحيفة وقدمها إلى

٢٢٠