موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

قاعدة العمل فى الأزمنة القديمة ، ولكن ترك تطهير المجرى ما يقرب من ثلاثين سنة وامتلاء المجرى ، واقتراب السيل من الدخول فى الحرم الشريف ملأ قلوب الناس بالقلق والاضطراب حتى إن السيل المخيف الذى ظهر فى ليلة الأربعاء فى اليوم الخامس أو العاشر من جمادى الأولى لسنة (٩٨٣) دخل داخل الحرم الشريف وحجبت المياه المتجمعة الحجر الأسود وباب الكعبة حتى قفلته ، وظلت فى داخل الحرم يوما وليلة واحدة ، ومنعت الناس من أداء الصلاة فى داخل الحرم يوما وليلة واحدة ، ومنعت الناس من أداء الصلاة فى سبعة أوقات ، وعندما زالت هجمات السيل المخيف وأمكن السير فى داخل المسجد الحرام طهر مجرى السيل والطريق القديم للسيل وأخرجت الأحجار والأوحال التى تراكمت هنا وهناك ، وغسلت الأماكن الكثيرة الكائنة داخل الحرم وخارجه ، وفرش داخل ساحة الحرمين بالرمال والحصى.

وقد ظهر السيل المذكور قبل تعميق المجرى فاستصوب رأى أحمد بك الذى سبق ذكره ، وعمق حفرة المجرى بحيث لا تدخل مياه السيول فى داخل الحرم ، وذلك بتدبير من شريف مكة وسادتها وأعيانها وأهاليها ، واتخذوا تطهير المجرى وتنظيفه كل سنتين مرة قاعة لا يحيدون عنها.

وما كان القيام بهذا العمل ميسرا لكائن من كان سواء من سلاطين العثمانيين أو خلفاء بغداد أو ملوك مصر ، ولذلك عد إنجاز هذا العمل من أعظم آثار هذين السلطانين العثمانيين وثمرة هذا المسعى. وتم هذا العمل بعد أربعة أعوام ، وينقل عن أحمد بك نقلا موثوقا أن ما أنفق من الخزينة الخاصة للسلطان (١١٠٠٠) قطعة ذهبية لإتمام هذا العمل ما عدا ما أرسل إلى أحمد بك من جانب الإدارة المصرية من الآلات والمسامير الحديدية وأشياء أخرى خشبية والعلامات الذهبية التى وضعت فوق القباب ، وكلها خارج الحساب وبعد أن تم ترميم الحرم الشريف وتطهير المجرى ، أرسل بيان بكل ما تم عمله إلى استانبول ، وسرت منه جماعات المسلمين سرورا عظيما ونظمت أبيات شعرية تؤرخ تمام هذا العمل العظيم بلغات مختلفة وقدمت إلى أعتاب السلطان.

١٦١

ولما كان تعليق هذه التواريخ المنظومة كلها فوق أبواب المسجد الحرام يخالف الأصول المرعية ، اختير أجمل ما كتب فى هذا الشأن وأرسل إلى إمارة مكة المكرمة من قبل السلطان السنى المناقب ليعلق أو يحك فى مكان مناسب من المسجد الحرام.

وقد أعجب علماء مكة بالتاريخ المنظوم المرسل من مقام الخلافة الجليلة وحفر على لوحة رخامية ، وبعد تزيينها وتذهيبها علقوها على الجدار الشرقى للمسجد الحرام فى مكان بين باب على وباب عباس امتثالا للأمر السلطانى ، وقد رأينا أنه من المناسب أن نكتب الثلاث أبيات الأخيرة من تاريخ سليس ؛ لأنها أنشدت أمام السلطان وإن كانت مقدمته منثورا ولكنه يعتبر من الآثار الأدبية القيمة.

صورة تاريخ سليس

هذا التاريخ لا نظير له وعلق على الجدار الشرقى للمسجد الحرام نظم عندما تم تعمير المسجد الحرام فى عهد السلطان مراد خان الثالث.

الحمد لله الذى أسس بناء الدين المتين بنبى الرحمة والرشاد ، وخصصه بمزيد الفضل والكرامة والإسعاد ، وجعل حرم مكة مطافا لطواف الطائفين من أقاصى الممالك والبلاد ، صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الأجلاء والأمجاد ، ووفق عبده المعتدّ بأحكام الشريعة وتشييد أركانها على الوجه المراد ، والمدخر ذخر المستزيد من زاد المعاد ، ظله الممدود على مفارق العباد ، السلطان ابن السلطان ابن السلطان مراد خان جعل الله الخلافة فيه وفى عقبه إلى يوم التناد ، ولتجديد معالم المسجد الحرام الذى سواء العاكف فيه والباد ، فى فاتحة سلطنته العظمى لازال للحرمين المحترمين خادما ، ولأساس الجور والاعتساف هادما ، وتجدد حرم بيت الله ـ عز وجل ـ بأمر العزيز المبجل ، وعمّر عامر جوده ، ما تضعضع من أركانه ، بعد ما انتقض على جدرانه ، مجدد جدران حرم البيت العتيق وسوره بأكمل الزينة وأجمل صورة ، بعدما أبلاها الجديدان وأكل عيدان سقفها الأرضة والديدان ،

١٦٢

فرفع القباب موضع السطوح المبنية بالأخشاب ، وابتهج بهذه الحسنة الكبرى كل شيخ وشاب ، فأذعنوا له بالشرف الباهر ، والمجد الفاخر تالين قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة : ١٨) داعين له بالثواب الجزيل والذخر الزاخر ، قائلين أدام الله فى سرير الخلافة محروسا بحفظك من كل آفة وظافر اعلا مشيد المجالس والمدارس ، مجدد كل منهدم ودارس ، واجعل بابه للراجين حرما آمنا وجنابه للمحتاجين كفيلا ضامنا ، يأتون إليه من كل فج عميق بحرمة البيت العتيق ، تقبل الله معطى السؤال بجاه الرسول ، هذا الدعاء الحرى بالقبول ، فلما أسس بنيانه على التقوى من الله والرضوان جاء مشيد الأركان ، محاكيا روضات الجنان ، وصار هذا عنوان خلافته وبراعة استهلال النشور لسعادته وفى سنة أربع وثمانين وتسعمائة من الهجرة ، وكان الابتداء بذلك التجديد ، بأمر والد الماجد الدارج إلى مدارج المجد السلطان السعيد.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء : ٨٨ : ٨٩).

السلطان سليم ابن السلطان بايزيد بن السلطان محمد بن السلطان مراد بن السلطان جلبى سلطان محمد بن السلطان يلديرم بايزيد بن السلطان أورخان بن السلطان عثمان ، مكنهم الله تعالى سرور الجنان إلى انقراض الزمان ، وكان الشروع فى الرابع عشر من ربيع الأول من شهور سنة ثمانين وتسعمائة.

فلما سلم السلطان سليم وديعته بأحسن التسليم ، وارتحل من دار القصور إلى ما هيأ الله فى الجنة من القصور قبل تمام ما رام من تجديد المسجد الحرام ، وأجلس على سرير الخلافة نجله النجيب أحسن إجلاس ، وجعل حرمه (مثابة للناس) ، يسر له إتمامه بلطفه إقبال وجوه الليالى والأيام وأنام الأنام فى مهد ، عدله إلى قيام الساعة وساعة القيام ونظم راقم هذا الأرقام تاريخا يليق أن يكتب فى هذا المقام وهو هذا :

١٦٣

نظم

جدد السلطان مراد بن سليم

مسجد البيت العتيق المحترم

سر منه المسلمون كلهم

دام منصور اللواء والعلم

قال روح القدس فى تاريخه

عمر السلطان مراد (هذا الحرم)

سنة ٩٨٤

وهذه صورة التاريخ اللطيف الذى كتبه مولانا سيد حسين بن أبى بكر الحسينى مفتى مكة المكرمة الشافعى ، وكتبه منثورا وقد أعجب به أهل مكة المعظمة لبلاغته السلسة ، وعلق على جدران المسجد الحرام الشرقية أيضا.

عربى

باسمه سبحانه : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة : ١٨) فى عمارة هذا المسجد الشريف وتجديده من اختار الله سبحانه من خلقه وعبيده المقدس المرحوم المغفور له الشهيد سلطان الإسلام والمسلمين ، خاقان خواقين العالمين ، العازم بفضل الله ظلال دار النعيم حضرة الملك الأعظم السلطان سليم نور الله تعالى ضريحه ، وروح بروائح الجنات روحه ، وأتم بناءه وأكمله ولقنه ونقشه وجمله ، وارث الأفخم الإمام الأعظم وشقيقه الأكبر المعظم ، والملك القاهر العرمرم ، من ملكه الله تعالى شرق البلاد وغربها ، وجعل طلوع يديه عجم الرعايا وعربها ، وأطلعه سراجا منيرا فى المشارق والمغارب ، وملكا مرفوع المقام على هرم الكواكب ، ومشيد الإسلام حصنا حصينا محيطا ، وجعل ظله يخيم على كافة الأنام بسيطا ، وعدله الفريد فى جميع الوجود مبسوطا ، وقمع سلطنته

١٦٤

الشريفة طوائف الكفر والغلاء ، وجمع له بين اليائس والنداء ، وصار ملكه الشريف بعون الله سبحانه مفردا خليفة الله على كافة العباد ، ورحمته الشاملة بجميع البلاد ، سلطان سلاطين الزمان ، خلاصة خواقين آل عثمان السلطان ابن السلطان السلطان الخنكار الأعظم مراد خان لازال الوجود بدووام خلافته عامرا ، وبدا برج الإيمان فى أيام سلطنته قويا ظاهرا ، زاده الله قوة ونصرا ، وشد بملائكته الكرام له إزرا ، فتاريخ إتمامه قد جاء (أطال الله من أتمه عمرا) فى سنة ٩٨٤.

الذيل

وبعد مرور ستة وثلاثين عاما على عمارة السلطان مراد للمسجد الحرام أمر السلطان أحمد خان الأول بتعمير جهات المسجد الحرام لاقتضاء الحاجة إلى ترميمها وذلك فى سنة ١٠٢٠ (١).

وبعد قيام السلطان أحمد الأول بهذا التعمير بمدة وجيزة ، لزم تعمير بعض المواضع فى أبنية الكعبة المعظمة والحرم الشريف ، وعرض الأمر على السلطان مصطفى الثانى ، فأصدر أمره بترميم ما يلزم ترميمه ، وكانت خمسة مداخل فى السقف الشريف قد بليت فبدلت كلها ، وجدد السلم الذى يفضى إلى سطح الكعبة بأن جعل سبع درجات من درجاته من الرخام ، كما محا آثار البلى عن جوانب الحجر الأسود الأربعة ، فهدمت وجددت وقد قدمت والدة السلطان كل ما أنفق لهذه العمليات.

وفى عصر السلطان عبد الحميد الأول بليت بعض أعمدة المسجد الحرام وبعض قبابه ، فأمر السلطان بتغيير هذه الأعمدة وتعمير القباب ، كما رممت مئذنة باب العمرة والمآذن الأخرى بعض الشىء ، إلا أن معالم المسجد الحرام احتاجت إلى الإصلاح والتعمير والتسوية بعد فترة.

__________________

(١) أراد المرحوم السلطان أحمد أن يسدى خدمة لم يقم بها أحد ، وذلك بتجديد كعبة الله جاعلا إحدى أحجارها فضة والأخرى من ذهب ، ولكن سعد الدين أفندى زاده ومحمد أفندى شيخ الإسلام فى ذلك الوقت رد على السلطان قائلا ولو أراد الله لجعل كل أحجار الكعبة من الياقوت فانثنى السلطان عن فكرته.

١٦٥

وفى السنة الميمونة التى وفق فيها السلطان مراد على تعمير بيت الله ، وتم إصلاح وتعمير الأماكن التى احتاجت إلى التعمير والإصلاح وذلك فى سنة (١٠٤٥).

وبعد ما أجرى مراد الرابع من إصلاح ـ أى من عام (١٠٤٥) إلى عام (١٠٨٠) ـ عمرت الأماكن التى قد اقتضى الأمر تصليحها شرعا ، ولم يترك فيها موضع للإصلاحات الكبيرة ، وقد اهتم بكل شىء سواء أكانت مبانى المسجد الحرام ، أو كانت المواقع الأخرى من مدينة مكة المعظمة وما فيها من المآثر اللطيفة.

أمر السلطان محمود والى مصر محمد على باشا بإجراء كل ما يلزم إصلاحه فى الأماكن المقدسة التى دعت إلى تعميرها الضرورة الشرعية توا بلا استئذان ، وفى أواسط عام (١٢٣٥ ه‍) عرف محمد على باشا أن الخلل طرأ على سقف الكعبة إذ تخلخلت بعض الألواح الرخامية ، وأخذت المياه المجتمعة فوق سطح الكعبة طريقها إلى داخل بيت الله ، وتبين وجوب ترميم وإصلاح كثير من المواضع خارج الحرم الشريف ، وفرش سقف كعبة الله بالرخام المجلى الذى أرسل من إستانبول بناء على الطلب الذى قدم هناك ، ودفنت الحجارة القديمة التى كانت تغطى سطح البيت فى حفرة حفرت بالقرب من بئر زمزم ، وذلك بناء على رأى الشيخ عمر عبد الرسول وهو من الصلحاء المشهورين.

وبعد تعمير المسجد الحرام عمرت قبة مسجد الخيف الكائن فى منى ومئذنة مسجد المشعر الحرام (١) ومسجد نمرة (٢) الذى يطلق عليه اسم مسجد إبراهيم ، ومسجد غار المرسلات (٣) ومسجد الإجابة (٤) ومسجد الجن (٥) ومسجد التنعيم (٦)

__________________

(١) هذا المسجد اللطيف فى المزدلفة.

(٢) مسجد نمرة فى ساحة عرفات.

(٣) فى منى والناحية الجبلية من مسجد الخيف.

(٤) فى المعلى

(٥) فى جهة المعلى.

(٦) فى العمرة.

١٦٦

ومسجد الحديبية (١) ومسجد مولد النبى (٢) ومقبرة خديجة الكبرى (٣) ومقبرة آمنة (٤) ودار السيدة خديجة الكبرى مع أضرحتها وقبابها (٥) ودار خيزران (٦) وضريح ميمونة (٧) كل هذه المآثر قد جددت بإحكام ، وفرشت من الداخل بطنافس غالية وزينت من الخارج بنقوش ملونة ، وفى النهاية بدلت عدة أعمدة من أعمدة المسجد الحرام التى أوشكت على الخراب وذلك فى سنة (١٢٣٥).

وكان السلطان عبد المجيد خان ابن السلطان محمود خان العادل قد بدل الأحجار التى تخلخلت داخل كعبة الله وحول الحجر الأسود الأسعد. كما جدد بعض القباب والأعمدة التى تحمل هذه القباب وأنشأ الأرصفة (٨) التى تؤدى إلى باب على والمدرسة السليمانية والتى تمتد عبر الساحة القبلية للحرم الشريف ، وبعد ذلك بسنة أرسل أربعة شمعدانات عالية على شكل النخلة لتوضع على الجهات الأربعة من الساحة القبلية للمسجد الحرام ، وهكذا أنار الحرم الشريف وقبل إرسال هذه الشمعدانات كان الناس يؤدون صلواتهم فى الظلام ليلا ، وبعدما أنار السلطان عبد المجيد أطراف الكعبة المعظمة كما ذكر ، شيد بإحكام بعض أعمدة القباب التى آلت إلى الخراب وجدد الجدران التى حول مقبرة المعلى دائرا ما دار ، كما أصلح الجدار الخارجى للحطيم.

وبما أن جدار الحطيم كان جديدا رأى الأهالى أنه لا مساغ شرعا لتجديده ، إلا أن والى جدة عثمان باشا (وكان أمين البناء) فى ذات الوقت لم يهتم بما يقوله الأهالى ، فجدد ذلك الجدار كما يحلو له ، وبعد ما أتم عثمان باشا إصلاح جدار

__________________

(١) فى وسط الطريق بين مكة وجدة.

(٢) فى داخل مكة.

(٣) فى مقبرة جنة المعلى.

(٤) هذا أيضا فى المقبرة المذكورة.

(٥) فى نفس مكة.

(٦) هذا أيضا فى داخل مدينة مكة.

(٧) بين وادى فاطمة ومسجد عمر.

(٨) وكان موضع الأرصفة أرضا رملية.

١٦٧

الحطيم أتجه إلى مخزنين للمهمات (١) فى ساحة المسجد الحرام وعمرهما ، وجعل أحدهما دارا للميقاتى والآخر مكتبة (٢) وجلب لها كتبا كثيرة من إستانبول ، وهكذا زين تلك المبانى وفى النهاية جدد مبانى مسجد الخيف ، ثم جدد المسجد الكائن فى الطائف ، وضريح عبد الله بن عباس (رضى الله عنهما) كما جدد بإحكام مقبرتى (طاهر) بن الرسول صلى الله عليه وسلم ومحمد حنفى (٣) بن على (رضى الله عنهم) وذلك فى عام (١٢٦٢).

بعد العصر المذكور بمدة صدر الأمر السلطانى بتجديد الدار التى شهدت مولد النبى صلى الله عليه وسلم ، ومسقط رأس الصديق ، وسقط رأس على بن أبى طالب رضى الله عنهما ، وكذلك الأضرحة ومقابر الشهداء التى فى طريق العمرة ، وضريح السيدة ميمونة صلى الله عليه وسلم ومسجد مذبح إسماعيل (عليه السلام) (٤) ، وعمر سبيل باب الصفا الذى كان قد اتخذ دار خلاء ، فجعل دار أبى جهل وأبى اللهب فى باب النبى دارين للخلاء ، وجدد غطاء مقبرة أم المؤمنين ميمونة (رضى الله عنها) ، وبنى سبيلين أمام ضريحها ، وألحق بعض الحجر بالدار التى ولد فيها أبو بكر رضى الله عنه ، واختصها بالخدم ، وجدد منازل الخدم التى تتصل بمسقط رأس حمزة (رضى الله عنه) وذلك فى سنة (١٢٦٢).

رؤيا عثمان باشا

بينما كان عثمان باشا ينهى عمليات ترميم دار مسقط رأس حمزة ، رأى فى منامه أن حمزة ـ رضى الله عنه ـ قد شرف داره بالزيارة ، وفسر الذين سئلوا عن تفسير الرؤيا ما رآه عثمان باشا فى منامه بأن حمزة ـ رضى الله عنه ـ قد سر وابتهج من تعمير مسقط رأسه ، وعلى هذا قد ذبح الباشا المذكور كثيرا من القرابين على أنها من قبل السلطان ، ووزع لحومها على الفقراء والمساكين ، وبما

__________________

(١) كان اسم المخزنين قبة الفراشين.

(٢) وفى عام (١٢٩٨) كل من دار الميقاتى والمكتبة.

(٣) محمد بن على بن أبى طالب ، أبو القاسم بن الحنفية ـ نسبة لأمه من بنى حنيفة ـ المدنى ، ثقة عالم ، مات بعد سنة ٨٠ ه‍. انظر : تقريب التهذيب ٢ / ١٩٢.

(٤) فى منى.

١٦٨

أن مذبح إسماعيل كان خاليا من الجدار فأحيا ذلك المكان ببناء الجدار ، كما أنه هدم البيت الخاص ببنى شيبة ، وأنشأه من جديد ، وبهذا استجلب دعوات الأهالى والزوار بالخير للسلطان سنى المناقب وذلك فى سنة (١٢٦٢) وظلت مبانى المسجد الحرام بفضل هذه العمارة أربعة وثلاثين عاما بعيدة عن الخلل ؛ إلا أن رخام المطاف وأماكن أخرى احتاجت إلى التعمير ، وبناء على هذا جدد الرخام المذكور وكذلك الأحجار التى فرشت بها تحت القباب ، وكذلك الأحجار التى فرشت بها أرضية بيت الله أو أصلحت إلا أن مبانى المسجد الحرام ظلت بعيدة عن المساس وذلك فى سنة (١٢٩٣) وفى تعمير أحجار داخل الكعبة وتجديدها نظم مفتى مكة الشافعى أحمد دحلان أفندى هذا التاريخ :

لسلطاننا عبد المجيد محاسن

ومن ذا الذى بالحصر يقوى عدد

وقد حاز تعمير الباطن كعبة

وتاريخه بيت مزيد يجدد

بناء بدا زهوا لداخل كعبة

وسلطاننا عبد الحميد المجدد

ورأى مهندس البلدية الذى عهد إليه بالتعمير أن بعض الأماكن المقدسة أشرفت على الخراب ، وعرض ذلك على المسئولين مع الخريطة التى رسمها للأماكن التى يلزم تعميرها.

ولكن الزمن لم يكن مساعدا لكل هذا العمل والتزم ألا يفتح الباب لنفقات باهظة لتعمير سطحى وتسوية قليلة. وفى الخريطة التى وضحت الأماكن التى تحتاج إلى التصليح فى المسجد الحرام رئى تجديد وترميم عدة أعمدة قائمة أمام محفل الشافعية والمدرسة الداودية وباب إبراهيم (الزيادة) ، ليعنى إصلاح أربعة أعداد من الأعمدة الرخامية التى تحمل القبب الحجرية التى فى الساحة الرملية

١٦٩

من باب العمرة ، وكذلك ثلاث قبب ملاصقة للمدرسة اليمانية التى تلاصق باب إبراهيم (الزيادة) ، يعنى أن الأعمدة الثلاثة التى تعد كأرجل تحمل عقود القبب التى قد برزت عن مستواها وأوشكت على الانهيار بغتة ، وكما بدا أن ترميم تلك الدعائم سوف يكلف (٧٥٠٠٠) قرش ولذلك صرف النظر عن إصلاح المظلة الشافعية ، ورئى أن يدعم الأعمدة الثلاثة التى أمام المدرسة الداودية والثلاثة أعمدة الواقعة بجانب قصر نقيب السادات بدعامات وقتية ومساند ؛ لأن إبقاءها على حالها كان خطرا ، وفعلا اتخذ الإجراءات اللازمة لذلك وبهذا أعيد للناس ما سلب منهم من الشعور بالأمن وذلك فى سنة (١٢٩٦).

وقد أدرك بعد تنفيذ القرار السابق بعامين أن الأعمدة الستة ستنهار بغتة ، وأن إبقاءها على تلك الحالة فى المسجد الحرام غير لائق ، وسيثير قلق المسلمين ولا سيما أولئك الذين يعيشون تحت إدارة الدول الأجنبية من إخوان الدين.

لذا رأى عثمان نورى باشا والى الحجاز وقائد جيش الدولة العثمانية فى الحجاز أن يكشف وأن يعاين بدقيق الفحص تلك الأعمدة من قبل ضباط أركان الحرب من جديد ، ثم بعث بنتيجة الفحص مع الخريطة السابقة التى رسمت من قبله إلى الباب السلطانى ، واستأذنه فى تعمير تلك الأعمدة ، ولما وصل الإذن السلطانى أمرا بهدم تلك الأماكن عين القائم مقام صادق بك كبير مهندسى عين زبيدة للقيام بالبناء.

وفى غرة رجب عام (١٢٩٩) شرع صادق بك فى إيفاء ما كلف به فهدم القباب المذكورة وبسهولة جر الأعمدة الرخامية التى ترفع العقود بواسطة آلات الجر وربطها فى أماكنها بأوتار حديدية ربطا محكما ، ثم أقام عليها القباب طبق أصول الفن المعمارى ، وبذلك رفع الخطر الذى كان يهدد الناس فى داخل الحرم الشريف وذلك فى سنة (١٣١١).

بينما كان صادق بك مشغولا بإقامة القباب المذكورة رأى أن الأعمدة التى تحمل القبتين اللتين أمام باب على ومتصلتين بالساحة الرملية تزحزحت

١٧٠

أعمدتهما ، فأخبر بذلك عثمان باشا وتلقى منه الأمر بالإصلاح فهدمها وأقامها وفق الفن المعمارى والقاعدة الهندسية بصورة متينة رصينة وذلك فى سنة (١٣١٩).

وقبل الدخول إلى الحرم الشريف من باب إبراهيم كان هناك ثلاث درجات وفى وسط القبتين حجر فى طرفيه درجات الارتقاء والنزول ، وقد جعلت بطريقة سيئة مما كان يسبب لجماعات المسلمين فى طلوعهم ودخولهم مشقة كبيرة ، وعند إدخال الجنازات فى الحرم كان بعض المسنين الضعفاء يسقطون على الأرض تحت الأقدام ويضجون بالصراخ.

ولما أبلغ الأمر من الأهالى والمجاورين إلى عثمان باشا أمر بهدم ذلك المكان وتجديده وتوسيعه ، فجدد كما ينبغى فسهل الصعود والنزول وذلك فى عام (١٢٩٩).

وكان فى الطرف الشرقى للكعبة وبالقرب من بئر زمزم فى جهة باب على قبتان يرجع عهدهما إلى زمن قدماء الملوك ، وكانت مساحة كل قبة ستة أمتار مربعة فأمر السلطان عبد المجيد والد السلطان فى عام ١٢٦٢ بتحويل أحد القبتين إلى بيت للميقاتى والأخرى إلى مكتبة ، ولكن وجود هاتين القبتين كان يضر بالحرم الشريف ، ويحول دون رؤية المصلين الذين يصلون أمام باب على وباب عباس للكعبة الشريفة.

كما أن مياه السيول المتراكمة فى وادى إبراهيم عندما تهطل الأمطار كانت تدخل إلى داخل الحرم الشريف وتتلف كتب المكتبة القيمة ، وبناء على ذلك وقبل سبعة عشر عاما أى فى عام (١٢٨٤) أفتى شيوخ المذاهب الأربعة بهدم هذه الأبنية ونقل ساعات الميقاتى وكتب المكتبة إلى أماكن مأمونة ، وتخصيص ذلك المكان لأداء الصلاة فيه ورغم أن الفتوى كانت بإجماع الآراء وقد حازت موافقة السلطان ؛ إلا أنها لم تنفذ إلى الآن لسبب مجهول ، ولكن عثمان باشا أمر بنقل مكتبة المدرسة السليمانية ودار التوقيت إلى مكان مناسب فى ناحية باب النبى ، وتسوية أرضيهما وفرشها بالرمال وذلك فى سنة (١٣١٩).

١٧١

إن المكان الذى نقلت إليه المكتبة قبة كبيرة تقع فى الجهة اليمنى عند الدخول إلى المدرسة السليمانية ، وكانت هذه القبة تعرف بدار الحديث ، ولكنها تعرف الآن بدار أحمد باشا.

وبناءا على ذلك عمر ما يجب تعميره من دار الحديث ، وجلب لها القدر الكافى من الدواليب والرفوف الزجاجية ، ووسع بابها ووضعت اللوحة الرخامية التى عليها التاريخ والتى كانت موضوعة فوق باب المكتبة القديمة فوق باب المكتبة الجديدة ، هكذا أصبحت المكتبة الجديدة مكتبة جميلة مزينة بالنسبة للمكتبة القديمة (١).

تاريخ المكتبة

إن الدعاء واجب ليل نهار على أهل الإسلام كافة وهم يشهدون آثار خير السلطان عبد المجيد خان إن ذلك الوزير المجتبى يسعى على الدوام مسعاه فيجلب دعاء الخير لأسرة آل عثمان إنه شريف باشا الأكرم الملقب بشيخ الحرم ففى كل أيام ينال الخير والإحسان يا لحسن دار الكتب تلك التى أحسن فيها توسيع المكان أذاع شوقى لها التاريخ جوهرا مخبرا بفتح المكتبة أهل العرفان فى عام ١٢٦٢.

__________________

(١) قد اتخذت القبة الثانية التى تقع بجانب المكتبة خزينة الحجاز ، وعندما أنشئت دار خزانة على ما يرام فنقلت خزينة إلى مكانها الجديد. وتقرر أن يتخذ هذا المكان دارا للعلوم من قبل الحكومة ، وإن كانت المدرسة السليمانية لها قبتان أيضا إلا أنهما اتخذتا محكمة شرعية منذ فترة طويلة.

١٧٢

فى تلك المكتبة (٣٥٥٣) كتابا أرسلت من قبل السلطان عبد المجيد ، ويتولى أمانة هذه الدار الشيخ محمود أفندى من مدرسى الحرم الشريف يعاونه رفيقان من الموظفين.

وإن كان للصدر الأعظم الأسبق محمد رشدى باشا الشروانى (١٣٦٢) مجلدا من الكتب تحت حفظ أمين المكتبة محمد رشدى الداغستانى وسيد على ، إلا أن هذه الكتب مودعة فى مدرسة خاصة فى مواجهة الحرم الشريف.

وتقع دار التوقيت فى اتصال السلم الذى فى داخل الحرم الشريف ، ويدخل فيها من هذا السلم وقد بنيت مبانى دار التوقيت ، فهى تحت الرواق وفوق دكة النساء وعلى بعد مترين من جدار الحرم الشريف ، وقد أسس على شكل شبه منحرف وعلى هيئة غاية فى الجمال.

ولدار التوقيت ثلاث نوافذ ويبلغ عرض كل واحدة منها مترا وطولها مترين ، وقد فتحت إحداها بثقب جدار الحرم الشريف ، وترى منها مدرسة الخاصكية ، وفتحت نافذتان منها ، ينظر منها إلى كعبة الله من داخل الحرم الشريف ، فالذين يمرون بالمسعى يضبطون ساعاتهم ناظرين من النافذة التى تواجه مدرسة الخاصكية ، والذين فى داخل الحرم الشريف يضبطونها ناظرين من النافذتين اللتين فى ناحية كعبة الله.

إن حجر التاريخ القديم الخاص بدار التوقيت قد وضع فوق النافذة التى تطل على شارع المسعى ، وقد جددت زخرفته وألوانه كما جددت زخرفة وألوان حجر التاريخ الذى وضع فوق باب المكتبة.

بما أن ألوان طلاء الرواق المطل على الساحة الرملية قد محيت وتعذرت قراءة خطوطه ، وبذلك قبح منظره داخل الحرم ، وذلك عند تعمير وإصلاح أعمدة القباب التى فى ناحية باب العمرة وباب إبراهيم زيادة وباب على ، ولتغيير هذا المنظر جدد طلاء الرواق وأسماء الجلالة التى بين الرواقين مع الخطوط الكائنة فى

١٧٣

ناحية باب السلام وباب إبراهيم ، وطليت أرضيتها بلون أخضر داكن وأسماء الجلالة مع الخطوط طليت بلون أصفر شبيه باللون الذهبى ، ورمم وأصلح طلاء الجدران وذلك فى سنة (١٢٩٩).

وبعد ما وفق عثمان باشا فى ترميم هذه الأماكن جعل المقام الحنبلى الذى كان يواجه الحجر الأسود بين الحجر الأسود والركن اليمانى ، أو مقابل المقام الحنفى ، ورمم وأصلح الأماكن الأخرى من حرم المسجد الحرام على أحسن وجه ، وطلا جميع جهات الحرم الشريف وذلك فى سنة (١٣٠٠).

إن الحرم الشريف الآن فى شكل مستطيل ، وإن الكعبة المعظمة تقع فى وسط المسجد الحرام ، وبئر زمزم فى الجهة الشرقية الجنوبية لباب كعبة الله ، ومقام إبراهيم فى الجهة الشمالية من باب الكعبة ، وحجر إسماعيل فى الجهة الشمالية للبقعة المفخمة ، والمقام الحنفى مقابل ذلك ، والمقام الشافعى خلف مقام إبراهيم ، والمقام المالكى فى الجهة الغربية من البيت الشريف ، والمقام الحنبلى فى الجهة الجنوبية من البيت المنير الشريف فى اتصال مقام إبراهيم من الجهة الغربية ، وكان فى ناحية باب أجياد وفى اتصال العمارة المصرية المدرسة المجيدية غير تام الإنشاء ، وقد حول عثمان باشا هذه المدرسة إلى دائرة حكومية لسكنى المواطنين ، وحول القلعة الهندية إلى معسكر يسمى غيرتيه ، وجدد المعسكر السلطانى للمدفعية وقسم الشرطة الكائن أمام باب على ، وخصصهما كلهما لإقامة جنود السلطان الموعود بالنصر. إن معسكر غيريته فوق الهضبة التى تتصل بجبل الترك الواقع فى الجهة الغربية من مكة المكرمة ، وقلعة جياد فوق هضبة واقعة فى الجهة الجنوبية من مكة المكرمة والعسكر السلطانى للمدفعية كأنه فى وادى المعسكر الواقع فى جياد مستشفى قلعة الفلفل فى الجهة الشرقية من جبل الترك ، وقسم الشرطة الرئيسى فى الصفا ، والمعسكر الحميدى السلطانى والدوائر الحكومية الضخمة الكائنة فى مكان قريب من باب أم هانئ.

* * *

١٧٤

الوجهة الرابعة

تحتوى على أربع صور تعرف بالتفصيل بالهدايا والتزيينات وأصحاب المعلقات العتيقة والكساوى والقناديل والأشخاص الذين أهدوا لتلك البقعة المقدسة هدايا ثمينة والذين شرحوا مسائل جواز إهداء الكسوة ومما يتكون المحمل الشريف وماذا يعنى فى لسان العامة؟

١٧٥

الصورة الأولى

فى ذكر الذين قدموا الهدايا لكعبة الله وزينوها

والذين رمموها وعمروها عند الضرورة

وكان باب كعبة الله قبل أن يهاجر النبى صلى الله عليه وسلم ، إلى المدينة المنورة بأربعمائة عام تقريبا من غير مصراع ، وقد ركب أبو كرب بن أسعد الحميرى من ملوك اليمن قبل الهجرة النبوية بسبعمائة عام على باب كعبة الله مصراعا فوقه قفل.

وكان الباب الذى ركبه أبو كرب قطعة واحدة ويشق استعماله ، وأراد قصى بن كلاب أن يزيل الصعوبة ويسهل الفتح والغلق ، فقسم ذلك الباب إلى جناحين ، لكن الذين أتوا بعد قصى حولوه لقطعة واحدة.

ولما جدد عبد الله بن الزبير كعبة الله جعل باب الكعبة بمصراعين ، وطلا باب كعبة الله والأعمدة الداخلية للكعبة وسطح الكعبة وسقفها بالذهب ، وصنع مفتاحا من ذهب لقفل باب الكعبة فى سنة ٦٤ هجرية.

وغير الحجاج الظالم مصراعى باب كعبة الله اللذين صنعهما عبد الله بن الزبير ، ورفع عتبة باب الكعبة عن الأرض ستة أقدام وأربع بوصات.

وجعل طول الباب تسعة أقدام وبوصتين وزخرفه (١) ، وزخرف «عبد الملك بن مروان» من ملوك بنى أمية باب الكعبة المعلى للمرة الثالثة ، كما أرسل ابنه الوليد إلى خالد بن عبد الله والى مكة ستة وثلاثين ألف دينارا ليجدد زخارف الميزاب اللطيف وأعمدة باب الكعبة الداخلية فى سنة ٨٩ ، كما أن محمد الأمين بن هارون الرشيد من الخلفاء العباسيين أرسل إلى واليه فى مكة سالم بن الجراح

__________________

(١) وفى عهد ابن الزبير كانت عتبة باب المعلى للكعبة فى متسوى أرض المطاف ، وكان ارتفاعه (١٥ قدما و ٦ بوصات) وعرضه (٦ أقدام و ٤ بوصات).

١٧٦

ثمانية عشر ألف دينارا ذهبيا ، ليجعل مسامير باب الكعبة وحلقاته من الذهب الخالص وذلك فى سنة ١٩٥ ، ثم اقتلع ذهب الأعمدة التى أمر وليد بن عبد الملك بتذهيبها وأعاد تذهيبها على شكل أفضل.

وإن كان سالم بن الجراح قد عمر وزين الأماكن التى سبق ذكرها بثمانى عشرة ألف قطعة ذهبية أرسلت من بغداد ، إلا أنه أذاب الألواح الذهبية التى تغطى مصراعى باب الكعبة ، واستعملها وقد صرف على الألواح التى ركبت ثلاثا وثلاثين ألف قطعة ذهبية ، وغطى مصراعى الباب وقت اقتلاع الألواح بستارة من قماش أصفر ، وإلى عهد المتوكل بالله العباسى (١) ، كانت زاويتا الكعبة فى الداخل الزوايتين الفضيتين من ذهب أيضا ، فاستجاب المتوكل بالله وأرسل إسحاق بن سلمة وهو صانع بارع فرصع زوايا كعبة الله الأربع على نسق واحد كان ذلك عام ٢٤٤ ، وزين الستارة الداخلية بحزام من فضة عرضه ثلاثة أذرع ثم أدخل إلى الحزام مقطعا من ذهب خالص ، كما أنه أصلح عتبة باب الكعبة المصنوعة من خشب الساج وغلفها بألواح فضية.

وبناء على ما يروى من الصانع المذكور أنه قد أنفق على الزوايا الأربع والمنطق الذهبى ثمانين مثقالا ذهبا ، وللحزام وألواح الباب ستين أوقية ونصف يعنى (١٤٢٠) درهما من الفضة.

وما أرسل إلى بيت الله من الهدايا وأدوات التزيين الغالية تعظيما له بعد المتوكل بالله ، ما فى الأبواب والزوايا من ألواح ذهبية وفضية اقتلعها ولاة مكة وحولوها إلى ذهب ونقود ، وأرادوا أن يخمدوا الثورة التى اندلعت فى سنة ٢٨١ ، وبهذه الطريقة تركوا كعبة الله فى مثل البناء العادى وقد جدد المعتضد بالله أول ما اقتلع ، وصرف من تزيينات كعبة الله وأعادها إلى حالتها السابقة وذلك فى سنة ٢٨٣.

كما أن لؤلؤ غلام والدة الخليفة المقتدر بالله قد جدد وعمر داخل بيت الله وخارجه وأعمدته اللطيفة بإيعاز من سيدته وذلك فى عام ٣١٠.

__________________

(١) وهو أول من اتخذ الشافعية مذهبا له من خلفاء بنى عباس.

١٧٧

كما أن جمال الدين جواد من وزراء الملوك المصريين أرسل خمسة آلاف قطعة ذهبية ، فنظم وذهب الطلاء الداخلى لكعبة الله ، وجدد أبواب المسجد الحرام كلها وذلك فى سنة ٥٤٩.

كما أن جمال الدين جواد قد جدد مصراعى باب الكعبة اللذين كانا ركبهما الحجاج بن يوسف الثقفى.

وبناء على الأمر الوارد التقى قاضى مكة مع ناظر الحرم الشريف وأرسل الباب القديم بناء على توصية أمير الحرمين قاسم ابن هاشم إلى حاكم مصر المقتفى بالله (١) ووهب الخليفة المشار إليه ما انتزع من فضة من فوق ذلك الباب إلى أمير مكة المعظم قاسم بن هاشم.

وقد وصى المقتفى بالله أن يصنع من ذلك الباب تابوتا ويدفن معه متبركا به وفعلا قد نفذت وصيته عند وفاته.

وفى عام ٩٥٦ ذهب وزخرف البقعة المباركة لكعبة الله حاكم اليمن الملك المظفر الغسانى ، وبعده حفيد الملك المظفر الملك المجاهد.

وفى سنة ٧٣٥ أرسل ملك مصر ناصر بن محمد قلاوون الصالحى (٢) خمسة وثلاثين ألفا من ذهب مصرى ، وفى سنة ٧٧٠ حفيد الملك ناصر أشرف صرف نقودا لا تحصى ، وهكذا جدد كل واحد منهم عقب الآخر الطلاء الذهبى لكعبة الله وزخرفوها ، وجدد ناصر بن محمد بن قلاوون الصالحى الباب الذى صنعه الملك المظفر ، كما أن الملك المظفر الغسانى كان قد جدد الباب الذى صنعه جمال الدين ابن جواد.

__________________

(١) اسم المقتفى بالله محمد أبو عبد الله واسم أبيه المستظفر قد رأى هذا الشخص فى رؤياه قبل جلوسه على كرسى الخلافة بستة أيام سلطان الرسل صلى الله عليه وسلم ، وقد وجه له النبى صلى الله عليه وسلم خطابا فقال له «يا محمد يظهر أنك ستنادى خليفة عما قريب وعندئذ يجب عليك أن تقتفى أثرى ، وبناء على ذلك لقب بالمقتفى بالله.

(٢) كان مصراعا الباب القديم اللذين جددهما الملك الناصر من خشب الساج ، وكان عرض كل لوح خشبى ذراعا واحدا.

١٧٨

وقد تحدث القطب المكى من مؤرخى مكة عن مصراعى باب الكعبة اللتين غلفهما الملك الأشرف بألواح فضية ، وبعد أن وصف بالتفصيل متانة مصراعى الباب وجمال صناعتهما فى تاريخه القيم الذى ألفه ، قال : «كان بعض اللصوص يتحينون فرصة ليسرقوا ألواح باب كعبة الله الفضية بعد قلعها ، وقد سرقت عتبة بيت الله وأصبحت عارية ، وقد قبض على اللصوص المتجاسرين مرات وأخذوا بالعقاب ، إلا أن استمرار سرقة زينة بيت الله الخارجية وأيلولة سطح بيت الله إلى الخراب ، وأصبحت قطرات المطر تنفذ من سقف البيت ، جعل بعض أهل البصيرة الذين اطلعوا على حقيقة الأمور يرفعون أصواتهم جازعين هالعين.

ولذا أتى إلى مكة المكرمة شيخ القاهرة حمد الله أفندى (١) بنية الحج ورأى ما حل بالسطح الشريف من خراب ، وذلك فى عام ٩٥٨ أو ٩٦١ هجرية ، لقى قاضى مكة محمود جلبى أخا زوجه وتشاور معه ورأيا أن الأمر يجب أن يعرض على باب السعادة ، وأوصيا إمارة مكة المكرمة وولاية الحجاز بذلك ، وسعى مسئولو الإمارة والولاية بإبلاغ أمر وجوب التعمير إلى الباب السلطانى وما كان من السلطان سليمان بن السلطان سليم خان إلا أن استصدر فتوى تنطق بضرورة تعمير بيت الله من سلطان العلماء أبو السعود أفندى ، وأرسل هذه الفتوى إلى أمير أمراء مصر ، وأمره بأن يعمل على تعمير بيت الله سريعا بمجرد ورود الأمر السلطانى ، وفتوى المشيخة السلطانية.

وبادر على باشا أمير الأمراء بإرسال الأمر السلطانى والفتوى الشرعية إلى قاضى مكة أحمد جلبى ، وذلك فى سنة ٩٥٩ ، وتشاورا كثيرا بخصوص الموضوع ثم استدعيا وجمعا أعيان مكة وأكابرها وعلماء المذهب الحنفى والشافعى الفضلاء ، وتليا الأمر السلطانى الوارد عليهم ثم أخذوا يتذاكرون كيفية تنفيذ الأمر السلطانى ، ثم قرروا معاينة وكشف السطح الشريف عقب صلاة الجمعة ١٤ من شهر ربيع الأول سنة ٩٥٩ ، وقال أحد الموظفين الذى عين للكشف

__________________

(١) كان هذا الشخص قد عين ناظرا لعمارة البيت من قبل والى مصر ، كما أن مصطفى جلبى الأشول كان قد عين موظفا فى ديوان كتابة تلك العمليات ويقال له أحمد جلبى المقاطع ، ومن مؤلفاته ترجمة روضة الشهداء «سعادت نامه» ومخلصه جامى.

١٧٩

بموافقة الجميع بعد المعاينة ، قطعة من العمود الخشبى هبطت اثنى عشر خطا عن سائر الأرضيات ، كما أن خشبة من طرف الباب تخلخلت عن مكانها وهبطت تسعة خطوط عن مكانها ولم تعد صالحة للاستعمال ، وإذا لم تصلح وتعمر من الآن فمن الممكن أن يسقط السقف كاملا فجأة وصدق زميله الآخر على ما قاله ، وبناء على ذلك شرعوا فى تعمير السطح الشريف يوم السبت الخامس عشر من ربيع الأول سنة ٩٥٩.

وخالف بعض علماء مكة موضوع التعمير قائلين يجب أن يترك البيت المعظم بدون تعمير وتصليح ما لم تسقط على الأقل جهة من جهاته توقيرا للبيت ، وحثوا عامة الناس على النزاع وأرادوا أن يوفقوا بين مدّعاهم والأقوال الأخرى ، وكادت أن تحدث فتنة عظيمة ؛ إلا أن مولانا الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمى الشافعى ألف كتابا أسماه «المناهل العذبة فى إصلاح ما وهى من الكعبة» رد فيه على آراء المخالفين ، وخرج مسائلهم ونقل فى كتابه المسائل التى تجيز التعمير فى كتاب «استقصاء البيان فى مسألة الشادروان» للمحب الطبرى والكتب الأخرى للسلف الصالح.

كما أضاف إلى كتابه ما روى عن أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها ـ من الحديث الشريف الذى يجيز تعمير كعبة الله المعظمة ، إلا أنه لم يستطع إسكات الذين يؤيدون العلماء المخالفين وإقناعهم ، وعنذئذ أبلغوا الأمر إلى أمير الحجاز مولانا سيد شريف أحمد بن أبى نمى الذى كان فى البرية ، فعاد من البرية واستدعى إليه مولانا الشيخ محمد ابن الشيخ أبى الحسن البكرى ، وطلب منه أن يفسر الآية الجليلة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) (البقرة : ١٢٧) أمام كعبة الله.

وحضر هذا المجلس الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعى الذى سبق ذكره والشيخ نور الدين بن إبراهيم العسلى والقاضى الحسنى بن فايز بن ظهير ومفتى الحنفية قطب الدين بن علاء الدين.

وبناء على رجاء سيد شهاب الدين أحمد بن أبى نمى أخذ الشيخ أبو الحسن البكرى يفسر الآية التى سبق ذكرها بلسان فصيح ، وبيان صحيح وختم التفسير

١٨٠