موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

المكرمة وروى بالأجر سكان الحرم من عين حنين واشترى مصلح الدين أفندى طائفة من العبيد السود (١) ، وركب سفينة من ميناء السويس وكانت قد أعدت ليمضى بها إلى الآستانة ليعرض على الباب العالى كيفية توظيف هذه الطائفة فى مهمة تطهير مجرى القنوات ، ومات ـ رحمة الله عليه ـ غرقا فى عباب بحر القلزم.

بينما كان مصلح الدين أفندى يقوم بإصلاح مجارى عينى حنين وعرفات عين مهندسا وكاتبا يرأسهما ناظر ، وذلك من أجل سرعة إصلاح أى جزء يلحق به الخراب من المجارى والقنوات ، وبعد ذلك بنى قبة حجرية فوق موضع تفرع المجرى ، ووضع ميزابا من خمسة وأربعين لوحا حتى إذا ما فنيت مياه أى لوح أو نقصت يعرف أن ثمة خراب قد لحق بمجرى تلك الناحية فيتم إصلاحه في الحال.

وبفضل الترتيب المذكور لم يتعرض أهل مكة لشح الماء لفترة وعلى الرغم من ذلك فإنه بعد وفاة مصلح الدين أفندى بما يقرب من ثلاثين عاما طغى سيل من جرائه تخربت أغلبية مواضع المجارى المائية ، ومن ثم بدأت مياه الينابيع فى مكة فى النقصان ، وبدأ سكانها الكرام يلقون التعب والمشقة بسبب شح الماء ، وعندما رفعت الإمارة الجليلة لمكة الأمر إلى الباب العالى وتلقت الإمارة المذكورة الرد وأخطرت بالمواضع الواجب إصلاحها وتعميرها ، وبعد الكشف والمعاينة استدعى شريف مكة أشرافها وأعيانها للتشاور ، وقرأ عليهم الأمر الوارد من الباب العالى.

وعلى أثر ذلك اجتمع قاضى مكة عبد الباقى بن على المغربى أفندى ومتصرف جدة خير الدين بك وطائفة مثلهم من أرباب الدراية والمعرفة. وعقدوا مجلسا للتشاور وتبادلوا الآراء والمشورة بشأن طرق المياه مكة المكرمة ، ومن بعد اتفقوا رأيا على أن عيون عرفات أبرك من باقى العيون ، ومجاريها معلومة. وإذا ما

__________________

(١) اشترى مصلح الدين أفندى لكل واحد من هؤلاء العبيد السود جارية زنجية وزوجه منها ، وعهد إلى ذريتهم بمهمة تطهير قنوات المياه ، وكل العبيد يعيشون على مرتبات خصصت لهم بالقانون ولم يبق منهم أحد الآن بعد أن انقطع نسلهم.

١٤١

نظرنا إلى ما أفاد به الخبراء فإن هذا الماء على الرغم من أنه ينبع من موضع يسمى «أوجر» يمر من منى عن طريق وادى النعمان وعرفات ، ويحضر إلى بئر زبيدة. وإذا ما طهرت مجاريها وطرقها على الوجه الأقوم فإنه سيتكلف (٠٠٠ ، ٣٠) دينار من ذهب ، وقالوا إنهم سوف يقومون بتسوية وإصلاح وتنظيم ما يقرب من (٠٠٠ ، ٤٥) ذراع معمارى فى وادى مكة وقد وقع هذا الرأى موقع القبول لدى هيئة الشورى ، وعرضوا ما توصلوا إليه من قرارات على الإمارة المشار إليها مرفقة بتقرير.

ومن ثم عرض شريف مكة المذكور الصورة الأخيرة لما سيكون عليه المجرى بعد الإصلاح والقرار المذكور على الباب العالى وذلك على الوجه المفصل.

ولقد ورد التزام من كريمة السلطان صاحبة الخيرات ، إكليلة المخدرات ، تاج المحصنات بتعمير المواضع الخربة ، وإجراء الماء داخل مكة ، وإنشاء العيون فى المواضع القريبة من حرم الكعبة ؛ وذلك لإحياء أهالى بلدة الله ، ولأن ذلك عادة من المبرات السلطانية فقد صرف (٠٠٠ ، ٥٠) دينار لإبراهيم بك دفتر دار (وزير مالية) مصر القاهرة الأسبق ، وأرسل إلى مكة المكرمة ، وفى يوم الجمعة الثانى والعشرين من ذى القعدة عام (٩٦٤) أو (٩٦٧) وقبل عام (٩٧٠) قدم إبراهيم بك إلى جدة ، وفى اليوم التالى وصل إلى حضرة سيد حسن بن نمى شريف مكة فى وادى مر الظهران ، ومضى فى معية المشار إليه إلى مكة وبعد الطواف نزل فى دار أعدت له خصيصا.

وفى غضون خمسة وعشرة أيام وبفضل كثير من العمال بذل الجهد فى تطهير وتعميق الآبار التى غاض ماؤها ومجرى عين عرفات ، وبعد الحج نصبت الخيام فى وادى عرفات من أجل تعمير طريق جبل الرحمة ، واستخدم ما يقرب من أربعمائة عامل فى أعمال تنظيف المجرى ، واستقدم إبراهيم بك مهندسين أكفاء وكثرة من البنائين وزاد من عدد العمال يوما بعد يوم ، وأصلح المجارى حتى بئر عين زبيدة ، ولكنه لم يستطع أن يعثر على المجرى القديم الذى يمتد بعد بئر عين زبيدة.

١٤٢

وكان العمال الذين استخدمهم (إبراهيم بك) عددهم أربعمائة نفر من جنس العبيد وكانوا يصلحون لعمليات الحفر فعمقوا وطهروا مجارى العيون من (أوجر) إلى حدود (المزدلفة ولما كانت عمليات الحفر بعد (المزدلفة) أشق طلبوا مزيدا من العمال وأبلغ إبراهيم بك عدد العمال إلى ألف وبذل جهودا جبارة وأظهر مروءة عظيمة ، وأنفق أكثر من ألف قطعة ذهبية ، إلا أن العمل أخذ يتأخر يوما بعد يوم ويتباطأ ، ولما رأى أن حفر وتعميق المجرى الكائن بين المزدلفة ومكة المكرمة فى حكم المستحيل ، عرض الأمر إلى الجهات العالية ، واستقدم من صعيد مصر والشام وحلب واليمن وباب السعادة إستانبول عمالا متخصصين فى حفر الآبار ومجارى المياه والحدادة والبناء ووزع لكل واحد منهم عمله لإجراء التعميق ، إلا أنه فهم أن مجرى الماء ينتهى عند بئر زبيدة وراح فى تفكير عميق فى الندامة والحيرة ؛ لأن السيدة زبيدة لم تستطع أن تحفر مسافة ألف ذراع معمارى بعد البئر الذى ينسب لها فتركته وأجرت مياه عرفات إلى مجرى حنين ووحدت بين الجدولين ، واستطاعت أن تدبر مقدارا من المياه يكفى لأهل مكة ولم توحد بين عين عرفات ومجرى عين حنين بتغيير مجراهما ؛ كان عليها أن تنشغل بنقب وثقب قطعة واحدة من الصخرة التى يبلغ طولها ألف ذراع معمارى وعرضها مع عمقها خمسين ذراعا.

وكان فى هذا إنفاق للمال عبثا ، وأكد فكرة أن إنجاز هذا العمل خارج طاقة الإنسان ولأجل ذلك تركت ذلك المكان ، وقررت أن توجد بين مجرى عرفات ومجرى مياه حنين وتوصلت إلى هدفها عن طريق أوفق لغايتها.

وأراد إبراهيم بك من شدة حيرته واضطرابه أن يقوم بعمل لم تستطع أن تقوم به السيدة زبيدة ، وتخيل أنه يستطيع أن يثقب ذلك الطريق الحجرى بطريقة أو بأخرى فحفر أولا وعمق مكانا ليبلغ طوله سبعة أذرع وعرضه خمسة أذرع وأمر برفع ما عليه من التراب ، ثم جلب من جبل جزل حمل مائة بعير من الحطب وأراد أن يعمق بحرق الحطب فى داخل ما تم حفره ما مقداره خمسين ذراعا إلا أنه لم يستطع أن يحفر فى ليلة كاملة إلا مقدار إصبعين كسره بأدوات حديدية ،

١٤٣

وأدرك أن تعميق مكان طوله ألف ذراع مقدار خمسين ذراعا يحتاج إلى عمر نوح ومال قارون ، إلا أنه أنفق أموالا لا تحصى بفكرة إنقاذ الشرف السلطانى الساذجة ، ولم يبخل من بذل أقصى الجهود لحفر المجرى إلا أنه لم يستطع أن يتجاوز أكثر من عشرين ذراعا ، وفى النهاية أنهى جميع نقوده وأرسل إلى باب السعادة رسلا لعرض الأمر وليستأذنه فى كيفية التصرف بعد هذا الفشل ، ولكن الرسل الذين بعثهم إلى إستانبول غرقت سفينتهم فى البحر الأحمر ، وفى هذه الفترة مات ثلاثة من أبنائه واحدا تلو الآخر ، كما مات وكيل أعماله وكثير من عبيده وعقب ذلك ارتحل أيضا إلى قصور الجنة سنة (٩٧٤) ليلة الاثنين الثانى من رجب ودفن فى قبره الذى كان قد هيّأه قبل وفاته (١).

وبعد وفاة (إبراهيم بك) عهد إلى قاسم بك حاكم جدة بمهمة تطهير المجرى ولحكمة ما توفى هو أيضا بعد مرور سنتين من تعيينه ، فأحيلت تلك المهمة المقدسة لمفتى مكة المكرمة الشافعى القاضى حسين أبى بكر الحسينى.

وقد قام الشيخ حسين بمهمته أحسن قيام واستطاع أن ينهى عمله في ظرف خمسة أشهر على أحسن وجه وأنجز ما لم يستطع أن يقوم به من سبقوه فى اثنى عشر عاما.

واستطاع أن ينهى العمل الذى بذل فيه الجهود الحميدة منذ عهد السلطان سليمان خان الغيور على دينه ، أى العمل الذى استغرق سبعة عشر عاما فى الحفر والتعميق وأوصل عين عرفات إلى مكة المكرمة وبإمرارها من نفس الطريق الذى أراده المرحوم إبراهيم بك وذلك فى سنة (٩٧٦) على قول أو سنة (٩٧٩) على قول آخر ، أو فى الأيام العشرة الأخيرة من ذى القعدة سنة (٩٨١) وفقا للرواية الثالثة.

وأنشأ فى داخل المدينة أحواضا كبيرة وصهاريج عظيمة وملأها بالماء ، وأحيا العالم الإسلامى ، إن العمل الذى بدأ لإنشاء مجارى المياه وقنواتها فى عهد

__________________

(١) وبناء على هذا فالقول الأول وهو المعتبر أن إبراهيم بك شغل بحفر المجرى عشر سنوات ، وعلى القول الثانى خمس سنوات وعلى القول الثالث أربع سنوات.

١٤٤

السلطان سليمان انتهى فى عهد السلطان سليم ، وغبطت بلدة الله بكثرة مياهها ، ودخل ماء عرفات فى داخل المدينة ، وروى الحجاج العطاش وأخذ أهالى مكة المكرمة والمجاورون ذوى الاحترام يحتفلون ، ويحث بعضهم البعض على الدعاء بالخير للسلطانين المشار إليهما ويقولون : إن الأعمال الخيرة الجميلة التي لم يقدر على القيام بها أى واحد من السلاطين السابقين والخلفاء المعتمدين ، قد قدرت ويسرت لهذين السلطانين العظيمين.

وفى اليوم الذى وصل فيه الماء إلى المدينة المقدسة مكة الله أقام المفتى السابق الذكر حسين بن أبى بكر الحسينى فى رياض الأبطح لجميع الأهالى وليمة عظيمة ، وذكر جهود السلطان وفتح صنابير جميع الينابيع وملأ مستودعات مياه الينابيع بحلو الشراب وسقى الأهالى ، واستجلب الدعوات لطول بقاء الدولة العثمانية.

ومما يروى عن ثقة أن الأطعمة التى قدمت فى هذه الوليمة كانت عظيمة وافرة إذ نحر مائة جمل ومثلها من الأغنام ، وأقيمت الخيام لجلوس القوم كل حسب مكانه وشرفه ودعا إليها أعيان القوم وأشرافهم وعلماءهم وصلحاءهم ، وقدم لهم الطعام وبعد الطعام ألبس المهندسين ومهرة العمال الخلع ، ووزع على الآخرين العطايا السنية وأبلغ بكل ما تم عمله لجلب قلوب الناس إلى السلطان الموصوف بمكارم الأخلاق ، فما كان من السلطان إلا أن أرسل الخلع الفاخرة وعطايا كثيرة من إستانبول لتوزيعها على الذين خدموا فى توصيل العين المذكورة بجد وصدق من الأهالى. أما المفتى الشافعى القاضى حسين بن أبى بكر الحسينى المشهود له عند الجميع بجهوده العظيمة وعظيم بلائه فقد كرم أعظم تكريم مما ملأ قلبه بالعظمة والسرور ، وفى حقيقة الأمر إن أهل مكة كانت حاجتهم شديدة إلى ماء جار مثل عرفات ؛ لو لم توصل كريمة السلطان مهرماه عين زبيدة إلى مكة المكرمة لما بقى لأهل مكة إلا واحدا من الحلين الاثنين : إما أن ينتقل أهل مكة إلى بلاد أخرى يهاجروا إليها ، وإما أن يتحدوا جميعا ويصرفوا كل ما فى جهدهم ليطهروا مجرى عين زبيدة والعمل على جلبها من جبل الرحمة.

١٤٥

ولما كان الحل الثانى غير قابل للتنفيذ بل مستحيلا كان عليهم أن يبتلوا بالفراق عن الوطن وأن يتفرقوا فى بلاد شتى وأن يحترقوا بنار فراق كعبة الله ثم يفنوا.

وجلب ماء عرفات إلى الحرم الشريف رد الحياة لأهل مكة وذريتهم فبقوا فى موطنهم القديم ، والآن ما من أحد فى مكة إلا وقلبه يمتلئ غبطة ومسرّة ولسانه يلهج داعيا بالبقاء للدولة العثمانية.

فيما يلى من كلامنا وصف لماء عرفات من حيث صفائه وعذوبته ومدى حاجة أهل مكة لهذا الماء ، وهذا ما جعل هذا الأمر موضع بر الأميرة مهرماه وإحسانها بين المحسنين.

مقال

إن ماء عرفات ماء جار كأنه ماء الكوثر وعين الحياة وماء تسنيم ، ويجرى بالقرب من موقف عرفات ويبحث عن حرم مكة العطشانة ليمسح وجهها ويطفى ظمأ أهل مكة المشتاقين بمائه الزلال.

أبيات

إن رغبة أهل هذا البلد إلى الماء الجارى لأمر عجب ما أن يشاهده الظمآن منهم إلا وجرى ريقه.

فأجرت الأميرة (مهرماه).

بنت سلطان العالم السلطان سليمان خان .. صاحبة الخيرات هذه العين إلى داخل المدينة .. منفقة الأموال الطائلة.

وهكذا سقت المسلمين العطشى.

والحق أن ما قامت به من همة عظيمة.

ليغار عليها خلفاء سكان المغرب ودار السلام.

وحكام اليمن وسلاطين مصر والشام

١٤٦

وفى نار الحيرة يحترقون ..

ولقد أسدت خدمة عظيمة.

تجعل ملوك الربع المسكون ..

من العالم وملوك سوالف القرون ..

من رغبتهم فى لجة يغرقون واستهل العمل فى سنة ٩٧٠ (١).

ومع الاستعانة بالمهندسين المعامرين الذين يتمتعون بذهن ثاقب وذكاء خارق الذين حطموا الصخور الصماء بهمة كأنها فأس فرهاد.

وأنهوا العمل فى تسعة أعوام (٢) وأنفقوا النقود كالماء السائل حتى ظهر ذلك الجدول الجميل وكأنه فضة مذابة.

شكر الله سعى مجريها.

انتهى «ذيل الشقائق النعمانية».

وبما أن عين زبيدة احتاجت للتعمير والتطهير مرة أخرى فى عهد السلطان مصطفى بن السلطان أحمد سنة (١١٨١) بإشعار من إمارة مكة المكرمة فأرسل من قبل السلطنة السنية موظف يسمى فيض الله أفندى الذى طهر العين كما ينبغى ، عمر وسوى الأماكن التى تحتاج للتعمير ، وأنفق فى سبيل ذلك (٠٠٠ ، ٨٨٦) قرش وأتم العمل فى ظرف ثلاث سنوات فى سنة (١١٨٤).

__________________

(١) بناء على القول الثالث.

(٢) بناء على القول الثانى.

١٤٧

إلا أنه فى تلك المدة لم يكلف بإصلاح مجرى عين زبيدة فقط بل شمل التعمير والإصلاح مجارى عين عرفات والعيون الأخرى ، كما أصلحت مجارى جميع العيون الواقعة بين عين حنين وعرفات ، وهكذا زادت المياه فى جميع المجارى.

ودام هذا التعمير أربعا وخمسين سنة ، وفى خلال هذه المدة لم يكابد أهل مكة من نقص المياه ، ولكن فى عام (١٢٣٥) مست الحاجة إلى تعمير بعض العيون لما كان السلطان محمود خان أصدر الأمر إلى والى مصر محمد باشا بأن يبادر بإصلاح أى مكان فى الحرم الشريف دون استئذان منه ، فأصلح الباشا المذكور مجارى المياه التى تحتاج إلى إصلاح وأحيا عين زبيدة من جديد ، وأبلغ الأمر إلى باب السعادة سنة (١٢٣٥).

وبعد تعمير محمد على باشا قد انضمت إلى مجرى عين زبيدة مياه عين أخرى يقال لها زعفران ، ولهذا زادت مياه عين زبيدة وكان ذلك بهمة زائر هندى كريم من أصحاب البر والإحسان يقال له «الماس أغا» وشرع هذا الرجل فى حفر بئر بالقرب من مجرى عين زبيدة ، وعمق البئر حتى يزيد من مياهه بينما هو يعمق هذا البئر ظهر مجرى ماء تحت التراب ، فسماه عين الزعفران وأجراها إلى مجرى عين زبيدة ، فوحد بين الماء وبين ذلك البئر سنة (١٢٦٣).

وأهمل ما رممه وجدده محمد على باشا والى مصر تحت رعاية السلطان محمود خان ، وفى غضون خمسة وثلاثين عاما وتهدمت عدة مواقع مما جدد ورمم ، وظهرت مشكلة ندرة المياه فى مواسم الحج ، ولم يبلغ (١) الأمر إلى السلطان ومقام الخلافة الإسلامية ، فبدأ أهالى الحرمين يتوجسون خيفة من انقطاع ماء عين زبيدة كلية ؛ إلا أن أحد الزوار الهنود من قبيلة ميمن وهو «الشيخ عبد الرحمن سراج» طهر وعمر ذلك المجرى مستخدما مائتى نفر يوميا فى ظرف شهرين ، وهكذا نفث عن الناس كربتهم وذلك عام (١٢٩٥).

__________________

(١) لأن خزينة وزارة الأوقاف السلطانية كانت تصرف كل سنة مقدارا غير قليل من النقود.

١٤٨

وبما أن الشيخ عبد الرحمن سراج كان محبا للخير لم يقتنع بتعمير وتطهير مجرى عين زبيدة ؛ بل امتد عمله إلى إجراء زمزم الشريف الذى كان يستعمل فى داخل الحرم الشريف إلى محل بعيد عن الحرم ، لأن المجرى الكبير المديد الذى أنشئ فى صدر الإسلام أصابه التلف والخراب مع مرور العصور ، فرممه على أحسن وجه وعمره ، ثم عمر وسوى الأماكن التى فى حاجة لذلك فى خارج الحرم وداخله وبهذا خدم الجماعة الإسلامية أعظم خدمة.

وكان الشيخ عبد الرحمن سراج كما يروى يشرف بنفسه على العمال ، وكان يرجوهم أن يقوموا بأعمالهم على أحسن وجه حتى يتم العمل فى متانة ورصانة ويوصيهم بذلك ، واستطاع أن ينتهى سواء من مجرى زمزم أو المواقع الأخرى فى ظرف ثلاثة أشهر أو أربعة مستخدما يوميا ما بين مائتى عامل أو ثلاثمائة منهم .. ألا فليرض الله ـ سبحانه وتعالى ـ عنه وليوفقه فى القيام بأعمال خير أخرى.

وبعد سنتين من إصلاح الشيخ عبد الرحمن سراج الهندى للمجرى المذكور قدم غنى أفندى من حكام الولايات فى الهند مبلغا قدره (٤٠٠٠) ليرة عثمانية وذلك من أجل إتمام تعمير وتعميق المجرى المذكور ، وقد حفظ هذا المبلغ فى خزينة المديرية للإنفاق منه حينما تستدعى الحاجة وذلك فى عام ١٢٩٧.

آخر تعمير لعين زبيدة

وقد رمم مجرى عين زبيدة فى عهد والى مصر محمد باشا كما سبق ذكره آنفا ، إلا أن هذا التعمير كان جزئيا يشبه إصلاح الطرق هنا وهناك.

قد تهدمت مجارى الماء بسبب السيول التى تتعاقب بكثرة فى البلاد الحجازية نتيجة لخصائص جو هذه البلاد ، واحتاجت إلى تعمير شامل ولكن انشغال أولياء أمور الدولة بهمومها المتوالية حال دون الاهتمام بمصالح أمور الحجاز لذا لم يعمر مجرى عين زبيدة فترة طويلة ، وبقاء المجارى دون تعمير بعد تهدمها تدريجيا وترك العقود والدعائم دون ترميم أدى إلى نقص المياه يوما بعد يوم ، وهى قوام حياة الأهالى.

١٤٩

ودب الخراب فى المجرى وتصدع فضاع الماء الذى تسرب من بين الصدوع والشقوق ، ولو بقيت القنوات على تلك الحال فترة أطول سوف يؤدى ذلك فى المستقبل إلى ابتلاء أهل مكة بضيق شديد من قلة المياه ، ولما أدرك الكل ما ينتظرهم عرضوا الأمر على مقام الخلافة ، فجاء الأمر السلطانى بتكوين لجنة من أعيان مكة وجدة تعنى بتعمير مجرى عين زبيدة وتسويتها وترميمها ، وعين لرياسة تلك اللجنة الشيخ عبد الرحمن سراج أفندى الذى كان عمر وأحيا عين زعفران بإنفاق مئات من الليرات الفرنسية وذلك فى المحرم سنة (١٢٩٦).

وكان من أهم ما كلفت اللجنة به تعمير ذلك المجرى بطريقة متينة ورصينة ، وأخذ نفقات التعمير من خزينة الدولة ودون إحداث خلل عند الإنفاق ، وبما أن الخزينة المالية للدولة تمر بأزمة حادة رأت تلك اللجنة ألا تكون حملا على خزينة الدولة وأن تدبر أمورها على هذا الأساس ، وكان الممولون المسلمون يتمنون من فترة أن يشتركوا فى تعمير عين زبيدة ، وعلى هذا جمعت كثير من المعونات المالية من أهالى جدة ومكة بحثّ اللجنة وسعيها الحثيث.

وأعطى الرئيس المذكور الشيخ عبد الرحمن سراج بمفرده خمسمائة روبية (٥٠٠٠ قرش) كما أن أصحاب الخيرات من الممالك الإسلامية أرسلوا معونات مناسبة لثرواتهم : فأرسل على خان (١) من ولاة الهند وحاكم (رانبور) (١٠٠٠٠٠) روبية وملكة (بهوبال) «السيدة جيهان بيكم» (٢٠٠٠٠) روبية والشيخ «عبد الغنى بهادر» من مشاهير أصحاب الخيرات وابنه «محمد أحسن الله» خان بهادر كل واحد منهما (٢٠٠٠٠) روبية وسيد عبد الواحد المقيم فى (كلكتا) ألفين وخمسمائة روبية (٢) وأرسلوا كل هذه المبالغ مع «الحاج نور محمد زكريا» وكيل صحيفة الجوائب فى الهند.

وهذه الإعانات من قبل حكام الهند الكرام غمرت نفوس أهل مكة بالبهجة والسرور ، ولما وصلت الإعانة الهندية إلى جدة وكان مقدارها (١٦٣٥٠٠٠)

__________________

(١) قد أدى حضرة على خان فريضة الحج فى سنة (١٢٨٩) ، وأحسن إلى فقراء المدينة ومكة بمبالغ كثيرة ، وأهدى كتابا من تأليفه للحجرة المعطرة يحتوى على المدائح النبوية.

(٢) الروبية الواحدة تساوى عشرة قروش.

١٥٠

قرش وقد ذكر أعضاء اللجنة وجمع غفير من الأهالى المحسنين بالحسنى ودعوا لهم بكل خير أن اللجنة الخاصة التى تشكلت فى مكة للإشراف على إصلاح وتعمير مجرى عين زبيدة كما سبق ذكره أعلنت بمهمتها الجهات الأربعة من أقطار الممالك الإسلامية ، وفى ذلك الوقت تشكلت فى مصر المعروفة برجالها المحسنين لجنة من وزارة المعارف المصرية ، دبروا لها فروعا فى مديريات البلاد المصرية كما فعل مسلمو الهند ، واستطاعت أن تجمع فى فترة قصيرة (١٥١٦٧) قطعة ذهبية مصرية وكسورا وأرسلتها إلى مكة المكرمة.

وهذه المبالغ هى مبلغ (٤٢٠٠) ليرة من مديرية الغربية و (١٦٠٠) ليرة من المنوفية و (١٢٢٦) ليرة من القليوبية و (٦٠٠) ليرة من قنا و (٧٨) ليرة من الجيزة والباقى من موظفى الدوائر الخديوية وأرباب الحمية من رجال القاهرة.

وبناء على الأخبار التى أعلنتها الصحافة المصرية أنه يؤمل أن تصل إعانة مديرية الغريبة إلى (٥٠٠٠) ليرة كما أن المديريات الأخرى التى لم ترسل المعونات بعد ينتظر أن تصل منها معونات كثيرة.

وبناء على أخبار التحقيقات التى نشرتها صحيفة وقت فى نسختها الصادرة فى ٢٦ ذى الحجة سنة ٩٧ أن أهالى الهند المسلمين قد جمعوا إلى الآن مبلغ (٦٠٠٠٠٠) روبية ومازالوا يجمعون. وقد نشرت صحيفة حوادث مستقية أخبارها من صحيفة الوطن المصرية وبناء على الفقرات التى أدرجتها فى نسختى ٤٤٨٩ و ٤٥٠٣ أن المعونة الهندية وصلت إلى (٦١٠٠٠) قطعة ذهبية مصرية وأن رئيس الجمعية الهندية للمعونات عبد اللطيف خان بعث ابنه إلى السويس لعقد مقاولة مع الجمعية المصرية للمعونات ، كما أوفدت جمعية الإعانة المصرية أحمد ناشد بك إلى مكة المعظمة لتقديم النفقات اللازمة لتعمير عين زبيدة ، وبناء على الرسالة التى بعثها أحمد ناشد بك الذي أرسل من إمارة مصر للتحقيق فى تعميرات عين زبيدة ونشرتها صحيفة الجوائب ، أن المسافة من جبل عرفات الذى

١٥١

فيه عين زبيدة إلى مكة المكرمة تبلغ ستة آلاف ذراع تقريبا ، وقد عهد بإصلاح مجارى عين زبيدة فى هذه المسافة للمهندس (١) الذى عينته الجمعية.

أما المواضع التى أصلحت علاوة على ذلك فهى المسافة الممتدة من عرفات حتى وادى النعمان وقدرها (٣٣٥٠) ذراعا كما تم الاتفاق مع المهندس المذكور على أن تكون تكاليف كل ذراع ١٦ ريالا وثلاثة أرباع الريال ، وقد أنجز تلك المهمة على الوجه الأكمل وكان ذلك فى ٢٩ رجب سنة ١٣٠٠ ه‍.

قد بلغ ما جمع من حجاج الهند وأهالى مكة وغيرهم من المعونات إلى هذا التاريخ مبلغ (٨٢١٦٨) قطعة ذهبية وأرسل (٦٧٠٠) قطعة ذهبية منها من صندوق بومباى.

وقد أنفق مبلغ (٢٨٧ ، ٥٥) قرشا لإصلاح وتعمير مجرى عين زعفران التى ضمت لعين زبيدة وذلك بشرط أن يحسب الريال بثمانية وعشرين قرشا ولليرة خمسة عشر قرشا والباقى من المبلغ صرف لطرق عين زبيدة وإصلاح مجاريها.

والسبب فى اضطرار اللجنة إلى إنفاق هذه المبالغ الطائلة من الدنانير الذهبية هو انسداد وانغلاق المنبع البالى لعين زبيدة ، يعنى انسداد مجمع مياه وادى حنين ووادى النعمان وانغلاق ذلك المجرى الواسع وأيلولته للخراب.

إن ذلك المجرى يأتى إلى قهوة عرفات من تحت الأرض وعن طريق وادى النعمان ، وبعد ذلك يجرى على وجه الأرض أحيانا ومن داخل الأرض حتى يصل إلى مجرى مغطى يسمى فقير الدبيلو «خومة وخاسرة» حتى يصل إلى قناة صناعية تسمى «بازان الجديد» وهنا يخرج على سطح الأرض ويمر بقناتين صناعيتين قنطرة العابدية والمزدلفة ، ويصل إلى رقم الوبره ومنه إلى مفجرة وبعده بازان الجنة الواقعة فى منى وعقب ذلك إلى القناة الصناعية «بازان القاضى».

وبعد ذلك يهبط بحذاء دار الشريف عبد المطلب ويصل إلى مكة المعظمة ، وإذا ما قيست هذه المسافة فهى تصل إلا ثلاثين كيلومترا.

__________________

(١) هذا المهندس هو صادق بك ممن تولوا رتبة قائمقام الأركان الحربية.

١٥٢

وقد قسمت اللجنة أعمال إنشاء عين زبيدة وتعميرها إلى قسمين القسم الداخلى والقسم الخارجى.

القسم الأول : المواقع التى يعمر خارجها :

وقد بدئ فى تعمير هذا القسم من جهة وادى النعمان حتى المجرى. إن مقدار خمسة عشر مترا من المجرى المذكور قد هبط واندرس وانمحى ، وبدأت اللجنة أعمالها من هناك وفتحت مجرى جديدا يصل طوله لأربعمائة متر تقريبا ، وأوسع من الأول ويسع داخله أن يمشى فيه إنسان ويتحرك ، وبنى بشكل متين ورصين.

وبعد ما أنهت اللجنة أعمال المجرى على خير وجه أمر بفتح جميع أطراف المجرى ابتداء من وادى النعمان إلى قهوة عرفات. ومن هناك إلى جبل الرحمة ومن هنا إلى حومة وخاسرة وبازان الجديدة وقنطرة العابدية إلى المزدلفة ، ومن المجرى أجزاء قد آلت إلى الخراب بحيث لا يمكن بقاء المياه فى داخلها فتركت هذه المجارى القديمة ، وأمر بحفر مجارى جديدة كما أنها عاينت المواقع التى يمكن إصلاحها بعد أن أفرغتها من المياه وتفقدتها من الداخل ومن الخارج ، «ثم أمرت بتعميرها واستخدمت الأسمنت فى تغطية جدران المجارى ، وهكذا شيدته تشييدا رصينا.

ثم أمرت بتغطيتها بأغطية حجرية وفتحت فى بعض مواقع المجرى ما يشبه الأحواض حتى يستقى منها عربان البوادى ، ويسقون دوابهم بعد أن أصلح المجرى حتى بئر زبيدة كما سبق شرحه.

فأخذت المياه تجرى فيه بغزارة حتى خربت بعض الأماكن الضيقة من المجرى ، ورئى أن تفتح مثل هذه الأماكن وتوزع مياهها ؛ ولأجل ذلك فتح بجانب مسجد المزدلفة وبين المزدلفة وعرفات حوضان عميقان للهبوط والصعود على جانبيهما ، كما بنى منبع عظيم يهبط إليه ويصعد منه بالسلم وتركت الينابيع القديمة على حالها بعد تعميرها وتقويتها.

١٥٣

ونتيجة لإصلاح المجرى وتعميره بهذا الشكل أخذت تجرى إلى مكة فى كل دقيقة (٥٠٠٠) أوقية ماء وبما أن نصف هذه الكمية من المياه تكفى لإرواء كل أهالى مكة وسقيهم ، فالمياه الباقية تجرى إلى بركة الأماجد حيث تكونت حولها بساتين شاسعة.

القسم الثانى : تعمير المواقع الداخلية :

أقيمت فى مكة تسعة صهاريج احتياطية وعدد من خزانات المياه ذات الصنابير ، وشرع فى إنشاء الصهاريج الاحتياطية حيث أنشئ صهريج عظيم فى اتساع مائة وخمسون مترا مربعا ، إن هذا الصهريج في حجم يكفى لاستيعاب (٤٤٧٠) أوقية من الماء بعد ما تم إنشاء هذا الصهريج ، أنشئ صهريج آخر فى الحى المتصل بالموقع المسمى بالشيخ محمود يعنى فى حارة الباب ، واتساعه أربعة وستون مترا مربعا ، ويستوعب هذا الصهريج (٢٠٠٠) أوقية من ماء وبعد ذلك أنشىء الصهريج الذى فى حى جياد هذا الصهريج فى اتساع ٢٢٠ مترا مربعا ويستوعب (١٢٩٤٠٠٠) أوقية ماء وهو أكبر الصهاريج حجما ، وبعد الانتهاء من صهريج جياد أنشئ عقب ذلك الصهريج الذى يسمى دكة الحارة المتصل بحى حارة الباب ، وسطح هذا الصهريج فى اتساع ستة وثلاثين مترا مربعا ويستوعب (١٥٠٠٠٠) أوقية ماء ثم أنشئ الصهريج الذى فى حى الشامية باتساع (١٨٠) مترا مربعا ويستوعب صهريج الشامية (٢٦٠٠٠٠) أوقية ماء.

وبعد الانتهاء من بناء هذا الصهريج أقاموا صهريج شعب عامر ، إن هذا الصهريج خلف مسكن السيد الشريف عون رفيق باشا وفى اتساع أربعة وثمانين مترا مربعا ويستوعب (٨٥٤) أوقية ماء.

وبعد إكمال صهريج شعب عامر أقيم خزان فى حى كشاشية على مساحة ثمانية وأربعين مترا وسعة هذا الخزان (٤٠٠٠٠٠) أوقية من الماء ، وبعد ذلك أقيم خزان فى شعب بنى هاشم ، وكان هذا فى حجم شعب عامر ويستوعب نفس الكمية من الماء ، وبعد إقامة تلك الخزانات التسع المذكورة تهدمت خزانة

١٥٤

باب العمرة فأعيد تجديدها ، وبعد ذلك أقيمت ثلاثة صهاريج كبيرة بجانب فرن أميرى الواقعة أسفل قلعة جياد ، وسواء خزانة أميرى أو هذه الخزائن أنشئت علي طرفيها أحواض ، وبنى تحت الأرض صهريج كبير ووضع في جهة المسعى خمسة عشر صنبورا متوسطا ، ووضع فى جهة عمارة أربعة صنابير كبيرة ثم حفر وصنع حوضين ذوى فسقية واحدة بجانب مركز الشرطة الجديد وفى القسم السفلى منه والكائن فى باب الصفا.

وفى النهاية ركبوا فى جهة باب الصفا سبعة صنابير وفي جدران مكتبة شروانى محمد رشدى باشا الكائنة فى المدرسة التى تحت باب الصفا اثنين وعشرين صنبورا ، وفى الجهة الخارجية من باب الوداع ستة وأربعين صنبورا ، فى موقع قريب من باب العمرة عشرين صنبورا ، وفى وسط المدرسة الداودية خمسة وعشرين صنبورا ، كما أنشئوا ستة أبنية ذات صنابير حجرية دائمة الجريان.

ولما كانت مبانى هذه الصنابير فى غاية الرصانة والمتانة فأهل الإيمان وهم يتوضئون منها فى الأوقات الخمسة ، يرطبون ألسنتهم بالدعاء بازدياد قوة الإسلام وشوكته وعزته ، وبعد ما انتهت عمليات تركيب الصنابير أمدّ بالماء الخزان الكائن وسط العمارة المصرية التى وضعت أسسها فى مكان مواجه لباب الصفا ، ومن هذا الخزان إلى الحوض ذو الفسقية بواسطة أنابيب رصاصية ، أمدت مستشفى الغرباء بمقدار كاف من الماء بالأنابيب الحديدية من الخزان الذى أنشئ فوق سوق الليل ، وركبت فى مطبخها وصيدليتها وحمامها ومغسل ملابسها صنابير كبيرة دائمة الجريان.

كما أنشئوا فى الحديقة التى يتنزه فيها المرضى حوضا ، ومن هنا إلى عمارة السلطان الخاصة بالذين يعنون بالحدائق والبساتين ، وحولوا تلك الأماكن إلى جنة وتحولت عين زبيدة الآن إلى نهر صغير فالمياه الجارية فى داخل مكة يضيع نصفها عبثا ، وأوصلت اللجنة المجرى إلى حارة الباب المتصلة بالشيخ محمود ، وأنشأت هناك صهريجا احتياطيا واستفاد أهل مكة من توصيل المياه إلى هذا المكان ، وأخذوا

١٥٥

يبنون المنازل والدكاكين فى الأماكن الممتدة نحو ميدان الشيخ محمود ، وقد تحولت تلك الضاحية من المدينة بعد وصول المياه إلى مدينة صغيرة مستقلة.

وبهذا قد أدركت اللجنة أن مكة الله ستتسع إلى تلك الأماكن ولذلك تقرر مد مجرى عين زبيدة إلى ميدان الشيخ محمود وشرع فورا فى تنفيذ ما هو لازم ، وقد أنفقت (٧٥٠٠٠) قطعة ذهبية مصرية إلى أن وصلت عطيات الإنشاء إلى هذا المكان ، إن تزيين تلك المدينة في جميع جهاتها على هذا النحو لم يكن بسعى من لجنة عين زبيدة فقط بل كذلك بفضل عثمان نورى باشا والى الحجاز والمهندس صادق بك.

المدارس الأربعة

التي أقامها السلطان سليمان

في مكة وكيفية إدارتها وتوجيهها

بعد ما فرغ السلطان ـ طاب ثراه ـ من تعمير عين زبيدة بنى أربعة مدارس ضخمة خاصة بعلماء المذاهب الأربعة وأودع في كل واحدة من تلك المدارس خمسة عشر طالبا ومدرسا ، وجعل أجر المدرس سنويا خمسين قطعة ذهبية عثمانية ، وللمعيدين أربع قطع ، وللطلاب والفراشين قطعتين ذهبيتين.

وجعل الإشراف على إدارة المدرسة الخاصة بالمالكية (١) والبوابين للقاضي حسين بن أبى بكر بن الحسين الذى نصب ناظرا للحرم الشريف بضم خمسين قطعة ذهبية لأجر وظيفته الأصلية ، وتعد المدرسة المالكية أكبر المدارس الأربع وجعل لإدارة مدرسة المذهب الحنفي الشيخ القطب المكي المفتي (٢) الحنفي المذهب ومن مؤرخى مكة المعظمة ، ووجهت إدارة المدرسة

__________________

(١) لقد سكن مولانا باقي شيخ شعراء الروم في هذه المدرسة حينما كان شيخا في مكة ، وبما أن الشيوخ الذين كانوا يذهبون إلى مكة المكرمة أقاموا في هذه المدارس ، مازال قضاة مكة يسكنون في هذه المدرسة ويقومون بوظائفهم ، وهي مدرسة كبيرة في اتصال باب السلام بباب الزيادة.

(٢) ولم يكن للمذاهب الأربعة من يتولى الفتيا إلى عام ثمانمائة وسبعة ما عدا المذهب الشافعي ، وفي خلال هذا العام عين من يتولى الإفتاء للمذهب المالكي والحنفي والحنبلي ، كما ذكر سبب ذلك في مباحث المقامات الأربعة.

١٥٦

الشافعية إلى عبد العزيز الزمزمي من علماء المذهب الشافعي ، واشترط أن يدرس في المدرسة الحنفية علم التفسير وعلم الطب وعلم أصول الفقه ، وأن يدرس في المدرسة الشافعية الفقه الشافعي ، وفي المدرسة الحنبلية (٢) كتب الحديث الستة وذلك في سنة (٩٧٢).

إن إحدي هذه المدارس التي بناها السلطان سليمان جعلت لإقامة قضاة مكة كما ذكر آنفا ، ولكن المدارس الأخري قد استولي عليها متسلطو الزمن ، ولم يبق أي حكم لشروط واقفها ، وبينما كان أحمد باشا ابن أخت محمد علي باشا والي مصر محافظ مكة استطاع تخليص تلك المدارس من أيدي مغتصبيها ، واشتراها بصورة نهائية ، وبني هناك عمارة عظيمة وجعلها وقفا لمجاوري الحرم من المسلمين وجعلها سكنا خاصا لإقامة المجاورين ـ رحمه الله تعالى ـ جزاء ما قدم.

وللمدرسة السليمانية ست وأربعون حجرة ولكل حجرة جراية قدرها ثلاثة أرادب حنطة ، وللمدرسة الداودية سبع وأربعون حجرة ولكل حجرة جراية قدرها ثلاثة أرادب حنطة أيضا ، ولمدرسة الشهيد محمد باشا ست عشرة حجرة ولها نفس المقدار من الجراية ، ويقيم في بعض حجراتها طلبة العلم وفي الأخري ، من لا مأوي لهم من الغرباء والفقراء يتعيشون من الرواتب الموقوفة للحجرات ، وفي مكة المعظمة ثلاث تكايا إحداها للخالدية والأخرى للشاذلية والثالثة للنقشبندية ، التكية الخالدية فوق جبل أبي قبيس ، والنقشبندية كذلك فوق جبل أبي قبيس ، والتكية الشاذلية في ناحية جياد.

* * *

__________________

(٢) لم يكن في مكة تلك الفترة عالم حنبلي يصلح لتدريس المذهب الحنبلي ؛ لذلك اتخذت الدار مدرسة للحديث ، ووكلت ادارتها إلى صهر القاضي حسين بن أبي بكر بن الحسين معين بن اصف خان ، ويشرف الآن على هذه المدارس علماء المذهب الحنفي.

١٥٧

الصورة السادسة

تجديد حرم المسجد الحرام فى عصر السلطان سليم

بما أن أروقة الحرم الشريف وسقفه كانت كلها من الخشب ولم تعمر منذ زمن طويل أشرف كثير من مواضعها على الانهيار ، وتخلخلت مجموعة من أخشاب أسقفها ومالت للانهيار فى ساحة الحرم الشريف ، كما أن الأروقة التى فى الجدران الشرقية مالت نحو كعبة الله ومداخل أسقفها انفصلت عن الجدران وأوشكت على الانهيار.

وقد غرزت بعد المساند تحت السقوف المذكورة وفقا للمسوغ الشرعى ، وأمكن الاحتفاظ بها على حالتها القديمة ، إلا أن السقف آل للسقوط يوما بعد يوم حتى أصبحت الصلاة تحت هذا السقف غير ممكنة ، وبما أن دوام هذه الحالة لن يخلو من الخطر فعرض الأمر من قبل إمارة مدينة مكة ونظارة الحرم الشريف والكعبة المعظمة على العتبة السلطانية ، فصدر الأمر السلطانى من قبل السلطان سليم خان الثانى بن سليمان خان ببناء الحرم الشريف متينا رصينا ، بعد هدم السقوف والأروقة المصنوعة من الخشب كلها وإقامة أعمدة الرخام مكانها وتذهيب أعلاها ، وأبلغ الأمر السلطانى من قبل مقام الصدارة العظمى إلى أمير أمراء مصر سنان باشا طالبا منه أن يعين شخصا مناسبا لأمانة الأبنية المقدسة ، وتدبير الأشياء اللازمة لذلك ، وعهد بأمانة الأبنية المقدسة لأحمد بك من أمراء مصر ودبر كل ما يلزم لمهمات البناء ، وأبلغ كل ذلك إلى مقام الصدارة وأرسل إلى الأمير المذكور بتوجيه من محافظة جدة الأمر العالى بإحالة أمانة البناء العظيمة إليه ، وأخذ الأمير معه الأمر السلطانى وما تم تدبيره من لوازم البناء وتوجه إلى بندر السويس ، وركب السفينة المجهزة ووصل إلى جدة المعمورة فى أواخر سنة (٩٧٩) ثم إلى مكة المكرمة حيث تلاقى مع من عين فى الفرمان للإشراف على

١٥٨

أمور البناء ، وهو ناظر الحرم الشريف القاضى حسين بن أبى بكر الحسينى ، وشرع فى الاستعداد لهدم البناء القديم ، وبناء الجديد ، وبناءا على رأى المهندس محمد أفندى من ضباط الباب العالى والذى أرسل للإشراف على العمارة وذلك فى أواسط شهر ربيع الأول سنة (٩٨٠) (١) هدم الجدار الشرقى للمسجد الحرام من باب على إلى باب السلام كاملا ، ومهدت أرضه ، وفى جمادى الأولى من نفس السنة وفى يوم الجمعة وضع حجر الأساس بعد أن دعا أمام جميع الأهالى بالتوفيق.

وبما أن الأزقة التى كانت تحيط بالجوانب الأربعة للحرم الشريف فى ذلك التاريخ كانت على نسق واحد ، وهو السقوف الخشبية المرفوعة على الأعمدة الرخامية ، وبناء على الأمر السلطانى كان المقرر أن تبنى فوق السقوف قبب لا تبدل ولكن الأساطين القديمة لم تكن تتحمل ثقل تلك القبب ؛ حتى وإن كانت صغيرة فلن تصل رصانة البناء ومتانته إلى الحد المطلوب ، فرأى محمد أفندى المذكور أن يهدم الأعمدة ويبنى قوائم من حجر شمليس أصفر اللون بعد كل ثلاثة أعمدة ، وقرر أن يثبت سقف الحرم الشريف ويحكم بناءه فأنشأ قببا مزخرفة جميلة.

ووفق هذا القرار واصل عمله من باب على إلى باب السلام ، ومن هنا إلى باب عمر الواقع فى آخر الجدار الشمالى وهكذا أتم عمله بالكمال بعد أن بنى الجهتين الشرقية والشمالية للمسجد الحرام وذلك فى سنة (٩٨٢) وفى أثناء ذلك آل بناء عمر السلطان سليم إلى نهايته ، وخلفه على العرش السلطان مراد الثالث طاب ثراه ، وتوقفت عمليات البناء مدة من الزمن ولكن أحمد بك تلقى أمر السلطان باستئناف المهمة وشرع فى العمل من جديد ، وفى غضون عامين بلغ بالبناء حد الكمال ، وزين باب الحرم الشريف وجدرانه وأحجاره باسم جناب السلطان ، وحلى باب المعلى وما حوله من السقوف والأروقة بالنقوش الذهبية المتنوعة وكان ذلك فى سنة (٩٨٤).

__________________

(١) فى السنة المذكورة حدث سيل خطير ودخل إلى الحرم الشريف وارتفع الماء بقدر قدمين فاستبدّ الاضطراب والحزن بأهل مكة.

١٥٩

وكانت التعليمات التى تلقاها أحمد بك من مقام الخلافة عندما جددت مهمته تشمل زخرفة الأماكن المناسبة من المسجد الحرام بالخطوط النفيسة المذهبة ، وبناء على ذلك أمر بكتابة اسم الجلالة واسم الرسول وأسماء الخلفاء الراشدين على طلاء الجدار الشرقى من الداخل ، بسمك أربعة أصابع بحروف جلية ونفيسة بعد إتمام عمليات المسجد الحرام ، كما أمر بكتابة الآيات المناسبة على الجدران بين العلامتين الخضراوين ، وهكذا زخرف داخل المسجد الحرام وخارجه كما أمر بكتابة الآيات الخاصة بأبواب المسجد فوق عقود الأبواب ، واسم الله واسم نبى الله وأسماء الخلفاء الراشدين أعلى الأعمدة التى تقع فى الصف الأول من الساحة الرملية. وكتب تلك الكتابات بخط جميل نفيس وزخرفت بالذهب ، وقد نظمت الكتابة بطريقة بديعة بحيث كتب أعلى كل عمود خامس اسم النبى صلى الله عليه وسلم.

ولم يسع الذين شاهدوا تلك الزخارف إلا أن يعترفوا بأن المسجد الحرام لم يزين فى أية مرة عند تعميره وتجديده كما زين هذه المرة ، وفى هذه المرة قد عمّرت رمّمت المآذن التى فى باب عمر وباب الوداع بشكل جميل ، يسرّ الناظرين ، وقد حفر أحمد بك خارج جدران المسجد الحرام الجنوبية بإنفاق مبالغ طائلة ، وذلك قبل هدم جدران الحرم الشريف الجنوبية والغربية ، وذلك لتوسيع مجرى السيل لأن مجرى السيل قد امتلأ مع مرور الزمن وارتفعت أرض المجرى إلى الدرج الثانى عشر للأبواب الجنوبية ؛ لذا كان الدخول فى الحرم الشريف يتم عن ثلاثة أدراج.

وإن كان من المستحيل ألا يملأ السيل المجرى ويخربه إلا أنه كان يتم حفر المجرى وتعميقه كل عشر سنوات ، ونقل ترابه إلى خارج المدينة وكان ذلك من

١٦٠