موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٢

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

وقبل عامين من هذا كان الملك المؤيد قد طلا باب كعبة الله بالذهب وزخرفه ، كما أرسل منبرا ثمينا وسلما جديدا ، وضع السلم في داخل كعبة الله للصعود إلى سطح البيت ، كما وضع المنبر في مكانه الخاص في سنة (٨١٨).

وبعد أربعة أعوام من هذا انهارت مظلة (١) المذهب الشافعي ، أي قبة زمزم فجأة وأصبحت قطعا وخرابا ولكنها جددت فأصبحت بناء محكما بديعا رائعا في عام ٨٢٢ ه‍ ، وفي نفس العام طهرت ووسعت أحواض ماء زمزم وعين بازان التي خربت من السيل ، كما نظفت وعمقت قنواتها ومجاريها التي امتلأت بالطين والتراب في سنة (٨٢٣). إن السطح الشريف لبيت الله الذي كان قد رمم وأصلح قبل أربعة عشر عاما قد جدد مرة أخرى ، كما أصلحت الأماكن المحتاجة للإصلاح من المسجد الحرام ، فبدلت قطع الرخام التي كانت مفروشة في داخل بيت الله بأخرى جديدة. وبدلت الصفائح التي كانت على طلاء جدران الكعبة الداخلية ثم أعيد كل شىء إلى مكانه بعد تغيير ما لزم تغييره وإصلاح ما أمكن إصلاحه. وأراد السلطان برسباي سلطان مصر تغيير زخارف الأعمدة الداخلية لكعبة الله ، وعرض الأمر على والى مكة وبتوجيه من أمانة الأبنية المقدسة أرسل إلى الحجاز ذات المناقب السنية الأمير (مقبل) في سنة ٨٢٤ ه‍. وصل الأمير مقبل في أوائل السنة المذكورة إلى مكة المكرمة ، وابتدر في أداء مهمته بعون مادي ومعنوي من قبل والى مكة ، فرمم وأصلح الأماكن المحتاجة للتعمير والترميم من الحرم ثم هم وأصلح سطح بيت الله على الوجه المطلوب ، واقتلع قطع الرخام التي تغطي أرضية كعبة الله كما اقتلع الصفائح التي تغطي جدران كعبة الله ، فبدل قديمها وأصلح ما يمكن إصلاحه ثم وضع كل شىء في مكانه ، وهكذا جدد من هيئة بيت الله القديمة فأعاد له رونقه وجماله.

وبعد أن زخرف الأمير مقبل الأعمدة التي في داخل كعبة الله وجدد قطع

__________________

(١) كانت هذه المظلة فوق باب زمزم وفي عام ٧٠٢ ه‍ ، أمر ملك مصر بتسقيف المظلة حتى تصلح لجلوس المؤذنين وأداء مهمتهم.

٨١

الرخام التي في داخل الحطيم الكريم وخارجه أصلح وجدد كمر باب الجنائز وكان يطلق على باب الجنائز قديما (باب العباس) ولما أصبح إدخال توابيت الموتى من هذا الباب عادة أهل البلد أطلق عليه (باب الجنائز). إن أهالي الحرمين كانوا يدخلون جنازاتهم أولا في الحرم الشريف حيث يصلى عليها ثم يدفنونها في مقابرهم.

إن التوابيت التي يستخدمها أهل مكة المشرفة لا تشبه التوابيت المستخدمة عندنا فإنها قطعة خشب مستطيلة مثل الطوق وهي عادة باقية من عهد الجاهلية بناء علي اعترافهم ، وتغطي جثة الميت الذكر بقطعة قماش مستوية بينما تغطّى جنازة الأنثى بقطعة قماش مقوسة.

وأخيرا جدد عدة عقد في الطرف الشمالى من المسجد الحرام ، ثم جدد مداخل باب العباس وباب علي ، كما جدد مدخل (باب الصفا) الأوسط ومواقع (باب العجلة) و (باب الندوة الزائد) وأضاف إلى (باب الزيادة) ثلاثة كمرات.

ثم رفع الأعمدة التي تحمل هذه العقد ، وأصلح ما يجب إصلاحه من الأبواب الأخري ، وغير الستارة الحمراء التي في داخل الكعبة ، ثم ألصق وعلق اللوحات الرخامية المزخرفة والتي أمر السلطان برسباي بتذهيبها وترتيبها على جدران كعبة الله الداخلية ، وأنهى مهمته في صفر الخير من سنة ٨٢٥ ، وعاد إلى مصر وقد جدد السلطان برسباي بواسطة الأمير مقبل قطع الرخام التي في داخل بيت الله كما بدل وجدد طلاء جدران بيت الله الداخلية كما عمر باب الجنائز.

كما أنه أنعم وأحسن إلى الحجاج الذين حجوا بالقافلة المصرية إحسانا جما ، وكان يبعث من المحمل المصري مظلات يقيمها حيث يبيت الناس ليظلل عليهم ، ويروى أن هذا الشخص كان يأمر بذبح كثير من الأغنام وتوزيع لحمها مع الخبز والبقسماط على الحجاج.

٨٢

وبعد عودة الأمير مقبل بسنة بعث الملك المظفر من ملوك اليمن المنقرضة مبلغا من المال مع رسوله الخاص ، ورجا أن يعمر ويصلح ما يقتضي الأمر إصلاحه من مواقع الحرم الشريف. واتصل الرسول بوالي مكة المعظمة واستصدر إذنا من الحكومة المصرية بواسطة الوالي للقيام بمهمته ، ولما كان سطح كعبة الله في حاجة إلى التعمير والإصلاح ؛ فعمر قطع رخام السطح وأصلحها ثم سجل ما قام به على لوحة رخامية وألصقها على الجدار الغربي للكعبة المعظمة في سنة ٨٢٦.

وظلت كعبة الله والمسجد الحرام على حالهما بعد إصلاح الأمير مقبل ثمانية عشر عاما ولم يظهر فيهما ما يوجب إصلاحهما شرعا ؛ إلا أن الحال لم يستمر طويلا بعد ذلك واحتاجت بعض أماكن البقعة المقدسة للتعمير بل وصل هذا إلى درجة الوجوب ، فأرسل الملك جاقمق العلائي من ملوك الشراكسة في مصر الأمير سودون محمد من أمراء مصر لتعمير قطع الرخام التي فوق سطح كعبة الله وما يقتضي الأمر تعميره من الحرم الشريف وذلك في سنة (٨٤٣) ولما وصل (سودون محمد) إلى مكة المعظمة بدل رخام سطح الكعبة الشريف كما غير الألواح الخشبية التي لم تعد صالحة في السقف العالي لكعبة الله ، ثم عمر وشيد المآذن التي آلت للسقوط ، ثم خلع كسوة الكعبة الشريفة ووضعها في داخل البيت الحرام. ثم أصلح وسوى الجدران الخارجية لبيت الله بطريقة جيدة خلال يومين ، وجدد قطع رخام الحطيم الكريم كما جدد باب المعلى لكعبة الله وجميع الأماكن المحتاجة للتعمير من الحرم الشريف السقوف والرفوف ، ثم عمر قباب مقام إبراهيم والمقام الحنفي وباب زيادة إبراهيم وطهرها ، وركب في المحل الكائن في شارع المسعى الشريف والملاصق لدار العباس وفي مقابل بازان ميلين أخضرين ومع هذين الميلين علق فوق كمري الصفا والمروة قنديلين ، وبهذا أنار شارع المسعى الشريف وزينه ثم عمر ورمم جميع المساجد النبوية التي في طريق عرفات الذي يبدأ من مقبرة المعلا وينتهي عند جبل الرحمة ، وطهر طريق عرفات بأن قطع الأشجار والأشواك التي في حذاء طريق المأزمين ؛ وهكذا أنقذ الحجاج

٨٣

المسلمين من هجمات أشقياء العربان وتسلطهم.

كان المعتصم بالله البغدادى أمر بأن توقد مشاعل في قوافل عرفات لإنقاذ الحجاج من هجمات الأشقياء ولحمايتهم وذلك في سنة (٢١٩) وإلى ذلك الوقت كانت الوسيلة للإنارة هي إشعال شمعة على سنام الجمل. كما أمر سودون محمد بقطع الأشجار البرية والكلأ الشائك والنباتات البرية التى كانت كثيفة وعالية لدرجة أنها كانت تقطع أقمشة السرج التي صنعت لجلوس الحجاج فوق ظهر الجمال ، كما كانت مكمنا للصوص الذين كانوا يختفون في داخل هذه الأشجار ويفرقون قوافل الحجاج ، وقد أنقذ سودون محمد الحجاج من القلق والاضطراب إذ قطع تلك الأشجار وحطم الحجارة ، ووسع طريق المأزمين ، وبعد فترة نمت الأشجار التي قطعها الأمير سودون محمد وارتفعت حتى تحولت إلى غابة فاتخذها أشقياء القبائل البدوية مكان اجتماع واحتشاد ، وأخذوا يمدون أيديهم لسرقة أبناء السبيل والحجاج كما كان يحدث في العهود السابقة ؛ لذلك أمر محافظ جدة المعمورة بأن تقطع تلك الأشجار وتحطم الصخور التي قد يكمن خلفها اللصوص ووسع طريق المأزمين أكثر من ذي قبل ، ولهذا لم يترك للصوص مأوى يختبئون فيه وتوفي في سنة (٩٥٠).

التذييل

إن شغدف ـ كما هو معلوم لدى أهل المعرفة ـ مخترع للجلوس في داخله وهو ثلاثة أنواع :

النوع الأول : من الشغدف يطلق عليه هودج على وزن جوهر.

ويطلق على النوع الثاني : منه (محفّة) على وزن معدّة.

ويطلق على النوع الثالث : منه شغدف بضم الشين وسكون الغين ، ولكن الأتراك حرفوا الكلمة فجعلوها شوطوف.

٨٤

والصحيح أن يقال : الشغدف ، وبما أن الهودج ذو قبة عالية ومغطى فهو خاص بالنساء ، أما المحفة مثل الهودج إلا أنه مكشوف لذا فهو خاص بالرجال ، أما الشغدف فهو مقعد خاص للرجال والنساء.

يصنع الهودج والمحفة من الخشب ، ولكن الشغدف يصنعه النجار من خشب سمكه ربع قدم وله رجلان والمقعد الذى سيجلس عليه ينسج من قشر سعف النخيل كأنه كرسى ، ويغطى فى شكل نصف قبة يشبه عربة الثيران وله غطاء من قماش القلاع أو من جلد أو بساط أو حصير. إن الشغدف وإن كان يصنع على الشكل الذى بيناه إلا أنه لا يمكن استخدامه إلا إذا أحكم ربط اثنين منهما فوق الجمل ، ويغطيان ببساط أو قماش آخر ويحمل فيهما حاجان ، بعد حمل الشغدفان على الجمل كما بينا وبالتصاق قبتيهما يأخذ شكل قبة المحفة المستوية ، ويصعد إليه حينما يكون الجمل واقفا بواسطة سلم له أربع أو خمس درجات ويجلس فيه ، إن الشغدف يستخدم فى طريق الحرمين كما أن الهودج والمحفة يستخدمان فى طرق مصر والشام. انتهى.

قد أسدى الملك جاقمق إلى الحرمين خدمات أخرى كثيرة وأصلح وأنشأ بركة المعلى التى مازالت قائمة فى خلال عام (٨٠٦) وقد خربت تلك البركة فيما بعد فأحيتها كريمة السلطان سليمان (مهر ماه) عندما أرسل سودون محمد إلى مكة المكرمة لترميم المسجد الحرام وتعميره. أرسلت كسوة مزينة من قبل شاه الفرس شاهرخ إلى القاهرة لتكسى كعبة الله ، وأرسلت تلك الكسوة فى نفس العام بالقافلة المصرية إلى مكة المكرمة ، وعلقت فى عيد الأضحى داخل كعبة الله وذلك لاتفاق تم بين الملك جاقمق وشاه الفرس الملك شاهرخ ، إن الأمير جاقمق أمير اصطبل الملك الأشرف المصرى عندما اعتلى عرش سلطنة مصر بضربة حظ كان قد أرسل أحد أمراء الشراكسة يسمى (جيج كيوفا) إلى هراة لعقد اتفاق مع شاه الفرس فى سنة ٨٤٢ ، وقد سر (شاهرخ) من هذا الاتفاق الذى تم بين الحكومتين العربية والفارسية أعظم سرور فأرسل تلك الكسوة الشريفة لتعلق على الكعبة ليظهر شكره ، كما استجلب الدعوات بإرسال الصرر لسكان الحرمين فى سنة (٨٤٣).

٨٥

كانت قلة سبل الماء فى داخل مدينة مكة المكرمة تسبب كثيرا من الضيق والمشقة عندما كانت المدينة تزدحم بالحجاج فى موسم الحج ، وكان أولو الأمر يتعرضون لكثير من المشاق والتعب لدفع ما يحدث من الشرور لقلة المياه. وأراد ناظر الحرم الشريف الشيخ بيرام إنقاذ الحجاج من العطش لقلة المياه ، وفى نفس الوقت أراد أن يوفر المياه فى مكة المكرمة فأنشأ سبيلا فى حى المعلى وعدة أحواض متينة فى ساحة عرفات وملأها بالمياه ، فروى عطاش المؤمنين فى سنة (٨٥٣) ومع مرور الوقت خرب السبيل والأحواض التى أنشأها الشيخ بيرام ، وابتلى الناس مرة أخرى وقوافل الحجاج بالعطش فقامت (مهر وماه سلطان) زوجة فاتح اليمن رستم باشا بإنفاق أموال طائلة ، وعمرت ذلك السبيل والأحواض المذكورة سنة (٩٦٧) كما أنشأت كثيرا من السبل فى داخل مكة المكرمة فأراحت سكان بلدة الله كما سبق ذكره فى صورة إحياء عين زبيدة بالتفصيل ، وبعد سنتين من إتمام إنشاء الحوض المذكور أصلح الشيخ بيرام ورمم بعض الأماكن ، فأصلح ونظف بعد ذلك بأربع سنوات بناء على الأمر الذى تلقاه من الحكومة المصرية الأحواض التى فى ساحة عرفات والتى امتلأت بالطين والتراب ، كما طهر مجرى عين حنين وعمر مسجد (١) نمرة ومسجد الخيف المباركين ، كما أصلح سلسلة عقود السبعة أروقة التى آلت للسقوط والكائنة فى الجهة الشمالية من المسجد الحرام وجدار المسجد الحرام وفى الجهة الشرقية مقابل تكية السلطان قايتباى ، وجدد دور خلوة الشيخ عفيف الدين بن أسد اليافعى والشيخ جمال الدين محمد بن إبراهيم المرشد بعد أن بدل شبكاتها فى سنة (٨٥٦) ، وقد أرسل الملك الظاهر بعد تسعة أعوام كسوة مزينة غالية ، وقد صنعت أطرافها التى تقابل الجهة الشرقية والشمالية من بيت الله الحرام من الحرير الأبيض ، وزخرفت كل جهاتها بالخيوط الذهبية وعلقت على الكعبة يوم وصولها فى سنة (٨٦٥).

__________________

(١) نمرة اسم مكان فى عرفات أو اسم جبل الأميال الحديدية التى تحدد حدود الحرم فوق هذا الجبل ، ويقع على يمين طريق المتوجهين من المأزمين إلى عرفات والمسجد اللطيف الذى يطلق عليه مسجد النمرة يقع فى هذا الموضع ، ويقيم الحجاج صلواتهم فى هذا المسجد فى أيام عرفة.

٨٦

وكان المشار إليه قد أرسل بعد ثلاث سنوات سلما ظريفا للصعود على سطح الكعبة الشريف ، وما أن وصل السلم المذكور إلى مكة المعظمة حتى حضر أشراف البلاد والوجهاء وجميع موظفى الدولة ليكونوا فى شرف استقباله بكل تعظيم وتقدير ، ووضع فى مكانه وذلك عام (٨٦٨).

بعد مرور أربع سنوات خلع السلطان (قايتباى) سلطان مصر على أمير مكة (محمد بن بركات بن أحمد بن عجلان) وسائر الأشراف والأعيان خلعا فاخرة ، كما بعث إليهم بمال كثير ليقتسموه فيما بينهم كما أرسل رسالة بمنع الظلم والعدوان ، وأمر بكتابتها على الأعمدة المواجهة لباب السلام ، وأصدر الأمر بتعمير وإصلاح مساجد النبى صلى الله عليه وسلم ، وجميع الأماكن المقدسة وكذلك أمر بتطهير مجرى (عين عرفات) وذلك عام (٨٧٢).

وبعد مرور عامين أصلح مسجد الخيف ومسجد نمرة والمسجد الحرام وجميع العيون والآبار وبرك عرفات وذلك فى عام (٨٧٤). وبعد خمسة أعوام أرسل إلى المسجد الحرام منبرا فى غاية الروعة مزينا بالذهب الخالص وذلك فى عام (٨٧٩).

وبعد عامين أمر بإصلاح السقوف داخل باب السلام وحجر إسماعيل ورخام المسعى الشريف ، وكذلك ما فى داخل بيت الله الشريف من الرخام كما أصلح مئذنة باب النبى صلى الله عليه وسلم وعمرها وذلك فى سنة (٨٨١) ، وأمر بكتابة بيان بذلك على لوحة من رخام وألصقها فى موضع داخل الحرم الشريف ، كما أنه اشترى قطعة من الأرض المتصلة بالحرم الشريف وأنشأ عليها أربع مدارس وتكية وذلك فى سنة (٨٨٢). وقد استغرق إكمال ما ينقص تلك المبانى سنتين وبعد إتمامها أسكن فيها من يقتضى الأمر إسكانهم ، بعد ما انتهى السلطان قايتباى من بناء تلك المدارس والرباط بعث إلى إمارة مكة المعظمة الجليلة يقول «رأيت حادثة فى رؤياى وجعلت العلماء يفسرونها ، فقالوا : «يجب غسل داخل الكعبة وخارجها وعندما يصل رسولى يجب أن تنظفوا خارج البيت الحرام وداخله ، وأن تطهروه» وذلك فى عام (٨٨٤).

وتلا على شريف مكة وأشراف بلد الله وأعيانه مرسوم السلطان قايتباى وبادر

٨٧

إلى تنفيذ ما جاء فيه من أمر فغسل كعبة الله خارجها وداخلها إلى ارتفاع قامة إنسان ، وطهر ونظف المطاف الشريف وسائر مواضع الحرم ، وأرسل إلى السلطان قايتباى يخبره بما تم ، وعقد السلطان نيته على أداء فريضة الحج فى نفس العام الذى تم فيه تطهير الكعبة الشريفة بأمره. وسافر إلى مكة المكرمة وتجرأ على أن يدخل الحرم من «باب السلام» وهو ممتط جواده ولكن ذل حافر الفرس فسقطت عمته عن رأسه وبقى حاسرا ؛ إذ يجب على الداخل إلى الحرم محرما أن يكون مكشوف الرأس للقيام بالطواف والنسك ، إنما تلك الجسارة كانت لملوك الشراكسة أمارة البله وضعف الإدراك ، فالشراكسة المصريون كانت لهم بزة خاصة وهندام غريب يثير ضحك من يقع نظره عليهم لأول مرة.

ألبسة ملوك الشراكسة المصريين الرسمية :

إن السلاطين الشراكسة الذين تربعوا على عرش مصر اختاروا لأنفسهم ثيابا رسمية تشبه ملابس الأيوبيين ، إلا أنهم أضافوا بعض الأشياء الخاصة بهم مما جعل لهم هيئة مثيرة للضحك ، وإن ما جرت به العادة فى بلد من البلاد وما اتخذ من الأصول والقواعد ليس غريبا أن يثير الضحك والسخرية فى بلاد أخرى.

وكان الملوك الشراكسة يتعممون بعمائم غاية فى الطول ، ويثبتون على هذه العمائم ستة قرون مدببة ؛ إلا أنها كانت مصنوعة من بز رقيق فى شكل مدبب ، وجرت العادة فى الاستقبالات الرسمية أن تحمل فوق رءوسهم مظلات على هيئة الخيام ، وعلى هذه المظلات صورة طائر باسط جناحيه (١) ، وكان حامل هذه المظلة أعلى الأمراء المصريين رتبة ويسمى بولى العهد ، وكان فى مصر فى هذه الحقبة من الزمن أربعة وعشرين وزيرا يلقب الواحد منهم بالأمير الكبير ، وكانت

__________________

(١) وإن كانت المظلة التى ترفع فوق رأس أمير مكة وهو غاد ورائح إلى عرفات مظلة كبيرة نوعا ما ؛ إلا أنها كانت خالية من صورة طائر ، وهذه المظلة مصنوعة من قماش أخضر ومزخرفة بخيوط ذهبية وذات زر من الخيوط الذهبية. وكانت فى غاية الزخرفة والزينة والزركشة وكانت خاصة بأمير مكة فقط.

٨٨

الموسيقى تعزف على أبوابهم صباحا ومساء ، وكان كل واحد منهم يعمم بعمامة عليها أربعة قرون ، أما من لم يحوزوا رتبة الأمير الكبير من الأمراء فكانوا يعممون بعمامة بها قرنان ، أما من هم دونهم فى الرتبة فكانت عمائمهم خالية من القرون وطرفها مدلى إلى حناجرهم أما رؤساء الجنود فكانوا يضعون على رءوسهم قلنسوة من الجوخ الأحمر ويسايرون ركاب السلطان على أرجلهم ، وعلى هذا الطراز وهذه الهيئة كانت الثياب الرسمية لملوك الشراكسة فى مصر ، فمن كان منهم ذا رتبة لبس العمائم ذات القرون وكانوا يستنكفون من عمائمهم. كما يستنكفون من لبس ملابس الإحرام متجردين من ثيابهم ويعتبرونه من الأمور المعيبة لذا لم يستطع السلطان أن يحمل نفسه على الترجل ولبس ملابس الإحرام. انتهى.

وقد أقام السلطان الغورى من ملوك الشراكسة فى مصر فوق باب إبراهيم (كمرا) عقدا فى غاية الزينة فريدا من نوعه وبنى قصرا وعلى جانبيه عدة مساكن ، وأوصل بها عدة منازل وجعلها وقفا وذلك فى عام (٨٨٨) وبما أنها كانت أعلى من الحرم الشريف فقد أفتى أكثر العلماء بعدم جواز وقفها. يقيم الآن فى هذا القصر والمساكن التى بجانبه المستأجرون كما أن الحجاج يستأجرونها أحيانا. وأصلح السلطان الغورى المضايق التى فى طريق مصر كما رمم حجر إسماعيل الشريف كما أنه بنى سور جدة.

إرسال الصرة إلى الحرمين :

جرت عادة السلطان الغازى بايزيد خان الثانى بن السلطان محمد الفاتح خان بأن يرسل كل سنة صرة تحتوى على أربعة عشر ألف قطعة ذهبية ، على أن يوزع نصف المبلغ لعلماء مكة الأعلام والنصف الآخر لعلماء المدينة الأعلام وذلك فى سنة (٨٨٦) ، وبما أن سماحة خلق المشار إليه قد ذاعت بين أهالى الحرمين فقد نظم شاعر من شعراء المدينة يسمى أحمد بن حسين العليف قصيدة مدح وثناء ضمنها مناقب الخليفة المختارة وقدمها للسلطان.

٨٩

إن الشاعر المذكور هو الشيخ شهاب الدين أحمد بن حسين العليف ، وكان أحسن الناس فى زمانه وقد شرف دار السيادة بزيارته فى صحبة الشيخ محيى الدين بن عبد القادر بن عبد الرحمن العراقى من خطباء مكة المكرمة. إن القصيدة البليغة التى قدمها إلى السدة السلطانية كانت مؤلفا نفيسا بعنوان «الدّرّ المنظوم فى مناقب السلطان بايزيد ملك الروم» وكان مطلع القصيدة البديعة هذا البيت البليغ :

خذوا من ثناياى موجب الحمد والشكر

ومن در لفظى طيب النظم والنثر

فأمر السلطان سديد الرأى لهذا الشاعر جائزة بألف من الذهب جائزة وأوعده بإرسال صرة بمائة دينار كل سنة ، وقد نال الشاعر المذكور إلى آخر عمره صرة بمائة دينار كل سنة.

كان الدينار فى تلك الأوقات نوع من عملة ذهبية وسنعرف فى موضوع الصرة الهمايونية مزيدا عن قيمة هذه العملة فى زماننا ، ومتى ضربت وقطعت؟ ومما صحت روايته أن الذى خصص له الملك صرة فى كل عام هو أحمد بن العليف وكانت ترسل كذلك إلى أبنائه وأحفاده إلى انقطاع نسله.

قد احتاج قطع رخام الحطيم الكريم للتسوية والترميم ، فما كان من أبى النصر الغورى إلا أن غيرها كلها ، وفى نفس الوقت زخرف داخل الحطيم وخارجه وفرش أرضه وذلك فى عام (٩١٧) ، وبعث السلطان سليم بن السلطان بايزيد خان إلى أهالى الحرمين الشريفين أضعاف ما كان يرسله والده كثيرا ، وضم هذه المبالغ إلى العطايا المقررة لسكان الحرمين الذين يردون إلى دار السعادة ، فكان ما يكفيهم وذلك فى سنة (١١٨) وفتح السلطان سليم بلاد مصر ، وأدخل أهلها طاعته فخضعوا جميعا لأوامره وأدخل فى حوزته بلاد الحرمين الشريفين ونشر فيها أنوار العدل ، وكان يعيش فى ذلك العهد فى مصر الخليفة المتوكل على الله (١) الثالث العباسى ، ولم يكن له من أمر الخلافة إلا شيئا معنويا وهو أن يؤخذ إذنه

__________________

(١) كان اسم المشار إليه عبد الرحيم ، وعلى رواية محمد بن المستمسك بالله يعقوب وقد بعثه السلطان سليم مع أولاده وأهله وأتباعه إلى دار السعادة.

٩٠

عندما يتبادل الأمراء منصب السلطنة ، وكان يمضى أيامه بإدارة وقف السيدة نفيسة (١) وقد تنازل عن الخلافة للسلطان سليم ودخل تحت حمايته.

وقد أرسل الشريف سيد بركات الذى كان حاكم الحرمين فى ذلك الوقت أبا عن جد ولكنه كان تابعا لملوك مصر الشراكسة ابنه أبا نمى الذى كان فى الثالثة عشرة من عمره إلى مصر ، ومعه المخلفات النبوية المباركة مع مفتاح بيت الله وسلم كل هذه الأشياء إلى السلطان سليم مصدقا بخلافته ومبايعا له ، وقدم له بعض الهدايا الحجازية مباركا بالخلافة وذلك فى سنة ٩١٣.

وقد اشتكى السيد بركات فى الشكوى التى قدمها إلى السلطان سليم من جور وظلم والى جدة الأمير حسين الكردى للأشراف الكرام ، فأكرم السلطان الشريف أبا نمى إكراما بالغا ، وخلع على والده سيد بركات وعليه خلعة غالية الثمن لكل واحد منهما ورد إليهما اعتبارهما ومكانتهما ووقرهما ، ثم أعاده إلى مكة المكرمة وفى اليوم الذى كان سيدخل فيه الشريف أبو نمى إلى مكة زين أهلها الأزقة والأسواق واحتفلوا عظيم الاحتفال ، ولبس السيد بركات وابنه الخلع السلطانية التى أنعم بها السلطان وجلسا فى المقام الحنفى بعد أن طافا بالبيت ، حيث وفد الناس يزفون التهانى وعلى أثر تلقى التهانى استقدم الأمير حسين الكردى وأبلغه الأمر السلطانى بشأنه ، وأركبه زورقا مضى به تجاه السويس ولكنه ألقى به فى البحر وغرق فى مكان يسمى بيت العجين.

لازمة :

إننا لم نستطع أن نحصل على كتاب تاريخ يبين لنا ما قدمه الشريف أبو نمى إلى السلطان سليم بن بايزيد خان من المخلفات المقدسة المباركة : نوعها وعددها إلا أن هذه المقدسات المباركة توجد ضمن الأشياء المباركة الجميلة التى تحتوى عليها حجرة الأمانات الشريفة الفاخرة ، وقد قدم بعض هذه المقدسات المباركة من قبل الأمير المشار إليه ثم حصل على البعض الآخر فيما بعد.

__________________

(١) سواء أكانت المشار إليها أو كانت السيدة زينب والسيدة رقية والسيدة سكينة فمقابرهن فى مصر. وكانت السيدة زينب والسيدة رقية أختى الإمام الحسين لأبوين ، والسيدة سكينة كانت بنته من رباب بنت امرئ القيس بن عدى الكلبى.

٩١

المقدسات المباركة

التى تحتوى عليها غرفة الأمانات الشريفة

نوعها وعددها

رباعية النبى صلى الله عليه وسلم ، الحجر الشريف الذى يحمل أثر القدم الشريفة للنبى صلى الله عليه وسلم ، فرد واحد (١) للنعلين الشريفين ، الخرقة النبوية الشريفة (٢) ، سجادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، سجادة الصديق ، لواء النبى صلى الله عليه وسلم (٣) ، قبضة سيف النبى صلى الله عليه وسلم ، قوس النبى صلى الله عليه وسلم ، عدد ٢ عصا النبى صلى الله عليه وسلم (٤) ، قدر حضرة نوح عليه السلام ، مرجل إبراهيم عليه السلام ، قميص يوسف عليه السلام الملطخ بالدماء ، رأس زكريا عليه السلام ، قبضة سيف داود عليه السلام ، قميص سيد الشهداء الملطخ بالدماء ، قميص فخر النساء ، ألوية الخلفاء الأربعة ، عمائم الخلفاء الأربعة ، سبح الخلفاء الأربعة ، سيوف الخلفاء الأربعة ، قبضة سيوف العشرة المبشرين وهى ست ، السيف الصارم لجعفر الطيار ، قبضة سيف خالد بن الوليد ، قبضة سيف معاذ بن جبل ، سيف شر حبيل بن حسنة ، سيف أبى طلحة ، لواءان للإمامين ، تاج أويس القرنى ،

__________________

(١) قد حصل على الفرد الآخر فى عهد السلطان عبد العزيز.

(٢) إن هذه الخرقة الشريفة هى التى أهداها النبى صلى الله عليه وسلم لكعب بن زهير رضى الله عنه من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وكان الأصحاب الكرام يزورون هذه الخرقة متبركين وكانوا يغمرون جزءا منها فى الماء ثم يشربونه للاستشفاء. وبناء على تدقيق (على القارى) احتفظ بها ورثة زهير واشتراها منهم معاوية رضى الله عنهم ، وبعد انقراض الدولة الأموية انتقلت إلى السلاطين المصريين ومنهم إلى السلطان سليم. وكان سلاطين آل عثمان فى أول الأمر يزورونها فى يوم معين ويغمرون أطرافها فى مرجل مليئ بالماء ثم يملئون هذا الماء فى الزجاجات ويجمعونها ويقدمونها لرجال الدولة ، والذى ينال زجاجة من هذا الماء كانوا يعظمونه ويتبرك به مثل ماء زمزم ثم يصوم ويفطر به طلبا للشفاء.

(٣) كان اللواء الشريف فى عهدة سلاطين مصر ، وتحفظ فى خزانة حكومة الشام ولما فتح السلطان سليم بلاد العرب أمر بحفظه فى الموضع الذى شهده فيه ، إلا أنه كان يؤتى به فى معظم الحروب على أنه رمز النصر ومظهره ؛ لذا أحضره السلطان مراد الثالث إلى الأستانة وظل فيها قرنا من الزمن فى غرفة الخرقة الشريفة.

(٤) إحدى هاتين العصوين كانت عصا النبى شعيب عليه السلام.

٩٢

مصحف عثمان بن عفان ، الكلام القديم بخط الإمام الليلى ، المصحف الشريف بخط زين العابدين ، مفتاح البيت الأعظم ، الميزاب الذهبى ، مصراع باب التوبة ، الغطاء الفضى لمقام إبراهيم ، الطين ، ماء الغسل النبوى.

إن الأمانات والمقدسات المباركة كل واحدة منها فى داخل غلاف فضى ، أما الخرقة الشريفة فى داخل صندوق فضى صغير وهى فى غرفة العرش ، أما الأمانات الأخرى فقد وضعت فى رفوف جدران تلك الحجرة بكل عناية.

التذييل :

إن الميزاب الذهبى القديم بدل سنة (١٥٢٢) و (الكوكب الدرى) الذى اكتسب شرفا بمجاورته الغرفة المعطرة فترة طويلة والأخشاب القديمة التى اقتلعت من أماكنها عند تعمير سطح كعبة الله التى صنعت هدية نفيسة للسلطان بايزيد خان كل هذه الأشياء حفظت فى الأماكن الخاصة التى فى حجرة العرش.

ولما سافر قبودان الغازى حسين باشا إلى مصر بمهمة القضاء على ثورة القاهرة عرف أنه فى ضريح السلطان الغورى مخلفات نبوية مباركة وهى قطعة قميص وعصا شريفة ومرودا ، وفى خلال شهر ربيع الأول من سنة (١٢٠٣) نقلت هذه المقدسات المباركة من مبنى محكمة مصر ، وبادر بتطييبها وتعطيرها حين زيارتها ، ووضعها فى داخل صرة ووضع الصرة فوق كرسى مزخرف وأعادها إلى مكانها فى موكب خاص اشترك فيه علماء مصر كافة ، وحملت هذه الآثار على الرءوس بكل تعظيم وصلاة وسلام ، ووضعت فى صندوقها الخاص فى مكانها القديم.

وقد سطر جودت باشا فى تاريخه أن الأشياء المذكورة مازالت محفوظة فى ضريح السلطان الغورى إلى الآن يستطيع أن يزورها من أراد ذلك ، وقد سر السلطان سليم سرورا بالغا بحصوله على الأمانات النبوية المقدسة المبروكة لذا راعى جانب الشريف محمد أبا نمى مراعاة عظيمة وطيب خاطره بإلباسه الخلع ، كما بعث إلى والده الشريف أبى البركات هدايا كثيرة وأكرم أهل الحرمين الشريفين كما ينبغى ، وكل هذا لحصوله على الأمانات النبوية. وفى خطبة عرفة

٩٣

(٩٢٣) ذكر اسمه كخليفة وبلغ الأمر إلى جميع سكان الحجاز وتهامة ، وأراد السلطان العظيم أن يبين شكره على ذكر اسمه فى خطبة عرفات فأرسل إلى أهالى الحرمين مائتى ألف قطعة ذهب فيلورى وقدرا كافيا من الحبوب المتنوعة ، وأرسل الأمير مصلح الدين وفى رفقته قاضيان لتوزيع تلك العطايا ، كما أعطى للرسول المذكور دفتر قد زخرف عاليه بكتاب ما أرسل إلى مولانا الشريف أبى نمى من خمسمائة قطعة ذهبية ، وكان السلطان سليم اعتاد أن يرسل الصرة التى تحتوى على الذهب الفيلورى فى كل سنة ، وأصدر أمره السلطانى بإرسال الصدقات المصرية (١) التى كان يبعثها ملوك الشراكسة كما جرى فى السابق على أن تتحمل الخزينة السلطانية العامرة نفقاتها ، وجعل ذلك قواعد يجب اتباعها كل سنة.

وقد غمر الفرح نفوس أهل الحجاز لصنيع هذا السلطان ، وعلى أثر ذلك أطلقوا على ما ترسله السلطنة السنية الصدقات الرومية للتفريق بينها وبين الصدقات المصرية.

* * *

__________________

(١) أعاد الشراكسة إرسال هذه الصرة تحت اسم (الذخيرة) وتوزيعها على العلماء المستحقين. كما رتب السلطان سليم خراج مصر وقسمه أقساما ثلاثة : فجعل من القسم الأول ماهية عشرين ألف عسكرى بالقطر من المشاة واثنى عشر ألفا من الخيالة ، والقسم الثانى يرسل إلى المدينة المنورة ومكة المشرفة ، والقسم الثالث يرسل إلى خزينة الباب العالى. انظر تاريخ الدولة العلية العثمانية ص ٧٧ ، نقلا عن الخطط التوفيقية لعلى باشا مبارك.

٩٤

بيان كيفية توزيع وتقسيم الصرّة المرسلة

من قبل السلطان سليم بن بايزيد

عندما وصل الأمير مصلح الدين إلى مكة المكرمة أخذ يوزع نقود الصدقة الرومية وفق ما سجل فى الدفتر الذى معه ، وأوصى الذين نالوا العطايا أن يستمروا فى رفع أكفهم بالدعاء للسلطان ودوام عزه ثم جمع العلماء الأعلام والأعيان والأشراف الكرام الذين وردت أسماءهم فى سجل العطايا ، وجعلهم يختمون تلاوة القرآن الكريم ويوجهون إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ دعواتهم بإطالة عمر السلطان وزيادة قوته.

بعد ما أتم العلماء المجتمعين فى داخل الحطيم ختم القرآن الكريم اختار الأمير مصلح الدين ثلاثين من الحفاظ الصلحاء وكلفهم بختم القرآن الكريم مرة كل يوم بناء على التعليمات التى يحملها من السلطان ، على أن يأخذ كل واحد منهم اثنى عشر قطعة ذهبية فى السنة ، كما اختار بعض العلماء وكلفهم بقراءة البخارى والشفاء (١) الشريف على الدوام ثم استدعى الفقراء الذين يحتاجون إلى الصدقة فى الحقيقة وسجل أسماءهم فى السجل ، وأعطى لكل واحد منهم ثلاث قطع ذهبية كعطية سلطانية ، ثم ذكر بأن السلطان سيبعث كل سنة ثلاث صرر من الذهب ، وأحصى أفراد أسر الفقهاء وسجلهم فى سجله ، وقرر أن يعطى لكل فرد منهم ثلاثمائة قطعة ذهبية ثم قيد المبالغ اللازمة لهم باسم صرة البيوت. ثم جمع كل الذين أظهروا حاجتهم للعطية وأعطى لكل واحد منهم قطعة ذهبية ، وأشار إليها فى سجله بالصرة العامة ، وفى آخر شهر ذى الحجة جمع العلماء والصلحاء وأخذهم إلى جبل التنعيم وبعد لبسهم ملابس الإحرام جعلهم يعتمرون لوالدة السلطان ، وأدرج ما أنفقه فى هذا السبيل فى سجل باسم صدقات العمرة ،

__________________

(١) هو كتاب الشفاء فى التعريف بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضى عياض. أما صحيح البخارى فقد سماه البخارى ـ رحمه الله ـ «الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه». انظر : هدى السارى لابن العسقلانى ص ١٠.

٩٥

وفى أثناء إنهاء أداء العمرة وصلت إلى ميناء جدة السفن المصرية محملة بالمرتبات الحجازية من الحبوب والصدقات وتحمل كذلك أمرا سلطانيا للأمير سابق الذكر بكيفية توزيع الحبوب وتقسيمها ، وقد تبين عند البحث والتحقيق أن الحبوب المذكورة : ألفا إردب منها لأهالى المدينة المنورة ، وخمسة آلاف أردب منها لسكان مكة المكرمة ، كانت كلها سبعة آلاف أردب من المؤونة والغلال.

الذيل

الأردب كيل خاص بالبلاد العربية ويستوعب ست ويبات ، وعند اللغويين الويبة تساوى ستة أصواع ، والصاع أربعة أمداد والمد يساوى رطلا وثلث رطل. وبناء على هذا التعريف يقتضى أن يعدل الأردب ١٥٣ أوقية و ١٠٠ درهم ؛ إلا أن استخدامات الأردب فى بلاد العرب تختلف فعند المصريين الأردب الواحد يساوى ١٢ ويبة ، والويبة الواحدة (١) تساوى ست كيلات إستانبولية قديمة ، وتعدل الويبة ١٠ أوقيات. وقالوا إن الأردب يساوى ١٢٠ أوقية ، أما الحجازيون فيعتبرون الأردب والأردب ١١ أوقية و ١٠٠ درهم (٢) أما أهل البلاد الأخرى فيختلفون فى تحديد مقدار الأردب اختلافا كبيرا كذلك يكاد أن يكون تقدير مقدار الأسلوب كثير الصعوبة إن لم يكن مستحيلا ونظرا لورود الغلال من مصر يجب اعتبار الأردب ١٢٠ أوقية ، وقد سمع بأن تقى الدين باشا والي الحجاز الأسبق ساوى بين أوزان وأكيال البلاد الحجازية بالأوزان والأكيال التى تستخدم فى جميع البلاد التابعة للسلطة العثمانية ، لكننا نظن أن تعميم هذه القاعدة فى البلاد الحجازية غير قابل للتطبيق.

الغلال الواردة

حتى لا يقع الخطأ فى تقسيم تلك الغلال وتوزيعها اتفق الأمير مصلح الدين مع الأشراف والأعيان على تعداد سكان مكة المكرمة ، واستثنى منهم التجار ومتوسطى الحال والجند فوجد عدد المحتاجين من المسنين والشباب والأطفال

__________________

(١) عرف ابن فضل ـ أحد مؤرخى مصر ـ الويبة الواحدة بأنها ١٤ ربع ، والربع الواحد أربعة أقداح ، والقدح الواحد ٢٣٢ درهم.

(٢) الأردب الآن فى مكة يساوى ١٠٨ أوقية.

٩٦

الذكور والإناث (١٢٠٠٠) نفر ، وبناء على رأى السيد جمال الدين محمد بركات شريف مكة ، استصوب توزيعها على المحتاجين المذكورين كل واحد منهم ربع أردب من الحنطة وقطعة ذهبية ثم أعطى مفتىّ المذاهب الأربعة لكل واحد منهم ثلاثة أرادب (١) غلة وهكذا أجرى قواعد العدالة.

أول ما وزع من الأرزاق التى أرسلها السلاطين العثمانيين على أهل الحرمين هى ما وزعه مصلح الدين أفندى من سبعة آلاف أردب من مختلف الغلال وقد زاد مقدار هذه الغلال من سنة لأخرى لحاجة الناس إليها حتى وصلت فى عهد السلطان محمود العادل إلى (١٧٠٠٠) أردب من الحنطة ، وكان هذا القدر كافيا لتغطية حاجات الناس ومن هنا لهجت ألسنتهم بطول بقاء الدولة العثمانية. واستطاع فيما بعد ذوى الحيلة أن ينال كل واحد منهم مائتى أردب من الحنطة مدعين انتسابهم لجهة من الجهات ؛ وبهذا تركوا كثيرا من الفقراء لا ينالون ، شيئا ولما استحال جلب هذه الغلال من مصر أخذ الناس يتقاضون من خزانة الدولة ثمن ما يستحقون من حنطة.

ترميم المقام الحنفى

كان الأمير مصلح الدين مكلفا أيضا بتعمير الحرم الشريف وترميمه ولما رأى أن المقام الحنفى فى شدة الحاجة إلى التعمير قال مخاطبا أعيان بلد الله وعظماءهم إن هذا المقام (٢) المبارك الذى أنشىء على أربعة أعمدة مسقفا بناء مبارك ، ومحرابه فى وسطه ، وقد بنى من أجل أئمة المذهب الحنفى الكرام كما تعرفون جميعا أنه بنى فى سنة (٨١١) ، وفى سنة (٨٤٣) غطيت قبته بالقصدير من قبل السلطان المصرى جاقمق وبالنظر إلى شكله الحالى وكثرة الحجاج والضيوف الذين يفدون للحج قد تجاوز وجوب توسيعه مع إنشاء قبة له درجة الوجوب.

لذا يقتضى الأمر تهيئة مقام أوسع يستطيع الحجاج الذين على المذهب الحنفى

__________________

(١) هذه الأرادب التى أعطيبت لرجال المذاهب الأربعة كانت زائدة عن حصتهم وإنما أعطيت لهم رعاية لجانبهم وذلك مما سر الناس جميعا.

(٢) وهنا كان مصلح أفندى يشير بإصبعه إلى المقام الحنفى.

٩٧

أداء صلواتهم عند حلول أوقات الصلاة دون أن يزعجوا جماعات المذاهب الأخرى فى أثناء صلاتهم مقتدين بإمامهم.

وبهذه المقدمة قد جعل ما فى ضميره من عزمه على توسيع المقام موضع الاستشارة والبحث ؛ إلا أنه لم يستطع أن يحصل على الموافقة فى ذلك اليوم ، وفى اليوم الثانى كون لجنة حتى يستطيع أن يبنى المقام المذكور وفقا لخريطة أفكاره ، وقد حصل على موافقة العامة على البناء ، وفعلا بنى مقاما فخما وفق ما رسم خياله فى ذهنه من رسم مطبوع وشكل مرغوب ، كما رفع فوقه قبة جديدة ثم عمر وأصلح ما يجب تعميره ، وهكذا شيد وبنى الحرم الشريف على شكله ذاك فى أيامه وذلك فى سنة (٩٢٣).

قد دام المقام الشريف الذى شيده مصلح الدين أفندى فترة طويلة إلا أنه احتاج للتعمير والترميم بفعل الزمن لذا هدمه حاكم جدة (خوش كلدى) من أساسه ، وبنى مكانه مقاما مربعا لا يدانى فى الجمال من طابقين ، وخصص الطابق الأعلى للمؤذنين والطابق الأسفل لجماعات الحنفية ، وما زال ذلك المقام قائما بالطرز الذى بناه عليه (خوش كلدى بك) ولكنه وسع وجدد فى سنة (١٠١٧) ، وأصلح وعمر فى سنة (٢٥٩) كما ذكر فى الصورة الثانية من الوجهة الخامسة.

عندما وفق (خوش كلدى بك) فى تجديد البناء العالى للمقام الحنفى فنظم غبارى أفندى تاريخا لطيفا.

قطعة

المقام الخاص بسلطان الأئمة

إذا أصبح معمورا بمحامد ومحامد

طاف بسمعى من العاكفين بكعبة الأنس

اسمه هو (خير المساجد)

إذا لم يكن هو خير المساجد

فلم يكن التاريخ خير المساجد

سنة ٩٤٩

٩٨

بعد أن فرغ الأمير مصلح الدين من تعمير وترميم المقام الشريف وغيره من الأبنية مضى إلى المدينة المنورة وأخذ فى إحصاء عدد السكان ثم وزع ألفى أردب من الغلال السالفة الذكر على أربعة آلاف نسمة من السكان الذين قيدهم فى سجلاته عقب الإحصاء ، وهكذا استجلب الدعوات الخيرة للسلطان العالى الشأن وذلك فى سنة (٩٢٣) وإن كان ما وزعه الأمير مصلح الدين من الغلال فى سنة (٩٢٣) كفى أهالى الحرمين الكرام فى ذلك الوقت إلا أن عدد سكان الحرمين زاد عاما بعد عام ، وأصبحت المرتبات الحجازية لا تفى بحاجة الناس ؛ لذا أوصل السلطان فى عام ٩٢٦ العطايا إلى حد الكفاية.

واعتاد أن يرسل المخصصات بواسطة مصلحة الصرة ، وإلى الآن ترسل المخصصات بهذه الصورة وتوزع كل سنة على سكان مكة أمام البيت الشريف بحيث يعود الذين استلموا عطاياهم المخصوصة فرحين مسرورين داعين لسلطان الزمان العثمانى وأهله بطول بقاء دولتهم عليهم الرحمة والرضوان ، قد سددوا ديونهم التى تراكمت خلال السنة الحالية.

إن ما يطلق عليه الصدقات الرومية من هذه المبالغ هى قوام حياة أهالى الحرمين الشريفين لم يكن يرسل على عهد الملوك القدامى سواء من قبل ملوك الشراكسة أو الخلفاء العباسيين أو أسلاف السلاطين العثمانيين على هذا النحو ، ولم يوفق أحدهم إلى مثل ما بعث السلطان سليمان.

والصدقات التى كانت تخصص فى عهد السلطان سليمان ، لأى واحد كانت تؤول إلى أولاده بعد مماته ، وإذا كان المتوفى بدون وارث كانت هذه الصدقات تعطى لأحد الفقراء المحتاجين.

وكان فى مكة المكرمة مخازن خاصة لوضع وحفظ الغلال التى ترد تباعا ، وعندما ترد تلك الغلال كانت تحفظ فى تلك المخازن ، وكان فى بعض حجرات مدرسة الشريف عجلان بالقرب من باب العجلة أى فى داخل الحرم الشريف مصلحة فى مديرية الحرم الشريف وهى التى تعطى إيصالات الاستحقاقات

٩٩

لأصحاب الشأن ، وترسلهم إلى أمانة تلك المخازن فيأخذ كل واحد حقه وفق الإيصال الذى يحمله ، وهذا النظام باق إلى يومنا هذا ومرعى الجانب.

مقدار وقيمة الصرة السنية

المعتاد إرسالها إلى الحرمين

فى زماننا هذا كلما زاد سكان الحرمين وتكاثر المجاورون زاد ما تضمه الصرة السلطانية إلى أن وصل فى العصر السلطانى الذى نفتخر ببلوغه وإدراكه مقدار الصدقات إلى (٣٥٠٣٦١٣) قرش وإذا ما أضيف لهذا المبلغ (١٢٢٦٢٦٢) قرشا تنزيلا (١) بنسبة ٣٥% تصل قيمة الصرة السلطانية إلى (٤٧٢٠٨٧٧) قرشا وهذا يساوى على التقريب (٩٠٠٤٥٩) كيسا و ٣٧٧ قرشا (٢) وهذه المبالغ مع ما أضيف إليها هى لمكة المكرمة (١٠٧٤٨٨٦٠) قرش ، ولأهالى المدينة المنورة (٢٤١٦٧٠٧١) قرش ، و (١١٥٤٧) قرش للقدس الشريف ولمن فى طريق الحج والقائمين على صيانة أحواض الماء كما قدم إلى بعض وجهاء القوم شيلان صوف هدايا دائمة.

ولا ترسل الآن صرة الهدايا هذه وتقدم قيمتها نقدا إلى مستحقيها ، وتبلغ صرة سكان مكة (١٠٧٤٨٦٥) قرش والمرتبات القديمة (٢٠٧٠٦٩) وأضيف إليها جديدا (٨٦٧٧٩٦) قرش. أما مخصصات المدينة وهى (٧٤٩٢٤٦) قرش فهى الصرة القديمة أضيف إليها مبلغ (١٦٦٧٤٥٥).

الصرة الخاصة بأهل مكة

القرش

نوع الوقف

محل الصرف

٧٢٣١٣

من خزينة الحرمين الشريفين

أهل مكة المكرمة قد منحوا ذلك قديما ثم آل بعد ذلك إلى أولادهم وأولاد أولادهم وأحفادهم وبعد انقطاع نسلهم تصرف إلى المستحقين من الفقراء.

٣٧٥٤٤

من خزينة الأوقاف السلطانية

٥ ، ٣٣٢ / من وقف مجهول النظارة

__________________

(١) قد حسب هذا التنزيل بالنسبة للمسكوكات المتداولة فى الحرمين.

(٢) والمبالغ التى تصرف فى أثناء ذهاب المحمل وعودته وما يعطى لمشايخ العرب فى طريق المحمل وهى تساوى ١٠٠٠ كيس من النقود وهى زيادة على أكياس النقود التى ذكرت.

١٠٠