الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

١

٢

٣
٤

هذا الكتاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القرآن الكريم معجزة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالدة ، والحجّة القائمة على البشرية جمعاء ، وهو منذ ألف وأربعمائة سنة يتحدّى العالم على أن يأتوا بمثله (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (١) ثم تنزّل معهم بأن يأتوا بعشر سور (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) (٢) فعجزوا عن ذلك فطلب منهم أن يأتوا بسورة واحدة (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٣) وهو لا يزال يتحدّاهم (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٤).

وقد أمرنا الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من أهل بيته عليهم‌السلام بقراءة القرآن الكريم ، وحثّوا الأمّة على التزود منه ، فمن حديث له صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنه شافع مشفّع (٥) وما حل مصدّق (٦) ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ؛ وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق (٧) وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم (٨) لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه. فيه مصابيح الهدى ، ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة (٩) فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب (١٠) ويتخلص من نشب (١١) فإن التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلّص ، وقلّة التربّص (١٢).

ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله لسلمان رضي الله عنه : يا سلمان عليك بقراءة القرآن ، فإن قراءته كفّارة للذنوب ، وستر من النار ، وأمان من العذاب ... وينزل على صاحبه الرحمة ، ويستغفر له الملائكة ، وإشتاقت إليه الجنة ، ورضي عنه المولى ، وإن المؤمن إذا قرأ القرآن نظر الله إليه بالرحمة ، يا سلمان ان المؤمن إذا قرأ القرآن فتح الله عليه أبواب الرحمة ، وخلق الله بكل حرف يخرج من فمه ملكا يسبّح له إلى يوم القيامة ، وانه ليس شيء بعد تعلّم العلم أحب إلى الله من قراءة القرآن ، وإن أكرم العباد على الله بعد الأنبياء العلماء ، ثم حملة القرآن ، يخرجون من الدنيا كما يخرج الأنبياء ، ويحشرون في قبورهم مع الأنبياء ، ويمرّون على الصراط مع الأنبياء ، ويأخذون ثواب الأنبياء ، فطوبى لطالب العلم وحامل القرآن مما لهم عند الله من الكرامة والشرف (١٣).

ويقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : البيت الذي يقرأ فيه القرآن ، ويذكر الله عزوجل فيه تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض ، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ، ولا يذكر الله عزوجل فيه تقلّ بركته ، وتهجره

__________________

(١) سورة الطور ، الآية : ٣٤.

(٢) سورة هود ، الآية : ١٣.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٤

(٤) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

(٥) أي هو يشفع ـ يطلب النجاة ؛ لقارئيه والعاملين بأحكامه فيشفعه الله جلّ جلاله فيهم.

(٦) محل به : إذا سعى به إلى السلطان ، والمراد : أن يسعى بالمسلم إلى الله جلّ جلاله إذا قصّر في العمل به.

(٧) انيق : حسن معجب.

(٨) له نجوم : أي آيات تدل على أحكام الله ، وعلى نجومه نجوم : آيات تدل على هذه الآيات وتوضّحها.

(٩) لمن عرف الصفة : أي لمن عرف إشارات القرآن وبيانه.

(١٠) العطب : الهلاك.

(١١) النشب : الوقوع فيما لا مخلص منه.

(١٢) التربص : الإنتظار. أصول الكافي ٢ / ٥٩٩.

(١٣) بحار الأنوار ٩٢ / ١٨.

٥

الملائكة ، وتحضره الشياطين (١٤).

ويقول الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : عليك بالقرآن ، فإن الله خلق الجنة بيده لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة ، وجعل ملاطها المسك ، وترابها الزعفران ، وحصباءها اللؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن ، فمن قرأ القرآن قال له : اقرأ وارق ، ومن دخل منهم الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه ما خلا النبيون والصدّيقون (١٥).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ القرآن قائما في صلاته كان له بكل حرف مائة حسنة ، ومن قرأه فيها قاعدا كان له بكل حرف خمسون حسنة ، ومن قرأه في غير صلاة كتب الله له بكل حرف عشر حسنات (١٦).

ويحسن بقارىء القرآن أن يتدبّر معانيه ، وينظر في تفسيره ، مستوضحا ما استغلق عليه فهمه ، وتعذّر عليه معناه.

ويعتبر مجمع البيان لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي (١٧) رحمه‌الله في قمّة التفاسير ، لاحاطته بعلوم القرآن الكريم ، وجمعه للأقوال.

وقد عمدت ـ تسهيلا للقارىء الكريم ـ إلى تلخيص هذا الكتاب النفيس ، فحذفت منه فصول القراءة ، والحجّة ، والإعراب ، واللغة ، والنظم ، وأسباب النزول ، واقتصرت على المعنى ملخصا له

ومرّبي مواضع رأيت المؤلف طاب رمسه يحيل إلى تفسيرها في محل آخر من الكتاب فنقلتها إلى موضع الآية.

نسأل الله جلّ جلاله أن ينفع به ويثيبني عليه انه قريب مجيب.

علي محمد علي دخيّل

__________________

(١٤) أصول الكافي ٢ / ٦١٠.

(١٥) بحار الأنوار ٩٢ / ١٩٨.

(١٦) المصباح ٢٤٣.

(١٧) من أعلام القرن السادس.

٦

سورة الفاتحة مكية

وآياتها سبع

إتفقوا على التلفظ بالتعوذ قبل التسمية : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

أمر الله بالإستعاذة من الشيطان إذ لا يكاد يخلو من وسوسته الإنسان فقال : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) ، ومعنى أعوذ الجأ إلى الله من شر الشيطان البعيد من الخير.

١ ـ (بِسْمِ اللهِ) أستعين بالله واقرأ مبتدئا بتسمية الله لأنا إنما أمرنا بأن نفتتح أمورنا بتسمية الله كما أمرنا بالتسمية على الأكل والشرب والذبائح ، ومعنى الله والإله : أنه الذي تحق له العبادة ، وإنما تحق له العبادة لأنه قادر على خلق الأجسام وإحيائها والإنعام عليها بما يستحق به العبادة وهو تعالى إله للحيوان والجماد لأنه قادر على أن ينعم على كل منهما بما معه يستحق به العبادة ، وإنما قدم الرحمن على الرحيم لأن الرحمن بمنزلة إسم العلم من حيث لا يوصف به إلا الله فوجب لذلك تقديمه بخلاف الرحيم لأنه يطلق عليه وعلى غيره ، وعن بعض التابعين قال : الرحمن بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين خاصة.

٢ ـ معنى الآية أن الأوصاف الجميلة والثناء الحسن كلها لله الذي تحق له العبادة لكونه قادرا على أصول النعم ، وفاعلا لها ، ولكونه منشئا للخلق ومربيا لهم ، ومصلحا لشأنهم ، وفي الآية دلالة على وجوب الشكر لله على نعمه ، وفيها تعليم للعباد كيف يحمدونه.

٣ ـ قد مضى تفسيرها وإنما أعاد ذكر الرحمن والرحيم للمبالغة ، وقال علي بن عيسى الرماني : في الأول ذكر العبودية فوصل ذلك بشكر النعم التي بها يستحق العبادة ، وهاهنا ذكر الحمد فوصله بذكر ما به يستحق الحمد من النعم ، فليس فيه تكرار.

٤ ـ انه سبحانه لما بيّن ملكه في الدنيا بقوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) بيّن أيضا ملكه في الآخرة بقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، وأراد باليوم الوقت ، وقال أبو علي الجبائي : أراد به يوم الجزاء على الدين ، وقال محمد بن كعب : أراد يوم لا ينفع إلّا الدين.

٥ ـ قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) معناه : نعبدك ولا نعبد سواك ، ونستعينك ولا نستعين غيرك ، ومعنى قوله : (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : إياك نستوفق ونطلب المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلها.

٦ ـ معناه ثبتنا على الدين الحق لأن الله تعالى قد هدى الخلق كلهم إلّا ان الإنسان قد يزلّ وترد عليه الخواطر الفاسدة ، فيحسن أن يسأل الله تعالى أن يثبته على دينه ، ويديمه عليه ، ويعطيه زيادات الهدى التي هي إحدى أسباب الثبات على الدين كما قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). ومعنى الصراط المستقيم : انه دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره.

٧ ـ أي صراط من أنعمت عليهم بطاعتك وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ.)

وأراد بالمغضوب عليهم اليهود عند جميع المفسرين الخاص والعام ، ويدل عليه قوله تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) ، وهؤلاء هم اليهود بدلالة قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) ، وأراد بالضالين النصارى بدلالة قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً

٧

وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ).

وأما الغضب من الله تعالى فهو إرادته إنزال العقاب المستحق بهم ، ولعنهم وبراءته منهم. واصل الغضب الشدة ، والضلال في الدين : الذهاب عن الحق.

سورة البقرة مدنية

وآياتها مائتان وست وثمانون آية

١ ـ اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور فذهب بعضهم إلى أنها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى بعلمها ولا يعلم تأويلها إلا هو ، وهذا هو المروي عن أئمتنا عليهم‌السلام ، وفسرها آخرون على وجوه (أحدها) انها أسماء السور ومفاتحها (وثانيها) ان المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقوله تعالى : (الم) معناه : أنا الله أعلم ، و (المر) معناه : أنا الله أعلم وأرى ، و (المر) معناه : أنا الله أعلم وأفضل ، والكاف في (كهيعص) من كاف ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق ، عن ابن عباس (وثالثها) انها أسماء الله تعالى متقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول : (الر) و (حم) و (ن) فيكون الرحمن وكذلك سائرها ، إلا أنا لا نقدر على وصلها والجمع بينها (ورابعها) انها أسماء القرآن (وخامسها) انها أقسام أقسم الله تعالى بها وهي من أسمائه (وسادسها) ان كل حرف منها مفتاح إسم من أسماء الله تعالى وليس فيها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه (وسابعها) انها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن وأن يلغوا فيه كما ورد به التنزيل من قوله : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) الآية ، فربما صفروا ، وربما صفقوا ، وربما لغطوا ليغلّطوا النبي (ص) ، فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا إستمعوا إليه وتفكروا واشتغلوا عن تغليطه فيقع القرآن في مسامعهم ، ويكون ذلك سببا موصلا لهم إلى درك منافعهم (وثامنها) ان المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم ، فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله ، لأن العادة لم تجر بأن الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم ، وإنما كررت في مواضع استظهارا في الحجة.

٢ ـ المراد بالكتاب القرآن وقال الأخفش : ذلك بمعنى هذا لأن الكتاب كان حاضرا ، وقيل : إن الله وعد نبيّه أن ينزل عليه كتابا لا يخلق على كثرة الرد ، فلما أنزل القرآن قال : هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك ومعنى قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) : أي أنه بيان وهدى وحق ومعجز فمن ههنا استحق الوصف بأنه لا شك فيه لأن الأسباب التي توجب الشك في الكلام هي التلبيس والتعقيد والتناقض والدعاوى العارية من البرهان وهذه كلها منفية عن كتاب الله تعالى ، وأما تخصيص المتقين بأن القرآن هدى لهم وإن كان هدى لجميع الناس فلأنهم هم الذين انتفعوا به واهتدوا بهداه كما قال : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) ، وإن كان (ص) منذرا لكل مكلف ، لأنّه إنما إنتفع بإنذاره من يخشى نار جهنم.

٣ ـ لما وصف القرآن بأنه هدى للمتّقين بيّن صفة المتقين فقال : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، أي يصدّقون بجميع ما أوجبه الله تعالى ، وقد روى الخاص والعام عن علي بن موسى الرضا (ع): إن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان. قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) : يؤدونها بحدودها وفرائضها قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) : يريد مما أعطيناهم وملكناهم يخرجون على وجه الطاعة ، وعن ابن عباس أنه الزكاة المفروضة.

٨

٤ ـ ثم بين تعالى تمام صفة المتقين فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : يعني القرآن ، (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) : يعني الكتب المتقدمة ، وقوله : (وَبِالْآخِرَةِ) : أي بالدار الآخرة وإنما وصفت بالآخرة لتأخرها عن الدنيا ، كما سميت الدنيا دنيا لدنوها من الخلق وقيل : لدناءتها. (هُمْ يُوقِنُونَ) : يعلمون ، وسمي العلم يقينا لحصول القطع عليه ، وسكون النفس إليه.

٥ ـ لما وصف المتقين بهذه الصفات بين ما لهم عنده تعالى فقال أولئك إشارة إلى الموصوفين بجميع الصفات المتقدمة وهم جملة المؤمنين ، (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي من دين ربهم وإنما قال : من ربهم لأن كل خير وهدى فمن الله تعالى ، ثم كرّر تفخيما فقال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الظافرون بالبغية ، والباقون في الجنة.

٦ ـ لما بين تعالى حال المؤمنين وصله بذكر الكافرين ، والكفر في الشرع عبارة عن جحد ما أوجب الله تعالى معرفته من توحيده وعدله ، ومعرفة نبيه ، وما جاء به من أركان الشرع ، فمن جحد شيئا من ذلك كان كافرا ، وهذه الآية تدل على صدق النبي (ص) لأنه أخبر بأنهم لا يؤمنون فكان كما أخبر.

٧ ـ إنّ المراد بالختم العلامة ، وإذا إنتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم الله تعالى أنه لا يؤمن فإنه يعلّم على قلبه علامة وقيل : هي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة فيعلمون بها أنه لا يؤمن بعدها فيذمونه ويدعون عليه.

٨ ـ بيّن الله تعالى حالهم فأخبر سبحانه أنهم يقولون : صدقنا بالله وما أنزل على رسوله من ذكر البعث ، فيظهرون كلمة الإيمان وكان قصدهم أن يطلعوا على أسرار المسلمين فينقلوها إلى الكفار ، ثم نفى عنهم الإيمان فقال : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، وفي هذا تكذيبهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان.

٩ ـ معنى قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) أي يعملون عمل المخادع ، لأن الله تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه ويعلم أنه لا يخفى عليه خافية ، فمعنى يخادعون : يظهرون غير ما في نفوسهم وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم قالوا : آمنا وهم غير مؤمنين ، ومعنى قوله : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إنهم وإن كانوا يخادعون المؤمنين في الظاهر فهم يخادعون أنفسهم لأنهم يظهرون لها بذلك أنهم يعطونها ما تمنت وهم يوردونها به العذاب الشديد ، فوبال خداعهم راجع إلى أنفسهم (وَما يَشْعُرُونَ) : أي ما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب ، فهم في الحقيقة إنما خدعوا أنفسهم.

١٠ ـ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المراد بالمرض في الآية الشك والنفاق بلا خلاف ، وإنما سمي الشك في الدين مرضا لأن المرض هو الخروج عن حد الإعتدال ، فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا سويا وكذلك القلب ما لم تصبه آفة من الشك يكون صحيحا ، وقوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) المراد : في قلوبهم حزن لنزول القرآن بفضائحهم ومخازيهم فزادهم الله مرضا بأن زاد في إظهار مقابحهم ومساويهم ، والاخبار عن خبث سرائرهم ، وسوء ضمائرهم ، وسمي الغم مرضا لأنه يضيّق الصدر كما يضيقه المرض ثم قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهو عذاب النار (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي بتكذيبهم الله ورسوله.

١١ ـ ١٢ ـ المراد (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بعمل المعاصي ، وصدّ الناس عن الإيمان أو بممالأة الكفار ، فإن فيه توهين الإسلام ، وتغيير الملة وتحريف الكتاب (قالُوا : إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، إنهم جحدوا ذلك وقالوا : إنا لا نعمل بالمعاصي ، ولا نمالىء الكفار ، ولا نحرّف الكتاب ، وكان ذلك نفاقا منهم كما قالوا : (آمَنَّا بِاللهِ) ولم يؤمنوا ثم قال : (أَلا إِنَّهُمْ) أي اعلموا أن هؤلاء المنافقين

٩

الذين يعدون الفساد صلاحا (هُمُ الْمُفْسِدُونَ) وهذا تكذيب من الله تعالى لهم (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) يعلمون ما يستحقونه من العقاب.

١٣ ـ المراد بالآية (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) صدّقوا بمحمد (ص) كما صدق عبد الله بن سلام ومن آمن معه من اليهود قالوا : أنصدق كما صدق الجهال؟ ثم كذبهم الله تعالى وحكم عليهم بأنهم هم الجهال في الحقيقة ، لأن الجاهل إنما يسمى سفيها لأنه يضيع من حيث يرى أنه يحفظ ، فكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يظن أنه يطيعه.

١٤ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني أن المنافقين إذا رأوا المؤمنين قالوا : آمنا أي صدقنا نحن بما أنزل على محمد (ص) كما صدقتم أنتم (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي على دينكم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) أي نستهزىء بأصحاب محمد (ص) ، ونسخر بهم في قولنا آمنا.

١٥ ـ قوله (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يجازيهم على استهزائهم ، والعرب تسمي الجزاء على الفعل باسمه ، وفي التنزيل : وجزاء سيئة سيئة مثلها ، وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يريد أن يملي لهم ليؤمنوا وهم مع ذلك متمسكون بطغيانهم وعمههم.

١٦ ـ أشار إلى من تقدم ذكرهم من المنافقين فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) ومعناه : استبدلوا الكفر بالإيمان وقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) أي خسروا في استبدالهم الكفر بالإيمان ، والعذاب بالثواب وقوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي مصيبين في تجارتهم كأصحاب محمد.

١٧ ـ (مَثَلُهُمْ) أي مثل هؤلاء المنافقين لما أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) أي أوقد نارا ، أو كمثل الذي طلب الضياء بإيقاد النار في ليلة مظلمة فاستضاء بها واستدفأ ورأى ما حوله ، فاتقى ما يحذر ويخاف وأمن ، فبينا هو كذلك إذ أطفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا ، كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان واستناروا بنورها ، واعتزّوا بعزّها فناكحوا المسلمين ووارثوهم ، وأمنوا على أموالهم وأولادهم ، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف ، وبقوا في العذاب ، وذلك معنى قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ومعنى إذهاب الله نورهم : هو أن الله تعالى يسلبهم ما أعطوا من النور مع المؤمنين في الآخرة وذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً).

١٨ ـ قال قتادة : صم لا يسمعون الحق ، بكم ، لا ينطقون به ، عمي : لا يبصرونه ، فهم لا يرجعون عن ضلالتهم ولا يتوبون وإنما شبّههم الله بالصم لأنهم لم يحسنوا الإصغاء إلى أدلة الله تعالى فكأنهم صم ، وإذا لم يقروا بالله وبرسوله فكأنهم بكم ، وإذا لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض فكأنهم عمي.

١٩ ـ مثل هؤلاء المنافقين في جهلهم وشدة تحيرهم (كَصَيِّبٍ) أي كأصحاب مطر (مِنَ السَّماءِ) أي منزل من السماء (فِيهِ) أي في هذا المطر (ظُلُماتٌ) لأن السحاب يغشي الشمس بالنهار ، والنجوم بالليل فيظلم الجو (وَرَعْدٌ) هو صوت اصطكاك أجرام السحاب.

قوله : (وَبَرْقٌ) قيل : انه نار تنقدح من اصطكاك الاجرام ، وفي تأويل الآية وتشبيه المثل أقوال (أحدها) انه مثل للدنيا ، شبّه ما من الشدة والرخاء بالصيب الذي يجمع نفعا وضررا ، وان المنافق يدفع عاجل الضرر ولا يطلب آجل النفع (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أنه عالم بهم فيعلم سرائرهم ويطلع نبيّه على ضمائرهم.

١٠

٢٠ ـ (يَكادُ الْبَرْقُ ..) يكاد ما في القرآن من الحجج النيرّة يخطف قلوبهم من شدّة إزعاجها إلى النظر في أمور دينهم ، كما أنّ البرق يكاد يخطف أبصار أولئك (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) لاهتدائهم إلى الطريق بضوء البرق (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) ولو شاء الله أذهبها من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر على الأشياء كلها.

٢١ ـ هذا الخطاب متوجه إلى جميع الناس مؤمنهم وكافرهم إلّا من ليس بمكلف من الأطفال والمجانين ، (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي تقربوا إليه بفعل العبادة ، وقوله (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي أوجدكم بعد أن لم تكونوا موجودين ، وأوجد من تقدم زمانكم من الخلائق والبشر (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي خلقكم لتتقوا الحرمات بينكم وتكفون عما حرم الله.

٢٢ ـ معنى هذه الآية يتعلق بما قبلها لأنه تعالى أمرهم بعبادته والإعتراف بنعمته ، ثم عدد لهم صنوف نعمه ليستدلوا بذلك على وجوب عبادته ، فإن العبادة إنما تجب لأجل النعم المخصوصة ، فقال سبحانه : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) أي بساطا يمكنكم أن تستقروا عليها وتفترشوها وتتصرفوا فيها وذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون (وَالسَّماءَ بِناءً) أي سقفا مرفوعا مبنيا (وَأَنْزَلَ مِنَ) نحو (السَّماءَ) أي من السحاب (ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ) أي بالماء (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي عطاء لكم وملكا لكم وغذاء لكم ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم به بقوله (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يريد أنكم تعلمون أن الإصنام التي تعبدونها لم تنعم عليكم بهذه النعم التي عددناها ولا بأمثالها ، وأنها لا تضر ولا تنفع.

٢٣ ـ لما احتج الله تعالى للتوحيد عقّبه من الإحتجاج للنبوة بما قطع عذرهم فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد (ص) (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي من مثل القرآن في الإعجاز من حسن النظم ، وجزالة اللفظ والفصاحة التي اختصت به (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) يعني أعوانكم وأنصاركم (مِنْ دُونِ اللهِ) أي وادعوا من اتخذتموهم معاونين من غير الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إن هذا الكتاب يقوله محمد من نفسه.

٢٤ ـ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم وتبين لكم عجزكم وعجز جميع الخلق عنه ، وعلمتم أنه من عندي فلا تقيموا على التكذيب به (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أي ولن تأتوا بسورة مثله أبدا لأن لن تنفي على التأبيد في المستقبل ، وفيه دلالة على صحة نبوة نبينا محمد (ص) لأنه يتضمن الاخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات بأنهم لا يأتون بمثله ، فوافق المخبر عنه الخبر ، وقوله (فَاتَّقُوا النَّارَ) أي فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم (الَّتِي وَقُودُهَا) أي حطبها (النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) يريد بها أصنامهم المنحوتة من الحجارة كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وقوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) معناه : خلقت وهيئت للكافرين لأنهم الذين يخلدون فيها ، ولأنهم أكثر أهل النار.

٢٥ ـ قرن الله تعالى الوعد في هذه الآية بالوعيد فيما قبلها ليحصل الترغيب والترهيب فقال (وَبَشِّرِ) أي أخبر بما يسر (الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فيما بينهم وبين ربهم بأن لهم (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت أشجارها ومساكنها (الْأَنْهارُ) والنهر لا يجري وإنما يجري الماء فيه ويستعمل الجري فيه توسعا لأنه موضع الجري ، وقوله (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) أي من الجنات والمعنى : من أشجارها (مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) أي أعطوا من ثمارها عطاءا ،

١١

واطعموا منها طعاما (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) معناه : هذا الذي وعدنا به في الدنيا وطيبه وجودته (وَأُتُوا بِهِ) أي جيئوا به (مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا في اللذة وجميع الصفات (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) هن الحور العين (مُطَهَّرَةٌ) في الأبدان والأخلاق والأعمال (وَهُمْ فِيها) أي في الجنة (خالِدُونَ) يعني دائمون.

٢٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) معناه أن الله لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها (ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) فما فوقها في الصغر والقلة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا محمدا والقرآن ، وقبلوا الإسلام (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) مدحهم الله تعالى بأنهم تدبروا حتى علموا أنه من ربهم ، وأن المثل وقع في حقه (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقرآن (فَيَقُولُونَ) أي فلاعراضهم عن طريق الإستدلال وإنكارهم الحق قالوا (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي ماذا أراد الله بهذا المثل (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) إنه حكاية عمّن قال : ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ، أي يضل به قوم ويهتدي به قوم ، ثم قال الله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) فبين تعالى أنه لا يضل إلا فاسقا ضالا.

٢٧ ـ ثم وصف الله الفاسقين والمذكورين في الآية فقال هم (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) أي يهدمونه ولا يفون به إن المراد به كفار أهل الكتاب وعهد الله الذي نقضوه (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) هو ما أخذه عليهم في التوراة من اتباع محمد (ص) والتصديق بما جاء به من عند ربه ونقضهم لذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته ، وكتمانهم ذلك عن الناس بعد أن أخذ الله ميثاقهم ليبيّننه للناس ولا يكتمونه ، وانهم إن جاءهم نذير آمنوا به فلما جاءهم النذير ازدادوا نفورا ، ونبذوا العهد وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا ، وقوله تعالى : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) معناه : أمروا بصلة النبي (ص) والمؤمنين فقطعوهم ، وقوله (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أراد كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي أهلكوا أنفسهم فهم بمنزلة من هلك رأس ماله.

٢٨ ـ ثم عاد الله تعالى إلى الإحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث ، وجحودهم لرسله وكتبه بما أنعم به عليهم فقال : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) تقديره عجبا منكم على أي حال يقع منكم الكفر بالله مع الدلائل الظاهرة على وحدانيته ، والمعجزات القاهرة على صدق من اختصه برسالته ، وقيام الحجج الباهرة على وجوب طاعته ، وشكر نعمته. ثم ذكر سبحانه بعض نعمه عليهم فقال : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) عن ابن عباس وابن مسعود معناه : لم تكونوا شيئا فخلقكم ، ثم يميتكم ، ثم يحييكم يوم القيامة (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في القبر للمساءلة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي يبعثكم يوم الحشر للحساب والمجازاة على الأعمال.

٢٩ ـ قال المفسرون : لما استعظم المشركون أمر الإعادة عرفهم الله تعالى خلق السموات والأرض ليدلهم بذلك على قدرته على الإعادة فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) أي لأجلكم (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) معناه أن الأرض وجميع ما فيها نعم من الله تعالى مخلوقة لكم ، إمّا دينية فتستدلون بها على معرفته وإمّا دنياوية فتنتفعون بها بضروب النفع عاجلا وقوله (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) في تفرده بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وجعلهن سبع سموات مستويات بلا فطور ولا أمت وقوله : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ولم يقل قدير لأنه لما وصف نفسه بالقدرة والإستيلاء وصل ذلك بالعلم إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الإتقان والإحكام.

١٢

٣٠ ـ أذكر يا محمد (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) انه خطاب لجميع الملائكة (إِنِّي جاعِلٌ) أي (فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أراد بالخليفة آدم (ع) فهو خليفة الله في أرضه يحكم بالحق وقوله : (قالُوا) يعني الملائكة لله تعالى (أَتَجْعَلُ فِيها) أي في الأرض (مَنْ يُفْسِدُ فِيها) بالكفر والمعاصي ومعنى قولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) : نتكلم بالحمد لك ، والنطق بالحمد لله تسبيح له كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ، وقيل معنى نسبح بحمدك نصلي لك ، وقوله (وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي ننزهك عما لا يليق بك من صفات النقص ، ولا نضيف إليك القبائح (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أراد به ما اختص الله تعالى بعلمه من تدبير المصالح.

٣١ ـ ثم أبان سبحانه وتعالى لملائكته فضل آدم عليهم وعلى جميع خلقه بما خصه به من العلم ، فقال سبحانه وتعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) أي علمه معاني الأسماء إذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ، وقيل : إنه سبحانه علمه جميع الأسماء ، والصناعات ، وعمارة الأرضين ، والأطعمة ، والأدوية ، واستخراج المعادن وغرس الأشجار ومنافعها ، وجميع ما يتعلق بعمارة الدين والدنيا وقوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) عن مجاهد قال : عرض أصحاب الأسماء ، وأراد به انكم إذا عجزتم عن معرفة هذه الأشياء مع مشاهدتكم لها فأنتم عن معرفة الأمور المغيبة عنكم أعجز فقال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ليدلهم على أنهم إذا لم يعلموا باطن ما شاهدوا ، فهم من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد.

٣٢ ـ ثم أخبر سبحانه عن الملائكة بالرجوع إليه ، والتسليم لأمره فقال : (قالُوا) أي الملائكة (سُبْحانَكَ) أي تنزيها وتعظيما عن أن يعلم الغيب أحد سواك (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) لا نعلم إلّا بتعليمك ، وليس هذا فيما علمتنا (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) أي العالم بجميع المعلومات ، (الْحَكِيمُ) معناه المحكم لأفعاله ، ومعناه : إن أفعاله كلها حكمة وصواب وليس فيها تفاوت ، ولا وجه من وجوه القبح.

٣٣ ـ ثم خاطب الله تعالى آدم فقال : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) أي أخبر الملائكة (بِأَسْمائِهِمْ) يعني بأسماء الذين عرضهم عليهم (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ) يعني أخبرهم آدم (بِأَسْمائِهِمْ) أي بإسم كل شيء ومنافعه ومضاره ، قال الله تعالى للملائكة : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) الألف للتنبيه وإن كان أصلها الاستفهام كقول القائل : (أما ترى اليوم ما أطيبه) لمن يعلم ذلك (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أعلم ما غاب فيهما عنكم فلم تشاهدوه ، كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أراد أعلم سرّكم وعلانيتكم.

٣٤ ـ ثم بين سبحانه ما آتاه آدم (ع) من الإعظام والإجلال والإكرام فقال : واذكر يا محمد (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) والظاهر يقتضي أن الأمر بالسجود له كان لجميع الملائكة حتى جبرائيل وميكائيل لقوله : فسجد الملائكة كلهم أجمعون (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) قيل معناه : كان كافرا في الأصل ، وقيل معناه : صار من الكافرين كقوله تعالى : فكان من المغرقين.

٣٥ ـ ثم ذكر الله سبحانه ما أمر به آدم (ع) بعد أن أنعم عليه بما اختصه من العلوم فقال عزّ اسمه : (وَقُلْنا) وهذه نون الكبرياء والعظمة لا نون الجمع (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي اتخذ أنت وامرأتك الجنة مسكنا ومأوى لتأوي إليه وتسكن فيه أنت وامرأتك (وَكُلا) اباحة ، وقوله : (وَلا تَقْرَبا) تعبد بالاتفاق ، قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً) أي كلا من الجنّة كثيرا واسعا لا عناء فيه (حَيْثُ شِئْتُما) منها (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي لا تأكلا منها إنه نهي التنزيه دون التحريم كمن يقول لغيره : لا تجلس على الطريق وان آدم كان مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة وقوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)

١٣

أي تكونا بأكلها من الظالمين لأنفسكما ، ويجوز أن يقال لمن بخس نفسه الثواب أنه ظالم لنفسه ، كقوله تعالى حكاية عن أيوب : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، حيث بخس نفسه الثواب بترك المندوب إليه.

٣٦ ـ ثم بيّن سبحانه حال آدم (ع) قال : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أي حملهما على الزلة ، نسب الأزلال إلى الشيطان لما وقع بدعائه ووسوسته وإغوائه قوله : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يعني آدم وذريته ، وإبليس وذريته (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي مقر ومقام وثبوت بأن جعل الأرض قرارا لكم (وَمَتاعٌ) أي استمتاع (إِلى حِينٍ) إلى وقت الموت وقيل : إلى يوم القيامة.

٣٧ ـ ٣٨ ـ قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ) أي قبل وأخذ وتناول على سبيل الطاعة (مِنْ رَبِّهِ) ورب كل شيء (كَلِماتٍ) واغنى قوله فتلقى عن أن يقول : فرغب إلى الله بهن ، أو سأله بحقهن ، لأن معنى التلقي يفيد ذلك وينبىء عما حذف من الكلام اختصارا ، ولهذا قال تعالى : (فَتابَ عَلَيْهِ) لأنه لا يتوب عليه إلّا بأن سأله بتلك الكلمات ، وهي أن آدم رأى مكتوبا على العرش أسماء معظمة مكرمة فسأل عنها فقيل له : هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى (اهْبِطُوا) أي انزلوا ، واختلف في تكرار الهبوط فقيل : الهبوط الأول من الجنة إلى السماء ، وهذا الهبوط من السماء إلى الأرض (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) إن الإهباط إنما كان للإبتلاء والتكليف (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي بيان ودلالة (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي اقتدى برسلي واحتذى أدلتي فلا يلحقهم خوف من أهوال يوم القيامة من العقاب ، ولا هم يحزنون على فوات الثواب ، فأما الخوف والحزن في الدنيا فإنه يجوز أن يلحقهم لأن من المعلوم أن المؤمنين لا ينفكون منه.

٣٩ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي جحدوا (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي دلالاتنا وما أنزلناه على الأنبياء ف (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي الملازمون للنار (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي دائمون.

٤٠ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) هو خطاب لليهود الذين كانوا بالمدينة وما حولها (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أراد بذلك النعم التي أنعم بها على أسلافهم من كثرة الأنبياء فيهم والكتب ، وأنجائهم من فرعون ومن الغرق على أعجب الوجوه وأنزال المن والسلوى عليهم وكون الملك فيهم في زمن سليمان (ع) ، وغير ذلك ، وعدّ النعمة على آبائهم نعمة عليهم لأن الأولاد يتشرفون بفضيلة الآباء.

٤١ ـ ثم قال مخاطبا لليهود : (وَآمِنُوا) أي صدّقوا (بِما أَنْزَلْتُ) على محمد (ص) من القرآن لأنه منزل من السماء إلى الأرض (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من التوراة وقوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي بالقرآن من أهل الكتاب (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) والمعنى : لا تستبدلوا بآياتي أي بما في التوراة من بيان صفة محمد ونعته ثمنا قليلا أي عرضا يسيرا من الدنيا (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) فاخشوني في أمر محمد (ص) لا ما يفوتكم من المآكل.

٤٢ ـ قوله : (لا تَلْبِسُوا) لا تخلطوا (الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ومعنى ألبسهم الحق بالباطل : أنّهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لا تكتموا صفة النبي (ص) في التوراة وأنتم تعلمون أنّه حقّ.

٤٣ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أدّوها بأركانها وحدودها وشرائطها كما بيّنها النبي (ص) (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أعطوا ما فرض الله عليكم في أموالكم على ما بيّنه الرسول لكم ، وقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) الخطاب لليهود ولم يكن في صلاتهم ركوع وكان الأحسن ذكر المختص دون المشترك لأنه

١٤

أبعد من اللبس.

٤٤ ـ هذه الآية خطاب لعلماء اليهود كانوا يأمرون العرب بالإيمان بمحمد (ص) إذا بعث فلما بعث كفروا به (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) معناه وأنتم تقرأون التوراة وفيها صفته ونعته وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) معناه هذا ليس بفعل من يعقل.

٤٥ ـ إنه خطاب لليهود ان حب الرياسة كان يمنع علماء اليهود عن اتباع النبي (ص) لأنهم خافوا زوال الرياسة إذا ابتعوه ، فأمرهم الله تعالى فقال : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) على الوفاء بعهدي الذي عاهدتكم في كتابكم عليه من طاعتي واتباع أمري ، وترك ما نهيتكم عنه ، والتسليم لأمري ، واتباع رسولي محمد بالصبر على ما أنتم فيه من ضيق المعاش الذي تأخذون الأموال من عوامكم بسببه. وفائدة الاستعانة بالصّلاة أنه يتلى فيها ما يرغب فيما عند الله تعالى ، ويزهد في الدنيا وحب الرئاسة ، ولأنها تتضمن التواضع لله تعالى (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) أي لثقيلة والأصل فيه إن كل ما يكبر يثقل على الإنسان حمله (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) أي على المتواضعين لله تعالى فإنهم قد وطنوا أنفسهم على فعلها وعودوها إياها فلا يثقل عليهم.

٤٦ ـ لما تقدم ذكر الخاشعين بيّن صفتهم فقال (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) أي يوقنون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا) ما وعدهم (رَبِّهِمْ) يكونون أبدا على حذر ووجل ولا يركنون إلى الدنيا (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أنهم يرجعون إلى موضع لا يملك أحد لهم ضرا ولا نفعا غيره تعالى.

٤٧ ـ قد مضى تفسير أول الآية فيما تقدم وقوله : (أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال ابن عباس : أراد به عالمي أهل زمانهم لأن أمتنا أفضل الأمم بالإجماع ، بدليل قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ).

٤٨ ـ لما بيّن سبحانه نعمه العظام عليهم أنذرهم في كفرانها بيوم القيامة فقال (وَاتَّقُوا) أي احذروا واخشوا (يَوْماً لا تَجْزِي) أي لا تغني (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) ولا تدفع عنها مكروها (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) قال المفسرون : حكم هذه الآية مختص باليهود لأنهم قالوا : نحن أولاد الأنبياء وآباؤنا يشفعون والمراد به الخصوص (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) ومعناه : لا يؤخذ من أحد فداء يكفّر عن ذنوبه وقوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي ليس لهم ناصر ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم.

٤٩ ـ ثم فصّل سبحانه في هذه الآية النعم التي أجملها فيما قبل فقال : واذكروا (إِذْ نَجَّيْناكُمْ) أي خلصناكم من قوم (فِرْعَوْنَ) وأهل دينه (يَسُومُونَكُمْ) يلزمونكم (سُوءَ الْعَذابِ) يذيقونكم ويكلفونكم وقوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) معناه : يقتلون أبناءكم ويستحيون بناتكم يستبقونهن ويدعونهن أحياء ليستعبدن وقوله : (وَفِي ذلِكُمْ) أي وفي سومكم العذاب ، وذبح الأبناء (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي لما خلى بينكم وبينه حتى فعل بكم هذه الأفاعيل.

٥٠ ـ ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال : واذكروا (إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي فرقنا بين المائين حتى مررتم فيه فكنتم فرقا بينهما تمرون في طريق يبس (فَأَنْجَيْناكُمْ) يعني من البحر والغرق وقوله : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) معناه : وأنتم تشاهدون أنهم يغرقون ، وهذا أبلغ في الشماتة وإظهار المعجزة.

٥١ ـ واذكروا (إِذْ واعَدْنا مُوسى) أن نؤتيه الألواح فيها التوراة والبيان والشفاء على رأس (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وقوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي اتخذتموه إلها من بعد غرق فرعون وما رأيتم من الآيات (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي مضرون بأنفسكم بما

١٥

استحققتم من العقاب على اتخاذكم العجل إلها.

٥٢ ـ (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) أي من بعد إتخاذكم إياه إلها (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا الله على عفوه عنكم ، وسائر نعمه.

٥٣ ـ (وَ) اذكروا (إِذْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) وهو التوراة (وَالْفُرْقانَ) انفراق البحر الذي أتاه موسى (ع) وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا.

٥٤ ـ (وَ) اذكروا (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الذين عبدوا العجل عند رجوعه إليهم (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي اضررتم بأنفسكم ، ووضعتم العبادة غير موضعها (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) معبودا ، وظلمهم إياها فعلهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه مما يستحق به العقاب ، وكذلك كل من فعل فعلا يستحق به العقاب فهو ظالم لنفسه (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) أي إرجعوا إلى خالقكم ومنشئكم بالطاعة والتوحيد ، وجعل توبتهم الندم مع العزم ، وقتل النفس جميعا (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ليقتل بعضكم بعضا يقتل البريء المجرم. روي أن موسى أمرهم أن يقوموا صفين ، فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم ، وجاء هارون باثني عشر ألفا ممن لم يعبدوا العجل ومعهم الشفار المرهفة وكانوا يقتلونهم ، فلما قتلوا سبعين ألفا تاب الله على الباقين ، وجعل قتل الماضين شهادة لهم ، وإنما إمتحنهم الله تعالى بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام (فَتابَ عَلَيْكُمْ) تقديره : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) أي قابل التوبة عن عباده مرة بعد مرة (الرَّحِيمُ) يرحمكم إذا تبتم ويدخلكم الجنة.

٥٥ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لن نصدقك في قولك إنك نبي مبعوث (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أي علانية فيخبرنا بأنك نبي مبعوث (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي الموت (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) إلى النار.

٥٦ ـ (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أي ثم أحييناكم (مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) لاستكمال آجالكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا الله على نعمه التي منها رده الحياة إليكم.

٥٧ ـ (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أي جعلنا لكم الغمام ظلة وسترة تقيكم حر الشمس في التيه (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) إنه نه المن الذي يعرفه الناس يسقط على الشجر (وَالسَّلْوى) هو طائر أبيض يشبه السماني (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) معناه : قلنا لهم : كلوا من الشيء الذي رزقناكم : أي أعطيناكم وجعلناه رزقا لكم وقوله (وَما ظَلَمُونا) أي فكفروا هذه النعمة وما نقصونا بكفرانهم أنعمنا (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي يعصون وقيل معناه : وما ضرونا ولكن كانوا أنفسهم يضرون. وهذا يدل على أنه الله تعالى لا ينفعه طاعة من أطاعه ، ولا يضره معصية من عصاه ، وإنما تعود منفعة الطاعة إلى المطيع ، ومضرة المعصية إلى العاصي.

٥٨ ـ أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية هاهنا بيت المقدس ، يقول : اذكروا (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) أي أين شئتم (رَغَداً) أي موسعا عليكم مستمتعين بما شئتم من طعام القرية بعد المن والسلوى وقد قيل : إن هذه إباحة لهم منه لغنائمها وتملك أموالها إتماما للنعمة عليهم (وَادْخُلُوا الْبابَ) يعني الباب الذي أمروا بدخوله وقيل : هو باب حطة من بيت المقدس معناه : ادخلوا الباب فإذا دخلتموه فاسجدوا لله سبحانه شكرا وقوله (حِطَّةٌ) معناه : حط عنا ذنوبنا ، وهو أمر بالإستغفار (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) أي نصفح ونعف عن ذنوبكم (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي وسنزيدهم على ما يستحقونه من الثواب تفضلا كقوله تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

١٦

٥٩ ـ ثم بين سبحانه أنهم قد عصوا فيما أمروا به فقال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي فخالف الذين عصوا والذين فعلوا ما لم يكن لهم أن يفعلوه ، وغيروا ما أمروا به فقالوا حطا سمقانا ومعناه : حنطة حمراء فيها شعيرة ، وكان قصدهم في ذلك الإستهزاء ومخالفة الأمر (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي فعلوا ما لم يكن لهم فعله من تبديلهم ما أمر الله به بالقول والفعل (رِجْزاً) أي عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بكونهم فاسقين ، كقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) : أي بعصيانهم ، وقال ابن زيد : اهلكوا بالطاعون فمات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا من كبرائهم وشيوخهم.

٦٠ ـ ثم عدّ سبحانه وتعالى على بني إسرائيل نعمة أخرى إضافة إلى نعمه الأولى فقال : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى) أي سأل موسى لقومه ماء (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) معناه : فضربه فانفجرت وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه ، فشكوا إليه الظمأ فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك ، وهي عصاه المعروفة وكانت من آس الجنة دفعها إليه شعيب ، وكان ادم حمله من الجنة معه إلى الأرض ، فكان يقرع لهم حجرا من عرض الحجارة فينفجر عيونا لكل سبط عينا وكانوا إثني عشر سبطا ، ثم يسير كل في جدول إلى السبط الذي أمر بسقيهم (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) كان ينبجس ثم يكثر حتى يصير إنفجار (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) كان ينبجس ثم يكثر حتى يصير إنفجار (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) أي قد علم كل سبط وفريق منهم موضع شربهم وقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي وقلنا لهم كلوا واشربوا (مِنْ رِزْقِ اللهِ) أي كلوا من النعم التي منّ الله بها عليكم من المن والسلوى وغير ذلك ، واشربوا من الماء ، فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة ولا مؤونة ولا تبعة وقوله (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العيث : هو الفساد ، والمعنى : لا تسعوا في الأرض فسادا.

٦١ ـ لما عدد سبحانه فيما قبل ما أسداه إليهم من النعم والإحسان ، ذكر ما قابلوا به تلك النعم من الكفران وسوء الإختيار لنفوسهم بالعصيان فقال : (وَإِذْ قُلْتُمْ) أي قال أسلافكم من بني إسرائيل (يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد ، وقوله : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي فاسأل ربك وادعه لأجلنا (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) أي مما تنبته الأرض من البقل والقثاء ومما سماه الله مع ذلك ، وقوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) معناه : قال لهم موسى : أتتركون ما اختار الله لكم وتؤثرون ما هو أدون وأردى على ذلك وقوله (اهْبِطُوا مِصْراً) أراد مصر فرعون الذي خرجوا منه (فَإِنَّ لَكُمْ) فيها (ما سَأَلْتُمْ) من نبات الأرض ، ثم استأنف حكم الذين اعتدوا في السبت ، ومن قتل الأنبياء فقال : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي الزموا الذلة إلزاما لا يبرح عنهم كما يضرب المسمار على الشيء فيلزمه وقوله : والمسكنة : يعني زي الفقر ، فترى المثري منهم بتباءس ولا يوجد يهودي غني النفس ، وقال النبي (ص): الغني غني النفس ، وقال ابن زيد : أبدل الله اليهود بالعز ذلا ، وبالنعمة بؤسا وبالرضا عنهم غضبا ، جزاء لهم بما كفروا بآياته ، وقتلوا أنبياءه ورسله اعتداء وظلما (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجعوا منصرفين قد وجب عليهم من الله الغضب ، وحلّ بهم منه السخط ثم أشار إلى ما تقدم ذكره فقال (ذلِكَ) أي ذلك الغضب وضرب الذلة والمسكنة حل بهم لأجل (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي يجحدون وقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي بغير جرم كزكريا ويحيى وغيرهما وقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ذلك إشارة إلى ما تقدم أيضا بعصيانهم في قتل الأنبياء.

١٧

٦٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) هم الذين آمنوا بعيسى ثم لم يتهودوا ولم يتنصروا ولم يصبأوا وانتظروا خروج محمد (ص) (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي بتوحيد الله وصفاته وعدله (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعني يوم القيامة والبعث والنشور والجنة والنار (وَعَمِلَ صالِحاً) أي عمل ما أمر الله به من طاعات (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي جزاؤهم وثوابهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي معد لهم عنده ، وقوله (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) معناه : لا خوف عليهم في العقبى ولا يحزنون على الدنيا. وفي هذه الآية دلالة على أن الإيمان هو التصديق والإعتقاد بالقلب.

٦٣ ـ ثم عاد إلى خطاب بني إسرائيل فقال : (وَ) إذكروا (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي عهدكم والعهد هو الذي فطر الله الخلق عليه من التوحيد والعدل ، ونصب لهم الحجج الواضحة ، والبراهين الساطعة الدالة على ذلك وعلى صدق الأنبياء والرسل (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) قال أبو زيد : هذا حين رجع موسى من الطور فأتى بالألواح فقال لقومه جئتكم بالألواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها ، قالوا : ومن يقبل قولك ، فأرسل الله عزوجل الملائكة حتى نتقوا الجبل فوق رؤوسهم فقال موسى (ع) : إن قبلتم ما آتيتكم به وإلّا أرسلوا الجبل عليكم ، فأخذوا التوراة وسجدوا لله تعالى ملاحظين إلى الجبل ، فمن ثم يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) يعني التوراة (بِقُوَّةٍ) أي بجدّ ويقين لا شك فيه (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) يعني احفظوا ما في التوراة من الحلال والحرام ولا تنسوه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي كي تتقوني إذا فعلتم ذلك ، وتخافوا عقابي ، وتنتهوا إلى طاعتي ، وتنزعوا عما أنتم عليه من المعصية.

٦٤ ـ معنى الآية ثم نبذتم العهد الذي أخذناه عليكم بعد إعطائكم المواثيق وراء ظهوركم وأعرضتم عنه (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه إذ رفع فوقكم الطور ، وأنعم عليكم بالإسلام ، ورحمته التي رحمكم بها فتجاوز عنكم خطيئتكم بمراجعتكم طاعة ربكم (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) المعنى : فلولا فضل الله عليكم بإمهاله إياكم بعد توليكم عن طاعته حتى تاب عليكم برجوع بعضكم عن ذلك وتوبته لكنتم من الخاسرين.

٦٥ ـ خاطب اليهود فقال (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) أي عرفتم (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) أي الذين جاوزوا ما أمروا به من ترك الصيد يوم السبت (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً) وهذا إخبار عن سرعة فعله ومسخه إياهم وقوله (خاسِئِينَ) أي مبعدين عن الخير وقيل أذلاء صاغرين مطرودين ، عن مجاهد.

٦٦ ـ (فَجَعَلْناها) الضمير يعود إلى القرية التي مسخت وهم أهل أيلة قرية على شاطىء البحر (نَكالاً) أي عقوبة وقيل : إشتهارا وفضيحة وقيل : تذكرة وعبرة وقوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) المروي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أنهما قالا : لما بين يديها : أي لما معها ينظر إليها من القرى ، وما خلفها : نحن ولنا فيها موعظة (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) معناه : أنه إنما يتعظ بها المتقون ، فكأنها موعظة لهم دون غيرهم ، وهذا كقوله سبحانه : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

٦٧ ـ ٧١ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) قال قوم موسى له : أتسخر بنا حيث سألناك عن القتيل فتأمرنا بذبح بقرة ، استهزاء بنا؟ (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي معاذ الله أن أكون من المستهزئين ، وإنما قال من الجاهلين ليدل على أن الإستهزاء لا يصدر إلّا عن جاهل ، فلما علموا أن ذبح البقرة فرض من الله تعالى سألوا عنها فبدأوا بسنها فقالوا (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي سل من أجلنا ربك (يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ولم يظهر في السؤال أن

١٨

المسؤول عنه سن البقرة ، وإنما ظهر ذلك في الجواب (قالَ) موسى (ع) (إِنَّهُ يَقُولُ) أي أن اسمه (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) أي ليست بكبيرة هرمة ، ولا صغيرة (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي هي وسط بين الصغيرة والكبيرة (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) أي اذبحوا ما أمرتم بذبحه ، فلما بين سبحانه سن البقرة سألوا عن لونها (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) أي سل ربك يبين لنا ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها (قالَ) موسى (إِنَّهُ) سبحانه وتعالى (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ) حتى قرنها وظلفها اصفران (فاقِعٌ لَوْنُها) أي شديدة صفرة لونها وقوله : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي تعجب الناظرين وتفرحهم بحسنها. ولما بين سبحانه سن البقرة ولونها سألوا عن صفتها (قالُوا) يا موسى (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي أمن العوامل أم من السوائم (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي إشتبه علينا صفة البقرة التي أمرنا الله بذبحها (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى صفة البقرة بتعريف الله إيانا ، وبما يشاؤه لنا من اللطف والزيادة البيان (قالَ) يعني موسى (ع) (إِنَّهُ) يعني الله تعالى (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) أي البقرة التي أمرتم بذبحها (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) أي لم يذللها العمل بإثارة الأرض بأظلافها (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي لا يستقى عليها الماء فتسقي الزرع (مُسَلَّمَةٌ) أي بريئة من العيوب (لا شِيَةَ فِيها) لا وضح فيها يخالف لون جلدها (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي ظهر لنا الحق الآن ، وهي بقرة فلان وهذا يدل على أنه كان فيهم من يشك في أن موسى (ع) ما بيّن الحق (فَذَبَحُوها) يعني ذبحوا البقرة على ما أمروا به (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي قرب أن لا يفعلوا ذلك مخافة إشتهار فضيحة القاتل.

٧٢ ـ ٧٤ ـ (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) المراد واذكروا إذ قتلتم نفسا ، وهذا خطاب لمن كان على عهد النبي (ص) والمراد به أسلافهم على عادة العرب في خطاب الأبناء والأحفاد بخطاب الأسلاف والأجداد ، وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها فقالت : فعلت بنو تميم كذا وإن كان الفاعل واحدا (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) الهاء من فيها يعود إلى النفس ، أي كل واحد دفع قتل النفس عن نفسه (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي مظهر ما كنتم تسرون من القتل (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) أي قلنا لهم اضربوا القتيل ببعض البقرة فقام حيا وقال : قتلني فلان ثم عا ميتا ، ليزول الخلف والتدارؤبين القوم (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) أي إعلموا بما عاينتموه أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى للجزاء (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) يعني المعجزات الباهرة الخارقة للعادة من إحياء ذلك الميت وغيره (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تستعملوا عقولكم فإن من لم يستعمل عقله ، ولم يبصر رشده فهو كمن لا عقل له (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) أي غلظت ويبست وعتت وقست (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد آيات الله كلها التي أظهرها على يد موسى (ع) وقوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) شبه قلوبهم بالحجارة في الصلابة واليبس والغلظ والشدة (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أي أشد صلابة لامتناعهم عن الإقرار اللازم بقيام حجته ، والعمل بالواجب من طاعته ، بعد مشاهدة الآيات ، ثم فضّل سبحانه الحجارة على القلب القاسي فقال : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) معناه : إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم القاسية فيتفجر منه أنهار الماء (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) يعني ومن الحجارة ما يخرج منه الماء فيكون عينا نابعة لا أنهارا جارية (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي ومن الحجارة ما يهبط من خشية الله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أيها المذبون بآياته ، الجاحدون نبوة نبيه محمد (ص).

٧٥ ـ هذا خطاب لأمة نبينا محمد (ص) يقول (أَفَتَطْمَعُونَ) أيها المؤمنون (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) من طريق

١٩

النظر والإعتبار والإنقياد للحق بالإختيار (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي ممن هو في مثل حالهم من أسلافهم (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) ويعلمون أنه حق ويعاندون فيحرفونه وقوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) معناه : أنهم غيروه من بعد ما فهموه فانكروه عنادا (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم يحرفونه ، أي يغيّرونه.

٧٦ ـ ثم ذكر الله سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة فقال (وَ) هم الذين (إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي رأوهم (قالُوا آمَنَّا) أي صدقنا بمحمد أنه نبي صادق نجده في كتابنا بنعته وصفته وبما صدقتم به ، واقررنا بذلك ، اخبر الله تعالى عنهم أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين ، وتحلوا بحليتهم ، واستنوا بسنتهم (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي إذا خلا بعض هؤلاء اليهود الذين وصفهم الله إلى بعض منهم فصاروا في خلاء وهو الموضع الذي ليس فيه غيرهم (قالُوا) يعني قال بعضهم لبعض (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي لا تقروا بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وأنه النبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا ، اجحدوه ولا تقروا لهم به ، وقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي ليكون لهم الحجة عليكم عند الله في الدنيا والآخرة في إيمانهم بالنبي (ص) إذ كنتم مقرين به ، ومخبرين بصحة أمره من كتابكم وقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تفقهون أيها القوم ان اخباركم محمدا وأصحابه بما تخبرونهم به من وجود نعت محمد في كتبكم حجة عليكم عند ربكم ، يحتجون بها عليكم.

٧٧ ـ (أَوَلا يَعْلَمُونَ) يعني اليهود (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يعلم سرّهم وعلانيتهم.

٧٨ ـ (وَمِنْهُمْ) يعني ومن هؤلاء اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات ، وقطع الطمع عن إيمانهم (أُمِّيُّونَ) أي غير عالمين بمعاني الكتاب ، يعلمونها حفظا وتلاوة لا رعاية ودراية وفهما لما فيه.

وقوله : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) أي لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزل الله عزوجل ، ولا يدرون ما أودعه الله إياه من الحدود والأحكام والفرائض (إِلَّا) بمعنى لكن (أَمانِيَ) أي قولا يقولونه بأفواههم كذبا (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) معناه أنهم يشكون.

٧٩ ـ ثم عاد سبحانه إلى ذكر علماء اليهود فقال (فَوَيْلٌ) قال ابن عباس : الويل في الآية العذاب انه واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره وقوله : (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) معناه : يتولون كتابته ثم يضيفونه إلى الله سبحانه فاعلمنا الله سبحانه أنهم يكتبونه بأيديهم ويقولون : هو من عند الله وقد علموا يقينا أنه ليس من عنده وقوله : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) يريد ليأخذوا به ما كانوا يأخذونه من عوامهم من الأموال (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) أي عذاب لهم ، وخزي لهم ، وقبح لهم ، مما فعلوا من تحريف الكتاب (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من المعاصي.

٨٠ ـ (وَقالُوا) أي قالت اليهود (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أي لن تصيبنا (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) معناه : أياما قلائل كقوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) ، قال الله سبحانه : قل يا محمد لهم (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) أي موثقا أنه لا يعذبكم إلّا هذه المدة وعرفتم ذلك بوحيه وتنزيله ، فإن كان ذلك فالله سبحانه لا ينقض عهده وميثاقه (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ) الباطل جهلا منكم به ، وجرأة عليه (ما لا تَعْلَمُونَ).

٨١ ـ ٨٢ ـ ردّ الله تعالى على اليهود قولهم لن تمسنا النار إلّا أياما معدودة فقال (بَلى) أي ليس الأمر كما قالوا ولكن (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) هي الذنوب التي أوعد الله عليها النار

٢٠