الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

٨١ ـ ٨٢ ـ لمّا تقدّم ذكر النبيين عقّبه سبحانه بذكر نبينا وما أخذ من عهده عليهم أجمعين فقال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) وتقديره : واذكر إذ أخذ الله ، وروي عن أمير المؤمنين (ع) ان الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبينا (ص) أن يخبروا أممهم بمبعثه ونعته ، ويبشروهم به ، ويأمروهم بتصديقه (لَما آتَيْتُكُمْ) تقديره : للذي أتيتكموه ، أي أعطيتكموه (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) يعني محمدا (ص) (مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) أي لما آتيتكم من الكتب (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) أي لتؤمنن بالرسول (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) ولتنصرن الرسول (قالَ) أي قال الله لأنبيائه (أَأَقْرَرْتُمْ) وصدقتموه (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) معناه : وأخذتم العهد بذلك على أممكم (قالُوا) أي قال الأنبياء وأممهم (أَقْرَرْنا) بما أمرتنا بالإقرار به (قالَ) الله (فَاشْهَدُوا) بذلك على أممكم (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) عليكم وعلى أممكم (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) أي فمن أعرض عن الإيمان بمحمد بعد هذه الدلالات والحجج ، وبعد أخذ الميثاق على النبيين الذين سبق ذكرهم ، وقد روي عن علي عليه‌السلام أنه قال : لم يبعث الله نبيّا آدم ومن بعده إلّا أخذ عليه العهد لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ العهد بذلك على أمته (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ولم يقل الكافرون لأن المراد الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتب الكفر بتمردهم وذلك أن أصل الفسق الخروج عن أمر الله إلى حال توبقه ، وفي الكفر ما هو أكبر ، كما أن فيما دون الكفر من المعاصي ما هو أكبر وما هو أصغر بالإضافة إليه.

٨٣ ـ ٨٥ ـ لمّا بيّن سبحانه بطلان اليهودية وسائر الملل غير الإسلام ، بيّن عقيبه أن من يتبع غير دينه فهو ضال لا يجوز القبول منه فقال : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) أي أفبعد هذه الآيات والحجج يطلبون دينا غير دين الله (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) قيل فيه أقوال (أحدها) أنه معناه : أسلم من في السماوات والأرض بحاله الناطقة عنه ، الدالة عليه عند أخذ الميثاق ، عن ابن عباس (وثانيها) أسلم : أي أقرّ بالعبودية وإن كان فيهم من أشرك بالعبادة كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ومعناه ما ركب الله في عقول الخلائق من الدعاء إلى الإقرار له بالربوبية ، ليتنبهوا على ما فيه من الدلالة ، عن مجاهد (وثالثها) أسلم المؤمن طوعا ، والكافر كرها عند موته ، كقوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ، عن قتادة (ورابعها) معناه : استسلم له بالإنقياد والذكر كقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) ، أي استسلمنا ، عن الشعبي والجبائي والزجاج (وخامسها) أن معناه : أكره قوم على الإسلام وجاء قوم طائعين ، عن الحسن ، وهو المروي عن أبي عبد الله قال : كرها : أي فرقا من السيف. وقال الحسن والمفضل : الطوع لأهل السماوات خاصة ، وأما أهل الأرض فمنهم من أسلم طوعا ، ومنهم من أسلم كرها (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي إلى جزائه تصيرون ، فبادروا إلى دينه ولا تخالفوا الإسلام (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ) خطاب للنبي (ص) وأمر له بأن يقول عن نفسه وعن أمته آمنا بالله (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) الآية كما يخاطب رئيس القوم بأن يقول عن نفسه وعن رعيته (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) أي يطلب دينا يدين به (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) بل يعاقب عليه ، ويدل عليه قوله : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي من الهالكين.

٨٦ ـ ٨٩ ـ لما بيّن تعالى أن الإسلام هو الدين الذي به النجاة بيّن حال من خالفه فقال : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا

٨١

بَعْدَ إِيمانِهِمْ) معناه : كيف يسلك الله بهم سبيل المهتدين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد كفروا بعد إيمانهم (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ) عطف على قوله بعد إيمانهم وتقديره : بعد أن آمنوا وشهدوا أن الرسول حق (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي البراهين والحجج (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يسلك بالقوم الظالمين مسلك المهتدين ، ولا يثيبهم ولا يهديهم إلى طريق الجنة (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ) على أعمالهم (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) وهي إبعاده إياهم من رحمته ومغفرته (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هي دعاء عليهم باللعنة وبأن يبعدهم الله من رحمته (خالِدِينَ فِيها) أي في اللعنة لخلودهم فيما استحقوا باللعنة وهو العذاب (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لا يسهل عليهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي ولا يمهلون للتوبة ، ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر ، وإنما نفى انظارهم للتوبة والإنابة لما علم من حالهم أنهم لا ينيبون كما قال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي تابوا من الكفر ، ورجعوا إلى الإيمان ، وأصلحوا ضمائرهم ، وعزموا على أن يثبتوا على الإسلام (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ذنوبهم (رَحِيمٌ) يوجب الجنة لهم وذكر المغفرة دليل على ان إساقط العقاب بالتوبة تفضل منه سبحانه ، وان ما لا يجوز المؤاخذة به أصلا لا يجوز تعليقه بالمغفرة ، وان ما يعلق بالمغفرة ما يكون له المؤاخذة به.

٩٠ ـ لما تقدّم ذكر التوبة المقبولة عقّبه الله بما لا يقبل منها فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) نزلت في أهل الكتاب الذي آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مبعثه ثم كفروا به بعد مبعثه ، فهم كلما نزلت آية كفروا بها فازدادوا كفرا إلى كفرهم (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لأنها لم تقع على وجه الإخلاص ، ويدل عليه قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) ، ولو حقّقوا التوبة لكانوا مهتدين ، وقيل : لن تقبل توبتهم عند رؤية اليأس لأنها تكون في حال الإلجاء ، ومعناه : أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة ، عن الحسن وقتادة والجبائي ، وقيل : لأنها أظهرت الإسلام تورية فاطلع الله تعالى رسوله على سرائرهم عن ابن عباس ، وقد دلّ السمع على وجوب قبول التوبة إذا حصلت شرائطها وعليه إجماع الأمة (أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) عن الحق والصواب وقيل : الهالكون المعذبون.

٩١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي على كفرهم (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) أي مقدار ما يملأ الأرض من الذهب (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) بذله عوضا ومعناه : أن الكافر الذي يعتقد الكفر وإن أظهر الإيمان لا ينفعه الإنفاق ، بمعنى أنه لا يوجب له الثواب ، وقيل معناه : لا يقبل منه في الآخرة لو وجد إليه السبيل. قال قتادة : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا لكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم ، فيقال له : لقد سئلت أيسر من ذلك فلم تفعل.(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) قد ذكرنا معناه.

٩٢ ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) أي لن تدركوا بر الله تعالى بأهل طاعته وقيل معناه : لن تكونوا أبرارا ، أي صالحين أتقياء (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي حتى تنفقوا المال ، وإنّما كنّى بهذا اللفظ عن المال لأن جميع الناس يحبون المال وقيل معناه : ما تحبّون من نفائس أموالكم دون ارذالها ، كقوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) وقيل : هو الزكاة الواجبة وما فرضه الله في الأموال ، عن ابن عباس والحسن ، وقيل : هو جميع ما ينفقه المرء في سبيل الخيرات ، عن مجاهد (وَما

٨٢

تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) وما تنفقوا من شيء فإن الله يجازيكم به قلّ أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء منه.

٩٣ ـ ٩٤ ـ (كُلُّ الطَّعامِ) أي كل المأكولات (كانَ حِلًّا) أي كان حلالا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) أي يعقوب (عَلى نَفْسِهِ) ان يعقوب أخذه وجع العرق الذي يقال له عرق النسا ، فنذر إن شفاه الله أن يحرّم العروق ولحم الإبل وهو أحب الطعام إليه (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) معناه : ان كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل قبل أن تنزل التوراة على موسى فإنها تضمنت تحريم بعض ما كان حلالا لبني إسرائيل ، ولم يحرّم الله عليهم في التوراة وإنما حرّم عليهم بعد التوراة بظلمهم وكفرهم ، وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرّم الله عليهم طعاما طيبا ، وصب عليهم رجزا وهو الموت ، وذلك قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) حتى يتبين أنه كما قلت لا كما قلتم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، فاحتج عليم بالتوراة وأمرهم بالإتيان بها وان يقرأوا ما فيها فلم يجسروا على إتيان التوراة لعلمهم بصدق النبي (ص) وبكذبهم ، وكان ذلك دليلا ظاهرا على صحة نبوة نبينا محمد (ص) إذ علم بأن في التوراة ما يدل على كذبهم من غير تعلم التوراة وقراءتها (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي فمن افترى الكذب على الله تعالى من بعد قيام الحجة وظهور البينة (فَأُولئِكَ) هم المفترون على الله الكذب (هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم.

٩٥ ـ ثم بيّن تعالى أن الصدق فيما أخبر به فقال : (قُلْ صَدَقَ اللهُ) في أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه ، وفي أن محمدا (ص) على دين إبراهيم ، وأن دينه الإسلام (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) في استباحة لحوم الإبل وألبانها (حَنِيفاً) أي مستقيما على الدين الذي هو شريعته في حجه ونسكه وطيب مأكله ، وتلك الشريعة هي الحنيفية (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) برّأ الله تعالى إبراهيم مما كان ينسبه اليهود والنصارى إليه بزعمهم أنهم على دينه وكذلك مشركو العرب ، وأخبر أن إبراهيم كان بريئا من المشركين ودينهم.

٩٦ ـ ٩٧ ـ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) معناه : ان أول بيت وضع للعبادة ولم يكن قبله بيت يحجّ إليه البيت الحرام (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) قيل

بكة : المسجد ، ومكة : الحرم كله يدخل فيه البيوت وهو المروي عن أبي جعفر (ع) (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) أي دلالة لهم على الله تعالى لإهلاكه كل من قصده من الجبابرة كأصحاب الفيل وغيرهم ، وباجتماع الظبي في حرمه مع الكلب والذئب فلا ينفر عنه مع نفرته عنه في غيره من البلاد ، وباستشفاء المريض بالبيت ، وبأن لا يعلوه طير إعظاما له إلى غير ذلك من الدلالات (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) أي دلالات واضحات (مَقامُ إِبْراهِيمَ) فجعل مقام إبراهيم وحده هو الآية (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) عطف على مقام إبراهيم ، وفي مقام إبراهيم دلالة واضحة لأنه حجر صلد يرى فيه أثر قدميه ، ولا يقدر أحد أن يجعل الحجر كالطين إلّا الله ثم لما بين الله فضيلة بيته الحرام عقّبه بذكر وجوب حجة الإسلام فقال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) طريقا بنفسه وماله (وَمَنْ كَفَرَ) معناه : ومن جحد فرض الحج ولم يره واجبا (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) لم يتعبدهم بالعبادة لحاجته إليهم وإنما تعبدهم بها لما علم فيها من مصالحهم.

٩٨ ـ ٩٩ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي قل يا محمد لهم : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بالمعجزات التي أتاها

٨٣

محمد (ص) (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) أي حفيظ على أعمالكم محص لها ليجازيكم عليها (قُلْ) يا محمد لهم : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) أي لم تمنعون المؤمنين عن دين الإسلام الذي هو دين الله وسبيله؟ (تَبْغُونَها عِوَجاً) أي تطلبون لسبيل الله عوجا عن سمت الحق وهو الضلال (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) معناه : أنتم شهداء بتقديم البشارة بمحمد في كتبكم ، فكيف تصدون عنه من يطلبه وتريدون عدوله عنه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا تهديد لهم على الكفر.

١٠٠ ـ ١٠١ ـ ثم حذّر المؤمنين عن قبول قولهم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله ، وهو خطاب للأوس والخزرج ، ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللفظ (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) معناه : إن تطيعوا هؤلاء اليهود في قبول قولهم ، وإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) أي يرجعوكم كفارا بعد إيمانكم ، ثم أكّد تعالى الأمر ، وعظم الشأن فقال : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) أي وعلى أيّ حال يقع منكم الكفر (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) وهذا استبعاد أن يقع منهم الكفر مع معرفتهم بآيات الله ، وفيهم داع يدعوهم إلى الإيمان (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) يعني محمدا ترون معجزاته (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) أي يتمسك بكتابه وآياته وبدينه (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إلى طريق واضح.

١٠٢ ـ ١٠٣ ـ لمّا نهى تعالى عن قبول أقوال الكافرين بيّن في هذه الآية ما يجب قبوله فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) معناه : واتقوا عذاب الله : وقوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) أي احترسوا وامتنعوا بالطاعة من عذاب الله وقوله : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) معناه : لا تتركوا الإسلام وكونوا عليه حتى إذا ورد عليكم الموت صادفكم عليه (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) أي تمسكوا به وقيل : امتنعوا به من غيره ، وقيل في معنى حبل الله أقوال (أحدها) انه القرآن (وثانيها) انه دين الله الإسلام (وَلا تَفَرَّقُوا) معناه : ولا تتفرقوا عن دين الله الذي أمركم فيه بلزوم الجماعة ، والإئتلاف على الطاعة ، واثبتوا عليه (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) أراد ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، فزالت تلك الأحقاد ، عن ابن عباس ، وقيل : هو ما كان بين مشركي العرب من الطوائل ، عن الحسن ، والمعنى : احفظوا نعمة الله ومنته عليكم بالإسلام وبالإئتلاف ، ورفع ما كان بينكم من التنازع والإختلاف (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ) أي بنعمة الله (إِخْواناً) متواصلين ، وأحبابا متحابين ، بعد أن كنتم متحاربين متعادين (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي وكنتم يا أصحاب محمد (ص) على طرف حفرة من جهنم لم يكن بينها وبينكم إلّا الموت (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بأن أرسل إليكم رسولا ، وهداكم للإيمان ودعاكم إليه ، فنجوتم بإجابته من النار ، وإنما قال : (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) وإن لم يكونوا فيها لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها ، من حيث كانوا مستحقين لدخولها (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ) أي يبين الله لكم الآيات والحجج فيما أمركم به ونهاكم عنه (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا إلى الحق والصواب.

١٠٤ ـ ١٠٥ ـ (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) أي جماعة (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) أي إلى الدين (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالطاعة (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عن المعصية (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون وفي هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وعظم موقعهما ومحلهما من الدين ، لأنه تعالى علّق الفلاح بهما ، وعن النبي (ص) قال : من أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، فهو خليفة الله في

٨٤

أرضه ، وخليفة رسول الله ، وخليفة كتابه ، ثم أمر سبحانه بالجماعة ، وترك التفرق فقال سبحانه : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) في الدين وهم اليهود والنصارى (وَاخْتَلَفُوا) معناه : كالذين تفرقوا بالعداوة ، واختلفوا في الديانة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الحجج والكتب ، وبيّن لهم الطرق (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) عقوبة لهم على تفرقهم واختلافهم بعد مجيء الآيات والبينات.

١٠٦ ـ ١٠٧ ـ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) أخبر سبحانه بوقت ذلك العذاب ، أي ثبت لهم العذاب في يوم هذه صفته ، وإنما تبيض فيه الوجوه للمؤمنين ثوابا لهم على الإيمان والطاعة ، وتسوّد فيه الوجوه للكافرين عقوبة لهم على الكفر والسيئات ، بدلالة ما بعده وهو قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي يقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم ، واختلفوا فيمن عنوا به على أقوال : (أحدها) انهم الذين كفروا بعد إظهار الإيمان بالنفاق (وثانيها) انهم جميع الكفار لاعراضهم عما وجب عليهم الإقرار به من التوحيد حين أشهدهم على أنفسهم الست بربكم قالوا بلى ، فيقول : أكفرتم بعد إيمانكم (وثالثها) هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة عن علي (ع) ويروى عن النبي (ص) أنه قال : والذي نفسي بيده ليردن عليّ الحوض ممن صحبني أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني فلأقولن : أصحابي أصحابي أصحابي فيقال : انك لا تدري ما أحدثوا بعد إيمانهم ، إرتدوا على أعقابهم القهقرى ، ذكره الثعلبي في تفسيره (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ومعناه : انظروا ما صار إليه عاقبتكم من عذاب الله بما كنتم تكفرون ، أي بكفركم (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) وهم المؤمنون (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أي جنة الله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دل على خلودهم فيها.

١٠٨ ـ ١٠٩ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ) أي تلك التي قد جرى ذكرها حجج الله وعلاماته وبيّناته (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) نقرأها عليك بالحق يا محمد (ص) وعلى أمتك ، ونذكرها لك ، ونعرفك إياها ، ونقصّها عليك (بِالْحَقِ) أي بالحكمة والصواب (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) معناه : لا يظلمهم بأن يحملهم من العقاب ما لم يستحقوه ، أو ينقصهم من الثواب عما استحقوه ثمّ ذكر سبحانه وجه غناه عن الظلم فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا وخلقا (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) إن الله تعالى قد ملّك عباده في الدنيا أمورا ، وجعل لهم تصرفا ، ويزول جميع ذلك في الآخرة ويرجع إليه كله كما قال : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ).

١١٠ ـ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) إنّ كان بمعنى صار ومعناه : صرتم خير أمة خلقت لأمركم بالمعروف ، ونهيكم عن المنكر ، وإيمانكم بالله ، فتصير هذه الخصال على هذا القول شرطا في كونهم خيرا ، ثم ذكر مناقبهم فقال : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالطاعات (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن المعاصي (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي بتوحيده وعدله ودينه (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي لو صدّقوا بالنبي (ص) وبما جاء به (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي لكان ذلك الإيمان خيرا لهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم ينجون به في الدنيا من القتل ، وفي الآخرة من العذاب ، ويفوزون بالجنة (مِنْهُمُ) أي من أهل الكتاب (الْمُؤْمِنُونَ) أي المعترفون بما دلّت عليه كتبهم من صفة نبينا ، وبالبشارة به كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود ، والنجاشي وأصحابه من النصارى (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون.

١١١ ـ ١١٢ ـ (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) وعد الله المؤمنين

٨٥

أنهم منصورون ، وأن أهل الكتاب لا يقدرون عليهم ، ولا ينالهم من جهتهم مضرّة إلّا أذى من جهة القول وهو ما كانوا يسمعون المؤمنين من الكلام المؤذي (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ) أي وان يجاوزوا عن الإيذاء باللسان إلى القتال والمحاربة (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) منهزمين (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي ثم لا يعاونون لكفرهم ، ففي هذه الآية دلالة على صحة نبوّة نبينا (ص) لوقوع مخبره على وفق خبره ، لأن يهود المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوا النبي والمسلمين لم يثبتوا لهم قطّ وانهزموا ، ولم ينالوا من المسلمين إلا بالسب والطعن (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) أي أثبتت عليهم الذلة وأنزلت بهم ، وجعلت محيطة بهم وقيل معناه : فرضت عليهم الجزية والهوان فلا يكونون في موضع إلّا بالجزية وقد أدركهم الإسلام وهم يؤدون الجزية للمجوس (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) أي بعهد من الله (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي وعهد من الناس على وجه الذمة وغيرها من وجوه الأمان (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجعوا بغضب الله الذي هو عقابه ولعنه (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) أي الذلة لأن المسكين لا يكون إلا ذليلا ، فسمى الذلة مسكنة. وتمام الآية مفسّر في سورة البقرة.

١١٣ ـ ١١٤ ـ (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ومعناه : ليس الذين ذكرنا من أهل الكتاب سواء (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) كعبد الله بن سلام وأصحابه ، والذين لم يؤمنوا سواء في الدرجة والمنزلة ، وقوله أمة قائمة فيه وجوه (أحدها) أن معناه : جماعة ثابتة على أمر الله (وثانيها) عادلة (وثالثها) قائمة بطاعة الله (ورابعها) أي ذو طريقة مستقيمة (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) يقرأون كتاب الله وهو القرآن (آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته وأوقاته (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أراد السجود المعروف في الصلاة وقيل معناه : يصلون فعبّر بالسجود عن الصلاة ، لأن السجود أبلغ الأركان في التواضع (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي بتوحيده وصفاته (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) المتأخر عن الدنيا ، يعني البعث يوم القيامة (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالإقرار بنبوة محمد (ص) (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن انكار نبوته (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات خوف الفوات بالموت (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من جملتهم وفي عدادهم. وفي هذه الآية دلالة على عظم موقع صلاة الليل من الله تعالى ، وقد صحّ عن النبيّ (ص) أنه قال : ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الأخير خير له من الدنيا وما فيها ، ولولا أني أشق على أمتي لفرضتها عليهم.

١١٥ ـ (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) أي من طاعة (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي لم يمنع عنكم جزاؤه ومعناه : لا تجحد طاعتكم ، ولا تستر بمنع الجزاء (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي بأحوالهم فيجازيهم ، وإنما خصّ المتقين بالذكر وإن كان عليما بالكل لأن الكلام اقتضى ذكر جزاء المتقين فنبه بذلك على انه لا يضيع شيئا من عملهم قلّ أم كثر لأن المجازي عليم بكل ذلك.

١١٦ ـ ١١٧ ـ لما تقدم وصف المؤمنين عقّبه سبحانه ببيان حال الكافرين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) أي لن تدفع عنهم (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ) عذاب (اللهِ شَيْئاً) وإنما خصّ الأموال والأولاد بالذكر لأن هذين معتمد الخلق وأعزّ الأشياء عليهم ، فإذا لم يغنيا عن الإنسان شيئا فغيرهما غناؤه أبعد (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي ملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي دائمون ثم ضرب مثلا لإنفاقهم فقال : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) أي شبه ما ينفقون من أموالهم (فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) قيل : هو ما ينفقون على الكفّار في عداوة الرسول ، وقيل : هو ما أنفقه أبو سفيان وأصحابه ببدر وأحد لما تظاهروا على النبي (ص) ، وقيل : هو

٨٦

مثل لجميع صدقات الكفار ونفقاتهم في الدنيا (كَمَثَلِ) اهلاك (رِيحٍ فِيها صِرٌّ) برد شديد (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) أي زرع قوم (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالمعاصي ، فظلمهم اقتضى هلاك حرثهم عقوبة لهم (فَأَهْلَكَتْهُ) تأديبا لهم من الله (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) في إهلاك زرعهم لأنهم استحقوا ذلك بظلمهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث فعلوا ما استحقوا به ذلك.

١١٨ ـ نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار ومخالطتهم خوف الفتنة منهم عليهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) أي لا تتخذوا الكافرين أولياء وخواص من دون المؤمنين تفشون إليهم أسراركم وقوله : (مِنْ دُونِكُمْ) : أي من غير أهل ملتكم ، ثم بيّن تعالى العلة في المنع من مواصلتهم فقال : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي لا يقصرون فيما يؤدي إلى فساد أمركم ولا يدعون جهدهم في مضرتكم وقوله : (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) معناه : تمنوا إدخال المشقة عليكم وقيل : تمنّوا إضلالكم عن دينكم عن السدّي ، وقيل : تمنوا أن يعنتوكم في دينكم ، أي يحملونكم على المشقّة فيه وقوله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) معناه : ظهرت إمارة العداوة لكم على ألسنتهم ، وفي فحوى أقوالهم ، وفلتات كلامهم (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من البغضاء (أَكْبَرُ) مما يبدون بألسنتهم (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أي أظهرنا لكم الدلالات الواضحات التي بها يتميز الولي من العدو (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كنتم تعلمون مواعظ الله ومنافعها.

١١٩ ـ ثم بيّن سبحانه ما هم عليه من عداوة المؤمنين تأكيدا للنهي عن مصافاتهم فقال : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) وتقديره : ها أنتم الذين تحبونهم (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال ، وما فيه الهلاك (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) والمراد به كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ومعناه : أنكم تصدقون بها في الجملة والتفصيل من حيث تؤمنون بما أنزل على إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (ص) ، وهم لا يصدقون بكتابكم (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) معناه : إذا رأوكم قالوا صدقنا (وَإِذا خَلَوْا) مع أنفسهم (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) أي أطراف الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) أي من الغضب والحنق لما يرون من ائتلاف المؤمنين ، واجتماع كلمتهم ، ونصرة الله إياهم (قُلْ) يا محمد لهم (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) صيغته صيغة الأمر والمعنى : الدعاء عليهم ، فكأنه قال : أماتكم الله بغيظكم ، وفيه معنى الذم لهم ، لأنه لا يجوز أن يدعى عليهم هذا الدعاء إلّا وقد إستحقوا بما أتوه من القبيح (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما يضمرونه من النفاق والغيظ على المسلمين.

١٢٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن حال من تقدم ذكرهم فقال (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) أي تصبكم أيها المؤمنون نعمة من الله تعالى عليكم : من الفة ، أو اجتماع كلمة ، أو ظفر بالأعداء (تَسُؤْهُمْ) أي تحزنهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) أي محنة بإصابة العدو منكم لاختلاف الكلمة ، وما يؤدي إليه من الفرقة يفرحوا بها (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم ، وعلى طاعة الله تعالى ، وطاعة رسوله ، والجهاد في سبيله (وَتَتَّقُوا) الله بالإمتناع عن معاصيه ، وفعل طاعته (لا يَضُرُّكُمْ) أيها الموحدون (كَيْدُهُمْ) أي مكر المنافقين وما يحتالون به عليكم (شَيْئاً) أي لا قليلا ولا كثيرا ، لأنه تعالى ينصركم ويدفع شرهم عنكم (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي عالم بذلك من جميع جهاته ، مقتدر عليه ، لأن أصل المحيط بالشيء هو المطيف به من حواليه ، وذلك من صفات الأجسام فلا يليق به سبحانه.

١٢١ ـ ١٢٢ ـ واذكر يا محمد (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) أي

٨٧

خرجت من المدينة غدوة (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ) أي تهيء للمؤمنين مواطن (لِلْقِتالِ) معناه : تجلسهم وتقعدهم في مواضع القتال ليقفوا فيها ولا يفارقوها وذلك يوم أحد (وَاللهُ سَمِيعٌ) أي يسمع ما يقوله النبي (ص) (عَلِيمٌ) بما يضمرونه لأنهم اختلفوا فمنهم من أشار بالخروج ، ومنهم من أشار بالمقام (إِذْ هَمَّتْ) أي قصدت وعزمت (طائِفَتانِ) أي فرقتان (مِنْكُمْ) أي من المسلمين (أَنْ تَفْشَلا) أي تجبنا ، والطائفتان : هما بنو سلمة وبنو حارثة حيان من الأنصار (وَاللهُ وَلِيُّهُما) أي ناصرهما (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) في جميع أحوالهم وأمورهم.

١٢٣ ـ ١٢٦ ـ ثم بيّن الله تعالى ما فعله بهم من النصر يوم بدر فقال : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ) أيها المؤمنون (بِبَدْرٍ) بتقوية قلوبكم ، وبما أمدكم به من الملائكة ، وبالقاء الرعب في قلوب أعدائكم (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي ضعفاء عن المقاومة ، قليلو العدد ، قليلو العدة (فَاتَّقُوا اللهَ) أي اجتنبوا معاصيه ، واعملوا بطاعته (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لتقوموا بشكر نعمته (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) خطاب للنبي (ص) أي إذ تقول يا محمد للمؤمنين من أصحابك (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) هو اخبار بأن النبي (ص) قال لقومه ألن يكفيكم يوم بدر أن جعل ربكم ثلاثة آلاف من الملائكة مددا لكم؟ (مُنْزَلِينَ) أنزلهم الله من السماء إلى الأرض لنصرتكم (بَلى) تصديق للوعد ، أي يفعل كما وعدكم ويزيدكم (إِنْ تَصْبِرُوا) معناه : إن صبرتم على الجهاد وعلى ما أمركم الله تعالى (وَتَتَّقُوا) معاصي الله ، ومخالفة رسوله (ص) (وَيَأْتُوكُمْ) يعني المشركين إن رجعوا إليكم (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) معناه : من غضبهم هذا وكانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا ، فهو من فور الغضب وهو غليانه (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) أي يعطكم مددا لكم ونصرة ، وإنما قال ذلك لأن الكفار في غزوة أحد ندموا بعد انصرافهم لم لم يغزوا المدينة وهمّوا بالرجوع ، فأوحى الله إلى نبيّه (ص) أن يأمر أصحابه بالتهيء للرجوع إليهم ، فأخذوا في الجهاد وخرجوا يتبعون الكفار على ما كان بهم من الجراح فأخبر المشركين من مرّ برسول الله أنه خرج يتبعكم ، فخاف المشركون ان رجعوا أن تكون الغلبة للمسلمين ، واسرعوا في الذهاب إلى مكة ، وكفى الله المسلمين (مُسَوِّمِينَ) معلّمين ، كانوا أعلموا بالصوف في نواصي الخيل وأذنابها (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) أي جعل الله الإمداد والوعد به بشرى لكم : أي بشارة لكم لتستبشروا به (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي ولتسكن قلوبكم فلا تخافوا كثرة عدد العدو ، وقلة عددكم (وَمَا النَّصْرُ) أي وما المعونة (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ومعناه : أن الحاجة إلى الله تعالى لازمة في المعونة وإن أمدكم بالملائكة فلا استغناء لكم عن معونته طرفة عين في تقوية قلوبكم ، وخذلان عدوكم بضعف قلوبهم إلى غير ذلك (الْعَزِيزِ) أي القادر على انتقامه من الكفّار بأيدي المؤمنين (الْحَكِيمِ) في تدبيره.

١٢٧ ـ ١٢٨ ـ (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) معناه : أعطاكم الله هذا النصر ، وخصّكم به ليقطع طائفة من الذين كفروا بالأسر والقتل (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) معناه : أو يخزيهم بالخيبة مما أملوا من الظفر بكم (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) لم ينالوا مما أملوا شيئا (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) التقدير : ليقطع طرفا منهم ، أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم فإنهم قد استحقوا العذاب ، وليس لك أي ليس إليك من هذه الأربعة شيء وذلك إلى الله تعالى (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معناه : يقبل توبتهم إذا تابوا كقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) أي يعذبهم الله تعالى ان لم يتوبوا (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) أي مستحقون للعذاب بظلمهم.

٨٨

١٢٩ ـ لما قال تعالى ليس لك من الأمر شيء عقّب ذلك بأن الأمر كله له فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا ، وخلقا واقتدارا على الجميع ، يصرفهم كيف يشاء إيجادا وإفناءا وإعادة (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) من المؤمنين ذنوبهم فلا يؤاخذهم بها ، ولا يعاقبهم عليها رحمة منه وفضلا (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي ويعذب الكافرين ومن يشاء من مذنبي المؤمنين إن مات قبل التوبة عدلا ، ويدلّ عليه مفسّرا قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

١٣٠ ـ ١٣٢ ـ لما ذكر سبحانه أن له التعذيب لمن يشاء ، والمغفرة لمن يشاء ، وصل ذلك بالنهي عما لو فعلوا لاستحقوا عليه العذاب وهو الربا فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) ذكر الأكل لأنه معظم الإنتفاع وإن كان غيره من التصرفات أيضا منهيا عنه ، والربا : الزيادة على أصل المال بالتأخير عن الأجل الحال (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) معناه : تضاعفون به أموالكم ، ويدخل فيه كل زيادة محرمة في المعاملة من جهة المضاعفة (وَاتَّقُوا اللهَ) أي اتقوا معاصيه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تنجحوا بإدراك ما تأملونه ، وتفوزوا بثواب الجنة (وَاتَّقُوا النَّارَ) أي اتقوا الأفعال الموجبة لدخول النار. والوجه في تخصيص الكافرين بإعداد النار لهم لا يمنع من مشاركة غيرهم (الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي هيئت واتخذت للكافرين (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) فيما أمركم به. وأطيعوا الرسول فيما شرع لكم (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي ترحموا فلا يعذبكم.

١٣٣ ـ ١٣٤ ـ لما حذّر الله تعالى عن الأفعال الموجبة للعقاب عقّبه بالحثّ على الأفعال الموجبة للثواب فقال (وَسارِعُوا) أي بادروا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) باجتناب معاصيه ، ومعناه : إلى الأعمال التي توجب المغفرة قيل : إلى الصلوات الخمس عن يمان وقيل إلى الجهاد عن الضحاك. وقيل : إلى التوبة (وَجَنَّةٍ) أي والى جنة (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) معناه : عرضها كعرض السماوات السبع ، والأرضين السبع إذا ضمّ بعض ذلك إلى بعض وإنما ذكر العرض بالعظم دون الطول لأنه يدل على أن الطول أعظم من العرض ، وليس كذلك لو ذكر الطول دون العرض (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي المطيعين لله ولرسوله لاجتنابهم المقبّحات ، وفعلهم الطاعات (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) صفة للمتقين ومعنى السراء والضراء : في اليسر والعسر (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي المتجرعين للغيظ عند امتلاء نفوسهم منه ، فلا ينتقمون ممن يدخل عليهم الضرر ، بل يصبرون على ذلك (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) يعني الصافحين عن الناس ، المتجاوزين عما يجوز العفو والتجاوز عنه مما لا يؤدي إلى الإخلال بحق الله تعالى (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي من فعل ذلك فهو محسن والله يحبه بإيجاب الثواب له.

١٣٥ ـ ١٣٦ ـ (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الفاحشة : الكبائر ، وظلم النفس : الصغائر (ذَكَرُوا اللهَ) أي ذكروا وعيد الله فانزجروا عن المعصية ، (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) من لطيف فضل الله تعالى ، وبليغ كرمه ، وجزيل منته ، وهو الغاية في ترغيب العاصين في التوبة ، وطلب المغفرة ، والنهاية في تحسين الظن للمذنبين ، وتقوية رجاء المجرمين (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) أي لم يقيموا على المعصية ولم يواظبوا عليها ، ولم يلزموها ، قال الحسن : هو فعل الذنب من غير توبة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) المراد : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة ذنوبهم (أُولئِكَ) إشارة إلى من تقدم وصفهم من المتقين الذين

٨٩

ينفقون في السراء والضراء ، أي هؤلاء (جَزاؤُهُمْ) على أعمالهم وتوبتهم (مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ستر لذنوبهم (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) قد مر تفسيرها في سورة البقرة (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) هذا يعني ما وصفه من الجنات وأنواع الثواب والمغفرة بستر الذنوب حتى تصير كأنها لم تعمل في زوال العار بها ، والعقوبة عليها ، والله تعالى متفضل بذلك لأن اسقاط العقاب عند التوبة تفضل منه.

١٣٧ ـ ١٣٨ ـ لما بيّن سبحانه ما يفعله بالمؤمن والكافر في الدنيا والآخرة بيّن أن ذلك عادته في خلقه فقال : (قَدْ خَلَتْ) أي قد مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ) يا أصحاب محمد (ص) (سُنَنٌ) من الله في الأمم السالفة إذا كذبوا رسله ، وجحدوا نبوتهم ، بالاستيصال ، وتبقية آثارهم في الديار للإعتبار والإتعاظ ، (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي تعرفوا أخبار المكذبين وما نزل بهم لتتعظوا بذلك ، وتنتهوا عن مثل ما فعلوه ، ولا تسلكوا في التكذيب والإنكار طريقتهم فيحل بكم من العذاب ما حلّ بهم ، وأراد بالمكذبين الجاحدين للبعث والنشور والثواب والعقاب ، جازاهم الله في الدنيا بعذاب الاستيصال ، وفي الآخرة بأليم العذاب ، وعظيم النكال (هذا) إشارة إلى القرآن (بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً) أي دلالة وحجة لهم كافة ، وبيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي (وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) وإنما خصّ المتقين به مع كونه بيانا وهدى وموعظة للناس كافة لأن المتقين هم المنتفعون به ، والمهتدون بهداه ، والمتعظون بمواعظه.

١٣٩ ـ ١٤٠ ـ (وَلا تَهِنُوا) ولا تضعفوا عن قتال عدوكم (وَلا تَحْزَنُوا) على ما نالكم من المصائب بقتل الإخوان (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي الظافرون المنصورون الغالبون عليهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) معناه : ان من كان مؤمنا يجب أن لا يهن ولا يحزن لثقته بالله (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) ان يصبكم ألم وجراح يوم أحد فقد أصاب القوم ذلك يوم بدر (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي نصرفها مرة لفرقة ومرة عليها (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) ليكرم بالشهادة من قتل يوم أحد (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ظاهر المعنى.

١٤١ ـ ثم بيّن تعالى وجه المصلحة في مداولة الأيام بين الناس فقال : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي وليبتلي الله الذين آمنوا (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) ينقصهم وفي هذه الآية دلالة على انه تعالى إنما يداول بين الناس لتمحيص ذنوب المؤمنين ، ومحق الكافرين وإنما يمحصهم بالمداولة لأن في تخليتهم وتمكين الكافرين منهم تعريضا لهم للصبر الذي يستحقون به عظيم الأجر ، ويحط به عنهم كثيرا من أثقال الوزر.

١٤٢ ـ ١٤٣ ـ لما حثّ الله على الجهاد ورغّب فيه ، زاد في البيان والإخبار بأن الجنة لا تنال إلا بالبلوى والإختبار فقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) المراد به الإنكار ، أي أظننتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي ولما يجاهد المجاهدون منكم فيعلم الله جهادهم ، ويصبر الصابرون منكم فيعلم صبرهم على القتال (وَلَقَدْ كُنْتُمْ) يا أصحاب محمد (ص) (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي تتمنون الموت ، وذلك إن قوما ممن فاتهم شهود بدر كانوا يتمنون الموت بالشهادة بعد بدر قبل أحد ، فلما رأوه يوم أحد أعرض كثير منهم عنه فانهزموا فعاتبهم الله على ذلك (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) الهاء

٩٠

في تلقوه ورأيتموه راجعة إلى الموت ، أي من قبل أن تلقوا أسباب الموت وهو الحرب فقد رأيتموها ، لأن الموت لا يرى (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) انه تأكيد للرؤية كما يقال : رأيته عيانا ، فرأيته بعيني ، لأن لا يتوهم رؤية القلب.

١٤٤ ـ ثم بيّن سبحانه أنه لا ينبغي أن يترك أمر الله تعالى كان الرسول بين أظهرهم أو لم يكن فقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) يعني انه بشر اختاره الله لرسالته إلى خلقه قد مضت قبله رسل بعثوا فأدّوا الرسالة ومضوا وماتوا ، وقتل بعضهم ، وأنه يموت كما ماتت الرسل قبله ، فليس الموت بمستحيل عليه ولا القتل وقيل : أراد أن أصحاب الأنبياء لم يرتدوا عند موتهم أو قتلهم فاقتدوا بهم ، ثم أكد ذلك فقال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) معناه : أفإن أماته الله ، أو قتله الكفار ارتددتم كفارا بعد إيمانكم ، فسمي الإرتداد انقلابا على العقب ، وهو الرجوع القهقرى ، لأن الردة خروج إلى أقبح الأديان ، كما ان الإنقلاب خروج إلى أقبح ما يكون من المشي (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) يعني من يرتد عن دينه (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) لأنه لا يجوز عليه المضار ، بل مضرته عائدة عليه لأنه مستحق للعقاب الدائم (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) أي يثيب الله الشاكرين على شكرهم لنعم الله ، واعترافهم بها.

١٤٥ ـ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) إن فيه حضا على الجهاد من حيث لا يموت أحد إلا بإذن الله ، أي لا تتركوا الجهاد خشية القتل فإن ذلك لا يؤخر أجلا قد حضر ، ولا يقدّم الجهاد أجلا لم يحضر ، فلا معنى للإنهزام ، وقوله بإذن الله بعلم الله وقوله : (كِتاباً مُؤَجَّلاً) معناه : كتب الله لكل حي أجلا ووقتا لحياته ، ووقتا لموته لا يتقدم ولا يتأخر (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) من أراد بجهاده ثواب الدنيا وهو النصيب من الغنيمة نؤته منها ، فبيّن أن حصول الدنيا للإنسان ليس بموضع غبطة لأنها مبذولة للبر والفاجر (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي ومن يرد بالجهاد وأعماله ثواب الآخرة نؤته منها فلا ينبغي لأحد أن يطلب بطاعاته غير ثواب الله (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) أي نعطيهم جزاء الشكر.

١٤٦ ـ ١٤٨ ـ ثم أكّد سبحانه ما تقدم بقوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) أي وكم من رسول (قاتَلَ) أي حارب أو قتل (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) هم علماء فقهاء صبّر (فَما وَهَنُوا) أي ما فتروا (وَمَا اسْتَكانُوا) أي وما خضعوا لعدوهم (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) في الجهاد قال : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) عند لقاء العدو (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي استرها علينا بترك عقابنا ومجازاتنا عليها (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) أي تجاوزنا الحد ، وتفريطنا وتقصيرنا ، رغّب الله تعالى أصحاب الرسول في أن يقولوا هذا القول ولا يقولوا قولا يدل على الضعف فيطمع الأعداء فيهم (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في جهاد عدوك بتقوية القلوب ، وفعل الألطاف التي معها تثبت الأقدام فلا تزول للإنهزام (وَانْصُرْنا) وأعنا (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بالقاء الرعب في قلوبهم ، وإمدادنا بالملائكة ، ثم بيّن تعالى ما آتاهم عقيب دعائهم فقال : (فَآتاهُمُ اللهُ) يعني الذين وصفهم أعطاهم الله (ثَوابَ الدُّنْيا) وهو نصرهم على عدوهم حتى ظفروا بهم وقهروهم وغلبوهم ونالوا منهم الغنيمة (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) وهو الجنة والمغفرة ؛ ويجوز أن يكون ما آتاهم في الدنيا من الظفر والفتح والنصر وأخذ الغنيمة ثوابا مستحقا لهم على طاعاتهم (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) في أقوالهم وأفعالهم.

١٤٩ ـ ١٥٠ ـ ثم أمر سبحانه بترك الإئتمار لمن ثبطهم عن الجهاد من الكفار وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا

٩١

الله ورسوله (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن أصغيتم إلى قول اليهود والمنافقين ان محمدا (ص) قتل فارجعوا إلى عشائركم (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي يرجعوكم كفارا كما كنتم (فَتَنْقَلِبُوا) أي ترجعوا (خاسِرِينَ) لأنفسكم ، فلا خسران أعظم من أن تبدلوا الكفر بالإيمان ، والنار بالجنة (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) أي لهو أولى بأن تطيعوه ، وهو أولى بنصرتكم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) لأنه لا يجوز أن يغلب ، وغيره يجوز أن يغلب فهو إن شاء أمدّكم بأهل الأرض ، وإن شاء نصركم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم.

١٥١ ـ ثم بيّن سبحانه أنّ من جملة نصرته للمؤمنين القائة الرعب في قلوب المشركين فقال : (سَنُلْقِي) أي سنقذف (فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي الخوف والفزع (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) أي بشركهم بالله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي برهانا وحجة (وَمَأْواهُمُ) أي مستقرهم (النَّارُ) يعذبون بها (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) معناه : وبئس مقام الظالمين النار ، وروي أن الكفار دخلوا مكة كالمنهزمين مخافة أن يكون لرسول الله وأصحابه الكرة عليهم.

١٥٢ ـ ثم بيّن تعالى أنه صدقهم وعده فقال : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) معناه : وفى الله لكم بما وعدكم من النصر على عدوكم في قوله : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ) الآية وقيل : كان الوعد قول رسول الله للرماة : لا تبرحوا هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أي تقتلونهم (بِإِذْنِهِ) أي بعلمه (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) معناه : جبنتم عن عدوكم وكففتم (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي اختلفتم (وَعَصَيْتُمْ) أمر نبيكم في حفظ المكان (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من النصرة على الكفار وهزيمتهم ، والظفر بهم والغنيمة (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) يعني الغنيمة وهم الذين أخلوا المكان الذي رتبهم النبي (ص) فيه ، وأمرهم بلزومه (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أراد عبد الله بن جبير ومن ثبت مكانه ، أي يقصد بجهاده إلى ما عند الله (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) معناه : رفع النصرة عنكم ووكلكم إلى أنفسكم بخلافكم للنبي (ص) فانهزمتم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) معناه : ليختبركم ، أي يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل ، وذلك أنه تعالى إنما يجازي عباده على ما يفعلونه دون ما قد علمه منهم (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) أي صفح عنكم بعد أن خالفتم أمر الرسول (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي ذو منّ ونعمة عليهم بنعم الدنيا والدين.

١٥٣ ـ ١٥٤ ـ ثم ذكر تعالى المنهزمين من أصحاب رسول الله يوم أحد فقال : (إِذْ تُصْعِدُونَ) معناه : ولقد عفا عنكم إذ تذهبون في وادي أحد للإنهزام فرارا من العدو (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أي لا تقيمون على من خلفتم في الحرب ، ولا تلتفتون إليهم ، ولا يقف أحد منكم على أحد (وَالرَّسُولُ) يعني محمدا (ص) (يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي يناديكم من ورائكم فيقول : ارجعوا إليّ عباد الله ارجعوا إليّ أنا رسول الله (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) معناه : جعل مكان ما ترجونه من الثواب أن غمّكم بالهزيمة وظفّر المشركين بكم بغمكم رسول الله إذ عصيتموه وضيعتم أمره (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) معناه : ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ، فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيه ترغيب في الطاعة ، وترهيب عن المعصية (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) ومعناه : ثم وهب الله لكم أيها المؤمنون بعد ما نالكم من يوم أحد من الغم أمنة ، يعني أمنا نعاسا ، أي نوما لأن النوم يشتمل على الأمن لأن الخائف لا ينام ، ثم ذكر سبحانه أن تلك الأمنة لم تكن عامة بل كانت لأهل الإخلاص ، وبقي لأهل النفاق الخوف والسهر فقال (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) يعني المؤمنين ألقى عليهم النوم ، وكان

٩٢

السبب في ذلك توعد المشركين لهم بالرجوع إلى القتال ، فقعد المسلمون تحت الجحف متهيئين للحرب فأنزل الله الأمنة على المؤمنين فناموا دون المنافقين الذين أزعجهم الخوف بأن يرجع الكفار عليهم ، أو يغيروا على المدينة لسوء الظن ، فطير عنهم النوم (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي وجماعة قد شغلتهم أنفسهم ومعناه : كان همهم خلاص أنفسهم ، والعرب تطلق هذا اللفظ على كل خائف وجل شغله همّ نفسه عن غيره (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أي يتوهمون أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه كظنهم في الجاهلية (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) فهذا تفسير لظنهم ، يعني يقول بعضهم لبعض : هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب؟ قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار (قُلْ) يا محمد (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ينصر من يشاء ، ويخذل من يشاء ، لا خاذل لمن نصره ، ولا ناصر لمن خذله ، وربما عجّل النصر وربما أخّره لضرب من الحكمة ، ولا يكون لوعده خلف ، والمراد بالأمر في الموضعين النصر (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) أي يخفون في أنفسهم الشك والنفاق وما لا يستطيعون إظهاره لك (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ) أي من الظفر كما وعدنا (شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي ما قتل أصحابنا ، شكا منهم فيما وعده الله تعالى نبيه من الإستعلاء على أهل الشرك ، وتكذيبا به (قُلْ) يا محمد لهم في جواب ذلك (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) ومنازلكم (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) معناه : لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون ، وتخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أي يختبر الله ما في صدوركم بأعمالكم ، لأنه قد علمه غيبا فيعلمه شهادة ، لأن المجازاة إنما تقع على ما علم مشاهدة لا على ما هو معلوم منهم غير معمول (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) هذا خطاب للمنافقين أي يأمركم بالخروج فلا تخرجون ، فيظهر للمسلمين معاداتكم لهم ، وتنكشف أسراركم فلا يعدكم المسلمون من جملتهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) معناه : إن الله لا يبتليكم ليعلم ما في صدوركم فإن الله عليم بذلك ، وإنما ابتلاكم ليظهر أسراركم فيقع الجزاء على ما ظهر.

١٥٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) هم الذين هربوا إلى المدينة في وقت الهزيمة (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وسيدهم رسول الله (ص) ، وجمع المشركين ورئيسهم أبو سفيان (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أي طلب زلّتهم (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من معاصيهم السالفة فلحقهم شؤمها (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) أعاد تعالى ذكر العفو تأكيدا لطمع المذنبين في العفو (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) قد مرّ معناه.

١٥٦ ـ ١٥٨ ـ ثم نهى الله سبحانه المؤمنين عن الإقتداء بالمنافقين في أقوالهم وأفعالهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يريد عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) من أهل النفاق (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا فيها لتجارة أو طلب معاش فماتوا (أَوْ كانُوا غُزًّى) أي غزاة محاربين للعدو فقتلوا (لَوْ كانُوا) مقيمين (عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) معناه : قالوا هذا القول ليثبطوا المؤمنين عن الجهاد ، فلم يقبل المؤمنون ذلك وخرجوا ونالوا العزّ والغنيمة فصار حسرة في قلوبهم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي هو الذي يحيي ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل ، لا مقدم لما أخر ، ولا مؤخّر لما قدم ، ولا راد لما قضى ، ولا محيص عما قدّر. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عليم ، وهذا يتضمن

٩٣

الترغيب في الطاعة ، والترهيب عن المعصية ، ثم حثّ سبحانه على الجهاد ، وبيّن أن الشهادة خير من أموال الدنيا المستفادة بأن قال : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) أيها المؤمنون (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في الجهاد (أَوْ مُتُّمْ) قاصدين مجاهدة الكفار استوجبتم (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) والمغفرة : الصفح عن الذنوب ، والرحمة : الثواب والجنة ، وهاتان (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من الأموال والمقاصد الدنيوية ، وهذا يتضمن تعزية المؤمنين وتسليتهم عما أصابهم في سبيل الله ، وفيه تقوية لقلوبهم ، وتهوين للموت والقتل عليهم ثم قال : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) أي سواء متم أو قتلتم فإن مرجعكم إلى الله فيجزي كلا منكم كما يستحقه ، المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته.

١٥٩ ـ ثم بين سبحانه أن مساهلة النبي (ص) إياهم ، ومجاوزته عنهم من رحمته تعالى حيث جعله لين العطف حسن الخلق (فَبِما رَحْمَةٍ) أي فبرحمة (مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) معناه : ان لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم مع سجاحة أخلاقك ، وكرم سجيتك بالحجج والبراهين (وَلَوْ كُنْتَ) يا محمد (فَظًّا) أي جافيا سيء الخلق (غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي قاسي الفؤاد غير ذي رحمة ولا رأفة (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي لتفرق أصحابك عنك ، ونفروا منك (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فرارهم من أحد (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) من ذلك الذنب (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي استخرج آراءهم ، واعلم ما عندهم ، فائدة مشاورته إياهم مع استغنائه بالوحي لتقتدي به أمته في المشاورة ولم يروها نقيصة كما مدحوا بأن أمرهم شورى بينهم ، عن سفيان بن عيينة (فَإِذا عَزَمْتَ) أي فإذا عقدت قلبك على الفعل وامضائه (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فاعتمد على الله ، وثق به ، وفوّض أمرك إليه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) يعني الواثقين به ، والمعتمدين عليه ، والمنقطعين إليه ، الواكلين أمرهم إلى لطفه وتدبيره.

١٦٠ ـ (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) على من ناوأكم (فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي فلا يقدر أحد على غلبتكم ، وإن كثر عدد من يناوئكم وقلّ عددكم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أي يمنعكم معونته ، ويخلّ بينكم وبين أعدائكم بمعصيتكم إياه (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) المعنى : انه لا ناصر لكم ينصركم بعد خذلان الله إياكم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ظاهر المراد ، وتضمنت الآية الترغيب في طاعة الله التي يستحق بها النصرة ، والتحذير من معصية الله التي يستحق بها الخذلان ، مع إيجاب التوكل عليه.

١٦١ ـ لمّا قدم تعالى أمر الجهاد ، وذكر بعده ما يتعلق به من حديث الغنائم ، والنهي عن الخيانة فيها فقال : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) وتقديره : وما كان لنبي الغلول ، أي لا تجتمع النبوة والخيانة (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) معناه : أنه يواف بما غلّ يوم القيامة ، فيكون حمل غلوله على عنقه إمارة يعرف بها ، وذلك حكم الله في كل من وافى القيامة بمعصية لم يتب منها ، أو أراد الله تعالى أن يعامله بالعدل ، أظهر عليه من معصيته علامة تليق بمعصيته ليعلمه أهل القيامة بها ، ويعلموا سبب استحقاقه العقوبة كما قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) ، وهكذا حكمه في كل من وافى القيامة بطاعة فإنه يظهر من طاعته علامة يعرف بها (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي يعطي كل نفس جزاء ما عملت تامّا وافيا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص أحد مقدار ما يستحقه من الثواب ، ولا يزاد أحد عن مقدار ما استحقه من العذاب.

٩٤

١٦٢ ـ ١٦٣ ـ لما بيّن تعالى أن كل نفس توفى جزاء ما كسبت من خير وشر ، عقّبه ببيان من كسب الخير والشر فقال : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) بالجهاد في سبيله (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) في الفرار منه رغبة عنه (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي مصيره ومرجعه جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المكان الذي صار إليه والمستقر (هُمْ دَرَجاتٌ) أي هم ذوو درجات (عِنْدَ اللهِ) فالمؤمنون ذوو درجة رفيعة ، والكافرون ذوو درجة خسيسة ، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي عليم ، وفي هذا ترغيب للناس في اتباع مرضاة الله تعالى ، وتحذيرهم عما يوجب سخطه ، وإعلام بأن أسرار العباد عنده علانية ، وفيه توثيق بأنه لا يضيع عمل عامل لديه ، إذ لا يخفى من ذلك شيء عليه ، فيثيب على الطاعة ، ويعاقب على المعصية.

١٦٤ ـ ثم ذكر سبحانه عظيم نعمته على الخلق ببعثه نبينا فقال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ) أي أنعم الله (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) منهم. خصّ المؤمنين بالذكر وإن كان (ص) مبعوثا إلى جميع الخلق ، لأن النعمة عليهم أعظم لاهتدائهم به ، وانتفاعهم ببيانه (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) المراد به من رهطهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يعني القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) مضى بيانه في سورة البقرة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعني انهم كانوا في ضلال ظاهر بين ، أي كفارا ، وكفرهم هو ضلالهم ، فأنقذهم الله بالنبي (ص).

١٦٥ ـ ثم عاد الكلام إلى ذكر الجهاد فقال : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) أي حين أصابكم القتل والجرح ، وذلك ما أصاب المسلمين يوم أحد ، فإنه قتل من المسلمين سبعون رجلا ، وكانوا هم أصابوا من المشركين يوم بدر مثليها ، فإنهم كانوا قتلوا من المشركين سبعين رجلا ، وأسروا سبعين (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) أي من أي وجه أصابنا هذا ونحن مسلمون ، وفينا رسول الله (ص) وينزل عليه الوحي ، وهم مشركون؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي قل يا محمد ما أصابكم من الهزيمة والقتل من عند أنفسكم ، أي بخلافكم أمر ربكم ، وترككم طاعة الرسول (ص) (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فهو قادر على نصركم فيما بعد وإن لم ينصركم في الحال لمخالفتكم.

١٦٦ ـ ١٦٧ ـ (وَما أَصابَكُمْ) أيها المؤمنون (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع المشركين ، يعني يوم أحد من النكبة بقتل من قتل منكم (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي بعلم الله وقيل : بعقوبة الله ، فإن الله جعل لكل ذنب عقوبة ، وكان ذلك عقوبة لهم من الله على ترك أمر رسول الله (وَلِيَعْلَمَ) الله (الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) معناه : أي ليظهر المعلوم من المؤمن والمنافق (وَقِيلَ لَهُمْ) أي للمنافقين (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إن عبد الله بن أبي والمنافقين معه من أصحابه انخذلوا يوم أحد نحوا من ثلثمائة رجل وقالوا : علام نقتل أنفسنا (أَوِ ادْفَعُوا) عن حريمكم وأنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) يعني قال المنافقون : لو علمنا قتالا لقاتلناهم ، قالوا ذلك إبلاء لعذرهم في ترك القتال والرجوع إلى المدينة (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) يعني بإظهار هذا القول صاروا أقرب إلى الكفر إذ كانوا قبل ذلك في ظاهر أحوالهم أقرب إلى الإيمان حتى هتكوا الستر ، فعلم المؤمنون منهم ما لم يعلموه (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) والمراد به : قولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، وإضمارهم أنه لو كان قتال لم يقاتلوا معهم ، ولم ينصروا النبي (ص) (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) أي مبا يضمرونه من النفاق والشرك.

٩٥

١٦٨ ـ (الَّذِينَ قالُوا) يعني المنافقين (لِإِخْوانِهِمْ) في النسب لا في الدين ، يعني عبد الله بن أبي وأصحابه قالوا في قتلى أحد (وَقَعَدُوا) هم يعني هؤلاء القائلون (لَوْ أَطاعُونا) في القعود في البيت وترك الخروج إلى القتال (ما قُتِلُوا قُلْ) لهم يا محمد (ص) (فَادْرَؤُا) أي فادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في هذه المقالة ، ولا يمكنهم دفع الموت ، لأنه يجوز أن يدخل عليهم العدو فيقتلهم في قعر بيوتهم ، وإنما ألزمهم الله دفع الموت عن أنفسهم بمقالتهم : انهم لو لم يخرجوا لم يقتلوا ، لأن من علم الغيب في السلامة من القتل يجب أن يمكنه أن يدفع عن نفسه الموت وفي هذا ترغيب في الجهاد ، وبيان أن كل أحد يموت بأجله ، فلا ينبغي أن يجعل ذلك عذرا في القعود عن الجهاد ، لأن المجاهد ربما يسلم ، والقاعد ربما يموت ، فيجب أن يكون على الله التكلان.

١٦٩ ـ ١٧١ ـ لما حكى الله سبحانه قول المنافقين في المقتولين الشهداء تثبيطا للمؤمنين عن جهاد الأعداء ، ذكر بعده ما أعدّ الله للشهداء من الكرامة ، وخصّهم به من النعيم في دار المقامة فقال : (وَلا تَحْسَبَنَ) أيها السامع أو أيها الإنسان (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في الجهاد وفي نصرة دين الله (أَمْواتاً) أي موتى كما مات من لم يقتل في سبيل الله (بَلْ أَحْياءٌ) أي بل هم أحياء ، وقد مرّ تفسيره في سورة البقرة عند قوله : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية ، وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) انهم بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا ربهم ، وليس المراد بذلك قرب المسافة لأن ذلك من صفة الأجسام وذلك مستحيل على الله تعالى (يُرْزَقُونَ) من نعيم الجنة غدوا وعشيّا (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي يسرّون بما أعطاهم الله من ضروب نعمه في الجنة وقيل : فرحين بما نالوا من الشهادة وجزائها (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) أي يسرّون بإخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من الإيمان والجهاد لعلمهم بأنهم ان استشهدوا لحقوا بهم (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) معناه : لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه لأن الله محص ذنوبهم بالشهادة ، ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة (يَسْتَبْشِرُونَ) يعني هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله الذين وصفهم الله بأنهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) الفضل والنعمة عبارتان يعبّر بهما عن معنى واحد والمراد : أنها ليست نعمة على قدر الكفاية ، من غير مضاعفة السرور واللذة (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي يوفر جزاءهم.

١٧٢ ـ ١٧٤ ـ (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي أطاعوا الله في أوامره وأطاعوا رسوله (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي نالهم الجراح يوم أحد (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) بطاعة رسول الله وإجابته إلى الغزو (وَاتَّقَوْا) معاصي الله لهم (أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي ثواب جزيل (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) إنهم الركب الذين دسهم أبو سفيان إلى المسلمين ليجبنوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) المعني به أبو سفيان أي جمعوا جموعا كثيرة لكم (فَاخْشَوْهُمْ) أي خافوهم ثم بيّن تعالى أن ذلك القول زادهم إيمانا وثباتا على دينهم ، وإقامة على نصرة نبيهم بأن قال : (فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي كافينا الله وولينا وحفيظنا ، والمتولي لأمرنا ، (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) : أي نعم الكافي والمعتمد والملجأ الذي يوكل إليه الأمور (فَانْقَلَبُوا) أي فرجع النبي ومن معه من أصحابه

٩٦

(بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي بعافية من السوء ، وتجارة رابحة (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي قتل (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) بالخروج إلى لقاء العدو (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) على المؤمنين ، وقد تضمنت الآية التنبيه على ان كل من دهمه أمر فينبغي أن يفزع إلى هذه الكلمة.

١٧٥ ـ ثمّ ذكر أنّ ذلك التخويف والتثبيط عن الجهاد من عمل الشيطان فقال : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) والمعنى : إنما ذلك التخويف الذي كان من نعيم بن مسعود من فعل الشيطان وباغوائه وتسويله يخوف أولياءه المؤمنين (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مصدقين بالله فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم ، ومثله قوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) ، أي لينذركم ببأس شديد ، فلما حذف الجار نصبه ، وقيل معناه : ان الشيطان يخوّف المنافقين الذين هم أولياؤه ، وانهم هم الذين يخافون من ذلك التخويف ، بأن يوسوس إليهم ويرهبهم ، ويعظّم أمر العدو في قلوبهم فيقعدوا عن متابعة الرسول.

١٧٦ ـ ١٧٧ ـ لما علم الله تعالى المؤمنين ما يصلحهم عند تخويف الشيطان إياهم خصّ رسوله بضرب من التعليم في هذه الآية فقال : (وَلا يَحْزُنْكَ) أيها الرسول (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يعني المنافقين (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بكفرهم ونفاقهم وارتدادهم لأن الله تعالى لا يجوز عليه المنافع والمضار ، وإنما قال ذلك على جهة التسلية لنبيه (ص) لأنه كان يصعب عليه كفر هؤلاء ، ويعظم عليه امتناعهم عن الإيمان (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أي نصيبا في الجنة (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ثم استأنف تعالى الاخبار بأن من اشترى الكفر بالإيمان وهم جميع الكفار بهذه الصفة فقال : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) أي استبدلوا الكفر بالإيمان (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) لاختصاص المضرة بالعاصي دون المعصيّ (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم.

١٧٨ ـ ثمّ بيّن سبحانه أن إمهال الكفار لا ينفعهم إذا كان يؤدي إلى العقاب فقال : (وَلا يَحْسَبَنَ) أي لا يظنن (الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) أي انما نطيل عمرهم ، ونترك المعاجلة لعقوبتهم (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) أي لتكون عاقبة أمرهم بازديادهم الإثم (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يهينهم في عذاب جهنم.

١٧٩ ـ (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليدع ومعناه : لا يدع الله المؤمنين (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) يا أهل الكفر من الإبهام ، واشتباه المخلص بالمنافق ، أي لم يكن يجوز في حكم الله أن يذرهم على ما كنتم عليه قبل مبعث النبي بل يتعبدكم (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي المنافق من المخلص واختلف في أنه بأيّ شيء ميّز بين الخبيث والطيب فقيل : بالإمتحان ، وتكليف الجهاد ونحوه ، ممّا يظهر به الحال كما ظهر يوم أحد بأن ثبت المؤمنون ، وتخلّف المنافقون (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي ما كان الله ليظهر على غيبه أحدا منكم فتعلموا ما في القلوب ان هذا مؤمن وهذا منافق (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يختار من يشاء فيطلعه على الغيب ، أي يوقفه على علم الغيب ، ويعرفه إياه (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) كما أمركم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) أي تصدقوا (وَتَتَّقُوا) عقابه بلزوم أمره ، واجتناب نهيه (فَلَكُمْ) في ذلكم (أَجْرٌ عَظِيمٌ) فيها دلالة على أن الثواب مستحق بالإيمان والتقوى.

١٨٠ ـ (وَلا يَحْسَبَنَ) الباخلون (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي أعطاهم الله من الأموال فيبخلون بإخراج الحقوق الواجبة فيها (هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)

٩٧

أي ليس كذلك كما يظنون ، بل ذلك البخل شر لهم (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) معناه : يجعل ما بخل به من المال طوقا في عنقه ، والآية نزلت في مانعي الزكاة (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معناه : يموت من في السماوات والأرض ويبقى تعالى هو جلّ جلاله لم يزل ولا يزال ، فيبطل ملك كل مالك إلا ملكه ، وقد تضمنت الآية الحثّ على الإنفاق ، والمنع عن الإمساك (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) هذا تأكيد للوعد والوعيد في إنفاق المال لإحراز الثواب ، والأجر والسلامة من الإثم والوزر.

١٨١ ـ ١٨٢ ـ ثم ذكر سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة فقال سبحانه : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) معناه : علم ذلك (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) أي ذو حاجة لأنه يستقرض منا (وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) عن الحاجة وقد علموا أن الله لا يطلب القرض وإنما ذلك تلطيف في الإستدعاء إلى الإنفاق ، وإنما قالوه تلبيسا على عوامهم (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) معناه : سنحفظ ما قالوا ، وكنّى بالكتابة عن الحفظ لأنه طريق إلى الحفظ (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أي وسنكتب قتل أسلافهم الأنبياء ، ورضى هؤلاء به ، فنجازي كلا بفعله ، وفيه دلالة على ان الرضا بفعل القبيح يجري مجراه في عظم الجرم (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) والفائدة فيه أن يعلم أن العذاب بالنار التي تحرق ، وهي الملتهبة لأن ما لم تلتهب لا يسمى حريقا (ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق ، أي ذلك العقاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) معناه : بما كنتم عملتموه وجنيتموه على أنفسكم (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي بأن الله لا يظلم أحدا من عباده.

١٨٣ ـ ١٨٤ ـ ثم ذكر قولهم الآخر فقال : (الَّذِينَ قالُوا) لنبيّهم (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) أي أمرنا على السن رسله (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) أي لا نصدق رسولا فيما يقول : من أنه جاء به من عند الله تعالى (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) أي حتى يجيئنا بما يتقرب به إلى الله من صدقة أو بر تتقبل منه ، وقوله : (تَأْكُلُهُ النَّارُ) بيان لعلامة التقبّل ، فإنه كان علامة قبول قربانهم أن تنزل النار من السماء فتأكله ، يكون ذلك دلالة على صدق المقرّب (قُلْ) يا محمد لهؤلاء اليهود (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) يعني جاء أسلافكم (بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الدالة على صدقهم ، وصحة رسالتهم ، وحقيقة قولهم ، كما كنتم تقترحون وتطلبون منهم (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) معناه : وبالقربان الذي قلتم (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أراد بذلك زكريا ويحيى وجميع من قتلهم اليهود من الأنبياء ، يعني لم قتلتموهم وأنتم مقرّون بأن الذي جاؤوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم؟ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما عهد إليكم مما ادعيتموه. وهذا تكذيب لهم في قولهم. ودلالة على عنادهم ، وعلى أن النبي (ص) لو أتاهم بالقربان المتقبل كما أرادوه لم يؤمنوا به كما لم يؤمن آباؤهم بالأنبياء الذين أتوا به وبغيره من المعجزات (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) هذا تسلية للنبي (ص) في تكذيب الكفار إياه ، وذلك بأنه تعالى أخبر بأنه ليس بأول مكذب من الرسل بل كذب قبله رسل (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الباهرات (وَالزُّبُرِ) أي الكتب التي فيها الحكم والزواجر (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) قيل : المراد به التوراة والإنجيل ، لأن اليهود كذبت عيسى وما جاء به من الإنجيل ، وحرّفت ما جاء به موسى من صفة النبي (ص) ، وبدّلت عهده إليهم فيه ، والنصارى أيضا جحدت ما في الإنجيل من نعته ، وغيّرت ما أمرهم به فيه ، والمنير : الهادي إلى الحق.

١٨٥ ـ ثم بيّن سبحانه أن مرجع الخلق إليه فيجازي المكذبين رسله على أعمالهم من حيث حتم الموت على

٩٨

جميع خلقه فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي ينزل بها الموت لا محالة فكأنها ذاقته (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) معناه : وإنما تعطون جزاء أعمالكم وافيا (يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن خيرا فخيرا وثوابا ، وإن شرا فشرا وعقابا ، فإن الدنيا ليست بدار جزاء وإنما هي دار عمل ، والآخرة دار جزاء وليست بدار عمل (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) أي بوعد عن نار جهنم ونجي عنها ، وأدخل الجنة (فَقَدْ فازَ) أي نال المنية ، وظفر بالبغية ، ونجا من الهلكة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) معناه : ما لذات الدنيا وشهواتها وزينتها الا متعة متعكموها الغرور والخداع المضمحل الذي لا حقيقة له عند الإختبار ، لأنكم تلتذون بها ثم انها تعود عليكم بالرزايا والفجائع ، ولا تركنوا إليها ، ولا تغتروا بها فإنها هي غرور ، وصاحبها مغرور وفي الآية دلالة على ان أقل نعيم من الآخرة خير من نعيم الدنيا بأسره ، ولذلك قال (ع): موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها.

١٨٦ ـ ثمّ بيّن تعالى أنّ الدنيا دار محنة وابتلاء ، وأنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا فقال : (لَتُبْلَوُنَ) أي لتوقع عليكم المحن ، وتلحقكم الشدائد (فِي أَمْوالِكُمْ) بذهابها ونقصانها (وَ) في (أَنْفُسِكُمْ) أيها المؤمنون بالقتل والمصائب مثل ما نالكم يوم أحد (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني اليهود والنصارى (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعني كفار مكة وغيرهم (أَذىً كَثِيراً) يعني ما سمعوه من تكذيب النبي (ص) ، ومن الكلام الذي يغمه (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) يعني ان صبرتم على ذلكم ، وتمسكتم بالطاعة ولم تجزعوا عنده جزعا يبلغ الإثم (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي مما بان رشده وصوابه ، ووجب على العاقل العزم عليه.

١٨٧ ـ ثم حكى سبحانه عنهم نقض الميثاق والعهود بعد حكايته عنهم التكذيب بالرسل فقال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أراد اليهود والنصارى (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) أي لتظهرنه للناس والهاء عائدة إلى محمد (ص) لأن في كتابهم ان محمدا رسول الله (ص) ، وان الدين هو الإسلام (وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي ولا تخفونه عند الحاجة (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ومعناه : ضيّعوه وتركوه وراء ظهورهم فلم يعملوا به وإن كانوا مقرّين به (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي استبدلوا بعهد الله عليه وميثاقه عوضا يسيرا من حطام الدنيا ، يعني ما حصلوه لأنفسهم من المأكلة والرشا والهدايا التي أخذوها (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) أي بئس الشيء ذلك إذ يستحقون به العذاب الأليم وإن كان نفعا عاجلا ، ودلّت الآية على وجوب إظهار الحق ، وتحريم كتمانه ، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك من الأمور التي يختص بها العلماء.

١٨٨ ـ ثم بيّن سبحانه خصلة أخرى ذميمة من خصال اليهود فقال : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي الذين يفرحون بالنفاق (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) أي بالإيمان (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) أي لا تظننهم بمنجاة وبعد من النار (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم.

١٨٩ ـ لما ذكر سبحانه في الآية المتقدمة من فرح بمعصية ركبها ، وأحبّ أن يحمد بما لم يفعله ، وأخبر أنه لا نجاة لهم من عذابه قال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو مالك ما في السماوات والأرض بمعنى : أنه يملك تدبيرهما وتصرفهما على ما يشاء من جميع الوجوه ، ليس لغيره الإعتراض عليه ، فكيف يطمع والحال هذه في الخلاص منه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيه تنبيه على أنه قادر على إهلاك من أراد إهلاكه ، وعلى الإنشاء والإفناء كما

٩٩

يشاء.

١٩٠ ـ ١٩٤ ـ لما بيّن سبحانه بأن له ملك السماوات والأرض عقّبه ببيان الدلالات على ذلك فقال : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي في إيجادهما بما فيهما من العجائب والبدائع (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبهما ومجيء كل واحد منهما خلف الآخر (لَآياتٍ) أي دلالات على توحيد الله وصفاته العلى (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي لذوي البصائر والعقول ، فدل وجودهما وحدوثهما على ان لهما محدثا قادرا ، ودل إبداعهما بما فيهما من البدائع والأمور الجارية على غاية الإنتظام والإتساق على أن مبدعهما عالم ، لأن الفعل المحكم المنتظم لا يصح إلا من عالم ، كما ان الإيجاد لا يصح إلا من قادر ، ووجه الدلالة في تعاقب الليل والنهار أن في ترادفهما على مقدار معلوم لا يزيدان عليه ولا ينقصان منه وازدياد أحدهما بقدر نقصان الآخر دلالة ظاهرة على أن لهما صانعا قادرا حكيما لا يدركه عجز ، ولا يلحقه سهو ، ثم وصف سبحانه أولي الألباب فقال : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي هؤلاء الذين يستدلون على توحيد الله بخلقه السماوات والأرض هم الذين يذكرون الله قائمين وقاعدين ومضطجعين ، أي في سائر الأحوال ، لأن أحوال المكلفين لا تخلو من هذه الأحوال الثلاثة وقد أمروا بذكر الله تعالى في جميعها (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ومن صفة أولي الألباب أن يتفكروا في خلق السماوات والأرض ، ويتدبروا في ذلك ليستدلوا به على وحدانية الله تعالى ، وكمال قدرته ، وعلمه وحكمته ، ثم يقولون (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أي ما خلقت هذا الخلق عبثا بل خلقته لغرض صحيح ، وحكمة ومصلحة ، ليكون دليلا على وحدانيتك ، وحجة على كمال حكمتك ، ثم ينزهونه عن كل ما لا يليق بصفاته ، أو يلحق نقصا بذاته فيقولون (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك عما لا يجوز عليك ، فلم تخلقهما عبثا ولا لعبا ، بل تعريضا للثواب ، والأمن من العقاب (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) بلطفك الذي يتمسك معه بطاعتك (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) معناه : فضحته وأهنته فيكون منقولا من الخزي (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي ليس لهم من يدفع عنهم عذاب الله (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) المنادي محمد (ص) (يُنادِي لِلْإِيمانِ) فالمعنى : ربنا إننا سمعنا داعيا يدعو إلى الإيمان ، والتصديق بك ، والإقرار بوحدانيتك ، واتباع رسولك ، واتباع أمره ونهيه ، وقوله : (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) معناه : بأن آمنوا بربكم (فَآمَنَّا) أي فصدقنا الداعي فيما دعا إليه من التوحيد والدين واجبناه (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) معناه : استرها علينا (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) معناه : امحها بفضلك ورحمتك إيانا (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) معناه : واقبضنا إليك في جملة الأبرار واحشرنا معهم (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك من الثواب (وَلا تُخْزِنا) أي لا تفضحنا (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) المعنى : انك وعدت الجنة لمن آمن بك وأنت لا تخلف وعدك.

١٩٥ ـ ثمّ عقّب سبحانه دعوة المؤمنين بذكر الإجابة فقال : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) أي أجاب المؤمنين الذين تقدم الخبر عنهم (أَنِّي لا أُضِيعُ) أي بأني لا أبطل (عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) رجل أو امرأة (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) في النصرة والدين والموالاة ، فحكمي في جميعكم حكم واحد ، فلا أضيع عمل واحد منكم لا تفاقكم في صفة الإيمان (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) إلى المدينة ، وفارقوا قومهم من أهل الكفر (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أخرجهم المشركون من مكة (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي في طاعتي وعبادتي وديني ، وذلك هو

١٠٠