الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

ظلمه (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) وإنما صار القول المعروف ، والعفو عن الظلم خيرا من الصدقة التي يتبعها أذى لأن صاحب هذه الصدقة لا يحصل على خير لا على عين ماله في دنياه ، ولا على ثوابه في عقباه ، والقول بالمعروف والعفو طاعتان يستحق الثواب عليهما (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقاتكم ، وعن جميع طاعاتكم ، لم يأمركم بها ولا بشيء منها لحاجة منه إليها ، وإنما أمركم بها ، ودعاكم إليها لحاجتكم إلى ثوابها (حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة.

٢٦٤ ـ ثم أكّد تعالى ما قدّمه بما ضرب من الأمثال فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِ) أي بالمنّة على السائل ، وقيل : بالمنة على الله (وَالْأَذى) بمعنى أذى صاحبها. ثم ضرب تعالى مثلا لعمل المنان وعمل المنافق جميعا فإنهما إذا فعلا الفعل على غير الوجه المأمور به فإنهما لا يستحقان عليه ثوابا (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) هذا يدخل فيه المؤمن والكافر إذا أخرجا المال للرئاء (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) هذا للكافر خاصة ، أي لا يصدق بوحدانية الله ، ولا بالبعث والجزاء (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) أي حجر أملس (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) أي مطر عظيم القطر ، شديد الوقع (فَتَرَكَهُ صَلْداً) حجرا صلبا أملس ، شبّه سبحانه فعل المنافق والمنان بالصفا الذي أزال المطر ما عليه من التراب فإنه لا يقدر أحد على رد ذلك التراب عليه ، كذلك إذا دفع المنّان صدقة وقرن بها المن فقد أوقعها على وجه لا طريق له إلى إستدراكه وتلافيه لوقوعها على الوجه الذي لا يستحق عليه الثواب (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي لا يقدر هؤلاء على نفقتهم ولا على ثوابها ولا يحصلون منها على شيء كما لا يحصل أحد على تراب اذهبه المطر عن الحجر (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يثيب الكافرين على أعمالهم إذ كان الكفر محبطا لها ، ومانعا من إستحقاق الثواب عليها.

٢٦٥ ـ (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) أي يخرجون (أَمْوالَهُمُ) في أعمال البر (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلبا لرضاء الله (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وتوطينا لنفوسهم على الثبوت على طاعة الله (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) كمثل بستان بمرتفع من الأرض ، وإنما خص الربوة لأن نبتها يكون أحسن ، وريعها أكثر من المستغل الذي يسيل الماء إليه ويجتمع فيه ، فلا يطيب ريعه (أَصابَها وابِلٌ) أي أصاب هذه الجنة مطر شديد (فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) أي فاعطت غلتها ضعفي ما تعطي إذا كانت بأرض مستغلة معناه : يتضاعف أجر من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) أي مطر شديد (فَطَلٌ) أي أصابها مطر لين ، أراد به أن خيرها لا يخلف على كل حال ، ولا يرى الغبار عليها على كل حال (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) معناه : عالم بأفعالكم فيجازيكم بحسبها.

٢٦٦ ـ (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) أي بستان (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي يشتمل على النخيل والأعناب والأنهار الجارية (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أي ولحقه الشيخوخة ، وطعن في السن (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) أي أولاد صغار ناقصو القوة (فَأَصابَها) أي أصاب تلك الجنة (إِعْصارٌ) أي ريح شديدة تهبّ من الأرض نحو السماء مثل العمود ، وتسميها الناس الزوبعة (فِيهِ نارٌ) أي في ذلك الاعصار نار (فَاحْتَرَقَتْ) تلك الجنة ، وهذا مثل ضربه الله في الحسرة بسلب النعمة للمفرّط في طاعة الله تعالى بملاذ الدنيا ، يحصل في الآخرة على الحسرة العظمى (كَذلِكَ) أي كهذا البيان الذي بيّن لكم في أمر الصدقة ، وقصة إبراهيم ، والذي مرّ على قرية ، وجميع ما سلف (يُبَيِّنُ

٦١

اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي الدلالات التي تحتاجون إليها في أمور دينكم (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي تنظرون وتتفهمون.

٢٦٧ ـ لما تقدم ذكر الإنفاق وبيان صفة المنفق ، وأنه يجب أن ينوي بالصدقة التقرب ، وأن يحفظها مما يبطلها من المنّ والأذى ، بيّن تعالى صفة الصدقة والمتصدق عليه ليكون البيان جامعا فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خاطب المؤمنين (أَنْفِقُوا) أي تصدقوا (مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أي من حلال ما كسبتم بالتجارة (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي وانفقوا وأخرجوا من الغلات والثمار مما يجب فيه الزكاة (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) أي لا تقصدوا الرديء من المال فتنفقون منه قوله : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) لأن الإغماض لا يكون إلّا في الشيء الردي دون ما هو حرام ومعناه : لا تتصدقوا بما لا تأخذونه من غرمائكم إلا بالمسامحة والمساهلة ، فالإغماض ها هنا المساهلة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن صدقاتكم (حَمِيدٌ) أي مستحق للحمد على نعمه.

٢٦٨ ـ ثم حذّر تعالى من الشيطان المانع من الصدقة فقال : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) بالنفقة في وجوه البر ، وبإنفاق الجيد من المال (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي بالمعاصي وترك الطاعات ، وسماه فحشاء لأن فيه معصية الله تعالى (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) أي يعدكم بالإنفاق من خيار المال أن يستر عليكم ، ويصفح عن عقوبتكم (وَفَضْلاً) أي ويعدكم أن يخلف عليكم خيرا من صدقتكم ، ويتفضل عليكم بالزيادة في أرزاقكم (وَاللهُ واسِعٌ) معناه : يعطي عن سعة ، بمعنى أن عطيته لا تضره ولا تنقص خزائنه (عَلِيمٌ) بمن يستحق العطية ومن لا يستحقها.

٢٦٩ ـ ثم وصف تعالى نفسه فقال : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) أي يؤتي الله الحكمة (مَنْ يَشاءُ) والحكمة : هو القرآن والفقه عن أبي عبد الله (ع) (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) أي ومن يؤت ما ذكرناه (فَقَدْ أُوتِيَ) أي أعطي (خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وما يتعظ بآيات الله إلّا ذوو العقول.

٢٧٠ ـ ثم عاد سبحانه إلى ذكر الإنفاق والترغيب فيه فقال : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) معناه : ما أنفقتم في وجوه الخير ، وسبل البر من نفقة واجبة أو مندوب إليها (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) أي ما أوجبتموه أنتم على أنفسكم بالنذر فوفيتم به من فعل بر مثل : صلاة أو صوم أو صدقة ونحو ذلك (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) معناه : يجازيكم عليه لأنه عالم (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي ليس للواضعين النفقة والنذر في غير موضعهما مثل أن ينفق رياء ، أو ضرارا ، أو من مال مغصوب ، أو مأخوذ من غير حلّه (مِنْ أَنْصارٍ) من أعوان يدفعون عذاب الله عنهم.

٢٧١ ـ ثم ذكر تعالى صفة الإنفاق ورغّب فيه بقوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) معناه : ان تظهروا الصدقات وتعلنوها (فَنِعِمَّا هِيَ) أي فنعم الشيء ، ونعم الأمر إظهارها وإعلانها ، أي ليس في إبدائها كراهة (وَإِنْ تُخْفُوها) أي تسرّوها (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) أي تعطوها الفقراء وتؤدّوها إليهم في السرّ (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي فالإخفاء خير لكم وأبلغ في الثواب وقوله : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) ومعناه : ونمحو عنكم خطيئاتكم ونغفرها لكم وقوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) معناه : انه تعالى عالم بما تعملونه في صدقاتكم من إخفائها وإعلانها ، لا يخفى عليه شيء من ذلك فيجازيكم على جميعه.

٦٢

٢٧٢ ـ (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) المراد : ليس عليك أن تهدي الناس بعد إن دعوتهم وأنذرتهم وبلّغتهم ما أمرت بتبليغه ونظيره : إن عليك إلا البلاغ (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إنما علّق الهداية بالمشيئة لمن كان المعلوم منه أنه يصلح باللطف ، أي بلطف الله بزيادة الهدى والتوفيق لمن يشاء (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي ما تنفقوا في وجوه البر من مال فلأنفسكم ثوابه ، والغرض فيه الترغيب في الإنفاق لأن الإنسان إذا علم أن منفعة إنفاقه عائدة إليه ، مختصة به ، كان أسمح بالإنفاق ، وأرغب فيه ، وأحرص عليه (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) أي إلا طلب رضوان الله ، وهذا إخبار من الله عن صفة إنفاق المؤمنين المخلصين المستجيبين لله ولرسوله إنهم لا ينفقون ما ينفقونه إلا طلبا لرضاء الله تعالى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي يوفّر عليكم جزاؤه وثوابه ، والتوفية : إكمال الشيء ، وقيل معناه : تعطون جزاءه وافرا وافيا في الآخرة (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بمنع ثوابه ، ولا بنفصان جزائه كقوله : (آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) ، أي لم تنقص.

٢٧٣ ـ لما أمر سبحانه بالنفقة ورغّب فيها بأبلغ وجوه الترغيب ، وبيّن ما يكمل ثوابها ، عقّب ذلك ببيان أفضل الفقراء الذين هم مصرف الصدقات فقال : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) معناه : النفقة المذكورة في هذه الآية وما قبلها للفقراء الذين حبسوا ومنعوا في طاعة الله ، أي منعوا أنفسهم من التصرف في التجارة للمعاش اما لخوف العدو من الكفار ، واما للمرض والفقر ، واما للإقبال على العبادة وقوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) ، يدل على أنهم حبسوا أنفسهم عن التقلب لاشتغالهم بالعبادة والطاعة (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً) أي ذهابا وتصرفا (فِي الْأَرْضِ) لبعض ما ذكرناه من المعاني وقيل : لمنع أنفسهم من التصرف في التجارة ، أي ألزموا أنفسهم الجهاد في سبيل الله (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم وباطن أمورهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي الإمتناع من السؤال ، والتجمل في اللباس ، والستر لما هم فيه من الفقر وسوء الحال طلبا لرضوان الله ، وطمعا في جزيل ثوابه (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي تعرف حالهم بالنظر إلى وجوههم لما يرى من علامة الفقر (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) معناه : انهم لا يسألون أصلا ، وليس معناه أنهم يسألون من غير الحاف (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) من مال (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي يجازيكم عليه.

النزول

٢٧٤ ـ قال ابن عباس : نزلت الآية في علي (ع) كانت معه أربعة دراهم ، فتصدق بواحد نهارا ، وبواحد ليلا ، وبواحد سرا وبواحد علانية.

بيّن سبحانه كيفية الإنفاق وثوابه فقال : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) في هذه الحالات ، أي ينفقون على الدوام ، لأنه هذه الأوقات معينة للصدقات ولا وقت لها سواها (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أتى بالفاء ليدل على أن الجزاء إنما هو من أجل الإنفاق في طاعة الله (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من أهوال يوم القيامة وافزاعها (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فيها ، وقيل : لا خوف من فوت الأجر ونقصانه عليهم ، ولا هم يحزنون على ذلك.

٢٧٥ ـ لما حثّ الله تعالى على الإنفاق وبين ما يحصل للمنفق من الأجر العاجل والآجل ، عقّبه بذكر الربا الذي ظنه الجاهل زيادة في المال وهو في الحقيقة محق في المال فقال (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) في الدنيا (لا يَقُومُونَ) يوم القيامة (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) معناه : إلّا مثل ما يقوم الذي يصرعه الشيطان من الجنون فيكون ذلك إمارة لأهل الموقف على انهم أكلة الربا (ذلِكَ) أي ذلك العقاب لهم (بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) معناه : بسبب

٦٣

قولهم إنما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أي أحل الله البيع الذي لا ربا فيه ، وحرم البيع الذي فيه الربا (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) معناه : فمن جاءه زجر ونهي وتذكير من ربه (فَانْتَهى) أي فانزجر وتذكر واعتبر (فَلَهُ ما سَلَفَ) معناه : فله ما أخذ وأكل من الربا قبل النهي لا يلزمه رده (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) قيل معناه : أمره إلى الله فلا يؤاخذه بما سلف من الربا (وَمَنْ عادَ) إلى أكل الربا بعد التحريم وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من أن البيع مثل الربا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر مستحل للربا ، فلهذا وعد بعذاب الأبد ، وعن أبي عبد الله قال : درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام.

٢٧٦ ـ ثم أكد سبحانه ما تقدم بقوله (يَمْحَقُ اللهُ) أي ينقص الله (الرِّبا) حالا بعد حال إلى أن يتلف المال كله (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أي وينمي الصدقات ويزيدها ، بأن يثمر المال في نفسه في العاجل ، وبالأجر عليه والثواب في الآجل (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) الكفار فعال من الكفر وهو المقيم عليه ، المستمسك به ، المعتاد له.

٢٧٧ ـ هذه الآية ظاهرة المعنى وقد مر تفسيرها فيما مضى ، وإنما جمع بين هذه الخصال لا لأن الثواب لا يستحق على كل واحدة منها ، إذ لو كان كذلك لكان فيه تصغير من كل واحدة منها ، ولكن جمع بينها للترغيب في الأعمال الصالحة والتفخيم لأمرها ، والتعظيم لشأنها.

٢٧٨ ـ ٢٧٩ ـ ثم بيّن سبحانه حكم ما بقي من الربا فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في أمر الربا وفي جميع ما نهاكم عنه (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) أي واتركوا ما بقي من الربا فلا تأخذوه ، واقتصروا على رؤوس أموالكم وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) معناه : من كان مؤمنا فهذا حكمه ، فأما من ليس بمؤمن فإنه يكون حربا (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي فإن لم تقبلوا أمر الله ، ولم تنقادوا له ، ولم تتركوا بقية الربا بعد نزول الآية بتركه (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي فأيقنوا واعلموا بقتال من الله ورسوله والمعنى : أيقنوا أنكم تستحقون القتل في الدنيا ، والنار في الآخرة لمخالفة أمر الله ورسوله (وَإِنْ تُبْتُمْ) من إستحلال الربا ، وأقررتم بتحريمه (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) دون الزيادة (لا تَظْلِمُونَ) بأخذ الزيادة على رأس المال (وَلا تُظْلَمُونَ) بالنقصان من رأس المال.

٢٨٠ ـ لما أمر سبحانه بأخذ رأس المال من الموسر ، بيّن بعده حال المعسر فقال : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) معناه : وإن وقع في غرمائكم ذو عسرة (فَنَظِرَةٌ) أي فالذي تعاملونه به نظرة (إِلى مَيْسَرَةٍ) أي إلى وقت اليسار ، أي فالواجب نظرة أي فانظروه إلى وقت يساره (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) معناه : وإن تتصدقوا على المعسر بما عليه من الدين خير لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير من الشر ؛ وتميزون ما لكم عما عليكم.

٢٨١ ـ ثم حذّر سبحانه المكلفين من بعد ما تقدم من ذكر آي الحدود والأحكام فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً) معناه : واحذروا يوما ، واخشوا يوما (تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) تردّون جميعا إلى جزاء الله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) توفى جزاء ما كسبت من الأعمال (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) معناه : لا ينقصون ما يستحقونه من الثواب ، ولا يزداد عليهم ما يستحقونه من العقاب.

٢٨٢ ـ لمّا أمر سبحانه بانظار المعسر وتأجيل دينه ، عقّبه ببيان أحكام الحقوق المؤجلة ، وعقود المداينة فقال : (يا أَيُّهَا

٦٤

الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله (إِذا تَدايَنْتُمْ) أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا (بِدَيْنٍ) انه على وجه التأكيد وتمكين المعنى في النفس (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وقت مذكور معلوم بالتسمية (فَاكْتُبُوهُ) معناه : فاكتبوا الدين في صكّ لئلا يقع فيه نسيان أو جحود ، وليكون ذلك توثقة للحق ، ونظرا للذي له الحق وللذي عليه الحق وللشهود ، فوجه النظر للذي له الحق أن يكون حقه موثقا بالصك والشهود فلا يضيع حقه ، ووجه النظر للذي عليه الحق أن يكون أبعد به من الجحود فلا يستوجب النقمة والعقوبة ، ووجه النظر للشهود أنه إذا كتب بخطه كان ذلك أقوم للشهادة ، وأبعد من السهو ، وأقرب إلى الذكر ، ثم بين كيفية الكتابة فقال : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) يعني وليكتب كتاب المداينة ، أو البيع بين المتعاقدين كاتب بالقسط والإنصاف والحق لا يزيد فيه ولا ينقص منه في صفة ولا مقدار ، ولا يستبدل ولا يكتب شيئا يضر بأحدهما إلا بعلمه (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) أي ولا يمتنع كاتب من (أَنْ يَكْتُبَ) الصك على الوجه المأمور به (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) من الكتابة بالعدل وقيل : كما فضله الله تعالى بتعليمه إياه فلا يبخل على غيره في الكتابة (فَلْيَكْتُبْ) أمر للكاتب ، أي فليكتب الصك على الوجه المأمور به ثم بيّن سبحانه كيفية الإملاء على الكاتب فقال سبحانه : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) يعني المديون يقرّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه فليكتب (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أي الذي عليه الحق في الإملاء (وَلا يَبْخَسْ) أي ولا ينقص (مِنْهُ) أي من الحق (شَيْئاً) لا من قدره ولا من صفته ، ثم بين الله تعالى حال من لا يصح منه الإملاء فقال : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) أي جاهلا بالإملاء وقيل : صغيرا طفلا (أَوْ ضَعِيفاً) أي ضعيف العقل من عته أو جنون (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أي مجنونا (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) معناه : فليملل ولي الذي عليه الحق إذا عجز عن الإملاء بنفسه ثم أمر سبحانه بالإشهاد فقال : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) يعني اطلبوا الشهود واشهدوا على المكتوب رجلين من رجالكم ، أي من أهل دينكم (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي فليشهد رجل وامرأتان (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) عدالته (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) أي تنسى إحدى المرأتين (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) الشهادة التي تحملتاها لأن النسيان يغلب على النساء أكثر مما يغلب على الرجال (وَلا تَسْئَمُوا) أي ولا تضجروا ولا تملوا (أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي تكتبوا الحق (صَغِيراً) كان الحق (أَوْ كَبِيراً) ومعناه : لا تملوا أن تكتبوا الشهادة على الحق (إِلى أَجَلِهِ) أي إلى أجل الدين (ذلِكُمْ) كتابة الشهادة والصك (أَقْسَطُ) أي أعدل (عِنْدَ اللهِ) لأنه سبحانه أمر به ، واتباع أمره أعدل من تركه (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي أصوب للشهادة ، وأبعد من الزيادة والنقصان ، والسهو والغلط والنسيان (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي أقرب إلى أن لا تشكوا في مبلغ الحق والأجل (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) معناه : الا أن تقع تجارة أي مداينة ومبايعة حاضرة يدا بيد (حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) أي تتناقلونها من يد إلى يد نقدا لا نسيئة (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي حرج وضيق (أَلَّا تَكْتُبُوها) ومعناه : فليس عليكم إثم في ترك كتابتها لأن الكتابة للوثيقة ولا يحتاج إلى الوثيقة إلا في النسيئة دون النقد (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أي واشهدوا الشهود على بيعكم إذا تبايعتم ، وهذا أمر على الإستحباب والندب (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) النهي للكاتب والشاهد عن المضارة ، معنى المضارة : أن يكتب الكاتب ما لم يمل عليه ويشهد الشاهد بما لم يستشهد فيه ، أو بأن يمتنع من إقامة الشهادة (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) معناه : وان تفعلوا مضارة الكاتب والشهيد ، فإن المضارة في الكتابة والشهادة فسوق بكم ، أي خروج عما أمر الله سبحانه (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه

٦٥

(وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ما تحتاجون إليه من أمور دينكم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي عليم بذلك وبكل ما سواه من المعلومات وذكر علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره ان في البقرة خمسمائة حكم ، وفي هذه الآية خاصة خمسة عشر حكما.

٢٨٣ ـ ثم ذكر سبحانه حكم الوثيقة بالرهن عند عدم الوثيقة بالاشهاد (وَإِنْ كُنْتُمْ) أيها المتداينون المتبايعون (عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) للصك ، ولا شهودا تشهدونهم (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) التقدير : فرهان مقبوضة يقوم مقام الوثيقة بالصك والشهود (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي فإن أمن صاحب الحق الذي عليه الحق ، ووثق به وائتمنه على حقه ، ولم يستوثق منه بصك ولا رهن (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) أي الذي عليه الحق (أَمانَتَهُ) بأن لا يجحد حقه ، ولا يبخس منه شيئا ، ويؤديه إليه وافيا وقت محله من غير مطل ولا تسويف (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) معناه : وليتق الذي عليه الحق عقوبة الله ربه فيما ائتمن عليه بجحوده أو النقصان منه (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) هو خطاب للشهود ونهي لهم عن كتمان الشهادة إذا دعوا إليها (وَمَنْ يَكْتُمْها) أي ومن يكتم الشهادة مع علمه بالمشهود به ، وعدم إرتيابه فيه ، وتمكنه من أدائها من غير ضرر بعد ما دعي إلى إقامتها (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) إضافة الإثم إلى القلب أبلغ في الذم ، كما ان إضافة الإيمان إلى القلب أبلغ في المدح قال تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) أي ما تسرونه وتكتمونه (عَلِيمٌ) روي عن النبي (ص) أنه قال : لا ينقضي كلام شاهد زور من بين يدي الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار ، وكذلك من كتم الشهادة. وفي قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) دلالة على أن الإشهاد والكتابة في المداينة ليسا بواجبين.

٢٨٤ ـ (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي له تصريف السماوات والأرض وما فيهما وتدبيرهما لقدرته على ذلك ، ولأنه الذي أبدعهما وأنشأهما ، فجميع ذلك ملكه يصرّفه كما يشاء (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) أي تظهروا ما في أنفسكم من الطاعة والمعصية (أَوْ تُخْفُوهُ) أي تكتموه (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي يعلم الله ذلك فيجازيكم عليه ، (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أي يغفر لمن يشاء منهم رحمة وفضلا (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) منهم ممن يستحق العقاب عدلا (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من المغفرة والعذاب.

٢٨٥ ـ لما ذكر الله تعالى فرض الصلاة والزكاة وأحكام الشرع وأخبار الأنبياء ختم السورة بذكر تعظيمه وتصديق نبيه (ص) بجميع ذلك فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ) أي صدّق محمد (ص) (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) من الأحكام المذكورة في السورة وغيرها (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌ) أي كل واحد منهم (آمَنَ بِاللهِ) أي صدق بإثباته وصفاته ، ونفي التشبيه عنه ، وتنزيهه عما لا يليق به (وَمَلائِكَتِهِ) أي وبملائكته وبأنهم معصومون مطهرون (وَكُتُبِهِ) أي وبأن القرآن وجميع ما أنزل من الكتب حقّ وصدق (وَرُسُلِهِ) وبجميع أنبيائه (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي ويقولون : لا نفرق بين أحد من رسل الله في الإيمان بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعله أهل الكتاب من اليهود والنصارى (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) معناه : سمعنا قولك وأطعنا أمرك (غُفْرانَكَ رَبَّنا) يقولون : نسألك غفرانك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) معناه : إلى جزائك المصير.

٢٨٦ ـ ثم بيّن سبحانه أنه فيما أمر ونهى لا يكلف إلا دون الطاقة فقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي لا يأمر ولا ينهى أحدا إلّا ما هو له مستطيع وقيل : إن معنى قوله : إلّا وسعها : إلّا يسرها دون عسرها ، ولم يكلفها طاقتها ، ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود منها وقوله : (لَها ما كَسَبَتْ) معناه : لها

٦٦

ثواب ما كسبت من الطاعات (وَعَلَيْها) جزاء (مَا اكْتَسَبَتْ) من السيئات (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) تقديره : قولوا : ربنا على جهة التعليم للدعاء (إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قيل فيه وجوه (أحدها) أن المراد بنسينا تركنا ، كقوله تعالى (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) ، أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه وقوله : وتنسون أنفسكم ، والمراد بأخطأنا أذنبنا ، لأن المعاصي توصف بالخطأ من حيث أنها ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمدا ، فكأنه تعالى أمرهم أن يستغفروا مما تركوه من الواجبات ، ومما فعلوه من المقبحات (والثاني) معنى قوله : إن نسينا تعرضنا لأسباب يقع عندها النسيان عن الأمر ، والغفلة عن الواجب ، أو أخطأنا : أي تعرضنا لأسباب يقع عندها الخطأ ، ويحسن الدعاء بذلك ، كما يحسن الإعتذار منه (والثالث) أن معناه : لا تؤاخذنا إن نسينا : أي إن لم نفعل فعلا يجب فعله على سبيل السهو والغفلة ، أو أخطأنا : أي فعلنا فعلا يجب تركه من غير قصد ، ويحسن هذا الدعاء على سبيل الإنقطاع إلى الله تعالى وإظهار الفقر إلى الله تعالى وإظهار الفقر إلى مسألته ، والإستعانة به ، وإن كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله (والرابع) ما روي عن ابن عباس وعطاء ان معناه : لا تعاقبنا إن عصينا جاهلين أو متعمدين وقوله : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) إن معناه : لا تحمل علينا عملا نعجز عن القيام به ، ولا تعذبنا بتركه ونقضه (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) أي على الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، لأنهم كانوا إذا ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها ، وحرم عليهم بسببها ما أحل لهم من الطعام كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) معناه : ما يثقل علينا تحمله من أنواع التكاليف والإمتحان مثل : قتل النفس عند التوبة (وَاعْفُ عَنَّا) ذنوبنا (وَاغْفِرْ لَنا) خطايانا ، أي استرها (وَارْحَمْنا) بإنعامك علينا في الدنيا ، والعفو في الآخرة وإدخال الجنة (أَنْتَ مَوْلانا) أي ولينا ، وأولى بالتصرف فينا وناصرنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي أعنا عليهم بالقهر لهم ، والغلبة بالحجة عليهم ؛ وقد روي عن النبي (ص): إن الله تعالى قال عند كل فصل من هذا الدعاء فعلت واستجبت ، ولهذا استحب الإكثار من الدعاء ، ففي الحديث المشهور عن النبي (ص) أنه قال : من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه أي كفتاه قيام ليلته ، وعن عبد الله بن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انتهى إلى سدرة المنتهى ، وأعطي ثلاثا الصلوات الخمس ، وخواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك من أمته إلا المقحمات.

سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان

١ ـ ٥ ـ إن الله تعالى لما ختم سورة البقرة بذكر التوحيد والإيمان ، افتتح هذه السورة بالتوحيد والإيمان أيضا فقال (الم) وقد ذكرنا الإختلاف فيه وفي معناه في أول سورة البقرة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وقد ذكرنا ما فيه في تفسير آية الكرسي ، وروي عن ابن عباس أنه قال : الحي القيوم اسم الله الأعظم وهو الذي دعا به آصف بن برخيا صاحب سليمان (ع) في حمل عرش بلقيس من سبأ إلى سليمان قبل أن يرتد إليه طرفه (نَزَّلَ عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) يعني القرآن (بِالْحَقِ) بالصدق في أخباره (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما قبله من كتاب ورسوله (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) على موسى (وَالْإِنْجِيلَ) على عيسى (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إنزال القرآن (هُدىً لِلنَّاسِ) أي دلالة وبيانا ، أي ليهتدي أهل كل كتاب بكتابه ، وأهل كل زمان بما أنزل في زمانه (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) يعني به القرآن ، وإنما كرر ذلك لما اختلفت دلالات صفاته وإن كانت لموصوف واحد ، لأن كل صفة فيها فائدة غير فائدة

٦٧

الأخرى ، فإن الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل فيما يحتاج إليه من أمور الدين في الحج وغيره من الأحكام ، وذلك كله في القرآن ، ووصفه بالكتاب يفيد أنّ من شأنه أن يكتب وقيل المراد بالفرقان الحجة القاطعة لمحمد (ص) على من حاجّه في أمر عيسى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي بحججه ودلالاته (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لما بيّن حججه الدالة على توحيده ، وصدق انبيائه عقب ذلك بوعيد من خالف فيه وجحده ليتكامل به التكليف (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي قادر لا يتمكن أحد أن يمنعه من عذاب من يريد عذابه (ذُو انْتِقامٍ) أي ذو قدرة على الإنتقام من الكفار لا يتهيأ لأحد منعه ، والإنتقام مجازاة المسيء على إساءته (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لمّا ذكر سبحانه الوعيد على الإخلال بمعرفته مع نصب الأدلة على توحيده ، وصدق أنبيائه اقتضى أن يذكر أنه لا يخفى عليه شيء فيكون في ذلك تحذير من الإغترار بالإستسرار بمعصيته ، لأن المجازي لا تخفى عليه خافية.

٦ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) أي يخلق صوركم في الأرحام (كَيْفَ يَشاءُ) على أيّ صورة شاء ، وعلى أيّ صفة شاء من ذكر وأنثى ، أو صبيح أو دميم ، أو طويل أو قصير (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في أفعاله ، ودلت الآية على

وحدانية الله وكمال قدرته ، وتمام حكمته حيث صور الولد في رحم الأم على هذه الصفة ، وركب فيه من أنواع البدائع من غير آلة ولا كلفة.

٧ ـ لما تقدم بيان إنزال القرآن عقّبه ببيان كيفية إنزاله فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) أي القرآن (مِنْهُ) أي من الكتاب (آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل الكتاب (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) المحكم : ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ، ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه نحو قوله تعالى إن الله لا يظلم الناس شيئا. والمتشابه : ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه لالتباسه نحو قوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الحق ، وإنما يحصل الزيغ بشك أو جهل (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي يحتجون به على باطلهم (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي لطلب الضلال والإضلال ، وإفساد الدين على الناس (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) ولطلب تأويله على خلاف الحق (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الثابتون في العلم ، الضابطون له ، المتقنون فيه (يَقُولُونَ) تقديره : قائلين (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) معناه : المحكم والمتشابه جميعا من عند ربنا (وَما يَذَّكَّرُ) أي وما يتفكر في آيات الله ، ولا يرد المتشابه إلى المحكم (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول وقال القاضي الماوردي : قد وصف الله تعالى جميع القرآن بأنه محكم بقوله : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) ، ووصف جميعه أيضا بأنه متشابه بقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) ، فمعنى الإحكام : الإتقان والمنع ، أي هو ممنوع باتقانه واحكام معاينة عن اعتراض خلل فيه ، فالقرآن كله محكم من هذا الوجه ، وقوله : متشابها أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق والثواب والبعد عن الخلل والتناقض ، فهو كله متشابه من هذا الوجه.

٨ ـ ٩ ـ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) هذه حكاية عن قول الراسخين في العلم الذين ذكرهم الله في الآية ، ومعناه : لا تمنعنا لطفك الذي معه تستقيم القلوب (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي من عندك لطفا نتوصل به إلى الثبات على الإيمان إذ لا نتوصل إلى الثبات على الإيمان ، إلّا بلطفك (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) المعطي لنعمه ، الذي شأنه الهبة والعطية (رَبَّنا) أي ويقولون : يا سيّدنا وخالقنا (إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ)

٦٨

للجزاء (لِيَوْمٍ) أي في يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) أي ليس فيه موضع ريب وشك لوضوحه ، وهذا يتضمن إقرارهم بالبعث (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي لا يخلف الوعد.

١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بآيات الله ورسله (لَنْ تُغْنِيَ) أي لن تدفع (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) معناه : من عذاب الله شيئا (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) أي حطب النار تتقد النار بأجسامهم كما قال في موضع آخر : (حَصَبُ جَهَنَّمَ).

١١ ـ عادة هؤلاء الكفار في التكذيب بك وبما أنزل إليك (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي كعادة آل فرعون في التكذيب برسولهم وما أنزل إليه (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني كفار الأمم الماضية (كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي عاقبهم الله بذنوبهم ، وسمى المعاقبة مؤاخذة لأنها أخذ بالذنب ، فالأخذ بالذنب عقوبة (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن يعاقبه.

١٢ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) اما مشركي مكة أو اليهود (سَتُغْلَبُونَ) أي ستهزمون وتصيرون مغلوبين في الدنيا (وَتُحْشَرُونَ) أي تجمعون (إِلى جَهَنَّمَ) في الآخرة ، وقد فعل الله ذلك ، فاليهود غلبوا بوضع الجزية عليهم ، والمشركون غلبوا بالسيف (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي بئس ما مهد لكم ، وبئس ما مهّدتم لأنفسكم.

١٣ ـ لمّا وعد سبحانه الظفر لأهل الإيمان بيّن ما فعله يوم بدر بأهل الكفر والطغيان فقال : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) الخطاب لليهود الذين نقضوا العهد ، أي كان لكم أيها اليهود دلالة ظاهرة (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) أي فرقتين اجتمعتا ببدر من المسلمين والكافرين (فِئَةٌ) فرقة (تُقاتِلُ) تحارب (فِي سَبِيلِ اللهِ) في دينه وطاعته وهم الرسول وأصحابه (وَأُخْرى) أي فرقة أخرى (كافِرَةٌ) وهم المشركون من أهل مكة (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) أي ضعفهم (رَأْيَ الْعَيْنِ) أي في ظاهر العين يعني يرى المشركون المسلمين ضعفي ما هم عليه ، فإن الله تعالى قبل القتال قلل المسلمين في أعينهم ليجترئوا عليهم ولا ينصرفوا ، فلما أخذوا في القتال كثّرهم في أعينهم ليجبنوا ، وقلل المشركين في أعين المسلمين ليجترئوا عليهم ، وتصديق ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) الآية ، وذلك أحسن أسباب النصر للمؤمنين ، والخذلان للكافرين وقوله : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) النصر منه سبحانه على الأعداء يكون على ضربين : نصر بالغلبة ، ونصر بالحجة ، فالنصر بالغلبة إنما كان بغلبة العدد القليل للعدد الكثير على خلاف مجرى العادة ، وبما أمدّهم به من الملائكة ، وقوّى به نفوسهم من تقليل العدد والنصرة بالحجة وهو وعده المتقدم بالغلبة لأحدى الطائفتين لا محال وهذا ما لا يعلمه إلا علام الغيوب (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في ظهور المسلمين مع قلتهم على المشركين مع كثرتهم ، وتقليل المشركين في أعين المسلمين ، وتكثير المسلمين في أعين المشركين (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي لذوي العقول.

١٤ ـ (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) أي حب المشتهيات ، زيّنها لهم الشيطان ثم قدّم سبحانه ذكر النساء فقال : (مِنَ النِّساءِ) لأن الفتنة بهن أعظم (وَالْبَنِينَ) لأن حبهم يدعو إلى جمع الحرام (وَالْقَناطِيرِ) جمع قنطار ومقداره ألف ومائتا أوقية (الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) المضاعفة (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) معناه : الأفراس الحسنة (وَالْأَنْعامِ) وهي جمع النعم ، وهي : الإبل والبقر والغنم من الضأن والمعز (وَالْحَرْثِ) معناه : الزرع هذه كلها محبّبة إلى الناس كما ذكر الله تعالى ، ثم بيّن ان ذلك كله مما يتمتع به في الحياة ثم يزول عن صاحبه والمرجع إلى الله ، فأجدر بالإنسان أن يزهد فيه ويرغب فيما عند ربه فقال :

٦٩

(ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني كل ما سبق ذكره مما يستمتع به في الحياة الدنيا ثم يفنى (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) يعني حسن المرجع.

١٥ ـ لما صغّر تعالى الدنيا وزهّد فيها في الآية الأولى ، عظّم الآخرة وشرّفها ورغّب فيها في هذه الآية فقال : (قُلْ) يا محمد لأمتك (أَأُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) بأنفع لكم مما سبق ذكره في الآية المتقدمة من شهوات الدنيا ولذاتها وزهراتها (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ما حرم الله عليهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها الأنهار (خالِدِينَ فِيها) أي مقيمين في تلك الجنات (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الحيض والنفاس ، وجميع الأقذار والأدناس ، والطبائع الذميمة ، والأخلاق اللئيمة (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) ووراء هذه الجنات رضوان من الله (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي خبير بأفعالهم وأحوالهم.

١٦ ـ ١٧ ـ ثم وصف المتقين الذين سبق ذكرهم في قوله (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) فقال : (الَّذِينَ يَقُولُونَ) أي المتقين القائلين (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) أي صدقنا الله ورسوله (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي استرها علينا وتجاوزها عنا (وَقِنا) أي وادفع عنا (عَذابَ النَّارِ) ثم وصفهم بصفات أخر ، ومدحهم واثنى عليهم فقال : (الصَّابِرِينَ) أي على فعل ما أمرهم الله به ، وترك ما نهاهم عنه (وَالصَّادِقِينَ) في إيمانهم وأقوالهم (وَالْقانِتِينَ) الدائمين على الطاعة والعبادة (وَالْمُنْفِقِينَ) أموالهم في سبيل الخير ، ويدخل فيه الزكاة المفروضة ، والتطوع بالإنفاق (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) المصلين وقت السحر.

١٨ ـ ١٩ ـ لما قدّم تعالى ذكر أرباب الدين أتبعه بذكر أوصاف الدين فقال : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي أخبر الله بما يقوم مقام الشهادة على وحدانيته من عجيب صنعته ، وبديع حكمته (وَالْمَلائِكَةُ) أي وشهدت الملائكة بما عاينت من عظيم قدرته (وَأُولُوا الْعِلْمِ) أي وشهد أولو العلم بما ثبت عندهم وتبيّن من صنعه الذي لا يقدر عليه غيره (قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) القسط : العدل ، إنه يقوم بإجراء الأمور ، وتدابير الخلق ، وجزاء الأعمال بالعدل ، وإنّما كرّر قوله لا إله إلا هو لأنه بيّن بالأول أنه المستحق بالتوحيد لا يستحقه سواه ، وبالثاني أنه القائم برزق الخلق وتدبيرهم بالعدل ، لا ظلم في فعله (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مرّ تفسيره وتضمنت الآية الإبانة عن فضل العلم والعلماء لأنه تعالى قرن العلماء بالملائكة ، وشهادتهم بشهادة الملائكة قوله (إِنَّ الدِّينَ) أي الطاعة (عِنْدَ اللهِ) هو (الْإِسْلامُ) المراد بالإسلام التسليم لله ولأوليائه وهو التصديق (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) معناه : وما اختلف اليهود والنصارى في صدق نبوة محمد (ص) لما كانوا يجدونه في كتبهم بنعته وصفته ووقت خروجه (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بعد ما جاءهم العلم ثم أخبر عن علة اختلافهم فقال : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي حسدا (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) أي بحججه (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي لا يفوته شيء.

٢٠ ـ لما قدم الله سبحانه ذكر الإيمان والإسلام خاطب نبيه فقال : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) المعنى فإن حاجك وخاصمك النصارى وهم وفد نجران (فَقُلْ) يا محمد (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) معناه : انقدت لأمر الله في إخلاص التوحيد له (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أن ومن اهتدى بي في الدين من المسلمين فقد أسلموا أيضا كما أسلمت (وَقُلْ) يا محمد (لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) أي الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) أي أخلصتم كما أخلصت ، لفظه لفظ الإستفهام وهو بمعنى التوقيف والتهديد ، فيكون

٧٠

متضمنا للأمر ، فيكون معناه : أسلموا ، فإن الله تعالى أزاح العلل ، وأوضح السبل ، ونظيره : فهل أنتم منتهون أي انتهوا ، وهذا كما يقول الإنسان لغيره وقد وعظه بمواعظ : أقبلت وعظي يدعوه إلى قبول الوعظ (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) إلى طريق الحق (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي كفروا ولم يقبلوا ، وأعرضوا عنه (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) معناه : فإنما عليك أن تبلغ وتقيم الحجة ، وليس عليك أن لا يتولوا (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) معناه : أنه لا يفوته شيء من أعمالهم التي يجازيهم بها لأنه بصير بهم ، أي عالم بهم وبسرائرهم ، لا يخفى عليه خافية.

٢١ ـ ٢٢ ـ لما قدّم سبحانه ذكر الإحتجاج على أهل الكتاب ، وحسن الوعد لهم ان أسلموا ، وشدة الوعيد إن أبوا فصّل في هذه الآية كفرهم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي يجحدون حجج الله تعالى وبيناته (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) هم اليهود وقوله : (بِغَيْرِ حَقٍ) لا يدل على ان في قتل النبيين ما هو حق ، بل المراد بذلك : إن قتلهم لا يكون إلّا بغير حق كقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) ، والمراد بذلك تأكيد النفي والمبالغة فيه (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أوّل النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) بأن لهم العذاب الأليم (أُولئِكَ الَّذِينَ) كفروا بآيات الله ، وقتلوا الأنبياء ، والآمرين بالمعروف (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) يريد بأعمالهم ما هم عليه من ادعائهم التمسك بالتوراة ، وإقامة شريعة موسى (ع) وأراد ببطلانها في الدنيا أنها لم تحقن دماءهم وأموالهم ، ولم ينالوا بها الثناء والمدح ، وفي الآخرة أنهم لم يستحقوا بها مثوبة فصارت كأنّها لم تكن ، لأن حبوط العمل عبارة عن وقوعه على خلاف الوجه الذي يستحق عليه الثواب والأجر والمدح وحسن الذكر ، وإنما تحبط الطاعة حتى تصير كأنّها لم تفعل إذا وقعت على خلاف الوجه المأمور به (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون عنهم العذاب.

٢٣ ـ ٢٤ ـ لمّا قدّم تعالى ذكر الحجاج بيّن أنهم إذا عضّتهم الحجة فرّوا إلى الضجة ، وأعرضوا عن المحجة فقال : (أَلَمْ تَرَ) معناه : ألم ينته علمك (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) أي أعطوا حظا من الكتاب (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) دعوا إلى القرآن لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الديانة ، وأركان الشريعة ، وفي الصفة التي تقدمت البشارة بها (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) معناه : ليحكم بينهم في أمر إبراهيم وإن دينه الإسلام (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي طائفة منهم عن الداعي (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن اتباع الحق (ذلِكَ) معناه : شأنهم ذلك فالله تعالى بيّن العلة في إعراضهم عنه مع معرفتهم به ، والسبب الذي جرّأهم على الجحد والإنكار (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أي لن تصيبنا النار (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) إنها الأيام التي عبدوا فيها العجل وهي أربعون يوما (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ) أي أطمعهم في غير مطمع (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي افتراءهم وكذبهم.

٢٥ ـ ثم أكّد سبحانه ما تقدّم فقال : (فَكَيْفَ) حالهم (إِذا جَمَعْناهُمْ) أي وقت جمعهم وحشرهم (لِيَوْمٍ) أي لجزاء يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك فيه لمن نظر في الأدلة (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أعطيت ما كسبت ، أي اجتلبت بعملها من الثواب والعقاب (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقصون عما استحقوه من الثواب ، ولا يزادون على ما استحقوه من العقاب (قُلِ) يا محمد (اللهُمَ) يا الله (مالِكَ الْمُلْكِ) مالك كل ملك وملك ، فكلّ مالك دونك هالك ، وكل ملك دونك يهلك (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) تعطي الملك من تشاء (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أن تنزعه منه (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالإيمان

٧١

والطاعة (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالكفر والمعاصي (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي الخير كله في الدنيا والآخرة من قبلك (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي قادر على جميع الأشياء ، لا يعجزك شيء ، تقدر على إيجاد المعدوم ، وإفناء الموجود ، وإعادة ما كان موجودا (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) معناه : يدخل أحدهما في الآخر بإتيانه بدلا منه من مكانه (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي من النطفة وهي ميتة بدليل قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) فأحياكم (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي النطفة من الحي ، وكذلك الدجاجة من البيضة ، والبيضة من الدجاجة (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) معناه : بغير تقتير.

٢٨ ـ لما بيّن سبحانه أنه مالك الدنيا والآخرة ، والقادر على الاعزاز والإذلال ، نهى المؤمنين عن موالاة من لا إعزاز عندهم ولا إذلال من أعدائه ، ليكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه المؤمنين دون أعدائه الكافرين فقال : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أي لا ينبغي للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم ، وأن يستعينوا بهم ، ويلتجئوا إليهم ، ويظهروا المحبة لهم ، كما قال (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) ، و (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) وقوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) معناه : يجب أن يكون الموالاة مع المؤمنين ، وهذا نهي عن موالاة الكفار ومعاونتهم على المؤمنين والأولياء : جمع الولي وهو الذي يلي أمر من ارتضى فعله بالمعونة والنصرة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) معناه : من اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي فليس هو من أولياء الله والله بريء منه ثم استثنى فقال : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) والمعنى : إلا أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم ، ولم يحسن العشرة معهم ، فعند ذلك يجوز له إظهار مودتهم بلسانه ، ومداراتهم تقية منه ، ودفعا عن نفسه ، من غير أن يعتقد ذلك (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) معناه : ويحذركم الله عقابه على اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، وعلى سائر المعاصي (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) معناه إلى حكمه.

٢٩ ـ لما تقدم النهي عن اتخاذ الكفار أولياء خوّفوا من الابطان بخلاف الإظهار فيما نهوا عنه ، فقال سبحانه (قُلْ) يا محمد (إِنْ تُخْفُوا) أي ان تستروا (ما فِي صُدُورِكُمْ) يعني ما في قلوبكم ، وإنما ذكر الصدر لأنه محل القلب (أَوْ تُبْدُوهُ) أي تظهروه (يَعْلَمْهُ اللهُ) فلا ينفعكم اخفاؤه وهو مع ذلك (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وإنما قال ذلك ليذكر بمعلوماته على التفصيل فيتم التحذير إذ كان من يعلم ما في السماوات وما في الأرض على التفصيل يعلم الضمير (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على أخذكم ومجازاتكم.

٣٠ ـ لمّا حذر العقاب في الآية المتقدمة بيّن وقت العقاب فقال : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) في الدنيا (مِنْ) طاعة و (خَيْرٍ مُحْضَراً) ونظيره قوله : ووجدوا ما عملوا حاضرا وعلمت نفس ما أحضرت ، تجد صحائف الحسنات والسيئات وقيل : ترى جزاء عملها من الثواب والعقاب (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) معناه : تجد كل نفس الذي عملته من معصية محضرا (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ) أي بين معصيتها (أَمَداً بَعِيداً) أي غاية بعيدة ، أي تود أنها لم تكن فعلتها وقيل معناه : مكانا بعيدا (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) قد مر ذكره (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) أي رحيم بهم.

٣١ ـ ٣٢ ـ ثم بيّن سبحانه أن الإيمان به لا يجدي إلا إذا قارنه الإيمان برسوله (ص) فقال : (قُلْ) يا محمد (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) كما تزعمون (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) معناه : إن كنتم تحبون دين الله فاتبعوا ديني يزدد لكم حبا (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي كثير المغفرة والرحمة (قُلْ

٧٢

أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أي قل يا محمد إن كنتم تحبون الله كما تدعون فأظهروا دلالة صدقكم بطاعة الله وطاعة رسوله فذلك إمارة صدق الدعوى (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن أعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) معناه : أنه يبغضهم.

٣٣ ـ ٣٤ ـ (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) أي إختار واجتبى (آدَمَ وَنُوحاً) لنبوّته (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) أي على عالمي زمانهم بأن جعل الأنبياء منهم وقيل : إختار دينهم كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، وقيل : إختيارهم بالتفضيل على غيرهم بالنبوة وغيرها من الأمور الجليلة التي رتبها الله لهم في ذلك من مصالح الخلق. وقوله : وآل إبراهيم وآل عمران : أراد به نفس إبراهيم ونفس عمران كقوله : (بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) ، يعني موسى وهارون (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) فهم موسى وهارون ابنا عمران ، وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب واصطفاه : وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب واصطفاه : اختصه بالتفضيل على غيره. وقوله : (ذُرِّيَّةً) أي أولادا وأعقابا بعضها من بعض في التناصر في الدين وهو الإسلام ، أي دين بعضها من دين بعض (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) معناه : سميع لما تقوله الذرية ، عليم بما يضمرونه ، فلذلك فضلهم على غيرهم لما في معلومه من استقامتهم في أقوالهم وأفعالهم.

٣٥ ـ ٣٦ ـ لمّا ذكر سبحانه أنه اصطفى آل عمران عقبه بذكر مريم بنت عمران فقال : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) اسمها حنّة جدة عيسى (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) أي أوجبت لك بأن اجعل ما في بطني (مُحَرَّراً) أي خادما للبيعة يخدم في متعبداتنا وقيل : عتيقا خالصا لطاعتك لا استعمله في منافعي ، ولا أصرفه في الحوائج ، عن محمد بن جعفر بن الزبير وكانت حنّة قد أمسك عنها الولد حتى أيست ، فدعت الله أن يرزقها ولدا فحملت بمريم ، فلما حملت بها قالت : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي) أي نذري قبول رضا (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لما أقوله (الْعَلِيمُ) بما أنوي (فَلَمَّا وَضَعَتْها) يعني ولدت مريم وكانت ترجو أن يكون غلاما ، فلما وضعتها خجلت واستحيت و (قالَتْ) منكسة رأسها (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) المراد به الإعتذار من العدول عن النذر لأنها أنثى (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) اخبار منه تعالى بأنه أعلم بوضعها لأنه هو الذي خلقها وصوّرها (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) لأنها لا تصلح لما يصلح الذكر له ، وإنما كان يجوز لهم التحرير في الذكور دون الإناث ، لأنها لا تصلح لما يصلح له الذكر من التحرير لخدمة بيت المقدس لما يلحقها من الحيض والنفاس والصيانة عن التبرج للناس (وَإِنِّي سَمَّيْتُها) أي جعلت اسمها (مَرْيَمَ) وهي بلغتهم العابدة (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) خافت عليها ما يغلب على النساء من الآفات فقالت ذلك.

٣٧ ـ (فَتَقَبَّلَها رَبُّها) معناه : تكفل بها في تربيتها والقيام بشأنها (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) معناه : سلك بها طريق السعداء (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي جعل نشوءها نشوءا حسنا (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) معناه : ضمها الله إلى زكريا وجعله كفيلها قال محمد بن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى ، حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا في المسجد وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بسلم ولا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير حينها ، فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، غضا طرّيا (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) يعني قال لها

٧٣

زكريا : كيف لك ، ومن أين لك هذا؟ كالمتعجب منه (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي من الجنة. وهذه تكرمة من الله تعالى لها وإن كان ذلك خارقا للعادة (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تقدم تفسيره.

٣٨ ـ ٣٩ ـ (هُنالِكَ) أي عند ذلك الذي رأى من فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف على خلاف ما جرت به العادة (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) قال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي طمع في رزق الولد من العاقر على خلاف مجرى العادة فسأل ذلك ، وقوله طيبة : أي مباركة (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) بمعنى قابل الدعاء ومجيب له ، ومنه قول القائل : سمع الله لمن حمده أي : قبل الله دعاءه (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) جاءه النداء من جهة الملائكة (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي في المسجد (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) سماه الله بهذا الإسم قبل مولده (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي مصدقا بعيسى (وَسَيِّداً) في العلم والعبادة (وَحَصُوراً) وهو الذي لا يأتي النساء ومعناه : أنه يحصر نفسه عن الشهوات ، أي يمنعها (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي رسولا شريفا رفيع المنزلة.

٤٠ ـ (قالَ) زكريا (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ) أي من أين يكون (لِي غُلامٌ) أي ولد (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أي أصابني الشيب ، ونالني الهرم وقال ابن عباس : كان زكريا يوم بشّر بالولد ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) أي عقيم لا تلد (قالَ كَذلِكَ) وتقديره كذلك الأمر الذي انتما عليه وعلى تلك الحال (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) معناه : يرزقك الله الولد منها فإنه هيّن عليه كما أنشأكما ولم تكونا شيئا ، فإنه تعالى قادر يفعل ما يشاء.

٤١ ـ ثم سأل الله تعالى زكريا علامة يعرف بها وقت حمل امرأته ليتعجل السرور ف (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة لوقت الحمل والولد ، فجعل الله تعالى تلك العلامة في إمساك لسانه عن الكلام إلا إيماء من غير آفة حدثت فيه بقوله : (قالَ آيَتُكَ) أي قال الله : آيتك : أي علامتك (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) أي إيماء (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) أي في هذه الأيام الثلاثة ومعناه : أنه لما منع من الكلام عرف أنه لم يمنع من الذكر لله تعالى والتسبيح له ، وذلك أبلغ في الإعجاز (وَسَبِّحْ) أي نزه الله ، وأراد التسبيح المعروف وقيل معناه : صلّ ، كما يقال : فرغت من سبحتي : أي صلاتي (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) في آخر النهار وأوله.

٤٢ ـ ٤٣ ـ قدّم تعالى ذكر امرأة عمران وفضل بنتها على الجملة ، ثم ذكر تفصيل تلك الجملة فقال : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) معناه : اذكر إذ قالت الملائكة (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي إختارك وألطف لك حتى تفرغت لعبادته واتباع مرضاته (وَطَهَّرَكِ) بالإيمان عن الكفر ، وبالطاعة عن المعصية ، عن الحسن وسعيد بن جبير ، وقيل : طهّرك من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء من الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة المسجد ، عن الزجاج ، وقيل : طهّرك من الأخلاق الذميمة ، والطبائع الردية.

(وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) أي على نساء عالمي زمانك لأن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وعلى أبيها وبعلها وبنيها سيدة نساء العالمين (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي اعبديه واخلصي له العبادة (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي كما يعمل الساجدون والراكعون ، وقيل معناه : واسجدي لله شكرا واركعي ، أي وصلّي مع المصلين.

٤٤ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم ذكره من حديث مريم وزكريا ويحيى (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من أخبار ما غاب عنك

٧٤

وعن قومك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي نلقيه عليك معجزة وتذكيرا وتبصرة وموعظة وعبرة ، ووجه الإعجاز فيه إن ما غاب عن الإنسان يمكن أن يحصل علمه بدراسة الكتب أو التعلّم أو الوحي ، والنبي (ص) لم يشاهد هذه القصص ، ولا قرأها من الكتب ، ولا تعلمها إذ كان نشوءه بين أهل مكة ولم يكونوا أهل كتاب ، فوضح أن الله أوحى إليه بها ، وفي ذلك صحة نبوته (وَما كُنْتَ) يا محمد (لَدَيْهِمْ) عندهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) التي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء للإقتراع ، جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم على جهة القرعة (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي لينظروا أيّهم تظهر قرعته ليكفل مريم (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) فيه دلالة على أنهم قد بلغوا في التشاح عليها إلى حد الخصومة.

٤٥ ـ (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) قال ابن عباس : يريد جبرائيل (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ) يخبرك بما يسرّك (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) سمي بذلك لأنه كان بكلمة من الله من غير والد وهو قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) سمي بالمسيح لأنه كان لا يمسح ذاعاهة بيده الابرىء (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) نسبه إلى أمه ردا على النصارى قولهم إنه ابن الله (وَجِيهاً) ذا جاه وقدر وشرف (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إلى ثواب الله وكرامته (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي صغيرا ، والمهد : الموضع الذي يمهد لنوم الصبي (وَكَهْلاً) أي ويكلمهم كهلا بالوحي الذي يأتيه من الله ، أعلمها الله تعالى أنه يبقى إلى حال الكهولة ، وفي ذلك إعجاز لكون المخبر على وفق الخبر (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومن النبيين مثل إبراهيم وموسى.

٤٧ ـ (قالَتْ) مريم يا (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ) أي كيف يكون (لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) لم تقل ذلك إستبعادا وإستنكارا ، بل إنما قالت إستفهاما واستعظاما لقدرة الله ، لأن في طبع البشر التعجب مما خرج عن المعتاد (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ، وهو حكاية ما قال لها الملك ، أي يرزقك الولد وأنت على هذه الحالة لم يمسك بشر (إِذا قَضى أَمْراً) إذا قدّر أمرا (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إنه اخبار بسرعة حصول مراد الله في كل شيء أراد حصوله من غير مهلة ولا معاناة ، ولا تكلف سبب ولا أداة ، وإنما كنّى بهذا اللفظ لأنه لا يدخل في وهم العباد شيء أسرع من كن فيكون.

٤٨ ـ ٤٩ ـ (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) أراد به بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه (وَالْحِكْمَةَ) أي الفقه وعلم الحلال والحرام وقيل : أراد بذلك جميع ما علّمه من أصول الدين (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إن قيل لم أفردهما بالذكر مع دخولهما في الحكمة قيل : تنبيها عن جلالة موقعهما ، كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) أي قال لهم وكلّمهم لما بعث إليهم : بأني قد جئتكم (بِآيَةٍ) أي بدلالة وحجة (مِنْ رَبِّكُمْ) دالة على نبوتي (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) معناه : وهذه الآية : أني أقدّر لكم وأصوّر لكم من الطين مثل صورة الطير (فَأَنْفُخُ فِيهِ) أي في الطير المقدر من الطين (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) بأمر الله تعالى (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) أي الذي ولد أعمى (وَالْأَبْرَصَ) الذي به وضح (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) إنما أضاف الإحياء إلى نفسه على وجه المجاز والتوسع ، ولأن الله تعالى كان يحيي الموتى عند دعائه ، وإنما خص عيسى (ع) بهذه المعجزات لأن الغالب كان في زمانه الطب ، فأراهم الله الآيات من جنس ما هم عليه لتكون المعجزة أظهر ، كما ان الغالب لما كان في زمن موسى السحر أتاهم من جنس ذلك بما أعجزهم عن الإتيان بمثله ، وكان الغالب في زمان نبينا (ص) البيان والبلاغة والفصاحة فأراهم الله تعالى المعجزة بالقرآن الذي بهرهم ما فيه من عجائب النظم ، وغرائب البيان ، ليكون أبلغ في باب الإعجاز بأن يأتي كلا من أمم

٧٥

الأنبياء بمثل ما هم عليه ويعجزون عن الإتيان بمثله (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي أخبركم بالذي تأكلونه وتدخرونه ، كان يقول للرجل : تغديت بكذا وكذا ، ورفعت إلى الليل كذا وكذا (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكرت لكم (لَآيَةً) أي حجة ومعجزة ودلالة (لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله ، إذ لا يصح العلم بمدلول المعجزة إلا لمن آمن بالله ، لأن العلم بالمرسل لابد أن يكون قبل العلم بالرسول.

٥٠ ـ ٥١ ـ (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) أي لما أنزل قبلي (مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) إن الذي أحل لهم لحوم الإبل ، والشروب ، وبعض الطيور والحيتان مما كان قد حرم على بني إسرائيل (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بحجة تشهد بصدقي (فَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفتي وتكذيبي (وَأَطِيعُونِ) كما أمركم الله به (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) أي مالكي ومالككم (فَاعْبُدُوهُ) وحده (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي دين الله.

٥٢ ـ ٥٤ ـ (فَلَمَّا أَحَسَ) أي علم (عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) وأنهم لا يزدادون إلا إصرارا على الكفر بعد ظهور الآيات والمعجزات إمتحن المؤمنين من قومه بالسؤال والتعريف عما في إعتقادهم من نصرته ف (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) معناه : من أعواني على إقامة الدين المؤدي إلى الله أي إلى نيل ثوابه (قالَ الْحَوارِيُّونَ) مدحوا بهذا الإسم كأنه ذهب إلى نقاء قلوبهم كنقاء الثوب الأبيض بالتحوير (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) معناه : نحن أعوان دين الله (آمَنَّا بِاللهِ) أي صدقنا بالله أنه واحد لا شريك له (وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي شهيدا عند الله ، أشهدوه على إسلامهم لأن الأنبياء شهداء على خلقه يوم القيامة كما قال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) (رَبَّنا) أي يا ربنا (آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) على عيسى (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي اتبعناه (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي في جملة الشاهدين بجميع ما أنزلت لنفوز بما فازوا به وننال ما نالوا من كرامتك (وَمَكَرُوا) يعني كفار بني إسرائيل ومعناه : دبّروا لقتل عيسى (ع) (وَمَكَرَ اللهُ) أي جازاهم على المكر مكرا كما قال الله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ). وجاء في التفسير : إن عيسى بعد إخراج قومه إياه من بين أظهرهم همّوا بقتله ، وتواطأوا على الفتك به ، فذلك مكرهم به ومكر الله بهم القاؤه الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل وصلب (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) لأن مكرهم ظلم ومكره عدل.

٥٥ ـ لمّا بيّن سبحانه ما همّ به قوم عيسى من المكر به وقتله ، عقّبه بما أنعم عليه من لطف التدبير ، وحسن التقدير فقال (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) من الأرض (وَرافِعُكَ إِلَيَ) معناه : رافعك إلى كرامتي (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بإخراجك من بينهم فإنهم أرجاس (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) معناه : وجاعل الذين آمنوا بك فوق الذين كذبوا عليك وكذبوك في العز والغلبة ، والظفر ، والنصرة ، والمعنّي به النصارى (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي مصيركم (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) فأقضي بينكم (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر عيسى.

٥٦ ـ ٥٨ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) عذابهم في الدنيا إذلالهم بالقتل والأسر والسبي والخسف والجزية ، وكل ما فعل بهم على وجه الإستخفاف والإهانة ، وفي الآخرة عذاب الأبد في النار (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ) أي يوفر

٧٦

عليهم ويتمم (أُجُورَهُمْ) أي جزاء أعمالهم (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي لا يريد تعظيمهم وإثابتهم ، ولا يرحمهم ، ولا يثني عليهم (ذلِكَ) إشارة إلى الإخبار عن عيسى وزكريا ويحيى وغيرهم (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) نقرأه عليك ، ونكلمك به (مِنَ الْآياتِ) أي من جملة الآيات والحجج الدالة على صدق نبوتك إذا علمتهم بما لا يعلمه إلا قارىء كتاب أو معلم ، ولست بواحد منهما فلم يبق إلا انك قد عرفته من طريق الوحي (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) القرآن المحكم ، وإنما وصفه بأنه حكيم لأنه بما فيه من الحكمة كأنه ينطق بالحكمة ، كما تسمى الدلالة دليلا لأنها بما فيها من البيان كأنها تنطق بالبيان والبرهان وإن كان الدليل في الحقيقة هو الدال.

٥٩ ـ ٦٠ ـ ثم ردّ الله تعالى على النصارى قولهم في المسيح انه ابن الله فقال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) أي مثل عيسى في خلق الله إياه من غير أب كمثل آدم في خلق الله إياه من غير أب ولا أم ، فليس هو بأبدع ولا أعجب من ذلك ، فكيف أنكروا هذا واقرّوا بذلك ثم بيّن سبحانه كيف خلقه فقال : (خَلَقَهُ) أي أنشأه (مِنْ تُرابٍ) وهذا إخبار عن آدم ومعناه : كما خلق آدم من التراب ولم يخلق قبله أحدا من التراب (ثُمَّ قالَ لَهُ) أي لآدم (كُنْ) أي كن حيا بشرا سويا (فَيَكُونُ) أي فكان في الحال على ما أراد (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي هذا هو الحق من ربك ، أضاف إلى نفسه تأكيدا (فَلا تَكُنْ) أيها السامع (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وقد مرّ تفسيره في سورة البقرة (فَمَنْ حَاجَّكَ) معناه : فمن خاصمك وجادلك يا محمد (فِيهِ) أي في قصة عيسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي من البرهان الواضح على انه عبدي ورسولي (فَقُلْ تَعالَوْا) أي هلموا إلى حجة أخرى ماضية فاصلة تميز الصادق من الكاذب (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) اجمع المفسرون على أنه المراد بأبنائنا الحسن والحسين (وَنِساءَنا) اتفقوا على أن المراد به فاطمة (ع) (وَنِساءَكُمْ) أي من شئتم من نسائكم (وَأَنْفُسَنا) يعني عليا خاصة ، ولا يجوز أن يكون المعني به النبي (ص) لأنه هو الداعي ولا يجوز أن يدعو الإنسان نفسه ، وإنما يصح أن يدعو غيره ، وهذا يدل على غاية الفضل ، وعلو الدرجة ، والبلوغ منه إلى حيث لا يبلغه أحد إذ جعله الله نفس الرسول ، وهذا ما لا يدانيه فيه أحد ولا يقاربه (وَأَنْفُسَكُمْ) يعني من شئتم من رجالكم (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نتضرع في الدعاء (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) منا ، وفي هذه الآية دلالة على أنهم علموا أن الحق مع النبي لأنهم امتنعوا عن المباهلة ، وأقروا بالذل والخزي لقبول الجزية ، ولو لم يكن النبي (ص) متيقنا بنزول العقوبة بعدوه دونه لما أدخل أولاده وخواص أهله في ذلك.

٦٢ ـ ٦٣ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) معناه : ان هذا الذي أوحينا إليك في أمر عيسى (ع) وغيره لهو الحديث الصدق ، فمن خالفك فيه مع وضوح الأمر فهو معاند (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) أي وما لكم أحد يستحق إطلاق إسم الإلهية إلا الله ، وان عيسى ليس بإله كما زعموا وإنما هو عبد الله ورسوله (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي القادر على الكمال (الْحَكِيمُ) في الأقوال والأفعال ، والتقدير والتدبير (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك وعما أتيت به من الدلالات والبينات (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي بمن يفسد من خلقه فيجازيهم على إفسادهم.

٦٤ ـ لما تمّ الحجاج على القوم دعاهم تعالى إلى التوحيد فقال : (قُلْ) يا محمد (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا) أي هلمّوا (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) أي عدل (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي عادلة لا ميل

٧٧

لها كما يقال : رجل عدل ، أي عادل لا ميل فيه ، وقيل معناه : كلمة مستوية بيننا وبينكم فيها ترك العبادة لغير الله وهي (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) لأن العبادة لا تحق إلا له (وَلا نُشْرِكَ بِهِ) في العبادة (شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) معناه ولا يتخذ بعضنا عيسى ربّا فإنه كان بعض الناس وقيل معناه : أن لا نتخذ الأحبار أربابا نطيعهم طاعة الأرباب لقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : ما عبدوهم من دون الله ولكن حرّموا لهم حلالا ، وأحلّو لهم حراما ، فكان ذلك اتخاذهم أربابا من دون الله (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإقرار بالعبودية ، وان أحدا لا يستحق العبادة غيره (فَقُولُوا) أنتم أيها المسلمون مقابلة لإعراضهم عن الحق ، وتجديدا للإقرار ومخالفتهم (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي مخلصون مقرون بالتوحيد ، مقيمون على الإسلام ، وهذا تأديب من الله لعبده المؤمن وتعليم له كيف يفعل عند إعراض المخالف بعد ظهور الحجة.

٦٥ ـ ٦٦ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) أي لم تنازعون وتجادلون فيه وتدّعون أنه على دينكم (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد إبراهيم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ان الإقامة على الدعوى من غير برهان غير جائزة في العقل ، فكيف يجوز الإقامة على الدعوى بعد ما ظهر فسادها؟ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) يا معشر اليهود والنصارى (حاجَجْتُمْ) جادلتم وخاصمتم (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) معناه : حاججتم ولكم به علم لوجود اسمه في التوراة والإنجيل (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي فلم تحاجون في دينه وشرعه وليس لكم به علم (وَاللهُ يَعْلَمُ) شأن إبراهيم ودينه لأنه العالم بجميع المعلومات (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك فلا تتكلموا فيه ولا تضيفوا إليه ما لا تعلمونه ، واطلبوا علم ذلك ممن يعلمه.

٦٧ ـ ٦٨ ـ ثم كذّب الله اليهود والنصارى فقال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) نزّه إبراهيم وبرّأه عن اليهودية والنصرانية لأنهما صفتا ذم قد دل القرآن والإجماع على ذلك ، وهذا يدل على أن موسى أيضا لم يكن يهوديا ولم يكن عيسى نصرانيا ، فإن الدين عند الله الإسلام ، واليهودية ملة محرّفة عن شرع موسى والنصرانية ملة محرّفة عن شرع عيسى ، فهما صفتا ذم جرتا على فرقتين ضالتين (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) معناه : مستقيما في دينه (مُسْلِماً) أي كائنا على دين الإسلام (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) معناه : لم يكن مشركا على ما يدعيه مشركو العرب (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) يعني ان أحق الناس بنصرة إبراهيم بالحجة أو بالمعونة (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في وقته وزمانه ، وتولوه بالنصرة على عدوه حتى ظهر أمره ، وعلت كلمته (وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يتولون نصرته بالحجة لما كان عليه من الحق ، وتبرئة كل عيب عنه ، أي هم الذين ينبغي لهم أن يقولوا انا على دين إبراهيم ، ولهم ولايته (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) لأنه يتولى نصرتهم ، والمؤمن ولي الله لهذا المعنى.

٦٩ ـ ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء كما ضلوا دعوا إلى الضلال فقال : (وَدَّتْ) أي تمنت وقيل : أرادت (طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي من اليهود والنصارى (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أي يهلونكم بإدخالكم في الضلال ودعائهم إليه (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) معناه : لا يرجع وبال إضلالهم إلا على أنفسهم ، ولا يلحق ضرره إلا بهم ، فإن المسلمين لا يجبيونهم إلى ما يدعونهم إليه من ترك الإسلام إلى غيره من الأديان ، فيبقى عليهم إثم الكفر ووبال الدعاء إلى الكفر (وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يعلمون أن وبال ذلك يعود إليهم. وقيل :

٧٨

وما يشعرون أن الله تعالى يدلّ المؤمنين على ضلالهم وإضلالهم ، وقيل : وما يشعرون أنهم ضلال لجهلهم عن أبي علي الجبائي.

٧٠ ـ ٧١ ـ ثم خاطب الله الفريقين فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ) بما يتلى عليكم من آيات (اللهِ) يعني القرآن (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي تعلمون وتشاهدون ما يدل على صحتها ، ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل إذ فيهما ذكر النبي ، والإخبار بصدق نبوته ، وبيان صفته (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) معناه : لم تخلطون الحق بالباطل ، وفيه أقوال : (أحدها) أن المراد به تحريف التوراة والإنجيل (وثانيها) أن المراد به إظهارهم الإسلام وابطانهم النفاق ، وفي قلوبهم من اليهودية والنصرانية ، لأنهم تداعوا إلى إظهار الإسلام في صدر النهار والرجوع عنه في آخره تشكيكا للناس (ثالثها) أن المراد به الإيمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد (ورابعها) أن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من أن محمدا أحق بما يظهرونه من تكذيبه (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) أي نبوة محمد (ص) وما وجدتموه في كتبكم من نعته والبشارة به (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه حق ، وإنما نزلت هذه في طائفة من علمائهم.

٧٢ ـ ٧٤ ـ لما ذكر تعالى صدرا من كيد القوم عقّبه بذكر هذه المكيدة الشديدة فقال : (وَقالَتْ طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي بعضهم لبعض (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) يعنون النبي وأصحابه (وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) واختلف في معناه على أقوال (أحدها) أظهروا الإيمان لهم أول النهار ، وارجعوا عنه في آخره فإنه أخرى أن ينقلبوا عن دينهم عن الحسن وجماعة (وثانيهما) امنوا بصلاتهم إلى الكعبة أول النهار واكفروا آخره ليرجعوا بذلك عن دينهم عن مجاهد (وثالثهما) اظهروا الإيمان في صدر النهار بما سلف لكم من الإقرار بصفة محمد (ص) ثم ارجعوا في آخره لتوهموهم أنه كان قد وقع غلط في صفته (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن دينهم الإسلام (وَلا تُؤْمِنُوا) أي ولا تصدقوا (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) اليهودية ، وقام بشرائعكم (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) تقديره : قل يا محمد ان الهدى إلى الخير هدى الله (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) فلا تجحدوا أيها اليهود أن يؤتى أحد (مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من النبوة (أَوْ) أن (يُحاجُّوكُمْ) بذلك (عِنْدَ رَبِّكُمْ) إن لم تقلبوا ذلك منهم وقوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) قيل : يريد به النبوة وقوله : بيد الله أي في ملكه وهو القادر عليه ، العالم بمحله (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) وفي هذه دلالة على أن النبوة ليست بمستحقة وكذلك الإمامة لأن الله سبحانه علقه بالمشيئة (وَاللهُ واسِعٌ) الرحمة جواد (عَلِيمٌ) بمصالح الخلق (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) مرّ تفسيره في سورة البقرة في العشر التي بعد المائة ، وفي هذه الآيات معجزة باهرة لنبينا إذ فيها اخبار عن سرائر القوم التي لا يعلمها إلّا علام الغيوب وفيها دفع لمكائدهم.

٧٥ ـ ٧٦ ـ ثم ذكر سبحانه معائب القوم فقال : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) أي تجعله أمينا على قنطار : أي مال كثير (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) عند المطالبة ولا يخون فيه (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) المراد : تجعله أمينا على قليل من المال (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) عند المطالبة ، وهم كفار اليهود بالإجماع (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) معناه : إلا أن تلازمه وتتقاضاه (ذلِكَ) أي ذلك الإستحلال والخيانة (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) هذا بيان العلة التي كانوا لأجلها لا يؤدون الأمانة ، ويميلون إلى الخيانة ، وذلك انهم عاملوا جماعة منهم ثم أسلم

٧٩

من له الحق ، وامتنع من عليه الحق من أداء الحق وقالوا : إنما عاملناكم وأنتم على ديننا ، فإذا فارقتموه سقط حقكم ، وادعوا أن ذلك في كتبهم ، فأكذبهم الله في ذلك بقوله : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انهم يكذبون ، لأن الله أمرهم بخلاف ما قالوا ، وإنما سمّوهم أميّين لكونهم من مكة وهي أم القرى ، ثم الله تعالى ردّ عليهم قولهم فقال : (بَلى) وفيه نفي لما قبله ، وإثبات لما بعده ، كأنه قال : ما أمر الله بذلك ولا أحبه ولا أراده ، بل أوجب الوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) معناه : من أوفى بعهد نفسه ، لأن العهد يضاف تارة إلى العاهد وتارة إلى المعهود له (وَاتَّقى) الخيانة ونقض العهد (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) معناه : فإن الله يحبّه إلا أنه عدل إلى ذكر المتقين ليبين الصفة التي يجب بها محبة الله ، وهذه صفة المؤمن فكأنه قال : والله يحبّ المؤمنين ولا يحبّ اليهود. وروي عن النبي (ص) أنه قال : ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن : وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من ائتمن على أمانة فأداها ولو شاء لم يؤدّها زوّجه الله من الحور العين ما شاء

٧٧ ـ ثم ذكر تعالى الوعيد لهم على أفعالهم الخبيثة فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) أي يستبدلون (بِعَهْدِ اللهِ) أي بأمر الله وما يلزمهم الوفاء به (وَأَيْمانِهِمْ) أي وبالأيمان الكاذبة (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عوضا نزرا ، وسماه قليلا لأنه قليل في جنب ما يفوتهم من الثواب ، ويحصل لهم من العقاب وقيل : العهد ما أوجبه الله على الإنسان من الطاعة ، والكف عن المعصية وقيل : هو ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل ، والإنقياد للحق (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ) أي لا نصيب وافر لهم في نعيم الآخرة (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) انه لا يكلمهم بما يسرهم ، بل بما يسوءهم وقت الحساب لهم (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) معناه : لا يعطف عليهم ، ولا يرحمهم (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا ينزلهم منزلة الأزكياء (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

٧٨ ـ (وَإِنَّ مِنْهُمْ) أي من أهل الكتاب (لَفَرِيقاً) أي طائفة (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) معناه : يحرّفون الكتاب عن جهته ويفسرونه بخلاف الحق (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) أي لتظنوه أيها المسلمون من كتاب الله تعالى وما هو من الكتاب المنزل على موسى ولكنهم يخترعونه ويبتدعونه (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وفي هذا دليل على ان المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله ، لأنها لو كانت من فعله لكانت من عنده (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في نسبتهم ذلك إلى الكتاب (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن ذلك كذب.

٧٩ ـ ٨٠ ـ لما تقدم ذكر أهل الكتاب وانهم أضافوا ما يتدينون به إلى الأنبياء نزههم الله عن ذلك فقال : (ما كانَ لِبَشَرٍ) يعني ما ينبغي لبشر (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ) أن يعطيه الله (الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) أي العلم أو الرسالة إلى الخلق (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) معناه : ليس من صفة الأنبياء الذين خصهم الله لرسالته ، واجتباهم لنبوته ، وأنزل عليهم كتبه ، وجعلهم حكماء علماء أن يدعوا الناس إلى عبادتهم (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) لا ينبغي لهذا النبي أن يقول للناس : اعبدوني ولكن ينبغي أن يقول لهم : كونوا ربانيين معناه : كونوا علماء فقهاء (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) أي القرآن (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي الفقه (وَلا يَأْمُرَكُمْ) أي ولا يأمركم عيسى ولا كان لهذا النبي أن يأمركم (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) أي آلهة كما فعله الصابئون والنصارى (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) معناه : ان الله تعالى إنما يبعث النبي (ص) ليدعو الناس إلى الإيمان ، فلا يبعث من يدعو المسلمين إلى الكفر.

٨٠