الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

١٨٦ ـ لما ذكر سبحانه الصوم عقّبه بذكر الدعاء ومكانه منه وإجابته إياه فقال : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) الأقرب أن يكون السؤال عن صفته سبحانه لا عن فعله لقوله سبحانه : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي فقل إني قريب سريع الإجابة إلى دعاء الداعي وقوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) مفهوم المعنى وقوله (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) معناه : فليستجيبوا لي بالطاعة (وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي لعلهم يصيبون الحق ويهتدون إليه.

١٨٧ ـ (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) أي الجماع (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن كما قال : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) ، أي سكنا ، إنما جعل كل واحد منهما لباسا للآخر لانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) لما حرم عليهم الجماع والأكل بعد النوم ، وخالفوا في ذلك ذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلك التحريمة فقال : علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم بالمعصية ، أي لا تؤدون الأمانة بالإمتناع عن المباشرة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي قبل توبتكم (وَعَفا عَنْكُمْ) غفر ذنوبكم (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) بالليل ، أي جامعوهن ، لفظه أمر ومعناه الإباحة (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال الذي بيّنه في كتابه وقوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) إباحة للأكل والشرب (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) أي ليظهر ويتميز لكم على التحقيق (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) أي النهار من الليل ، فأول النهار طلوع الفجر الثاني وإنما شبه ذلك بالخيط لأن القدر الذي يحرم الافطار من البياض يشبه الخيط فيزول به مثله من السواد (مِنَ الْفَجْرِ) من للتبيين ، لأنه بيّن الخيط الأبيض ، فكأنه قال : الخيط الأبيض الذي هو الفجر ، فابتداء الصوم من هذا الوقت ، ثم بيّن تعالى الإنتهاء فقال (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أي إلى وقت دخول الليل ، وهو بعد غروب الشمس ، وعلامة دخوله على الإستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق وإقبال السواد منه ، وقوله (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) أراد الجماع وكل ما دونه من قبلة وغيرها (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أي معتكفون ، أي لا تباشروهن في حال إعتكافكم في المساجد ولا يصح الإعتكاف إلا بصوم ، ولا يكون إلا في ثلاثة أيام وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) تلك إشارة إلى الأحكام المذكورة في الآية ، حدود الله : حرمات الله (فَلا تَقْرَبُوها) أي فلا تأتوها بالمخالفة (كَذلِكَ) أي مثل هذا البيان الذي ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) أي حججه وأدلته على ما أمرهم به ، ونهاهم عنه (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي لكي يتقوا معاصيه وتعدي حدوده فيما أمرهم به ونهاهم عنه واباحهم إياها.

١٨٨ ـ ثم بيّن سبحانه شريعة من شرائع الإسلام نسقا على ما تقدم من بيان الحلال والحرام فقال (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالغصب والظلم والوجوه التي لا تحل ، كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : أي ولا يقتل بعضكم بعضا وقيل معناه : لا تأكلوا أموالكم باللهو واللعب مثل ما يؤخذ في القمار والملاهي لأن كل ذلك من الباطل ، وروي عن أبي جعفر : أنه يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقتطع بها الأموال (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) وتلقوا بها إلى القضاة قيل إنه الودائع وما لا يقوم عليه بينة (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) أي لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالفعل الموجب للإثم ، بأن يحكم الحاكم بالظاهر وكان الأمر في الباطن بخلافه (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنّ ذلك الفريق من المال ليس بحق لكم وأنتم مبطلون ، وهذا أشد في الزجر.

٤١

١٨٩ ـ ثم بيّن شريعة أخرى فقال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) أي أحوال الأهلة في زيادتها ونقصانها ، ووجه الحكمة في ذلك (قُلْ) يا محمد (هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) أي هي مواقيت يحتاج الناس إلى مقاديرها في صومهم ، وفطرهم ، وعدد نسائهم ، ومحل ديونهم وحجهم ، فبين سبحانه أن وجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه ما تعلق بذلك من مصالح الدين والدنيا ، لأن الهلال لو كان مدورا أبدا مثل الشمس لم يمكن التوقيت به وقوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) معناه : ليس البر أن تأتوا البيوت من غير جهاتها ، وينبغي أن تأتوا الأمور من جهاتها ، أيّ الأمور كان (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) قد مرّ معناه (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) قد مضى معناه (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) معناه : واتقوا ما نهاكم الله عنه ، وزهّدكم فيه لكي تفلحوا بالوصول إلى ثوابه الذي ضمنه للمتقين.

١٩٠ ـ ثم بيّن سبحانه أمر الجهاد فقال مخاطبا للمؤمنين (وَقاتِلُوا) الكفار (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي دين الله وهو الطريق الذي بيّنه للعباد ليسلكوه على ما أمرهم به ودعاهم إليه (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) أمروا بقتال المقاتلين دون النساء (وَلا تَعْتَدُوا) أي ولا تجاوزوا معناه : لا تعتدوا بقتال من لم يبدأكم بقتال (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ظاهره يقتضي أنه يسخط عليهم لأنه على جهة الذم لهم.

١٩١ ـ ثم خاطب الله تعالى المؤمنين مبيّنا لهم كيفية القتال مع الكافرين فقال : (وَاقْتُلُوهُمْ) أي الكفار (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) يعني أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي شركهم بالله وبرسوله أعظم من القتل في الشهر الحرام ، وسمّي الكفر فتنة لأن الكفر يؤدي إلى الهلاك كما إن الفتنة تؤدي إلى الهلاك وقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) نهى عن ابتدائهم بقتال أو قتل في الحرم حتى يبتدىء المشركون بذلك (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) أي بدأوكم بذلك (فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أن يقتلوا.

١٩٢ ـ (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي امتنعوا من كفرهم بالتوبة منه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فاختصر الكلام لدلالة ما تقدم من الشرط عليه.

١٩٣ ـ ثم بيّن تعالى غاية وجوب القتال ، وقال يخاطب المؤمنين (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) وحتى تكون الطاعة لله ، والإنقياد لأمر الله ، ويظهر الإسلام على الأديان كلها (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي إمتنعوا من الكفر ، واذعنوا للإسلام (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فلا عقوبة عليهم ، وإنما العقوبة بالقتل على الكافرين المقيمين على الكفر.

١٩٤ ـ ثم بيّن الله تعالى القتال في الشهر الحرام فقال (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) معناه : الشهر الحرام ذو القعدة الذي دخلتم فيه مكة واعتمرتم وقضيتم منها وطركم في سنة سبع ؛ بالشهر الحرام ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت ، ومنعتم عن مرادكم في سنة ست (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) بالقتال في الشهر الحرام ، أي لا يجوز للمسلمين إلا قصاصا ، قال الحسن : إن مشركي العرب قالوا لرسول الله أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال : نعم ، وإنما أراد المشركون أن يغرّوه في الشهر الحرام فيقاتلوه ، فأنزل الله

٤٢

هذا أي أن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم ، وإنما جمع الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر ، وحرمة البلد ، وحرمة الإحرام (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أي ظلمكم (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أي فجازوه باعتدائه ، وقابلوه بمثله (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالنصرة لهم ، وفي الآية دلالة على أنّ من غصب شيئا وأتلفه يلزمه رد مثله.

١٩٥ ـ لما أوجب سبحانه القتال في سبيل الله عقّبه بذكر الإنفاق فيه فقال : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) معناه : وانفقوا من أموالكم في الجهاد وطريق الدين وكل ما أمر الله به من الخير وأبواب البر فهو سبيل الله ، لأن السبيل هو الطريق فسبيل الله الطريق إلى الله ، وإلى رحمة الله وثوابه (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) المراد : ولا تسرفوا في الإنفاق الذي يأتي على النفس (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يعني المقتصدين.

١٩٦ ـ ثم بيّن سبحانه فرض الحج والعمرة على العباد بعد بيانه فريضة الجهاد فقال : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي أتموهما بمناسكهما وحدودهما وتأدية كل ما فيهما وقوله : لله ، أي اقصدوا بهما التقرب إلى الله وقوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) معناه : منعكم خوف أو عدوّ أو مرض فامتنعتم لذلك (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فعليكم ما سهل من الهدي ، أو ما تيسّر من الهدي إذا أردتم الإحلال ، والهدي يكون على ثلاثة أنواع : جزور أو بقرة أو شاة وأيسرها شاة (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أي لا تتحللوا من إحرامكم حتى يبلغ الهدي محله وينحر أو يذبح (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) أي من مرض منكم مرضا يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة ، أو تأذى بهوام رأسه أبيح له الحلق بشرط الفدية ، وقوله (فَفِدْيَةٌ) أي فحلق لذلك العذر فعليه فدية ، أي بدل وجزاء يقوم مقام ذلك (مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ، والمروي عن أئمتنا : أن الصيام ثلاثة أيام ، والصدقة على ست مساكين ، والنسك شاة وهو مخيّر فيها ، وقوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) معناه : فإذا أمنتم الموانع من العدو والمرض وكل مانع (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فعليه ما تيسر من الهدي (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) أي فمن لم يجد الهدي ولا ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج يوم قبل يوم التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة وقوله : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) أي وسبعة أيام إذا رجعتم إلى بلادكم وأهاليكم (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) معناه : كاملة من الهدي ، إذا وقعت بدلا منه استكملت ثوابه.

وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي ما تقدم ذكره من التمتع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكة ومن يجري مجراهم ، وإنما هو لمن لم يكن من حاضري مكة وهو من يكون بينه وبينها أكثر من اثني عشر ميلا من كل جانب (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصاه.

١٩٧ ـ (الْحَجُ) أي أشهر الحج (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أي أشهر موقتة معينة لا يجوز فيها التبديل والتغيير بالتقديم والتأخير اللذين كان يفعلهما النسأة الذين أنزل فيهم : إنما النسيء زيادة في الكفر الآية : وأشهر الحج عندنا : شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وإنما صارت هذه أشهر الحج لأنه لا يصح الإحرام بالحج إلّا فيها بلا خلاف ، وعندنا لا يصح

٤٣

أيضا الإحرام بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج إلا فيها (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) معناه : فمن أوجب على نفسه فيهن الحج ، أي فمن أحرم فيهن بالحج أو بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج (فَلا رَفَثَ) كني بالرفث عن الجماع هاهنا (وَلا فُسُوقَ) هو معاصي الله كلها (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) روى أصحابنا : أنه قول لا والله ، وبلى والله ، صادقا أو كاذبا (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) معناه ما تفعلوا من خير يجازكم الله العالم به (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) معناه : تزودوا من الأعمال الصالحة وذكر ذلك في أثناء أفعال الحج لأنه أحق شيء بالإستكثار من أعمال البرّ فيه (وَاتَّقُونِ) فيما أمرتكم به ، ونهيتكم عنه (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا ذوي العقول.

١٩٨ ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) قيل : كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج ، فرفع الله بهذه اللفظة الإثم عمّن يتّجر في الحج (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) أي دفعتم عنها بعد الإجتماع فيها (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) وفي هذا دلالة على أن الوقوف بالمشعر الحرام فريضة وتقدير الكلام : فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام واذكروا الله فيه (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) معناه : واذكروه بالثناء والشكر على حسب نعمته عليكم بالهداية ، فإن الشكر يجب أن يكون على حسب النعمة في عظم المنزلة ، كما يجب أن يكون على مقدارها (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل محمد (ص) (لَمِنَ الضَّالِّينَ) عن النبوة والشريعة فهداكم إليه.

١٩٩ ـ (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) المراد به الإفاضة من عرفات وأنه أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة ولا يفيضون منها ويقولون : نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه ، وكانوا يقفون بالمزدلفة ويفيضون منها ، فأمرهم الله بالوقوف بعرفة والإفاضة منها كما يفيض الناس ، والمراد بالناس سائر العرب (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) أي اطلبوا المغفرة منه بالندم على ما سلف من المعاصي (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) أي كثير المغفرة (رَحِيمٌ) واسع الرحمة.

٢٠٠ ـ (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) معناه : فإذا أدّيتم مناسككم ، وقيل معناه : فإذا فرغتم من مناسككم ، والمعنى : فإذا قضيتم ما وجب عليكم إيقاعه في متعبداتكم (فَاذْكُرُوا اللهَ) المراد به التكبير المختص بأيام منى لأنه الذكر المرغّب فيه ، المندوب إليه في هذه الأيام (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) معناه : ما روي عن أبي جعفر الباقر (ع) أنهم كانوا إذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك ، ويعدون مفاخر آبائهم ومآثرهم ، ويذكرون أيامهم القديمة ، وأياديهم الجسيمة ، فأمرهم الله سبحانه أن يذكروه مكان ذكرهم آباءهم في هذا الموضع (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أو يزيدوا على ذلك بأن يذكروا نعم الله ويعدّوا آلاءه ، ويشكروا نعماءه (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) بيّن سبحانه أن الناس في تلك المواطن أصناف : فمنهم من يسأل نعيم الدنيا ولا يسأل نعيم الآخرة لأنه غير مؤمن بالبعث والنشور (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي نصيب من الخير موفور.

٢٠١ ـ لما ذكر سبحانه دعاء من سأله من أمور الدنيا في تلك المواقف الشريفة ما لا يرتضيه ، عقّبه بما يسأله المؤمنون فيها من الدعاء الذي يرغب فيه فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا) أي أعطنا (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا

٤٤

عَذابَ النَّارِ) أي نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.

٢٠٢ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي حظّ من كسبهم باستحقاقهم الثواب عليه (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) المراد به : أنه يحاسب أهل الموقف في أوقات يسيرة لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره ، كما لا يشغله شأن عن شأن.

٢٠٣ ـ (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) هذا أمر من الله للمكلفين أن يذكروه في أيام معدودات وهي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر ، والأيام المعلومات : عشر ذي الحجة هو أن تقول عقيب خمس عشرة صلوات : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما أولانا ، والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام. وأول التكبير عندنا عقيب الظهر من يوم النحر وآخره عقيب صلاة الفجر من اليوم الرابع من النحر ، هذا لمن كان بمنى ، ومن كان بغير منى من الأمصار يكبّر عقيب عشر صلوات ، أولها صلاة الظهر من يوم النحر أيضا (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) المعنى في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق ، والأفضل أن يقيم إلى النفر الأخير وهو الثالث من التشريق معناه : لا إثم عليه في التعجيل والتأخير ، وإنما نفى الإثم لئلا يتوهم متوهّم أن في التعجيل إثما وقوله : (لِمَنِ اتَّقى) فيه قولان متعلق بالتعجيل في اليومين ، وتقديره : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه لمن اتقى الصيد إلى انقضاء النفر الأخير وما بقي من إحرامه ، ومن لم يتقها فلا يجوز النفر في الأول ، وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي اجتنبوا معاصي الله (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تحققوا أنكم بعد موتكم تجمعون إلى الموضع الذي يحكم الله فيه بينكم ، ويجازيكم على أعمالكم.

٢٠٤ ـ ٢٠٥ ـ ثم بين سبحانه حال المنافقين بعد ذكره أحوال المؤمنين والكافرين فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) أي تستحسن كلامه يا محمد ، ويعظم موقعه من قلبك (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي يقول : آمنت بك ، وأنا صاحب لك ، ونحو ذلك (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أي يحلف بالله ويشهده على أنه مضمر ما يقول فيقول : اللهم أشهد عليّ به ، وضميره على خلافه (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي وهو أشد المخاصمين خصومة جدل مبطل (وَإِذا تَوَلَّى) معناه : ملك الأمر وصار واليا ومعناه : إذا ولي سلطانا جار (سَعى فِي الْأَرْضِ) أي أسرع في المشي من عندك (لِيُفْسِدَ فِيها) ليظهر الفساد ، ويعمل المعاصي (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) أي النبات والأولاد (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أي أهل الفساد.

٢٠٦ ـ ثم بين تعالى صفة من تقدم من المنافقين فقال (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) أي وإذا قيل لهذا المنافق اتق الله فيما نهاك عنه في السعي في الأرض بالفساد ، وإهلاك الحرث والنسل (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) معناه : حملته العزة وحميّة الجاهلية على فعل الإثم ودعته إليه (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي فكفاه عقوبة من إضلاله أن يصلى نار جهنم (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي القرار ، وقيل : إنما سميت جهنم مهادا لأنها بدل من المهاد.

٢٠٧ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) أي يبيع نفسه (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي لابتغاء رضاء الله ، وإنما أطلق عليه إسم البيع لأنه إنما فعل ما فعل لطلب رضاء الله كما أن البائع يطلب الثمن بالبيع (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) واسع الرحمة بعبيده ينيلهم ما حاولوه من مرضاته وثوابه.

٢٠٨ ـ لما قدّم تعالى ذكر الفرق الثلاث من العباد دعا

٤٥

جميعهم إلى الطاعة والإنقياد فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا الله ورسوله (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) أي في الإسلام ، أي دوموا فيما دخلتم فيه (كَافَّةً) أي جميعا ، أي ادخلوا جميعا في الإسلام والطاعة والإستسلام (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي آثاره ونزغاته لأن ترككم شيئا من شرائع الإسلام إتباع للشيطان (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي مظهر للعداوة بقوله : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً).

٢١٠ ـ ثم عقّب سبحانه ما تقدم من الوعيد بوعيد آخر فقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) أي هل ينتظرون هؤلاء المكذبون بآيات الله إلا أن يأتيهم أمر الله أو عذاب الله وما توعدهم به على معصيته في قطع من السحاب وهذا كما يقال : قتل الأمير فلانا وضربه وإن لم يتولّ شيئا من ذلك بنفسه بل فعل بأمره ، فأسند إليه لأمره به ، وإنما ذكر الغمام ليكون أهول ، فإن الأهوال تشبه بظلل الغمام كما قال سبحانه : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ). قوله : (وَالْمَلائِكَةُ) أي بجلائل آياته وبالملائكة وقوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) معناه : فرغ من الأمر وهو المحاسبة ، وإنزال أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إليه ترد الأمور في سؤاله عنها ، ومجازاته عليها في الحشر لا يملك أحد هناك شيئا.

٢١١ ـ (سَلْ) يا محمد (بَنِي إِسْرائِيلَ) وهم اليهود الذين كانوا حول المدينة والمراد به علماؤهم ، وهو سؤال تقرير لتأكيد الحجة عليهم (كَمْ آتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) من حجة ظاهرة واضحة مثل : اليد البيضاء ، وقلب العصاحية ، وفلق البحر ، وتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المنّ والسلوى (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) تقديره ، فبدّلوا نعمة الله ، وكفروا بآياته ، وخالفوه فضلّوا وأضلّوا (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصاه.

٢١٢ ـ ثم بيّن سبحانه أن عدو لهم عن الإيمان إنما هو لإيثارهم الحياة الدنيا فقال : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) الشيطان زيّنها لهم بأن قوّى دواعيهم ، وحسن فعل القبيح والإخلال بالواجب (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ويهزؤون من المؤمنين لإيمانهم بالبعث وجدّهم في ذلك (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أراد أن حالهم فوق هؤلاء الكفار لأنهم في عليين ، وهؤلاء في سجين (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) إنه يعطي العدد من الشيء لا يضبط بالحساب ، ولا يأتي عليه العدد ، لأن ما يقدر عليه غير متناه ولا محصور.

٢١٣ ـ ثم بيّن سبحانه أحوال من تقدم من الكفار تسلية للنبي فقال : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي أهل ملة واحدة ، وعلى دين واحد ، كانوا على الكفر (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) أي أرسل الله النبيين (مُبَشِّرِينَ) لمن أطاعهم بالجنة (وَمُنْذِرِينَ) لمن عصاهم بالنار (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) معناه : أنزل مع بعثهم الكتاب ، إذ الأنبياء لم يكونوا منزلين حتى ينزل الكتاب معهم قوله : (بِالْحَقِ) أي بالصدق والعدل قوله : (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) الضمير في يحكم يرجع إلى الله ، أي ليحكم الله منزل الكتاب (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) من الحق قبل إنزال الكتاب وقوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) معناه : وما اختلف في الحق إلا الذين أعطوا العلم به كاليهود فإنهم كتموا صفة النبي بعد ما أعطوا العلم به (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ

٤٦

الْبَيِّناتُ) أي الأدلة والحجج الواضحة وقيل : معجزات محمد (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي ظلما وحسدا وطلبا للرئاسة وقوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) معناه : فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه بعلمه ، والإذن بمعنى العلم وقيل : إن معنى بإذنه بلطفه (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

٢١٤ ـ ثمّ ذكر سبحانه ما جرى على المؤمنين من الأمم الخالية تسلية لنبيّه ولأصحابه فيما نالهم من المشركين وأمثالهم ، لأن سماع أخبار الخيار الصالحين يرغب في مثل أحوالهم فقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ) معناه : أظننتم ، وخلتم أيها المؤمنون (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) معناه : ولمّا تمتحنوا وتبتلوا بمثل ما إمتحنوا به فتصبروا كما صبروا ، وهذه استدعاء إلى الصبر ، وبعده الوعد بالنصر : والمثل الشبه ، أي لم يصبكم شبه الذين خلوا ، أي مضوا قبلكم من النبيين والمؤمنين ثم ذكر سبحانه ما أصاب أولئك فقال : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) البأساء : القتل ، والضراء : الفقر (وَزُلْزِلُوا) أي حرّكوا بأنواع البلايا ، وأزعجوا بالمخافة من العدو (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) ذكر كلام الرسول والمؤمنين جملة وتفصيلا ، وقال المؤمنون : متى نصر الله؟ وقال الرسول : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

٢١٥ ـ (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (ما ذا) أي شيء (يُنْفِقُونَ) والسؤال عن الإنفاق يتضمن السؤال عن المنفق عليه ، فجاء الجواب ببيان كيفية النفقة ، وعلى من ينفق فقال : (قُلْ) يا محمد (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي مال (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) والمراد بالوالدين : الأب والأم والجد والجدة وإن علوا والمراد بالأقربين أقارب المعطي (وَالْيَتامى) أي كل من لا أب له مع صغره (وَالْمَساكِينِ) الفقراء (وَابْنِ السَّبِيلِ) المنقطع به واختلفوا في هذه النفقة ، فقال الحسن : المراد به نفقة التطوّع على من لا يجوز وضع الزكاة عنده ، والزكاة لمن يجوز وضع الزكاة عنده ، فهي عامة في الزكاة المفروضة وفي التطوع ، وقال السدّي : الآية واردة في الزكاة ثم نسخت ببيان مصارف الزكاة والأول أظهر لأنه لا دليل على نسخها ، واتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الأب والأم والجد والجدة وإلى الأولاد (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) أي من عمل صالح يقربكم إلى الله (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) يجازيكم به من غير أن يضيع منه شيء لأنه تعالى لا يخفى عليه شيء.

٢١٦ ـ هذه الآية بيان لكون الجهاد مصلحة لمن أمر به قال سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) أي فرض عليكم الجهاد في سبيل الله (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي شاق عليكم (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) معناه : وقد تكرهون شيئا في الحال وهو خير لكم في عاقبة أموركم ، كما تكرهون القتال لما فيه من المخاطرة بالروح (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأن لكم في الجهاد إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة ، وإما الشهادة والجنة (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) أي وقد تحبون ما هو شر لكم وهو القعود عن الجهاد لمحبة الحياة ، وهو شر لما فيه من الذل في الدنيا ، وحرمان الغنيمة والأجر في العقبى (وَاللهُ يَعْلَمُ) أي يعلم ما فيه مصالحكم ومنافعكم ، وما هو خير لكم في عاقبة أمركم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شقّ عليكم.

٢١٧ ـ (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد ، والسائلون أهل الشرك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام

٤٧

(عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) يعني عن قتال في الشهر الحرام وهو رجب ، سمي بذلك لتحريم القتال فيه ، ولعظم حرمته (قُلْ) يا محمد (قِتالٍ فِيهِ) أي في الشهر الحرام (كَبِيرٌ) أي ذنب عظيم ، ثم استأنفه وقال : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ) أي والصد عن سبيل الله والكفر بالله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي والصد عن المسجد الحرام (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) يعني أهل المسجد وهم المسلمون (مِنْهُ) أي من المسجد (أَكْبَرُ) أي أعظم وزرا (عِنْدَ اللهِ) يعني إخراجهم المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) معناه : الفتنة في الدين وهو الكفر أعظم من القتل في الشهر الحرام وقوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ) يعني أهل مكة يقاتلونكم يا معشر المسلمين (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) أي يصرفوكم عن دين الإسلام ويلجئوكم إلى الإرتداد (إِنِ اسْتَطاعُوا) أي إن قدروا على ذلك (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) هذا تحذير عن الإرتداد ببيان إستحقاق العذاب عليه (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) يعني مات على كفره (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) معناه : أنها صارت بمنزلة ما لم يكن (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي دائمون.

٢١٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا الله ورسوله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي قطعوا عشائرهم ، وفارقوا منازلهم وتركوا أموالهم (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي قاتلوا الكفار في طاعة الله التي هي سبيله المشروعة لعباده ، وإنما جمع بين هذه الأشياء لبيان فضلها ، والترغيب فيها (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) أي يأملون نعمة الله في الدنيا والعقبى ، وهي النصرة في الدنيا ، والمثوبة في العقبى (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر ذنوبهم (رَحِيمٌ) يرحمهم ، وإنما ذكر لفظ الرجاء للمؤمنين وإن كانوا يستحقون الثواب قطعا ويقينا لأنهم لا يدرون ما يكون منهم في المستقبل ، الإقامة على طاعة الله أو الإنقلاب عنها إلى معصية الله ، ووجه آخر : وهو أن يرجو رحمة الله في غفران معاصيهم التي لم يتفق لهم التوبة منها ، واخترموا دونها ، فهم يرجون أن يسقط الله عقابها عنهم تفضلا.

٢١٩ ـ ٢٢٠ ـ ثم عاد سبحانه إلى بيان الشرائع والأحكام فقال : (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنِ الْخَمْرِ) وهي كل شراب مسكر مخالط للعقل ، مغطّ عليه ، وما أسكر كثيره فقليله خمر (وَالْمَيْسِرِ) وهو القمار كله حتى لعب الصبيان بالجوز هو القمار (قُلْ فِيهِما) أي في الخمر والميسر (إِثْمٌ كَبِيرٌ) أي وزر عظيم (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) منفعة الخمر ما كانوا يأخذونه في أثمانها ، ومنفعة القمار : هو أن يفوز الرجل بمال صاحبه من غير كدّ ولا مشقة (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أي ما فيهما من الإثم أكبر مما فيهما من النفع ، لأن نفعهما في الدنيا وما يحصل من الإثم بهما يوجب سخط الله في الآخرة ، فلا يظهر في جنبه إلا نفع قليل لا بقاء له قال الحسن : في الآية تحريم الخمر من وجهين (أحدهما) قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ) فإنه إذا زادت مضرة الشيء على منفعته اقتضى العقل الإمتناع منه (والثاني) أنه بين أن فيهما الإثم وقد حرم في آية أخرى الإثم فقال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) وقوله (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) أي أيّ شيء ينفقون؟ (قُلِ الْعَفْوَ) إنه ما فضل عن الأهل والعيال من غير إسراف ولا اقتار (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي الحجج في أمر النفقة والخمر والميسر وسائر شرائع الإسلام (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي لكي تتفكروا (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي في أمر الدنيا وأمر الآخرة فتعلمون أن الدنيا دار بلاء وعناء وفناء ، والآخرة دار جزاء وبقاء فتزهدوا في هذه وترغبوا في تلك (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) قال ابن عباس : لما أنزل الله ولا تقربوا مال اليتيم الآية انطلق كل من كان عنده يتيم فعزل

٤٨

طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، واشتد عليهم فسألوا عنه فنزلت هذه الآية فالمعنى : يسألونك عن القيام على اليتامى ، أو التصرف في أموال اليتامى ، قل يا محمد (إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) يعني اصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض منهم خير وأعظم أجرا (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) أي تشاركوهم في أموالهم ، وتخلطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم (فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم ، والاخوان يعين بعضهم بعضا ، ويصيب بعضهم من مال بعض ، وهذا اذن لهم فيما كانوا يتحرّجون منه من مخالطة الأيتام في الأموال من المأكل والمشرب والمسكن ونحو ذلك ، ورخصة لهم في ذلك إذا تحرّوا الصلاح بالتوفير على الأيتام (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) معناه : والله يعلم من كان غرضه من مخالطة اليتامى إفساد مالهم ، أو إصلاح مالهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي لضيّق عليكم في أمر اليتامى ومخالطتهم ، وألزمكم ما كنتم تجتنبونه من مشاركتهم ، وقال الزجاج : معناه : لكلفكم ما يشق عليكم فتعنتون ، ولكنه لم يفعل ، وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبّرة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) يفعل بعزته ما يحب ، لا يدفعه عنه دافع (حَكِيمٌ) في تدبيره وأفعاله.

٢٢١ ـ لمّا تقدم ذكر المخالطة بيّن تعالى من يجوز مخالطته بالنكاح فقال : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) أي لا تتزوجوا النساء الكافرات (حَتَّى يُؤْمِنَ) أي يصدّقن بالله ورسوله ، وهي عامة عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم وليست بمنسوخة (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) معناه : مملوكة مصدقة مسلمة خير من حرّة مشركة (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) ولو أعجبتكم بمالها أو حسبها أو جمالها (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) معناه : ولا تنكحوا النساء المسلمات جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم حتى يؤمنوا ، وهذا يؤيّد قول من يقول : إن قوله : ولا تنكحوا المشركات يتناول جميع الكافرات وقوله : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) أي عبد مصدق مسلم خير من حرّ مشرك ولو أعجبكم ماله أو حاله أو جماله (أُولئِكَ) يعني المشركين (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) يعني إلى الكفر والمعاصي التي هي سبب دخول النار ، وهذا مثل التعليل لأن الغالب أن الزوج يدعو زوجته إلى دينه (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) أي إلى فعل ما يوجب الجنة (وَالْمَغْفِرَةِ) من الإيمان والطاعة (بِإِذْنِهِ) أي بأمره ، يعني بما يأمره ويأذن فيه من الشرائع والأحكام (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) أي حججه وقيل : أوامره ونواهيه وما يحظره ويبيحه للناس (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي لكي يتذكروا أو يتعظوا.

٢٢٢ ـ ثمّ بيّن سبحانه شريعة أخرى فقال (وَيَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنِ الْمَحِيضِ) أي عن الحيض وأحواله (قُلْ) يا محمد (هُوَ أَذىً) معناه : هو أذى لهن وعليهن لما فيه من المشقة (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أي إجتنبوا مجامعتهن (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) بالجماع (حَتَّى يَطْهُرْنَ) معناه : حتى ينقطع الدم عنهن (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أي اغتسلن (فَأْتُوهُنَ) فجامعوهن (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) معناه : من حيث أمركم الله تجنبه في حال الحيض وهو الفرج (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) من الذنوب (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) معناه : المتطهرين بالماء.

٢٢٣ ـ لمّا بيّن تعالى أحوال النساء في الطهر والحيض عقّب ذلك بقوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) معناه : مزدرع لكم ومحترث لكم ، تحرثون الولد واللذة (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أي موضع حرثكم ، يعني نساءكم (أَنَّى شِئْتُمْ) معناه : كيف شئتم (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) معناه : قدموا الأعمال الصالحة التي أمرتم بها ، ورغّبتم فيها لتكون ذخرا لكم عند الله (وَاتَّقُوا اللهَ) واتقوا عقاب الله بترك مجاوزة الحد فيما بين لكم (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي ملاقو جزاءه يعني : ثوابه إن أطعتموه ، وعقابه إن عصيتموه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالثواب والجنة.

٤٩

٢٢٤ ـ لما بيّن سبحانه أحوال النساء وما يحل منهن عقّبه بذكر الإيلاء وهو اليمين التي تحرم الزوجة ، فابتدأ بذكر الأيمان أولا تأسيسا لحكم الإيلاء فقال : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) معناه : لا تجعلوا اليمين بالله عدة مبتذلة في كل حق وباطل وقوله : (أَنْ تَبَرُّوا) أي لأن تكونوا بررة أتقياء ، فإن من قلت يمينه كان أقرب إلى البر ممن كثرت يمينه (وَتَتَّقُوا) أي تتقوا الإثم والمعاصي في الأيمان (وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) في الأيمان ومعناه : ولا تجعلوا الحلف بالله علة أو حجّة في أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بما في ضمائركم ، لا يخفى عليه من ذلك خافية.

٢٢٥ ـ ثم بيّن سبحانه أقسام اليمين فقال : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) هو ما يجري على عادة الناس من قول : لا والله وبلى والله ، من غير عقد على يمين يقتطع بها مال ، ولا يظلم بها أحد (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي بما عزمتم وقصدتم ، لأن كسب القلب العقد والنية (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر الذنوب (حَلِيمٌ) يمهل العقوبة على الذنب ولا يعجل بها.

٢٢٦ ـ ٢٢٧ ـ ثم بيّن تعالى حكم الإيلاء لأنه من جملة الأيمان والأقسام فقال : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) أي يحلفون أن يعتزلوا عن وطء نسائهم على وجه الإضرار بهن (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أي التوقف والتثبت في أربعة أشهر (فَإِنْ فاؤُ) أي رجعوا إلى أمر الله (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومعنى غفور : إنه لا يتبعه بعقوبة (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) عزيمة الطلاق عندنا أن يعزم ثم يتلفظ بالطلاق ، ومتى لم يتلفظ بالطلاق على الوجه المشروع فإن المرأة لا تبين منه (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع قوله ويعلم ضميره.

٢٢٨ ـ ثم بيّن سبحانه حكم المطلقات والطلاق فقال (وَالْمُطَلَّقاتُ) أي المخليات عن حبال الأزواج بالطلاق (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) معناه : ينتظرن بأنفسهن إنقضاء ثلاثة قروء فلا يتزوجن والمراد بالقروء الأطهار (وَلا يَحِلُّ لَهُنَ) أي للمطلقات اللاتي تجب عليهن العدة (أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) أراد به الحبل وقوله : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعني من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فهذه صفته وحليته ، والمراد : أن الإيمان يمنع من إرتكاب هذه المعصية (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) يعني أن أزواجهن أولى بمراجعتهن ، وهي ردهن إلى الحالة الأولى في ذلك الأجل الذي قدّر لهن في مدة العدة (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) لا إضرارا ، جعل الله الزوج أحق بالمراجعة على وجه الإصلاح لا على وجه الإضرار وقوله (وَلَهُنَ) أي للنساء على أزواجهن (مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) من الحق (بِالْمَعْرُوفِ) وهذا من الكلمات العجيبة الجامعة للفوائد الجمة وإنما أراد بذلك ما يرجع إلى حسن العشرة ، وترك المضارة ، والتسوية في القسم والنفقة والكسوة (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) قيل معناه : فضيلة منها : الطاعة ، ومنها : أن يملك التخلية ، ومنها : زيادة الميراث على قسم المرأة ، والجهاد (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي قادر على ما يشاء فاعل ما تدعو إليه الحكمة.

٢٢٩ ـ ثم بيّن سبحانه عدد الطلاق فقال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أي الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان ، وفي معناه قولان (أحدهما) انه بيان تفصيل طلاق السّنة ، وهو أنه إذا أراد طلاقها ينبغي أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه بجماع تطليقة

٥٠

واحدة ، ثم يتركها حتى تخرج من العدّة ، أو حتى تحيض وتطهر ثم يطلقها ثانية ، عن ابن عباس ومجاهد (والثاني) معناه : البيان عن عدد الطلاق الذي يوجب البينونة (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) تقديره : فالواجب إذا راجعها بعد التطليقتين إمساك بمعروف ، أي على وجه جميل سائغ في الشريعة لا على وجه الإضرار بهن (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أنه يترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) خطاب للأزواج (أَنْ تَأْخُذُوا) في حال الطلاق والإستبدال (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَ) أي أعطيتموهن من المهر (شَيْئاً) ثم استثنى الخلع فقال : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) معناه : إلا أن يغلب على ظنهما أن لا يقيما حدود الله لما بينهما من أسباب التباعد والتباغض ، وقال ابن عباس : هو أن يظهر من المرأة النشوز ، وسوء الخلق بغضا للزوج (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي فإن ظننتم أن لا يكون بينهما صلاح في المقام (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي فلا حرج ولا إثم عليهما ، وهذا يفيد الإباحة (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي بذلت من المال (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي أوامره ونواهيه ، وما نصب من الآيات في الخلع والطلاق والرجعة والعدة (فَلا تَعْتَدُوها) أي فلا تجاوزوها بالمخالفة (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) أي يتجاوزها بأن يخالف ما حدّ له (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) واستدل أصحابنا بهذه الآية على ان الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع لأنه قال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ).

٢٣٠ ـ ثم بين سبحانه حكم التطليقة الثالثة فقال : (فَإِنْ طَلَّقَها) يعني التطليقة الثالثة (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي لا تحل هذه المرأة ، أي لا يحل نكاحها لهذا الرجل الذي طلقها حتى تتزوّج زوجا غيره ويجامعها (فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) أي فلا جناح على الزوج وعلى المرأة أن يعقدا بينهما عقد النكاح ، ويعودا إلى الحالة الأولى (إِنْ ظَنَّا) أي ان رجيا (أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) في حسن الصحبة والمعاشرة ، وأنه يكون بينهما الصلاح (وَتِلْكَ) إشارة إلى الأمور التي يبينها في النكاح والطلاق (حُدُودَ اللهِ) أوامره ونواهيه (يُبَيِّنُها) يفصلها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) خص العالمين بذكر البيان لهم لأنهم هم الذين ينتفعون ببيان الآيات ، فصار غيرهم بمنزلة من لا يعتد به. ويجوز أن يكونوا خصّوا بالذكر تشريفا لهم ، كما خصّ جبرائيل وميكائيل بالذكر من بين الملائكة.

٢٣١ ـ ثم بيّن سبحانه ما يفعل بعد الطلاق فقال : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) وهذا خطاب للأزواج (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي قاربن انقضاء العدة بما يتعارفه الناس بينهم بما تقبله النفوس ، ولا تنكره العقول ، والمراد بالمعروف هاهنا أن يمسكها على الوجه الذي أباحه الله له من القيام بما يجب لها من النفقة ، وحسن العشرة ، وغير ذلك (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيكن أملك بأنفسهن (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) أي لا تراجعوهن لا لرغبة فيهن بل لطلب الإضرار بهن ، اما في تطويل العدة ، أو بتضييق النفقة في العدة (لِتَعْتَدُوا) أي لتظلموهن (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الإمساك للمضارة (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فقد أضر بنفسه وعرضها لعذاب الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) أي لا تستخفوا بأوامره وفروضه ونواهيه (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) فيما أباحه لكم من الأزواج والأموال ، وما بيّن لكم من الحلال والحرام (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) يعني العلوم التي دلّ عليها ، والشرائع التي بيّنها (يَعِظُكُمْ بِهِ) لتتعظوا فتؤجروا بفعل ما أمركم الله به ، وترك ما نهاكم عنه (وَاتَّقُوا اللهَ) اتقوا عذاب الله باتقاء معاصيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من أفعالكم وغيرها.

٥١

٢٣٢ ـ (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي انقضت عدتهن (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) أي لا تمنعوهن ظلما عن التزويج هو خطاب للأولياء ومنع لهم من عضلهن وقيل : خطاب للأزواج ، يعني أن تطلقوهن في السر ولا تظهروا طلاقهن كيلا يتزوجن من غيرهم ، فيبقين لا ممسكات بإمساك الأزواج ، ولا مخليات تخلية الطلاق (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) أي من رضين بهم أزواجا لهن (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي إذا تراضيا بالمهر قليلا كان أو كثيرا (ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من الأمر والنهي (يُوعَظُ بِهِ) يزجر ويخوف به (مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إنما خصهم بالذكر لأنهم الذين انتفعوا به (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ) أي خير لكم وأفضل وأعظم بركة ، لأنهم أولى بالإتعاظ به ، وقيل : لأنّ الكافر إنما يلزمه الوعظ بعد قبوله الإيمان ، وإعترافه بالله تعالى وأحرى أن يجعلكم أزكياء (وَأَطْهَرُ) أي أطهر لقلوبكم من الريبة ، فإنّه لعلّ في قلبها حبا فإذا منعها من التزويج لم يؤمن أن يتجاوزوا إلى ما حرّم الله (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما لكم فيه من الصلاح في العاجل والآجل (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وأنتم غير عالمين إلا بما أعلمكم.

٢٣٣ ـ لما بيّن سبحانه حكم الطلاق عقّبه ببيان أحكام الأولاد الصغار في الرضاع والتربية ، وما يجب في ذلك من الكسوة والنفقة فقال : (وَالْوالِداتُ) أي الأمهات (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) أي ليرضعن أولادهن والمعنى : انهن أحق برضاعهم من غيرهن. ثمّ بين مدة الرضاع فقال (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) أي عامين تامين أربعة وعشرين شهرا وقوله : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أي لمن أراد أن يتم الرضاعة المفروضة عليه ، وهذا يدل على أن الرضاع غير مستحق على الأم لأنه علقه بالإرادة (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) يعني الأب (رِزْقُهُنَ) يعني الطعام والأدام (وَكِسْوَتُهُنَ) يعني لباسهنّ والمراد رزق الأم وكسوتها ما دامت في الرضاعة اللازمة ، وذلك في المطلقة (بِالْمَعْرُوفِ) يعني على قدر اليسار ، لأنه علم أحوال الناس في الغنى والفقر ، وجعل حق الحضانة للأم ، والنفقة على الأب على قدر اليسار (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) أي لا يلزم إلا دون طاقتها (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) أي لا تترك الوالدة ارضاع ولدها غيظا على أبيه فتضر بولده ، لأن الوالدة أشفق عليه من الأجنبية (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) أي لا يأخذه من أمه طلبا للإضرار بها فيضرّ بولده ، لأن الوالدة أشفق عليه من الأجنبية ، فيكون المضارة على هذا بمعنى الإضرار ، أي لا تضر الوالدة ولا الوالد بالولد وقيل : الضرر يرجع إلى الولد ، كأنه يقول : لا يضار كل واحد من الأب والأم بالصبي وقوله : (وَعَلَى الْوارِثِ) معناه : وارث الولد (مِثْلُ ذلِكَ) أي مثل ما كان على الوالد من النفقة والرضاع وقوله : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) أي قبل الحولين (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) أي من الأب والأم (وَتَشاوُرٍ) يعني إتفاق منهما ومشاورة ، وإنما شرط تراضيهما وتشاورهما مصلحة للولد ، لأن الوالدة تعلم من تربية الصبي ما لا يعلمه الوالد ، فلو لم يتفكرا ويتشاورا في ذلك أدى إلى ضرر الصبي (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي لا حرج عليهما إذا تماسك الولد ، فإن تنازعا رجعا إلى الحولين وقوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ) خطاب للآباء (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) أي لأولادكم أن تطلبوا لهم مراضع غير أمهاتهم لإباء أمهاتهم الرضاع (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا حرج ولا ضيق في ذلك (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي إذا سلمتم إلى الأم أجرة المثل مقدار ما أرضعت ثم أوصى بالتقوى فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ) يعني عذابه في مجاوزة ما حده لكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ) أي بأعمالكم (بَصِيرٌ) أي عليم لا يخفى عليه شيء منها. وفي قوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) دلالة على فساد قول المجبّرة في حسن تكليف ما لا يطاق ، لأنه إذا لم يجز أن يكلّف مع عدم الجدة. فإنه لا يكلّف مع عدم القدرة أحرى ، فإن في

٥٢

الحالين لا سبيل له إلى أداء ما كلف.

٢٣٤ ـ لما بيّن عدة المطلقات بيّن عدة الوفاة فقال (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) منكم أي يقبضون ويموتون (وَيَذَرُونَ) أي يتركون (أَزْواجاً) أي نساء (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) أي ينتظرن انقضاء العدة ويحبسن أنفسهن عن التزويج معتدات (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أي عشرة أيام ، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها ، حرة كانت أو أمة فإن كانت حبلى فعدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل ، أو مضي أربعة أشهر وعشر (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي آخر العدة بانقضائها (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) انه خطاب للأولياء (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من النكاح ، واستعمال الزينة التي لا ينكر مثلها (بِالْمَعْرُوفِ) ما يكون جائزا (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم.

٢٣٥ ـ لما تقدم ذكر عدة النساء وجواز الرجعة فيها للأزواج عقّبه ببيان حال غير الأزواج فقال : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا حرج ولا ضيق عليكم يا معشر الرجال (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) المعتدات ولم تصرحوا به ، وذلك بأن تذكروا ما يدل على رغبتكم فيها ، قيل : التعريض : هو أن يقول الرجل للمعتدّة : إني أريد النكاح ؛ وإني أحب امرأة من صفتها كذا وكذا ، فيذكر بعض الصفات التي هي عليها ، عن ابن عباس ، وقيل : هو أن يقول : إنك لنافعة ، وإنك لموافقة لي ، وإنك لمعجبة جميلة ، فإذا قضى الله شيئا كان ، عن القاسم بن محمد ، وقيل : هو كل ما كان من الكلام دون عقد النكاح (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أي أسررتم وأضمرتم في أنفسكم من نكاحهن بعد مضي عدتهن (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) برغبتكم فيهن خوفا منكم أن يسبقكم إليهن غيركم فأباح لكم ذلك (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) معناه : لا تواعدوهن في السر لأنها أجنبية ، والمواعدة في السر تدعو إلى ما لا يحل (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) يعني التعريض الذي أباحه الله (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) أي على عقدة النكاح ، يعني لا تبتوا النكاح ولا تعقدوا عقدة النكاح في العدة (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) معناه : حتى تنقضي العدة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من أسراركم وضمائركم (فَاحْذَرُوهُ) فاتقوا عقابه ولا تخالفوا أمره (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لعباده (حَلِيمٌ) يمهل العقوبة المستحقة فلا يعجل بها.

٢٣٦ ـ ثمّ بيّن سبحانه حكم الطلاق قبل الفرض والمسيس فقال : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) هذا إباحة للطلاق قبل المسيس وفرض المهر ، والمس : كناية عن الوطء (أَوْ) لم (تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) المراد بالفريضة : الصداق لأنه يجب بالعقد على المرأة فهو فرض لوجوبه بالعقد ومعناه أو لم تقدروا لهن مهرا مقدرا (وَمَتِّعُوهُنَ) أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) أي على الغني الذي هو في سعة لغناه على قدر حاله (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) أي على الفقير الذي هو في ضيق بقدر إمكانه وطاقته. وقوله (مَتاعاً) أي ومتعوهن متاعا (بِالْمَعْرُوفِ) أي وسطا ليس فيه إسراف ولا تقتير معتبرا بحالهما جميعا (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي واجبا على الذين يحسنون الطاعة ، ويجتنبون المعصية ، وإنما خص المحسنين بذلك تشريفا لهم.

٢٣٧ ـ ثمّ بيّن سبحانه حكم الطلاق قبل المسيس بعد الفرض فقال : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَ) يعني إن طلقتم أيها الرجال النساء (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أي تجامعوهن (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي أوجبتم لهن صداقا ، وقدرتم مهرا (فَنِصْفُ

٥٣

ما فَرَضْتُمْ) أي فعليكم نصف ما قدرتم وهو المهر المسمى (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يعني الحرائر البالغات غير المولى عليهن لفساد عقولهن ، أي يتركن ما يجب لهن من نصف الصداق فلا يطالبن الأزواج بذلك (أَوْ يَعْفُوَا) أي يترك ويهب الذي بيده عقدة النكاح هو الولي وهو الأب أو الجد (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) خطاب للزوج والمرأة جميعا (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي لا تتركوا الأخذ بالفضل والإحسان بينكم والإفضال فتأخذوا بمرّ الحكم واستيفاء الحقوق على الكمال. بين الله سبحانه في هذه الآية الحكم الذي لا يعذر أحد في تركه ، ثم بيّن طريق الفضل من الجانبين ، وندب إليه ، وحث عليه (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ) أي بأعمالكم (بَصِيرٌ) أي عليم.

٢٣٨ ـ لما حث الله سبحانه على الطاعة خصّ الصلاة بالمحافظة عليها لأنها أعظم الطاعات فقال : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) أي داوموا على الصلوات المكتوبات في مواقيتها بتمام أركانها ، ثم خص الوسطى تفخيما لشأنها فقال (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أي والصلاة الوسطى خاصة فداوموا عليها ، ثم اختلف في الصلاة الوسطى على أقوال (أحدها) إنها صلاة الظهر (وثانيها) إنها إحدى الصلوات الخمس ، لم يعينها الله وأخفاها في جملة الصلوات المكتوبة ليحافظوا على جميعها ، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان ، واسمه الأعظم في جميع الأسماء ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) قال ابن عباس : معناه : داعين والقنوت : هو الدعاء في الصلاة في حال القيام وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع).

٢٣٩ ـ لما قدّم سبحانه وجوب المحافظة على الصلاة عقبه بذكر الرخصة عند المخافة فقال : (فَإِنْ خِفْتُمْ) أي إن لم يمكنكم أن تقوموا قانتين موفين الصلاة حقها لخوف عرض لكم (فَرِجالاً) أي فصلّوا رجالا على أرجلكم وقيل : مشاة (أَوْ رُكْباناً) أي على ظهور دوابكم ، عنى بها صلاة الخوف ، وصلاة الخوف من العدو ركعتان في السفر والحضر إلّا المغرب فإنها ثلاث ركعات (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من الخوف (فَاذْكُرُوا اللهَ) أي فصلّوا صلاة الأمن (كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من أمور دينكم وغير ذلك من أموركم.

٢٤٠ ـ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أي الذين يقاربون منكم الوفاة ، لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) أي فليوصوا وصية لهن (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) يعني ما ينتفعن به حولا من النفقة والكسوة والسكنى (غَيْرَ إِخْراجٍ) أي لا يخرجن من بيوت الأزواج (فَإِنْ خَرَجْنَ) بأنفسهن قبل الحول من غير أن يخرجهن الورثة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يا معشر أولياء الميت (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) لا جناح عليكم أن تزوجن بعد انقضاء العدة (وَاللهُ عَزِيزٌ) قادر لا شيء يعجزه (حَكِيمٌ) لا يصدر منه إلا ما تقتضيه الحكمة.

٢٤١ ـ ٢٤٢ ـ لما قدّم سبحانه بيان أحوال المعتدات عقبه ببيان ما يجب لهن من المتعة فقال : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) المراد به النفقة وقوله : (بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) مضى تفسيره ، وخصّ المتقين هنا كما خص المحسنين هناك (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي كما بين الله لكم الأحكام والآداب التي مضت مما تحتاجون إلى معرفتها في دينكم يبين لكم هذه الأحكام والبيان : هو الأدلة التي يفرق بها بين الحق والباطل (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) معناه : لكي تعقلوا آيات الله.

٢٤٣ ـ لما ذكر قوله : (يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) عقّبه بذكر آية من آياته فقال : (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم أيها السامع (إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) قيل : هم من بني إسرائيل فرّوا من

٥٤

طاعون وقع بأرضهم (وَهُمْ أُلُوفٌ) المراد بألوف هنا كثرة العدد (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي من خوف الموت (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) لضرب من العبرة ثم أحياهم الله بدعاء نبيّهم حزقيل (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) لما ذكر النعمة عليهم بما أراهم من الآية العظيمة في أنفسهم ليلتزموا سبيل الهدى ، ويجتنبوا طريق الردى ، ذكر بعده ما له عليهم من الإنعام والإحسان مع ما هم عليه من الكفران وهذه الآية حجة على من أنكر عذاب القبر والرجعة.

٢٤٤ ـ (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) توجّه الخطاب إلى الصحابة بعد ما ذكّرهم بحال من فرّ من الموت فلم ينفعه الفرار ، يحرضهم على الجهاد لئلا يسلكوا في الفرار من الجهاد سبيل أولئك الذين فروا من الديار (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع لما يقول المنافق ، عليم بما يجنه ، فاحذروا حاله.

٢٤٥ ـ لما حث سبحانه على الجهاد وذلك يكون بالنفس والمال ، عقّبه بالتلطف في الإستدعاء إلى أعمال البر والإنفاق في سبيل الخير فقال : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) أي ينفق في سبيل الله وطاعته سمى تعالى الإنفاق قرضا تلطفا للدعاء إلى فعله ، وتأكيدا للجزاء عليه ، فإن القرض يوجب الجزاء (قَرْضاً حَسَناً) والقرض الحسن أن ينفق من حلال ولا يفسده بمنّ ولا أذى (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) أي فيزيده له ، أي يعطيه ما لا يعلمه إلّا الله وهو مثل قوله تعالى : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) معناه : والله يقبض الرزق عن أقوام بأن يقتره عليهم ، ويبسط الرزق على أقوام بأن يوسعه عليهم (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهذا تأكيد للجزاء.

٢٤٦ ـ (أَلَمْ تَرَ) أي ألم ينته علمك (إِلَى الْمَلَإِ) أي جماعة الأشراف (مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي من بعد وفاته (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) إسمه أشمويل وهو بالعربية إسماعيل (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) كان سبب سؤالهم ذلك استذلال الجبابرة لهم لما ظهروا على بني إسرائيل ، وغلبوهم على كثير من ديارهم وسبوا كثيرا من ذراريهم فأجابهم نبيهم (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) أي لعلكم ان فرض عليكم المحاربة مع ذلك الملك (أَلَّا تُقاتِلُوا) أن لا تفوا بما تقولون وتجبنوا فلا تقاتلوا ، وإنما سألهم عن ذلك ليعرف ما عندهم من الحرص على القتال ، وهذا كأخذ العهد عليهم ، ومعنى عسيتم : قاربتم (قالُوا) يعني قال الملأ : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) معناه : وأي شيء لنا في ترك القتال (وَقَدْ أُخْرِجْنا) لفظه عام ومعناه خاص ، أي قد أخرج بعضنا (مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) بالسبي والقهر على نواحينا أجابوا نبيهم بأن قالوا : إنما كنا لا نرغب في القتال إذ كنا أعزاء ، فأما إذا بلغ الأمر هذا المبلغ فلا بد لنا من الجهاد (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) تقديره : فسأل النبي الله تعالى أن يبعث لهم ملكا يجاهدون معه اعداءهم ، فسمع الله دعوته ، فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن القيام به ، وضيّعوا أمر الله (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين عبروا النهر على ما نبيّنه من بعد (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) هذا تهديد لمن يتولى عن القتال لأنهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله.

٢٤٧ ـ (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) أي جعله ملكا ، وكان طالوت من ولد بنيامين بن يعقوب ، ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط المملكة وسمي

٥٥

طالوت لطوله وكانت النبوة في سبط لاوي بن يعقوب ، وكانت المملكة في سبط يهوذا بن يعقوب وقوله : ملكا يعني أميرا على الجيش (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) أي من أين له الملك؟ وهذا أول إعتراضهم إذ أنكروا ملكه (وَنَحْنُ أَحَقُ) أي أولى (بِالْمُلْكِ مِنْهُ) لأنا من سبط النبوة والمملكة وأوتينا المال (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) معناه : ولم يؤت سعة من المال فيشرف به ، فاعلمهم الله أنه أعرف بوجوه الحكمة منهم ، فإن المقصود في الملك والرئاسة هو العلم والشجاعة ، وأخبرهم بذلك عن لسان نبيهم (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ) أي إختاره (عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً) أي فضيلة وسعة (فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) وكان أعلم بني إسرائيل في وقته ، وأجملهم ، وأتمهم وأعظمهم جسما ، وأقواهم شجاعة (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) أي لا تنكروا ملكه وإن لم يكن من أهل بيت الملك فإن الله سبحانه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء (وَاللهُ واسِعٌ) أي يوسّع على من يشاء من نعمه وقوله : (عَلِيمٌ) أي عليم بمن ينبغي أن يؤتيه الفضل والمملكة ، وفي هذه الآية دلالة على أن الملك قد يضاف إليه سبحانه وذلك بأن ينصب الملك للتدبير ، ويأمر الخلق بالإنقياد له.

٢٤٨ ـ (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) أي علامة تمليك الله إياه ، وحجة صحة ملكه (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) وفي هذا دليل على أنهم قالوا لرسولهم : إن كان ملكه بأمر من الله ومن عنده فأتنا بعلامة تدل على ذلك ، فأجابهم بهذا (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في التابوت نفسه كان فيه آية يسكنون إليها (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) قيل : إنها عصا موسى ، ورضاض الألواح ، أراد بآل موسى وآل هارون موسى وهارون (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) حملته الملائكة بين السماء والأرض حتى رآه بنو إسرائيل عيانا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) أي في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله سبحانه ملك طالوت عليكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين ولا يجوز أن يكون على تثبيت الإيمان لهم لأنهم كفروا حين ردّوا على نبيهم.

٢٤٩ ـ (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) أي خرج من مكانه وقطع الطريق بالجنود ، أي العساكر وكانوا ثمانين ألف مقاتل ، وذلك أنهم لما رأوا التابوت أيقنوا بالنصر فبادروا إلى الجهاد (قالَ) يعني طالوت (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) أي مختبركم وممتحنكم ، ومعنى الإبتلاء ها هنا تمييز الصادق عن الكاذب (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) الهاء كناية عن النهر (فَلَيْسَ مِنِّي) معناه : ليس من أهل ولايتي ، وليس من أصحابي وممن يتبعني (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) أي ومن لم يطعم من ذلك الماء (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي من أهل ولايتي وأوليائي (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) إلا من أخذ الماء مرة واحدة باليد (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي شربوا كلهم أكثر من غرفة إلّا قليلا منهم قيل : إن الذين شربوا منه غرفة كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا وقيل : من استكثر من ذلك الماء عطش ، ومن لم يشرب إلّا غرفة روي وذهب عطشه (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) معناه : فلما تخطى النهر طالوت والمؤمنون معه وهم أصحابه وقيل : بل جاوز المؤمنون والكافرون إلا أن الكافرين انعزلوا وبقي المؤمنون (قالُوا) أي قال الكفار منهم (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) فقال المؤمنون حينئذ الذين عددهم عدة أهل بدر : كم من فئة قليلة الخ (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) أي راجعون إلى الله وإلى جزائه بالقتل في تلك الوقعة (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) أي فرقة (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) أي قهرت فرقة كثيرة (بِإِذْنِ اللهِ) أي بنصره (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصرة لهم على أعدائهم.

٢٥٠ ـ (وَلَمَّا بَرَزُوا) أي ظهر طالوت والمؤمنون معه

٥٦

لمحاربة (لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أي أصبب علينا صبرا ، أي وفقنا للصبر على الجهاد وشبهه بتفريغ الإناء من جهة أنّه نهاية ما توجبه الحكمة ، كما أنه نهاية ما في الواحد من الآنية (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) أي وفقنا للثبوت على الأمر (وَانْصُرْنا) أعنّا (عَلَى) جهاد (الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قوم جالوت.

٢٥١ ـ ثم ذكر سبحانه تمام القصة فقال : (فَهَزَمُوهُمْ) أي دفعوهم وكسروهم وهزموهم (بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمر الله (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) رمى جالوت في جبهته ووصلت إلى دماغه ووقع إلى الأرض ميّتا ، وأصاب جماعة كثيرة من أهل عسكره فقتلهم ، وانهزم القوم عن آخرهم (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي واعطاه الملك (وَالْحِكْمَةَ) النبوة ، فجمع الله له الملك والنبوة عند موت طالوت في حالة واحدة ، لأنه لا يجوز أن يترأس من ليس بنبيّ لأنه قلب ما توجبه الحكمة (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) معناه : علمه أمور الدين وما شاء من أمور الدنيا منها : صفة الدروع ، فإنه كان يلين له الحديد كالشمع (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) معناه : يدفع الله بالبر عن الفاجر الهلاك وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله (ص) إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم. (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) أي ذو نعمة عليهم في دينهم ودنياهم.

٢٥٢ ـ (تِلْكَ) إشارة إلى ما تقدم ذكره من إماتة ألوف من الناس دفعة واحدة وإحيائهم دفعة واحدة بدعاء نبيهم ، ومن تمليك طالوت وهو من أهل الخمول الذي لا ينقاد لمثله الناس لما جعل الله له من الآية علما على تمليكه ، ونصرة أصحاب طالوت مع قلة عددهم وضعفهم على جالوت وأصحابه مع قوتهم وشوكتهم (آياتُ اللهِ) أي دلالات الله على قدرته (نَتْلُوها عَلَيْكَ) نقرؤها عليك يا محمد (بِالْحَقِ) بالصدق (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) معناه : وإنك لمن المرسلين بدلالة إخبارك بهذه الآيات مع أنك لم تشاهدها ، ولم تخالط أهلها ولا تعلم ذلك.

٢٥٣ ـ (تِلْكَ) بمعنى أولئك (الرُّسُلُ) أي أولئك الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء في الكتاب (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) إنما ذكر الله تفضيل بعض الرسل على بعض لأمور (أحدها) لأن لا يغلط غالط فيسوي بينهم في الفضل كما استووا في الرسالة (وثانيها) أن يبين أن تفضيل محمد عليهم كتفضيل من مضى من الأنبياء بعضهم على بعض (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) أي كلمه الله وهو موسى (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) قال مجاهد : أراد به محمدا (ص) فإنه تعالى فضله على جميع أنبيائه بأن بعثه إلى جميع المكلفين من الجن والإنس ، وبأن أعطاه جميع الآيات التي أعطاها من قبله من الأنبياء ، وبأن خصه بالقرآن الذي لم يعطه غيره وهو المعجزة القائمة إلى يوم القيامة بخلاف سائر المعجزات فإنها قد مضت وانقضت (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي الدلالات : كإبراء الأكمه ، والأبرص ، وإحياء الموتى ، والإخبار عما كانوا يأكلونه ويدخرونه في بيوتهم (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قد مر تفسيره في الآية الخامسة والثمانين من هذه السورة (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد الرسول معناه : ولو شاء الله لم يقتتل الذين من بعد الأنبياء بأن يلجئهم إلى الإيمان ، ويمنعهم عن الكفر إلّا انه لم يلجئهم إلى ذلك لأن التكليف لا يحسن مع الضرورة والإلجاء (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) من بعد وضوح الحجة ، فإن المقصد من بعثة الرسل قد حصل بإيمان من آمن قبل القتال (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ)

٥٧

بتوفيق الله ولطفه ، وحسن إختياره (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) بسوء اختياره (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) كرر ذلك تأكيدا أي لو شاء الله اضطرهم إلى حال يرتفع معها التكليف (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ما تقتضيه المصلحة ، وتوجبه الحكمة.

٢٥٤ ـ لمّا قصّ الله سبحانه أخبار الأمم السابقة ، وثبّت رسالة نبينا (ص) عقّبه بالحثّ على الطاعة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا محمدا (ص) فيما جاء به (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) أراد به الفرض كالزكاة ونحوها دون النفل ، لاقتران الوعيد به (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) أي يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ) أي لا تجارة (وَلا خُلَّةٌ) أي ولا صداقة ، لأن شغله بنفسه يمنع من صداقة غيره (وَلا شَفاعَةٌ) أي لغير المؤمنين مطلقا ، فأما المؤمنون فقد يشفع بعضهم لبعض ، ويشفع لهم أنبياؤهم كما قال سبحانه : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) إنما ذم الله الكافر بالظلم وإن كان الكفر أعظم منه لأن الكافر ضرّ نفسه بالخلود في النار فقد ظلم نفسه.

٢٥٥ ـ لما قدم سبحانه ذكر الأمم واختلافهم على أنبيائهم في التوحيد وغيره عقّبه بذكر التوحيد فقال : (اللهُ) أي من يحق له العبادة لقدرته على أصول النعم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا أحد تحق له العبادة ويستحق الإلهية غيره (الْحَيُ) قد ذكرنا معناه (الْقَيُّومُ) القائم بتدبير خلقه من إنشائهم ابتداء ، وإيصال أرزاقهم إليهم (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) أي نعاس (وَلا نَوْمٌ) معناه : لا يغفل عن الخلق ولا يسهو كما يقال للغافل : أنت نائم ، وأنت وسنان (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) معناه : له ملك ما فيهما ، وله التصرف فيهما (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) هو إستفهام معناه الإنكار والنفي ، أي لا يشفع يوم القيامة أحد لأحد إلّا بإذنه وأمره (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) معناه : يعلم ما بين أيديهم : ما مضى من الدنيا ، وما خلفهم : من الآخرة (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) معناه : من معلومه كما يقال : اللهم اغفر لنا علمك فينا ، أي معلومك فينا ، والإحاطة بالشيء علما : أن يعلمه كما هو على الحقيقة (إِلَّا بِما شاءَ) يعني ما شاء أن يعلمهم ويطلعهم عليه (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وسع علمه السماوات والأرض (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) أي لا يشق على الله ولا يثقله حفظ السماوات والأرض (وَهُوَ الْعَلِيُ) هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة ، والسلطان ، والملك ، وعلو الشأن ، والقهر ، والإعتلاء ، والجلال ، والكبرياء (الْعَظِيمُ) أي العظيم الشأن ، القادر الذي لا يعجزه شيء ، والعالم الذي لا يخفى عليه شيء ، لا نهاية لمقدوراته ، ولا غاية لمعلوماته.

٢٥٦ ـ لما تقدم ذكر إختلاف الأمم ، وانه لو شاء الله لأكرههم على الدين ، ثم بين تعالى دين الحق والتوحيد عقبه بأن الحق قد ظهر ، والعبد قد خيّر فلا إكراه بقوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) المراد : ليس في الدين إكراه من الله ولكن العبد مخير فيه (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) قد ظهر الإيمان من الكفر ، والحق من الباطل ، بكثرة الحجج والآيات الدالة عقلا وسمعا ، والمعجزات التي ظهرت على يد النبي (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) انه الشيطان (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) أي يصدّق بالله وبما جاءت به رسله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) أي تمسك واعتصم (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي بالعصمة الوثيقة ، وعقد لنفسه من الدين عقدا وثيقا لا يحله شبهة (لَا انْفِصامَ لَها) أي لا انقطاع لها ، يعني كما لا ينقطع أمر من تمسك بالعروة كذلك لا ينقطع أمر من تمسك بالإيمان (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بضمائركم.

٢٥٧ ـ لمّا ذكر سبحانه المؤمن والكافر بيّن ولي كل واحد

٥٨

منهما فقال : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي نصيرهم ومعينهم في كل ما بهم إليه الحاجة ، وما فيه لهم الصلاح من أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الهدى والإيمان ، لأن الضلال والكفر في المنع من إدراك الحق كالظلمة في المنع من إدراك المبصرات (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أي متولي أمورهم وأنصارهم الطاغوت ، والمراد به الشيطان (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) أي من نور الإيمان والطاعة والهدى ، إلى ظلمات الكفر والمعصية والضلال (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) إلى آخره قد مضى تفسيره.

٢٥٨ ـ لما بيّن تعالى أنه ولي المؤمنين ، وأن الكفار لا وليّ لهم سوى الطاغوت تسلية لنبيه (ص) ، قصّ عليه بعده قصة إبراهيم ونمرود فقال : (أَلَمْ تَرَ) يا محمد ، أي ألم ينته علمك ورؤيتك (إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) أي هل رأيت كالذي حاج ، أي خاصم وجادل إبراهيم ، وهو نمرود بن كنعان ، وهو أول من تجبّر وادعى الربوبية (فِي رَبِّهِ) أي في رب إبراهيم الذي يدعو إلى توحيده وعبادته (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي أعطاه الله الملك ، وهو نعيم الدنيا ، وسعة المال (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) قال له نمرود : من ربّك؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت ، بدأ بذكر الحياة لأنها أول نعمة ينعم الله بها على خلقه ثم يميتهم وهذا أيضا لا يقدر عليه إلّا الله تعالى ، لأن الإماتة هي أن يخرج الروح من بدن الحي من غير جرح ، ولا نقص بنية ، ولا احداث فعل يتصل بالبدن من جهته ، وهذا خارج عن قدرة البشر (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أي فقال نمرود : أنا أحيي بالتخلية من الحبس من وجب عليه القتل ، وأميت بالقتل من شئت ممن هو حيّ ، وهذا جهل من الكافر لأنه إعتمد في المعارضة على العبارة فقط دون المعنى ، عادلا عن وجه الحجة بفعل الحياة للميت ، أو الموت للحي على سبيل الإختراع الذي ينفرد به تعالى ، ولا يقدر عليه سواه (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) : إنّ إبراهيم إنما قال ذلك ليبين أن من شأن من يقدر على إحياء الأموات ، وإماتة الأحياء ، أن يقدر على إتيان الشمس من المشرق ، فإن كنت قادرا على ذلك فأت بها من المغرب (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي تحير بما بان من ظهور الحجة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بالمعونة على بلوغ البغية من الفساد.

٢٥٩ ـ (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ) أي أو هل رأيت كالذي مرّ ومعناه : إن شئت فانظر في قصة الذي حاج إبراهيم ، وإن شئت فانظر إلى قصة الذي مرّ (عَلى قَرْيَةٍ) وهو عزيز ، والقرية التي مر عليها هو بيت المقدس لما خربه بخت نصر (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) ساقطة على أبنيتها وسقوفها (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) أي كيف يعمر الله هذه القرية بعد خرابها ، ولم يقل ذلك إنكارا ولا تعجبا ولا إرتيابا ولكنه أحب أن يريه الله إحياءها مشاهدة كما يقول الواحد منا : كيف يكون حال الناس يوم القيامة (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) أي مائة سنة (ثُمَّ بَعَثَهُ) أي أحياه كما كان (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) يعني في مبيتك ومنامك وقيل : إن القائل له نبي ، وقيل : ملك (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأن الله أماته في أول النهار ، وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار ، فقال : يوما ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : أو بعض يوم فقال : (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) معناه : بل مكثت في مكانك مائة سنة (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم تغيّره السنون (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) معناه : انظر إليه كيف تفرق اجزاؤه وتبدّد عظامه ، ثم انظر كيف يحييه الله ، وإنما قال له ذلك ليستدل بذلك على طول مماته (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً

٥٩

لِلنَّاسِ) أي حجة للناس في البعث (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) كيف نحييها (ثُمَّ نَكْسُوها) أي نلبسها (لَحْماً) أراد عظامه ، قالوا : أول ما أحيا الله منه عينه وهو مثل غرقيء البيض ، فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفرقة تجتمع إليه وإلى اللحم الذي قد أكلته السباع الذي يأتلف إلى العظام من ها هنا ومن ها هنا ، ويلتزم ويلتزق بها حتى قام وقام حماره (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي ظهر وعلم ، (قالَ) أي قال المار على القرية (أَعْلَمُ) أي اتيقن (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إنما قال ذلك لأنه إزداد بما شاهد وعاين يقينا وعلما ، إذ كان قبل ذلك علم استدلال ، فصار علمه ضرورة ومعاينة.

٢٦٠ ـ ثم ذكر تعالى ما أراه إبراهيم عيانا من إحياء الموتى فقال : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) في سبب سؤال إبراهيم أن الملك بشّر إبراهيم (ع) بأن الله قد إتخذه خليلا ، وأنه يجيب دعوته ، ويحيي الموتى بدعائه ، فسأل الله تعالى أن يفعل ذلك ليطمئن قلبه بأنه قد أجاب دعوته ، واتخذه خليلا (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) هذه الألف إستفهام ويراد به التقرير أي قد آمنت لا محالة فلم تسأل إذا؟ (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي بلى أنا مؤمن ولكن سألت ذاك لازداد يقينا إلى يقيني ، وليطمئن قلبي بأنك قد أجبت مسألتي ، واتخذتني خليلا كما وعدتني (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) مختلفة الأجناس ، وإنما خصّ الطير من بين سائر الحيوانات لخاصية الطيران وقيل : إنها الطاووس والديك والحمام والغراب (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي قطعهنّ (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) معناه : فرّقهن على كل جبل وكانت عشرة أجبل ، ثم خذ بمناقيرهن وادعهن باسمي الأكبر يأتينك سعيا ، ففعل إبراهيم ذلك وفرقهن على عشرة أجبل ، ثم دعاهن فقال : أجبن بإذن الله ، فكانت تجتمع ويأتلف لحم كل واحد وعظمه إلى رأسه (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي قويّ لا يعجز عن شيء (حَكِيمٌ) في أفعاله وأقواله ، وقيل : عزيز : يذل الأشياء له ، ولا يمتنع عليه شيء ، حكيم : أفعاله كلها حكمة وصواب.

٢٦١ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) تقديره : مثل الذين ينفقون كمثل زارع حبة ، وسبيل الله : هو الجهاد وغيره من أبواب البر كلها (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ) أي أخرجت (سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) يعني أن النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أي يزد على سبعمائة لمن يشاء وقوله : (وَاللهُ واسِعٌ) أي واسع الرحمة لا يضيق عن المضاعفة (عَلِيمٌ) بما يستحق الزيادة.

٢٦٢ ـ لما أمر الله تعالى بالإنفاق عقّبه ببيان كيفية الإنفاق فقال : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) أي يخرجون (أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وقد تقدم بيانه (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا) أي نفقاتهم (مَنًّا) أي منة على المعطي (وَلا أَذىً) له ، والمنّ : هو أن يقول له : ألم أعطك كذا ، ألم أحسن إليك ، ألم أغنك؟ ونحوها ، والأذى : أن يقول : أراحني الله منك ومن ابتلائي بك (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) إلى آخره قد مرّ تفسيره وقيل معناه : لهم جزاء أعمالهم عند ربهم وإنما قال : عند ربهم لتكون النفس أسكن إليه وأوثق به ، لأن ما عنده لا يخاف عليه فوت ولا نقص (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من فوت الأجر ونقصانه يوم القيامة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوته ونقصانه.

٢٦٣ ـ (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) أي كلام حسن جميل لا وجه فيه من وجوه القبح يرد به السائل ، ومعناه : عفو المسؤول عن ظلم السائل ، أن يسأل في غير وقته ، أو يلحف في سؤاله ، أو يسيء الأدب بأن يفتح الباب ، ويدخل الدار بغير إذن ، فالعفو عن

٦٠