الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

دُعائِي إِلَّا فِراراً) (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عن ذكرنا أي ولى كأنه لم يقبل علينا بالدعاء والإبتهال (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي بعد بنفسه عن القيام بحقوق انعامنا فلا يشكره كما عرض عن النعمة بالقرآن (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) معناه : وإذا أصابه المحنة والشدة أو الفقر لم يصبر وكان قنوطا من رجاء الفرج من الله بخلاف المؤمن الذي يرجو الفرج والروح (قُلْ) يا محمد لهم (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي كل واحد من المؤمن والكافر يعمل على طبيعته وخليقته التي تخلق بها (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أي أنه يعلم أي الفريقين على الهدى ، وأيهما على الضلالة ، وقيل معناه : انه أعلم بمن هو أصوب دينا ، وأحسن طريقا.

٨٥ ـ ٨٩ ـ ثم قال سبحانه لنبيه (ص) (وَيَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنِ الرُّوحِ) ان اليهود قالت لكفار القريش : سلوا محمدا عن الروح فإن أجابكم فليس بنبي ، وإن لم يجبكم فهو نبي ، فإنا نجد في كتبنا ذلك ، فأمر الله سبحانه بالعدول عن جوابهم وأن يكلهم في معرفة الروح إلى ما في عقولهم ليكون ذلك علما على صدقه ، ودلالة لنبوته (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي من فعله وخلقه وكان هذا جوابا لهم عما سألوه عنه بعينه (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) هو خطاب للنبي (ص) وغيره إذ لم يبين لهم الروح ومعناه : وما أوتيتم من العلم المنصوص عليه إلّا قليلا ، أي شيئا يسيرا لأن غير المنصوص عليه أكثر ، فإن معلومات الله تعالى لا نهاية لها (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يعني القرآن ، ومعناه : اني أقدر أن آخذ ما أعطيتك كما منعت غيرك ولكني دبرتك بالرحمة لك ، فأعطيتك ما تحتاج إليه (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) أي ثم لو فعلنا ذلك لم تجد علينا وكيلا يستوفي ذلك منا وقيل معناه ولو شئنا لمحونا هذا القرآن من صدرك وصدر أمتك حتى لا يوجد له أثر ثم لا تجد له حفيظا يحفظه عليك ويحفظ ذكره على قلبك عن الحسن وأبي مسلم والأصم ، قالوا وفي هذا دلالة على ان السؤال وقع عن القرآن (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) معناه : لكن رحمة من الله ربك لك أعطاك ما أعطاك من العلوم ، ومنعك ما منعك منها ، وأثبت القرآن في قلبك وقلوب المؤمنين (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ) فيما مضى وفيما يستقبل (عَلَيْكَ كَبِيراً) يريد حيث جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين ، وأعطاك المقام المحمود ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) معناه : قل يا محمد لهؤلاء الكفار : لئن اجتمعت الإنس والجن متعاونين متعاضدين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته ونظمه على الوجوه التي هو عليها من كونه في الطبقة العليا من البلاغة ، والدرة القصوى من حسن النظم ، وجودة المعاني ، وتهذيب العبارة ، والخلو من التناقض ، واللفظ المسخوط ، لعجزوا عن ذلك ولم يأتوا بمثله (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي معينا على ذلك مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه عن ابن عباس (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) معناه : ولقد بيّنا لهم في هذا القرآن من كل ما يحتاج إليه من الدلائل والأمثال والعبر والأحكام ، وما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم ليتفكروا فيها (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا للحق ، والمثل قد يكون الشيء بعينه وقد يكون صفة للشيء.

٩٠ ـ ٩٥ ـ لمّا بيّن سبحانه فيما تقدّم إعجاز القرآن ، عقّب ذلك البيان بأنهم أبوا إلّا الكفر والطغيان ، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم ذلك فقال (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لن نصدقك فيما تدعي من النبوة (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ) أي تشقق لنا من أرض مكة فإنها قليلة الماء (يَنْبُوعاً) أي عينا ينبع منه الماء في وسط مكة (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) وهي ما تجنه الأشجار : أي تستره (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ) من

٣٨١

الماء (خِلالَها) أي وسطها (تَفْجِيراً) أي تشقيقا حتى يجري الماء تحت الأشجار (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) أي قطعا قد تركب بعضها على بعض وقوله : (كَما زَعَمْتَ) معناه : كما خوّفتنا به من انشقاق السماء وانفطارها (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) هو جمع القبيلة ، أي تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة عن مجاهد ، وقيل معناه : مقابلين لنا كالشيء يقابل الشيء حتى نشاهدهم قبيلا ، أي مقابلة نعاينهم ، ويشهدون بأنك حق ، ودعوتك صدق ، عن الجبائي وقتادة ، وهذا يدل على ان القوم كانوا مشبّهة مع شركهم (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي من ذهب (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) أي تصعد (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) أي ولو فعلت لم نصدقك حتى تنزل على كل واحد منا كتابا من الله شهدا بصحة نبوتك نقرؤه ، وهو مثل قوله : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) أي تنزيها له من كل قبيح ، وبراءة له من كل سوء وفي ذلك من الجواب : انكم تتخيرون الآيات وهي إلى الله سبحانه فهو العالم بالتدبير ، الفاعل لما توجبه المصلحة ، فلا وجه لطلبكم إياه مني وقيل : معناه تعظيما له عن أن يحكم عليه عبيده لأن له الطاعة عليهم وقيل : انهم لما قالوا : تأتي بالله وترقى في السماء إلى الله لاعتقادهم ان الله تعالى جسم قال : قل سبحان ربي عن كونه بصفة الأجسام حتى تجوز عليه المقابلة والنزول وقيل معناه : تنزيها له عن ان يفعل المعجزات تابعا للإقتراحات (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) معناه : ان هذه الأشياء ليس في طاقة البشر أن يأتي بها وان يفعلها ، فلا أقدر بنفسي أن آتي بها كما لم يقدر من كان قبلي من الرسل ، والله تعالى إنما يظهر الآيات المعجزة على حسب المصلحة وقد فعل فلا تطالبوني بما لا يطالب به البشر (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) أي وما صرف المشركين عن الإيمان : أي التصديق بالله وبرسوله (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي حين أتاهم الحجج والبينات (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي إلّا قولهم (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) دخلت عليهم الشبهة في انه لا يجوز أن يبعث الله رسولا إلّا من الملائكة كما دخلت عليهم الشبهة في أن عبادتهم لا تصلح لله فوجهوها إلى الأصنام ، فعظموا الله بجهلهم بما ليس فيه تعظيم (قُلْ) يا محمد (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي ساكنين قاطنين (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) منهم ، عن الحسن ، وقيل معناه : مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها ، غير خائفين ولا متعبدين بشرع ، لأن المطمئن من زال الخوف عنه ، عن الجبائي ، وقيل معناه : لو كان أهل الأرض ملائكة لبعثنا إليهم ملكا ليكونوا الى الفهم إليه أسرع ، عن أبي مسلم ، وقيل إن العرب قالوا : كنّا ساكنين مطمئنين فجاء محمد فأزعجنا ، وشوّش علينا أمرنا ، فبيّن سبحانه أنّهم لو كانوا ملائكة مطمئنين لأوجبت الحكمة إرسال الرسل اليهم ، فكذلك كون الناس مطمئنين لا يمنع من إرسال الرسول إليهم.

٩٦ ـ ١٠٠ ـ ثم قال سبحانه لنبيّه (ص) (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) اني رسول الله إليكم ، وقد مرّ معناه في سورة الرعد (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، والمراد به تأكيد الوعيد (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي من يحكم الله بهداه فهو المهتد بإخلاصه وطاعته على الحقيقة (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي ومن يحكم بضلاله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) أي لن تجد لهم أنصارا يقدرون على إزالة اسم الضلال عنهم (وَنَحْشُرُهُمْ) أي نجمعهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) أي يسحبون على وجوههم إلى النار كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه ، وروى انس بن مالك : ان رجلا قال : يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال : إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على ان يمشيه على

٣٨٢

وجهه يوم القيامة (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) يحشرون على هذه الصفة عميا كما عموا عن الحق في دار الدنيا ، بكما جزاء على سكوتهم عن كلمة الإخلاص ، وصما لتركهم سماع الحق ، واصغائهم إلى الباطل. قال مقاتل : هذا حين يقال لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون ، وقيل : يحشرون كذلك ثم يجعلون يبصرون ويسمعون وينطقون ، عن الحسن (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي مستقرهم جهنم كلما سكن التهابها زدناهم اشتعالا فيكون كذلك دائما (ذلِكَ) أي ذلك الذي تقدم ذكره من العقاب (جَزاؤُهُمْ) استحقوه (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي بتكذيبهم بآيات الله (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) مثل التراب مترضضين (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) مرّ معناه في هذه السورة (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أو لم يعلموا (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) لأن القادر على الشيء قادر على أمثاله ، وإذا كان قادرا على خلق أمثالهم كان قادرا على إعادتهم إذ الإعادة أهون من الإنشاء في الشاهد ثم قال سبحانه : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) أي وجعل لاعادتهم وقتا لا شك فيه انه كائن لا محالة وقيل معناه وضرب لهم مدة ليتفكروا ويعلموا ان من قدر على الإبتداء قدر على الإعادة وقيل : وجعل لهم أجلا يعيشون إليه ويخترمون عنده لا شك فيه (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) لنفوسهم الباخسون حقها بفعل المعاصي (إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا بآيات الله ونعمه. وفي الآية دلالة على ان القادر على الشيء يجب أن يكون قادرا على جنس مثله إذا كان له مثل ، وعلى انه يجب أن يكون قادرا على ضده لأن منزلته في المقدور منزلة مثله ، وفيه دلالة أيضا على انه يقدر على إعادته إذا كان مما يفنى وتصح عليه الإعادة ثم قال سبحانه (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) أي لو ملكتم خزائن أرزاق الله وقيل : لو ملكتم مقدورات ربي أي ما يقدر عليه ربي من النعم إذ لا يكون له سبحانه موضع يخزن فيه الرحمة ثم يخرج منه كما يكون العباد ورحمته نعمه (لَأَمْسَكْتُمْ) شحا وبخلا (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) أي خشية الفقر والفاقة والمعنى : لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفقر (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي بخيلا ، عن ابن عباس وقتادة ، وهذا جواب لقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) ، ويقال : نفقت نفقات القوم إذا نفدت ، وأنفقها صاحبها : أي أنفدها حتى افتقر. وظاهر قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) العموم ، وقد علمنا ان في الناس الجواد ، والوجه فيه أحد أمرين : وهو ان يكون الأغلب عليهم من ليس بجواد ، فجاز الإطلاق تغليبا للأكثر ، وأيضا فإن ما يعطيه الإنسان وان عدّ جوادا بخل في جنب ما يعطيه الله سبحانه ، لأن الإنسان إنما يعطي ما يفضل عن حاجته ، ويمسك ما يحتاج إليه ، والله سبحانه لا تجوز عليه الحاجة فيفيض من النعم على المطيع والعاصي إفاضة من لا يخاف الحاجة.

١٠١ ـ ١٠٥ ـ ثم ذكر سبحانه قصة موسى (ع) فقال (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي ولقد أعطينا موسى تسع دلالات وحجج واضحات هي : الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر والعصا والطمسة والحجر ، والطمسة هي دعاء موسى وتأمين هارون (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ) هذا أمر للنبي (ص) أن يسأل بني إسرائيل لتكون الحجة عليهم أبلغ (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) أي معطى علم السحر ، فهذه العجائب التي فعلتها من سحرك (قالَ) موسى (لَقَدْ عَلِمْتَ) أنت يا فرعون (ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) أي هذه الآيات (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الذي خلقهن (بَصائِرَ) أي أنزلها حججا وبراهين للناس يبصرون بها أمور دينهم ، وروي أن عليا عليه‌السلام قال في علمت : والله ما علم عدوّ الله ولكن موسى هو الذي علم فقال لقد علمت (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) معناه. واني

٣٨٣

لأعلمك يا فرعون هالكا لكفرك وإنكارك عن قتادة وقيل : أعلمك ملعونا ، عن ابن عباس ، وقيل : مخبولا لا عقل لك ، عن ابن زيد (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) معناه : فأراد فرعون ان يزعج موسى ومن معه من أرض مصر وفلسطين والأردن بالنفي عنها (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ) من جنوده (جَمِيعاً) لم ينج منهم أحد ، ولم يهلك من بني إسرائيل أحد (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد هلاك فرعون وقومه (لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أي أرض مصر والشام (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) يعني يوم القيامة (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) معناه : جئنا بكم من القبور إلى الموقف للحساب والجزاء مختلطين ، التف بعضكم ببعض لا تتعارفون ، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) معناه : وبالحق أنزلنا القرآن عليك (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) القرآن وتأويله : أردنا بإنزال القرآن الحق والصواب ، وهو أن يؤمن به ، ويعمل بما فيه ، ونزل بالحق لأنه يتضمن الحقّ ويدعو إلى الحق (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) مبشرا بالجنة لمن أطاع ، ومنذرا بالنار لمن عصى.

١٠٦ ـ ١١١ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم فقال (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) أي وأنزلنا عليك يا محمد قرآنا فصّلناه سورا وآيات ، جعلنا بعضه خبرا ، وبعضه أمرا ، وبعضه نهيا ، وبعضه وعدا ، وبعضه وعيدا ، وأنزلناه متفرقا لم ننزله جميعا إذ كان بين أوله وآخره نيف وعشرين سنة (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي على تثبت وتؤدة فترتله ليكون أمكن في قلوبهم ، ويكونوا أقدر على التأمل والتفكر فيه ، ولا تعجل في تلاوته فلا يفهم عنك (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) على حسب الحاجة ، ووقوع الحوادث (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين (آمِنُوا بِهِ) أي بالقرآن (أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فإن إيمانكم ينفعكم ولا ينفع غيركم ، وترككم الإيمان يضرّكم ولا يضر غيركم ، وهذا تهديد لم وهو جواب لقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا) (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) أي أعطوا علم التوراة من قبل نزول القرآن كعبد الله بن سلام وغيره فعلموا صفة النبي (ص) قبل مبعثه (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) القرآن (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أي يسقطون على الوجوه ساجدين عن ابن عباس وقتادة إنما خصّ الذقن لأن من سجد كان أقرب شيء منه إلى الأرض ذقنه والذقن مجمع اللحيين (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) أي تنزيها لربنا عزّ اسمه عما يضيفه إليه المشركون (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) إنه كان وعد ربنا مفعولا حقا يقينا ، ولم يكن وعد ربنا إلّا كائنا (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) أي ويسجدون باكين إشفاقا من التقصير في العبادة ، وشوقا إلى الثواب ، وخوفا من العقاب (وَيَزِيدُهُمْ) ما في القرآن من المواعظ (خُشُوعاً) أي تواضعا لله تعالى ، واستسلاما لأمر الله وطاعته. ثم قال سبحانه (قُلِ) يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين نبوتك (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) وذكر في سببه ان النبي (ص) كان ساجدا ذات ليلة بمكة يدعو : يا رحمن يا رحيم فقال : المشركون هذا يزعم ان له إلها واحدا وهو يدعو مثنى مثنى (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) معناه : أيّ أسمائه تدعو وتقديره : أي شيء من أسمائه تدعونه به كان جائزا ، فإن معنى أوفي قوله : (أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الإباحة ، أي ان دعوتم باحدهما كان جائزا ، وان دعوت بهما كان جائزا ، فله الأسماء الحسنى : إن أسماءه تنبىء عن صفات حسنة ، وأفعال حسنة (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) معناه : لا تجهر بصلاتك كلها ، ولا تخافت بها كلها (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) بأن تجهر بصلاة الليل ، وتخافت بصلاة النهار (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) فيكون مربوبا لا ربا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) فيكون عاجزا محتاجا إلى غيره ليعينه ، ولا يجوز أن يكون الإله بهذه الصفة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي لم يكن له حليف حالفه لينصره على من يناوئه لأن ذلك من صفة الضعيف العاجز ، ولا يجوز أن يكون الإله بهذه الصفة (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أي عظمه تعظيما لا يساويه تعظيم ولا يقاربه. ان

٣٨٤

النبي (ص) كان يعلم أهله هذه الآية وما قبلها عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقيل ان في هذه الآية ردا على اليهود والنصارى حين قالوا اتخذ الله الولد وعلى مشركي العرب حيث قالوا لبيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك ، وعلى الصابئين والمجوس حين قالوا : لولا أولياء الله لذل الله.

سورة الكهف مكية

عدد آياتها مائة وعشر آيات

١ ـ ٦ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يقول الله سبحانه لخلقه قولوا : كل الحمد والشكر لله (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ) محمد (ص) (الْكِتابَ) أي القرآن وانتجبه من خلقه ، وخصّه برسالته فبعثه نبيا رسولا (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) تقديره : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا ، وعنى بقوله : قيما معتدلا مستقيما مستويا لا تناقض فيه عن ابن عباس وقيل : قيما على سائر الكتب المتقدمة يصدقها ويحفظها وينفي البطل عنها وهو ناسخ لشرائعها عن الفراء وقيل : قيما لأمور الدين يلزم الرجوع إليه فيها فهو كقيم الدار الذي يرجع إليه في أمرها عن أبي مسلم وقيل : قيما دائما يدوم ويثبت إلى يوم القيامة لا ينسخ عن الأصم ، ولم يجعل له عوجا : أي لم يجعله ملتبسا لا يفهم ، ومعوجا لا يستقيم وهو معنى قول ابن عباس وقيل : لم يجعل فيه اختلافا كما قال عزوجل اسمه ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا عن الزجاج ، ومعنى العوج في الكلام : أن يخرج من الصحة إلى الفساد ، ومن الحق إلى الباطل ، ومما فيه فائدة إلى ما لا فائدة فيه. ثم بيّن سبحانه الغرض في إنزاله فقال (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) ومعناه : ليخوف العبد الذي أنزل عليه الكتاب الناس عذابا شديدا ، ونكالا وسطوة من عند الله تعالى ان لم يؤمنوا به (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) معناه : وليبشر المصدقين بالله ورسوله الذين يعملون الطاعات بعد الإيمان ان لهم ثوابا حسنا في الآخرة على إيمانهم وطاعاتهم في الدنيا ، وذلك الثواب هو الجنة (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) أي لابثين في ذلك الثواب خالدين مؤبّدين لا ينتقلون عنه (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي وليحذر الكفار الذين قالوا : الملائكة بنات الله وهم قريش (ما لهم به من علم ولا لآبائهم) أي ليس لهؤلاء القائلين لهذا القول الشنيع علم به ولا لأسلافهم الذين مضوا قبلهم (كبرت كلمة تخرج من افواههم) أي عظمت الكلمة كلمة تخرج من أفواه هؤلاء الكفّار وذكر الأفواه تأكيدا والمعنى أنهم صرحوا بهذه الكلمة العظيمة في القبح وأظهروها (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي ما يقول هؤلاء إلّا كذبا وافتراء على الله (فَلَعَلَّكَ) يا محمد (باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) أي مهلك نفسك على آثار قومك الذين قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) تمردا منهم على ربهم (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) أي ان لم يصدقوا (بِهذَا الْحَدِيثِ) أي بهذا القرآن الذي أنزل عليك (أَسَفاً) أي حزنا وتلهفا ووجدا بإدبارهم عنك ، وإعراضهم عن قبول ما آتيتهم به وقيل : (عَلى آثارِهِمْ) : أي بعد موتهم لشدة شفقتك عليهم وقيل معناه : من بعد تولّيهم وإعراضهم عنك ، وقيل : أسفا : أي غيظا ، عن ابن عباس وهذه معاتبة من الله سبحانه لرسوله على شدة وجده ، وكثرة حرصه على إيمان قومه حتى بلغ ذلك به مبلغا يقربه إلى الهلاك.

٧ ـ ٨ ـ ثم بيّن سبحانه انه ابتدأ خلقه بالنعم ، وان إليه مصير الأمم فقال (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) من الأنهار والأشجار ، وأنواع المخلوقات من الجماد والحيوان والنبات (زِينَةً لَها) أي حلية للأرض ولأهلها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) الأعمل بطاعة الله ، والأطوع له (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) معناه : وانا مخربون الأرض بعد عمارتها ، وجاعلون ما عليها يابسا لا نبات عليه.

٣٨٥

٩ ـ ١٢ ـ (أَمْ حَسِبْتَ) معناه : بل أحسبت يا محمد (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) فلخلق السماوات والأرض أعجب من هذا والمراد بالكهف كهف الجبل الذي آوى إليه القوم الذين قصّ الله أخبارهم والرقيم : اسم الوادي الذي كان فيه الكهف ، عن ابن عباس والضحاك ، وقيل : الكهف غار في الجبل ، والرقيم الجبل نفسه ، عن الحسن (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) أي اذكر لقومك إذ التجأ أولئك الشبان إلى الكهف ، وجعلوه مأواهم هربا بدينهم إلى الله (فَقالُوا) حين آووا إليه (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي نعمة ننجو بها من قومنا ، وفرّج عنّا ما نزل بنا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي واصلح لنا من أمرنا ما نصب به الرشاد وقيل : هيىء لنا مخرجا من النار في سلامة ، عن ابن عباس ، وقيل معناه : دلنا على أمر فيه نجاتنا ، وقيل : يسّر لنا من أمرنا ما نلتمس به رضاك وهو الرشد. وهؤلاء الفتية قوم آمنوا بالله تعالى وكانوا يخفون الإسلام خوفا من ملكهم ، وكان اسم الملك دقيانوس ، واسم مدينتهم أفسوس ، وكان ملكهم يعبد الأصنام ويدعو إليها ويقتل من خالفه ، وكانوا من خواص الملك ، وكان يسرّ كل واحد منهم إيمانه عن صاحبه ، ثم اتفق انهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم فأووا إلى الكهف ، وكانوا قبل بعث عيسى (ع) (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) معناه : أنمناهم سنين ذات عدد ، وتأويله : فأجبنا دعاءهم ، وسددنا آذانهم بالنوم الغالب على نفوذ الأصوات إليها سنين كثيرة ، لان النائم انما ينتبه بسماع الصوت ، ودل سبحانه بذلك على انهم لم يموتوا وكانوا نياما في أمن وراحة وجمام نفس ، وهذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم من نومهم (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) المعنى : لننظر أي الحزبين من المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف عدّ أمد لبثهم ، وعلم ذلك ، وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بيتهم ، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر. وقيل : يعني بالحزبين أصحاب الكهف لما استيقظوا اختلفوا في تعداد لبثهم وذلك قوله : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) ، الآية.

١٣ ـ ١٦ ـ ثم بيّن سبحانه قصة أصحاب الكهف فقال (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ) أي خبرهم (بِالْحَقِ) أي بالصدق والصحة (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) أي أحداث وشباب (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي بصيرة في الدين ، ورغبة في الثبات عليه بالألطاف المقوّية لدواعيهم إلى الإيمان وحكم لهم سبحانه بالفتوة لأن رأس الفتوة الإيمان وقيل : الفتوة الإيمان وقيل : الفتوة : بذل الندى ، وترك الأذى ، وترك الأذى ، وترك الشكوى (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي شددنا عليها بالألطاف والخواطر القويّة للإيمان حتى وطنوا أنفسهم على إظهار الحق ، والثبات على الدين ، والصبر على المشاق ، ومفارقة الوطن (إِذْ قامُوا) أي حين قاموا بين يدي ملكهم الجبار دقيانوس الذي كان يفتن أهل الإيمان عن دينهم (فَقالُوا) بين يديه (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ربنا الذي نعبده خالق السماوات والأرض (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أي لن نعبد إلها سواه معه (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) معناه : إن دعونا مع الله إلها آخر فلقد قلنا إذا قولا مجاوزا للحق ، غاية في البطلان (هؤُلاءِ قَوْمُنَا) أي أهل بلدنا (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (آلِهَةً) يعبدونها (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) هلّا يأتون على عبادتهم غير الله بحجّة ظاهرة (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فزعم ان له شريكا في العبادة (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) قال إبن عباس : وهذا من قول تمليخا وهو رئيس

٣٨٦

أصحاب الكهف قال لهم : فإذا فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانبا ـ يعني عبدة الأصنام ـ وفارقتم ما يعبدون ـ يعني أصنامهم ـ إلا الله ، فإنكم لن تتركوا عبادته (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) أي صيروا إليه واجعلوه مأواكم (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي يبسط عليكم ربكم من نعمته (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) أي ويسهّل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه ، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف عن ابن عباس وكلما ارتفقت فهو مرفق وقيل : معناه ويصلح لكم من أمر معاشكم ما ترتفقون به.

١٧ ـ ١٨ ـ ثم بيّن سبحانه حالهم في الكهف فقال (وَتَرَى الشَّمْسَ) أي لو رأيتها لرأيت (إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) أي تميل وقت طلوعها عن كهفهم إلى جهة اليمين (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) أي تعدل عنهم وتتركهم (ذاتَ الشِّمالِ) إلى جهة الشمال شمال الكهف ، أي لا تدخل كهفهم وقيل : تقرضهم أي تجاوزهم منحرفة عنهم عن ابن عباس (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي في متسع من الكهف وقيل في فضاء منه عن قتادة وقيل كان متسعا داخل الكهف ، ثم أخبر سبحانه عن لطفه بهم ، وحفظه إياهم في مضجعهم ، واختياره لهم أصلح المواضع لرقادهم ، فبوّأهم مكانا من الكهف مستقبلا بنات النعش ، تميل الشمس عنهم طالعة وغاربة كيلا يؤذيهم حرّها ، أو تغير ألوانهم ، أو تبلي ثيابهم ، وهم في متسع ينالهم فيه روح الريح (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي من أدلته وبرهانه (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) مثل أصحاب الكهف (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) مثل قوم أصحاب الكهف (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) أي لو رأيتهم لحسبتهم منتبهين (وَهُمْ رُقُودٌ) أي نائمون في الحقيقة قال الجبائي وجماعة : لأنهم مفتحو العيون (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) معناه : ونقلبهم تارة عن اليمين إلى الشمال ، وتارة عن الشمال إلى اليمين كما يتقلب النائم ، لأنهم لو لم يتقلبوا لأكلتهم الأرض ، ولبليت ثيابهم لطول مكثهم على جانب واحد (وَكَلْبُهُمْ) قال إبن عباس وأكثر المفسرين انهم هربوا من ملكهم ليلا فمرّوا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعه كلبه (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) هو ان يلقيهما على الأرض مبسوطتين كافتراش السبع (بِالْوَصِيدِ) أي بفنا الكهف (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) معناه : لو أشرفت عليهم ورأيتهم في كهفهم على حالتهم لفررت عنهم ، وأعرضت عنهم هربا لاستيحاشك الموضع (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي ولملىء قلبك خوفا وفزعا ، وذلك ان الله منعهم بالرعب لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم وقيل كانوا في مكان موحش من رآه فزع ، ولا يمتنع أن الكفار لما أتوا باب الكهف فزعوا من وحشة المكان ، فسدّوا باب الكهف ليهلكوا فيه ، وجعل سبحانه ذلك لطفا لئلا ينالهم مكروه من سبع وغيره ، وليكونوا محروسين من كل سوء.

١٩ ـ ٢٠ ـ (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) معناه : وكما فعلنا بهم الأمور العجيبة ، وحفظناهم تلك المدة المديدة ، بعثناهم من تلك الرقدة ، وأحييناهم من تلك النومة التي أشبهت الموت (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم ، فينتبهوا بذلك على معرفة صانعهم ، ويزدادوا يقينا إلى يقينهم (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) في نومكم (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قال المفسرون : انهم دخلوا الكهف غدوة ، وبعثهم الله في آخر النهار فلذلك قالوا : يوما ، فلما رأوا الشمس قالوا : أو بعض يوم ، وكان قد بقيت من النهار بقية (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) وهذا القائل هو تمليخا رئيسهم ، ردّ علم ذلك إلى الله تعالى (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) والورق : الدراهم ، وكان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم (إِلَى الْمَدِينَةِ) يعني المدينة التي خرجوا منها (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) أي أطهر وأحل ذبيحة

٣٨٧

عن ابن عباس فليأتكم بما ترزقون أكله (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي وليدقق النظر ، ويتحيل حتى لا يطلع عليه (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي لا يخبرنّ بكم ولا بمكانكم أحدا من أهل المدينة (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي يشرفوا ويطلعوا عليكم ، ويعلموا بمكانكم (يَرْجُمُوكُمْ) أي يقتلوكم بالرجم ، وهو من أخبث القتل (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي يردّوكم إلى دينهم (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) معناه : ومتى فعلتم ذلك لن تفوزوا ابدا بشيء من الخير.

٢١ ـ ٢٤ ـ (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي وكما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا وأعثرنا عليهم أهل المدينة (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والثواب والعقاب (حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) أي ان القيامة لا شك فيها ، فإن من قدر على ان ينيم جماعة تلك المدة المديدة أحياء ثم يوقظهم قدر أيضا على ان يميتهم ثم يحييهم بعد ذلك (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) ان معناه : إذ يتنازعون في قدر مكثهم في الكهف ، وفي عددهم ، وفيما يفعل بهم بعد أن اطلعوا عليهم ، وذلك انه لما دخل الملك عليهم مع الناس ، وجعلوا يسألونهم ، سقطوا ميتين ، فقال الملك : ان هذا الأمر عجيب فما ترون؟ فاختلفوا ، فقال بعضهم : ابنوا عليهم بنيانا كما تبنى المقابر ، وقال بعضهم : اتخذوا مسجدا على باب الكهف ، وهذا التنازع منهم كان بعد العلم بموتهم (فَقالُوا) أي قال مشركو ذلك الوقت (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) أي استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان كما يقال : بنى عليه جدارا إذا حوطه وجعله وراء الجدار (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) معناه : ربهم أعلم بحالهم فيما تنازعوا فيه (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) يعني الملك المؤمن وأصحابه (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي معبدا وموضعا للعبادة والسجود ، وقيل مسجدا يصلي فيه أهل الكهف اذا استيقظوا ، ودلّ ذلك على ان الغلبة كانت للمؤمنين ثم بيّن سبحانه تنازعهم في عددهم فقال (سَيَقُولُونَ) أي سيقول قوم من المختلفين في عددم (ثَلاثَةٌ) أي هم ثلاثة (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ) أي ويقول آخرون هم (خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي قذفا بالظن من غير يقين (وَيَقُولُونَ) أي ويقول آخرون هم (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) وهذا اخبار من الله تعالى بأنه سيقع نزاع في عددهم ، ثم وقع ذلك لما وفد نصارى نجران إلى النبي (ص) فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية منهم : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقالت النسطورية : كانوا خمسة سادسهم كلبهم ، وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم (قُلْ) يا محمد (رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) من الناس (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) أي فلا تجادل الخائضين في عددهم وشأنهم (إِلَّا مِراءً ظاهِراً) فيه وجوه (أحدها) لا تجادلهم إلّا بما اظهرنا لك من امرهم عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ، أي لا تجادل إلّا بحجة ودلالة واخبار من الله سبحانه وهو المراء الظاهر (وثانيها) ان المراد لا تجادلهم إلّا جدالا ظاهرا وهو ان تقول لهم أثبتم عددا وخالفكم غيركم وكلا القولين يحتمل الصدق والكذب فهلموا بحجة تشهد لكم (وثالثها) ان المراد إلّا مراء يشهده الناس ويحضرونه فلو اخبرتهم في غير ملا من الناس لكذبوا عليك ولبّسوا على الضعفة فادعوا انهم كانوا يعرفون وانّ ذلك من غوامض علومهم (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) معناه : ولا تستخبر في أهل الكهف وفي مقدار عددهم من أهل الكتاب أحدا ، ولا تستفت من جهتهم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، والخطاب للنبي (ص) والمراد غيره لئلا يرجعوا في ذلك إلى مساءلة اليهود ، فإنه كان واثقا بخبر الله تعالى (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) قد ذكر في معناه وجوه (منها) أنه نهي من الله تعالى لنبيه (ص) أن يقول : إني أفعل شيئا في الغد إلّا

٣٨٨

أن يقيد ذلك بمشيئة الله تعالى فيقول : إن شاء الله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) معناه واذكر ربك إذا نسيت الاستثناء ثم تذكرت فقل : إن شاء الله وان كان بعد يوم أو شهر أو سنة (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) معناه : قل عسى ربي أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون اقرب من الرشد ، وأدل من قصة أصحاب الكهف ، ثم ان الله سبحانه فعل به ذلك حيث آتاه من علم غيوب اخبار المرسلين وآثارهم ما هو واضح في الدلالة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف.

٢٥ ـ ٢٧ ـ ثم أخبر سبحانه عن مقدار مدة لبثهم فقال (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) معناه : وأقام اصحاب الكهف من يوم دخلوا الكهف إلى أن بعثهم الله واطلع عليهم الخلق ثلاثمائة سنة (وَازْدَادُوا تِسْعاً) أي تسع سنين (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) معناه : ان حاجّك يا محمد أهل الكتاب في ذلك فقل : الله أعلم بما لبثوا (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والغيب : أن يكون الشيء بحيث لا يقع عليه الإدراك ، أي لا يغيب عن الله سبحانه شيء لأنه لا يكون بحيث لا يدركه ، (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هذا لفظ التعجب ومعناه : ما أبصره وأسمعه ، أي ما أبصر الله تعالى لكل مبصر ، وما أسمعه لكل مسموع ، فلا يخفى عليه من ذلك وروي ان يهوديا سأل علي بن أبي طالب (ع) عن مدة لبثهم فأخبر بما في القرآن فقال : انا نجد في كتابنا ثلاثمائة فقال (ع) ذاك بسني الشمس ، وهذا بسني القمر وقوله (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) أي ليس لأهل السماوات والأرض من دون الله من ناصر يتولى نصرتهم (وَلا يُشْرِكُ) الله (فِي حُكْمِهِ أَحَداً) فلا يجوز ان يحكم حاكم بغير ما حكم الله تعالى به ثم قال سبحانه لنبيه (ص) (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) أي واقرأ عليهم ما أوحى الله اليك من أخبار اصحاب الكهف وغيرهم فإن الحق فيه (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا مغير لما أخبر الله به فيه ، وما أمر به ، وعلى هذا فيكون التقدير : لا مبدل لحكم كلماته (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) معناه : ان لم تتبع القرآن فلن تجد من دون الله ملجأ.

٢٨ ـ ٢٩ ـ ثم أمر الله سبحانه نبيه (ص) بالصبر مع المؤمنين فقال (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) يا محمد : أي احبس نفسك (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أي يداومون على الصلاة والدعاء عند الصباح والمساء لا شغل لهم غيره ، ويستفتحون يومهم بالدعاء ، ويختمونه بالدعاء (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي رضوانه (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) أي ولا تتجاوز عيناك عنهم بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي مريدا مجالسة أهل الشرف والغنى ، وكان النبي (ص) حريصا على إيمان العظماء من المشركين طمعا في إيمان اتباعهم (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) معناه : ولا تطع من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا بتعريضه للغفلة ولهذا قال : واتبع هواه ومثله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وعن الحسن ولا تطع من تركنا قلبه : خذلنا وخلينا بينه وبين الشيطان بتركه أمرنا (وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي سرفا وإفراطا عن مقاتل والجبائي قال الزجاج ومن قدم العجز في أمره اضاعه وأهلكه فيكون المعنى في هذا انه ترك الإيمان والإستدلال بآيات الله واتبع الهوى. ثم قال سبحانه (وَقُلِ) يا محمد لهؤلاء الذين أمروك بتنحية الفقراء (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي هذا الحق من ربكم يعني القرآن (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) هذا وعيد من الله سبحانه وانذار ولذلك عقبّه بقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا) ومعناه : فليختر كل لنفسه ما شاء فإنهم لا ينفعون الله تعالى بإيمانهم ولا يضرونه بكفرهم ، وإنما يرجع النفع والضرّ إليهم (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي هيّأنا وأعددنا (لِلظَّالِمِينَ) أي الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله تعالى (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) والسرادق : حائط من نار يحيط بهم (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) من شدة العطش ، وحرّ النار (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) وهو كل

٣٨٩

شيء أذيب كالرصاص والنحاس والصفر عن ابن مسعود ، وقيل : كعكر الزيت ، إذا قرب إليه سقطت فروة رأسه ، وقيل : هو القيح والدم ، وقيل : هو الذي انتهى حرّه (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي ينضجها عند دنوّه منها ويحرقها (بِئْسَ الشَّرابُ) ذلك المهل (وَساءَتْ) النار (مُرْتَفَقاً) أي منزلا ومستقرا.

٣٠ ـ ٣١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الطاعات (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) أي لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا بل نجازيهم ونوفيهم أجورهم من غير بخس (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي اقامة لهم لأنهم يبقون فيها ببقاء الله دائما أبدا وقيل : عدن بطنان الجنة أي وسطها وهي جنة من الجنان عن ابن مسعود ، وعلى هذا فإنما جمع لسعتها ولأن كل ناحية منها تصلح ان تكون جنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) لأنهم على غرف في الجنة كما قال : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) وقيل : ان أنهار الجنة تجري في أخاديد من الأرض فلذلك قال : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) أي يجعل لهم فيها حلي من أساور وقيل انه يحلى كل واحد بثلاثة أساور سوار من فضة وسوار من ذهب وسوار من لؤلؤ وياقوت عن سعيد بن جبير (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) أي من الديباج الرقيق والغليظ ، وقيل : إن الإستبرق فارسي معرب أصله استبره وقيل : هو الديباج المنسوج بالذهب (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) أي متنعمين في تلك الجنات على السرر في الحجال ، وإنما قال : متكئين لأن الإتكاء يفيد انهم منعمون في الأمن والراحة ، فإن الإنسان لا يتكىء إلّا في حال الأمن والسلامة (نِعْمَ الثَّوابُ) أي طاب ثوابهم وعظم (وَحَسُنَتْ) الأرائك (مُرْتَفَقاً) أي موضع ارتفاق وقيل : منزلا ومجلسا ومجتمعا.

٣٢ ـ ٣٦ ـ ثم ضرب الله لعباده مثلا يستفيئهم به إلى طاعته ، ويزجرهم عن معصيته وكفران نعمته ، فقال مخاطبا لنبيه (ص) (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) روي عن ابن عباس انه قال : يريد ابني ملك كان في بني اسرائيل توفي وترك ابنين ، وترك مالا جزيلا ، فأخذ أحدهما حقّه منه وهو المؤمن منهما فتقرّب إلى الله تعالى ، وأخذ أحدهما حقّه فتملّك به ضياعا ، منها هاتان الجنتان ، وفي تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم انه يريد رجلا كان له بستانان كبيران كثيرا الثمار كما حكى سبحانه ، وكان له جار فقير ، فافتخر الغني على الفقير وقال له : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ) أي بستانين أجنهما الأشجار (مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي جعلنا النخل مطيفا بهما (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) أي وجعلنا بين البستانين مزرعة ، فكملت النعمة بالعنب والتمر والزرع (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) أي كل واحدة من البستانين آتت غلتها ، وأخرجت ثمرتها وسماه أكلا لأنه مأكول (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي لم تنقص منه شيئا ، بل أدّته على التمام والكمال (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي شققنا وسط الجنتين نهرا يستقيهما حتى يكون الماء قريبا منهما ، يصل إليهما من غير كدّ وتعب ، ويكون ثمرها وزرعهما بدوام الماء فيهما أوفى وأروى (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) قيل ان معناه وكان للنخل الذي فيهما ثمر وقيل معناه وكان للرجل ثمر ملكه من غير جنتيه كما يملك الناس ثمارا لا يملكون أصلها عن ابن عباس ، وقيل : كان لهذا الرجل مع هذين البستانين الذهب والفضة عن مجاهد وقيل معناه : كان له معهما جميع الأموال عن قتادة وابن عباس في رواية أخرى (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي فقال الكافر لصاحبه المؤمن وهو يخاطبه ويراجعه في الكلام (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) أي أعز عشيرة ورهطا. وسمى العشيرة نفرا لأنهم ينفرون معه في حوائجه وقيل معناه أعز خدما وولدا عن قتادة ومقاتل (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي ودخل الكافر بستانه وهو ظالم لنفسه بكفره وعصيانه (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ

٣٩٠

هذِهِ أَبَداً) أي ما اقدّر ان تفنى هذه الجنة وهذه الثمار أبدا وقيل : يريد ما أظن هذه الدنيا تفنى أبدا (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي وما أحسب القيامة آتية كائنة على ما يقوله الموحدون (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) معناه : ولئن كانت القيامة والبعث حقا كما يقوله الموحدون لأجدن خيرا من هذه الجنة ، قال الزجاج : وهذا يدل على ان صاحبه المؤمن قد أعلمه ان الساعة تقوم ، وانه يبعث ، فأجاب بأن قال له : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) ، أي كما أعطاني هذه في الدنيا سيعطيني في الآخرة أفضل منها لكرامتي عليه. ظنّ الجاهل انه أوتي لكرامته على الله تعالى.

٣٧ ـ ٤٤ ـ ثم بيّن سبحانه جواب المؤمن للكافر فقال (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي يخاطبه ويجيبه مكفّرا له بما قال (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) يعني أصل الخلقة ، أي خلق أباك من تراب وهو آدم (ع) وقيل : لما كانت النطفة خلقها الله سبحانه بمجرى العادة من الغذاء ، والغذاء ينبت من تراب جاز أن يقول : خلقك من تراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) أي نقلك من حال إلى حال حتى جعلك بشرا سويا معتدل الخلقة والقامة ، وإنما كفره بإنكاره المعاد وفي هذا دلالة على ان الشك في البعث والنشور كفر (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) تقديره : لكن أنا أقول هو الله ربي وخالقي ورازقي ، فإن افتخرت عليّ بدنياك فإن افتخاري بالتوحيد (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) أي لا أشرك بعبادتي إياه أحدا سواه ، بل أوجهها اليه وحده خالصا وإنما استحال الشرك في العبادة لأنها لا تستحق إلّا بأصول النعم وبالنعمة التي لا يوازنها نعمة منعم وذلك لا يقدر عليه أحد إلّا الله تعالى ، ثم قال (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) معناه : وقال لصاحبه الكافر : هلا حين دخلت بستانك فرأيت تلك الثمار والزرع شكرت الله تعالى وقلت : ما شاء الله كان ، واني وان تعبت في جمعه وعمارته فليس ذلك إلّا بقدرة الله وتيسيره ، ولو شاء لحال بيني وبين ذلك ، (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) معناه : إن كنت تراني اليوم فقيرا أقل منك مالا وعشيرة وأولادا ، فلعل الله ان يؤتيني بستانا خيرا من بستانك في الآخرة أو في الدنيا والآخرة (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) أي ويرسل على جنتك عذابا أو نارا من السماء فيحرقها عن ابن عباس وقتادة وقيل : يرسل عليها عذاب حسبان وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك عن الزجاج وقيل ويرسل عليها مرامي من عذابه اما بردا واما حجارة أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أي أرضا مستوية لا نبات عليها تزلق عنها القدم ، فتصير أضر أرض من بعد ان كانت أنفع أرض (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) أي غائرا ذاهبا في باطن غامض منقطعا فتكون أعدم أرض للماء بعد ان كانت أوجد أرض للماء (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أي فلن تقدر على طلبه إذا غار ولا يبقى له أثر تطلبه به ، فلن تستطيع رده. إلى هنا انتهى مناظرة صاحبه وانذاره ، ثم قال سبحانه (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) معناه : أحيط العذاب بأشجاره ونخيله فهلكت عن آخرها تقول : أحيط ببني فلان : إذا هلكوا عن آخرهم ، وفي الخبر : ان الله عزوجل أرسل عليها نارا فأهلكها ، وغار ماؤها (فَأَصْبَحَ) هذا الكافر (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) تأسفا وتحسرا (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) من المال ، وهو أن يضرب يديه واحدة على الأخرى ، وتقليب الكفين يفعله النادم كثيرا فصار عبارة عن الندم (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي ساقطة على سقوفها ، وما عرش لكرومها ، وذلك ان السقف ينهدم أولا ثم ينهدم الحائط على السقف (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) ندم على الكفر لفناء ماله لا لوجوب الإيمان فلم ينفعه ، ولو ندم على الكفر فآمن بالله تحقيقا لانتفع به (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي لم يكن

٣٩١

لهذا الكافر جماعة يدفعون عذاب الله عنه (وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي وما كان ممتنعا ، قيل معناه : وما كان مستردا ما ذهب عنه (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) هنالك : اشارة إلى يوم القيامة ، وتقديره : الولاية يوم القيامة لله ، يريد يومئذ يتولون الله ويؤمنون به ، ويتبرؤون مما كانوا يعبدون (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أي عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره.

٤٥ ـ ٤٩ ـ (وَاضْرِبْ) يا محمد (لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) أي نبت بذلك المال نبات التفّ بعضه ببعض يروق حسنا وغضاضة ، وهذا مفسر في سورة يونس (ع) (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) أي كسيرا مفتتا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) فتنقله من موضع إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي كان الله مقتدرا على كل شيء قبل كونه (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي يتفاخر بهما ، ويتزين بهما في الدنيا ، ولا ينتفع بهما في الآخرة ، وإنما سمّاهما زينة لأن في المال جمالا ، وفي البنين قوة ودفعا ، فصارا زينة الحياة الدنيا ، وكلاهما لا يبقى للإنسان فينتفع به في الآخرة (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) وهي الطاعات لله تعالى وجميع الحسنات لأن ثوابها يبقى أبدا (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) أي أفضل ثوابا ، وأصدق أملا من المال والبنين وسائر زهرات الدنيا ، فإن من الآمال كواذب وهذا أمل لا يكذب ، لأن من عمل الطاعة وجد ما يأمله عليها من الثواب وقيل ان الباقيات الصالحات هي ما كان يأتي به فقراء المسلمين وهو سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله اكبر عن ابن عباس في رواية عطا ومجاهد وعكرمة ، وروى انس ابن مالك عن النبي (ص) انه قال لجلسائه : خذوا جنّتكم قالوا : احذر عدو؟ قال : خذوا جنتكم من النار ، قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر فإنها المقدمات وهن المنجيات وهن المعقبات وهن الباقيات الصالحات ، ورواه اصحابنا عن أبي عبد الله (ع) عن آبائه عن النبي (ص) ثم قال : ولذكر الله أكبر قال : ذكر الله عندما أحل وحرّم. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : اذا عجزتم عن الليل ان تكابدوه ، وعن العدو ان تجاهدوه ، فلا تعجزوا عن قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فانهن من الباقيات الصالحات فقولوها. وقيل : في الصلوات الخمس ، عن ابن مسعود وسعيد بن جبير ومسروق (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) يعني يوم القيامة ، وتسيير الجبال قلعها عن أماكنها ، فإن الله سبحانه يقلعها ويجعلها هباء منثورا (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) أي ظاهرة ليس عليها شيء من جبل أو بناء أو شجر يسترها عن عيون الناظرين (وَحَشَرْناهُمْ) أي وبعثناهم من قبورهم ، وجمعناهم في الموقف (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي فلم نترك منهم أحدا إلّا حشرناه (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) يعني المحشورين يعرضون على الله تعالى يوم القيامة (صَفًّا) أي مصفوفين كل زمرة وأمة صفا ويقال لهم (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) معناه : ليس معكم شيء مما اكتسبتموه في الدنيا من الأموال والأولاد والخدم تنتفعون به كما كنتم في أول الخلق (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي ويقال لهم أيضا : بل زعمتم في دار الدنيا أن الله لم يجعل لكم موعدا للبعث والجزاء والحساب يوم القيامة (وَوُضِعَ الْكِتابُ) والمعنى : ووضعت صحائف بني آدم في أيديهم (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي خائفين مما فيه من الأعمال السيئة (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) هذه لفظة يقولها الإنسان إذا وقع في شدة فيدعو على نفسه بالويل والثبور (ما لِهذَا الْكِتابِ) أي أيّ شيء لهذا الكتاب (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) أي لا يترك صغيرة من الذنوب ولا كبيرة إلّا عدّها وأثبتها وحواها ، وقد مرّ تفسير الصغيرة والكبيرة في سورة النساء ، وانث الصغيرة والكبيرة بمعنى الفعلة والخصلة (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) أي مكتوبا في الكتاب مثبتا

٣٩٢

(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) معناه : ولا ينقص ربك ثواب محسن ، ولا يزيد في عقاب مسيء وفي هذا دلالة على انه سبحانه لا يعاقب الأطفال لأنه إذا كان لا يزيد في عقوبة المذنب فكيف يعاقب من ليس بمذنب.

٥٠ ـ ٥٢ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) قد مرّ تفسيره وإنما تقرر هذا القول في القرآن لأجل ما بعده مما يحتاج اتصاله به (كانَ مِنَ الْجِنِ) من قال ان ابليس لم يكن من الملائكة استدلّ بهذا لأن الجن غير الملائكة ، كما انهم غير الانس (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي خرج عن طاعة ربه. ثم خاطب الله سبحانه المشركين فقال (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) معناه : أفتتبعون أمر إبليس وأمر ذريته ، وتتخذونهم أولياء تتولونهم بالطاعة من دوني وهم جميعا أعداء لكم؟ والعاقل حقيق بأن يتّهم عدوّه على نفسه وهذا استفهام بمعنى الإنكار والتوبيخ قال مجاهد ذريته الشياطين وقال الحسن الجن من ذريته (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) تقديره بئس البدل للظالمين بدلا ومعناه : بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم إذ أطاعوا إبليس عن الحسن وقيل بئس البدل طاعة الشيطان عن طاعة الرحمن عن قتادة (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض ، ولا خلق أنفسهم مستعينا بهم على ذلك ، ولا استعنت ببعضهم على خلق بعض ، وهذا اخبار عن كمال قدرته واستغنائه عن الأنصار والأعوان ، ويدل عليه قوله (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي الشياطين الذين يضلون الناس أعوانا يعضدونني عليه ، وكثيرا ما يستعمل العضد بمعنى العون وقيل معناه : ما أحضرت مشركي العرب وهؤلاء الكفّار خلق السماوات والأرض ، ولا خلق أنفسهم ، أي وما أحضرت بعضهم خلق بعض ، فمن أين قالوا : الملائكة بنات الله ، ومن أين أدعو ذلك؟ (وَيَوْمَ يَقُولُ) يريد يوم القيامة يقول الله للمشركين وعبدة الأصنام (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) في الدنيا انهم شركائي ليدفعوا عنكم العذاب (فَدَعَوْهُمْ) يعني المشركين يدعون أولئك الشركاء الذين عبدوهم مع الله (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي فلا يستجيبون لهم ، ولا ينفعونهم شيئا (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) أي بين المؤمنين والكافرين (مَوْبِقاً) وهو اسم واد عميق فرّق الله به سبحانه بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، عن مجاهد وقتادة ، وقيل : بين المعبودين وعبدتهم موبقا : أي حاجزا ، عن ابن الاعرابي ، أي فأدخلنا من كانوا يزعمون انهم معبودهم مثل الملائكة والمسيح الجنة ، وأدخلنا الكفّار النار ، وقيل معناه : جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقا ، أي مهلكا لهم في الآخرة ، عن الفراء ، وروي ذلك عن قتادة وابن عباس ، فالبيّن على هذا القول معناه : التواصل ، والمعنى : ان تواصلهم وتوادهم في الكفر صار سبب هلاكهم في الآخرة ، وقيل : موبقا : عداوة ، عن الحسن ، فكأنّه قال : عداوة مهلكة.

٥٣ ـ ٥٦ ـ ثم بيّن سبحانه حال المجرمين فقال (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) يعني المشركين رأوا النار وهي تتلظى حنقا عليهم عن ابن عباس ، وقيل : هو عام في أصحاب الكبائر (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) أي علموا أنهم داخلون فيها ، واقعون في عذابها (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي معدلا وموضعا ينصرفون إليه ليتخلصوا منها (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي بيّنا (فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) وتصريفها ترديدها من نوع واحد وأنواع مختلفة ليتفكروا فيها وقد مرّ تفسيره في بني إسرائيل (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) يريد بالإنسان النضر بن الحارث عن ابن عباس (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) معناه : ما منعهم من الإيمان بعد مجيء الدلالة ، ومن ان يستغفروا ربهم على ما سبق من معاصيهم (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي إلّا طلب أن تأتيهم العادة في الأولين من عذاب الاستئصال حيث آتاهم العذاب

٣٩٣

من حيث لا يشعرون حين امتنعوا من قبول الهدى والإيمان (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) أو يأتيهم عيانا مقابلة من الكفار يرونه ثم بيّن سبحانه انه قد أزاح العلة ، وأظهر الحجة ، وأوضح المحجة فقال (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي لم نرسل الرسل إلى الخلق إلّا مبشرين لهم بالجنة إذا أطاعوا ، او مخوفين لهم بالنار إذا عصوا (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) أي ويناظر الكفّار دفعا عن مذاهبهم بالباطل (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي ليزيلوا الحق عن قراره قال ابن عباس : يريد المستهزئين والمقتسمين واتباعهم وجدالهم بالباطل : انهم الزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم على ما كانوا يقترحونه ليبطلوا به ما جاء به محمد (ص) يقال : ادحضت حجته أي أبطلتها (وَاتَّخَذُوا آياتِي) يعني القرآن (وَما أُنْذِرُوا) أي ما تخوفوا به من البعث والنار (هُزُواً) استهزؤوا به.

٥٧ ـ ٥٩ ـ ثم قال سبحانه (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) معناه : ليس أحد أظلم لنفسه ممن ذكر : أي وعظ بالقرآن وآياته ، ونبّه على أدلة التوحيد فأعرض عنها جانبا (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي نسي المعاصي التي استحق بها العقاب وقيل معناه تذكر واشتغل عنه استخفافا به وقلة معرفة بعاقبته لأنه نسي ذلك ثم قال سبحانه (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) وهي جمع كنان (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي كراهة ان يفقهوه (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي ثقلا ، وقد تقدّم بيان هذا فيما مضى وجملته انه على التمثيل كما قال في موضع آخر : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) فالمعنى : كأنّ على قلوبهم أكنة ان يفقه ، وفي آذانهم وقرا ان يسمع (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) أخبر سبحانه انهم لا يؤمنون أبدا ، وقد خرج مخبره موافقا لخبره فماتوا على كفرهم (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) معناه : وربك الساتر على عباده الغافر لذنوب المؤمنين ، ذو النعمة والإفضال على خلقه وقيل الغفور للتائب ذو الرحمة للمصر بأن يمهل ولا يعجل وقيل الغفور لا يؤاخذهم عاجلا ، ذو الرحمة يؤخرهم ليتوبوا (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) في الدنيا (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) وهو يوم القيامة والبعث (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) أي ملجأ وقيل منجاينجيهم (وَتِلْكَ الْقُرى) اشارة إلى قرى عاد وثمود وغيرهم (أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) بتكذيب أنبياء الله ، وجحود آياته (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ) أي وجعلنا لوقت اهلاكهم (مَوْعِداً) معلوما يهلكون فيه لمصلحة اقتضت تأخيره اليه.

٦٠ ـ ٦٤ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) يوشع بن نون ، وسماه فتاه ، قال الرضا (ع) أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر فسلّم عليه موسى فأنكر السلام إذ كان بأرض ليس بها سلام قال : من أنت قال : أنا موسى بن عمران قال : أنت موسى ابن عمران الذي كلمه الله تكليما قال : نعم قال : فما حاجتك قال : جئت لتعلمني مما علمت رشدا قال : إني وكلت بأمر لا تطيقه ، ووكلت بأمر لا أطيقه (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) معناه : لا أزال أمضي وأمشي ولا أسلك طريقا آخر حتى أبلغ ملتقى البحرين ، بحر فارس وبحر الروم (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي دهرا (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أي فلما بلغ الموضع الذي يجتمع فيه رأس البحرين (نَسِيا حُوتَهُما) أي تركاه وقيل انه ضلّ الحوت عنهما حين اتخذ سبيله في البحر سربا ، فسمّي ضلاله عنهما نسيانا ، وقيل : انه من النسيان ، والناسي له كان أحدهما ، وهو يوشع ، فأضيف النسيان إليهما ، كما يقال : نسي القوم زادهم ، إذا نسيه متعهد أمرهم (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) أي فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا يذهب فيه ، وذلك ان موسى وفتاه تزودا حوتا مملوحا ثم انطلقا يمشيان على شاطىء البحر حتى انتهيا إلى صخرة

٣٩٤

على ساحل البحر فأويا اليها ، وعندها عين ماء تسمى عين الحياة ، فجلس يوشع بن نون وتوضأ من تلك العين فانتضح على الحوت شيء من ذلك الماء فعاش ووثب في الماء وجعل يضرب ، بذنبه الماء فكان لا يسلك طريقا في البحر إلّا صار ماء جامدا ، فذلك معنى قوله : فاتخذ سبيله في البحر سربا (فَلَمَّا جاوَزا) ذلك المكان (قالَ) موسى (لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) انهما انطلقا بقية يومهما وليلتهما فلما كان من الغد قال موسى ليوشع آتنا غداءنا : أي أعطنا ما نتغدى به (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي تعبا وشدة (قالَ) له يوشع عند ذلك (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) ومعناه : ان يوشع تذكر قصة الحوت لما دعا موسى بالطعام ليأكل فقال له : أرأيت حين رجعنا إلى الصخرة ونزلنا هناك فإني تركت الحوت وفقدته (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) وذلك انه لو ذكر لموسى (ع) قصة الحوت عند الصخرة لما جاوزها موسى ، ولما ناله النصب الذي أشكاه (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) أي سبيلا عجبا وهو ان الماء انجاب عنه وبقي كالكوة لم يلتئم (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) قال موسى ذلك ما كنا نطلب من العلامة (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما) أي رجعا وعادا في الطريق الذي جاءا منه يقصان آثارهما (قَصَصاً) أي ويتبعانها.

٦٥ ـ ٧٥ ـ (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) أي صادف موسى وفتاه وأدركا عبدا من عبادنا قائما على الصخرة يصلي وهو الخضر (ع) ، واسمه بليا بن ملكان ، وإنما سمي خضرا لأنه إذا صلّى في مكان أخضرّ ما حوله ، فسلّم عليه فقال : وعليك السلام يا نبيّ بني إسرائيل. فقال له موسى : ومن أدراك من أنا ومن أخبرك أني نبيّ؟ قال : من ذلك عليّ ومتى قيل : كيف يكون نبي أعلم من موسى في وقته؟ قلنا : يجوز أن يكون الخضر خصّ بعلم ما لا يتعلق بالأداء فاستعلم موسى من جهته ذلك العلم فقط وإن كان موسى أعلم منه في العلوم التي يؤدّيها من قبل الله تعالى (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) يعني النبوة ، وقيل : طول الحياة (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) قال الصادق (ع): كان عنده علم لم يكتب لموسى (ع) في الألواح ، وكان موسى يظن ان جميع الأشياء التي يحتاج اليها في تابوته ، وان جميع العلم قد كتب له في الألواح (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي علما ذا رشد قال قتادة لو كان أحد مكتفيا من العلم لأكتفى نجي الله موسى ولكنّه قال هل اتبعك الآية. عظّمه (ع) بهذا القول غاية التعظيم حيث أضاف العلم اليه ورضي باتباعه وخاطبه بمثل هذا الخطاب ، والرشد : العلوم الدينية التي ترشد إلى الحق (قالَ) العالم (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي يثقل عليك ، ولم يرد انه لا يقدر على الصبر ، وإنما قال ذلك لأن موسى (ع) كان يأخذ الأمور على ظواهرها ، والخضر كان يحكم بما أعلمه الله من بواطنها ، فلا يسهل على موسى مشاهدة ذلك ، ثم قال (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) أي كيف تصبر على ما ظاهره عندك منكر وأنت لم تعرف باطنه ولم تعلم حقيقته؟ والخبر : العلم (قالَ) موسى (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) أي أصبر على ما أرى منك (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) تأمرني به ، ولا أخالفك فيه. قال الزجاج : وفيما فعله موسى عليه‌السلام ، وهو من جملة الأنبياء ، من طلب العلم ، والرحلة فيه ، ما يدل على انه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وان كان قد بلغ نهايته ، وانه يجب أن يتواضع لمن هو أعلم منه ، وإنما قيّد صبره بمشيئة الله لأنه أخبر به على ظاهر الحال ، فجوّز ان لا يصبر فيما بعد ، بأن يعجز عنه ، فقال : إن شاء الله ، ليخرج بذلك أن يكون كاذبا (قالَ) الخضر له (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) واقتفيت أثري (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي لا تسألني عن شيء أفعله مما تنكره ولا تعلم باطنه

٣٩٥

حتى أكون انا الذي أفسّره لك (فَانْطَلَقا) يمشيان على شاطىء البحر (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) ومعناه : انهما أرادا أن يعبرا في البحر إلى أرض أخرى فأتيا معبرا فعرف صاحب السفينة الخضر (ع) فحملهما ، فلما ركبا في السفينة خرق الخضر (ع) السفينة : أي شقّها حتى دخلها الماء (قالَ) منكرا عليه (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) ولم يقل لنغرق وإن كان في غرقها غرق جميعهم لأنه أشفق على القوم أكثر من إشفاقه على نفسه جريا على عادة الأنبياء ، ثم قال بعد إنكاره ذلك (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي منكرا عظيما (قالَ) له الخضر (أَلَمْ أَقُلْ) لك (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي ألم أقل حين رغبت في اتباعي ان نفسك لا تطاوعك على الصبر معي؟ فتذكر موسى ما بذل له من الشرط ثم (قالَ) معتذرا مستقيلا (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) أي غفلت من التسليم لك ، وترك الإنكار عليك ، وهو من النسيان الذي هو ضد الذكر (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تكلفني مشقة ، تقول : أرهقته عسرا : إذا كلفته ذاك ، والمعنى : عاملني باليسر ولا تعاملني بالعسر ، ولا تضيّق عليّ الأمر في صحبتي إياك (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) ومعناه : فخرجا من البحر وانطلقا يمشيان في البر ، يعني موسى والخضر ، ولم يذكر يوشع لأنه كان تابعا لموسى ، أو كان قد تأخر عنهما فلقيا غلاما يلعب مع الصبيان فذبحه بالسكين وكان من أحسن أولئك الغلمان وأصبحهم وقال الأصم : كان شابا بالغا لأن غير البالغ لا يستحق القتل ، وقد يسمى الرجل غلاما (قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) أي طاهرة من الذنوب ، وقيل : الزاكية : التي لم تذنب ، والزكيّة : التي أذنبت ثم تابت ، حكي ذلك عن أبي عمرو بن العلاء ، وقيل : الزكيّة أشد مبالغة من الزاكية ، عن تغلب ، وقيل : الزاكية في البدن ، والزكية في الدين (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير قتل نفس ، يريد القود (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي قطعا منكرا لا يعرف في شرع ، والمنكر : أشد من الامر ، وإنما قال ذلك لأن قلبه صار كالمغلوب عليه حين رأى قتله (قالَ) العالم (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أعاد هذا القول لتأكيد الأمر عليه ، والتحقيق لما قاله أولا مع النهي عن العود بمثل سؤاله.

٧٦ ـ ٨٢ ـ (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) أي قال له موسى جوابا إن سألتك عن شيء بعد هذه المرة أو بعد هذه النفس وقتلها فلا تتركني أصحبك (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي قد أعذرت فيما بيني وبينك وقد أخبرتني اني لا أستطيع معك صبرا عن ابن عباس وهذا اقرار من موسى (ع) بأن الخضر قد قدم اليه ما يوجب العذر عنده فلا يلزمه ما أنكره وروي أن النبي (ص) تلا هذه الآية فقال : استحيى نبي الله موسى ولو صبر لرأى ألفا من العجائب (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) وهي انطاكية عن ابن عباس وقيل : أيلة عن ابن سيرين ومحمد بن كعب ، وقيل : هي قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة وبها سميت النصارى نصارى ، وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) (اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي سألاهم الطعام (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) والتضييف والإضافة بمعنى واحد ، أي لم يضيفهما أحد من أهل القرية وروى أبي بن كعب عن النبي (ص) قال كانوا أهل قرية لئام وقال أبو عبد الله (ع) لم يضيفوهما ولا يضيفون بعدهما أحدا إلى أن تقوم الساعة (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) معناه : قرب أن ينقض ، وأشرف ان ينهدم (فَأَقامَهُ) أي سوّاه ، قيل : انه دفع الجدار بيده فاستقام (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) معناه : انهم لما بخلوا عليهما بالطعام ، وأقام الخضر جدارهم المشرف على الإنهدام ، عجب موسى من ذلك فقال : لو شئت لعملت هذا بأجر تأخذه منهم حتى كنا نسدّ به جوعتنا (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) معناه : هذا وقت فراق اتصالنا ، ثم قال له (سَأُنَبِّئُكَ) أي سأخبرك (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)

٣٩٦

أي بتفسير الأشياء التي لم تستطع على الإمساك عن السؤال عنها صبرا (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) معناه : أما السبب في خرقي السفينة فهو انها كانت لفقراء لا شيء لهم يكفيهم (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) أي يعملون بها في البحر ويتعيّشون بها (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أي أحدث فيها عيبا (وَكانَ وَراءَهُمْ) أي وكان قدامهم (مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) صحيحة غير معيبة (غَصْباً) قال الخضر : انما خرقتها لأن الملك إذا رآها منخرقة تركها ورقعها أهلها بقطعة خشب فانتفعوا بها (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) ومعناه : وأما الغلام الذي قتلته فإنما قتلته لأنه كان كافرا (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) فخفنا أن يحمل أبويه على الطغيان والكفر بأن يباشر ما لا يمكنهما منعه منه ، فيحملهما على الذب عنه ، والتعصب ، فيؤدي ذلك إلى أمور يكون مجاوزة للحد في العصيان والكفر (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أي ولدا خيرا منه دينا وطهارة وصلاحا (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي وارحم بهما (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ) أي فإنما أقمته لأنه كان (لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) يعني القرية المذكورة في قوله أتيا أهل قرية (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) والكنز : هو كل مال مذخور من ذهب أو فضة وغير ذلك. واختلف في هذا الكنز فقيل : كانت صحف علم مدفونة تحته (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) بيّن سبحانه انه حفظ الغلامين بصلاح أبيهما وروي عن أبي عبد الله (ع) انه كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء ، وقال (ص) ان الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده ، وأهل دويرته ودويرات حوله ، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي ينتهيا إلى الوقت الذي يعرفان فيه نفع أنفسهما ، وحفظ مالهما ، وهو ان يكبرا ويعقلا (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي نعمة من ربك ، والمعنى : ان كل ما فعلته رحمة من الله تعالى ، أي رحم الله بذلك المساكين ، وأبوي الغلام ، واليتيمين (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي وما فعلت ذلك من قبل نفسي وإنما فعلته بأمر الله تعالى (ذلِكَ) الذي قلته لك (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي ثقل عليك مشاهدته ورؤيته واستنكرته.

٨٣ ـ ٨٧ ـ ثم بيّن سبحانه قصة ذي القرنين فقال (وَيَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) أي عن خبره ، وقصته : انه كان ملكا عادلا ، وروي عن علي بن أبي طالب (ع): انه كان عبدا صالحا أحب الله وأحبه الله ، وناصح الله وناصحه (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) معناه : قل يا محمد : سأقرأ عليكم منه خبرا وقصة (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي بسطنا يده في الأرض وملكناه حتى استولى عليها ، وقام بمصالحها ، وروي عن علي (ع) انه قال : سخّر الله له السحاب فحمله عليها ، ومدّ له في الأسباب ، وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) أي فأعطيناه من كل شيء علما يتسبب به إلى إرادته ، ويبلغ به إلى حاجته (فَأَتْبَعَ سَبَباً) معناه : فأتبع طريقا واحدا في سلوكه (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي موضع غروبها ، ومعناه : انه انتهى إلى آخر العمارة من جانب المغرب ، وبلغ قوما لم يكن وراءهم أحد إلى موضع غروب الشمس ، ولم يرد بذلك انه بلغ إلى موضع الغروب لأنه لا يصل اليه أحد (وَجَدَها تَغْرُبُ) معناه : وجدها كأنها تغرب (فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) وان كانت تغرب في ورائها لأن الشمس لا تزايل الفلك ولا تدخل عين الماء ، ولأنه قال : (وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) ، ولكن لما بلغ ذو القرنين ذلك الموضع تراءى له كأن الشمس تغرب في عين ، كما ان من كان في البحر رآها كأنها تغرب في الماء ، ومن كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء ، والعين الحمئة : هي ذات الحمأة وهي الطين الأسود المنتن ، والحامية : الحارة (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) معناه : ووجد عند

٣٩٧

العين ناسا (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) في هذا دلالة على ان القوم كانوا كفارا والمعنى : إما ان تعذب بالقتل من أقام منهم على الشرك ، وإما أن تأسرهم وتمسكهم بعد الأمر لتعلمهم الهدى ، وتستنقذهم من العمى وقيل معناه : وإما أن تعفو عنهم واستدلّ من ذهب إلى ان ذا القرنين كان نبيا بهذا قال : لأن أمر الله تعالى لا يعلم الا بالوحي ، والوحي لا يجوز إلّا على الأنبياء وقال الكلبي ان الله تعالى الهمه ولم يوح اليه وقال ابن الأنباري : ان كان ذو القرنين نبيا فان الله تعالى قال له كما يقول للأنبياء إما بتكليم أو بوحي وان لم يكن نبيا فان معنى قلنا الهمنا لأن الإلهام ينوب عن الوحي قال سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) أي والهمناها قال قتادة : فقضى ذو القرنين فيهم بقضاء الله تعالى وكان عالما بالسياسة (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي أشرك (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أي نقتله اذا لم يرجع عن الشرك (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) بعد قتلي إياه (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي منكرا غير معهود ، يعني في النار وهو أشد من القتل في الدنيا.

٨٨ ـ ٩٢ ـ (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) مرّ معناه (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي سنقول له قولا جميلا ، وسنأمره بما يتيسّر عليه ولا نوآخذه بما مضى من كفره (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أي طريقا آخر من الأرض ليؤديه إلى مطلع الشمس ، ويوصله إلى المشرق (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي بلغ موضع ابتداء العمارة من الجانب الذي تطلع منه الشمس (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) معناه : انه لم يكن بها جبل ولا شجر ولا بناء لأن أرضهم لم يكن يثبت عليها بناء ، فكانوا إذا طلعت الشمس يغورون في المياه والاسراب ، وإذا غربت تصرفوا في أمورهم (كَذلِكَ) معناه : مثل ذلك القبيل الذي كانوا عند مغرب الشمس في ان حكمهم حكم أولئك (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) أي علمنا ما كان عند ذي القرنين من الجيوش والعدة ، وآلات السياسة وقيل معناه : أحطنا علما بصلاحه واستقلاله بما ملكناه قبل أن يفعله ، كما علمناه بعد أن فعله ولم يخف علينا حاله. وفي قوله : بما إشارة إلى حسن الثناء عليه ، والرضا بأفعاله لإمتثاله أمر الله تعالى في كل أحواله (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) معناه : ثم اتبع مسلكا بالغا مما يبلغه قطرا من أقطار الأرض.

٩٣ ـ ٩٧ ـ (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) ثم أخبر سبحانه عن حال ذي القرنين بعد منصرفه عن المشرق انه سلك طريقا إلى ان بلغ بين السدين ، ووصل إلى ما بينهما وهما الجبلان اللذان جعل الردم بينهما ، وهو الحاجز بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أي خصّوا بلغة كادوا لا يعرفون غيرها قال ابن عباس : كادوا لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم ، وإنما قال : لا يكادون لأنهم فهموا بعض الأشياء عنهم وإن كان بعد شدة ، ولذلك حكى الله عنهم انهم (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ويجوز أن يكون الله سبحانه فهم ذا القرنين لسانهم كما فهم سليمان (ع) منطق الطير ، أو قالوا له بترجمان : ان يأجوج ومأجوج مفسدون في أرضهم ، وفسادهم انهم كانوا يخرجون فيقتلونهم ويأكلون لحومهم ودوابهم ، وقيل : كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يدعون شيئا أخضر إلّا أكلوه ، ولا يابسا إلا احتملوه ، عن الكلبي ، وقيل : أراد انهم سيفسدون في المستقبل عند خروجهم (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) فهل نجعل لك بعضا من أموالنا (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي حائطا وقيل في الفرق بين الخرج والخراج : ان الخراج : اسم لما يخرج من الارض ، والخرج : اسم لما يخرج من المال (قالَ) ذو القرنين (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي أعطاني ربي من المال ، ومكني فيه من الإتساع

٣٩٨

في الدنيا خير مما عرضتموه عليّ من الأجر (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي برجال فيكون معناه : بقوة الأبدان (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) أي سدا وحاجزا (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي اعطوني قطع الحديد (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي سوّى بين جانبي الجبل بما جعل بينهما من الزبر قال الأزهري : يقال لجانبي الجبل صدفان لتصادفهما ، أي تحاذيهما وتلاقيهما (قالَ انْفُخُوا) معناه : قال ذو القرنين انفخوا النار على الزبر ، أمرهم ان يؤتى بمنافخ الحدادين فينفخوا في نار الحديد التي أوقدت فيه (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) أي حتى اذا جعل الحديد كالنار في منظره من الحمى واللهب فصار قطعة واحدة لزم بعضها بعضا (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي اعطوني نحاسا مذابا ، أو صفرا مذابا ، أو حديدا مذابا ، أصبه على السد بين الجبلين حتى ينسد الثقب الذي فيه ويصير جدارا مصمتا ، فكانت حجارته الحديد ، وطينه النحاس الذائب (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) معناه : فلما تمّ لم يستطع يأجوج ومأجوج ان يعلوه ويصعدوه (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) أي ولم يستطيعوا ان ينقبوا أسفله لكثافته وصلابته وقيل : ان هذا السد وراء بحر الروم بين جبلين هناك يلي مؤخرهما البحر المحيط وقيل : ان مقدار ارتفاع السد مائتا ذراع ، وعرض الحائط نحو خمسين ذراعا (قالَ) ذو القرنين (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي هذا السد نعمة الله لعباده أنعم بها عليهم في دفع شر يأجوج ومأجوج عنهم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) يعني إذا جاء وقت اشراط الساعة ووقت خروجهم الذي قدّره الله تعالى (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أي جعل السد أرضا مستويا مع الأرض مدكوكا (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي وكان ما وعد الله بأن يفعله لا بدّ من كونه ، فإنه حقّ اذ لا يجوز ان يخلف وعده.

٩٩ ـ ١٠٦ ـ ثم أخبر سبحانه عن حال تلك الأمم فقال (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي وتركنا يأجوج ومأجوج يوم انقضاء أمر السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم ، ويكون حالهم كحال الماء الذي يتموج باضطراب أمواجه ثم ذكر سبحانه نفخ الصور فقال (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) لأن خروج يأجوج ومأجوج من اشراط الساعة ، واختلف في الصور فقيل : هو قرن ينفخ فيه وقيل : وهو جمع صورة فإن الله سبحانه يصور الخلق في القبور كما صورهم في أرحام الأمهات ، ثم ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ وهم في أرحام أمهاتهم (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) أي حشرنا الخلق يوم القيامة كلهم في صعيد واحد (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) أي أظهرنا جهنم وأبرزناها لهم حتى شاهدوها ورأوا الوان عذابها قبل دخولها. ثم وصف الكافرين فقال : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) ذكر سبحانه السبب الذي استحقّوا به النار ، يعني الذين غفلوا عن الإعتبار بقدرتي ، الموجب لذكري ، وأعرضوا عن التفكر في آياتي ودلائلي فصاروا بمنزلة من يكون في عينه غطاء يمنعه من الإدراك (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي وكان يثقل عليهم سماع القرآن وذكر الله تعالى كما يقال : فلان لا يستطيع النظر إليك ولا يستطيع أن يسمع كلامك ، أي يثقل عليه ذلك ، وأراد بالعين هنا عين القلب ، كما يضاف العمى إلى القلب (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) معناه : أفحسب الذين جحدوا توحيد الله أن يتخذوا من دوني أرباب ينصرونهم ويدفعون عقابي عنهم؟ والمراد بالعباد المسيح والملائكة الذين عبدوهم من دون الله وهم براء منهم ومن كل مشرك بالله تعالى (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) أي منزلا ، يريد هي مثواهم ومصيرهم (قُلْ) يا محمد (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) أي هل نخبركم (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) أي بأخسر الناس أعمالا والمعنى : بالقوم الذين هم أخسر الناس فيما عملوا وهم كفار أهل الكتاب اليهود والنصارى (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ) أي بطل عملهم واجتهادهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ

٣٩٩

يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) أي يظنون انهم بفعلهم محسنون ، وان أفعالهم طاعة وقربة وروى العياشي بإسناده قال : قام ابن الكواء إلى أمير المؤمنين (ع) فسأله عن أهل هذه الآية فقال : أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم ، وابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم ، وما أهل النهر منهم ببعيد ، يعني الخوارج (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي جحدوا بحجج الله وبيناته ، ولقاء جزائه في الآخرة فبطلت وضاعت أعمالهم التي عملوها لأنهم أوقعوها على خلاف الوجه الذي أمرهم الله به (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة ولا نعتد بهم ، بل نستخف بهم ونعاقبهم ، تقول العرب : ما لفلان عندنا وزن ، أي قدر ومنزلة وروي في الصحيح ان النبي (ص) قال : انه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) معناه : الأمر ذلك الذي ذكرت من حبوط أعمالهم ، وخيبة قدرهم ثم ابتدأ سبحانه فقال جزاؤهم جهنم (بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) أي بكفرهم واتخاذهم آياتي : أي أدلتي الدالة على توحيدي ـ يعني القرآن ورسلي ـ هزوا : أي مهزؤوا به.

١٠٧ ـ ١١٠ ـ لمّا تقدّم ذكر حال الكافرين عقّبه سبحانه بذكر حال المؤمنين فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) أي كان في حكم الله وعلمه لهم بساتين الفردوس وهو أطيب موضع في الجنة ، وأوسطها وأفضلها وأرفعها وروى عبادة بن الصامت عن النبي (ص) قال : الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، الفردوس أعلاها درجة ، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس (نُزُلاً) أي منزلا ومأوى (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين فيها (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) أي لا يطلبون عن تلك الجنات تحولا إلى موضع آخر لطيبتها ، وحصول مرادهم فيها ثم أمر سبحانه نبيّه (ص) فقال (قُلْ) يا محمد لجميع المكلفين (لَوْ كانَ الْبَحْرُ) وهو اسم الجنس ، أي لو كان البحر بمائة (مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) أي مدادا ليكتب به ما يقدر الله عليه من الكلام والحكم وقيل : أراد بالكلمات ما يقدر سبحانه على ان يخلقه من الأشياء ، ويأمر به كما قال في عيسى (ع) : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) أي لفنى ماء البحر (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) وقيل : ان كلماته المراد بها مقدوراته وحكمته وعجائبه (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) أي ولو جئنا بمثل البحر مدادا له ، أي عونا وزيادة. وقيل : أراد بكلمات ربي : معاني كلمات : ربي وفوائدها ، وهي القرآن وسائر كتبه ، ولم يرد بذلك أعيان الكلمات لأنه قد فرغ من كتابتها ، فيكون تقديره : قل لو كان البحر مدادا لكتابة معاني كلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كتابة معاني كلمات ربي ، فحذف لان المعنى مفهوم ، والمداد : هو الجائي والآتي شيئا بعد شيء قال ابن الأنباري : سمي المداد مدادا لامداده الكاتب ، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مداد ، وعن ابن عباس قال : لما نزل قوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قالت اليهود : أوتينا علما كثيرا ، أوتينا التوراة وفيها علم كثير ، فأنزل الله هذه الآية ثم قال (قُلْ) يا محمد (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) قال ابن عباس : علّم الله نبيّه التواضع لئلا يزهى على خلقه ، فأمره ان يقرّ على نفسه بأنه آدمي كغيره إلّا انه أكرم بالوحي وهو قوله (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له ، أي لا فضل لي عليكم إلّا بالدين والنبوة ، ولا علم لي إلّا ما علمنيه الله تعالى (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) أي فمن كان يطمع في لقاء ثواب ربه ويأمله ، ويقر بالبعث إليه ، والوقوف بين يديه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) أي خالصا لله تعالى يتقرب به إليه (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) غيره من ملك أو بشر أو حجر أو شجر وقيل : معناه : لا يرائي في عبادته أحدا.

٤٠٠