الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

يأمر بالعدل والحق ، ويدعو إلى الثواب والبر (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي على دين قويم ، وطريق واضح فيما يأتي به ويذر ، والمراد : أنهما لا يستويان قط لأنه لا جواب لهذا الكلام إلّا النفي ؛ وهذا كما قال : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ومعناه : انه المختص بعلم الغيب وهو ما غاب عن جميع الخلائق مما يصح أن يكون معلوما (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) في قدرته (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) أي كطرف العين (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) من ذلك وهو مبالغة في ضرب المثل به في السرعة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو قادر على إقامة الساعة وعلى كل شيء يريده ، لأن القدير مبالغة في صفة القادر.

٧٨ ـ ٨٠ ـ ثم عدد سبحانه نعما له أخر فقال (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) منعما عليكم بذلك وأنتم (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) من منافعكم ومضاركم في تلك الحال (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي تفضل عليكم بالحواس الصحيحة التي هي طرق إلى العلم بالمدركات ، وتفضل عليكم بالقلوب التي تفقهون بها الأشياء إذ هي محل المعارف (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروه على ذلك وتحمدوه. ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الدلائل بدلالة أخرى فقال (أَلَمْ يَرَوْا) أي ألم تتفكروا وتنظروا (إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) أي كيف خلقها الله خلقة يمكنها معها التصرف في جو السماء صاعدة ومنحدرة ، وذاهبة وجائية مذللات للطيران في الهواء بأجنحتها تطير من غير أن تعتمد على شيء (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) أي ما يمسكهن من السقوط على الأرض من الهواء إلّا الله فيمسك الهواء تحت الطير حتى لا ينزل فيه كامساك الماء تحت السائح في الماء حتى لا ينزل فيه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي دلالات على وحدانية الله تعالى وقدرته (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم الذين انتفعوا به ثم عدّد سبحانه نعما أخر في الآية الأخرى فقال (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) أي موضعا تسكنون فيه مما يتخذ من الحجر والمدر (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) يعني الأنطاع والأدم (بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها) أي قبابا وخياما يخفّ عليكم حملها في أسفاركم (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) أي ارتحالكم من مكان إلى مكان (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) أي اليوم الذي تنزلون موضعا تقيمون فيه ، أي لا يثقل عليكم في الحالتين (وَمِنْ أَصْوافِها) وهي للضأن (وَأَوْبارِها) وهي اللإبل (وَأَشْعارِها) وهي للمعز (أَثاثاً) أي نوعا من متاع البيت من الفراش والأكسية وطنافس وكسوة (وَمَتاعاً) تتمتعون به ، ومعاشا تتجرون فيه (إِلى حِينٍ) أي إلى يوم القيامة. ويحتمل ان يكون أراد به موت المالك ، أو موت الأنعام ، وقيل : إلى وقت البلى والفناء ؛ وفيه اشارة إلى انها فانية فلا ينبغي للعاقل أن يختارها على نعيم الآخرة.

٨١ ـ ٨٥ ـ ثم عدّد سبحانه نعما أخر أضافها إلى ما عدّده قبل من نعمه فقال (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من الأشجار والأبنية (ظِلالاً) أي أشياء تستظلون بها في الحر والبرد (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) أي مواضع تسكنون بها من كهوف وثقوب تأوون إليها (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) أي قميصا من القطن والكتان والصوف (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل وتقيكم البرد لأن ما وقى الحر وقى البرد ، وإنما خصّ الحر بذلك مع وقايتها للبرد أكثر لأن الذين خوطبوا بذلك أهل حرّ في بلادهم ، فحاجتهم إلى ما يقي الحر أكثر ، على ان العرب تكتفي بذكر أحد الشيئين عن الآخر للعلم به كما قال الشاعر :

وما أدري اذا يممت ارضا

أريد الخير أيهما يليني

فكنى عن الشر ولم يذكره لأنه مدلول عليه (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) يعني دروع الحديد تقيكم شدة الطعن ، وتدفع عنكم سلاح اعدائكم (كَذلِكَ) أي مثل ما جعل لكم هذه

٣٦١

الأشياء ، وأنعم بها عليكم (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) يريد نعمة الدنيا ويدل عليه قوله (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) قال ابن عباس معناه : لعلكم يا أهل مكة تعلمون انه لا يقدر على هذا غيره فتوحدوه ، وتصدقوا رسوله (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) هذا تسلية للنبي (ص) ومعناه : فان اعرضوا عن الإيمان بك يا محمد ، والقبول عنك ، وعن التدبر لما عددته في هذه السورة من النعم وبينت فيها من الدلالات فلا عتب عليك ولا لوم ، فانما عليك البلاغ الظاهر وقد بلغت كما امرت. ثم اخبر سبحانه عن الكفار فقال (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) أي يعرفون نعم الله تعالى عليهم بما يجدونه من خلق نفوسهم ، واكمال عقولهم ، وخلق انواع المنافع التي ينتفعون بها لهم ، ثم انهم مع ذلك ينكرون تلك النعم ان تكون من جهة الله تعالى خاصة ، بل يضيفونها إلى الأوثان ، ويشكرون الأوثان عليها يقولون : رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا فيشركونهم معه فيها (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) إنما قال : أكثرهم لأن منهم من لم تقم الحجة عليه إذ لم يبلغ حد التكليف لصغره ، أو كان ناقص العقل ، أو لم تبلغه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر ، وقيل انما ذكر الأكثر لأنه علم سبحانه ان فيهم من يؤمن ، وقيل : انه من الخاص في الصيغة العام في المعنى ، عن الجبائي ، وقريب منه قول الحسن ، أراد جيمعهم الكافرون ، وانما عدل عن البعض احتقارا له ان يذكره ؛ وفي هذه الآية فساد قول المجبرة : انه ليس لله تعالى على الكافر نعمة ، وان جميع ما فعله بهم هو خذلان ونقمة ، لأنه نصّ في هذه الآية على خلاف قولهم (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يعني يوم القيامة. بيّن سبحانه انه يبعث فيه من كل أمة شهيدا وهم الأنبياء والعدول من كل عصر يشهدون على الناس بأعمالهم وفائدة بعث الشهداء مع علم الله سبحانه بذلك ان ذلك أهول في النفس ، وأعظم في تصور الحال ، وأشد في الفضيحة إذا قامت الشهادة بحضرة الملإ مع جلالة الشهود وعدالتهم عند الله تعالى ، ولأنهم إذا علموا ان العدول عند الله يشهدون عليهم بين يدي الخلائق فإن ذلك يكون زجرا لهم عن المعاصي (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا يؤذن لهم فيعتذرون. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يسترضون ولا يستصلحون (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) إذا رأى الذين أشركوا النار (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) العذاب (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون.

٨٦ ـ ٩٠ ـ ثم أبان سبحانه عن حال المشركين يوم القيامة فقال (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) يعني الأصنام والشياطين الذين أشركوهم مع الله في العبادة وقيل : سمّاهم شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من الزرع والأنعام فهم إذا شركاؤهم على زعمهم (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أي يقولون : هؤلاء شركاؤنا الذين أشركناهم معك في الإلهية والعبادة ، وأضلونا عن دينك ، فحملهم بعض عذابنا (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) معناه : فقالت الأصنام وسائر ما كانوا يعبدونه من دون الله بانطاق الله تعالى إياهم لهؤلاء : انكم لكاذبون في انا امرناكم بعبادتنا ولكنكم اخترتم الضلال بسوء اختياركم لأنفسكم (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) معناه : استسلم المشركون وما عبدوهم من دون الله لأمر الله ، وانقادوا لحكمه يومئذ (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي بطل ما كانوا يأملونه ويتمنونه من الأماني الكاذبة من أن آلهتهم تشفع لهم وتنفع (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي اعرضوا عن دين الله (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) أي عذبناهم على صدهم عن دين الله زيادة على عذاب الكفر. وقيل : زدناهم الأفاعي والعقارب في النار لها أنياب كالنخل الطوال عن ابن مسعود (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من أمثالهم من البشر ، ويجوز أن يكون ذلك الشهيد نبيهم الذي أرسل إليهم ، ويجوز أن يكون المؤمنون العارفون يشهدون عليهم بما فعلوه من المعاصي. وفي هذه الآية دلالة على ان كل عصر لا يجوز أن

٣٦٢

يخلو ممن يكون قوله حجّة على أهل عصره ، وهو عدل عند الله تعالى ، وهو قول الجبائي وأكثر أهل العدل ، وهو يوافق ما ذهب إليه أصحابنا (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) يريد على قومك وأمتك ، وإنما أفرده بالذكر تشريفا له. وتم الكلام ههنا ثم قال سبحانه (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) يعني القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا لكل أمر مشكل ومعناه : ليبين كل شيء يحتاج إليه من أمور الشرع فإنه ما من شيء يحتاج الخلق إليه في أمر من أمور دينهم إلا وهو مبين في الكتاب أما بالتنصيص عليه ، أو بالإحالة على ما يوجب العلم من بيان النبي (ص) والحجج القائمين مقامه ، أو إجماع الأمة ، فيكون حكم الجميع في الحاصل مستفادا من القرآن (وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي ونزلنا عليك القرآن دلالة الى الرشد ، ونعمة على الخلق لما فيه من الشرائع والأحكام ، ولأنه يؤدي الى نعم الآخرة (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي بشارة لهم بالثواب الدائم ، والنعيم المقيم (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) وهو الإنصاف بين الخلق ، والتعامل بالإعتدال الذي ليس فيه ميل ولا عوج (وَالْإِحْسانِ) الى الناس وهو التفضل ، ولفظ الإحسان جامع لكل خير ، والأغلب عليه استعماله في التبرع بإيتاء المال ، وبذل السعي الجميل (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) المراد بذي القربى قرابة النبي (ص) (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) الفحشاء ما يفعله الإنسان في نفسه من القبيح مما لا يظهره ، والمنكر : ما يظهره للناس مما يجب عليهم إنكاره ، والبغي : ما يتطاول به من الظلم لغيره (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) معناه : يعظكم بما تضمنت هذه الآية من مكارم الأخلاق لكي تتذكروا وتتفكروا وترجعوا الى الحق.

٩١ ـ ٩٤ ـ لمّا تقدّم ذكر الأمر بالعدل والإحسان ، والنهي عن المنكر والعدوان ، عقّب سبحانه بالأمر بالوفاء بالعهد ، والنهي عن نقض الإيمان فقال (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) العهد الذي يجب الوفاء به ، والوعد هو الذي يحسن فعله (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) هذا نهي منه سبحانه عن نكث الأيمان وهو أن ينقضها بمخالفة موجبها ، وارتكاب ما يخالف عقدها وقوله : (بَعْدَ تَوْكِيدِها) : أي بعد عقدها وإبرامها وتوثيقها بإسم الله تعالى (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) كفيلا بالوفاء ، وذلك ان من حلف بالله فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من نقض العهد والوفاء به ، فإياكم أن تلقوه وقد نقضتم (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أي لا تكونوا كالامرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد امرار وفتل للغزل ، وهي امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها الى انتصاف النهار ثم تأمرهن ان ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها (أَنْكاثاً) جمع نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم ثم ينكث وينقض ليغزل ثانية (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي دخلا وخيانة ومكرا ، وذلك انهم كانوا يخلفون في عهودهم ويضمرون الخيانة (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي لا تنقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ، وأمة أعلى من أمة وتقديره : ولا تنكثوا أيمانكم متخذيها دغلا وغدرا وخديعة لمداراتكم قوما هم أكثر عددا ممن حلفتم له ، ولقلتكم وكثرتهم ، بل عليكم الوفاء بما حلفتم ، والحفظ لما عاهدتم عليه (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي إنما يختبركم الله بالأمر بالوفاء (وَلَيُبَيِّنَنَ) أي وليفصلن (لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ) أي في صحته (تَخْتَلِفُونَ) وليظهرن لكم حكمه حتى يعرف الحق من الباطل (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي لجعلكم مهتدين ، يعني به مشيئة القدر كما قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) بالخذلان ، أو بالحكم عليه بالضلال (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق وبالحكم عليه بالهداية وقد ذكرنا معاني الضلال والهدى في سورة البقرة (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الطاعات والمعاصي فستجازون على كل منهما

٣٦٣

بقدره (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) نهى سبحانه عن الحلف على أمر يكون باطنه بخلاف ظاهره ، فيضمر خلاف ما يظهر ، أي يضمر الخلف والحنث فيه (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) هذا مثل ضربه الله تعالى ومعناه : فتضلوا عن الرشد بعد أن تكونوا على هدى ، يقال : زل قدم فلان في أمر كذا إذا عدل عن الصواب (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي تذوقوا العذاب بما منعتم الناس عن اتباع دين الله (وَلَكُمْ) مع ذلك (عَذابٌ عَظِيمٌ) يريد عذاب الآخرة.

٩٥ ـ ١٠٠ ـ لمّا تقدّم عن نقض العهد أكد سبحانه فقال (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تخالفوا عهد الله بسبب شيء يسير تنالونه من حطام الدنيا فتكونوا قد بعتم عظيم ما عند الله بالشيء الحقير (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) معناه : ان الذي عند الله من الثواب على الوفاء بالعهود خير لكم واشرف مما تأخذونه من عرض الدنيا على نقضها (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الفرق بين الخير والشر ، والتفاوت الذي بين القليل الفاني والكثير الباقي (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) بيّن سبحانه بهذا ان العلة التي لأجلها كان الثواب خيرا من متاع الدنيا هو ان الثواب الذي عند الله يبقى ، والذي عندكم من نعيم الدنيا يفنى (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) أي لنكافئن الذين ثبتوا على الطاعات وعلى الوفاء بالعهود (أَجْرَهُمْ) وثوابهم (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بالطاعات من الواجبات والمندوبات ، فإن أفعال المكلف قد تكون طاعة وقد تكون مباحا لا يقع الجزاء عليه ولا يستحق عليه أجر ولا حمد فلذلك قال سبحانه بأحسن فإن الطاعة أحسن من المباح وهذا يدل على فساد قول من يقول انه لا يكون حسن أحسن من حسن (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) هذا وعد من الله سبحانه ، أي من عمل عملا صالحا سواء كان ذكرا أو أنثى وهو مع ذلك مؤمن مصدق بتوحيد الله ، مقرّ بصدق أنبيائه (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) قيل فيه أقوال (أحدها) ان الحياة الطيبة الرزق الحلال عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطا (وثانيها) انها القناعة والرضا بما قسم الله عن الحسن ووهب وروي ذلك عن النبي (ص) (وثالثها) انها الجنة عن قتادة ومجاهد وابن زيد قال الحسن لا يطيب لأحد حياة إلّا في الجنة وقال ابن زيد ألا ترى الى قوله يا ليتني قدمت لحياتي (ورابعها) انها رزق يوم بيوم (وخامسها) انها حياة طيبة في القبر (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) مرّ تفسيره وإنما كرّره تأكيدا (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) معناه : إذا أردت يا محمد قراءة القرآن فاستعذ بالله من شر الشيطان المرجوم المطرود الملعون ، وهذا كما يقال : إذا أكلت فاغسل يديك ، وإذا صلّيت فكبّر ، ومنه : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) والإستعاذة : استدفاع الأدنى بالأعلى على وجه الخضوع والتذلل ، وتأويله : استعذ بالله من وسوسة الشيطان عند قراءتك لتسلم في التلاوة من الزلل ، وفي التأويل من الخطل (إِنَّهُ) يعني الشيطان (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) أي تسلط وقدرة (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) بالله (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) والمعنى : أنه لا يقدر على أن يكرههم على الكفر والمعاصي (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) معناه : إنما تسلطه على الذين يطيعونه فيقبلون دعاءه ، ويتبعون اغواءه (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ) أي بسبب طاعته (مُشْرِكُونَ) بالله وقيل معناه : والذين هم بالله مشركون ، أي يشركون مع الله سبحانه غيره في العبادة.

١٠١ ـ ١٠٥ ـ ثم قال سبحانه مخبرا عن أحوال الكفار (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) معناه : واذا نسخنا آية وآتينا مكانها آية أخرى (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) معناه : والله أعلم بمصالح ما ينزل فينزل كل وقت ما توجبه المصلحة ، وقد تختلف المصالح باختلاف الأوقات ، كما تختلف باختلاف الأجناس والصفات (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي قال المشركون : إنما

٣٦٤

أنت كاذب على الله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون انه من عند الله (قُلْ) يا محمد (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) أي أنزل الناسخ جبرائيل (ع) (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) أي بالأمر الحق الصحيح الثابت (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) بما فيه من الحجج والآيات فيزدادوا تصديقا ويقينا ، ومعنى تثبيته : استدعاؤه لهم بألطافه ومعونته إلى الثبات على الإيمان والطاعة (وَهُدىً) أي وهو هدى (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي بشارة لهم بالجنة والثواب (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) يقول سبحانه : إنا نعلم ان الكفار يقولون : ان القرآن ليس من عند الله وإنما يعلم النبي (ص) بشر قال إبن عباس : قالت قريش إنما يعلمه بلعام وكان قينا بمكة روميا نصرانيا ثم الزمهم الله تعالى الحجة وأكذبهم بأن قال (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) أي لغة الذي يضيفون إليه التعليم ويميلون إليه القول أعجمية أي لسان هذا البشر الذي يزعمون انه يعلمك أعجمي لا يفصح ولا يتكلم بالعربية ، فكيف يتعلم منه ما هو في أعلى طبقات البيان (وَهذا) القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر بين لا يشكك ، يعني اذا كانت العرب تعجز عن الإتيان بمثله وهو بلغتهم فكيف يأتي الأعجمي بمثله؟ ثم اتبع سبحانه هذه الآية بذكر الوعيد للكفار على ما قالوه فقال (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بحجج الله التي أظهرها والمعجزات التي صدق بها قومك يا محمد (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي لا يهديهم الى طريق الجنة بدلالة انه إنما نفى هداية من لا يؤمن فالظاهر انه أراد بذلك الهدى الذي يكون ثوابا على الإيمان لا الهداية التي في قوله فأما ثمود فهديناهم ثم بيّن سبحانه ان هؤلاء هم المفترون فقال (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أي إنما يخترع الكذب الذين لا يصدقون بدلائل الله تعالى دون من آمن بها ، لأن الإيمان يحجز عن الكذب (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) لا أنت يا محمد ، فحصر فيهم الكذب بمعنى ان الكذب لازم لهم ، وعادة من عاداتهم وهذا كما تقول كذبت وأنت كاذب فيكون قولك أنت كاذب زيادة في الوصف بالكذب. وفي الآية زجر عن الكذب حيث أخبر سبحانه انه إنما يفتري الكذب من لا يؤمن ، وقد روي مرفوعا انه قيل : يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال : قد يكون ذلك قيل : يا رسول الله المؤمن يسرق؟ قال : قد يكون ذلك قيل : يا رسول الله المؤمن يكذب؟ قال : لا ثم قرأ هذه الآية.

١٠٦ ـ النزول

نزل قوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) في جماعة أكرهوا ، وهم : عمّار وياسر أبوه وأمّه سميّة ، وصهيب وبلال وخبّاب عذبوا ، وقتل أبو عمار وأمه ، وأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه ، ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّا ، ان عمارا ملىء إيمانا من قرنه الى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، وجاء عمار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال ما وراءك؟ فقال : شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ويقول : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، فنزلت الآية ، عن ابن عباس وقتادة.

١٠٦ ـ ١١٠ ـ (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) بأن يرتد عن الإسلام ، وشرح بالكفر صدرا ، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) فتكلم بكلمة الكفر على وجه التقية مكرها (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ) أي ساكن (بِالْإِيمانِ) ثابت عليه ، فلا حرج عليه في ذلك (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي من اتسع قلبه للكفر ، وطابت نفسه به (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ

٣٦٥

مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وله العذاب في الآخرة. ثم أشار سبحانه إلى العذاب العظيم فقال (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا) أي آثروا (الْحَياةَ الدُّنْيا) والتلذذ فيها ، والركون إليها (عَلَى الْآخِرَةِ) عنى بذلك انهم فعلوا ما فعلوه للدنيا طلبا لها دون طلب الآخرة (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) قد سبق معناه : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) قد سبق معنى الطبع على القلوب ، والسمع والأبصار في سورة البقرة (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) وصفهم بعموم الغفلة مع ان الخواطر تزعجهم لجهلهم عما يؤدي إليه حالهم في الآخرة ، وقيل : أراد انهم بمنزلة الغافلين فيكون تهجينا لهم وذما ثم قال (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) هذا تأكيد لحكم الخسار عليهم ، يعني إنهم هم المغبونون إذ حرموا الجنة ونعيمها وعذبوا في النار (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي عذبوا في الله ، وارتدوا على الكفر فاعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم (ثُمَّ جاهَدُوا) مع النبي (ص) (وَصَبَرُوا) على الدين والجهاد (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي من بعد التفوه بكلمة الكفر (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

اتصلت هذه الآية الأخيرة بقوله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فبيّن سبحانه حالهم بعد ما تخلصوا من المشركين وهاجروا وجاهدوا وقيل : انه لمّا تقدّم ذكر الخاسرين اتبعه سبحانه بذكر من ربحت صفقته وهو من هاجر وجاهد.

١١١ ـ ١١٤ ـ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) أراد به يوم القيامة (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي تخاصم الملائكة عن نفسها ، وتحتج بما ليس فيه حجة وتقول : والله ربنا ما كنا مشركين ، ويقول اتباعهم : ربنا هؤلاء اضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ، ويحتمل أن يكون المراد انها تحتج عن نفسها بما تقدر به إزالة العقاب عنها (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي جزاء ما عملت من خير وشر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في ذلك (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) أي مثل قرية (كانَتْ آمِنَةً) أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم (مُطْمَئِنَّةً) قارة ساكنة بأهلها لا يحتاجون الى الإنتقال عنها بخوف أو ضيق (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي يحمل إليها الرزق الواسع من كل موضع ومن كل بلد كما قال سبحانه : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) أي فكفر أهل تلك القرية بأنعم الله ولم يؤدوا شكرها (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي فأخذهم الله بالجوع والخوف بصنيعهم وسوء فعالهم ، وسمى أثر الجوع والخوف لباسا لأن أثر الجوع والهزل يظهر على الإنسان كما يظهر اللباس وقيل : لأنهم شملهم الجوع والخوف كما يشمل اللباس البدن وقيل : ان هذه القرية هي مكة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا القد والعلهز وهو الوبر يخلط بالدم والقراد ثم يؤكل وهم مع ذلك خائفون وجلون من النبي (ص) وأصحابه يغيرون على قوافلهم وذلك حين دعا النبي (ص) عليهم فقال : اللهم أشدد وطأتك على مضر ، واجعل عليهم سنين كسني يوسف (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) يعني أهل مكة بعث الله إليهم رسولا من صميمهم ليتبعوه لا من غيرهم (فَكَذَّبُوهُ) وجحدوا نبوته (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) أي في حال كونهم ظالمين ، وعذابهم ما حل بهم من الجوع والخوف المذكورين في الآية المتقدمة ، وما نالهم يوم بدر وغيره من القتل ومن قال ان المراد بالقرية غير مكة قال هذه صورة القرية المذكورة. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) صيغته صيغة الأمر والمراد به الإباحة أي كلوا مما أعطاكم الله من الغنائم وأحلها لكم (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) فيما خلقه لكم وأحله لكم (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وهذه الآية مفسّرة في سورة البقرة.

٣٦٦

١١٥ ـ لمّا ذكر سبحانه إباحة الطيبات عقّبه بتحريم المحرمات فقال (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) وهو ما يموت من الحيوان (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) خصّ اللحم لأنه المعظم والمقصود ، وإلّا فجملته محرّمة (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ما ذبح لغير الله (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى أكل هذه الأشياء ضرورة مجاعة ، وقيل ضرورة إكراه (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) غير باغ اللذة ولا عاد سدّ الجوع (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وإنما ذكر المغفرة لأحد الأمرين : إمّا ليبيّن انه اذا كان يغفر المعصية فانه لا يؤاخذ بما رخّص فيه ، وإما لأنه وعد المغفرة عند الإنابة إلى طاعة الله.

١١٦ ـ ١١٩ ـ لمّا تقدّم ذكر ما أحلّه الله سبحانه لهم ، وحرّمه عليهم ، عقّبه سبحانه بالنهي عن مخالفة أوامره ونواهيه في التحليل والتحريم فقال (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) وتقديره : لوصف ألسنتكم الكذب (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) أي لا تقولوا لما حللتموه بأنفسكم مثل الميتة : هذا حلال ، ولما حرمتموه مثل السائبة : هذا حرام (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي لتكذبوا على الله في إضافة التحريم إليه (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي لا ينجون من عذاب الله ولا ينالون خيرا (مَتاعٌ قَلِيلٌ) معناه : الذي هم فيه من الدنيا بشيء قليل ينتفعون به أياما قلائل (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) يعني اليهود (حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يعني بذلك ما ذكره في سورة الأنعام من قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الآية ، عن الحسن وقتادة وعكرمة ، وعنى بقوله : من قبل نزول هذه الآية ، لأن ما في سورة الأنعام نزل قبل هذه الآية (وَما ظَلَمْناهُمْ) بتحريم ذلك عليهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالعصيان والكفر بنعم الله تعالى ، والجحود بأنبيائه ، واستحقوا بذلك تحريم هذه الأشياء عليهم لتغيير المصلحة عند كفرهم وعصيانهم ثم ذكر سبحانه التائبين بعد تقدم الوعد والوعيد فقال (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) الذي خلقك يا محمد (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) أي المعصية (بِجَهالَةٍ) أي بداعي الجهل فإنه يدعو إلى القبيح ، كما ان داعي العلم يدعو إلى الحسن وقيل : بجهالة السيئات ، أو بجهالتهم للعاقبة ، وقيل : بجهالة إنها سوء ، وقيل : الجهالة : هو أن يعجل بالإقدام عليها ويعد نفسه التوبة عنها (ثُمَّ تابُوا) عن تلك المعصية (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) نياتهم وأفعالهم (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي من بعد التوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وأعاد قوله : ان ربك للتأكيد ، وليعود الضمير في قوله : من بعدها إلى الفعلة.

(النظم)

إنما اتصل قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) بما تقدم ذكره من التحريم والتحليل ليبين ان ما كانوا يحرمونه ويحللونه بزعمهم ليس في التوراة كما انه ليس ذلك في القرآن وقيل ليبين انه إذا لم يحرم على اليهود جميع الطيبات بعصيانهم فكيف يحرم على المسلمين ذلك.

١٢٠ ـ ١٢٤ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) اختلف في معناه فقيل : قدوة ومعلما للخير قال ابن الاعرابي : يقال للرجل العالم أمة ، وهو قول أكثر المفسرين وقيل : أراد أمام هدى عن قتادة وقيل : سماه أمة لأن قوام الأمة كان به وقيل : لأنه قام بعمل أمته وقيل : لأنه إنفرد في دهره بالتوحيد فكان مؤمنا وحده والناس كفارا عن مجاهد (قانِتاً لِلَّهِ) أي مطيعا له ، دائما على عبادته عن ابن مسعود وقيل مصليا عن الحسن (حَنِيفاً) أي مستقيما على الطاعة وطريق الحق وهو الإسلام (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بل كان موحدا (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) أي لأنعم الله ، معترفا بها (اجْتَباهُ) الله : أي اختاره الله واصطفاه (وَهَداهُ إِلى

٣٦٧

صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي دلّه إلى الدين المستقيم وهو الإسلام والتوحيد (وَآتَيْناهُ) أي أعطيناه (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي نعمة سابغة في نفسه وفي أولاده وهو قول هذه الأمة كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وقيل : هي النبوة والرسالة عن الحسن وقيل هي انه ليس من أهل دين الا وهو يرضاه ويتولاه عن قتادة (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ولم يقل : لفي أعلى منازل الصالحين مع اقتضاء حاله ذلك ترغيبا في الصلاح ، (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمد (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي أمرناك باتباع ملة إبراهيم (حَنِيفاً) أي مستقيم الطريقة في الدعاء إلى توحيد الله ، وخلع الأنداد له ، وفي العمل بسنته (وَما كانَ) إبراهيم (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ومتى قيل : إن نبينا كان أفضل منه فكيف أمر الفاضل باتباع المفضول؟ فجوابه : ان إبراهيم (ع) سبق إلى اتباع الحق ، ولا يكون في سبق المفضول إلى متابعة الحق زراية على الفاضل في اتباعه (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) معناه : إنما جعل السبت لعنة ومسخا على الذين اختلفوا فيه فحرموه ثم استحلوه فعلنهم الله ومسخهم عن الحسن (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور دينهم ، ويفصل بين المحق والمبطل منهم.

١٢٥ ـ ١٢٨ ـ ثم أمر سبحانه نبيّه بالدعاء إلى الحق فقال (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) أي ادع إلى دينه لأنه الطريق إلى مرضاته (بِالْحِكْمَةِ) أي بالقرآن وسمي القرآن حكمة لأنه يتضمن الأمر بالحسن ، والنهي عن القبيح (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) معناه : الوعظ الحسن ، وهو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه ، والتزهيد في فعله ، وفي ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع وقيل : إن الحكمة هي النبوة والموعظة الحسنة مواعظ القرآن عن ابن عباس (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ناظرهم بالقرآن وبأحسن ما عندك من الحجج وتقديره بالكلمة التي هي أحسن والمعنى أفتل المشركين واصرفهم عما هم عليه من الشرك بالرفق والسكينة ، ولين الجانب في النصيحة ، ليكونوا أقرب إلى الإجابة فإن الجدل هو فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج وقيل : هو ان يجادلهم على قدر ما يحتملونه كما جاء في الحديث ، أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن دينه (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي القابلين للهدى ، وهو يأمرك في الفريقين بما فيه الصلاح (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) معناه : وان أردتم معاقبة غيركم على وجه المجازاة والمكافأة فعاقبوا بقدر ما عوقبتم به ولا تزيدوا عليه ، وقالوا ان المشركين لما مثلوا بقتلى أحد ، وبحمزة بن عبد المطلب ، فشقوا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة كبده فجعلت تلوكه ، وجدعوا أنفه وأذنه وقطعوا مذاكيره ، قال المسلمون : لئن أمكننا الله منهم لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات ، فنزلت الآية (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) أي تركتم المكافأة والقصاص وجرعتم مرارته (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) معناه : الصبر خير وأنفع للصابرين لما فيه من جزيل الثواب (وَاصْبِرْ) يا محمد فيما تبلغه من الرسالة ، وفيما تلقاه من الأذى (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي وليس صبرك إلّا بتوفيق الله واقداره ، وتيسيره وترغيبه فيه (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي ولا تحزن على المشركين في اعراضهم عنك فإنه يكون الظفر والنصر لك عليهم ولا عتب عليك في اعراضهم فقد بلغت ما أمرت به ، وقضيت ما عليك (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا يكن صدرك في ضيق من مكرهم بك وبأصحابك فإن الله سبحانه يرد كيدهم في نحورهم ، ويحفظكم من شرورهم (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والفواحش والكبائر بالنصرة والحفظ والكلاءة (وَ) مع (الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) قال الحسن : اتقوا ما حرّم عليهم ، واحسنوا فيما فرض عليهم.

٣٦٨

سورة الاسراء مكية

عدد آياتها مائة واحدى عشرة آية

١ ـ ٣ ـ (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) سبحان كلمة تنزيه وإبراء لله عزّ اسمه عما لا يليق به من الصفات ، وقد يراد به التعجيب ، عنى سبحان الذي سيّر عبده محمدا (ص) (لَيْلاً) قالوا : كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال الحسن وقتادة : كان الإسراء في نفس المسجد الحرام (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) يعني بيت المقدس ، وإنما قال ؛ الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار والأثمار والنبات والأمن والخصب حتى لا يحتاجوا إلى أن يجلب إليهم وأيضا صار مقدّسا عن الشرك ، لأنه لما صار متعبّدا للأنبياء ، ودار مقام لهم ، تفرّق المشركون عنهم ، فصار مطهّرا من الشرك ؛ والتقديس : التطهير ، فقد اجتمع فيه بركات الدين والدنيا (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي من عجائب حججنا ، ومنها : أسراؤه في ليلة واحدة من مكة إلى هناك ، ومنها : ان أراه الأنبياء واحدا بعد واحد ، وان عرج به إلى السماء ، وغير ذلك من العجائب التي أخبر بها الناس (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال من صدّق بذلك أو كذب (الْبَصِيرُ) بما فعل من الإسراء والمعراج (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي وجعلنا التوراة حجة ودلالة وبيانا وإرشادا لبني إسرائيل يهتدون به (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي أمرهم أن لا يتخذوا من دوني معتمدا يرجعون إليه في النوائب (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي أولاد من حملنا مع نوح في السفينة فأنجيناه من الطوفان (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) معناه : ان نوحا كان عبدا لله كثير الشكر ، وكان إذا لبس ثوبا أو أكل طعاما ، أو شرب ماء حمد الله وشكر له وقال : الحمد لله ، وقيل : انه كان يقول في ابتداء الأكل والشرب : بسم الله ، وفي انتهائه : الحمد لله ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي جعفر عليه‌السلام : أن نوحا كان إذا أصبح وأمسى قال : اللهم إني أشهدك ان ما أصبح أو أمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك ، لك الحمد ولك الشكر بها عليّ حتى ترضى ، وبعد الرضا ، وهذا كان شكره.

النظم

وجه اتصال قوله : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) بما قبله أن المعنى فيه : سبحان الذي أسرى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأراه الآيات كلها كما أرى موسى الآيات والمعجزات الباهرات ، وقيل : ان معناه : ان كونك نبيّا ليس ببدع ، فقد آتيناك الكتاب والحجج كما آتينا موسى التوراة ، فلم أقرّوا به وأنكروا أمرك والطريق فيهما واحد؟! وقيل : ان معناه : انهم كفروا بموسى كما كفروا بما أخبرتهم به من أسرائك.

٤ ـ ٨ ـ لمّا تقدّم أمره سبحانه لبني إسرائيل عقّب ذلك بذكر ما كان منهم ، وما جرى عليهم فقال (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أخبرناهم وأعلمناهم (فِي الْكِتابِ) أي في التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أي حقا لا شك فيه أن اخلافكم سيفسدون في البلاد التي تسكنونها كرتين ، وهي بيت المقدس ، كان فسادهم الأول قتل زكريا ، ثم سلّط الله عليهم سابور ذا الأكتاب ملكا من ملوك فارس في قتل زكريا ، وسلط عليهم في قتل يحيى بخت نصر وهو رجل خرج من بابل (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) أي ولتستكبرن ولتظلمن الناس ظلما عظيما ، والعلو : نظير العتو هنا وهو الجرأة على الله تعالى ، والتعرض لسخطه (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) معناه : فإذا جاء وقت أولى المرتين اللتين تفسدون فيهما (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي سلّطنا عليكم عبادا لنا

٣٦٩

أولي شوكة وقوة ونجدة ، وخلينا بينكم وبينهم خاذلين لكم (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) أي فطافوا وسط الديار يترددون وينظرون هل بقي منهم أحد لم يقتلوه (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) أي موعودا كائنا لا خلف فيه (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي رددنا لكم يا بني إسرائيل الدولة ، وأظهرناكم عليهم ، وعاد ملككم على ما كان عليه (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي وأكثرنا لكم أموالكم وأولادكم ، ورددنا لكم العدة والقوة (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي أكثر عددا وأنصارا من أعدائكم (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) معناه : إن أحسنتم في أقوالكم وأفعالكم فنفع إحسانكم عائد عليكم ، وثوابه واصل إليكم ، تنصرون على أعدائكم في الدنيا ، وتثابون في العقبى (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) معناه : وإن أسأتم فقد أسأتم إلى أنفسكم أيضا لأن مضرة الإساءة عائدة إليها (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي جاء وعد فسادكم في الأرض في المرة الأخيرة ، أي الوقت الذي يكون فيه ما اخبر الله عنكم من الفساد والعدوان على العباد (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي غزاكم أعداؤكم وغلبوكم ودخلوا دياركم ليسؤوكم بالقتل والأسر (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) أي بيت المقدس ونواحيه ، فكنى بالمسجد وهو المسجد الأقصى عن البلد كما كنى بالمسجد الحرام عن الحرم ومعناه : وليستولوا على البلد لأنه لا يمكنهم دخول المسجد إلّا بعد الإستيلاء (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) دلّ بهذا على ان في المرة الأولى قد دخلوا المسجد أيضا وإن لم يذكر ذلك ومعناه : وليدخل هؤلاء المسجد كما دخله أولئك أول مرة (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) أي وليدمروا ويهلكوا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا (عَسى رَبُّكُمْ) يا بني إسرائيل (أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد انتقامه منكم ان تبتم ورجعتم إلى طاعته (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) معناه : وإن عدتم إلى الفساد عدنا بكم إلى العقاب لكم ، والتسليط عليكم كما فعلناه فيما مضى ، عن ابن عباس قال : انهم عادوا بعد الأولى والثانية فسلّط الله عليهم المؤمنين يقتلونهم ويأخذون منهم الجزية إلى يوم القيامة (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي سجنا وحبسا

٩ ـ ١٢ ـ (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) معناه : ان هذا القرآن يهدي إلى الديانة والملة والطريقة التي هي أشد استقامة وقيل : يرشد إلى الكلمة التي هي أعدل الكلمات واصوبها وهي كلمة التوحيد وقيل يهدي إلى الحال التي هي أعدل الحالات وهي توحيد الله والإيمان به وبرسله والعمل بطاعته عن الزجاج (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ) أي بأن لهم (أَجْراً كَبِيراً) أي ثوابا عظيما على طاعاتهم (وَ) يبشرهم أيضا ب (أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالنشأة الآخرة (أَعْتَدْنا لَهُمْ) أي هيأنا لهم (عَذاباً أَلِيماً) وهو عذاب النار (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) ان الإنسان ربما يدعو في حال الزجر والغضب على نفسه وأهله وماله بما لا يحب ان يستجاب له فيه ، كما يدعو لنفسه بالخير ، فلو أجاب الله دعاءه لأهلكه لكنه لا يجيب بفضله ورحمته (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يعجل بالدعاء في الشر عجلته بالدعاء في الخير عن مجاهد ، وقيل : ضجرا لا صبر له على ضرّاء ولا على سرّاء ، عن ابن عباس ، وروي انه أراد به آدم عليه‌السلام ، لما انتهت النفخة إلى سرّته أراد أن ينهض فلم يقدر ، فشبّه الله سبحانه إبن آدم بأبيه في الإستعجال ، وطلب الشيء قبل وقته (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي دلالتين يدلان على وحدانية خالقهما لما في كل واحد منهما من الفوائد من الكسب بالنهار والإستراحة بالليل ، والزيادة في أجزاء أحدهما بالنقصان من أجزاء الآخر ، ولأن كل واحد منهما ينقضي لمجيء الآخر وذلك يدل على حدوثهما ، وعلى ان لهما محدثا قادرا عالما ، وقد علمنا ضرورة أن أحدا من البشر لم يحدثهما لعجز البشر عن ذلك ، فدل على انه من صنع القديم القادر لذاته ، العالم لذاته ، الذي ليس كمثله شيء ، ولا يتعذر عليه شيء (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ)

٣٧٠

وهي القمر ، أي طمسنا نورها بما جعلنا فيها من السواد (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) يعني الشمس (مُبْصِرَةً) أي نيرة مضيئة (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي لتسكنوا بالليل ، وتطلبوا الرزق بأنواع التصرف في النهار (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لتعلموا بالليل والنهار عدد السنين والشهور ، (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي ميّزناه تمييزا ظاهرا بينا لا يلتبس ، وبينّاه تبيانا شافيا لا يخفى.

١٣ ـ ١٤ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر الوعيد ، أتبع ذلك بذكر كيفيته فقال (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) معناه : والزمنا كل إنسان عمله من خير أو شر في عنقه ، يريد جعلناه كالطوق في عنقه فلا يفارقه ، وإنما قيل للعمل طائرا على عادة العرب في قولهم : جرى طائره بكذا ، ومثله قوله : سبحانه (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) أي يرى ذلك الكتاب (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي مفتوحا معروضا عليه ليقرأه ويعلم ما فيه (اقْرَأْ كِتابَكَ) أي يقال له : اقرأ كتابك عن أبي عبد الله (ع) قال : يذكر العبد جميع أعماله وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي محاسبا ، وإنما جعله محاسبا لنفسه لأنه إذا رأى أعماله يوم القيامة كلها مكتوبة ، ورأى جزاء أعماله مكتوبا بالعدل لم ينقص عن ثوابه شيء ، ولم يزد على عقابه شيء أذعن عند ذلك وخضع وتضرع واعترف ، ولم يتهيأ له حجة ولا إنكار ، وظهر لأهل المحشر انه لا يظلم (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي من اهتدى في الدنيا إلى دين الله وطاعته فمنفعة اهتدائه راجعة إليه (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن ضل عن الدين في الدنيا فضرر ضلاله راجع إلى نفسه ، وعقوبة ضلاله على نفسه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل حاملة حمل أخرى ، أي ثقل ذنوب غيرها ، ولا يعاقب أحد بذنوب غيره (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) معناه : وما كنا معذبين قوما بعذاب الإستئصال إلّا بعد الإعذار إليهم ، والإنذار لهم بأبلغ الوجوه وهو إرسال الرسل إليهم.

١٦ ـ ٢٢ ـ (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) معناه : وإذا أردنا أن نهلك أهل قرية بعد قيام الحجة عليهم ، وإرسال الرسل إليهم ، أمرنا مترفيها : أي رؤساءها وساداتها بالطاعة واتباع الرسل أمرا بعد أمر نكرره عليهم ، وبينة بعد بينة نأتيهم بها إعذارا للعصاة ، وإنذارا لهم ، وتوكيدا للحجة ، ففسقوا فيها بالمعاصي ، وأبوا إلّا تماديا في العصيان والكفران (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي فوجب حينئذ عليها الوعيد (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي أهلكناها إهلاكا ، وإنما خصّ المترفين وهم المنعمون والرؤساء بالذكر لأن غيرهم تبع لهم ، فيكون الأمر لهم أمرا لأتباعهم ، معناه : أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا ، ومثله : أمرتك فعصيتني (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) أي من الأمم الكثيرة المكذبة (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) أي من بعد زمان نوح إلى زمانك هذا لأنه كم تفيد التكثير ، كما ان رب تفيد التقليل والقرن : مائة وعشرون سنة (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي كفى بربك عالما بذنوب خلقه (بَصِيراً) بها يجازيهم عليها ولا يفوته شيء منها. ثم بيّن سبحانه انه يدبر عباده بحسب ما يراه من المصلحة فقال (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) أي النعم العاجلة وهي الدنيا. فعبّر عنها بصفتها (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) من البسط والتقتير ، وعلق ذلك بمشيئته لا بمشيئة العبد ، فقد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله فلا يعطيه لكونه مفسدة (لِمَنْ نُرِيدُ) أيّ لمن نريد إعطاءه. بيّن بذلك أنه ربما يكون حريصا يريد الدنيا فلا يعطى وإن أعطي أعطي قليلا (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها) أي يصير بصلاها ،

٣٧١

ويحترق بنارها (مَذْمُوماً) ملوما (مَدْحُوراً) مبعدا من رحمة الله (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) أي ومن أراد خير الآخرة ، ونعيم الجنة (وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي فعل الطاعات ، وتجنب المعاصي وهو مع ذلك مصدق بتوحيد الله تعالى ، مقرّ بأنبيائه (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) يضاعف حسناتهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) أي كل واحد من هذين الفريقين ممن يريد الدنيا وممن يريد الآخرة نمدهم : أي نزيدهم (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) أي نعمة ربك ورزقه (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) معناه : وما كان رزق ربك محبوسا عن الكافر لكفره ، ولا عن الفاسق لفسقه (انْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بأن جعلنا بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء ، وبعضهم موالي وبعضهم عبيدا ، وبعضهم أصحاء وبعضهم مرضى ، على حسب ما علمناه من المصالح (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) أي درجاتها ومراتبها أعلى وأفضل وهي مستحقة على قدر الأعمال ، فينبغي أن تكون رغبتهم في الآخرة وسعيهم لها أكثر ، وقد روي ان ما بين أعلى درجات الجنة وأسفلها ما بين السماء والأرض (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) معناه : لا تجعل أيها الإنسان مع الله إلها آخر في اعتقادك وإقرارك ، ولا في عبادتك ، ولا في رغبتك ورهبتك (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) معناه : فإنك إن فعلت ذلك قعدت وبقيت ما عشت مذموما على لسان العقلاء ، مخذولا ولا ناصر لك ، يمنع الله نصرته عنك ، ويكلك إلى ما أشركت به ، وقيل : معنى القعود الذل والخزي والخسران والعجز.

٢٣ ـ ٢٥ ـ لمّا تقدّم النهي عن الشرك والمعاصي عقّب سبحانه بالأمر بالتوحيد والطاعات فقال سبحانه (وَقَضى رَبُّكَ) أي أمر ربك أمرا باتا (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) معناه : أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أوصى بالوالدين إحسانا (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) يعني به الكبر في السن والمعنى : إن عاشا عندك أيها الإنسان المخاطب حتى يكبرا ، أو عاش أحدهما حتى يكبر ، يريد ان بلغا في السن مبلغا يصيران بمنزلة الطفل الذي يحتاج إلى متعهد ، وخصّ حال الكبر وإن كان من الواجب طاعة الوالدين على كل حال ، لأن الحاجة أكثر في تلك الحال إلى التعهد والخدمة (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) عن أبي عبد الله (ع) قال : أدنى العقوق أف ، ولو علم الله شيئا أيسر منه وأهون منه لنهى عنه ، وفي خبر آخر : فليعمل العاق ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ، فالمعنى : لا تؤذيهما بقليل ولا كثير (وَلا تَنْهَرْهُما) أي لا تزجرهما باغلاظ وصياح (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أي وخاطبهما بقول رقيق لطيف ، حسن جميل ، بعيد عن اللغو والقبيح ، يكون فيه كرامة لهما (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي وبالغ في التواضع والخضوع لهما قولا وفعلا برا بهما ، وشفقة عليهما ، والمراد بالذل ههنا اللين والتواضع دون الهوان من خفض الطائر جناحه إذا ضم فرخه إليه ، فكأنه سبحانه قال : ضم أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير وقال أبو عبد الله (ع) معناه : لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برأفة ورحمة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ، ولا يديك فوق أيديهما ، ولا تتقدم قدامهما (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) معناه : ادع لهما بالمغفرة والرحمة في حياتهما وبعد مماتهما جزاء لتربيتهما إياك في صباك وذكر حال الكبر لأنهما أحوج في تلك الحال إلى البر لضعفهما ، وكونهما كلّا على الولد (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ) أي أكثر معلوما (بِما فِي نُفُوسِكُمْ) معناه : انه أعلم بجميع ما في ضمائركم (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) أي طائعين لله (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) والأواب : التواب المتعبد الراجع عن ذنبه ، وقيل : ان الأوابين المطيعون المحسنون عن قتادة ، وقيل : هم الراجعون إلى الله فيما ينوبهم عن ابن عباس.

٣٧٢

٢٦ ـ ٣٠ ـ ثم حثّ سبحانه نبيّه (ص) إيتاء الحقوق لمن يستحقها على كيفية الإنفاق فقال (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) المراد قرابة الرسول عن السدي قال : إن علي بن الحسين (ع) قال لرجل من أهل الشام حين بعث به عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية : أقرأت القرآن؟ قال : نعم قال : أما قرأت (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)؟ قال : نعم. وعن أبي سعيد الخدري قال : لمّا نزل قوله (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أعطى رسول الله (ص) فاطمة فدكا ، قال عبد الرحمن بن صالح : كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى يسأله عن قصة فدك ، فكتب إليه عبد الله بهذا الحديث ، فردّ المأمون فدكا إلى ولد فاطمة (ع) (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) معناه : وآت المسكين حقه الذي جعله الله له من الزكاة وغيرها ، وآت المجتاز المنقطع عن بلاده حقه أيضا (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) المبذر الذي ينفق المال في غير حقه (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) معناه : إن المسرفين اتباع الشياطين سالكون طريقهم (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي كان الشيطان في قديم مذهبه كثير الكفر مرة بعد أخرى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أي وان تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك بإيتاء حقوقهم عند مسألتهم إيّاك لأنك لا تجد ذلك حياء منهم (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) أي لتبتغي الفضل من الله ، والسعة التي يمكنك معها البذل بأمل تلك السعة وذلك الفضل (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) أي عدهم عدة حسنة ، وقل لهم قولا سهلا لينا يتيسر عليك (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) أي لا تكن ممن لا يعطي شيئا ولا يهب فتكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل ، وهذا مبالغة في النهي عن الشح والإمساك (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أي ولا تعط أيضا جميع ما عندك فتكون بمنزلة من بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف (فَتَقْعُدَ مَلُوماً) تلوم نفسك وتلام (مَحْسُوراً) منقطعا به وليس عندك شيء (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسع مرة ، ويضيق مرة بحسب المصلحة مع سعة خزائنه (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي عالما بأحوالهم ، بصيرا بمصالحهم ، فيبسط على واحد ويضيق على آخر ، يدبرهم على ما يراه من الصلاح.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم فقال (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) أي بناتكم (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) أي خوف فقر (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) أخبر سبحانه انه متكفل برزق أولادهم ورزقهم (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) يعني إن قتلهم في الجاهلية كان إثما عظيما عند الله وهو اليوم كذلك (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) وهو وطء المرأة حراما بلا عقد (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي معصية كبيرة عظيمة والمراد : انه كان عندهم في الجاهلية فاحشة وهو الآن كذلك ومثل هذا في القرآن كثير (وَساءَ سَبِيلاً) أي وبئس الطريق الزنا وفيه إشارة إلى أن العقل يقبح الزنا من حيث انه لا يكون للولد نسب ، إذ ليس بعض الزناة أولى به من بعض ، فيؤدي إلى قطع الأنساب ، وابطال المواريث ، وابطال صلة الرحم ، وحقوق الآباء على الأولاد ، وذلك مستنكر في العقول ؛ وعن عثمان بن الخطاب : سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : سمعت رسول الله (ص) يقول في الزنا ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأما اللواتي في الدنيا : فيذهب بنور الوجه ، ويقطع الرزق ، ويسرع الفناء ، وأما اللواتي في الآخرة : فغضب الرب ، وسوء الحساب ، والدخول في النار أو الخلود في النار (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) وهو أن يجب عليه القتل أما لكفره ، أو ردته ، أو لأنه قتل نفسا بغير حق ، أو زنى وهو محصن (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) بغير حق (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي قد أثبتنا لوليه سلطان القود على القاتل ، أو الديّة ، أو العفو (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) مرّ تفسيره قبل (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي

٣٧٣

هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فسّرناه في سورة الأنعام (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) في كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد ، وقد يجب الشيء أيضا بالنذر والعهد به وان لم يجب إبتداء وإنما يجب عند العقد (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) عنه للجزاء عليه (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) أي أتمّوه ولا تبخسوا منه ، وأوفوا الناس حقوقهم إذا كلتم عليهم (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ) وهو الميزان صغر أم كبر (الْمُسْتَقِيمِ) الذي لا بخس فيه ولا غبن (ذلِكَ خَيْرٌ) أي خير ثوابا (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي وأحسن عاقبة في الآخرة ومرجعا.

٣٦ ـ ٤٠ ـ ثم قال سبحانه (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ومعناه : لا تقل سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم ترى ولا علمت ولم تعلم ، عن ابن عباس وقتادة ، وقيل معناه : لا تقل في قفا غيرك كلاما ، أي إذ مرّ بك فلا تغتابه ، عن الحسن ، وقيل : هو شهادة الزور ، عن محمد بن الحنفية ، والأصل أنه عام في كل قول وفعل أو عزم يكون على غير علم ، فكأنه سبحانه قال : لا تقل إلّا ما تعلم أنه مما يجوز أن يقال ، ولا تفعل إلّا ما تعلم انه مما يجوز أن تفعل ، ولا تعتقد إلّا ما يجوز أن يعتقد ، وقد استدل جماعة من أصحابنا بهذا على أن العمل بالقياس وبخبر الواحد غير جائز لأنهما لا يوجبان العلم ، وقد نهى الله سبحانه عن اتباع ما هو غير معلوم (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) معناه : ان السمع يسأل عما سمع ، والبصر عما رأى ، والقلب عما عزم عليه ذكر سبحانه السمع والبصر والفؤاد والمراد ان أصحابها هم المسؤولون ولذلك قال : (كُلُّ أُولئِكَ) قال رسول الله (ص): لا يزول قدم عبد يوم القيامة بين يدي الله عزوجل حتى يسأله عن أربع خصال عمرك فيما أفنيته ، وجسدك فيما أبليته ، وما لك من أين كسبته وأين وضعته ، وعن حبنا أهل البيت (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) معناه : لا تمش على وجه الأشر والبطر والخيلاء والتكبر (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) هذا مثل ضربه الله تعالى قال : إنك أيها الإنسان لن تشق الأرض من تحت قدمك بكبرك ، ولن تبلغ الجبال بتطاولك وإنما قال ذلك لأن من الناس من يمشي في الأرض بطرا يدق قدميه عليها ليري بذلك قدرته وقوته ، ويرفع رأسه وعنقه ، فبيّن سبحانه انه ضعيف مهين لا يقدر أن يخرق الأرض بدق قدميه عليها حتى ينتهي إلى آخرها ، وان طوله لا يبلغ طول الجبال وان كان طويلا ، علّم الله سبحانه عباده التواضع والمروة والوقار (كُلُّ ذلِكَ) إشارة إلى جميع ما تقدم ذكره مما نهى الله سبحانه عنه في هذه الآيات (كانَ سَيِّئُهُ) أي معصيته (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) له سبحانه يكرهها ولا يريدها ولا يرضاها (ذلِكَ) الذي تقدّم ذكره من الأوامر والنواهي (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ) يا محمد (مِنَ الْحِكْمَةِ) المؤدية إلى المعرفة بالحسن والقبح والفرق بينهما (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) في اقرارك وقولك ، والخطاب للنبي (ص) والمراد به غيره ليكون أبلغ في الزجر كقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (فَتُلْقى) أي فتطرح ، بمعنى أنك إذا فعلت ذلك القيت وطرحت (فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) يلومك الناس (مَدْحُوراً) أي مطرودا مبعدا عن رحمة الله تعالى (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) هذا خطاب لمن جعل الملائكة بنات الله تعالى ومعناه : أخلصكم الله سبحانه بالبنين وخصّكم بهم واتخذ لنفسه الإناث وجعل البنات مشتركة بينهم وبينه واختصكم بالأرفع ، وجعل لنفسه الادون (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) أي كبيرا في الإثم واستحقاق العقوبة حيث أضفتم إلى الله سبحانه ما لم ترضوا لأنفسكم به وجعلتم الملائكة وهم أعلى خلق الله وأشرفهم أدون خلق الله وهم الأناث.

٤١ ـ ٤٤ ـ ثم احتج سبحانه على الذين تقدّم ذكرهم فقال (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي كرّرنا الدلائل ، وفصّلنا المعاني والأمثال

٣٧٤

وغير ذلك مما يوجب الاعتبار به (فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) أي ليتفكروا فيها فيعملوا الحق (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي وما يزداد هؤلاء الكفار عند تصريف الأمثال والدلائل لهم إلّا تباعدا عن الإعتبار ، ونفورا عن الحق (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) هم (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) أي لطلبوا طريقا يقربهم إلى مالك العرش ، والتمسوا الزلفة عنده لعلمهم بعلوّه عليهم وعظمته وقال أكثر المفسرين معناه : لطلبوا سبيلا إلى مالك العرش ومغالبته ومنازعته ، فإن المشتركين في الإلهية يكونان متساويين في صفات الذات ويطلب أحدهما مغالبة صاحبه ليصفو له الملك. ثم نزّه سبحانه نفسه من أن يكون له شريك في الإلهية فقال (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ) أي عن قولهم (عُلُوًّا كَبِيراً) إن صفاته في أعلى المراتب ولا مساوي له فيها لأنه قادر لا أحد أقدر منه ، وعالم لا أحد أعلم منه ، وخصّ العرش باضافته إليه تعظيما للعرش ، ويجوز أن يريد بالعرش الملك (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) معنى التسبيح ههنا الدلالة على توحيد الله وعدله ، وأنه لا شريك له في الإلهية ، وجرى ذلك مجرى التسبيح باللفظ ، وربما يكون التسبيح من طريق الدلالة أقوى لأنه يؤدي إلى العلم (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي ليس شيء من الموجودات إلّا ويسبح بحمد الله تعالى من جهة خلقته ، إذ كل موجود سوى القديم حادث (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أي لا تعلمون تسبيح هذه الأشياء حيث لم تنظروا فيها فتعلموا كيف دلالتها على توحيده (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) يمهلكم ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفركم (غَفُوراً) لكم إذا تبتم إليه.

٤٥ ـ ٤٨ ـ (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) يا محمد (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهم المشركون (حِجاباً مَسْتُوراً) قال الكلبي : وهم أبو سفيان والنضر بن الحرث وأبو جهل وأم جميل امرأة أبي لهب حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن ، وكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه وقيل : حجابا مستورا عن الأعين لا يبصر ، إنما هو من قدرة الله تعالى حجب نبيّه بحجاب لا يرونه ولا يراه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل : إن المعنى في الآية : جعلنا بينك وبينهم حجابا : بمعنى : باعدنا بينك وبينهم بالقرآن ، فهو لك وللمؤمنين معك شفاء وهدى ، وهو للمشركين في آذانهم وقر ، وعليهم عمى ، فهذا هو الحجاب ، عن أبي مسلم (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) مرّ تفسيره في سورة الأنعام (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) معناه : وإذا ذكرت الله بالتوحيد وأبطلت الشرك (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) أي اعرضوا عنك مدبرين نافرين ، والمعني بذلك كفار قريش وقيل : هم الشياطين ، عن ابن عباس ، وقيل معناه : إذا سمعوا بسم الله الرحمن الرحيم ولّوا ، وقيل : إذا سمعوا قول لا إله إلا الله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) معناه : ليس يخفى علينا حال هؤلاء المشركين وغرضهم في الإستماع اليك وقد علمنا سبب استماعهم (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) أي متناجون ، والمعنى : انا نعلمهم في حال ما يصغون إلى سماع قراءتك ، وفي حال ما يقومون من عندك ويتناجون فيما بينهم فيقول بعضهم : هو ساحر ، وبعضهم هو كاهن ، وبعضهم هو شاعر ، وقيل : يعني به أبا جهل ، وزمعة بن الأسود ، وعمرو بن هشام ، وحويطب ابن عبد العزى ، اجتمعوا وتشاوروا في أمر النبي (ص) فقال أبو جهل : هو مجنون وقال زمعة : هو شاعر وقال حويطب : هو كاهن ، ثم أتوا الوليد بن المغيرة وعرضوا ذلك عليه فقال : هو ساحر (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) قد سحر فاختلط عليه أمره ، وإنما يقولون ذلك للتنفير منه ثم قال سبحانه على وجه التعجيب (انْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي شبّهوا لك الأشياء فقالوا : مجنون وساحر وشاعر (فَضَلُّوا) بهذا القول عن الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ

٣٧٥

سَبِيلاً) أي لا يجدون حيلة ولا طريقا إلى بيان تكذيبك إلّا البهت الصريح.

٤٩ ـ ٥٢ ـ لمّا تقدّم ذكر البعث والنشور حكى سبحانه عن الكفار ما قالوا في إنكاره فقال (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي ترابا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) والمعنى : قال المنكرون للبعث : انا إذا متنا وانتثرت لحومنا وصرنا عظاما وترابا انبعث بعد ذلك خلقا جديدا؟ أي متجددا ، وهو انكار في صورة الإستفهام (قُلْ) يا محمد لهم (كُونُوا) إن استطعتم (حِجارَةً) في القوة ، (أَوْ حَدِيداً) في الشدة (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أي خلقا هو أعظم من ذلك عندكم وأصعب فإنكم لا تفوتون الله تعالى ، وسيحييكم بعد الموت وينشركم (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) قل لهم يا محمد يحييكم من خلقكم أوّل مرّة ، فإن من قدر على ابتداء الشيء كان على إعادته أقدر (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) فسيحرّكون إليك رؤوسهم تحرك المستهزىء المستخف المستبطىء لما تنذرهم به (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) أي متى يكون البعث (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) لأن ما هو آت قريب (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) يخرجون من قبورهم يقولون : سبحانك وبحمدك ، ولا ينفعهم في ذلك اليوم لأنهم حمدوا حين لا ينفعهم الحمد (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي وتظنون أنكم لم تلبثوا في الدنيا إلّا قليلا لسرعة انقلاب الدنيا إلى الآخرة. قال الحسن وقتادة : استقصروا مدة لبثهم في الدنيا لما يعلمون من طول لبثهم في الآخرة ، ومن المفسرين من يذهب إلى ان هذه الآية خطاب للمؤمنين وأنهم الذين يستجيبون لله بحمده ، ويحمدونه على إحسانه إليهم.

٥٣ ـ ٥٧ ـ ثم أمر سبحانه عباده باتباع الأحسن من الأقوال والأفعال فقال (وَقُلْ) يا محمد (لِعِبادِي) وهذا إضافة تخصيص وتشريف أراد به المؤمنين (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) معناه : مرهم يقولوا الكلمة التي هي أحسن الكلمات هي كلمة الشهادتين ، وكل ما ندب الله إليه من الأقوال (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي يفسد بينهم ، ويغري بعضهم ببعض ، ويلقي بينهم العداوة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ) في جميع الأوقات (لِلْإِنْسانِ) أي لآدم وذريته (عَدُوًّا مُبِيناً) مظهرا للعداوة ، ثم خاطب سبحانه الفريقين فقال (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) معناه : انه أعلم بأحوالكم فيدبر أموركم على ما يعلمه من المصلحة لكم (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) ان يشأ يرحمكم بفضله وان يشأ يعذبكم بعدله ثم عاد إلى خطاب النبي (ص) فقال (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي وما أرسلناك موكلا عليهم ، حفيظا لأعمالهم ، تدخل الإيمان في قلوبهم شاؤوا أم أبوا (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو أعلم بمن في السماوات من الملائكة ، وبمن في الأرض من الأنبياء بيّن سبحانه بهذا انه لم يختر الملائكة والأنبياء للميل إليهم ، وإنما اختارهم لعلمه بباطنهم (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) والمعنى : ان الأنبياء وان كانوا في أعلى مراتب الفضل فإنهم طبقات في ذلك وبعضهم أعلى من بعض بزيادة الدرجة والثواب ، وبالمعجزات والكتاب ، ولما كان سبحانه عالما ببواطن الأمور اختارك للنبوة وفضّلك على الأنبياء ، وخصّك بخصائص لم يعطها أحدا ، وختم بك النبوة. ثم قال (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) قال الزجاج : معنى ذكر داود هنا انه يقول : لا تنكروا تفضيل محمد (ص) واعطاءه القرآن ، فقد أعطينا داود الزبور ، ثم قال سبحانه لنبيه (ص) (قُلِ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) انها آلهة عند ضر ينزل بكم ليكشفوا ذلك عنكم ، أو

٣٧٦

يحولوا تلك الحالة إلى حالة أخرى (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) للحالة التي تكرهونها إلى حالة تحبونها ، يعني تحويل حال القحط إلى الخصب ، والفقر إلى الغنى ، والمرض إلى الصحة بيّن سبحانه ان من كان بهذه الصفة فإنه لا يصلح للإلهية ، ولا يستحق العبادة ، والمراد بالذين من دونه هم الملائكة والمسيح وعزير ثم رجع سبحانه إلى ذكر الأنبياء في الآية الأولى فقال (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) ومعناه : أولئك الذين يدعون إلى الله تعالى ، ويطلبون القربة إليه بفعل الطاعات (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) معناه : أولئك الذين يدعونهم ويعبدونهم ويعتقدون انه آلهة من المسيح والملائكة ، يبتغون الوسيلة والقربة إلى الله تعالى بعبادتهم ، ويجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أي وهم مع ذلك يستغفرون لأنفسهم فيرجون رحمته إن أطاعوا ، ويخافون عذابه ان عصوا ، ويعملون عمل العبيد (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي متقى يجب ان يحذر منه لصعوبته.

٥٨ ـ ٦٠ ـ ثم زاد سبحانه في الموعظة فقال (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) معناه : وما من قرية إلّا نحن مهلكوها بإماتة أهلها (أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) وهو عذاب الإستئصال ، فيكون هلاك الصالحين بالموت ، وهلاك الطالحين بالعذاب في الدنيا فإنه يفني الناس ، ويخرّب البلاد قبل يوم القيامة ثم تقوم القيامة (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أخبر ان ذلك كائن لا محالة ولا يكون خلافه ومعناه : كان ذلك الحكم في الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته وهو اللوح المحفوظ مكتوبا (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) التقدير : ما منعنا إرسال الآيات التي سألوها إلّا تكذيب الأولين ، ومعناه : انا لم نرسل الآيات التي اقترحتها قريش في قولهم حوّل لنا الصفا ذهبا ، وفجّر لنا الأرض ينبوعا إلى غير ذلك ، لأنا لو أرسلناها لم يؤمنوا فيستحقوا المعاجلة بالعقوبة ، كما انا لما أجبنا الأولين من الأمم إلى آيات اقترحوها فكذّبوا بها عذبناهم بعذاب الإستئصال ، لأن من حكم الآية المقترحة انه اذا كذب بها وجب عذاب الإستئصال ، ومن حكمنا النافذ في هذه الآيات ان لا نعذبهم بعذاب الإستئصال ، لشرف محمد (ص) ، ولما يعلم في ذلك من المصلحة ، ولأن أمته باقية ، وشريعته مؤبدة إلى يوم القيامة ، فلذلك لم نجبهم إلى ذلك ، وأنزلنا من الآيات الواضحات ، والمعجزات البينات ما تقوم به الحجة ، وتنقطع به المعذرة (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) أي بينة ، أراد آية مبصرة كما قال : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) ومعناه : دلالة واضحة ظاهرة وهي ناقة صالح المخرجة من الصخرة على الصفة التي اقترحوها (فَظَلَمُوا بِها) أي فكفروا بتلك الآية ، وجحدوا بأنها من عند الله (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) أي لا نرسل الآيات التي نظهرها على الأنبياء إلّا عظة للناس وزجرا وتخويفا لهم من عذاب الله ان لم يؤمنوا. ثم خاطب سبحانه النبي (ص) فقال (وَإِذْ قُلْنا لَكَ) أي واذكر الوقت الذي قلنا لك يا محمد (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي أحاط علما بأحوالهم وبما يفعلونه من طاعة أو معصية ، وما يتسحقونه على ذلك من الثواب والعقاب (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) ان ذلك رؤيا رآها النبي (ص) في منامه ان قرودا تصعد منبره وتنزل ، فساءه ذلك واغتمّ به ، ولم يستجمع بعد ذلك ضاحكا حتى مات ، والشجرة الملعونة هي بنو أمية ، أخبره الله سبحانه بتغلبهم على مقامه ، وقتلهم ذريته (وَنُخَوِّفُهُمْ) أي نرهبهم بما نقص عليهم من هلاك الأمم الماضية (فَما يَزِيدُهُمْ) ذلك (إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) أي عتّوا في الكفر عظيما ، وتماديا في الغيّ كبيرا ، لأنهم لا يرجعون عنه.

٦١ ـ ٦٥ ـ ثم ذكر سبحانه قصة آدم (ع) وإبليس فقال

٣٧٧

تفسيره في سورة البقرة (قالَ) إبليس (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) وهو استفهام بمعنى الإنكار ، أي كيف أسجد له ، وأنا أفضل منه ، وأصلي أشرف من أصله؟ وفي هذه دلالة على ان إبليس فهم من ذلك تفضيل آدم على الملائكة ، ولولا ذلك لما كان لامتناعه من السجود وجه ، وإنما جاز أن يأمرهم سبحانه بالسجود لآدم ولم يجز أن يأمرهم بالعبادة له ، لأن السجود يترتب في التعظيم حسب ما يراد به ، وليس كذلك العبادة التي هي خضوع بالقلب ليس فوقه خضوع ، (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) أي قال إبليس : أرأيت يا رب هذا الذي فضلته عليّ يعني آدم (ع) (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي لئن أخرت أجل موتي (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) أي لأغوين ذريته واقودنّهم معي إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحنكها اذا شدّ فيها حبل تجر به إلا القليل الذين تعصمهم وهم المخلصون (قالَ) الله سبحانه له على وجه الاستهانة والاستصغار (اذْهَبْ) يا إبليس (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي من ذرية آدم (ع) ، واقتفى أثرك ، وقبل منك (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) أي موفرا كاملا لا نقصان فيه عن الاستحقاق (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أي واستزل من استطعت منهم أضلهم بدعائك ووسوستك من قولهم : صوّت فلان بفلان إذا دعاه في صورة الأمر عن ابن عباس ، ويكون كما يقول الإنسان لمن يهدده أجهد جهدك فسترى ما ينزل بك ، وإنما جاء التهديد في صورة الأمر لأنه بمنزلة أن يؤمر الغير باهانة نفسه وقيل : بصوتك : أي بالغناء والمزامير والملاهي (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أي أجمع عليهم ما قدرت عليه من مكايدك وأتباعك وذريتك وأعوانك (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) وهو كل مال أصيب من حرام ، وأخذ بغير حقه ، وكل ولد زنا ، عن الحسن وابن عباس ومجاهد ، وقيل : ان مشاركتهم في الأموال انه أمرهم أن يجعلوها سائبة وبحيرة وغير ذلك ، وفي الأولاد انهم هوّدوهم ونصّروهم ومجّسوهم ، عن قتادة ، وقيل : ان كل مال حرام فله فيه شرك ، عن الكلبي ، وقيل : ان المراد بالأول تسميتهم عبد شمس وعبد الحرث ونحوهما ، وقيل : هو قتل المؤودة من أولادهم (وَعِدْهُمْ) أي ومنهم البقاء وطول الأمل ، وانهم لا يبعثون (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) هذا اخبار من الله عزوجل ان مواعيد الشيطان تكون غرورا : أي يزين لهم الخطأ انه صواب (إِنَّ عِبادِي) يعني الذين يطيعونني ، اضافهم إلى نفسه تشريفا لهم (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي قوة نفاذ لأنهم يعملون ان مواعيدك باطلة فلا يغترون بها (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) أي حافظا لعباده من شرّك.

٦٦ ـ ٦٩ ـ لمّا تقدّم ذكر الشيطان وذكر المشركين وعبدة الأوثان ، احتجّ عليهم سبحانه بدلائل التوحيد والإيمان فقال (رَبُّكُمُ) أي خالقكم ومدبركم (الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ) أي يجري لكم السفن (فِي الْبَحْرِ) بما خلق من الرياح ، وبأن جعل الماء على وجه يمكن جري السفن فيه (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا من فضل الله تعالى بركوب السفن على وجه الماء فيما فيه صلاح دنياكم من التجارة (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) حيث أنعم عليكم بهذه النعم (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) أي الشدة (فِي الْبَحْرِ) بسكون الرياح واحتباس السفن ، أو باضطراب الأمواج وغير ذلك من أهوال البحر (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي ذهب عنكم ذكر كل معبود إلّا الله فلا ترجون هناك النجاة إلّا من عنده ، فتدعونه ولا تدعون غيره (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من البحر (إِلَى الْبَرِّ) وأمنتم الغرق (أَعْرَضْتُمْ) عن الإيمان به وعن طاعته كفرانا للنعمة (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) أي كثير الكفران (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) معناه : ان فعلكم هذا فعل من يتوهم انه إذا صدر إلى البر أمن المكاره حتى أعرضتم عن شكر الله وطاعته ، فهل أمنتم أن يخسف بكم؟ أي يغيبكم ويذهبكم في جانب البر

٣٧٨

(أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي أو هل أمنتم أن يرسل عليكم حجارة تحصبون بها : أي ترمون بها والمعنى : انه سبحانه قادر على إهلاككم في البر ، كما انه قادر على إغراقكم في البحر (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) أي حافظا يحفظكم عن عذاب الله ، ودافعا يدفعه عنكم (أَمْ أَمِنْتُمْ) أي أم هل أمنتم (أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) أي في البحر مرة أخرى بأن يجعل لكم حاجة ، أو يحدث لكم رغبة أو رهبة فترجعون إلى البحر مرة أخرى (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) أي فإذا ركبتم البحر أرسل عليكم ريحا شديدة كاسرة للسفينة (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) من نعم الله (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) أي تابعا يتبع اهلاككم للمطالبة بدمائكم ويقول : لم فعلت هذا بهم؟

٧٠ ـ ٧٢ ـ لمّا تقدّم قول إبليس هذا الذي كرّمت عليّ ، ذكر سبحانه بعد ذلك تكرمة لبني آدم بأنواع الإكرام ، وفنون الإنعام فقال (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) أي فضلناهم ، وأجريت الصفة على جميعهم من أجل من كان فيهم على هذه الصفة كقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، وقيل : إنما عمّهم بالتكرمة مع ان فيهم الكافر المهان لأن المعنى : أكرمناهم بالنعم الدنيوية كالصور الحسنة ، وتسخير الأشياء لهم وبعث الرسل إليهم (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في البر على الإبل والخيل والبغال والحمير ، وفي البحر على السفن (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من الثمار والفواكه والأشياء الطيبة وسائر الملاذ (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) المعنى : انا فضلناهم على من خلقنا وهم كثير (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) معناه : بنبيهم ويكون المعنى على هذا أن ينادى يوم القيامة فيقال : هاتوا متبعي إبراهيم ، هاتوا متبعي موسى ، هاتوا متبعي محمد ، فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم ، ثم يقال هاتوا متبعي الشيطان ، وهاتوا متبعي رؤوساء الضلالة ، وعن علي (ع) أن الأئمة إمام هدى وإمام ضلالة (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي فمن أعطي كتاب عمله الذي فيه طاعاته وثواب أعماله بيمينه (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) فرحين مسرورين لما يرون فيه من الجزاء والثواب (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي لا ينقصون ثواب أعمالهم مقدار فتيل ، وهو المفتول الذي في شق النواة جعل الله إعطاء الكتاب باليمين علامة الرضا والخلاص ، وإعطاء الكتاب باليسار وراء الظهر علامة السخط والهلاك (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) معناه : من كان في الدنيا أعمى القلب فإنه في الآخرة أعمى العين ، يحشر عقوبة له على ضلالته في الدنيا وهذا كقوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ويكون التقدير : وهو أضل سبيلا لأنه لا يجد طريقا الى الهداية.

٧٣ ـ ٧٥ ـ ثم حكى الله سبحانه عن الكفار فقال (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) المعنى : ان المشركين الذين تقدّم ذكرهم في هذه السورة همّوا وقاربوا أن يزلّوك ويصرفوك عن القرآن الذي أوحيناه إليك (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي لتخترع علينا غير ما أوحيناه إليك والمعنى : لتحل محل المفتري لأنك تخبر انك لا تنطق الا عن وحي ، فاذا اتبعت أهواءهم ، فكنت كالمفتري (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) معناه : وانك لو أجبتهم إلى ما طلبوا منك لتولوك وأظهروا خلتك : أي صداقتك لموافقتك معهم (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) أي ثبتنا قلبك على الحق ، والرشد بالنبوة ، والعصمة والمعجزات (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) أي ركونا قليلا والمعنى : لقد قاربت ان تسكن إليهم بعض السكون ، وأن تميل إليهم ميلا قليلا فتعطيهم بعض ما سألوك يقال : كدت أفعل كذا ، أي قاربت أن أفعله ، وقد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : وضع عن أمّتي ما حدّثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به ، قال إبن عباس : يريد حيث سكت عن جوابهم (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي لو فعلت ذلك لعذبناك ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الممات.

٣٧٩

والمعنى : لأذقناك عذاب الدنيا وعذاب الآخرة قال إبن عباس : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم ولكن هذا تخويف لأمته لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) أي ناصر ينصرك لما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا.

٧٦ ـ ٧٧ ـ ثم بيّن سبحانه ان الكفار لما يئسوا من اجابته إياهم فيما التمسوه منه كادوا له فقالوا (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) معناه : وان المشركين ارادوا ان يزعجوك من أرض مكة بالإخراج (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) معناه : انهم لو أخرجوك لكانوا لا يلبثون بعد خروجك إلّا زمانا قليلا ، ومدة يسيرة قيل : وهي المدة بين خروج النبي صلّى عليه وآله من مكة وقتلهم يوم بدر (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) معناه : انهم لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك كسنتنا فيمن قبلك ، لم نرسل قبلك رسولا فأخرجه قومه إلّا أهلكوا (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أي تبديلا معناه : ما يتهيأ لأحد أن يقلب سنة الله ويبطلها ، والسنة هي العادة الجارية.

٧٨ ـ ٨١ ـ ثم أمر سبحانه بعد إقامة البينات ، وذكر الوعد والوعيد بإقامة الصّلاة ، فقال مخاطبا النبي (ص) والمراد هو وغيره (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) دلوك الشمس : زوالها ، والآية جامعة للصلوات الخمس ، فصلاتا دلوك الشمس : الظهر والعصر ، وصلاتا غسق الليل : هما المغرب والعشاء الآخرة ، والمراد بقرآن الفجر صلاة الفجر ، فهذه خمس صلوات وغسق الليل : هو أول بدء الليل (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) كلهم قالوا معناه : ان صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ، وقال النبي (ص): يجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) خطاب للنبي (ص) ، أي فصل بالقرآن عن ابن عباس ، ولا يكون التهجد إلّا بعد النوم (نافِلَةً لَكَ) أي زيادة لك على الفرائض ، وذلك ان صلاة الليل كانت فريضة على النبي (ص) مكتوبة عليه ولم تكتب على غيره ، وكانت فضيلة لغيره (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) عسى من الله واجبة ، والمقام بمعنى البعث ، أي يبعثك يوم القيامة بعثا أنت محمد فيه وقد أجمع المفسرون على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة (وَقُلْ) يا محمد (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) التقدير : ادخلني إدخال صدق ، واخرجني إخراج صدق ومدخل الصدق ما تحمد عاقبته في الدنيا والدين ، وانما اضاف الادخال والإخراج إليه سبحانه وان كانا من فعل العبد لأنه سأله اللطف المقرّب إلى خير الدين والدنيا (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي اجعل لي عزا امتنع به ممن يحاول صدّي عن إقامة فرائضك ، وقوة تنصرني بها على من عاداني فيها (وَقُلْ) يا محمد (جاءَ الْحَقُ) أي ظهر الحق وهو الإسلام والدين (وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي وبطل الباطل وهو الشرك (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أي مضمحلا ذاهبا هالكا لا ثبات له.

٨٢ ـ ٨٣ ـ ثم أخبر سبحانه عن القرآن فقال (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ووجه الشفاء فيه من وجوه منها : ما فيه من البيان الذي يزيل عمى الجهل وحيرة الشك ، ومنها : ما فيه من النظم والتأليف والفصاحة البالغة حدّ الإعجاز الذي يدل على صدق النبي (ص) فهو من هذه الجهة شفاء من الجهل والشك والعمى في الدين ، ويكون شفاء للقلوب ، ومنها : انه يتبرك به وبقراءته ، ويستعان به على دفع العلل والأسقام ، ويدفع الله به كثيرا من المكاره ، (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ :) أي نعمة لهم ، وخصهم بذلك لأنهم المنتفعون به (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) ومعناه : انهم لا يزدادون عنده إلا خسارا يخسرون الثواب ، ويستحقون العقاب لكفرهم به ، وتركهم التدبر له ، والتفكر فيه ، وهذا كقوله : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ

٣٨٠