الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

وقوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) إنها أحدقت به من كل جانب كقوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي يصحبون النار ويلازمونها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي دائمون أبدا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فيه وعد لأهل التصديق والطاعة بالثواب الدائم.

٨٣ ـ ثم عاد سبحانه إلى ذكر بني إسرائيل فقال (وَ) اذكروا (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) هو مواثيق الأنبياء على أممهم ، والعهد والميثاق لا يكون إلا بالقول ، فكأنه قال : أمرناهم ووصيناهم وأكدنا عليهم (لا تَعْبُدُونَ) معناه : الأمر بأن لا تعبدوا (إِلَّا اللهَ) وحده دون ما سواه من الأنداد (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) والإحسان الذي أخذ عليهم الميثاق بأن يفعلوه إلى الوالدين هو ما فرض على أمتنا أيضا من فعل المعروف بهما ، والقول الجميل ، وخفض جناح الذل لهما ، والتحنن عليهما وقوله : (وَذِي الْقُرْبى) أي وبذي القربى أن تصلوا قرابته ورحمه (وَالْيَتامى) أي وباليتامى أن تعطفوا عليهم بالرأفة والرحمة (وَالْمَساكِينِ) أي وبالمساكين أن تؤتوهم حقوقهم التي أوجبها الله عليهم في أموالهم وقوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) هو القول الحسن الجميل ، والخلق الكريم ، وهو مما إرتضاه الله وأحبّه ، وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أدوها بحدودها الواجبة عليكم (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أعطوها أهلها كما أوجبها الله عليكم (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) أخبر الله سبحانه عن اليهود أنهم نكثوا عهده ، ونقضوا ميثاقه وخالفوا أمره ، وتولوا عنه معرضين إلا من عصمه الله منهم.

٨٤ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي ميثاق أسلافكم الذين كانوا في زمن موسى والأنبياء الماضين ، وإنما أضاف الميثاق إليهم لما كانوا أخلافا لهم على ما سبق الكلام فيه ، وقوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) معناه لا يقتل بعضكم بعضا ، لأن في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه إذا كانت ملتهما واحدة ودينهما واحدا (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) لا يخرج بعضكم بعضا من دياركم بأن تغلبوا على الدار (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أقررتم بذلك وأنتم شاهدون على من تقدمكم بأخذنا منهم الميثاق.

٨٥ ـ (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) يا معشر يهود بني إسرائيل بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم أن لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي يقتل بعضكم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) أي متعاونين عليهم في اخراجكم إياهم (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) أي وأنتم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتم أسيرا في أيدي غيركم من أعدائكم تفدونهم ، وقتلكم إياهم ، وإخراجكموهم من ديارهم حرام عليكم ، كما أن تركهم أسرى في أيدي عدوهم حرام عليكم ، فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم وهما جميعا في حكم اللازم لكم فيهم سواء؟.

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) الذي فرضت عليكم فيه فرائضي ، وبينت لكم فيه حدودي ، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي ، فتصدقون به فتفادون أسراكم من أيدي عدوهم ، وتكفرون ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم وقومكم ، وتخرجونهم من ديارهم وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم لعهدي وميثاقي وقوله : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على ذمتهم على وجه الذل ثم أعلم سبحانه أن ذلك غير مكفر عنهم ذنوبهم ، وأنهم صائرون بعده إلى عذاب عظيم فقال (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) أي إلى أشد العذاب الذي أعده الله لأعدائه وهو

٢١

العذاب الذي لا روح فيه مع اليأس من التخلص (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : أي وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة ، بل هو حافظ لها ، ومجاز عليها.

٨٦ ـ أشار إلى الذين أخبر عنهم بأنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي ابتاعوا رياسة الدنيا (بِالْآخِرَةِ) أي رضوا بها عوضا من نعيم الآخرة التي أعدّها الله تعالى للمؤمنين ، جعل سبحانه تركهم حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا ، ثم أخبر أنهم لاحظ لهم في نعيم الآخرة بقوله : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) أي لا ينقص من عذابهم ولا يهوّن عنهم (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا ينصرهم أحد في الآخرة فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله تعالى.

٨٧ ـ ثم ذكر سبحانه انعامه عليهم بإرسال رسله إليهم ، وما قابلوه به من تكذيبهم فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي أعطيناه التوراة وأنزلناه إليه (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي اتبعنا من بعد موسى (بِالرُّسُلِ) رسولا بعد رسول يتبع الآخر الأول في الدعاء إلى وحدانية الله تعالى ، والقيام بشرائعه على منهاج واحد (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي أعطيناه المعجزات والدلالات على نبوته (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي قويناه واعناه بجبريل (ع) فيها ، واختلف في معنى القدس فقيل : هو الطهر وقيل : هو البركة (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) خطاب لليهود فكأنه قال يا معشر يهود بني إسرائيل كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه أنفسكم تعظمتم وتجبرتم وأنفتم من قبول قوله : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) أي فكذبتم منهم بعضا ممن لم تقدروا على قتله مثل عيسى (ع) ومحمد (ص) وقتلتم بعضا مثل يحيى وزكريا وغيرهما.

٨٨ ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) رجع الكلام إلى الحكاية عن اليهود وعن سوء مقالهم وفعالهم فالمعنى : أنهم ادعوا أن قلوبهم ممنوعة من القبول فقالوا : أي فائدة في إنذارك لنا ونحن لا نفهم ما تقول إذ ما تقوله ليس مما يفهم؟ (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) ردّ الله سبحانه عليهم قولهم أي ليس ذلك كما زعموا لكن الله سبحانه قد أقصاهم وأبعدهم من رحمته ، وطردهم عنها بجحودهم به وبرسله وقوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) معناه أن هؤلاء الذين وصفهم قليلو الإيمان بما أنزل على نبيه محمد (ص).

٨٩ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ) أي اليهود من بني إسرائيل الذين وصفهم الله (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعني به القرآن الذي أنزله على نبيه محمد (ص) (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله تعالى قبل القرآن من التوراة والإنجيل (وَكانُوا) يعني اليهود (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مبعث النبي (ص) ونزول القرآن (يَسْتَفْتِحُونَ) انهم كانوا يقولون لمن ينابذهم هذا نبي قد أطل زمانه ينصرنا عليكم وقوله : (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي مشركي العرب (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) يعني محمدا (ص) أي عرفوا صفته ومبعثه (كَفَرُوا بِهِ) حسدا وبغيا وطلبا للرياسة (فَلَعْنَةُ اللهِ) أي غضبه وعقابه (عَلَى الْكافِرِينَ) وقد فسّرنا معنى اللعنة والكفر فيما مضى.

٩٠ ـ ثم ذمّ الله سبحانه اليهود بإيثارهم الدنيا على الدين فقال : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي بئس الشيء باعوا به أنفسهم (أَنْ يَكْفُرُوا) أي كفرهم (بِما أَنْزَلَ اللهُ) يعني القرآن ودين الإسلام المنزل على محمد (ص) (بَغْياً) أي حسدا لمحمد (ص) إذ كان من ولد إسماعيل ، وكانت الرسل قبل من بني إسرائيل (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهو الوحي والنبوة وقوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) معناه : رجعت اليهود من بني إسرائيل بغضب من الله

٢٢

استحقوه منه بكفرهم والغضب الأول حين عبدوا العجل ، والثاني حين كفروا بمحمد (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) معناه : للجاحدين بنبوة محمد عذاب مهين من الله والمهين : هو الذي يذل صاحبه ويخزيه ويلبسه الهوان.

٩١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) يعني اليهود الذين تقدّم ذكرهم (آمِنُوا) أي صدقوا (بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن على محمد (ص) والشرائع التي جاء بها (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعنون التوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) أي يجحدون بما بعده يريد الإنجيل والقرآن (وَهُوَ الْحَقُ) يعني القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) يعني التوراة ، لأن تصديق محمد وما أنزل معه من القرآن مكتوب عندهم في التوراة ، ثم رد تعالى عليهم قولهم نؤمن بما أنزل علينا فقال : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) أي قل يا محمد لهم : فلم قتلتم أنبياء الله وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ، وأمركم فيه باتباعهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بما أنزل عليكم.

٩٢ ـ ثم حكى سبحانه عنهم ما يدل على قلة بصيرتهم في الدين ، وضعفهم في اليقين فقال : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) الدالة على صدقه ، والمعجزات المؤيدة لنبوته (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) يعني اتخذتم العجل إلها وعبدتموه (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد موسى لما فارقكم ومضى إلى ميقات ربه (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم بكفركم وعبادتكم العجل لأن العبادة لا تكون لغير الله.

٩٣ ـ قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) قد فسرناه فيما مضى ، والفائدة في تكرير هذا وأمثاله التأكيد وإيجاب الحجة عليهم على عادة العرب في مخاطباتها (وَاسْمَعُوا) أي اقبلوا ما سمعتم واعملوا به وأطيعوا الله (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) معناه : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ) فمعناه : دخل قلوبهم حب (الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) وإنّما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى بواطنها ، والطعام يجاوز الأعضاء ولا يتغلغل فيها وقوله : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) معناه : قل لهؤلاء اليهود بئس الشيء الذي يأمركم به إيمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله ، والتكذيب بكتبه ، وقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مصدقين كما زعمتم بالتوراة.

٩٤ ـ ثم عاد سبحانه إلى الإحتجاج على اليهود بما فضح به أحبارهم وعلماءهم ، ودعاهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم فقال : قل يا محمد لهم إن كانت الجنة خالصة لكم دون الناس كلهم ، أو دون محمد وأصحابه كما ادعيتم بقولكم : لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا أو نصارى ، وإن الله لا يعذبنا فتمنوا الموت ، لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة قطعا كان الموت أحب إليه من حياة الدنيا التي فيها أنواع المشاق والهموم والآلام والغموم.

٩٥ ـ أخبر الله سبحانه عن هؤلاء الذين قيل لهم فتمنوا الموت إن كنتم صادقين بأنهم لا يتمنون ذلك أبدا بما قدموه من المعاصي والقبائح ، وتكذيب الكتاب والرسول (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) خصص الظالمين بذلك وإن كان عليما بهم وبغيرهم بأن الغرض بذلك الزجر والتهديد كما يقول الإنسان لغيره : إني عارف بصير بعملك وروي عن النبي (ص) أنه قال : لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار ، فقال الله سبحانه : إنهم لن يتمنوه أبدا تحقيقا لكذبهم ، وفي ذلك أعظم دلالة على صدق نبينا وصحة نبوته لأنه أخبر بالشيء قبل كونه فكان كما أخبر.

٩٦ ـ ثم أخبر سبحانه عن أحوال اليهود فقال (وَلَتَجِدَنَّهُمْ)

٢٣

أي ولتعلمن يا محمد هؤلاء اليهود (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) أي أحرصهم على البقاء في الدنيا ، أشد من حرص سائر الناس (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا وهم المجوس ، ومن لا يؤمن بالبعث وقوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) ذكر الألف لأنها نهاية ما كانت المجوس يدعو به بعضهم لبعض ، وتحيّى به الملوك يقولون : عش ألف نوروز وألف مهرجان فهؤلاء الذين يزعمون أن لهم الجنة لا يتمنون الموت وهم أحرص ممن لا يؤمن بالبعث ، لعلمهم بما أعدّ الله لهم في الآخرة من العذاب (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) أي وما أحدهم بمنجيه من عذاب الله ولا بمبعده منه تعميره وهو أن يطول له البقاء ، لأنه لا بد للعمر من الفناء (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي عليم بأعمالهم لا يخفى عليه شيء منها.

٩٧ ـ ٩٨ ـ فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابا لليهود وردّا عليهم فقال : (قُلْ) لهم يا محمد (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) إذ كان هو المنزل للكتاب عليك (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) لا من تلقاء نفسه ، وإنما اضافه إلى قلبه لأنه إذا أنزل عليه كان يحفظه ويفهمه بقلبه ، ومعنى قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) ، بأمر الله وقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) معناه : موافقا لما بين يديه من الكتب ، ومصدقا له بأنه حق (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أراد بالهدى الحرمة والثواب فلذلك خصه بالمؤمنين ، ومعنى البشرى : أن فيه البشارة لهم بالنعيم الدائم ، قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ) فمعناه : من كان معاديا لله ، أي يفعل فعل المعادي من المخالفة والعصيان ، وقوله : وملائكته أي ومعاديا لملائكته ورسله (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وإنما عاد ذكرهما لفضلهما ومنزلتهما ، لأن اليهود قالت جبريل عدونا ، وميكائيل ولينا ثم قال : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) ولم يقل : فإنه كرّر اسم الله لئلا يظن أن الكناية راجعة إلى جبرائيل أو ميكائيل.

٩٩ ـ قوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد (آياتٍ) يعني سائر المعجزات التي أعطيها النبي (ص) (بَيِّناتٍ) تفصل بين الحق والباطل (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) ومعناه : الكافرون ، وإنما سمي الكفر فسقا لأن الفسق خروج من شيء إلى شيء ، واليهود خرجوا من دينهم وهو دين موسى (ع) بتكذيب النبي (ص).

١٠٠ ـ أخبر الله سبحانه عن اليهود أيضا فقال : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) الله (عَهْداً) هي العهود التي كانت بين رسول الله (ص) وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير عاهدوا أن لا يعينوا عليه أحدا ، فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشا يوم الخندق (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي نقضه جماعة منهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر المعاهدين (لا يُؤْمِنُونَ) غير مؤمنين.

١٠١ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ) أي ولما جاء اليهود الذين كانوا في عصر النبي (ص) (رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعني محمدا (ص) (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) مصدق لكتبهم من التوراة والإنجيل ، لأنه جاء على الصفة التي تقدمت بها البشارة وقوله : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي ترك وألقى طائفة منهم ، وقوله : (كِتابَ اللهِ) يريد به القرآن ، وقوله : (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) كناية عن تركهم العمل به (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) المراد : انهم علموا وكتموا بغيا وعنادا.

١٠٢ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أنه نبذ فريق من اليهود كتاب الله الذي في أيديهم وراء ظهورهم فقال : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) إنهم اليهود ، أي اقتدوا بما كانت تتلوا الشياطين ، أي تتبع وتعمل به (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) معناه : في ملك سليمان قوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) بيّن بهذا أن ما كانت

٢٤

تتلوه الشياطين وتأثره وترويه كان كفرا إذ برأ سليمان (ع) منه ، فإن اليهود أضافوا إلى سليمان السحر وزعموا أن ملكه كان به فبرأه الله منه (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) انهم سحروا ، فعبر عن السحر بالكفر قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) إنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه وقوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) المراد : أن الشياطين يعلمون الناس السحر ، والذي أنزل على الملكين ، وإنما أنزل على الملكين وصف السحر وماهيته وكيفية الإحتيال فيه ليعرفا ذلك ويعرفاه الناس فيجتنبوه ، غير أن الشياطين لما عرفوه استعملوه وقوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) يعني الملكين. أي لا يعرّفان صفات السحر وكيفيته حتى يقولا ، أي إلا بعد أن يقولا ، إنما نحن فتنة ، أي محنة ، لأن الفتنة بمعنى المحنة والإختبار والإبتلاء ، وإنما كانا محنة من حيث ألقيا إلى المكلفين أمرا لينزجروا عنه ، ويمتنعوا من مواقعته ، وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه فقالا لمن يطلعانه على ذلك : لا تكفر باستعماله ، ولا تعدل عن الغرض في إلقائه إليك ، فإنه إنما ألقي إليك لتجتنبه لا لتفعله فلا تفكر بالعمل بالسحر (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) أي من هاروت وماروت (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) إنهم يوجدون أحدهما على صاحبه ويبغضونه إليه فيؤدي ذلك إلى الفرقة (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي لا يلحقون بغيرهم ضررا إلّا بعلم الله (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) معناه : يضرهم في الآخرة ولا ينفعهم وقوله (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) يعني اليهود الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم علموا لمن استبدل السحر بدين الله ، فالهاء في اشتراه كناية عن السحر فماله في الآخرة من نصيب ، وقوله : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) يعني بئس ما باعوا به حظ أنفسهم حيث إختاروا التكسب بالسحت وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ما يصيرون إليه من العقاب الدائم.

١٠٣ ـ ثم قال سبحانه (وَلَوْ أَنَّهُمْ) يعني الذين يتعلمون السحر ويعملونه (آمَنُوا) أي صدقوا بمحمد (ص) والقرآن (وَاتَّقَوْا) السحر والكفر (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) أي لأثيبوا وثواب الله خير (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يستعملون ما يعلمونه.

١٠٤ ـ لما قدّم سبحانه نهي اليهود عن السحر عقّبه بالنهي عن إطلاق هذه اللفظة فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) كان المسلمون يقولون : يا رسول الله راعنا ، أي استمع منا ، فحرّفت اليهود هذه اللفظة فقالوا : يا محمد راعنا وهم يلحدون إلى الرعونة ، يريدون به النقيصة والوقيعة ، فلما عوتبوا قالوا : نقول كما يقول المسلمون ، فنهى الله عن ذلك بقوله : (لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) ، وقال قتادة : إنها كلمة كانت تقولها اليهود على وجه الاستهزاء ، وقال الباقر عليه‌السلام : هذه الكلمة سب بالعبرانية ، إليه كانوا يذهبون ومعنى انظرنا : انتظرنا نفهم ونتبين ما تعلمنا وقوله (وَاسْمَعُوا) معناه : استمعوا ما يأتيكم به الرسول (وَلِلْكافِرِينَ) بمحمد (ص) والقرآن (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع. وكل ما في القرآن يا أيها الذين آمنوا فإنه نزل بالمدينة.

١٠٥ ـ ثم أخبر سبحانه أيضا عن اليهود فقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) معناه : ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا من المشركين بالله من عبدة الأوثان أن ينزل الله عليكم شيئا من الخير الذي هو عنده من القرآن والشرائع بغيا منهم وحسدا (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) المراد برحمته هو النبوة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) هذا خبر منه سبحانه ان كل خير نال عباده في دينهم ودنياهم فإنه من عنده ابتداء منه إليهم ، وتفضلا عليهم من غير إستحقاق منهم لذلك عليه ، فهو عظيم

٢٥

الفضل ، ذو المن والطول.

١٠٦ ـ (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) معناه : ما نرفع من حكم آية ونأمركم بترك العمل بها قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) نأت بخير منها لكم في التسهيل والتيسير كالأمر بالقتال الذي سهل على المسلمين بقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) ، أو مثلها في السهولة كالعبادة بالتوجه إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قيل : هو خطاب للنبي (ص) وقيل : هو خطاب لجميع المكلفين والمراد : ألم تعلم أيها السامع أو أيها الإنسان أن الله تعالى قادر على آيات وسور مثل القرآن ينسخ بها ما أمر فيقوم في النفع مقام المنسوخ.

١٠٧ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ) إستفهام تقرير وتثبيت ويؤول في المعنى إلى الإيجاب ، فكأنه يقول : قد علمت حقيقة فلهذا خاطب به النبي (ص) وقيل : إن الآية وإن كانت خطابا للنبي (ع) فالمراد به أمته فكأنه قال : ألم تعلم أيها الإنسان (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه خلقهما وما فيهما ، وقوله (وَما لَكُمْ) المعنى ألم تعلموا ما لكم أيها الناس (مِنْ دُونِ اللهِ) أي سوى الله (مِنْ وَلِيٍ) يقوم بأمركم (وَلا نَصِيرٍ) ناصر ينصركم.

١٠٨ ـ (أَمْ تُرِيدُونَ) أي بل أتريدون (أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) يعني النبي محمدا (كَما سُئِلَ مُوسى) أي كما سأل قوم موسى موسى (مِنْ قَبْلُ) من الإقتراحات والمحالات (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) أي من إستبدل الجحود بالله وبآياته بالتصديق بالله ، والإقرار به وبآياته ، واقترح المحالات على النبي (ص) ، وسأل عما لا يعنيه بعد وضوح الحق بالبراهين (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي ذهب عن قصد الطريق وقيل : عن طريق الإستقامة ، وقيل : عن وسط الطريق لأن وسط الطريق خير من أطرافه.

١٠٩ ـ ثم أخبر الله سبحانه عن سرائر اليهود فقال (وَدَّ) أي تمنى (كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) كحيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف وأمثالهما (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) يا معشر المؤمنين أي يرجعونكم (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً) منهم لكم بما أعدّ الله لكم من الثواب والخير ، وإنما قال كثير من أهل الكتاب لأنه إنما آمن منهم القليل : كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وقيل إنما حسد اليهود المسلمين على وضع النبوة فيهم ، وذهابها عنهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) أي بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله ، والإسلام دين الله (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) تجاوزوا عنهم فإنّهم لا يفوتون الله ولا يعجزونه (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي بأمره لكم بعقابهم ، أو يعاقبهم هو على ذلك ، ثم أتاهم بأمره فقال : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إنه لما أمر بالإمهال والتأخير في قوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) قال : إن الله قادر على عقوبتهم بأن يأمركم بقتالهم ، ويعاقبهم في الآخرة بنفسه.

١١٠ ـ لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالصفح عن الكفار والتجاوز علم أنه يشق عليهم ذلك مع شدة عداوة اليهود وغيرهم لهم ، فأمرهم بالإستعانة على ذلك بالصلاة والزكاة ، فإن في ذلك معونة لهم على الصبر مع ما يحوزون بهما من الثواب والأجر ، كما قال في موضع آخر : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) قوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي من طاعة وإحسان وعمل صالح (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) معناه : تجدوه مكتوبا محفوظا عند الله ليجازيكم به وقوله : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم سيجازيكم على الإحسان بما تستحقونه من الثواب ، وعلى الإساءة بما تستحقونه من العقاب.

١١١ ـ ثم حكى سبحانه نبذا من أقوال اليهود ودعاويهم الباطلة فقال : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) تقديره : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان

٢٦

يهوديا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ، وقوله : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) أي تلك المقالة أماني كاذبة يتمنونها على الله (قُلْ) يا محمد (هاتُوا) أي أحضروا ، وليس بأمر بل هو تعجيز وإنكار بمعنى : إذا لم يمكنكم الإتيان ببرهان يصحح مقالتكم فاعلموا أنه باطل فاسد (بُرْهانَكُمْ) أي حجتكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.

١١٢ ـ ثم ردّ الله سبحانه عليهم مقالتهم فقال (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) قيل معناه : من أخلص نفسه لله بأن سلك طريق مرضاته (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله وقيل : وهو مؤمن (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) معناه : فله جزاء عمله عند الله (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة.

١١٣ ـ ثم بيّن سبحانه ما بين أهل الكتاب من الإختلاف مع تلاوة الكتاب فقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) في تدينهم بالنصرانية (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) في تدينهم باليهودية (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي يقرأونه ، وإن فيه حل الشبهة بأنه ليس في تلاوة الكتاب معتبر في الإنكار لما لم يؤت على إنكاره ببرهان ، فلا ينبغي أن يدخل الشبهة بإنكار أهل الكتاب لملة الإسلام ، إذ كل فريق من أهل الكتاب قد أنكر ما عليه الآخر ، ثم بيّن أن سبيلهم كسبيل من لا يعلم الكتاب من مشركي العرب وغيرهم ممن لا كتاب لهم في الإنكار لدين الإسلام وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) ومعناه : إن مشركي العرب الذين هم جهال وليس لهم كتاب هكذا قالوا لمحمد وأصحابه : إنهم ليسوا على شيء من الدين مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إن حكمه فيهم الإنتصاف من الظالم المكذّب بغير حجة ولا برهان للمظلوم المكذب.

١١٤ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي وأي أحد أشد وأعظم ظلما (مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) من (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ويكون معناه : لا أحد أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد الله اسمه سبحانه ، وعمل في المنع من إقامة الجماعة والعبادة فيها وقوله : (وَسَعى فِي خَرابِها) أي عمل في تخريبها ، والتخريب : إخراجهم أهل الإيمان منها عند الهجرة. وقوله : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) بيّن الله سبحانه أنه ليس لهؤلاء المشركين دخول المسجد الحرام ، ولا دخول غيره من المساجد ، فإن دخل منهم داخل إلى بعض المساجد كان على المسلمين إخراجه منه (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) يراد بالخزي انهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) يعني يوم القيامة يعذبهم الله في نار جهنم بالعذاب الأعظم إذ كانوا من كل ظالم أظلم.

١١٥ ـ (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أراد أنه خالقهما وصانعهما (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) معناه : فأينما تولوا وجوهكم (فَثَمَ) أي فهناك وجه الله أي : قبلة الله وقيل معناه : فثم رضوان الله ، يعني الوجه الذي يؤدي إلى رضوانه (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) أي غني وتقديره : غني عن طاعتكم ، وإنما يريدها لمنافعكم (عَلِيمٌ) أي عالم بوجوه الحكمة ، فبادروا إلى ما أمركم به.

١١٦ ـ لما حكى الله سبحانه قول اليهود في أمر القبلة ورد عليهم قولهم ، ذكر مقالتهم في التوحيد رادا عليهم قال (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) أي إجلالا له عن اتخاذ الولد ، وتنزيها عن القبائح والسوء والصفات التي لا تليق به (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا ، والولد لا يكون ملكا للأب ، لأن البنوّة والملك لا يجتمعان ، فكيف يكون الملائكة الذين هم في السماء ، والمسيح الذي هو في الأرض

٢٧

ولدا له فنبّه بذلك على أن المسيح وغيره عبيد له مخلوقون مملوكون ، فهم بمنزلة سائر الخلق (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) مطيعون.

١١٧ ـ لما نزه الله سبحانه نفسه عن اتخاذ الأولاد ، ودل عليه بأن له ما في السماوات والأرض ، أكد ذلك بقوله (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي منشىء السماوات والأرض على غير مثال امتثله ، ولا احتذاء من صنع خالق كان قبله (وَإِذا قَضى أَمْراً) معناه : إذا فعل أمرا ، أي أراد احداث أمر (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) معناه : إن منزلة الفعل في تسهله وتيسره عليه وانتفاء التعذر منه كمنزلة ما يقال له : (كُنْ فَيَكُونُ).

١١٨ ـ لما بين سبحانه حالهم في إنكارهم التوحيد ، وادعائهم عليه اتخاذ الأولاد ، عقّبه بذكر خلافهم في النبوات ، وسلوكهم في ذلك طريق التعنّت والعناد فقال (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وهم مشركو العرب (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) ، أي هلا يكلمنا معاينة فيخبرنا بأنك نبي (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) أي تأتينا آية موافقة لدعوتنا وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) قيل : هم اليهود حيث اقترحوا الآيات على موسى (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي أشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة والإعتراض على الأنبياء من غير حجة ، والتعنت والعناد ، وقوله : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) يعني الحجج والمعجزات التي يعلم بها صحة نبوة محمد (ص) (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يستدلون بها من الوجه الذي يجب الاستدلال به فأيقنوا لذلك ، فكذلك فاستدلوا أنتم حتى توقنوا كما أيقن أولئك.

١١٩ ـ بيّن الله سبحانه في هذه الآية تأييده نبيه محمدا (ص) بالحجج ، وبعثه بالحق فقال : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) يا محمد (بِالْحَقِ) بالإسلام وقوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي بشيرا من اتبعك بالثواب ، ونذيرا من خالفك بالعقاب ، وقوله : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) أي لا تسأل عن أحوالهم. وفيه تسلية للنبي (ص) إذ قيل له : إنما أنت بشير ونذير ، ولست تسأل عن أهل الجحيم ، وليس عليك إجبارهم على القبول منك.

١٢٠ ـ كانت اليهود والنصارى يسألون النبي (ص) الهدنة ، ويرونه أنه إن هادنهم وأمهلهم اتبعوه ، فآيسه الله تعالى من موافقتهم فقال : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) وهذا يدل على انه لا يصح إرضاء اليهود والنصارى على حال (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي قل يا محمد لهم : إن دين الله الذي يرضاه هو الهدى ، الذي يهدي إلى الجنة لا طريقة اليهود والنصارى (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي مراداتهم (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي من البيان من الله تعالى (ما لَكَ) يا محمد (مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يحفظك من عقابه (وَلا نَصِيرٍ) أي معين وظهير يعينك عليه ، ويدفع بنصره عقابه عنك.

١٢١ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي أعطيناهم الكتاب (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) روي عن أبي عبد الله (ع): ان حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار ، يسأل في الأولى ، ويستعيذ من الأخرى وقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالكتاب (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) وهم جميع الكفار (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسروا في الدنيا الظفر والنصرة ، وفي الآخرة ما أعدّ الله للمؤمنين من نعيم الجنة.

١٢٢ ـ هذه الآية قد تقدم ذكر مثلها في رأس نيف وأربعين آية ومضى تفسيرها ، سبب تكريرها : إن نعم الله سبحانه لما كانت أصول كل نعمة ، كرّر التذكير بها مبالغة في استدعائهم إلى ما يلزمهم من شكرها ، ليقبلوا إلى طاعة ربهم المظاهر ، نعمه عليهم.

١٢٣ ـ ومثل هذه الآية أيضا تقدم ذكرها ، ومرّ تفسيرها.

٢٨

١٢٤ ـ (وَ) اذكروا (إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) أي اختبر وهو مجاز ، وحقيقته : أنه أمر إبراهيم ربه وكلفه وسمي ذلك إختبارا وقوله : (بِكَلِماتٍ) روي عن الصادق : أنه ما ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل أبي العرب ، فاتمها إبراهيم وعزم عليها وسلّم لأمر الله ، فلما عزم قال الله ثوابا له لما صدق وعمل بما أمره الله إني جاعلك للناس إماما (فَأَتَمَّهُنَ) معناه : وفى بهن وعمل بهن على التمام والضمير في أتمهن عائد إلى الله تعالى والكلمات : هي الإمامة ، وأتمهن الله بأن أوجب بها الإمامة بطاعته واضطلاعه بما ابتلاه ، وقوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) معناه : قال الله تعالى إني جاعلك إماما يقتدى بك في أفعالك وأقوالك ، والدليل عليه قوله : جاعلك وقوله : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل من ذريتي من يوشّح بالإمامة ، ويوشّح بهذه الكرامة وقوله : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال مجاهد : العهد الإمامة ، أي لا يكون الظالم إماما للناس ، فهذا يدل على أنه يجوز أن يعطي ذلك بعض ولده إذا لم يكن ظالما. واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلّا معصوما عن القبائح ، لأن الله سبحانه نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم ، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه وإما لغيره.

١٢٥ ـ قوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا) عطف على قوله إذا ابتلى (الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ) الذي جعله الله مثابة هو البيت الحرام (وَأَمْناً) أراد مأمنا أي موضع أمن ، وإنما جعله الله أمنا بأن حكم أن من عاذ به والتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه ، وبما جعله في نفوس العرب من تعظيمه حتى كانوا لا يتعرضون من فيه ، فهو آمن على نفسه وماله وإن كانوا يتخطفون الناس من حوله وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) هو الصلاة عند مقام إبراهيم ، أمرنا بالصلاة عنده بعد الطواف (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أي أمرناهما وألزمناهما (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) للطائفين ، أي قلنا لهما والمراد طهراه من الرفث والدم الذي كان يطرحه المشركون عند البيت قبل أن يصير في يد إبراهيم وإسماعيل وقوله : (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ) أكثر المفسرين على أن الطائفين : هم الدائرون حول البيت ، والعاكفين : هم المجاورون للبيت وقوله (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) هم المصلون عند البيت يركعون ويسجدون وقال رسول الله (ص): إن لله عزوجل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على هذا البيت : ستون منها للطائفين ، وأربعون للعاكفين ، وعشرون للناظرين.

١٢٦ ـ (وَ) اذكر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا) أي هذا البلد ، يعني مكة (بَلَداً آمِناً) أي ذا أمن وقيل معناه : يأمنون فيه وقوله : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) أي اعط من أنواع الرزق والثمرات (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) سأل لهم الثمرات ليجتمع لهم الأمن والخصب فيكونوا في رغد من العيش (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) أي قال الله سبحانه : قد استجبت دعوتك فيمن آمن منهم ، ومن كفر فامتعه بالرزق الذي أرزقه إلى وقت مماته (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) أي ادفعه إلى النار (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع والمأوى والمآل.

١٢٧ ـ ثم بيّن سبحانه كيف بنى إبراهيم البيت فقال (وَإِذْ يَرْفَعُ) وتقديره : واذكر إذ يرفع (إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) أي أصول البيت التي كانت قبل ذلك وقد كان آدم (ع) بناه ثم عفا أثره فجدده إبراهيم (ع) وقوله (وَإِسْماعِيلُ) أي يرفع إبراهيم وإسماعيل أساس الكعبة وقيل : إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجر (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) أثبنا على عمله وقوله (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي أنت السميع لدعائنا ، العليم بنا وبما يصلحنا.

١٢٨ ـ ثم ذكر تمام دعائهما عليهما‌السلام فقال سبحانه (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي قالا : ربنا واجعلنا مسلمين

٢٩

في مستقبل عمرنا كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا ، بأن توفقنا وتفعل بنا الألطاف التي تدعونا إلى ترك الإمتناع ، وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي واجعل من ذريتنا ، أي من أولادنا ، أمة مسلمة لك ، أي جماعة موحدة منقادة لك ، يعني أمة محمد (ص) ، بدلالة قوله : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) وقوله (وَأَرِنا مَناسِكَنا) أي عرفنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها لنفعله عندها ونقضي عباداتنا فيها (وَتُبْ عَلَيْنا) قالا هذه الكلمة على وجه التسبيح والتعبد والانقطاع إلى الله سبحانه ليقتدي بهما الناس فيها (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ) أي القابل للتوبة من عظائم الذنوب (الرَّحِيمُ) بعباده ، المنعم عليهم بالنعم العظام ، وتكفير السيئات والآثام.

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) هو نبينا (ص) لما روي عنه أنه قال : انا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى عليهما‌السلام (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) أي يقرأ عليهم آياتك التي توحي بها إليه (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي القرآن وقوله (وَالْحِكْمَةَ) العلم بالأحكام التي لا يدرك علمها إلّا من قبل الرسل (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يجعلهم مطيعين مخلصين (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي القوي في كمال قدرتك ، المنيع في جلال عظمتك ، المحكم لبدائع صنعتك.

١٣٠ ـ لما بين سبحانه قصة إبراهيم وإن ملته ملة محمد عقبه بذكر الحثّ على اتباعها فقال : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي لا يترك دين إبراهيم وشريعته إلّا من أهلك نفسه وأوبقها (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) أي اخترناه بالرسالة واجتبيناه (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي من الفائزين.

١٣١ ـ هذا متصل بقوله : ولقد اصطفيناه ومعنى أسلم : أخلص دينك بالتوحيد ، وقوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أخلصت الدين لله رب العالمين.

١٣٢ ـ لما بين عزّ اسمه دعاء إبراهيم (ع) لذريته ، وحكم بالسفه على من رغب عن ملته ، ذكر اهتمامه بأمر الدين ، وعهده به إلى نبيه في وصيته فقال : (وَوَصَّى بِها) أي بالملة ، أو بالكلمة التي هي قوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) وقيل : بكلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله (إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) إنما خص البنين لأن إشفاقه عليهم أكثر ، وهم بقبول وصيته أجدر ، وإلا فمن المعلوم أنه كان يدعو جميع الأنام إلى الإسلام ، (وَيَعْقُوبُ) وهو ابن إسحاق ، والمعنى : ووصى يعقوب بنيه الاثني عشر وهم الأسباط (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أي فقالا جميعا : يا بني إن الله اختار لكم دين الإسلام (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تتركوا الإسلام فيصادفكم الموت على تركه.

١٣٣ ـ خاطب سبحانه أهل الكتاب فقال : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي ما كنتم حضورا (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) وما كنتم حضورا (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) ومعناه : إنكم لم تحضروا ذلك فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل بأن تنسبوهم إلى اليهودية والنصرانية فإني ما بعثتهم إلّا بالحنيفية ، وذلك أن اليهود قالوا : إن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية ، فرد الله تعالى عليهم قولهم : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وإنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأنه أكبر منه ، وإسماعيل كان عمّ يعقوب وجعله أبا له لأن العرب تسمي العم أبا ، كما تسمي الجدّ أبا ، وذلك لأنه يجب تعظيمهما كتعظيم الأب (إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) خاضعون منقادون مستسلمون لأمره ونهيه.

١٣٤ ـ (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي جماعة قد مضت ، يعني إبراهيم وأولاده (لَها ما كَسَبَتْ) أي ما عملت من طاعة أو

٣٠

معصية (وَلَكُمْ) يا معشر اليهود والنصارى (ما كَسَبْتُمْ) أي ما عملتم من طاعة أو معصية (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لا يقال لكم اعملوا كذا على جهة المطالبة لكم بما يلزمهم من أجل أعمالهم كما لا يقال لهم : لم عملتم أنتم كذا وكذا ، وإنما يطالب كل إنسان بعمله دون عمل غيره ، كما قال سبحانه : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة أن الأبناء مؤاخذون بذنوب الآباء.

١٣٥ ـ (وَقالُوا) الضمير يرجع إلى اليهود والنصارى ، أي قالت اليهود (كُونُوا هُوداً أَوْ) وقالت النصارى : كونوا (نَصارى) كل فريق منهم دعا إلى ما هو عليه ، ومعنى (تَهْتَدُوا) أي تصيبوا طريق الحق (قُلْ) يا محمد (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي بل نتبع دين إبراهيم (حَنِيفاً) مستقيما والحنيفية : إتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس بعده من الحج والختان وغير ذلك من شرائع الإسلام (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وما كان إبراهيم من المشركين ، نفى الشرك عن ملته وأثبته في اليهود والنصارى حيث قالوا : عزير ابن الله والمسيح ابن الله.

١٣٦ ـ (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) خطاب للمسلمين أمرهم الله تعالى بإظهار ما تدينوا به من الشرع ، فبدأ بالإيمان بالله لأنه أول الواجبات ، ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرائع (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) يعني القرآن نؤمن بأنه حق وصدق وواجب اتباعه (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) قال قتادة : هم يوسف وإخوته بنو يعقوب ، ولد كل واحد منهم أمة من الناس فسموا الأسباط. وقوله : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) أي أعطيا وخصهما بالذكر لأنه احتجاج على اليهود والنصارى ، والمراد بما أوتي موسى التوراة ، وبما أوتي عيسى الإنجيل (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) أي ما أعطيه النبيون (مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعله اليهود والنصارى ، فكفرت اليهود بعيسى ومحمد ، وكفرت النصارى بسليمان ونبينا محمد (ص) (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) خاضعون بالطاعة ، مذعنون بالعبودية.

١٣٧ ـ (فَإِنْ آمَنُوا) أخبر الله سبحانه أن هؤلاء الكفار متى آمنوا على حد ما آمن المؤمنون به (فَقَدِ اهْتَدَوْا) إلى طريق الجنة (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإيمان وجحدوه ولم يعترفوا به (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي في خلاف قد فارقوا الحق ، وتمسكوا بالباطل فصاروا مخالفين لله سبحانه (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) وعد الله سبحانه رسوله بالنصرة وكفاية من يعاديه من اليهود والنصارى الذين شاقوه ، وفي هذا دلالة بينة على نبوته وصدقه (ص) المعنى أن الله سبحانه يكفيك يا محمد أمرهم (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بأعمالهم في إبطال أمرك ولن يصلوا إليك.

١٣٨ ـ (صِبْغَةَ اللهِ) أي اتبعوا دين الله روي عن الصادق (ع) قال : يعني به الإسلام (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أي لا أحد أحسن من الله صبغة (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) في اتباعنا ملة إبراهيم صبغة الله.

١٣٩ ـ أمر الله سبحانه نبيه (ع) في هذه الآية أن يقول لهؤلاء اليهود وغيرهم (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ) ومعناه : في دين الله ، أي أتخاصموننا وتجادلوننا فيه وهو سبحانه خالقنا ، والمنعم علينا ، وخالقكم والمنعم عليكم (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي خالقنا وخالقكم ، فهو أعلم حيث يجعل رسالته ومن الذي يقوم بأعبائها ويتحملها على وجه يكون أصلح للخلق ، وأولى بتدبيرهم وقوله (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لنا ديننا ولكم دينكم (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي موحدون ، والمراد بذلك ان المخلص أولى بالحق من المشرك.

٣١

١٤٠ ـ (أَمْ تَقُولُونَ ...) إن عندهم إنما يقع إسم اليهودية على من تمسك بشريعة التوراة ، واسم النصرانية على من تمسك بشريعة الإنجيل ، والكتابان أنزلا بعدهم كما قال سبحانه : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) قل : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) صورته صورة الإستفهام والمراد به التوبيخ ومثله قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) ومعناه : قل يا محمد لهم أأنتم أعلم أم الله وقد أخبر الله سبحانه أنهم كانوا على الحنيفية وزعمتم أنهم كانوا هودا أو نصارى فيلزمكم أن تدعوا أنكم أعلم من الله وهذا غاية الخزي (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) معناه : وما أحد أظلم ممن يكون عنده شهادة من الله فيكتمها ، والمراد بهذه الشهادة أن الله تعالى بيّن في كتابهم صحة نبوة محمد (ص) ، والبشارة به وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أوعدهم سبحانه بما يجمع كل وعيد ، أي ليس الله بساه عن كتمان الشهادة التي لزمكم القيام بها لله.

١٤١ ـ قد مضى تفسير هذه الآية وقيل في وجه تكراره : إن ذلك ورد مورد الوعظ لهم والزجر حتى لا يتكلموا على فضل الآباء والأجداد ، فإن ذلك لا ينفعهم.

١٤٢ ـ ثم ذكر سبحانه الذين عابوا المسلمين بالإنصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة فقال : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) أي سوف يقول الجهال وهم الكفار (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) أي أي شيء حولهم وصرفهم ـ يعني المسلمين ـ عن بيت المقدس الذي كانوا يتوجهون إليه في صلاتهم؟ وأما الوجه في الصرف عن القبلة الأولى بيّنه سبحانه بقوله : (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) ، لأنهم كانوا بمكة أمروا أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا يتوجهون إلى الكعبة ، فلما انتقل رسول الله (ص) إلى المدينة كانت اليهود يتوجهون إلى بيت المقدس فأمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا من أولئك (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) هو أمر من الله سبحانه لنبيه أن يقول لهؤلاء الذين عابوا انتقالهم من بيت المقدس إلى الكعبة : المشرق والمغرب ملك لله سبحانه يتصرف فيهما كيف شاء على ما تقتضيه حكمته وقوله (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي يدله ويرشده إلى الدين ، وإنما سماه الصراط لأنه طريق الجنة المؤدي إليها كما يؤدي الطريق إلى المقصد.

١٤٣ ـ ثم بيّن سبحانه فضل هذه الأمة على سائر الأمم فقال سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أخبر عز اسمه أنه جعل أمة نبيه محمد (ص) عدلا وواسطة بين الرسول والناس ، وقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) المعنى : لتكونوا حجة على الناس فتبينوا لهم الحق.

وسمي الشاهد شاهدا لأنه يبيّن ، ولذلك يقال للشهادة : بينة وقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) لكم بأنكم قد صدقتم يوم القيامة فيما تشهدون به وقوله (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) يعني بيت المقدس الذي كانوا يصلون إليه ، أي ما صرفناك عن القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ، أو ما جعلنا القبلة التي كنت عليها فصرفناك عنها (إِلَّا لِنَعْلَمَ) معناه : لنعاملكم معاملة المختبر الممتحن الذي كأنه لا يعلم ، إذ العدل يوجب ذلك من حيث لو عاملهم بما يعلم أنه يكون منهم قبل وقوعه كان ظلما وقوله : (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) أي يؤمن به ويتبعه في أقواله وأفعاله (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) إن قوما ارتدوا لما حوّلت القبلة جهلا منهم بما فيه من وجوه الحكمة وقوله (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) الضمير يرجع إلى التحويلة ومفارقة القبلة الأولى لأن القوم ثقل عليهم التحول قوله (لَكَبِيرَةً) معناه : عظيمة على من لا يعرف ما فيها من وجه الحكمة ، فأما الذين هداهم الله لذلك فلا تعظم عليهم وهم الذين صدقوا الرسول في التحول إلى الكعبة ، وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) لما حولت

٣٢

القبلة قال ناس : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) وقوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) رؤوف بهم لا يضيع عنده عمل عامل منهم ، والرأفة : أشد الرحمة.

١٤٤ ـ (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) يا محمد (فِي السَّماءِ) لانتظار الوحي في أمر القبلة وقوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) أي فلنصرفنك الى قبلة تريدها وتحبها (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي حوّل نفسك نحو المسجد الحرام لأن وجه الشيء نفسه (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي أينما كنتم من الأرض في بر أو بحر سهل أو جبل ، فولوا وجوهكم نحوه وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أراد به علماء اليهود والنصارى (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم ، وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا ، وكان في صفاته أنه يصلي إلى القبلتين (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي ليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء من كتمان صفة محمد (ص) والمعاندة.

١٤٥ ـ (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) في الكلام معنى القسم ، أي والله لئن أتيت الذين أعطوا الكتاب ، يعني أهل العناد من علماء اليهود والنصارى (بِكُلِّ آيَةٍ) أي بكل حجة ودلالة (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) لا يؤمن منهم أحد ، لأن المعاند لا تنفعه الدلالة وإنما تنفع الجاهل الذي لا يعلم (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) المراد : حسم أطماع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا في ذلك ، وظنوا أنه يرجع إلى الصلاة إلى بيت المقدس ، وقوله : (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) إنه لم يثبت أن يهوديا تنصر ، ولا ان نصرانيا تهود وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) إنه على سبيل الزجر عن الركون إليهم ومقاربتهم تقوية لنفسه ومتبعي شريعته ليستمروا على عداوتهم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي من الآيات والوحي الذي هو طريق العلم (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وقد مضى معناه.

١٤٦ ـ أخبر الله سبحانه بأنهم يعرفون النبي (ع) وصحة نبوّته فقال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي أعطيناهم (الْكِتابَ) وهم العلماء منهم (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) أي يعرفون محمدا وأنه حق (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) إنما خصّ الفريق منهم لأن من أهل الكتاب من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما.

١٤٧ ـ (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وهو ما آتاه الله من الوحي والكتاب والشرائع (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) من الشاكين في الحق الذي تقدم اخبار الله تعالى به ، والخطاب وإن كان متوجها إلى النبي (ع) فالمراد به الأمة كقوله عز اسمه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) وأمثاله.

١٤٨ ـ هذا بيان لأمر القبلة أيضا وقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) معناه : لكل أهل ملة من اليهود والنصارى قبلة (هُوَ مُوَلِّيها) أي الله موليها إياهم ، ومعنى توليته لهم إياها أنه أمرهم بالتوجه نحوها في صلاتهم إليها وقوله (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) معناه سارعوا إلى الخيرات والخيرات : هي الطاعات لله تعالى وقوله : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي حيثما كنتم من بلاد الله سبحانه يأت بكم الله إلى المحشر يوم القيامة. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي هو قادر على جمعكم وحشركم.

١٤٩ ـ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) من البلاد (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي فاستقبل بوجهك تلقاء المسجد الحرام وقيل في تكراره إنه في الأول بيان لحال الحضر ، وفي الثاني بيان لحال السفر وقوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) معناه : وإن التوجه إلى الكعبة الحق المأمور به من ربك (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) معناه : هنا التهديد كما يقول الملك

٣٣

لعبيده : ليس يخفى علي ما أنتم فيه ، ومثله قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).

١٥٠ ـ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) منصرفا عن التوجه إلى بيت المقدس (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) المراد : أين ما كنت من البلاد فتوجه نحوه من كل جهات الكعبة وسائر الأقطار وقوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) معناه : لأن لا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة إذا لم تصلوا نحو المسجد الحرام بأن يقولوا : ليس هذا هو النبي المبشّر به ، إذ ذاك نبيّ يصلي بالقبلتين (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) يريد إلا الظالمين الذين يكتمون ما عرفوا من أنه يحول إلى الكعبة وقوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) لما ذكرهم بالظلم والخصومة والمحاجة طيب نفوس المؤمنين فقال : لا تخافوهم ولا تلتفتوا إلى ما يكون منهم ، فإن عاقبة السوء عليهم ولا حجة لأحد منهم عليكم ولا يد. وقوله (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم (ع) ، بين سبحانه أنه حول القبلة لهذين الغرضين : زوال القالة ، وتمام النعمة (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا ، ولعل من الله واجب.

١٥١ ـ قوله : (كَما أَرْسَلْنا) معناه : أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة ، لأن الله تعالى لطف لعباده بها على ما يعلم من المصلحة ومحمود العاقبة وقوله : (رَسُولاً) يعني محمدا (ص) (مِنْكُمْ) بالنسب لأنه من العرب ، ووجه النعمة عليهم بكونه من العرب ما حصل لهم به من الشرف والذكر ، وإن العرب لم تكن لتتبع رسولا يبعث إليهم من غيرهم مع نخوتهم وعزتهم في نفوسهم ، فكون الرسول منهم يكون أدعى لهم إلى الإيمان به واتباعه وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) أراد بها القرآن (وَيُزَكِّيكُمْ) ويعرضكم لما تكونون به أزكياء من الأمر بطاعة الله ، واتباع مرضاته (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) الكتاب القرآن ، والحكمة هي الوحي من السنة ، وما لا يعلم إلا من جهته من الأحكام ، وقوله : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي ما لا سبيل لكم إلى علمه إلا من جهة السمع ، فذكرهم الله بالنعمة فيه.

١٥٢ ـ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) معناه : اذكروني بطاعتي اذكركم برحمتي (وَاشْكُرُوا لِي) أي اشكروا نعمتي وأظهروها واعترفوا بها (وَلا تَكْفُرُونِ) ولا تستروا نعمتي.

١٥٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) أي بحبس النفس عما تشتهيه من المقبحات ، وحملها على ما تنفر عنه من الطاعات (وَالصَّلاةِ) لما فيها من الذكر والخشوع لله ، وتلاوة القرآن الذي يتضمن ذكر الوعد والوعيد ، والهدى والبيان ، وما هذه صفته يدعو إلى الحسنات ، ويزجر عن السيئات (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) المراد : هو معهم بالتوفيق والتسديد ، أي يسهل عليهم أداء العبادات ، والإجتناب من المقبحات ، ونظيره قوله سبحانه : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً).

١٥٤ ـ لما أمر الله سبحانه بالصبر والصلاة للإزدياد في القوة بهما على الجهاد قال : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) فنهى أن يسمى من قتل في الجهاد أمواتا (بَلْ أَحْياءٌ) أي بل هم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة ، (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي لا تعلمون أنهم أحياء.

١٥٥ ـ لما بيّن سبحانه ما كلّف عباده من العبادات عقّبه ببيان ما امتحنهم به من فنون المشقات فقال : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي ولنختبرنكم ومعناه : نعاملكم معاملة المختبر ليظهر المعلوم منكم (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) أي بشيء من الخوف ، وشيء من الجوع ، وشيء من نقص الأموال ، وإنما عرفهم سبحانه ذلك ليوطنوا أنفسهم على

٣٤

المكاره التي تلحقهم (وَالْأَنْفُسِ) بالموت وقوله : (وَالثَّمَراتِ) قيل أراد ذهاب حمل الأشجار بالجوائح وقلة النبات ، وقوله : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أي أخبرهم.

١٥٦ ـ ١٥٧ ـ ثم وصف عز اسمه الصابرين فقال (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) أي نالتهم نكبة في النفس أو المال فوطنوا أنفسهم على ذلك إحتسابا للأجر (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) هذا إقرار بالعبودية ، أي نحن عبيد الله وملكه (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) هذا إقرار بالبعث والنشور ، أي نحن إلى حكمه نصير ، وتقديره : إنا لله ، تسليما لأمره ، ورضاء بتدبيره ، وإنا إليه راجعون ثقة بأنا نصير إلى عدله ، وانفراده بالحكم في أموره وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى الذين وصفهم من الصابرين (عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ثناء جميل من ربهم وتزكية (وَرَحْمَةٌ) أي نعمة عاجلا وآجلا (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) أي المصيبون طريق الحق في الإسترجاع.

١٥٨ ـ لمّا ذكر سبحانه إمتحان العباد بالتكليف والالزام مرة وبالمصائب والآلام أخرى ، ذكر سبحانه أن من جملة ذلك أمر الحج فقال (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي أنهما من أعلام متعبداته وقوله : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) أي قصده بالأفعال المشروعة (أَوِ اعْتَمَرَ) أي أتى بالعمرة وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) أي لا حرج عليه (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) عن أبي عبد الله (ع): كان ذلك في عمرة القضاء وذلك أن رسول الله (ص) شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام ، فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام ، فقيل له : إن فلانا لم يطف وقد أعيدت الأصنام ، فنزلت هذه الآية : فلا جناح عليه أن يطوف بهما ، أي والأصنام عليهما ، فكان الناس يسعون والأصنام على حالها ، فلما حج النبي (ص) رمى بها ، وقوله : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) أي مجازيه على ذلك وقوله : (عَلِيمٌ) بما تفعلونه من الأفعال فيجازيكم عليها.

١٥٩ ـ ثم حثّ الله سبحانه على إظهار الحق وبيانه ، ونهى عن إخفائه وكتمانه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) أي يخفون (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) أي من الحجج المنزلة في الكتب (وَالْهُدى) أي الدلائل (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) يعني في التوراة والإنجيل من صفته (ع) ومن الأحكام (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) أي يبعدهم من رحمته بإيجاب العقوبة (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) الملائكة والمؤمنون لقوله سبحانه : (عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

١٦٠ ـ ثم استثنى الله سبحانه في هذه الآية من تاب وأصلح فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي ندموا على ما قدموا (وَأَصْلَحُوا) نياتهم فيما يستقبل من الأوقات (وَبَيَّنُوا) ما كتموه من البشارة بالنبي (ص) (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي أقبل توبتهم (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) هذه اللفظة للمبالغة اما لكثرة ما يقبل التوبة ، واما لأنه لا يرد تائبا منيبا أصلا ، ووصفه سبحانه نفسه بالرحيم عقيب قوله التواب يدل على إن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل من الله سبحانه ورحمة من جهته على ما قاله أصحابنا.

١٦١ ـ ١٦٢ ـ لما بين سبحانه حال من كتم الحق ، وحال من تاب منهم ، عقّبه بحال من يموت من غير توبة منهم أو من الكفار جميعا فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي ماتوا مصرين على الكفر (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) أي إبعاده من رحمته وعقابه (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأنه لا يمتنع أحد من لعن الظالمين فيدخل في ذلك الكافر لأنه ظالم ، واللعنة إنما تكون من الناس على وجه الدعاء ، ومن الله على وجه الحكم وقوله : (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين فيها أي في النار وقوله : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) أي يكون عذابهم على وتيرة واحدة فلا يخفف أحيانا ويشتد أحيانا (وَلا هُمْ

٣٥

يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون للإعتذار.

١٦٣ ـ (وَإِلهُكُمْ) أي خالقكم ، والمنعم عليكم بالنعم التي لا يقدر عليها غيره ، والذي تحق له العبادة (إِلهٌ واحِدٌ) لا نظير له ولا شبيه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هذه كلمة لاثبات الإلهية لله تعالى وحده ومعناه : الله هو الإله وحده وقوله : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) إنما قرن الرحمن الرحيم بقوله لا إله إلا هو لأنه بين به سبب إستحقاق العبادة على عباده ، وهو ما أنعم عليهم من النعم العظام التي لا يقدر عليها أحد غيره ، فإن الرحمة هي النعمة على المحتاج إليها.

١٦٤ ـ لما أخبر الله سبحانه الكفار بأن إلههم إله واحد لا ثاني له قالوا : ما الدلالة على ذلك؟ فقال الله سبحانه : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي في إنشائهما مقدرين على سبيل الإختراع (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) كل واحد منهما يخلف صاحبه ، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر على وجه المعاقبة أو إختلافهما في الجنس واللون ، والطول والقصر (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) أي السفن التي تحمل الأحمال (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) والنفع بها يكون بركوبها ، والحمل عليها في التجارات والمكاسب (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ) أي من نحو السماء (مِنْ ماءٍ) يعني المطر (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي فعمر به الأرض بعد خرابها ، لأن الأرض إذا وقع عليها المطر أنبتت ، وإذا لم يصبها مطر لم تنبت ولم يتم نباتها ، فكانت من هذا الوجه كالميت (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي فرق في الأرض من كل حيوان يدب (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي تقليبها بأن جعل بعضها صباء ، وبعضها دبورا ، وبعضها شمالا ، وبعضها جنوبا (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ) أي المذلل (بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يصرفها كما يشاء من بلد إلى بلد ، ومن موضع إلى موضع (لَآياتٍ) أي حججا ودلالات (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) انه عام في العقلاء من استدل منهم ومن لم يستدل.

١٦٥ ـ (وَمِنَ النَّاسِ) أي بعض الناس (مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) يعني آلهتهم من الأوثان التي كانوا يعبدونها (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) كحبكم الله ، أي كحب المؤمنين الله (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) يعني حب المؤمنين فوق حب هؤلاء ، وحبهم أشد وأثبت وأدوم لأن المشرك ينتقل من صنم إلى صنم وقوله : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) تقديره : ولو يرى الظالمون ، أي يبصرون (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) معناه : لو ترى أيها الإنسان الظالمين إذ يرون العذاب وقوله : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) إن الله سبحانه قادر على أخذهم وعقوبتهم ، وفي هذا وعيد وإشارة إلى أن هؤلاء الجبابرة مع تعززهم إذا حشروا ذلوا وتخاذلوا (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) وصف العذاب بالشدة توسعا ومبالغة في الوصف.

١٦٦ ـ ١٦٧ ـ لما ذكر الذين إتخذوا الأنداد ذكر سوء حالهم في المعاد فقال سبحانه : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) وهم القادة والرؤساء من مشركي الانس (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي من الأتباع (وَرَأَوُا) أي رأى التابعون والمتبوعون (الْعَذابَ) أي عاينوه حين دخلوا النار (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) قد زال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به فلا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة أو قرابة أو مودة أو حلف أو عهد على ما كانوا ينتفعون بها في الدنيا ، وذلك نهاية في الأياس (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) يعني الاتباع (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي عودة إلى دار الدنيا وحال التكليف (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) أي من القادة في الدنيا (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) في الآخرة (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) المعاصي يتحسرون عليها لم عملوها (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) أي يخلدون فيها بيّن سبحانه في الآية أنهم يتحسرون في وقت لا ينفعهم فيه الحسرة ، وذلك ترغيب في التحسر في وقت تنفع فيه الحسرة.

٣٦

١٦٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وهذا الخطاب عام لجميع المكلفين من بني آدم (كُلُوا) لفظه الأمر ومعناه الإباحة (مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) لما أباح الأكل بين ما يجب أن يكون عليه من الصفة ، لأن في المأكول ما يحرم وفيه ما يحل ، فالحرام يعقب الهلكة ، والحلال يقوي على العبادة ، وأما الطيب فمعناه : ما يستطيبونه ويستلذونه في العاجل والآجل (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) معناه : طاعتكم إياه وقال القاضي : يريد وساوس الشيطان وخواطره ، وقال الماوردي : هو ما ينقلهم به من معصية إلى معصية (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي مظهر للعداوة بما يدعوكم إليه من خلاف الطاعة لله تعالى.

١٦٩ ـ لما قدّم سبحانه ذكر الشيطان عقّبه ببيان ما يدعو إليه من مخالفة الدين فقال : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) أي المعاصي (وَالْفَحْشاءِ) المراد به الزنا (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أراد به جميع المذاهب الفاسدة ، والإعتقادات الباطلة.

١٧٠ ـ لما تقدم ذكر الكفار بين سبحانه حالهم في التقليد ، وترك الإجابة إلى الإقرار بصدق النبي (ص) فيما جاء به من الكتاب المجيد فقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) والقائل لهم : هو النبي (ص) والمسلمون (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي من القرآن وشرائع الإسلام (قالُوا) أي الكفار (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا) أي وجدنا (عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) أي لا يعلمون شيئا من أمور الدين (وَلا يَهْتَدُونَ) أي لا يصيبون طريق الحق.

١٧١ ـ ثم ضرب الله مثلا للكفار في تركهم إجابة من يدعوهم إلى التوحيد ، وركونهم إلى التقليد فقال : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) يصوّت (بِما لا يَسْمَعُ) من البهائم (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) المعنى : مثل الذين كفروا في دعائك إياهم ، كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم وإنما تسمع الصوت ، فكما ان الأنعام لا يحصل لها من دعاء الراعي إلا السماع دون تفهّم المعنى فكذلك الكفار لا يحصل لهم من دعائك إياهم إلى الإيمان إلّا السماع دون تفهم المعنى ، لأنهم يعرضون عن قبول قولك ، وينصرفون عن تأمّله ، فيكونون بمنزلة من لم يعقله ولم يفهمه. ثم وصفهم سبحانه بما يجري مجرى التهجين والتوبيخ فقال : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أي صم عن استماع الحجة ، بكم عن التكلم بها ، عمي عن الابصار لها (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي هم بمنزلة من لا عقل له ، إذ لم ينتفعوا بعقولهم.

١٧٢ ـ ثم خاطب سبحانه المؤمنين وذكر نعمه الظاهرة عليهم ، وإحسانه المبين إليهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا) ظاهره الأمر والمراد به الإباحة (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي مما تستلذونه وتستطيبونه من الرزق ، وفيه دلالة على النهي عن أكل الخبيث (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) لما نبّه سبحانه على إنعامه علينا بما جعله لنا من لذيذ الرزق أمرنا بالشكر ، لأن الإنعام يقتضي الشكر وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي إن كنتم مخلصين له في العبادة.

١٧٣ ـ لما ذكر سبحانه إباحة الطيبات عقبه بتحريم المحرمات فقال : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) وهو ما يموت من الحيوان (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) خصّ اللحم لأنه المعظم والمقصود ، وإلّا فجملته محرمة (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ما ذبح لغير الله (فَمَنِ اضْطُرَّ) تقديره : فمن خاف على النفس من الجوع ولا يجد مأكولا يسدّ به الرمق وقوله (غَيْرَ باغٍ) غير باغ اللذة (وَلا عادٍ) سد الجوعة (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي لا حرج عليه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإنه لا يؤاخذ بما رخص به.

١٧٤ ـ ثم عاد الكلام إلى ذكر اليهود الذين تقدم ذكرهم فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) أي

٣٧

صفة محمد والبشارة به عن الحسن ، والكتاب هو التوراة (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي يستبدلون به عرضا قليلا من حطام الدنيا (أُولئِكَ) يعني الذين كتموا ذلك ، وأخذوا الأجر على الكتمان (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ومعناه أنهم يأكلون النار حقيقة في جهنم عقوبة لهم على كتمانهم ، فيصير ما أكلوا في بطونهم نارا يوم القيامة ، فسماه في الحال بما يصير إليه في المآل (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بما يحبون ، وفي ذلك دليل على غضبه عليهم وإن كان يكلمهم بالتوبيخ وبما يغمهم كما قال : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) معناه : لا يطهرهم من خبث أعمالهم بالمغفرة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع مؤلم.

١٧٥ ـ (أُولئِكَ) إشارة إلى من تقدم ذكرهم (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي إستبدلوا الكفر بالنبي (ص) بالإيمان به فصاروا بمنزلة من يشتري السلعة بالثمن وقوله (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) لما عرفوا ما أعدّ الله لمن عصاه من العذاب ، ولمن أطاعه من الثواب ثم أقاموا على ما هم عليه من المعصية مصرّين وقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) معناه : ما أجرأهم على النار.

١٧٦ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى العذاب (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ففي الكلام محذوف وتقديره : فكفروا به ، والمراد بالكتاب هاهنا هو القرآن وغيره (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) قيل : هم الكفار أجمع اختلفوا في القرآن على أقوال فمنهم من قال : هو كلام السحرة ، ومنهم من قال : كلام تعلّمه ، ومنهم من قال : كلام تقوّله : وقوله : (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي بعيد عن الألفة بالإجتماع على الصواب.

١٧٧ ـ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ليس البر كله في التوجه إلى الصلاة حتى يضاف إلى ذلك غيره من الطاعات التي أمر الله بها (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي لكن البر برّ من آمن بالله (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعني القيامة ، ويدخل فيه : التصديق بالبعث والحساب ، والثواب والعقاب (وَالْمَلائِكَةِ) أي بأنهم عباد الله المكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (وَالْكِتابِ) أي وبالكتب المنزلة من عند الله إلى أنبيائه (وَالنَّبِيِّينَ) وبالأنبياء كلهم وأنهم معصومون مطهرون ، وفيما أدّوه إلى الخلق صادقون (وَآتَى الْمالَ) أي وأعطى المال (عَلى حُبِّهِ) الكناية راجعة إلى المال ، أي على حب المال وهو أن تعطيه وأنت صحيح تأمل العيش ، وتخشى الفقر ، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا (ذَوِي الْقُرْبى) أراد به قرابة المعطي (وَالْيَتامى) اليتيم من لا أب له مع الصغر ، قيل : أراد يعطيهم أنفسهم المال ، وقيل : أراد ذوي اليتامى ، أي يعطي من تكفل بهم (وَالْمَساكِينَ) يعني أهل الحاجة (وَابْنَ السَّبِيلِ) يعني المنقطع به (وَالسَّائِلِينَ) أي الطالبين للصدقة ، لأنه ليس كل مسكين يطلب (وَفِي الرِّقابِ) عتق الرقاب ، بأن يشتري ويعتق (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أي أدّاها لميقاتها ، وعلى حدودها (وَآتَى الزَّكاةَ) أي أعطى زكاة ماله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) أي والذين إذا عاهدوا عهدا وفوا به ، يعني العهود والنذور التي بينهم وبين الله تعالى ، والعقود التي بينهم وبين الناس ، وكلاهما يلزم الوفاء به (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) يريد بالبأساء : البؤس والفقر ، وبالضراء : الوجع والعلة (وَحِينَ الْبَأْسِ) يريد وقت القتال وجهاد العدو (أُولئِكَ) إشارة إلى من تقدم ذكرهم (الَّذِينَ صَدَقُوا) أي صدقوا الله فيما قبلوا منه ، والتزموه علما ، وتمسكوا به عملا (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي اتقوا بفعل هذه الخصال نار جهنم.

٣٨

١٧٨ ـ لما بيّن سبحانه أن البر لا يتم إلّا بالإيمان والتمسك بالشرائع ، بيّن الشرائع وبدأ بالدماء والجراح فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ) أي فرض عليكم ، وأوجب (الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) المساواة في القتلى ، أي يفعل بالقاتل مثل ما فعله بالمقتول (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) ولا يقتل حرّ بعبد ولكن يضرب ضربا شديدا ويغرم دية العبد ، وإن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل ، وقوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) معناه : من ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد من أخيه أي من دم أخيه ورضي منه بالدية ، هذا قول أكثر المفسرين قالوا العفو أن يقبل الدية في قتل العمد ، وقوله (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أي فعلى العافي إتباع بالمعروف ، هي أن لا يشدد في الطلب وينظره إن كان معسرا ، ولا يطالبه بالزيادة على حقه ، وعلى المعفو له (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي الدفع عند الإمكان من غير مطل وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى جميع ما تقدم (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) معناه : انه جعل لكم القصاص أو الدية أو العفو ، وخيّركم بينها (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي بأن قتل بعد قبول الدية أو العفو (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

١٧٩ ـ ثم بيّن سبحانه وجه الحكمة في إيجاب القصاص فقال : (وَلَكُمْ) أيها المخاطبون (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) معناه في إيجاب القصاص حياة لأن من همّ بالقتل فذكر القصاص ارتدع فكان ذلك سببا للحياة (يا أُولِي الْأَلْبابِ) معناه : يا ذوي العقول لأنهم الذين يعرفون العواقب ، ويتصورون ذلك فلذلك خصّهم (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لتتقوا القتل بالخوف من القصاص.

١٨٠ ـ ثم بيّن سبحانه شريعة أخرى وهي الوصية فقال (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) أي فرض عليكم (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسباب الموت من مرض ونحوه من الهرم (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي الوصية لوالديه وقرابته (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالشيء الذي يعرف أهل التمييز أنه لا جور فيه ولا حيف (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي حقا واجبا على من آثر التقوى ، وهذا تأكيد في الوجوب.

١٨١ ـ ثم أوعد سبحانه على تغيير الوصية فقال : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي بدل الوصية وغيرها من الأوصياء أو الأولياء أو الشهود (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) من الموصي الميت ، وإنما ذكر السماع ليدل على أن الوعيد لا يلزم إلا بعد العلم والسماع (فَإِنَّما إِثْمُهُ) أي اثم التبديل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي على من يبدل الوصية وبرىء الميت (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع لما قاله الموصي من العدل أو الحيف ، عليم بما يفعله الوصي من التصحيح أو التبديل.

١٨٢ ـ لما تقدم الوعيد لمن بدّل الوصية بين في هذه الآية انّ ذلك يلزم من غير حقا بباطل ، فأما من غيّر باطلا بحق فهو محسن فقال : (فَمَنْ خافَ) أي خشي (مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) أي ميلا عن الحق فيما يوصي به في حال مرضه وهو أن يعطي بعضا ويضر ببعض ، فلا إثم عليه أن يشير عليه بالحق ، ويردّه إلى الصواب ، ويصلح بين الموصي والورثة ، والموصى له حتى يكون الكل راضين ولا يحصل جنف ولا إثم وقوله (أَوْ إِثْماً) الإثم : أن يكون الميل عن الحق على وجه العمد والجنف : أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أن

٣٩

يجوز (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي بين الورثة والمختلفين في الوصية ، وهم الموصى لهم (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) لأنه متوسط مريد للإصلاح (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني إذا كان يغفر الذنوب ، ويرحم المذنب فأولى وأحرى أن يكون كذلك ولا ذنب.

١٨٣ ـ ثم بيّن سبحانه فريضة أخرى فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها المصدقون (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) أي فرض عليكم العبادة المعروفة في الشرع ، وإنما خصّ المؤمنين بالخطاب لقبولهم لذلك ، ولأنّ العبادة لا تصح إلا منهم ، وقوله : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي كتب عليكم صيام أيام كما كتب عليهم صيام أيام ، وليس فيه تشبيه عدد الصوم المفروض علينا ولا وقته بعدد الصوم المفروض عليهم أو وقته وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لكي تتقوا المعاصي بفعل الصوم.

١٨٤ ـ (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي معلومات ويجوز أن يريد بقوله : معدودات أنها قلائل كما قال سبحانه : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) : يريد أنها قليلة (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وتقديره : فمن كان منكم مريضا أو مسافرا فالذي ينوب مناب صومه عدة من أيام أخر ، وفيه دلالة على أن المسافر والمريض يجب عليهما الإفطار (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) الهاء تعود إلى الصوم معناه : وعلى الذين كانوا يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر أو عطاش وشبه ذلك فعليهم كل يوم مدّ وقوله : (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) إن كان قادرا فمدّان ، فإن لم يقدر أجزأه مدّ واحد وقوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) معناه : من أطعم أكثر من مسكين واحد (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) معناه : الصوم خير لمطيقه وأفضل ثوابا من التكفير لمن أفطر بالعجز (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم تعلمون أفضل أعمالكم.

١٨٥ ـ (شَهْرُ رَمَضانَ) أي هذه الأيام المعدودات شهر رمضان (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فبين أنه خصه بالصوم فيه لاختصاصه بالفضائل المذكورة وهو أنه أنزل فيه القرآن الذي عليه مدار الدين والإيمان (هُدىً لِلنَّاسِ) أي هاديا للناس (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) أي ودلالات من الهدى (وَالْفُرْقانِ) أي ومما يفرق بين الحق والباطل وقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فمن شهد منكم المصر ، وحضر ولم يغب في الشهر ، والمراد به شهر رمضان فليصم جميعه (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قد مضى تفسيره في الآية المتقدمة ، وحدّ المرض الذي يوجب الإفطار ما يخاف الإنسان معه الزيادة المفرطة في مرضه وأما السفر الذي يوجب الإفطار عندنا فما كان مباحا أو طاعة ، وكانت المسافة ثمانية فراسخ ، أربعة وعشرين ميلا وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) أي في الرخصة للمريض والمسافر إذ لم يوجب الصوم عليهما وقيل : يريد الله بكم اليسر في جميع أموركم (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي التضييق عليكم ، فإنه لا يريد تكليف ما لا يطاق. قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) وتقديره : يريد الله لأن يسهل عليكم ، ولأن تكملوا ، أي تتموا عدة ما أفطرتم فيه وهي أيام السفر والمرض فتصوموا القضاء بعدد أيام الإفطار وقوله (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) المراد به تكبير ليلة الفطر عقيب أربع صلوات : المغرب ، والعشاء الآخرة ، والغداة ، وصلاة العيد (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لتشكروا الله على نعمه.

٤٠