الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) واجعل من ذريتي مقيم الصلاة ، ويتمسك بالدين (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي واجب دعائي ، فإن قبول الدعاء إنما هو الإجابة ، وقبول الطاعة الإثابة (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) واستدل أصحابنا بهذا على ما ذهبوا إليه من ان أبوي إبراهيم (ع) لم يكونا كافرين لأنه إنما يسأل المغفرة لهما يوم القيامة ، فلو كانا كافرين لما سأل ذلك لأنه قال : فلما تبيّن له أنه عدوّ لله تبرأ منه ، فصحّ أن أباه الذي كان كافرا إنما هو جده لأمه (وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي واغفر للمؤمنين أيضا يوم يقوم الخلق للحساب.

النظم

اتصلت الآيات بما قبله لأن النهي عن عبادة الأصنام والأمر بعبادة الله سبحانه قد تقدّم ، فبيّن سبحانه عقيب ذلك ما كان عليه إبراهيم عليه‌السلام من التشدد في إنكار عبادة الأصنام ، والدعاء بما دعا به ، وقيل : انه معطوف على ما تقدّم من قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ، وقيل : انه لما قال : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) بيّن عقيبه ما دعا به إبراهيم عليه‌السلام ، وسأله إياه ، وإجابته لدعائه وسؤاله.

٤٢ ـ ٤٥ ـ لما ذكر سبحانه يوم الحساب وصفه وبيّن أنه لا يمهل الظالمين عن غفلة لكن لتأكيد الحجة قال (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) وفي هذا وعيد للظالم ، وتعزية للمظلوم ومعناه : ولا تظنن الله ساهيا عن مجازاة الظالمين على أعمالهم (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) ومعناه : إنما يؤخر عقابهم ومجازاتهم إلى يوم القيامة ، وهو اليوم الذي تكون فيه الأبصار شاخصة عن مواضعها لا تغمض لهول ما ترى في ذلك اليوم ولا تطرف للتحير والرعب (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي مسرعين عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة وقيل : يريد دائمي النظر إلى ما يرون لا يرى الرجل مكان قدمه من شدة رفع الرأس ، وذلك من هول يوم القيامة (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا ترجع إليهم أعينهم ولا يطبقونها ولا يغمضونها ، وإنما هو نظر دائم (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) معناه : وأفئدتهم زائلة عن مواضعها قد ارتفعت إلى حلوقهم لا تخرج ولا تعود إلى أماكنها بمنزلة الشيء الذاهب في جهات مختلفة ، المتردد في الهواء (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) معناه : ودم يا محمد على إنذارك الناس ، وهو عام في كل مكلف (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) وهو يوم القيامة (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) نفوسهم بارتكاب المعاصي (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ) أي ردّنا إلى الدنيا واجعل ذلك مدة قريبة نجب دعوتك فيها (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) أي نتبع رسلك فيما يدعوننا إليه ، فيقول الله تعالى مخاطبا لهم ، أو يقول الملائكة بأمره (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) أي حلفتم (مِنْ قَبْلُ) في دار الدنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي ليس لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) هذا زيادة توبيخ لهم وتعنيف ، أي وسكنتم ديار من كذب الرسل قبلكم فاهلكهم الله ، وعرفتم ما نزل بهم من البلاء والهلاك والعذاب المعجل ، (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) وبينا لكم الأشباه ، وأخبرناكم بأحوال الماضين قبلكم لتعتبروا بها فلم تعتبروا ولم تتعظوا وقيل الأمثال ما ذكر في القرآن مما يدل على أنه تعالى قادر على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء والإبتداء.

٤٦ ـ ٥٤ ـ ثم أبان سبحانه عن مكر الكفار ، ودفعه ذلك عن رسله (ع) تسلية لنبينا (ص) فقال (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي وقد مكروا بالأنبياء قبلك ما أمكنهم من المكر كما مكروا بك ، فعصمهم الله من مكرهم كما عصمك (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي جزاء مكرهم فهو يجازيهم عليه (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) أي ولم يكن مكرهم ليبطل حجج القرآن وما معك من دلائل النبوات فإن ذلك ثابت بالدليل والبرهان والمعنى : لا تزول منه الجبال فكيف يزول منه الدين الذي هو أثبت من الجبال؟ (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ

٣٤١

رُسُلَهُ) أي فلا تظنن الله عز اسمه مخلفا رسله ما وعدهم به من النصر والظفر بالكفار ، والظهور عليهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي ممتنع بقدرته من أن ينال باهتضام من الكفار (ذُو انتِقامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) قيل فيه قولان (أحدهما) أن المعنى : تبدّل صورة الأرض وهيئتها ، عن ابن عباس ، فقد روي عنه أنه قال : تبدّل آكامها وآجامها وجبالها وأشجارها ، والأرض على حالتها ، وتبقى أرضا بيضاء كالفضة ، لم يسفك عليها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة ، وتبدّل السماوات فيذهب بشمسها وقمرها ونجومها ، وكان ينشد :

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت أعرف

ويعضده ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يبدّل الله الأرض غير الأرض والسماوات ، فيبسطها ويمدّها مدّ الأديم العكاظي ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدّلة مثل مواضعهم من الأولى ، ما كان في بطنها كان في بطنها ، وما كان على ظهرها كان على ظهرها (والآخر) أن المعنى : تبدل الأرض وتنشأ أرض غيرها ، والسماوات كذلك تبدل بغيرها وتفنى هذه وقيل : تبدل الأرض لقوم بأرض الجنة ، ولقوم بأرض النار (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) أي يظهرون من أرض قبورهم للمحاسبة لا يسترهم شيء ، وجعل ذلك بروزا لله لأن حسابهم معه وإن كانت الأشياء كلها بارزة له لا يسترها عنه شيء (الْواحِدِ) الذي لا شبه له ولا نظير (الْقَهَّارِ) المالك الذي لا يضام ، يقهر عباده بالموت (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) يعني الكفار لأنه تقدّم ذكرهم (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي مجمعين في الأغلال ، قرنت أيديهم بها إلى أعناقهم وقيل : يقرن كل كافر مع شيطان كان يضلّه في غل من حديد عن ابن عباس والحسن ، ويبينه قوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) ، أي قرناءهم من الشياطين وقوله : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (سَرابِيلُهُمْ) أي قميصهم (مِنْ قَطِرانٍ) وهو ما يطلى به الإبل شيء أسود لزج منتن يطلون به فيصير كالقميص عليهم ، ثم يرسل النار فيهم لتكون أسرع إليهم ، وأبلغ في الإشتعال ، وأشدّ في العذاب (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي وتصيب وجوههم النار (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أخبر سبحانه أنه إنما فعل ذلك بهم لتجزى كل نفس بما كسبت ، ان كسبت خيرا بأن آمنت وأطاعت أثابها الله بالنعيم المقيم ، وإن كسبت شرا بأن كفرت وجحدت عاقبها بالعذاب الأليم في نار الجحيم (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي سريع المجازاة (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) هو إشارة إلى القرآن أي هذا القرآن عظة للناس بالغة كافية (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) أي أنزل ليبلغوا وينذروا به ، وليخوفوا بما فيه من الوعيد (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له بالنظر في أدلة التوحيد التي بينها الله في القرآن (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وليتعظ به أهل العقول وذوو النهى ، وفي هذه الآية دلالة على أن القرآن كاف في جميع ما يحتاج الناس إليه في أمور الدين ، لأن جميع أمور الدين جملها وتفاصيلها يعلم بالقرآن إما بنفسه وإما بواسطة فيجب على المؤمن المجتهد المهتم بأمور الدين أن يشمر عن ساق الجد في طلب أمور القرآن ، ويصدق عنايته بمعرفة ما فيه من بدائع الحكمة ، ومواضع البيان ، مكتفيا به عما سواه لينال السعادة في دنياه وعقباه. وفي قوله : ليذكر دلالة على أنه أراد من الجميع التدبّر والتذكّر ، وعلى أن العقل حجّة لأن غير ذوي العقول لا يمكنهم الفكر والإعتبار.

سورة الحجر مكية

عدد آياتها تسع وتسعون آية

١ ـ ٥ ـ (الر) قد تقدّم الكلام في هذه الحروف وأقوال العلماء فيها (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) أي هذه آيات

٣٤٢

الكتاب ، وآيات قرآن مميّز بين الحق والباطل ، وقيل : هو المبين للحلال والحرام ، والأوامر والنواهي ، والأدلة وغير ذلك (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) أي ربما يتمنى الكفار الإسلام في الآخرة إذا صار المسلمون إلى الجنة ، والكفار إلى النار. وروى مجاهد عن ابن عباس قال : ما يزال الله يدخل الجنة ويرحم ويشفع حتى يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة ، فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين وروي مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا اجتمع أهل النار في النار ، ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة ، قال الكفّار للمسلمين ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا : بلى قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ، فيسمع الله عزوجل ما قالوا ، فأمر من كان في النار من أهل الإسلام فأخرجوا منها ، فحينئذ يقول الكفار : يا ليتنا كنّا مسلمين (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) معناه : دعهم يأكلوا في دنياهم أكل الأنعام ، ويتمتعوا فيها بما يريدون ، والتمتع : التلذذ وهو طلب اللذة حالا بعد حال (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي وتشغلهم آمالهم الكاذبة عن اتباع النبي (ص) والقرآن ، يقال : الهاه الشيء : أي شغله وأنساه (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وبال ذلك فيما بعد حين يحلّ بهم العذاب يوم القيامة ، وصاروا إلى ما يجحدون به. (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) معناه : ولم نهلك أهل قرية فيما مضى على وجه العقوبة إلّا وكان لهم أجل مكتوب لا بد أن سيبلغونه ، يريد فلا يغرنّ هؤلاء الكفار إمهالي إياهم إنما ينزل العذاب بهم في الوقت المكتوب المقدر لذلك (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي لم تكن أمة فيما مضى تسبق أجلها فتهلك قبل ذلك ، ولا تتأخر عن أجلها الذي قدّر لها ، بل إذا استوفت أجلها أهلكها الله.

٦ ـ ١٨ ـ (وَقالُوا) أي قال المشركون للنبي (ص) (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي القرآن في زعمه ودعواه (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) في دعواك أنه نزل عليك ، وفي توهمك انا نتبعك ونؤمن بك (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) يشهدون لك على صدق قولك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما تدعيه ثم أجابهم سبحانه بالجواب المقنع فقال : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي لا ننزل الملائكة إلّا بالحق الذي هو الموت ، لا يقع فيه تقديم وتأخير فيقبض أرواحهم (وَما كانُوا إِذاً) أي حين ننزل الملائكة (مُنْظَرِينَ) مؤخرين ممهلين ، أي لا يمهلون ساعة ثم زاد سبحانه في البيان فقال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) أي القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) عن الزيادة والنقصان ، والتحريف والتغيير ، متكفل بحفظه إلى آخر الدهر على ما هو عليه ، فتنقله الأمة وتحفظه عصرا بعد عصر إلى يوم القيامة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد رسلا (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) أي في فرق الأولين (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهذا تسلية للنبي (ص) إذ أخبره أن كل رسول كان مبتلى بقومه ، واستهزاؤهم بالرسل ، وإنما حملهم على ذلك استبعادهم ما دعوهم إلي ، واستيحاشم منه ، واستنكارهم له حتى توهموا أنه مما لا يكون ولا يصح مع مخالفته لما وجدوا عليه أسلافهم (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) معناه : إنا نسلك الذكر الذي هو القرآن في قلوب الكفار بأخطاره عليها ، وإلقائه فيها ، وبأن نفهمهم إياه وأنهم مع ذلك (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) ماضين على سنة من تقدمهم في تكذيب الرسل كما سلكنا دعوة الرسل في قلوب من سلف من الأمم (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي مضت طريقة الأمم المتقدمة بأن كانت رسلهم تدعوهم إلى كتب الله المنزلة ثم لا يؤمنون ثم قال بعد ما تقدم ذكر اقتراحهم للآيات (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المشركين (باباً مِنَ السَّماءِ) ينظرون إليه (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي فظل هؤلاء المشركون يعرجون إلى السماء من ذلك الباب ،

٣٤٣

وشاهدوا ملكوت السموات (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي سدت وغطيت (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) سحرنا محمد (ص) فلا ننظر ببصر ، ويخيّل الأشياء إلينا على خلاف حقيقتها ، ثم ذكر سبحانه دلالات التوحيد فقال سبحانه (وَلَقَدْ جَعَلْنا) أي خلقنا وهيأنا (فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي منازل الشمس والقمر (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) بالكواكب النيرة (وَحَفِظْناها) أي وحفظنا السماء (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي مرجوم مرمي بالشهب (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) والسرقة عند العرب أن يأتي الإنسان إلى حرز خفية فيأخذ ما ليس له ، والمراد بالسمع هنا المسموع والمعنى : إلا من حاول أخذ المسموع من السماء في خفية (فَأَتْبَعَهُ) أي لحقه (شِهابٌ مُبِينٌ) أي شعلة نار ظاهر لأهل الأرض ، بيّن لمن رأه ، ونحن في رأي العين نرى كأنهم يرمون بالنجوم ، والشهاب : عمود من نور يضيء ضياء النار لشدة ضيائه ، وروي عن ابن عباس أنه قال : كان في الجاهلية كهنة ، ومع كل واحد شيطان ، فكان يقعد من السماء مقاعد للسمع فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض فينزل ويخبر به الكاهن ، فيفشى الكاهن إلى الناس.

١٩ ـ ٢٥ ـ لما تقدم ذكر السماء وما فيها من الأدلة والنعم أتبعه بذكر الأرض فقال (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها وجعلنا لها طولا وعرضا (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي طرحنا فيها جبالا ثابتة (وَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي مقدر معلوم وقيل : يعني بذلك كل ما تخرجه الأرض ، عن أبي مسلم قال : وإنما خصّ الموزون بالذكر دون المكيل لوجهين : (احدهما) ان غاية المكيل تنتهي إلى الوزن ، لأن جميع المكيلات إذا صار طعاما دخل في الوزن ، فالوزن أهم (والآخر) ان في الوزن معنى الكيل ، لأن الوزن طلب المساواة ، وهذا المعنى ثابت في الكيل (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي خلقنا لكم في الأرض معايش من زرع ونبات (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) يعني العبيد والدواب يرزقهم الله ولا ترزقونهم (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) أي وليس من شيء ينزل من السماء ، وينبت من الأرض (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) معناه : إلا ونحن مالكوه والقادرون عليه ، وخزائن الله سبحانه : مقدوراته لأنه تعالى يقدر أن يوجد ما شاء من جميع الأجناس ، ويقدر من كل جنس على ما لا نهاية له وقيل المراد به الماء الذي منه النبات وهو مخزون عنده إلى أن ينزله ونبات الأرض وثمارها إنما تنبت بماء السماء وقال الحسن المطر خزائن كل شيء (وَما نُنَزِّلُهُ) أي وما ننزل المطر (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) تقتضيه الحكمة ثم بيّن سبحانه كيفية الإنزال فقال (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أي أجرينا الرياح لواقح ، أي ملقحة للسحاب ، محملة بالمطر (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي فأسقيناكم ذلك الماء ومكناكم منه (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي وما أنتم أيها الناس له بحافظين ولا محرزين ، بل الله يحفظه ثم يرسله من السماء ، ثم يحفظه في الأرض ، ثم يخرج من العيون بقدر الحاجة ، ولا يقدر أحد على إحراز ما يحتاج إليه من الماء في موضع (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أخبر سبحانه أنه يحيي الخلق إذا شاء ، ويميتهم إذا أراد (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) الأرض ومن عليها ، أخبر أنه يرث الأرض لأنه إذا أفنى الخلق ولم يبق أحد كانت الأشياء كلها راجعة إليه ، يتفرد بالتصرف فيها (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) معناه : ولقد علمنا الماضين منكم ، ولقد علمنا الباقين عن مجاهد (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) معناه : ان ربك يا محمد أو أيها السامع هو الذي يجمعهم يوم القيامة ، ويبعثهم بعد إماتتهم للمجازاة والمحاسبة (إِنَّهُ حَكِيمٌ) في أفعاله (عَلِيمٌ) بما استحق كل منهم.

٢٦ ـ ٣٥ ـ لما ذكر سبحانه الإحياء والإماتة ، والنشأة الثانية ، عقّبه ببيان النشأة الأولى فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ)

٣٤٤

يعني آدم (مِنْ صَلْصالٍ) أي من طين يابس يسمع له عند النقر صلصلة أي صوت عن ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين وقيل طين صلب يخالطه الكثيب عن الضحاك وقيل منتن عن مجاهد واختاره الكسائي (مِنْ حَمَإٍ) أي من طين متغير (مَسْنُونٍ) أي مصبوب كأنه أفرغ حتى صار صورة كما يصب الذهب والفضة وقيل انه الرطب عن ابن عباس ، وقيل مسنون مصور عن سيبويه قال أخذ من سنة الوجه (وَالْجَانَ) وهو إبليس عن الحسن وقتادة وقيل هو أبو الجن ، كما ان آدم أبو البشر عن ابن عباس وقيل هم الجن نسل إبليس وهو منصوب بفعل مضمر ومعناه : وخلقنا الجان (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل خلق آدم (مِنْ نارِ السَّمُومِ) أي من نار لها ريح حارة تقتل وقيل هي نار لا دخان لها والصواعق تكون منها وخلق الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وقيل السموم النار الملتهبة عن أبي مسلم وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان لا يفضل بأصله وإنما يفضل بدينه وعلمه وصالح عمله ، وأصل آدم (ع) كان من تراب وذلك قوله (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ثم جعل التراب طينا وذلك قوله (وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ثم ترك ذلك الطين حتى تغير واسترخى وذلك قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ثم ترك حتى جف وذلك قوله (مِنْ صَلْصالٍ) فهذه الأقوال لا تناقض فيها إذ هي إخبار عن حالاته المختلفة (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) تقديره : واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة (إِنِّي خالِقٌ) أي سأخلق (بَشَراً) أي آدم ، وسمي بشرا لأنه ظاهر الجلد لا يواريه شعر ولا صوف (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) مرّ معناه (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) بإتمام خلقته ، وإكمال خلقه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) والنفخ : إجراء الريح في الشيء باعتماد ، فلما أجرى الله سبحانه الروح في آدم على هذه الصفة كان قد نفخ الروح فيه ، وإنما أضاف روح آدم إلى نفسه تكرمة له وتشريفا ، وهي إضافة الملك (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي اسجدوا له (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) هذا توكيد بعد توكيد عند سيبويه ، أي فسجدوا كلهم في حالة واحدة (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أي امتنع أن يكون معهم فلم يسجد معهم (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) هذا خطاب من الله سبحانه لإبليس ومعناه : لم لا تكون مع الساجدين فتسجد كما سجدوا؟ وإنما قال سبحانه بنفسه على جهة الإهانة له كما يقول لأهل النار : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (قالَ) أي قال إبليس مجيبا لهذا الكلام (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) أي ما كنت لأسجد (لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) لأني أشرف أصلا منه ، ولم يعلم أن التفاضل بالدين والأعمال لا بالأصل (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مشؤوم مطرود ملعون (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) أي وان عليك مع ذلك اللعنة ، أي الابعاد من رحمة الله (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي يوم الجزاء وهو يوم القيامة والمراد : ان الله سبحانه قد لعنك ، وأهل السماء والأرض يلعنونك لعنة لازمة لك إلى يوم القيامة ، ثم يحصل بعد ذلك على الجزاء بعذاب النار.

٣٦ ـ ٤٤ ـ ثم بيّن سبحانه ما سأله إبليس عند اياسه من الآخرة فقال عز اسمه (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي فامهلني وأخرني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يحشرون للجزاء استنظره إبليس إلى يوم القيامة لئلا يموت إذ يوم القيامة لا يموت فيه أحد ، فلم يجبه الله تعالى إلى ذلك بل (قالَ) له (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الذي هو آخر أيام التكليف ، وهو النفخة الأولى حين يموت الخلائق ، عن ابن عباس ، وقيل : الوقت المعلوم يوم القيامة ، أنظره الله سبحانه في رفع العذاب عنه إلى يوم القيامة ، وقيل : هو الوقت الذي قدّر الله أجله فيه ، وهو معلوم لله سبحانه غير معلوم لابليس ، فأبهم ولم يبيّن ، لأن في بيانه إغراء بالمعصية ، عن البلخي (قالَ) إبليس (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ان الإغواء الأول والثاني بمعنى

٣٤٥

التخييب ، أي بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك ، وتقديره : لأزينن الباطل لهم ، أي لأولاد آدم ، ثم استثنى من جملتهم فقال (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وهم الذين أخلصوا عبادتهم لله ، وامتنعوا عن عبادة الشيطان ، وانتهوا عما نهاهم الله عنه (قالَ) الله سبحانه (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) انه على وجه التهديد له كما تقول لغيرك : افعل ما شئت وطريقك علي ، أي لا تفوتني ، ومثله قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) هذا إخبار منه تعالى بأن عباده الذين يطيعونه وينتهون إلى أوامره لا سلطان للشيطان عليم ، ولا قدرة له على أن يكرههم على المعصية ويحملهم عليها ، ولكن من يتبعه فإنما يتبعه باختياره ثم استثنى سبحانه من جملة العباد من يتبع إبليس على إغوائه ، وينقاد له ، ويقبل منه فقال (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) لأنه إذا قبل منه صار له عليه سلطان بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من اتباع الهوى (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي موعد إبليس ومن تبعه (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) روي عن أمير المؤمنين (ع) ان جهنم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض ، فأسفلها جهنم ، وفوقها لظى ، وفوقها الحطمة ، وفوقها سقر ، وفوقها الجحيم ، وفوقها السعير ، وفوقها الهاوية. وروي عن الضحاك قال : للنار سبعة أبواب ، وهي سبعة أدراك ، بعضها فوق بعض ، فأعلاها فيه أهل التوحيد ، يعذبون على قدر أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثم يخرجون.

قوله : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) أي من الغاوين (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي نصيب مفروض ، عن ابن عباس.

٤٥ ـ ٥٠ ـ لما ذكر سبحانه عباده المخلصين ، عقّبه بذكر حالهم في الآخرة فقال (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه (فِي جَنَّاتٍ) أي في بساتين خلقت لهم (وَعُيُونٍ) من ماء وخمر وعسل يفور من الفوارة ثم يجري في مجاريها (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي قال لهم : ادخلوا الجنات بسلامة من الآفات ، وبراءة من المكاره والمضرات (آمِنِينَ) من الإخراج منها (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي وأزلنا عن صدور أهل الجنة ما فيها من أسباب العداوة من الغل : أي الحقد والحسد ، والتنافس والتباغض (إِخْواناً) أي وهم يكونون إخوانا متوادين ، يريد مثل الإخوان فيصفو لذلك عيشهم (عَلى سُرُرٍ) أي كائنين على مجالس السرور (مُتَقابِلِينَ) متواجهين ينظر بعضهم إلى وجه بعض (لا يَمَسُّهُمْ فِيها) أي في الجنة (نَصَبٌ) أي عناء وتعب لأنهم لا يحتاجون إلى إتعاب أنفسهم لتحصيل مقاصدهم ، إذ جميع النعم حاصلة لهم (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أي يبقون فيها مؤبدين ثم أمر سبحانه نبيه (ص) أن يخبر عباده بكثرة عفوه ومغفرته ورحمته لاوليائه ، وشدة عذابه لأعدائه فقال (نَبِّئْ) يا محمد (عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ) أي كثير الستر لذنوب المؤمنين (الرَّحِيمُ) كثير الرحمة لهم (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) فلا تعولوا على محض غفراني ورحمتي ، وخافوا عقابي ونقمتي.

٥١ ـ ٦٠ ـ لما ذكر سبحانه الوعد والوعيد عقّبه بذكر قصة إبراهيم (ع) وقوم لوط مصدقا لما ذكره ، وإرشادا إلى الدلالة بالعاجل على الآجل فقال (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) أي واخبرهم عن أضياف إبراهيم (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) يعني الملائكة وإنما سماهم ضيفا لأنهم جاءوه في صورة الأضياف (فَقالُوا سَلاماً) أي سلّموا عليه سلاما على وجه الدعاء والتحية وبشّروه بالولد وبإهلاك قوم لوط (قالَ) إبراهيم (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون (قالُوا لا تَوْجَلْ) أي لا تخف (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) أي نخبرك بما يسرّك (بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي بولد يكون غلاما إذا ولد ، ويكون عليما إذا بلغ (قالَ) إبراهيم (أَبَشَّرْتُمُونِي) بالمولود (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) أي في حال

٣٤٦

الكبر الذي يوجب اليأس عن الولد (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أبأمر الله تعالى فأثق به ، أم من جهة أنفسكم؟ ومعنى مسني الكبر : غيّرني الكبر عن حال الشباب الذي يطمع في الولد إلى حال الهرم (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) أي قالت الملائكة لإبراهيم : إنا بشرناك بذلك على وجه الحقيقة بأمر الله (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) أي اليائسين. فأجابهم إبراهيم (ع) بأن (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أي ومن الذي ييأس من رحمة الله وحسن انعامه إلّا العادلون عن الحق ، الضالون عن طريق الهدى ، الجاهلون بقدرته على خلق الولد من الشيخ الكبير ؛ وهذا القول من إبراهيم عليه‌السلام يدل على أنه لم يكن قانطا ولكنه استبعد ذلك ، فظنت الملائكة قنوطا ، فنفى ذلك عن نفسه (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام بعد ذلك للملائكة (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي ما الأمر الجليل الذي بعثتم له ، وما شأنكم؟ وسماهم مرسلين لما علم أنهم ملائكة (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي مذنبين وقيل : كافرين ؛ أخبروه بهلاكهم واقتصروا على هذا لأن من المعلوم أن الملائكة إنما يرسلون إلى المجرمين للهلاك (إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثنى منهم آل لوط وهم خاصته وعشيرته ، وإنما استثناهم منهم وإن لم يكونوا مجرمين من حيث كانوا من قوم لوط ، وممن بعث إليهم ، وقيل معناه : لكن آل لوط (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) أي نخلصهم أجمعين من العذاب (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثنى امرأة لوط من آل لوط لأنها كانت كافرة (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي من الباقين في المدينة مع المهلكين ، أي قضينا أنها تهلك كما يهلكون.

٦١ ـ ٧١ ـ ثم أخبر سبحانه أن الملائكة لما خرجوا من عند إبراهيم (ع) أتوا لوطا (ع) يبشرونه بهلاك قومه فقال : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) وإنما قال لهم لوط ذلك لأنهم جاءوه على صفة المرد على هيئة وجمال لم ير مثلهم قط ، فأنكر شأنهم وهيأتهم وقيل : إنه أراد اني أنكركم فعرّفوني أنفسكم ليطمئن قلبي (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه إذا خوفتهم به (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) أي بالعذاب المستيقن به (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به وقيل معناه : وأتيناك بأمر الله تعالى ، ولا شك أن أمره سبحانه حق (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) معناه : سر بأهلك بعد ما يمضي أكثر الليل ويبقى قطعة منه (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي اقتف أثرهم وكن وراءهم لتكون عينا عليهم فلا يتخلف أحد منهم (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي لا يلتفت أحد منكم إلى ما خلف وراءه في المدينة ، وهذا كما يقول القائل : امض لشأنك ولا تعرج على شيء وقيل : لا ينظر أحد منكم وراءه لئلا يروا العذاب فيفزعوا ولا يحتمل قلبهم ذلك عن الحسن وأبي مسلم (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي اذهبوا إلى الموضع الذي أمركم الله بالذهاب إليه وهو الشام (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أي أعلمنا لوطا وأخبرناه ، وأوحينا إليه ما ننزل بهم من العذاب (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) يعني أن آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح وهو قوله : (مُصْبِحِينَ) أي داخلين في وقت الصبح ، والمراد : أنهم مستأصلون بالعذاب وقت الصباح على وجه لا يبقى منهم أثر ولا نسل ولا عقب (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) يبشر بعضهم بعضا بنزول من هو في صورة الأضياف بلوط ، وإنما فرحوا طمعا في أن ينالوا الفجور منهم (قالَ) لوط لهم (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) فيهم ، والفضيحة : الزام العار والشنار بالإنسان ، (وَاتَّقُوا اللهَ) باجتناب معاصيه (وَلا تُخْزُونِ) في ضيفي ، والخزي : الإنقماع بالعيب الذي يستحيى منه (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أو لم ننهك أن تجير أحدا ، أو تضيف أحدا (قالَ) لوط لهم وأشار إلى بناته لصلبه (هؤُلاءِ بَناتِي) فتزوجوهن إن كان لكم رغبة في التزويج (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) كناية عن النكاح إن كنتم متزوجين ، (لَعَمْرُكَ) أي وحياتك يا محمد ومدة

٣٤٧

بقائك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) معناه : انهم لفي غفلتهم يتحيرون ويترددون فلا يبصرون طريق الرشد.

٧٣ ـ ٨٤ ـ ثم أخبر سبحانه عن كيفية عذاب قوم لوط فقال (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) أي أخذهم الصوت الهائل في حال شروق الشمس (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) مضى تفسير في سورة هود (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) معناه : ان فيما سبق ذكره من إهلاك قوم لوط لدلالات للمتفكرين المعتبرين عن قتادة وابن زيد ، وقيل : للمتفرسين عن مجاهد ؛ وقد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ، وقال : إن الله عبادا يعرفون الناس بالتوسّم ، ثم قرأ هذه الآية ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال نحن المتوسمون ، والسبيل فينا مقيم ، والسبيل طريق الجنة ، ذكرها علي بن إبراهيم في تفسيره (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) معناه : ان مدينة لوط لبطريق مسلوك يسلكها الناس في حوائجهم فينظرون إلى آثارها ، ويعتبرون بها لأن الآثار التي يستدل بها مقيمة ثابتة بها وهي مدينة سدوم بين المدينة والشام (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي عبرة ودلالة (لِلْمُؤْمِنِينَ) وخص المؤمنين لأنهم هم الذين انتفعوا بها (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) وأصحاب الأيكة هم أهل الشجر الذين أرسل إليهم شعيب (ع) ، وأرسل إلى أهل مدين فأهلكوا بالصيحة ، وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها ومعنى الآية : أنه كان أصحاب الأيكة لظالمين في تكذيب رسولهم ، وكانوا أصحاب غياض فعاقبهم الله تعالى بالحر سبعة أيام ، ثم أنشأ سبحانه سحابة فاستظلوا بها يلتمسون الروح فيها فلما اجتمعوا تحتها أرسل منها صاعقة فأحرقتهم جميعا (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي من قوم شعيب ومن قوم لوط ، أي عذبناهم بما انتقمناه منهم ، والانتقام : هو المجازاة على جناية سابقة (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) معناه : وإن مدينتي قوم لوط وأصحاب الأيكة بطريق يؤم ويتبع ويهتدى به وسمي الطريق إماما لأن الإنسان يؤمّه ثم أخبر سبحانه عن إهلاك قوم صالح فقال : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) والحجر : إسم البلد الذي كان فيه ثمود ، وإنما سموا أصحاب الحجر لأنهم كانوا سكانه كما يسمى الأعراب الذين يسكنون البوادي أصحاب الصحاري لأنهم كانوا يسكنونها وإنما قال تعالى : المرسلين لأن في تكذيب صالح تكذيب المرسلين ، لأنه كان يدعوهم إلى ما دعا إليه المرسلون ، وإلى الإيمان بالمرسلين ، فكان في تكذيب أحدهم تكذيب الجميع. وقيل بعث الله إليهم رسلا منهم صالح (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) أي آتينا أصحاب الحجر الحجج والمعجزات والدلالات الدالة على صدق الأنبياء (فَكانُوا عَنْها) أي عن الآيات (مُعْرِضِينَ) أعرضوا عن التفكر فيها ، والإستدلال بها (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) أي وكان قوم صالح في القوة بحيث ينحتون من الجبال بيوتا يسكنونها ، وكانوا آمنين من خرابها وسقوطها عليهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي فأهلكوا بالصيحة في وقت دخولهم في الصباح (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) أي فما دفع عنهم العذاب ، ولم يغنهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي يجمعون من المال والأولاد ، وأنواع الملاذ.

٨٥ ـ ٩١ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) معناه : وما خلقناهما عبثا ، بل لما اقتضته الحكمة : وهي انا قد تعبدنا أهلها ، ثم نجازيهم بما عملوا (وَإِنَّ السَّاعَةَ) وهي يوم القيامة (لَآتِيَةٌ) أي جائية بلا شك بعذابهم (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي فاعرض يا محمد عن مجازاة المشركين وعن مجاوبتهم ، واعف عنهم عفوا جميلا وعن علي (ع) إن الصفح الجميل : هو العفو من غير عتاب (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) للأشياء (الْعَلِيمُ) بتدبير خلقه فلا يخفى

٣٤٨

عليه ما يجري بينكم ثم ذكر سبحانه ما خصّ به نبيه (ص) من النعم فقال (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) وقد تقدم الكلام فيه ، وان السبع المثاني هي فاتحة الكتاب (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) تقديره : وآتيناك القرآن العظيم ، وصفه بالعظيم لأنه يتضمن جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين بأوجز لفظ ، وأحسن نظم ، وأتم معنى (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي لا ترفعن عينيك من هؤلاء الكفار إلى ما متعناهم ، وأنعمنا عليهم به من الأموال والأولاد وغير ذلك من زهرات الدنيا فإنها في معرض الزوال والفناء مع ما يتبعها من الحساب والجزاء وقيل : ان معناه : لا تنظرنّ إلى ما في أيديهم من النعم التي هي أشباه يشبه بعضها بعضا فإن ما أنعمنا عليك وعلى من اتبعك من أنواع النعم وهي النبوة والقرآن والإسلام والفتوح وغيرها أكثر وأوفر مما آتيناهم ؛ نهى رسوله عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها ، وكان رسول الله لا ينظرن إلى ما يستحسن من الدنيا (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على كفار قريش إن لم يؤمنوا ونزل بهم العذاب (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ألن لهم جانبك ، وارفق بهم عن ابن عباس ، والعرب تقول : فلان خافض الجناح إذا كان وقورا حليما ، وأصله أن الطائر إذا ضمّ فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم خفضه ، فالمعنى : تواضع للمؤمنين لكي يتبعك الناس في دينك (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) معناه : وقل اني أنا المعلم بموضع المخافة ليتقى ، المبين لكم ما تحتاجون إليه ، وما أرسلت به إليكم (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) معناه : أنزلنا القرآن عليك كما أنزلنا على المقتسمين وهم اليهود والنصارى (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي فرقوه وجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ، آمنوا بما وافق دينهم ، وكفروا بما خالف دينهم.

٩٢ ـ ٩٩ ـ لمّا بيّن سبحانه كفرهم بالقرآن وتعضيتهم له ، بيّن عقيب ذلك لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه يسألهم عما فعلوه ويجازيهم عليه فقال (فَوَ رَبِّكَ) يا محمد (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أقسم بنفسه وأضاف نفسه إلى نبيه (ص) تشريفا له ، وتنبيها للخلق على عظيم منزلته عنده ، لنسألن هؤلاء الكفار سؤال توبيخ وتقريع بأن نقول لهم لم عصيتم ، وما حجتكم في ذلك؟ فيظهر عند ذلك خزيهم وفضيحتهم عند تعذر الجواب (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) معناه : عما عملوا (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أي اظهر واعلن وصرّح بما أمرت به غير خائف عن ابن عباس وابن جريج ومجاهد وابن زيد ، وقيل معناه : فافرق بين الحق والباطل بما أمرت به ، عن الجبائي والأخفش ، وقيل : أبن ما تؤمر به وأظهره ، عن الزجاج قال : وتأويل الصدع في الزجاج وفي الحائط أن تبين بعض الشيء عن بعض (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تخاصمهم إلى أن تؤمر بقتالهم ، وقيل معناه : ولا تلتفت إليهم (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي كفيناك شر المستهزئين واستهزائهم بأن أهلكناهم ، وكانوال خمسة نفر من قريش العاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، وأبو زمعة وهو الأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحرث بن قيس. ثم وصفهم سبحانه بالشرك فقال (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي اتخذوا معه إلها يعبدونه (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) هذا وعيد لهم وتهديد (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ) يا محمد (يَضِيقُ صَدْرُكَ) أي قلبك (بِما يَقُولُونَ) من تكذيبك ، والإستهزاء بك ، وهذا تعزية من الله تعالى لنبيه ، وتطييب لقلبه (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي قل سبحان الله وبحمده (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي المصلين عن ابن عباس قال : وكان رسول الله (ص) إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي إلى أن يأتيك الموت.

٣٤٩

سورة النحل مكية

عدد آياتها مائة وثمان وعشرون آية

١ ـ ٢ ـ (أَتى أَمْرُ اللهِ) فيه أقوال (احدها) ان معناه : قرب أمر الله تعالى بعقاب هؤلاء المشركين المقيمين على الكفر والتكذيب عن الحسن وابن جريج ، قال الحسن : ان المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ائتنا بعذاب الله. فقال سبحانه : ان أمر الله آت وكل ما هو آت قريب دان (وثانيها) ان أمر الله أحكامه وفرائضه ، عن الضحاك (وثالثها) ان أمر الله هو يوم القيامة ، عن الجبائي ، وروي نحوه عن ابن عباس ، وعلى هذا الوجه فيكون أتى بمعنى يأتي ، وجاء وقوع الماضي ها هنا لصدق المخبر بما أخبر به ، فصار بمنزلة ما قد مضى ، ولأنّ سبحانه قرّب أمر الساعة بجعله أقرب من لمح البصر ، وقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) خطاب للمشركين المكذبين بيوم القيامة ولعذاب الله ، المستهزئين به ، وكانوا يستعجلونه كما حكى الله سبحانه عنهم قولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) ، وتقديره : قل لهؤلاء الكفار لا تستعجلوا القيامة والعذاب فإن الله سيأتي بكل واحد منهما في وقته وحينه كما تقتضيه حكمته (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) هذه كلمة تنزيه لله تعالى عما لا يليق به وبصفاته ، وتنزيه له من أن يكون له شريك في عبادته ، أي جل وتقدس وتنزه من أن يكون له شريك ، تعالى وتعظم وارتفع من جميع صفات النقص (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) أي ينزل الله الملائكة (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) أي بالوحي وسمي روحا لأنه حياة القلوب والنفوس بالإرشاد إلى الدين وقيل بالنبوة عن الحسن ، وقوله : من أمره أي بأمره ، ونظيره قوله : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، أي بأمر الله ، لأن أحدا لا يحفظه عن أمره (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ممن يصلح للنبوة والسفارة بينه وبين خلقه (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) هذا تفسير للروح المنزل وبدل منه ، فإن المعنى تنزل الملائكة بأن أنذروا أهل الكفر والمعاصي بأنه لا إله إلا أنا ، أي مروهم بتوحيدي ، وبأن لا يشركوا بي شيئا ، ومعنى فاتقون : فاتقوا مخالفتي. وفي هذا دلالة على أن الغرض من بعثة الأنبياء الإنذار والدعاء إلى الدين.

٣ ـ ٧ ـ لما تقدّم ذكر بعث الملائكة للإنذار ، وبيان التوحيد وشرائع الإسلام. أتبعه سبحانه بالإحتجاج على الخلق بالخلق ، وتعدد صنوف الأنعام فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ومعناه : انه خلقهما ليستدل بهما على معرفته ، ويتوصل بالنظر فيهما إلى العلم بكمال قدرته وحكمته (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدس عن أن يكون له شريك. ثم بيّن سبحانه دلالة أخرى فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) والنطفة الماء القليل غير انه بالتعارف صار اسما لماء الفحل (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) اختصر ها هنا ذكر تقلب أحوال الإنسان لذكره ذلك في أمكنة كثيرة من القرآن فالمعنى : انه خلق الإنسان من نطفة سيالة ضعيفة مهينة دبرها وصوّرها بعد أن قلبها حالا بعد حال حتى صارت إنسانا يخاصم عن نفسه ، ويبين عما في ضميره ، فبين سبحانه أنقص أحوال الإنسان وأكملها منبها على كمال قدرته وعلمه وقيل : خصيم : مجادل بالباطل ، مبين : ظاهر الخصومة ، عن ابن عباس والحسن ، فعلى هذا يكون المعنى : انه خلقه ومكّنه فأخذ يخاصم في نفسه ، وفيه تعريض لفاحش ما ارتكبه الإنسان من تضييع حق نعمة الله عليه ثم بيّن سبحانه نعمته في خلق الأنعام فقال : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) معناه : وخلق الأنعام من الماء كما خلقكم منه (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) أي ما يستدفأ به مما يعمل من صوفها

٣٥٠

وأوبارها وشعرها فيدخل فيه الأكسية واللحف والملبوسات. وغيرها (وَمَنافِعُ) معناه : ولكم فيها منافع أخر من الحمل والركوب وإثارة الأرض والزرع والنسل (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي ومن لحومها تأكلون (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) أي حسن منظر وزينة (حِينَ تُرِيحُونَ) أي حين تردونها إلى مراحها وهي حيث تأوي إليه ليلا (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي حين ترسلونها بالغداة إلى مراعيها ، وأحسن ما يكون النعم إذا راحت عظاما ضروعها ، ممتلئة بطونها ، منتصبة اسنمتها ، وكذلك إذا سرحت إلى المراعي رافعة رؤوسها فيقول الناس : هذه جمال فلان ومواشيه ، فيكون له فيها جمال (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) أي أمتعتكم (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي وتحمل الإبل أحمالكم الثقيلة إلى بلد بعيدة لا يمكنكم أن تبلغوه من دون الأحمال إلّا بكلفة ومشقة تلحق أنفسكم ، فكيف تبلغونه مع الأحمال لولا أن الله تعالى سخر هذه الأنعام لكم حتى حملت أثقالكم إلى أين شئتم؟ وقيل إن الشق معناه : الشطر والنصف ، فيكون المراد : إلّا بأن يذهب شطر قوتكم ، أي نصف قوة الأنفس (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ) أي ذو رأفه (رَحِيمٌ) أي ذو رحمة ولذلك أنعم عليكم بخلق هذه الأنعام ابتداء منه بهذه الإنعام.

٨ ـ ١٣ ـ ثم عطف سبحانه على ما عدّده من صنوف انعامه فقال (وَالْخَيْلَ) أي وخلق الخيل (وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) في حوائجكم وتصرفاتكم (وَزِينَةً) أي ولتتزينوا بها. منّ الله تعالى على خلقه بأن خلق لهم من الحيوان ما يركبونه ويتجملون به (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) من أنواع الحيوان والنبات والجماد لمنافعكم (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) ومعناه : واجب على الله في عدله بيان الطريق المستقيم ، وهو بيان الهدى من الضلال ، والحلال من الحرام ، ليتبع الهدى والحلال ، ويجتنب الضلالة (وَمِنْها جائِرٌ) معناه : من السبيل ما هو جائر : أي عادل عن الحق (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) إلى قصد السبيل بالإلجاء والقهر فإنه قادر على ذلك (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) أي لكم من ذلك الماء شراب تشربونه (وَمِنْهُ شَجَرٌ) المراد : ومن جهة الماء شجر ، ومن سقيه وانباته شجر والمعنى : ينبت منه شجر ونبات (فِيهِ تُسِيمُونَ) أي ترعون أنعامكم من غير كلفة والتزام مؤنة لعلفها (يُنْبِتُ) (لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ينبت الله لكم بذلك المطر هذه الأشياء التي عددها لتنتفعوا بها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي دلالة وحجة واضحة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيه فيعرفون الله تعالى به ، وخصّ المتفكرين فيه لأنهم المنتفعون به (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) قد مضى بيانه ، والتسخير في الحقيقة للشمس والقمر لأن النهار هو حركات الشمس من وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس ، والليل حركات الشمس تحت الأرض من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوع الفجر ، إلّا انه سبحانه أجرى التسخير على الليل والنهار على سبيل التجوز والاتساع (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) مضى بيانه (إِنَّ فِي ذلِكَ) التسخير (لَآياتٍ) أي دلالات (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عن الله وينبئون أن المسخر والمدبر لذلك قادر عالم حكيم (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سخّر لكم ما خلقه لكم في الأرض ، أي لقوام أبدانكم من الملابس والمطاعم والمناكح من أنواع الحيوان والنبات والمعادن وسائر النعم (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) لا يشبه بعضها بعضا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي دلالة (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي يتفكرون في الأدلة فينظرون فيها ، ويتعظون ويعتبرون بها.

٣٥١

١٤ ـ ١٨ ـ ثم عدّد سبحانه نوعا آخر من أنواع نعمه فقال (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) أي ذلله لكم ، وسهل لكم الطريق إلى ركوبه ، واستخراج ما فيه من المنافع (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً) أي لتصطادوا منه أنواع السمك وتأكلوا لحمه (طَرِيًّا) من الطراوة (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً) يعني اللآلىء التي تخرج من البحر بالغوص (تَلْبَسُونَها) وتتزينون بها وتلبسونها نساءكم ، ولولا تسخيره سبحانه ذلك لكم لما قدرتم على الدنو منه ، والغوص فيه (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) أي وترى أيها الإنسان السفن شواق في البحر ، وقواطع لمائه (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ولتركبوه للتجارة ، وتطلبوا من فضل الله تعالى (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولتشكروا الله على نعمه ليزيدكم منها ويثيبكم (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا عالية ثابتة (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) الأرض ، أي كراهة أن تميد بكم : أي تتحرك وتضطرب (وَأَنْهاراً) أي وجعل فيها أنهارا (وَسُبُلاً) أي طرقا لكي تجروا الماء في الأنهار إلى بساتينكم وحيث تريدون ، وتهتدوا بالطرق إلى حيث شئتم من البلاد (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بها إلى توحيد الله (وَعَلاماتٍ) أي معالم تعلم بها الطرق (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ليلا والمراد بالنجم الجنس ، أي جميع النجوم الثابتة (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) معناه : أفمن يخلق هذه الأشياء في استحقاق العبادة كالأصنام التي لا تخلق شيئا حتى يسوى بينها في العبادة وبين خالق جميع ذلك (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتذكرون أيها المشركون فتعتبرون وتعرفون أن ذلك من الخطأ الفاحش ، ثم عطف سبحانه على ذلك تذكر كثرة نعمه فقال (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) معناه : وإن أردتم تعداد نعم الله سبحانه عليكم ، ومعرفة نفاصيلها لم يمكنكم إحصاؤها ولا تعديدها ، وإنما يمكنكم أن تعرفوا جملها. بيّن سبحانه أن من وراء النعم التي ذكرها نعما لا تحصى (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) لما حصل منكم من تقصير في شكر نعمه (رَحِيمٌ) بكم حيث لم يقطعها عنكم بتقصيركم في شكرها.

١٩ ـ ٢٣ ـ لما قدّم سبحانه الدعاء إلى عبادته بذكر نعمه ، وكمال قدرته ، عقّبه ببيان علمه بسريرة كل أحد وعلانيته ، ثم ذكر بطلان الإشراك في عبادته فقال : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أخبر سبحانه أنه يعلم ما يسرونه وما يظهرونه فيجازيهم على أفعالهم ، إذ لا يخفى عليه الجلي والخفي من أحوالهم (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إلها (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) يعني الأصنام لا يمكنها خلق شيء بل هي مخلوقة مربوبة منحوتة من الحجر والخشب ونحوه مما هو مخلوق لله تعالى. ثم قال (أَمْواتٌ) أي هي أموات (غَيْرُ أَحْياءٍ) أكّد كونها أمواتا بقوله : (غَيْرُ أَحْياءٍ) لنفي الحياة عنها على الإطلاق ، فإن من الأموات من سبقت له حالة في الحياة ، وله حالة منتظرة في الحياة بخلاف الأصنام ، فإنه ليس لها حياة سابقة ولا منتظرة (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) معناه : وما تشعر هذه الأصنام متى تبعث ، عن الفراء ، وقيل في الآية : ان معناه : هم أموات ، يعني ان الكفّار في حكم الأموات لذهابهم عن الحق والدين ، ولا يدرون متى يبعثون ، وقيل : ان المعنى : ولا تدري الأصنام متى يبعث الخلق ، عن الجبائي ؛ وأيّان في موضع نصب يبعثون ، ثم خاطب سبحانه عباده فقال (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا يقدر على ما يستحق به العبادة من خلق أصول النعم سواه ، فاثبتوا على عبادته (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) أي جاحدة للحق تستبعد ما يرد عليها من المواعظ (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الإنقياد للحق ، ذاهبون عنه ، دافعون له من غير حجة ، والاستكبار : طلب الترفع بترك الإذعان للحق. ثم قال سبحانه : (لا جَرَمَ) أي حقا وهو بمنزلة اليمين. وقال الزجاج معناه : حقّ أن الله ، ووجب أن الله (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) وهذا تهديد لهم بأنه عالم بجميع

٣٥٢

أحوالهم فيجزيهم على أقوالهم وأفعالهم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) أي المتعظمين الذين يأنفون أن يكونوا اتباعا للأنبياء.

٢٤ ـ ٢٩ ـ ثم أبان سبحانه عن أحوال المشركين وأقوالهم فقال : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) أي لمشركي قريش (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) على محمد (ص) (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أجابوا فقالوا : هذا المنزل في زعمكم هو عندنا أحاديث الأولين الكاذبة ، (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) اللام للعاقبة والمعنى : كان عاقبة أمرهم حين فعلوا ذلك أن حملوا أوزار كفرهم تامة يوم القيامة (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ويحملون مع أوزارهم بعض أوزار الذين أضلوهم عن سبيل الله ، وأغووهم عن اتباع الحق وقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) معناه : من غير علم منهم بذلك بل جاهلين به. عن النّبيّ (ص) أنه قال : أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليه فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي بئس الحمل حملهم وهو ما يحملونه من الآثام ، لأنه إذا تحمل اثمه ودخل النار كان سببا ، فكيف إذا تحمله بسبب فعل غيره (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل هؤلاء المشركين بأنبيائهم من جهة التكذيب وغيره ، وهذا على سبيل التسلية لنبينا (ص) ، والوعيد لقومه (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي أتى أمر الله بنيانهم التي بنوها من جوانب قواعدها ، فهدمها ، عن ابن عباس قال : يعني نمرود ابن كنعان ؛ بنى صرحا طويلا ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه ، فأرسل الله ريحا فألقت الصرح في البحر ، وخرّ عليهم الباقي ، وقال الزجاج : من القواعد يريد من أساطين البناء التي تعمده وهذا مثل ضربه الله سبحانه لاستئصالهم ولا قاعدة هناك ولا سقف والمعنى ، فأتى الله مكرهم من أصله ، أي عاد ضرر المكر عليهم وبهم ، عن الزجاج ، وهذا الوجه أليق بكلام العرب كما قالوا : أتى فلان من مأمنه ، أي أتاه الهلاك من جهة مأمنه ، وإنما أسند سبحانه الإتيان إلى نفسه من حيث كان تخريب قواعدهم من جهته (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) إنما قال : من فوقهم مع حصول العلم بأن السقف لا يكون إلّا من فوق للتوكيد كما يقال : مشيت برجلي ، وتكلمت بلساني (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي جاءهم عذاب الاستئصال من حيث لا يعلمون ، لأنهم ظنوا أنهم على حق فكانوا لا يتوقعون العذاب ، وهذا مثل قوله : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) معناه : ثم أنه تعالى مع ذلك يذلهم ويفضحهم يوم القيامة على رؤوس الخلائق ، ويهينهم بالعذاب ، أي لا يقتصر بهم على عذاب الدنيا (وَيَقُولُ) على سبيل التوبيخ لهم والتهجين (أَيْنَ شُرَكائِيَ) الذين كنتم تشركونهم معي في العبادة على زعمكم (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي تعادونني فيهم (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بالله تعالى وبدينه وشرائعه من المؤمنين (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي ان الهوان اليوم ، والعذاب الذي يسوء على الجاحدين لنعم الله ، المنكرين لتوحيده وصدق رسله (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) معناه : الذين يقبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم ففارقوا الدنيا وهم ظالمون لأنفسهم بإصرارهم على الكفر (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي استسلموا للحق وانقادوا حين لا ينفعهم الانقياد والإذعان (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي يقولون ما كنا نعمل عند أنفسنا من سوء ، أي من معصية فكذبهم الله تعالى وقال : بلى قد فعلتم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من المعاصي وغيرها (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي طبقات جهنم ودركاتها (خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي بئس منزل المتعظمين عن قبول الحق.

٣٥٣

٣٠ ـ ٣٤ ـ لما قدّم سبحانه ذكر أقوال الكافرين فيما أنزله على نبيه (ص) ، عقبه بذكر أقوال المؤمنين في ذلك فقال (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصي وهم المؤمنون (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) أي أنزل الله خيرا ، لأن القرآن كله هدى وشفاء وخير (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) مكافأة لهم وهي الثناء والمدح على ألسنة المؤمنين ، والهدى والتوفيق للإيمان (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) أي وما يصل إليهم من الثواب في الآخرة خيرا مما يصل إليهم في الدنيا ويجوز أن يكون الجميع من كلام المتقين وأجاز الحسن والزجاج كلا الوجهين وقوله (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) أي والآخرة نعم دار المتقين الذين اتقوا عقاب الله وقيل معناه : ولنعم دار المتقين الدنيا ، لأنهم نالوا بالعمل فيها الثواب والجزاء ، عن الحسن (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) كما يقال : نعم الدار دار ينزلها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) سبق معناه (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي يشتهون من النعم (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) أي كذلك يجازي الله الذين اتقوا معاصيه (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) أي طيبي الأعمال طاهري القلوب من دنس الشرك وقيل معناه طيبة نفوسهم بالمصير إليه لعلمهم بما لهم عنده من الثواب وقيل طيبين أي صالحين بأعمالهم الجميلة وقيل بطيب وفاتهم فلا يكون صعوبة فيها (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي تقول الملائكة سلام عليكم : أي سلامة لكم من كل سوء (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) انهم لما بشروهم بالسلامة صارت الجنة كأنها دارهم وهم فيها ، فقولهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) بمعنى حصلت لكم الجنة وقيل : إنما يقولون ذلك عند خروجهم من قبورهم ثم قال سبحانه (هَلْ يَنْظُرُونَ) معناه : ما ينتظرون ، يعني هؤلاء الكفار الذين تقدّم ذكرهم. وقال أبو علي الجبائي : معناه : هل تنتظر أنت يا محمد وأصحابك إلّا هذا ، وهم وإن انتظروا غيره فذلك لا يعتد به من حيث ما ينتظرونه من هذه الأشياء المذكورة لعظم شأنها ، فهو مثل قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، وكما يقال : تكلّم فلان ولم يتكلم ، إذا تكلّم بما لا يعتد به (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم ، عن مجاهد وقتادة والسدي ، وقيل : لا نزال العذاب والخسف بهم ، وقيل : لعذاب القبر (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) أقوال : (احدها) أو يأتي ربك بجلائل آياته ، فيكون حذف لدلالة الكلام عليه ، (وثانيها) أو يأتي إهلاك ربك إياهم بعذاب عاجل أو آجل بالقيامة ، وهذا كقولنا : قد نزل فلان ببلد كذا ، وقد أتاهم فلان ، أي قد أوقع بهم ، عن الزجاج (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أخبر سبحانه أن الذين مضوا من الكفار فعلوا مثل ما فعل هؤلاء من تكذيب الرسل ، وجحد التوحيد فأهلكهم الله ، فما الذي يؤمن هؤلاء من أن يهلكهم الله (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالمعاصي التي استحقوا بها الهلاك (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي عقاب سيئاتهم ، فسمى العقاب سيئة كما قال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (وَحاقَ بِهِمْ) أي وحلّ بهم جزاء (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

٣٥ ـ ٣٧ ـ ثم عاد سبحانه إلى حكاية قول المشركين فقال (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) مع الله إلها آخر (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لو أراد الله ما عبدنا من دونه شيئا من الأصنام والأوثان (نَحْنُ وَلا آباؤُنا) الذين اقتدينا بهم (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) من البحيرة والسائبة وغيرهما ، بل شاء ذلك منا ، وأراد بذلك فعلنا ، فأنكر الله سبحانه هذا القول عليهم وقال (كَذلِكَ) أي مثل ذلك (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

٣٥٤

من الكفار والضلال كذبوا رسل الله وجحدوا آياته وقالوا مثل قولهم ، وفعلوا مثل فعلهم (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ليس عليهم إلا إبلاغ الرسالة (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ) أي في كل جماعة وقرن (رَسُولاً) كما بعثناك يا محمد رسولا إلى أمتك (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي ليقول لهم : اعبدوا الله (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي عبادة الطاغوت ، ويعني بالطاغوت الشيطان وكل داع يدعو إلى الضلالة (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) معناه : منهم من هداه الله بأن لطف له بما علم أنه يؤمن عنده فآمن ، فسمّى ذلك اللطف هداية ، ويجوز أن يريد ، فمنهم من هداه الله إلى الجنة بإيمانه ، ولا يجوز أن يريد بالهداية هنا نصب الأدلة كما في قوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) ، لأنه سبحانه سوّى في ذلك بين المؤمن والكافر (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) معناه : ومنهم من أعرض عما دعاه إليه الرسول فخذله الله فثبتت عليه الضلالة وهي العذاب والهلاك وقيل معناه : وجبت عليه الضلالة وهي العذاب والهلاك وقيل معناه : ومنهم من حقت عليه عقوبة الضلالة عن الحسن ، وقد سمى الله سبحانه العقاب ضلالا بقوله إنّ المجرمين في ضلال وسعر (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أرض المكذبين الذين عاقبهم الله إن لم تصدقوني (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فانظروا كيف حقت عليهم العقوبة وحلت بهم ، فلا تسلكوا طريقهم فينزل بكم مثل ما نزل بهم (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) أي على أن يؤمنوا بك (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) هذا تسلية للنبي (ص) في دعائه لمن لا يفلح بالإجابة لإنهماكه في الكفر ، وإشارة إلى أن ذلك ليس لتقصير وقع من جهته (ص) ، واعلام له أنهم لا يؤمنون أبدا ، وإذا كانوا هكذا فإن الله لا يهديهم بل يضلهم على المعنى الذي فسرناه قبل (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي ليس لهم من ناصر ينصرهم ويخلصهم من العقاب وفي هذا بيان ان الإضلال في الآية ليس المراد به ما ذكره أهل الجبر.

٣٨ ـ ٤٠ ـ ثم حكى سبحانه عن المشركين نوعا آخر من كفرهم فقال (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي حلفوا بالله مجتهدين في أيمانهم والمعنى : أنهم قد بلغوا بالقسم كل مبلغ (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) أي لا يحشر الله أحدا يوم القيامة ، ولا يحيي من يموت بعد موته ، ثم كذبهم الله تعالى في ذلك فقال (بَلى) يحشرهم الله ويبعثهم (وَعْداً) وعدهم به (عَلَيْهِ) إنجازه وتحقيقه من حيث الحكمة (حَقًّا) ذلك الوعد ليس له خلف إذ لولا البعث لما حسن التكليف ، لأن التكليف إنما يحسن لإثابة من عوض به (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) صحة ذلك لكفرهم بالله ، وجحدهم نبوة أنبيائه وقيل : لا يعلمون وجه الحكمة في البعث فلا يؤمنون به (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) هذا بيان من الله تعالى انه إنما يحشر الخلائق يوم القيامة ليبين لهم الحق فيما كانوا فيه يختلفون فيه في دار الدنيا (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في الدنيا في قولهم ان الله لا يبعث أحدا بعد موته (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قد ذكرنا تفسيره في سورة البقرة والمراد به هاهنا بيان أنه قادر على البعث ، لا يتعذر عليه ذلك ، فإنه إذا أراد شيئا كوّنه.

٤١ ـ ٤٤ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) معناه : والذين فارقوا أوطانهم وديارهم وأهليهم فرارا بدينهم ، واتباعا لنبيهم في الله ، أي في سبيله لابتغاء مرضاته من بعد ما ظلمهم المشركون. وعذبوهم بمكة ، وبخسوهم حقوقهم (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي بلدة حسنة بدل أوطانهم وهي المدينة عن ابن عباس وقيل لنعطينهم حالة حسنة وهي النصر والفتح وقيل : هي ما استولوا عليه من البلاد وفتح لهم من الولايات (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) مما أعطيناهم في الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كان الكفار يعلمون ذلك وقيل معناه : لو

٣٥٥

علم المؤمنون تفاصيل ما أعد الله لهم في الجنة لأزدادوا سرورا وحرصا على التمسك بالدين (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) هذا وصف لهؤلاء المهاجرين ، أي صبروا في طاعة الله على أذى المشركين ، وفوّضوا أمورهم إلى الله تعالى ثقة به ، ثمّ خاطب سبحانه نبيه (ص) فقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) إلى الأمم الماضية (إِلَّا رِجالاً) من البشر (نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي أوحينا إليهم كما أوحينا إليك ، وأرسلناهم إلى اممهم كما أرسلناك إلى أمتك ، وذلك أن مشركي مكة كانوا ينكرون أن يرسل إليهم بشر مثلهم ، فبيّن سبحانه أنه لا يصلح أن يكون الرسل إلى الناس إلّا من يشاهدونه ويخاطبونه ويفهمونه عنه ، وانه لا وجه لاقتراحهم إرسال الملك (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) ان المعني بذلك أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم سواء أكانوا مؤمنين أو كفارا ، وسمى العلم ذكرا لأن الذكر منعقد بالعلم ، فإن الذكر هو ضد السهو ، فهو بمنزلة السبب المؤدي إلى العلم في ذكر الدليل ، فحسن أن يقع موقعه وينبىء عن معناه (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يخاطب مشركي مكة وذلك أنهم كانوا يصدقون اليهود والنصارى فيما كانوا يخبرون به من كتبهم لأنهم كانوا يكذبون النبي (ص) (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) التقدير : وما أرسلنا بالبينات والزبر ، أي بالبراهين والكتب إلّا رجالا نوحي إليهم (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) يعني القرآن (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فيه من الأحكام والشرائع ، والدلائل على توحيد الله (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في ذلك فيعلموا أنه حق ؛ وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أراد من جميعهم التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة.

٤٥ ـ ٥٠ ـ ثم أوعد سبحانه المشركين فقال (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) فاللفظ لفظ الإستفهام والمراد به الإنكار ومعناه : أي شيء أمن هؤلاء القوم الدين دبّروا التدابير السيئة في توهين أمر النبي (ص) واطفاء نور الدين ، وإيذاء المؤمنين من (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) من تحتهم عقوبة لهم كما خسف بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) قال إبن عباس : يعني يوم بدر ، وذلك انهم أهلكوا يوم بدر وما كانوا يقدرون ذلك ولا يتوقعونه (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) يريد في تقلبهم في كل الأحوال ليلا ونهارا (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي فليسوا بفائتين ، وما يريده الله بهم من الهلاك لا يمتنع عليه (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) قال أكثر المفسرين معناه : على تنقص اما بقتل أو بموت ، أي ينقص من أطرافهم ونواحيهم فيأخذ منهم الأول فالأول حتى يأتي على جميعهم (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) بكم ، ومن رأفته ورحمته بكم انه أمهلكم لتتوبوا وترجعوا ولم يعاجلكم بالعقوبة ثم بيّن سبحانه دلائل قدرته فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) معناه : ألم ينظر هؤلاء الكفار الذين جحدوا وحدانية الله تعالى ، وكذبوا نبيّه (ص) ، إلى ما خلق الله من شيء له ظل من شجر وجبل وبناء وجسم قائم (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ) أي يتميل ظلاله عن جانب اليمين وجانب الشمال ، ومعنى سجود الظل لله دورانه من جانب إلى جانب لأنه مستسلم منقاد مطيع للتسخير (وَهُمْ داخِرُونَ) أي أذلة صاغرون قد نبّه الله بهذا على ان جميع الاشياء تخضع له بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى واضعها ومدبرها بما لولاه لبطلت ولم يكن لها قوام طرفة عين ، فهي في ذلك كالساجد من العباد بفعله ، الخاضع بذلة ، ثم قال سبحانه (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) أي يسجد لله جميع ما في السماوات وجميع ما في الأرض (وَالْمَلائِكَةُ) أي وتسجد له الملائكة وتخضع له بالعبادة ، وإنما خصّ الملائكة بالذكر تشريفا لهم ، ولأن اسم الدابة يقع على ما يدب ويمشي وهم أولو الأجنحة ، فصفة الطيران أغلب عليهم (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادة الله تعالى ، وهذا من صفة الملائكة لأنه

٣٥٦

قال (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) وانما قال من فوقهم لوجهين (أحدهما) ان المراد : يخافون عقاب ربهم ، وأكثر ما يأتي العذاب المهلك انما يأتي من فوق (والآخر) ان الله سبحانه لما كان موصوفا بأنه عال متعال ، بمعنى : انه قادر على الكمال ، حسن أن يقال : من فوقهم ليدل على انه في أعلى مراتب القادرين ، وعلى هذا معنى قول إبن عباس في رواية مجاهد قال : ذاك مخافة الإجلال ، واختاره الزجاج ، وذهب بعضهم إلى أن قوله : من فوقهم من صفة الملائكة ، والمعنى : إن الملائكة من فوق بني آدم ، وفوق ما في الأرض من دابة يخافون الله مع علوّ رتبتهم ، فلأن يخافه من دونهم أولى.

٥١ ـ ٥٥ ـ لما بيّن سبحانه دلائل قدرته وإلهيته عقبّه بالتنبيه على وحدانيته فقال : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) أي لا تعبدوا مع الله إلها آخر فتشركوا بينهما في العبادة ، لأنه لا يستحق العبادة سواه (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) وإنما لإثبات المذكور ونفي ما عداه ، فكأنه قال : هو إله واحد لا إله غيره (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي ارهبوا عقابي وسطواتي ، ولا تخشوا غيري (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وملكا وخلقا (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) أي وله الطاعة دائمة واجبة على الدوام (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) أي أفغير الله تخشون وهو استفهام فيه معنى التوبيخ ، أي فكيف تعبدون غيره ولا تتقونه (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) معناه : ان جميع ما بكم وما لكم من النعم مثل الصحة في الجسم ، والسعة في الرزق ونحوهما فكل ذلك من عند الله ومن جهته (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) مثل المرض والشدة والبلاء وسوء الحال (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي فإليه تتضرعون في كشفه ، وإليه ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة لصرفه (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) معناه : ثم إذا دفع ما حلّ بكم من الضرّ ودفع ما مسكم من المرض والفقر (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي دعا طائفة منكم إلى الشرك بربهم في العبادة جهلا منهم بربهم ، ومقابلة لنعمة بالكفران والعصيان ، وهذا عجب من فعل العاقل المميز (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) لأن يكفروا بانعامنا عليهم ، ورزقنا إياهم (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) خطاب لهم على التهديد والوعيد يقول : فتمتعوا أيها الكفار في الدنيا قليلا فسوف تعلمون ما يحل بكم في العاقبة من العقاب ، وأليم العذاب.

٥٦ ـ ٦٠ ـ ثم ذكر سبحانه فعلا آخر من أفعال المشركين دالا على جهلهم فقال : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) والواو في يعلمون تعود إلى المشركين ، أي لما لا يعلمون انه يضر وينفع (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) يتقربون بذلك إليه كما يجب أن بتقرّب إلى الله تعالى ، وهو ما حكى الله عنهم في سورة الأنعام من الحرث وغير ذلك وقولهم : (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) ثم أقسم تعالى فقال (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَ) في الآخرة (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي تكذبون به في دار الدنيا لتلزموا به الحجة ، وتعاقبوا بعد اعترافكم على أنفسكم ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من جهالاتهم فقال : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) أي ويضيفون إليه البنات وهو قولهم : الملائكة بنات الله كما قال سبحانه : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً). ثم نزّه سبحانه نفسه عما قالوا فقال (سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عن اتخاذ البنات (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون ويحبّونه من البنين دون البنات (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أي واذا بشر واحد منهم بأنه ولد له بنت (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي صار لون وجهه متغيرا إلى السواد لما يظهر فيه من أثر الحزن والكراهة (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلىء غيظا وحزنا (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) يعني ان هذا الذي بشر بالبنت يستخفي من القوم الذين يستخبرونه عما ولد له استنكافا منه ، وخجلا وحياء من سوء ما بشر من الأنثى وقبحه عنده (أَيُمْسِكُهُ

٣٥٧

عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) يعني يميل نفسه ويدير في أمر البنت المولودة له أيمسكه على ذل وهوان ، أم يخفيه في التراب ويدفنه حيا وهو الوأد الذي كان من عادة العرب ، وهو ان أحدهم كان يحفر حفيرة صغيرة وإذا ولد له أنثى جعلها فيها وحثا عليها التراب حتى تموت تحته ، وكانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الاكفاء فيهن (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس الحكم ما يحكمونه وهو ان يجعلوا لنفوسهم ما يشتهون ، ولله ما يكرهون (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي لهؤلاء الكفار الذين وصفوا الله بالولد صفة السوء : أي الصفة القبيحة التي هي سواد الوجه والحزن ، ولله الصفة العليا من السلطان والقدرة وقيل : لهم صفات النقص من الجهل والكفر والضلال والعمى وصفة الحدوث والضعف والعجز والحاجة إلى الأبناء وقتل البنات خوف الفقر ، ولله صفات الإلهية والإستغناء عن الصاحبة والولد والربوبية وإخلاص التوحيد فيقال كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه وتعالى ولله المثل الأعلى وقوله فلا تضربوا لله الأمثال والجواب ان المراد بالأمثال هناك الأشباه أي لا تشبهوا الله بشيء والمراد بالمثل الأعلى هنا الوصف الأعلى الذي هو كونه قديما قادرا عالما حيا ليس كمثله شيء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي القادر الذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها على ما هو حكمة وصواب.

٦١ ـ ٦٥ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) أخبر سبحانه انه لو كان ممن يؤاخذ الكفار والعصاة بذنوبهم ويعاجلهم بالعقوبة لما ترك على وجه الأرض أحدا ممن يستحق ذلك من الظالمين ، وإنما قال عليها ولم يجر ذكر للأرض في الظاهر لأن الكلام يدل عليه ، فإن العلم حاصل بأن الناس يكونون على ظهر الأرض ، ومثله كثير في محاورات العرب (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت يعلمه الله تعالى انه لا يكون في بقائهم فيه مصلحة لأنهم لا يؤمنون ، ولا يخرج من نسلهم مؤمن ، وإنما يؤخرهم تفضلا منه سبحانه ليراجعوا التوبة ، أو لما في ذلك من المصلحة (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) قد سبق معناه فيما مضى ، ثم حكى سبحانه عن الكفار فقال (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) يعني البنات ، أي يحكمون لله بما يكرهونه لأنفسهم (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) أي وتخبر ألسنتهم بالكذب وهو ما يقولون (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) وهي البنون ، عن مجاهد (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي ليس الأمر على ما وصفوا ، جرم فعلهم وقولهم ، أي كسب أنّ له النار ، والمفسّرون يقولون معناه : حقّا أنّ لهم النار ، أو لا بدّ أنّ لهم النار ، (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي مقدّمون ، أي معجّلون إلى النار. ثم أقسم سبحانه فقال : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي كفرهم وضلالهم ، وتكذيبهم الرسل (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) معناه : ان الشيطان وليهم اليوم في الدنيا يتولونه ويتبعون اغواءه (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وللتابع والمتبوع عذاب مؤلم وجيع. ثم بيّن سبحانه انه قد أقام الحجة ، وأزاح العلة ، وأوضح المحجة فقال (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) أي القرآن (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) إلّا وقد أردنا منك أن تكشف لهم ما اختلفوا فيه من دلالة التوحيد والعدل ، وتبين لهم الحلال والحرام (وَهُدىً) أي وأنزلناه دلالة على الحق (وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ثم أخبر سبحانه عن نعمته على خلقه فقال (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي غيثا ومطرا (فَأَحْيا بِهِ) أي بذلك الماء (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أحياها بالنبات بعد جدوبها وقحطها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي حجة ودلالة (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي يستصغون أدلة الله ويتفكرون فيها ، ويعتبرون بها.

٣٥٨

٦٦ ـ ٧٠ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم من دلائل التوحيد ، وعجائب الصنعة ، وبدائع الحكمة بقوله (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) يعني الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) أي لعظة واعتبارا ودلالة على قدرة الله تعالى (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) روى الكلبي عن ابن عباس قال : إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا ، وأعلاه دما ، ووسطه لبنا ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو ، فذلك قوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) لا يشوبه الدم ولا الفرث (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي جائزا في حلوقهم ، والكبد مسلطة على هذه الأصناف فيقسمها على الوجه الذي اقتضاها التدبير الإلهي (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) قيل : معناه : ولكم عبرة فيما أخرج الله لكم من ثمرات النخيل والأعناب (وَرِزْقاً حَسَناً) والرزق الحسن ما أحل منهما كالخل والزبيب والرب والرطب والتمر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي دلالة ظاهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عن الله تعالى ذلك ، ويتفكرون فيه. بيّن الله سبحانه بذلك انكم تستخرجون من الثمرات عصيرا يخرج من قشر قد اختلط به ، فكذلك الله يستخلص ما تبدد من الميت مما هو مختلط به من التراب (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي جعل ذلك في غرائزها بما يخفى مثله عن غيرها عن الحسن ؛ قال أبو عبيدة : الوحي في كلام العرب على وجوه ، منها : وحي النبوة ، ومنها : الإلهام ، ومنها : الإشارة ، ومنها : الكتاب ، ومنها : الاسرار ، فوحي النبوة في قوله : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) ، والالهام في قوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ، (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) ، والإشارة في قوله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا) ، قال مجاهد : معناه. أشار إليهم ، والاسرار في قوله يوحي بعضهم إلى بعض والمعنى : ان الله تعالى الهم النحل اتخاذ المنازل والمساكن والأوكار والبيوت في الجبال والشجر وغير ذلك (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) للعسل ولا يقدر على مثلها أحد (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي ومن الكرم لأنه الذي يعرش ويتخذ منه العريش والمعنى : ما يبني الناس لها من خلاياها التي تعسّل فيها لولا إلهام الله إياها ما كانت تأوي إلى ما بني لها من بيوتها (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من أنواع الثمرات من أي ثمرة شئت (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي فادخلي سبل ربك التي جعلها الله لك (ذُلُلاً) اي مذللة موطأة للسلوك ، واسعة يمكن سلوكها (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) وهو العسل فإن الوانه مختلفة لأن منه ما هو شديد البياض ومنه ما هو أصفر ، ومنه ما يضرب إلى الحمرة ، وذلك ان النحل تتناول ألوانا مختلفة من النبات والزهر فيجعلها الله تعالى عسلا على ألوان مختلفة يخرج من بطونها إلّا انها تلقيه من أفواهها كالريق الذي يخرج من فم إبن آدم (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) من الأدواء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) معناه : ان فيما ذكرناه من بدائع صنع الله تعالى دلالة بينة لمن تفكر فيه. ثم بيّن نعمته علينا في خلقنا واخراجنا من العدم إلى الوجود فقال (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أي أوجدكم وأنعم عليكم بضروب النعم الدينية والدنيوية (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) أي يميتكم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أدون العمر وأوضعه ، أي يبقيه حتى يصير إلى حال الهرم والخوف فيظهر النقصان في جوارحه وحواسه وعقله (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) أي ليرجع إلى حال الطفولية بنسيان من كان علمه لأجل الكبر ، فكأنه لا يعلم شيئا مما كان علمه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بمصالح عباده (قَدِيرٌ) على ما يشاء من تدبيرهم.

٧١ ـ ٧٤ ـ ثم عدد سبحانه نعمة منه أخرى فقال (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) فوسع على واحد ، وقتر على آخر على ما توجبه الحكمة (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي

٣٥٩

رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) اختلف في معناه على قولين (احدهما) انهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم حتى يكونوا فيه سواء ، ويرون ذلك نقصا فلا يرضون لأنفسهم به ، وهم يشركون عبيدي في ملكي وسلطاني ، ويوجهون العبادة والقرب إليهم كما يوجهونها اليّ عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، قال ابن عباس : إذا لم ترضوا ان تجعلوا عبيدكم شركاءكم فكيف جعلتم عيسى إلها معه وهو عبده ، ونزلت في نصارى نجران (والثاني) ان معناه : فهؤلاء الذين فضلهم الله في الرزق من الأحرار لا يرزقون مماليكهم ، بل الله رازق الملاك والمماليك ، فإن الذي ينفقه المولى على مملوكه انما ينفقه مما رزقه الله تعالى ، فالله تعالى رازقهم جميعا ، فهم سواء في ذلك (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي أفبهذه النعمة التي عددتها واقتصصتها يجحد هؤلاء الكفار ، ثم عدّد سبحانه نعمة أخرى فقال (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي جعل لكم من جنسكم ومن الذي تلدونهم نساء جعلهن أزواجا لكم لتسكنوا إليهن ، وتأنسوا بهن (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) يعني من هؤلاء الأزواج (بَنِينَ) تسرّون بهم ، وتتزينون بهم (وَحَفَدَةً) اختلف في معناه على أقوال فقيل : هم الخدم والأعوان ، عن ابن عباس والحسن ، وقيل : هم البنون وبنو البنين (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي الأشياء التي تستطيبونها قد أباحها لكم وإنما دخلت من لأنه ليس كل ما يستطيبه الإنسان رزقا له ، وإنما يكون رزقه ما له التصرّف فيه ، وليس لأحد منعه عنه (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) يريد بالباطل الأوثان والأصنام وما حرّم عليهم ، وزينه الشيطان من البحائر وغيرها أفبذلك يصدقون (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) التي عددها (هُمْ يَكْفُرُونَ) أي يجحدون ، ويريد بنعمة الله التوحيد والقرآن ، ورسول الله (ص) (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً) أي لا يملك ان يرزقهم (مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) شيئا مما ذكرناه وقيل : ان رزق السماء الغيث الذي يأتي من جهتها ، ورزق الأرض النبات والثمار وغير ذلك من أنواع النعم التي تخرج من الأرض (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي لا تجعلوا لله الأشباه والأمثال في العبادة فإنه لا شبه له ولا مثل ، ولا أحد يستحق العبادة سواه ، وانما قال ذلك في اتخاذهم الأصنام آلهة عن ابن عباس وقتادة (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ان من كان إلها فانه منزه عن الشركاء (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) معناه : والله يعلم ما عليكم من المضرة في عبادة غيره وأنتم لا تعلمون ، ولو علمتم لتركتم عبادتها.

٧٥ ـ ٧٧ ـ ثم بيّن سبحانه للمشركين أمر ضلالتهم فقال (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) أي بيّن الله مثلا فيه بيان المقصود تقريبا للخطاب الى افهامهم ، ثم ذكر ذلك المثل فقال : عبدا مملوكا لا يقدر من أمره على شيء (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) يريد وحرّا رزقناه وملكناه مالا ونعمة (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) لا يخاف من أحد (هَلْ يَسْتَوُونَ) يريد أن الاثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما مالكا قادرا على الإنفاق ، والآخر عاجزا عن الانفاق لا يستويان فكيف يستوي بين الحجارة التي لا تعقل ولا تتحرك وبين الله عز اسمه القادر على كل شيء ، الخالق الرازق لجميع خلقه؟! (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي الشكر لله على نعمه ، وفيه اشارة إلى ان النعم كلها منه (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يعني ان اكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ان الحمدلي ، وان جميع النعمة مني. ثم ضرب سبحانه مثلا آخر فقال (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من الكلام لأنه لا يفهم ولا يفهم عنه (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي ثقل ووبال على وليه الذي يتولى أمره (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) معناه : انه لا منفعة لمولاه فيه أينما يرسله في حاجة لا يرجع بخير ، ولا يهتدي إلى منفعة (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) أي هذا الأبكم الموصوف بهذه الصفة (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي ومن هو فصيح

٣٦٠