الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

جَمِيلٌ) أي فأمري صبر جميل لا جزع معه (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي عسى الله أن يأتيني بيوسف وابن يامين (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بعباده (الْحَكِيمُ) في تدبير الخلق (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي انصرف وأعرض عنهم بشدة الحزن لما بلغه خبر حبس ابن يامين ، وهاج ذلك وجده بيوسف لأنه كان يتسلى به (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي يا طول حزني على يوسف (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) والبكاء ، ولما كان البكاء من أجل الحزن أضاف بياض البصر إليه (فَهُوَ كَظِيمٌ) والكظيم ههنا بمعنى الكاظم : وهو المملوء من الهم والحزن ، الممسك للغيظ لا يشكوه لأهل زمانه ، (قالُوا) أي قال ولد يعقوب لأبيهم (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي لا تزال تذكر يوسف (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) أي دنفا قريبا من الموت (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي الميتين ، وإنما قالوا ذلك إشفاقا عليه ، وعطفا ورحمة له (قالَ) يعقوب في جوابهم (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) أي همّي (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) المعنى : إنما أشكو حزني وحاجتي (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي واعلم صدق رؤيا يوسف ، واعلم أنه حيّ ، وأنكم ستسجدون له كما اقتضاه رؤياه (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) ابن يامين (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من رحمته (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) قال ابن عباس : يريد أن المؤمن من الله على خير يرجوه في الشدائد والبلاء ، ويشكره ويحمده في الرخاء والكافر ليس كذلك.

٨٨ ـ ٩٢ ـ ولما قال يعقوب لبنيه اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه خرجوا إلى مصر (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي على يوسف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي أصابنا ومن يختص بنا الجوع والحاجة والشدة من السنين الشداد القحاط (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي ندافع بها الأيام ونتقوتها ، وليست مما يتسع به ، وقيل : رديئة لا تؤخذ إلّا بوكس ، وقيل : دراهم فسول عن سعيد بن جبير ، وقيل كانت أقطا عن الحسن وقيل : النعال والأدم عن الضحاك (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) كما كنت توفي في السنين الماضية ولا تنظر إلى قلة بضاعتنا في هذه السنة (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) أي سامحنا (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أي يثيبهم على صدقاتهم بأفضل منها (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) ومعناه : أنه قال لهم : هل علمتم ما فعلتم بيوسف من اذلاله وإبعاده عن أبيه ، وإلقائه في البئر ، والإجتماع على قتله ، وبيعه بثمن وكس ، وما فعلتم بأخيه من إفراده عن يوسف ، والتفريق بينهما حتى صار ذليلا فيما بينكم ، لا يكلمكم إلّا كما يكلم الذليل العزيز ، وإنما لم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغم لفراقه تعظيما له ، ورفعا من قدره ، وعلما أن ذلك كان بلاء له ليزداد به علو الدرجة ، ورفعة المنزلة عند الله تعالى (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أي صبيان ومعناه : فعلتم ذلك حين كنتم جاهلين جاهلية الصبي في عنفوان الشباب حين يغلب على الإنسان الجهل ، ولم ينسبهم إلى الجهل في حال الخطاب لأنهم كانوا تائبين نادمين في تلك الحال ، وكان هذا تلقينا لهم لما يعتذرون به إليه ، وهذا هو الغاية في الكرم إذ صفح عنهم ، ولقّنهم وجه العذر (قالُوا) له (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) قيل : رفع التاج عن رأسه فعرفوه (قالَ أَنَا يُوسُفُ) أظهر الإسم ولم يقل أنا هو تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته فكأنه قال : أنا المظلوم المستحل منه المحرم ، المراد قتله (وَهذا أَخِي) وهذا المظلوم كظلمي (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالإجتماع بعد طول الفرقة (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) أي يتق الله (وَيَصْبِرْ) على المصائب وعن المعاصي (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي أجر من كان هذا حاله والضياع : ذهاب الشيء من غير عوض (قالُوا تَاللهِ) أي أقسموا بالله سبحانه (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أي فضلك واختارك الله علينا بالحلم والعلم والعقل والحسن والملك (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي ما

٣٢١

كنا إلّا مخطئين آثمين فيما فعلناه ، وهذا يدل على أنهم ندموا على ما فعلوا ولم يصرّوا عليه (قالَ) يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا تعيير ولا توبيخ ولا تقريع عليكم الآن فيما فعلتم (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) ذنوبكم فإني أستغفر الله لكم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) في عفوه عنكم ما تقدم من ذنبكم (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) قيل انه (ع) لما عرفهم نفسه سألهم عن أبيه فقال : ما فعل أبي بعدي؟ قالوا ذهبت عيناه فقال اذهبوا بقميصي هذا واطرحوه على وجهه يعد مبصرا كما كان من قبل (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) إذا عاد بصيرا ، وهذا كان معجزا منه إذ لا يعرف أنه يعود بصيرا بإلقاء القميص على وجهه إلّا بالوحي وقيل : إن يوسف قال : إنما يذهب بقميصي من ذهب به أولا ، فقال يهوذا : أنا ذهبت به وهو ملطخ بالدم ، فأخبرته أنه أكله الذئب ، قال : فاذهب بهذا أيضا وأخبره أنه حيّ وافرحه كما حزنته ، فحمل القميص وخرج حافيا حاسرا حتى أتاه.

٩٤ ـ ٩٧ ـ (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي لما خرجت القافلة وانفصلت من مصر متوجهة نحو الشام (قالَ أَبُوهُمْ) يعقوب لأولاد أولاده الذين كانوا عنده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) قال ابن عباس : هاجت ريح فحملت بريح قميص يوسف إلى يعقوب (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) معناه : لولا أن تسفهوني وقيل : لولا أن تضعفوني في الرأي (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي قالوا له إشفاقا عليه وترحما : إنك لفي ذهابك القديم عن الصواب في حب يوسف (ع) ، وانه كان عندهم أن يوسف قد مات منذ سنين (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) وهو يهوذا (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب فعاد بصيرا. قال الضحاك : عاد إليه بصره بعد العمى وقوته بعد الضعف وشبابه بعد الهرم وسروره بعد الحزن فقال للبشير ما أدري ما أثيبك به هوّن الله عليك سكرات الموت (قالَ) يعقوب لهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي إني كنت أعلم أن الله يصدق رؤيا يوسف ، ويكشف الشدائد عن أنبيائه بالصبر وكنتم لا تعلمون ذلك (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) فيما فعلنا (قالَ) يعقوب (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إنما لم يستغفر لهم في الحال لأنه أخّرهم إلى سحر ليلة الجمعة وقيل : انه كان يقوم ويصف أولاده خلفه عشرين سنة يدعو ويؤمنون على دعائه واستغفاره لهم حتى نزل قبول توبتهم.

٩٩ ـ ١٠٢ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) عن أبي جعفر (ع) أن يعقوب قال لولده تحملوا إلى يوسف من يومكم هذا بأهلكم أجمعين ، فساروا إليه ويعقوب معهم ، وخالة يوسف أم يامين فحثّوا السير فرحا وسرورا تسعة أيام إلى مصر ، فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه وقبّله وبكى ، ورفعه ورفع خالته على سرير الملك ، ثم دخل منزله واكتحل وادهن ولبس ثياب العز والملك فلما رأوه سجدوا جميعا إعظاما له ، وشكرا لله عند ذلك ، ولم يكن يوسف في تلك العشرين سنة يدهن ولا يكتحل ولا يتطيب حتى جمع الله بينه وبين أبيه وإخوته ، وقيل : إن يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة مع ما يحتاج إليه في السفر وسألهم أن يأتوه بأهلهم أجمعين ، فلما دنا يعقوب من مصر تلقاه يوسف في الجند وأهل مصر ، فقال يعقوب يا يهوذا هذا فرعون مصر؟ قال : لا هذا ابنك ، ثم تلاقيا ؛ قال الكلبي على يوم من مصر ، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه بدأ يعقوب بالسلام فقال : السلام عليك يا مذهب الأحزان (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أي ضمّهما إليه وأنزلهما عنده ، وقال أكثر المفسرين : إنه يعني أباه وخالته (وَقالَ) لهم قبل دخولهم مصر (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) والإستثناء ، يعود إلى الأمن وإنما قال : آمنين لأنهم

٣٢٢

كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلّا بجوازهم (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي رفعهما على سرير ملكه إعظاما لهما ، والعرش : السرير الرفيع (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) ان السجود كان لله تعالى شكرا له كما يفعله الصالحون عند تجدد النعم ، والهاء في قوله : له عائدة إلى الله تعالى أي سجدوا لله تعالى على هذه النعم ، وتوجّهوا في السجود إليه كما يقال : صلّى للقبلة ويراد به استقبالها (وَقالَ) يوسف (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أي هذا تفسير رؤياي التي رأيتها (مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي صدقا في اليقظة وقيل : كان بين الرؤيا وتأويلها ثمانون سنة ، وكان بين يوسف وبين موسى أربعمائة سنة (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) أي وقد أحسن ربي إليّ حيث أخرجني من السجن (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي من البادية فإنهم كانوا يسكنون البادية ويرعون أغنامهم فيها ، وكانت مواشيهم قد هلكت في تلك السنين بالقحط فأغناهم الله تعالى بمصيرهم إلى يوسف ، وإنما بدأ بالسجن في تعداد نعم الله دون إخراجه من الجب كرما لئلا يبدأ بصنيع إخوته به (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي وحرش بيني وبينهم (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي لطيف في تدبير عباده يدبّر أمرهم على ما يشاء ، ويسهّل لهم العسير ، وبلطفه حصلت هذه النعم علينا من الإجتماع وغيره (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بجميع الأشياء (الْحَكِيمُ) في كل التدابير ولما جمع الله سبحانه ليوسف شمله ، وأقرّ له عينه ، وأتمّ له رؤياه ، ووسع عليه في ملك الدنيا ونعيمها ، علم أن ذلك لا يبقى له ولا يدوم ، فطلب من الله سبحانه نعيما لا يفنى ، وتاقت نفسه إلى الجنة ، فتمنى الموت ودعا به ولم يتمن ذلك نبي قبله ولا بعده (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي أعطيتني ملك النبوة ، وملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي تأويل الرؤيا (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالق السماوات والأرض ومنشئهما لا على مثال سبق (أَنْتَ وَلِيِّي) أي ناصري ومدبّري وحافظي (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) تتولى فيهما إصلاح معاشي ومعادي (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) معناه : ثبتني على الإيمان إلى وقت الممات وأمتني مسلما (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي بأهل الجنة من الأنبياء والأولياء والصديقين وقيل : لما جمع الله سبحانه بينه وبين أبويه وإخوته أحب أن يجتمع مع آبائه في الجنة فدعا بهذا الدعاء ، والمعنى : ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم قيل : فتوفاه الله تعالى بمصر وهو نبي. ثم عاد سبحانه بعد تمام القصة إلى خطاب النبي (ص) (ذلِكَ) أي الذي قصصت عليك من قصة يوسف يا محمد (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من جملة أخبار الغيب (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) على ألسنة الملائكة لتخبر به قومك ، ويكون دلالة على صدقك (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي وما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) إذ عزموا على إلقائه في البئر واجتمعت آراؤهم عليه (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أي يحتالون في أمر يوسف حتى القوه في الجب.

١٠٣ ـ ١٠٧ ـ لمّا تقدّم ذكر الآيات والمعجزات التي لو تفكروا فيها عرفوا الحق من جهتها فلم يتفكروا ، بيّن عقيبها أن التقصير من جهتهم حيث رضوا بالجهل وليس من جهته سبحانه لأنه نصب الأدلة والبينات ، ولا من جهتك لأنك دعوتهم فقال (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) أي وليس أكثر الناس بمصدقين ولو حرصت على إيمانهم وتصديقهم ، واجتهدت في دعائهم وإرشادهم إليه ، لأن حرص الداعي لا يغني شيئا إذا كان المدعو لا يجيب (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي ولا تسألهم على تبليغ الرسالة وبيان الشريعة أجرا فيصدّهم ذلك عن القبول ، ويمنعهم من الإيمان (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما القرآن إلّا موعظة وعبرة

٣٢٣

وتذكير للخلق أجمعين ، فلست بنذير لهؤلاء خاصة (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) أي كم من حجة ودلالة (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تدل على وحدانية الله تعالى من الشمس والقمر والنجوم في السماء ، ومن الجبال والشجر وألوان النبات وأحوال المتقدمين ، وآثار الأمم السالفة في الأرض (يَمُرُّونَ عَلَيْها) ويبصرونها ويشاهدونها (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) أي هم عن التفكر فيها ، والإعتبار بها معرضون لا يتفكرون فيها ، يعني الكفار (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) اختلف في معناه على أقوال (أحدها) أنهم مشركو قريش ، كانوا يقرّون بالله خالقا ومحييا ومميتا ويعبدون الأصنام ويدعونها آلهة مع أنهم كانوا يقولون : الله ربنا وإلهنا يرزقنا فكانوا مشركين بذلك عن ابن عباس والجبائي (وثانيها) انها نزلت في مشركي العرب إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض وينزل المطر قالوا الله ثم هم يشركون وكانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) أي أفأمن هؤلاء الكفار أن يأتيهم عذاب من الله سبحانه يعمّهم ، ويحيط بهم (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) يعني القيامة (بَغْتَةً) أي فجأة على غفلة منهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بقيامها قال ابن عباس : تهجم الصيحة بالناس وهم في أسواقهم.

١٠٨ ـ ١٠٩ ـ ثم أمر سبحانه نبيّه (ص) أن يبيّن للمشركين ما يدعو إليه فقال (قُلْ) يا محمد لهم (هذِهِ سَبِيلِي) أي طريقي وسنتي ومنهاجي (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) أي ادعو إلى توحيد الله وعدله ودينه على يقين ومعرفة وحجة قاطعة ، لا على وجه التقليد (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي أدعوكم أنا ويدعوكم أيضا إليه من آمن بي ويذكّر بالقرآن والموعظة ، وينهى عن معاصي الله (وَسُبْحانَ اللهِ) معناه : تنزيها لله عما أشركوا (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين اتخذوا مع الله ندّا وكفوا وولدا (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) بيّن سبحانه أنه إنما أرسل الرسل من أهل الأمصار لأنهم أرجح عقلا وعلما من أهل البوادي لبعد أهل البوادي عن العلم (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أفلم يسر هؤلاء المشركون المنكرون لنبوتك يا محمد في الأرض (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبين لرسلهم وكيف أهلكهم الله بعذاب الإستئصال فيعتبروا بهم ، ويحذروا مثل ما أصابهم (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) يقول : هذا صنيعنا بأهل الإيمان والطاعة في دار الدنيا إذ أهلكنا عدوّهم ، ونجيّناهم من شرّهم ، ولدار الآخرة خير لهم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا يفهمون ما قيل لهم فيعلمون.

١١٠ ـ ١١١ ـ ثم أخبر سبحانه وتعالى عن حال الرسل مع أممهم تسلية للنبي (ص) فقال (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) تقديره : إنا أخّرنا العقاب عن الأمم السالفة المكذبة لرسلنا كما أخّرناه عن أمتك يا محمد حتى إذا بلغوا إلى حالة يأس الرسل عن إيمانهم ، وتحقق يأسهم بإخبار الله تعالى إياهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أي تيقن الرسل أن قومهم كذبوهم تكذيبا عاما حتى انه لا يصلح واحد منهم وقيل : يجوز أن يكون الضمير في ظنّوا راجعا إلى الرسل أيضا ، ويكون معناه : وعلم الرسل أن الذين وعدوهم الإيمان من قومهم أخلفوهم ، أو كذبوا فيما أظهروا من الإيمان ، وسئل سعيد بن جبير في هذه الآية كيف يقرأها فقال : وظنّوا أنهم قد كذبوا بالتخفيف ، بمعنى : ظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم (جاءَهُمْ) أي جاء الرسل (نَصْرُنا) حين يأسوا بإرسال العذاب على الكفار (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) أي نخلّص من نشاء من العذاب عند نزوله وهم المؤمنون (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أي عذابنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي المشركين (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي في

٣٢٤

قصص يوسف وإخوته (عِبْرَةٌ) أي فكرة وبصيرة من الجهل وموعظة ، وهو ما أصابه (ع) من ملك مصر ، والجمع بينه وبين أبويه وإخوته بعد إلقائه في الجب ، وبيعه وحبسه وقيل : في قصصهم عبرة لأن نبينا (ص) لم يقرأ كتابا ، ولا سمع حديثا ، ولا خالط أهله ، ثم حدثهم به في حسن معانيه ، وبراعة ألفاظه ومبانيه بحيث لم يرد عليه أحد من ذلك شيئا ، فهذا من أدل الدلائل على صدقه وصحة نبوته (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي لذوي العقول (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) أي ما كان ما أدّاه محمد أو أنزل عليه حديثا يختلق كذبا (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولكن كان تصديق الكتب الذي بين يديه لأنه جاء كما بشّر به في الكتب (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) أي وبيان كل شيء يحتاج إليه من الحلال والحرام وشرائع الإسلام (وَهُدىً) أي ودلالة (وَرَحْمَةً) أي ونعمة ينتفع بها المؤمنون علما وعملا (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إنما خصّهم بذلك لأنهم المنتفعون به دون غيرهم.

سورة الرعد مدنية

عدد آياتها ثلاث وأربعون آية

١ ـ ٢ ـ (المر) قد فسرناه في أول البقرة وبيّنا ما قيل فيه ، وروي أن معناه : انا الله أعلم وأرى (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي هذه السورة هي آيات الكتاب التي تقدّم الوعد بها ليست بمفتريات ، ولا بسحر والكتاب : القرآن ، عن ابن عباس والحسن ، وقيل : ان الكتاب عبارة عن التوراة والإنجيل ، عن مجاهد وقتادة ، ويكون تقديره : تلك الأخبار التي قصصتها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة ، والآيات : الدلالات العجيبة المؤدية إلى المعرفة بالله سبحانه وأنه لا يشبه الأشياء ولا تشبهه (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق فاعتصم بالله ، وأعمل بما فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون بأنه منزل ، وأنه حق مع وضوحه (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) لما ذكر الله سبحانه أنهم لا يؤمنون ، عرّف الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق ، ويريد بالعمد السواري والدعائم وقيل فيه قولان (أحدهما) أن المراد رفع السماوات بغير عمد وأنتم ترونها كذلك ، عن ابن عباس والجبائي وأبي مسلم ، وهو الأصح ، قال ابن عباس : يعني ليس من دونها دعامة يدعمها ، ولا فوقها علاقة تمسكها. قال الزجاج : وفي ذلك من القدرة والدلالة ما لا شيء أوضح منه ، لأن السماء محيطة بالأرض ، متبرية منها بغير عمد (والآخر) أن يكون ترونها من نعت العمد ، فيكون المعنى : بغير عمد مرئية ، فعلى هذا تعمدها قدرة الله عزوجل ، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد مضى تفسيره ، وإذا حملنا الإستواء على الملك والإقتدار المراد : اقتداره على تصريفه وتقليبه (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذللهما لمنافع خلقه ، ومصالح عباده (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل واحد منهما يجري إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا ، وقيام الساعة التي تكور عندها الشمس ، ويخسف القمر ، وتنكدر النجوم عن الحسن وقال ابن عباس : أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهيان إليها ولا يجاوزانها وللشمس مائة وثمانون منزلا تنزل كل يوم منزلا حتى تنتهي إلى آخر المنازل فلا تجاوزه وترجع إلى أول المنازل وينزل القمر كل ليلة منزلا حتى ينتهي إلى آخر منازله (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يدبر الله كل أمر من أمور السماوات والأرض ، وأمور الخلق على وجه توجبه الحكمة ، وتقتضيه المصلحة (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي يأتي بآية في أثر آية فصلا فصلا مميزا بعضها عن بعض ليكون أمكن للإعتبار والتفكر (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي لكي توقنوا بالبعث والنشور ، وتعلموا أن القادر على هذه الأشياء قادر على البعث بعد الموت. وفي هذا دلالة على وجوب النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى ، وعلى بطلان التقليد ، ولولا ذلك لم يكن لتفصيل الآيات معنى.

٣٢٥

٣ ـ ٤ ـ لما ذكر سبحانه وتعالى في الآية من نعمائه وآلائه على عباده في رفع السماوات ، وتسخير الشمس والقمر ، ودلّ بذلك على وحدانيته ، عقّبه بذكر الأرض وما فيها من الآيات فقال : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي بسطها طولا وعرضا ليتمكن الحيوانات من الثبات فيها ، والإستقرار عليها (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت لتمسك الأرض ، ولو أراد أن يمسكها من غير جبال لفعل إلّا أنه أمسكها بالرواسي لأن ذلك أقرب إلى أفهام الناس ، وأدعى لهم إلى الإستدلال والنظر (وَأَنْهاراً) أي وشقّ فيها أنهارا تجري فيها المياه ، ولولا الأنهار لضاع أكثر المياه ، ولما أمكن الشرب والسقي (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي وجعل في الأرض من كل الثمرات لمأكولهم ومطعومهم صنفين أسود وأبيض ، وحلوا وحامضا ، وصيفيا وشتويا ، ورطبا ويابسا ، وإنما قال : اثنين للتأكيد ، والزوج في الحيوانات عبارة عن الذكر والأنثى ، وفي الثمار عبارة عن لونين (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) معناه : يأتي بالليل ليذهب بضياء النهار ويستره ليسكن الحيوانات فيه ، ويأتي بضياء النهار ليمحو ظلام الليل ، وينصرف الناس فيه لمعايشهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما سبق ذكره (لَآياتٍ) أي لدلالات واضحات على وحدانية الله تعالى : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيها فيستدلون منها على أن لهم صانعا (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي أبعاض متقاربات مختلفات في التفاضل : منها جبل صلب لا ينبت شيئا ، ومنها سهل حر ينبته ، ومنها سبخة لا تنبت (وَجَنَّاتٌ) أي بساتين (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) أي نخلات من أصل واحد (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) أي نخلات من أصول شتى (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) أي يسقي ما ذكرناه من القطع المتجاورة والجنات والنخيل المختلفة بماء الأنهار ، أو بماء السماء (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) يفضل الله بعضها على بعض في الطعم واللون والطبع مع أن البئر واحدة ، والشرب واحد ، والجنس واحد ، حتى يكون بعضها حامضا ، وبعضها حلوا ، وبعضها مرا ، فلو كانت بالطبع لما اختلف ألوانها وطعومها مع كون الأرض والماء والهواء واحدا ، وفي هذا أوضح دلالة على أن لهذه الأشياء صانعا (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في اختلاف ألوانها وطعومها (لَآياتٍ) أي حججا ودلالات (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) دلائل الله تعالى ويتفكرون فيها ويستدلون بها.

٥ ـ ٧ ـ لما تقدّم ذكر الأدلة على أنه سبحانه قادر على الإنشاء والإعادة ، عقّبه بالتعجّب من تكذيبهم بالبعث والنشور فقال : (وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من قول هؤلاء الكفار في إنكارهم البعث مع إقرارهم بابتداء خلق الخلق (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي فقولهم عجب (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي أنبعث ونعاد بعدما صرنا ترابا ، هذا مما لا يمكن (أُولئِكَ) المنكرون للبعث (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أي جحدوا قدرة الله تعالى على البعث (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) في الآخرة (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مضى تفسيره (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) أي يستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون (بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي بالعقاب الذي توعدوا به على التكذيب قبل الثواب الذي وعدوا به على الإيمان وذلك حين قالوا : فأمطر علينا حجارة من السماء (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ) أي مضت من قبلهم (الْمَثُلاتُ) أي العقوبات التي يقع بها الإعتبار ، وهو ما حلّ بهم من المسخ والخسف والغرق وقد سلك هؤلاء طريقتهم فكيف يتجاسرون على استعجالها؟! (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) قال المرتضى (ره) في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة لأنه سبحانه دلّنا على أنه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأن قوله : (عَلى ظُلْمِهِمْ) إشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين ، ويجري ذلك مجرى قول القائل : أنا أودّ فلانا على غدره ، وأصله على هجره (وَإِنَ

٣٢٦

رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) لمن استحقه (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) مثل الناقة والعصا عن ابن عباس قال الزجاج : طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى ، فأعلم الله أن لكل قوم هاد والمعنى : أنه سبحانه بيّن سوء طريقتهم في اقتراح الآيات كما في قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) ، إلى قوله : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) ، وكما قالوا : اجعل الصفا لنا ذهبا حتى نأخذ منه ما نشاء (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) عن ابن عباس قال : لما نزلت الآية قال رسول الله أنا المندر وعليّ الهادي من بعدي يا علي بك يهتدي المهتدون وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن حكم بن جبير عن أبي بردة الأسلمي قال دعا رسول الله (ص) بالطهور وعنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله بيد علي بعد ما تطهر فألزمها بصدره ثم قال إنما أنت منذر ثم ردّها إلى صدر علي ثم قال ولكل قوم هاد ثم قال إنك منارة الأنام ، وغاية الهدى ، وأمير القرى ، وأشهد على ذلك أنك كذلك.

٨ ـ ١١ ـ (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أي يعلم ما في بطن كل حامل من ذكر وأنثى ، تام أو غير تام ، ويعلم لونه وصفاته (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) أي يعلم الوقت الذي تنقصه الأرحام من المدة التي هي تسعة أشهر (وَما تَزْدادُ) على ذلك (وَكُلُّ شَيْءٍ) أي وكل شيء من الرزق والأجل ، أو ما سبق ذكره من الحمل (عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي بقدر واحد لا يجاوزه ولا بقصر عنه على ما توجبه الحكمة (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم بما غاب عن حسّ العباد ، وبما يشاهده العباد لا يغيب عنه شيء (الْكَبِيرُ) وهو السيد الملك القادر على جميع الأشياء وقيل : هو الذي كل شيء دونه لكمال صفاته ولكونه عالما لذاته قادرا لذاته حيا لذاته وقيل هو الذي كبر عن شبه المخلوقين (الْمُتَعالِ) وهو الذي علا كل شيء بقدرته فلا يساويه قادر (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) معناه : سواء عند الله وفي علمه من أسرّ القول في نفسه وأخفاه ، ومن أعلنه وأبداه ولم يضمره في نفسه (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ومن هو مستتر متوار بالليل ، ومن هو سالك في سربه : أي في مذهبه ماض في حوائجه بالنهار معناه : انه يرى ما أخفته ظلمة الليل ، كما يرى ما أظهره ضوء النهار ، بخلاف المخلوقين الذين يخفي عليهم الليل أحوال أهله (لَهُ مُعَقِّباتٌ) الضمير الذي في له يعود إلى اسم الله تعالى وهو عالم الغيب والشهادة. والمعقبات : الملائكة يتعاقبون ، تعقب ملائكة الليل ملائكة النهار ، وملائكة النهار ملائكة الليل ، وهم الحفظة يحفظون على العبد عمله (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) يحفظون ما تقدم من عمله وما تأخر إلى أن يموت فيكتبونه وقيل : من أمر الله : أي بأمر الله (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من النعمة ، والحال الجميلة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الطاعة فيعصون ربهم ، ويظلم بعضهم بعضا (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) أي عذابا ، وإنما سمّاه سوءا لأنه يسوء (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي لا مدفع له وقيل معناه : إذا أراد الله بقوم بلاء من مرض وسقم فلا مردّ لبلائه (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) يلي أمرهم ، ويمنع العذاب عنهم.

١٢ ـ ١٥ ـ ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته فقال (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي خوفا من الصواعق التي يكون معها ، وطمعا في الغيث الذي يزيل القحط (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي ويخلق السحاب الثقال بالماء يرفعها من الأرض فيجريها في الجو (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) تسبيح الرعد : دلالته على تنزيه الله تعالى ، ووجوب حمده ، فكأنه هو المسبّح (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي ويسبّح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ)

٣٢٧

ويصرفها عمن يشاء (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) يعني أن هؤلاء الجهال مع مشاهدتهم لهذه الآيات ، يخاصمون أهل التوحيد ويحاولون فتلهم عن مذاهبهم بجدالهم (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي شديد الأخذ (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) أى لله سبحانه دعوة الحق ، انها كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلّا الله (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي والذين يدعوهم المشركون من دون الله لحاجاتهم من الأوثان وغيرها (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) هذا مثل ضربه الله لكل من عبد غير الله ودعاه رجاء أن ينفعه يقول : ان مثله كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء من مكان بعيد ليتناوله ، ويسكن به غلته ، وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما ، فكذلك ما كان يعبده المشركون من الأصنام لا يصل نفعها إليهم ، ولا يستجيب دعاءهم (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي ليس دعاؤهم الأصنام من دون الله إلّا في ذهاب عن الحق والصواب. ثم بيّن سبحانه كمال قدرته ، وسعة مملكته فقال (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني الملائكة وسائر المكلفين (طَوْعاً وَكَرْهاً) المعنى : لله يخضع من في السماوات والأرض إلّا أن المؤمن يخضع له طوعا ، والكافر يخضع له كرها ، لأنه لا يمكنه أن يمتنع من الخضوع لله لما يحل به من الآلام والأسقام (وَظِلالُهُمْ) أي ويسجد ظلالهم لله (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي العشيات قيل : ان المراد بالظل الشخص فإن من يسجد يسجد ظله معه.

١٦ ـ (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من مدبّرهما ومصرّفهما على ما فيهما من البدائع؟ فإذا استعجم عليهم الجواب ولا يمكنهم أن يقولوا الأصنام (قُلْ) أنت لهم رب السماوات والأرض وما بينهما من أنواع الحيوان والنباتات والجماد (اللهُ) فإذا أقرّوا بذلك (قُلْ) لهم على وجه التبكيت والتوبيخ لفعلهم (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) توجهون عبادتكم إليهم ، فالصورة صورة الإستفهام والمراد به التقريع ثم بيّن أن هؤلاء الذين اتخذوهم من دونه أولياء (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) ومن لا يملك لنفسه ذلك فالأولى والأحرى أن لا يملك لغيره ، ومن كان كذلك فكيف يستحق العبادة؟! ثم ضرب لهم سبحانه مثلا بعد الزام الحجة فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي كما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي المؤمن والكافر ، لأن المؤمن يعمل على بصيرة ، ويعبد الله الذي يملك النفع والضر ، والكافر يعمل على عمى ويعبد من لا يملك النفع والضر ، ثم زاد في الإيضاح فقال : (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي هل يستوي الكفر والإيمان ؛ أو الضلالة والهدى ، أو الجهل والعلم (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) أي هل جعل هؤلاء الكفار لله شركاء في العبادة خلقوا أفعالا مثل خلق الله تعالى من الأجسام والألوان والطعوم والقدرة والحياة (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي فاشتبه لذلك عليهم ما الذي خلق الله وما الذي خلق الأوثان ، فظنّوا أن الأوثان تستحق العبادة لأن أفعالها مثل أفعال الله (قُلْ) لهم (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) يستحق به العبادة من أصول النعم وفروعها (وَهُوَ الْواحِدُ) ومعناه : أنه يستحق من الصفات ما لا يستحقه غيره ، فهو قديم لذاته ، قادر لذاته ، عالم لذاته ، حيّ لذاته غنيّ لا مثل له ولا شبه ، وقيل : الواحد هو الذي لا يتجزأ ولا يتبعض ، وقيل : هو الواحد في الإلهية لا ثاني له في القدم (الْقَهَّارُ) الذي يقهر كل قادر سواه ، ولا يمتنع عليه شيء.

١٧ ـ ١٨ ـ ثم ضرب سبحانه مثلين للحق والباطل (احدهما) الماء وما يعلوه من الزبد (والآخر) ما توقد عليه النار من الذهب والفضة وغيرهما وما يعلوه من الزبد على ما رتّبه فقال (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) يعني فاحتمل الأنهار الماء كل نهر بقدره ، الصغير على قدر صغره ، والكبير على قدر كبره ، فسال كل نهر بقدره

٣٢٨

(فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي طافيا عاليا فوق الماء. شبّه سبحانه الحق والإسلام بالماء الصافي النافع للخلق ، والباطل بالزبد الذاهب باطلا (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) وهو الذهب والفضة والرصاص وغيره مما يذاب (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) أي طلب زينة يتخذ منه كالذهب والفضة (أَوْ مَتاعٍ) معناه : أو ابتغاء متاع ينتفع به وهو مثل جواهر الأرض يتخذ منها الأواني وغيرها (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي مثل زبد الماء ، فإن هذه الأشياء التي نستخرج من المعادن ، وتوقد عليها النار ليتميز الخالص من الخبيث ، لها أيضا زبد وهو خبثها (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي مثل الحق والباطل ، وضرب المثل : تسييره في البلاد حتى يتمثل به في الناس (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) أي باطلا متفرقا بحيث لا ينتفع به (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) وهو الماء الصافي ، والأعيان التي ينتفع بها (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فينتفع به الناس ، فمثل المؤمن واعتقاده كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض ، وحياة كل شيء به ، وكمثل نفع الذهب والفضة وسائر الأعيان المنتفع بها ، ومثل الكافر وكفره كمثل هذا الزبد الذي يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار : من وسخ الذهب والفضة الذي لا ينتفع به (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) للناس في أمر دينهم (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) معناه : للذين استجابوا دعوة الله ، وآمنوا به وأطاعوه الحسنى وهي الجنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) أي لله فلم يؤمنوا به (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) أي جعلوا ذلك فدية أنفسهم من العذاب لم يقبل ذلك منهم (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) ان سوء الحساب أخذهم بذنوبهم كلها من دون أن يغفر لهم شيء منها (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي وبئس ما مهّدوا لأنفسهم والمهاد : الفراش الذي يوطأ لصاحبه ، وتسمى النار مهادا لأنها موضع المهاد لهم.

١٩ ـ ٢٤ ـ ثم بيّن سبحانه الفرق بين المؤمن والكافر فقال : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا محمد (مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) عنه ، أخرج الكلام مخرج الإستفهام والمراد به الإنكار ، أي لا يكونان مستويين فإن الفرق بينهما هو الفرق بين الأعمى والبصير ، لأن المؤمن يبصر ما فيه رشده فيتبعه ، والكافر يتعامى عن الحق فيتبع ما فيه هلاكه (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يتفكر فيه ويستدل به ذوو العقول والمعرفة (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) أي يؤدون ما عهد الله إليهم ، وألزمهم إياه عقلا وسمعا (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) المراد به الإيمان بجميع الرسل والكتب كما في قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) وقيل : هو صلة محمد وموازرته ومعاونته والجهاد معه عن الحسن وقيل : هو صلة الرحم عن ابن عباس ، وروى أصحابنا أن أبا عبد الله (ع) لما حضرته الوفاة قال : اعطوا الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين ـ وهو الأفطس ـ سبعين دينارا فقالت له أم ولد له : أتعطى رجلا حمل عليك بالشفرة؟ فقال لها : ويحك أما تقرئين قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) الآية وقيل : هو ما يلزم من صلة المؤمنين بأن يتوالوهم وينصروهم ويذبّوا عنهم ، ويدخل فيه صلة الرحم وغير ذلك عن الجبائي وأبي مسلم ، وروى محمد بن الفضيل عن موسى بن جعفر الكاظم (ع) في هذه الآية قال : صلة آل محمد (ص) معلقة بالعرش تقول : اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ، وهي تجري في كل رحم ، وروى الوليد بن أبان عن أبي الحسن الرضا (ع) قال : قلت له : هل على الرجل في ماله سوى الزكاة؟ قال : نعم أين ما قال الله (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ) الآية (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي ويخافون عقاب ربهم في قطعها (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سوء الحساب : أن يحسب عليهم السيئات ولا يحسب لهم الحسنات ، وهو الإستقصاء (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) أي الذين صبروا على القيام بما أوجبه الله عليهم ، وعلى بلاء الله من الأمراض والعقوبة وغير ذلك ، وعن معاصي الله سبحانه لطلب ثواب الله تعالى (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي

٣٢٩

أدّوها بحدودها ، وداوموا على فعلها (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي ظاهرا وباطنا (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بفعل الطاعة المعصية قال ابن عباس : يدفعون بالعمل الصالح السيء من العمل ، كما روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل : إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ، وقيل معناه : يدفعون اساءة من أساء إليهم بالإحسان والعفو ولا يكافئون ، كقوله سبحانه : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) عن قتادة وابن زيد ، وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا وقيل : يدفعون بالتوبة معرّة الذنب ، عن ابن كيسان (أُولئِكَ) يعني ان هؤلاء الذين هذه صفاتهم (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي ثواب الجنة ، فالدار : الجنة ، وثوابها : عقباها التي هي العاقبة المحمودة ثم وصف الدار فقال (جَنَّاتُ عَدْنٍ) هي الدرجة العليا وسكانها الشهداء والصديقون عن ابن عباس. وقيل : هي مدينة في الجنة ، فيها الأنبياء والأئمة والشهداء ، عن الضحاك ، وقيل : قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد أو حاكم عدل ، عن الحسن ثم بيّن سبحانه ما يتكامل به سرورهم من اجتماع قومهم معهم فقال (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) يعني من آمن منهم ، وصدّق بما صدّقوا به ، وذلك أن الله سبحانه جعل من ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله من الحاقهم به في الجنة كرامة له كما قال : ألحقنا بهم ذريتهم (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب الجنة الثمانية وقيل : من كل باب من أبواب البرّ كالصلاة والزكاة والصوم وقيل : من أبواب قصورهم وبساتينهم بالتحية من الله سبحانه ، والتحف والهدايا ، عن ابن عباس ، ويقولون (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) والقول محذوف لدلالة الكلام عليه ، والسلام والتحية والبشارة منهم بالسلامة والكرامة ، وانتفاء كل أمر تشوبه مضرّة ، أي سلمكم الله من الأهوال والمكاره بصبركم على شدائد الدنيا ومحنها في طاعة الله تعالى (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي نعم عاقبة الدار ما أنتم فيه من الكرامة.

٢٥ ـ ٢٩ ـ لما ذكر سبحانه الذين يوفون بعهد الله ، ووصفهم بالصفات التي يستحقون بها الجنة ، عقّبه بذكر من هو على خلاف حالهم فقال : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) قد كرنا معنى عهد الله وميثاقه ، وصلة ما أمر الله به أن يوصل (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالعمل فيها بمعاصي الله ، والظلم لعباده ، وإخراب بلاده (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) وهي الابعاد من رحمة الله والتبعيد من جنته (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي عذاب النار والخلود فيها (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسع الرزق على من يشاء من عباده بحسب ما يعلم من المصلحة ، ويضيقه على آخرين إذا كانت المصلحة في التضييق (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي فرحوا بما أوتوا من حطام الدنيا فرح البطر ، ونسوا فناءه وبقاء أمر الآخرة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي ليست هذه الحياة الدنيا بالإضافة إلى الحياة الآخرة إلّا قليل ذاهب ، لأن هذه فانية ، وتلك دائمة باقية (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي هلا أنزل على محمد معجزة من ربه يقترحها ، ويجوز أنهم لم يتفكروا في الآيات المنزلة فاعتقدوا أنه لم ينزل عليه آية ، ولم يعتدّوا بتلك الآيات ، فقالوا هذا القول جهلا بها (قُلْ) يا محمد (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) عن طريق الجنة بسوء أفعاله ، وعظم معاصيه وقد مضى القول في وجوه الاضلال والهدى فلا معنى لإعادته (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي رجع إليه بالطاعة (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) معناه : الذين اعترفوا بتوحيد الله على جميع صفاته ، ونبوة نبيه ، وقبول ما جاء به من عند الله ، وتسكن قلوبهم بذكر الله ، وتأنس إليه والذكر : حصول المعنى للنفس وقد يسمى العلم ذكرا والقول الذي فيه المعنى الحاضر للنفس أيضا يسمى ذكرا وقد وصف الله المؤمن ههنا بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر الله ووصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر الله وجل

٣٣٠

قلبه لأن المراد بالأول أنه يذكر ثوابه وانعامه وآلاءه التي لا تحصى وأياديه التي لا تجازى فيسكن إليه وبالثاني أنه يذكر عقابه وانتقامه فيخافه ويوجل قلبه (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وهذا حثّ للعباد على تسكين القلب إلى ما وعد الله به من النعيم والثواب والطمأنينة إليه ، فإن وعده سبحانه صادق ، ولا شيء تطمئن النفس إليه أبلغ من الوعد الصادق (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدأ مستئنفا ومعناه : الذين يؤمنون بالله ويعملون ما يجب عليهم من الطاعات (طُوبى لَهُمْ) معناه : فرح وقرة عين (وَحُسْنُ مَآبٍ) أي ولهم حسن مآب : أي مرجع.

٣٠ ـ ٣١ ـ لما ذكر سبحانه النعمة على من تقدّم ذكره بالثواب وحسن المآب ، عقّبه بذكر النعمة على من أرسل إليه النبي (ص) فقال (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) أي كما أنعمنا على المذكورين بالثواب في الجنة ، أنعمنا على المرسل إليهم بإرسالك وقيل : ان معنى التشبيه : انا كما أرسلنا الأنبياء في الأمم قبلك أرسلناك (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) أي في جماعة قد مضت من قبلها قرون وجماعات (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) بيّن الغرض في إرساله وهو أن يقرأ عليهم القرآن ليتدبروا آياته ، ويتّعظوا بها (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أي وقريش يكفرون بالرحمن ، أي ويقولون : قد عرفنا الله ولا ندري ما الرحمن كما أخبر عنهم بأنهم قالوا : وما الرحمن أأنسجد؟؟؟ لما تأمرنا (قُلْ) يا محمد (هُوَ رَبِّي) أي الرحمن الذي أنكرتموه ربي ، أي خالقي ومدبري (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي إليه فوضت أمري متمسكا بطاعته ، راضيا بحكمه (وَإِلَيْهِ مَتابِ) أي مرجعي (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) أي تجعل به الجبال سائرة فأذهبت من مواضعها ، وقلعت من أماكنها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) أي أحيي به الموتى حتى يعيشوا ويتكلموا والتقدير : لكان هذا القرآن لعظم محله ، وعلو أمره ، وجلالة قدره ، والمعنى : لو أن قرآنا سيّرت به الجبال ، أو قطعت به الأرض ، أو كلم به الموتى لما آمنوا ، ودليله قوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) ، إلى قوله : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) معناه : ان جميع ما ذكر من تسيير الجبال ، وتقطيع الأرض ، وإحياء الموتى ، وكل تدبير يجري هذا المجرى لله ، لأنه لا يملكه سواه ، ولا يقدر عليه غيره ، ولكنه لا يفعل لأن فيما أنزل من الآيات مقنعا وكفاية للمنصفين (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) معناه : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله عزوجل بأنهم لا يؤمنون (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) أي ان الله لو أراد أن يهدي الخلق كلهم إلى جنته لهداهم ، لكنه كلفهم لينالوا الثواب بطاعاتهم على وجه الإستحقاق (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من كفرهم وأعمالهم الخبيثة (قارِعَةٌ) أي نازلة وداهية تقرعهم ، ومصيبة شديدة من الحرب والجدب والقتل والأسر عليهم على جهة العقوبة للتنبيه والزجر (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) المعنى : وتحل تلك القارعة قريبا من دارهم فتجاورهم حتى يحصل لهم المخافة (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) أي حتى يأتي يوم القيامة (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ظاهر المعنى.

النظم

اتصلت الآية الأخيرة بقوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، والتقدير : أن مثل هذا القرآن أنزل عليهم وهو يطلبون آيات أخر.

٣٢ ـ ٣٤ ـ ثم عزّى سبحانه نبيّه (ص) فقال (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزأ هؤلاء بك (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي فأمهلتهم وأطلت مدتهم ليتوبوا ، ولتتم عليهم الحجة (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أي أهلكتهم وأنزلت عليهم عذابي (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فكيف حلّ عقابي بهم ، وهو إشارة إلى تفخيم ذلك العقاب وتعظيمه ثم عاد سبحانه إلى الحجاج مع الكفار (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ)

٣٣١

معناه : أفمن هو قائم بالتدبير على كل نفس ، وحافظ على كل نفس أعمالها يجازيها كمن ليس بهذه الصفات من الاصنام التي لا تنفع ولا تضر (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) يعني أن هؤلاء الكفار جعلوا لله شركاء في العبادة من الأصنام التي لا تقدر على شيء مما ذكرنا (قُلْ) يا محمد (سَمُّوهُمْ) أي سمّوهم بما يستحقّون من الصفات وإضافة الأفعال إليهم إن كانوا شركاء لله كما يوصف الله بالخالق والرازق والمحيي والمميت ، ويعود المعنى : إلى أن الصنم لو كان إلها لتصور منه أن يخلق الرزق فيحسن حينئذ أن يسمى بالخالق والرازق (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) هذا استفهام منقطع مما قبله ، أي أتخبرون الله بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي أم تقولون مجازا من القول ، وباطلا لا حقيقة له ثم بيّن سبحانه بطلان قولهم فقال (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) أي دع ذكر ما كنا فيه ، زين الشيطان لهم الكفر لأن مكرهم بالرسول كفر منهم (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) أي وصدوا الناس عن الحق وعن دين الله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) سبق معناه في مواضع (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والسبي والأسر (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) أي أغلظ وأبلغ في الشدة على النفس لدوامه وكثرته (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي ما لهم من دافع يدفع عنهم عذاب الله تعالى.

٣٥ ـ ٣٧ ـ لمّا تقدّم ذكر ما أعدّ الله للكافرين ، عقّبه سبحانه بذكر ما أعدّه للمؤمنين فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي شبهها ، عن مقاتل ، وقيل : صفتها وصورتها ، عن الحسن (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ) يعني أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا ، وظلّها لا يزول ولا تنسخه الشمس (وَظِلُّها) أيضا دائم لا يكون مرة شمسا ومرة ظلا كما يكون في الدنيا (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) فالطريق إليها التقوى (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) أي وعاقبة أمر الكفار النار. ولما تقدم ذكر الوعد والوعيد أخبر سبحانه عن المؤمنين والكافرين فقال : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يريد أصحاب النبي (ص) الذين آمنوا به وصدّقوه أعطوا القرآن وفرحوا بإنزاله (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) يعني اليهود والنصارى والمجوس أنكروا بعض معانيه وما يخالف أحكامهم عن الحسن وقتادة ومجاهد ، وقيل : الذين آتيناهم الكتاب هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه فرحوا بالقرآن لأنهم يصدّقون به ، والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين ، لأن عبد الله بن سلام وأصحابه أساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن فأنزل الله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) ففرحوا بذلك ، وكفر المشركون بالرحمن ؛ ويريد بالأحزاب الذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمعاداة (قُلْ) يا محمد (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي أمرت أن أوجه عبادتي إلى الله ولا أشرك به في عبادته أحدا (إِلَيْهِ أَدْعُوا) يعني إلى الإقرار بتوحيده وصفاته ، وتوجيه العبادة إليه وحده (وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي إليه مرجعي ومصيري ، أي أرجع وأصير إلى حيث لا يملك الضر والنفع إلّا هو وحده ، فإنه لا يملك يوم القيامة الأمر أحدا من عباده كما ملكهم في الدنيا (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أي كما أنزلنا الكتب إلى من تقدّم من الأنبياء بلسانهم أنزلنا إليك حكمة عربية ، أي جارية على مذاهب العرب في كلامهم ، يعني القرآن ، فالحكم هاهنا بمعنى الحكمة كما في قوله : وآتيناه الحكم والنبوة ، إنما سماه حكما لما فيه من الأحكام في بيان الحلال والحرام ، وسماه عربيا لأنه أتى به نبي عربي (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) خطاب للنبي (ص) والمراد به الأمة ، أي لئن وافقت وطلبت أهواء الذين كفروا ، والأهواء : جمع الهوى وهو ميل الطباع إلى شيء بالشهوة (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بالله تعالى ، لأن ما آتيناك من الدلالات والمعجزات موجب للعلم الذي يزول معه الشبهات (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ

٣٣٢

وَلِيٍ) أي ناصر يعينك عليه ، ويمنعك من عذابه (وَلا واقٍ) يقيك منه.

٣٨ ـ ٤٠ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) أي نساء وأولادا أكثر من نسائك وأولادك (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي لم يكن لرسول يرسله الله أن يجيء بآية ودلالة إلّا بعد أن يأذن الله في ذلك ، ويطلق له فيه (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) معناه : لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه ، ولا تكون آية إلّا بأجل قد قضاه الله في كتاب على وجه ما يوجبه التدبير ، فالآية التي اقترحوها لها وقت أجله الله لا على شهواتهم واقتراحاتهم (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) انه يمحو بالتوبة جميع الذنوب ، ويثبت بدل الذنوب حسنات (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) يا محمد (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي نعد هؤلاء الكفار من نصر المؤمنين عليهم بتمكينك منهم بالقتل والأسر واغتنام الأموال (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي ونقبضنك إلينا قبل أن نريك ذلك ، وبيّن بهذا أنه يكون بعض ذلك في حياته وبعضه بعد وفاته ، أي فلا تنتظر أن يكون جميع ذلك في أيام حياتك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي عليك أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم وتقول بما أمرناك بالقيام به ، وعلينا حسابهم ومجازاتهم والإنتقام منهم إما عاجلا وإما آجلا ، وفي هذه دلالة على أن الإسلام سيظهر على سائر الأديان ، ويبطل الشرك في أيامه وبعد وفاته ، وقد وقع المخبر به على وفق الخبر.

٤١ ـ ٤٢ ـ ثم ذكر سبحانه ما يكون للكفار كالبينة على الإعتبار فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها) أي نقصدها (مِنْ أَطْرافِها) معناه : أو لم ير هؤلاء الكفار أنا ننقص أطراف الأرض بإماتة أهلها؟ ومجازه : ننقص أهلها من أطرافها (وَاللهُ يَحْكُمُ) أي يفصل الأمر (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) ولا رادّ لقضائه عن ابن عباس ومعناه : لا يعقب أحد حكمه بالرد والنقض (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي سريع المجازاة على أفعال العباد على الطاعات بالثواب ، وعلى المعاصي بالعقاب ، ثم بيّن سبحانه أن مكرهم يضمحل عند نزول العذاب بهم فقال : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يريد أن الكفار الذين كانوا قبل هؤلاء قد مكروا بالمؤمنين ، واحتالوا في كفرهم ، ودبّروا في تكذيب الرسل بما في وسعهم ، فابطل الله مكرهم ، كذلك يبطل مكر هؤلاء (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي له الأمر والتدبير جميعا ، فيرد عليهم مكرهم بنصب الحجج لعباده وقيل : معناه : فالله يملك الجزاء على المكر وقيل : يريد بالمكر ما يفعل الله تعالى بهم من المكروه عن الجبائي (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) فلا يخفى عليه ما يكسبه الإنسان من خير وشر لأنه عالم بجميع المعلومات (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) هذا تهديد لهم بأنهم سوف يعلمون من تكون له عاقبة الجنة حين يدخل المؤمنون الجنة ، والكافرون النار وقيل معناه : وسيعلمون لمن العاقبة المحمودة لكم أم لهم إذا أظهر الله دينه (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لك يا محمد (لَسْتَ مُرْسَلاً) من جهة الله تعالى إلينا (قُلْ) لهم (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي كفى الله شاهدا بيني وبينكم بما أظهر من الآيات ، وأبان من الدلالات على نبوتي (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قيل فيه أقوال أحدها : ان من عنده علم الكتاب هو الله عن الحسن والضحاك وسعيد بن جبير. والثاني المراد به علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأئمة الهدى عليهم‌السلام ، ٠ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام. وروي عن بريد بن معاوية عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : إيانا عنى ، وعلي أوّلنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وروى عنه عبد الله بن كثير أنه وضع يده على صدره ثم قال : عندنا والله علم الكتاب كملا ، ويؤيد ذلك ما روي عن الشعبي أنه قال : ما أحد أعلم بكتاب الله بعد النبي (ص) وآله من علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ومن الصالحين من أولاده. وروى

٣٣٣

عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : ما رأيت أحدا أقرأ من علي بن أبي طالب عليه‌السلام للقرآن ، وروى أبو عبد الرحمن أيضا عن عبد الله بن مسعود قال : لو كنت أعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله منّي لأتيته ، فقلت له : فعلي؟ قال : أولم آته.

سورة إبراهيم

عدد آياتها اثنتان وخمسون آية

قال ابن عباس وقتادة والحسن : هي مكّية إلّا آيتان نزلتا في قتلى بدر من المشركين : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) ـ إلى قوله : (فَبِئْسَ الْقَرارُ).

لما ختم الله سورة الرعد بإثبات الرسالة وإنزال الكتاب افتتح هذه السورة ببيان الغرض في الرسالة والكتاب فقال :

١ ـ ٣ ـ (الر) قد ذكرنا معاني الحروف المقطعة في أوائل السور وذكرنا اختلاف الأقاويل فيه في أول البقرة (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) يعني القرآن نزل به جبرئيل (ع) من عند الله تعالى ، أي هذا كتاب منزل إليك يا محمد (ص) ليس بسحر ولا بشعر (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) أي جميع الخلق (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الضلالة إلى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بإطلاق الله ذلك وأمره به ، وفي هذا دلالة على أنه سبحانه يريد الإيمان من جميع المكلفين لأن اللام لام الغرض ولا يجوز أن يكون لام العاقبة لأنه لو كان ذلك لكان الناس كلهم مؤمنين والمعلوم خلافه ثم بيّن سبحانه ما النور فقال (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى طريق الله المؤدي إلى معرفة الله المنيع في سلطانه المحمود في فعاله ونعمه التي أنعم بها على عباده (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي له التصرف فيهما على وجه لا اعتراض عليه (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أخبر أن الويل للكافرين الذين يجحدون نعم الله ولا يعترفون بوحدانيته من عذاب تتضاعف آلامه ثم وصف الكافرين بقوله (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي يختارون المقام في هذه الدنيا العاجلة على الكون في الآخرة لأن الدنيا دار انتقال وفناء ، والآخرة دار مقام وبقاء (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون غيرهم من اتباع الطريق المؤدي إلى معرفة الله (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي يطلبون للطريق عوجا : أي عدولا عن الإستقامة (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي في عدول عن الحق ، بعيد عن الإستقامة والصواب والسبيل : يذكّر ويؤنّث ، وقيل معناه : يلتمسون الدنيا من غير وجهها ، لأن نعمة الله لا تستمد إلّا بطاعته دون معصيته.

٤ ـ ٦ ـ ثم بيّن سبحانه أنه إنما يرسل الرسل إلى قومهم بلغتهم ليكون أقرب إلى الفهم ، وأقطع للعذر فقال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي لم يرسل فيما مضى من الأزمان رسولا إلّا بلغة قومه ، حتى إذا بيّن لهم فهموا عنه ولا يحتاجون إلى من يترجمه عنه ، وقد أرسل الله تعالى نبينا محمدا (ص) إلى الخلق كافة بلسان قومه وهم العرب بدلالة قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) قال الحسن امتن الله على نبيه محمد (ص) انه لم يبعث رسولا إلّا إلى قومه وبعثه خاصة إلى جميع الخلق وبه قال مجاهد وقيل ان معناه انا كما أرسلناك إلى العرب بلغتهم لتبين لهم الدين ثم انهم يبينونه للناس كذلك أرسلنا كل رسول بلغة قومه ليظهر لهم الدين (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) عن طريق الجنة إذا كانوا مستحقين للعقاب (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إلى طريق الجنة وقيل : يلطف لمن يشاء ممن له لطف ويضل عن ذلك من لا لطف له ، فمن تفكر وتدبر اهتدى ، ثبته الله ، ومن أعرض عنه خذله الله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ظاهر المعنى. ثم ذكر سبحانه

٣٣٤

إرساله موسى فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي بالمعجزات والدلالات (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) أي بأن أخرج قومك (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) مرّ معناه ، أي أمرناه بذلك وإنما أضاف الإخراج إليه لأنهم بسبب دعائه خرجوا من الكفر إلى الإيمان (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) معناه : وأمرناه بأن يذكر قومه وقائع الله في الأمم الخالية ، وإهلاك من أهلك منهم ليحذروا ذلك فيكون المعنى : الأيام التي انتقم الله فيها من القرون الأولى (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي دلالات لكل من كان عادته الصبر على بلاء الله ، والشكر على نعمائه ، وإنما جمع بينهما لأن حال المؤمن لا يخلو من نعمة يجب شكرها ، أو محنة يجب الصبر عليها ، (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) والتقدير : واذكر يا محمد إذ قال موسى لهم (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ) أي في الوقت الذي أنجاكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ) أي يذيقونكم (سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يستبقونهن احياء للاسترقاق (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) والآية مفسرة في سورة البقرة.

٧ ـ ١٠ ـ لما تقدّم ذكر النعمة اتبعه سبحانه بذكر ما يلزم عليها من الشكر فقال (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) معناه : وإذ قال لكم ربكم (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أي لئن شكرتم لي على نعمي لأزيدنكم في النعم (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) أي جحدتم نعمتي (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) لمن كفر نعمتي وقال أبو عبد الله (ع) في هذه الآية : أيما عبد أنعمت عليه نعمة فأقر بها بقلبه وحمد الله عليها بلسانه لم ينفذ كلامه حتى يأمر الله له بالزيادة (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا) أي تجحدوا نعم الله سبحانه (أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الخلق لم تضروا الله شيئا وإنما يضركم ذلك بأن تستحقوا عليه العقاب (فَإِنَّ اللهَ) سبحانه (لَغَنِيٌ) عن شكركم (حَمِيدٌ) في أفعاله وقد يكون كفر النعمة بأن يشبه الله بخلقه ، أو يجور في حكمه ، أو يرد على نبي من أنبيائه فإن الله سبحانه قد أنعم على خلقه في جميع ذلك بأن أقام الحجج الواضحة والبراهين الساطعة على صحته وعرض بالنظر فيها للثواب الجزيل (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) ان هذا الخطاب متوجه إلى أمة نبينا (ص) فذكرت بأخبار من تقدمها من الأمم (نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أخبار من تقدمكم (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) أي لا يعلم تفاصيل أحوالهم وعددهم وما فعلوه وفعل بهم من العقوبات إلّا الله قال ابن الأنباري : ان الله تعالى أهلك أمما من العرب وغيرهم فانقطعت أخبارهم ، وعفت آثارهم ، فليس يعرفهم أحد إلّا الله (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة والحجج والأحكام والحلال والحرام (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) اختلفوا في معناه على أقوال (أحدها) معناه : عضّوا على أصابعهم من شدّة الغيظ لأنه ثقل عليهم مكان الرسل (وثانيها) ان معناه : جعلوا أيديهم في أفواه الأنبياء تكذيبا لهم ، وردّوا لما جاؤوا به ، فالضمير في أيديهم إلى أفواه الرسل تسكيتا لهم ، عن الحسن ومقاتل (وثالثها) ان معناه : وضعوا أيديهم على أفواههم مومين بذلك إلى الرسل أن اسكتوا عما تدعوننا إليه ، كما يفعل الواحد منا مع غيره إذا أراد تسكيته ، عن الكلبي ، فيكون على هذا القول الضميران للكفار (ورابعها) ان كلا الضميرين للرسل ، أي أخذوا أيدي الرسل فوضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم فيسكتوا عنهم لما يئسوا منهم. هذا كله إذا حمل معنى الأيدي والأفواه على الحقيقة ، ومن حملها على التوسّع والمجاز فاختلفوا في معناه ، فقيل : المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج ، والمعنى : فردّوا حججهم من حيث جاءت ، لأن الحجج تخرج من الأفواه ، عن أبي مسلم ، وقيل : ان المعنى : ردّوا ما جاءت به الرسل وكذبوهم ، عن مجاهد وقتادة ، وقيل معناه : تركوا ما أمروا به ، وكفّوا عن قبول الحق ، عن أبي عبيدة والأخفش (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا) أي جحدنا (بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي

٣٣٥

برسالاتكم (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من الدين (مُرِيبٍ) متهم ، أي يوقعنا في الريب بكم أنكم تطلبون الرئاسة ، وتفترون الكذب (قالَتْ رُسُلُهُمْ) حينئذ لهم (أَفِي اللهِ شَكٌ) مع قيام الأدلة على وحدانيته وصفاته (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومنشئهما لا يقدر على ذلك غيره ، فوجب أن يعبد وحده ولا يشرك به من لا يقدر على اختراع الأجسام (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يدعوكم إلى الإيمان به لينفعكم لا ليضركم وقال : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) بمعنى : ليغفر لكم بعض ذنوبكم لأنه يغفر ما دون الشرك ولا يغفر الشرك ، وقال الجبائي دخلت من للتبعيض ووضع البعض موضع الجميع توسعا (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يؤخركم إلى الوقت الذي ضربه الله لكم أن يميتكم فيه ولا يؤاخذكم بعاجل العقاب (قالُوا) أي قال لهم قومهم (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي خلق مثلنا (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) أي تمنعونا (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام والأوثان (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة على صحة ما تدعونه ، وبطلان ما نحن فيه ، وإنما قالوا ذلك لأنهم اعتقدوا أن جميع ما جاءت به الرسل من المعجزات ليست بمعجزة ولا دلالة ، وقيل : انهم طلبوا معجزات مقترحات سوى ما ظهرت فيما بينهم ؛ وفي هذه الآية دلالة على أنه سبحانه لا يريد الكفر والشرك ، وإنما يريد الخير والإيمان ، وإنما بعث الرسل إلى الكفار رحمة وفضلا وانعاما عليهم ليؤمنوا ، فإنه قال : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ).

١١ ـ ١٢ ـ ثم حكى سبحانه جواب الرسل للكفار فقال : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الصورة والهيئة ولسنا ملائكة (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي ينعم عليهم بالنبوة ، وينبئهم بالمعجزة ، فلقد منّ الله علينا واصطفانا وبعثنا أنبياء (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) أي بحجة على صحة دعوانا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره وإطلاقه لنا في ذلك (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) المصدقون به وبأنبيائه (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) معناه : وأيّ شيء لنا إذا لم نتوكل على الله ولم نفوض أمورنا إليه؟ وعلى هذا تكون ما للإستفهام وقيل ان معناه : ولا وجه لنا ولا عذر لنا في أن لا نتوكل على الله ولا نثق به فتكون ما للنفي وإذا كانت للإستفهام فمعناه النفي أيضا (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي عرفنا طريق التوكل وقيل معناه : هدانا إلى سبيل الإيمان ، ودلنا على معرفته ، ووفقنا لتوجيه العبادة إليه ، وأن لا نشرك به شيئا ، وضمن لنا على ذلك جزيل الثواب والمراد انا إذا كنا مهتدين فلا ينبغي لنا أن لا نتوكل على الله (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) فإنه تعالى يكفينا أمركم ، وينصرنا عليكم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) وإنما قصّ هذا وأمثاله في القرآن على نبينا ليقتدي بمن كان قبله من المرسلين في تحمل أذى المشركين ، والصبر على ذلك والتوكل ، وروى الواقدي بإسناده عن أبي مريم عن أبي الدرداء قال قال رسول الله (ص): إذا آذاك البراغيث فخذ قدحا من الماء فاقرأ عليه سبع مرات : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) الآية ، وقل : فإن كنتم آمنتم بالله فكفوا شركم وأذاكم عنا ثم ترش الماء حول فراشك فإنك تبيت تلك الليلة آمنا من شرها.

١٣ ـ ١٨ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) أي من بلادنا (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي إلّا أن ترجعوا إلى أدياننا ومذاهبنا التي نحن عليها (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) أي فأوحى الله إلى رسله لما ضاقت صدورهم بما لقوا من قومهم : إنا نهلك هؤلاء الظالمين

٣٣٦

الكافرين (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي نسكننكم أرضهم من بعدهم ، يريد اصبروا فإني أهلك عدوكم ، وأورثكم أرضهم (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي ذلك الفوز لمن خاف وقوفه للحساب والجزاء بين يديّ في الموضع الذي أقيمه فيه (وَخافَ وَعِيدِ) أي عقابي (وَاسْتَفْتَحُوا) أي طلبت الرسل الفتح والنصر من قبل الله تعالى على الكفار (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي خسر كل متكبر معاند ، مجانب للحق دافع له (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي جهنم بين يدي هذا الجبار ، أي له مع الخيبة نار جهنم بين يديه (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي ويسقى مما يسيل من الدم والقيح من فروج الزواني في النار عن أبي عبد الله (ع) وأكثر المفسّرين ، وقال رسول الله (ص): من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما ، فإن مت وفي بطنه شيء من ذلك كان حقا على الله أنيسقيه من طينة خبال ، وهو صديد أهل النار ، وما يخرج من فروج الزناة فيجتمع ذلك في قدور جهنم فيشربه أهل النار ، فيصهر به ما في بطونهم والجلود. رواه شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عنه (ص) (يَتَجَرَّعُهُ) أي يشرب ذلك الصديد جرعة جرعة (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي لا يقارب أن يشربه تكرها له وهو يشربه والمعنى : ان نفسه لا تقبل لحرارته ونتنه ولكن يكره عليه (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي تأتيه شدائد الموت وسكراته من كل موضع من جسده ظاهره وباطنه حتى تأتيه من أطراف شعره (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي ومع إتيان أسباب الموت والشدائد التي يكون معها الموت من كل جهة ، وأنواع العذاب التي كان يموت بدونها في الدنيا لا يموت فيستريح ، وهذا كقوله : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) (وَمِنْ وَرائِهِ) أي وراء هذا الكافر (عَذابٌ غَلِيظٌ) وهو الخلود في النار ثم أخبر سبحانه عما ينال الكفار من الحسرة فيما تكلفوه من الأعمال فقال : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) معناه : مثل أعمال الذين كفروا بربهم ، فحذف المضاف اعتمادا على ذكره بعد المضاف إليه (أَعْمالُهُمْ) في قلة انتفاعهم بها (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) أي ذرته ونسفته (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي شديد الريح ، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرق والإنتفاع به ، فكذلك هؤلاء الكفار (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) أي لا يقدرون على الإنتفاع بأعمالهم (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) يعني أن عملهم ذلك هو الذهاب البعيد عن النفع.

١٩ ـ ٢١ ـ ثم بيّن سبحانه أنه إنما خلق الخلق ليعبدوا وليؤمنوا به لا ليكفروا فقال : (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم ، لأن الرؤية قد تكون بمعنى العلم كما تكون بمعنى الإدراك للبصر (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على ما تقتضيه الحكمة ، والخلق : فعل الشيء على تقدير وترتيب (بِالْحَقِ) أي للغرض الصحيح (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي ان يشأ يهلككم ويفنكم ويخلق قوما آخرين مكانكم ، لأن من قدر على بناء الشيء كان على هدمه أقدر (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي وما اهلاككم والإتيان بخلق جديد بممتنع ولا متعذر على الله تعالى (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أخبر سبحانه أن الخلق يبرزون يوم القيامة لله ، أي يظهرون من قبورهم ويخرجون منها لحكم الله. لما تقدّم ذلك الوعيد بيّن صفة ذلك اليوم وما يجري بين الأتباع والمتبوعين من المجادلة وقال (فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا عن الإيمان فلم يؤمنوا وهم القادة في الدنيا الذين هم الأكابر والرؤساء ، والقادة في الدين الذين هم علماء السوء (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) في الكفر على وجه التقليد (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي هل أنتم دافعون عنا شيئا من عذاب الله الذي قد نزل بنا ان لم تقدروا على دفع الكل ، ومن للتبعيض (قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) أي قال المتبوعون للأتباع لو هدانا الله

٣٣٧

إلى طريق الخلاص من العقاب ، والوصول إلى النعيم والثواب لهديناكم إلى ذلك والمعنى : لو خلصنا لخلصناكم أيضا ، لكن لا مطمع فيه لنا ولكم (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) يعني ان الصبر والجزع سيان مثلان ليس لنا محيص ولا مهرب من عذاب الله ، أي انقطعت حيلتنا ويئسنا من النجاة.

٢٢ ـ لما تقدّم وعيد الكافر وصفة يوم الحشر وما يجري فيه من الجدال بين الأتباع والمتبوعين ، عقّب ذلك سبحانه بكلام الشيطان في ذلك اليوم فقال (وَقالَ الشَّيْطانُ) وهو إبليس يقول لأوليائه الذين اتبعوه (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ من الحكم بين الخلائق ، ودخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) من البعث والنشور والحساب والثواب والعقاب (وَوَعَدْتُكُمْ) أن لا بعث ولا نشور ، ولا جنة ولا نار (فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي كذبتكم لم أوف لكم بما وعدتكم (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) أي وما وكان لي عليكم سلطان بالإكراه والإجبار على الكفر والمعاصي ، وإنما كان لي سبيل الوسوسة والدعوة (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) بسوء اختياركم (فَلا تَلُومُونِي) على ما حلّ بكم من العقاب بسوء اختياركم (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) حيث عدلتم عن أمر الله إلى إتباعي من غير دليل وبرهان (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) أي ما أنا بمغيثكم ولا معينكم وما أنتم بمغيثي ولا معيني (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي جحدت أن أكون شريكا لله تعالى فيما أشركتموني فيه من قبل هذا اليوم (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أنه وعيد من الله تعالى لهم وفي هذه الآية دلالة على أن الشيطان لا يقدر على أكثر من الدعاء والإغواء ، وأنه ليس عليه إلّا عقاب الدعوة فحسب.

٢٣ ـ ٢٦ ـ لما تقدم وعيد الكافرين عقبه سبحانه بالوعد للمؤمنين فقال (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا لله ورسوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) قد سبق معناه (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بأمر ربهم (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) مرّ تفسير في سورة يونس. ثم ضرب الله سبحانه مثلا يقرب من أفهام السامعين ترغيبا للخلق في اتباع الحق فقال : (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم يا محمد (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي بيّن الله شبها ثم فسّر ذلك المثل فقال (كَلِمَةً طَيِّبَةً) وهي كلمة التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) أي شجرة زاكية نامية راسخة أصولها في الأرض ، عالية أغصانها وثمارها في السماء. وروي ابن عقدة عن أبي جعفر عليه‌السلام : أن الشجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفرعها عليّ عليه‌السلام ، وعنصر الشجرة فاطمة ، وثمرتها أولادها ، وأغصانها وأوراقها شيعتنا ، ثم قال عليه‌السلام : إن الرجل من شيعتنا ليموت فيسقط من الشجرة ورقة ، وان المولود من شيعتنا ليولد فيورق مكان تلك الورقة ورقة (تُؤْتِي أُكُلَها) أي تخرج هذه الشجرة ما يؤكل منها (كُلَّ حِينٍ) أي في كل ستة أشهر عن ابن عباس وأبي جعفر (ع) وقيل : معناه : في جميع الأوقات ، لأن ثمر النخل يكون أولا طلعا ثم يصير بلحا ، ثم بسرا ، ثم رطبا ، ثم تمرا ، فيكون ثمره موجودا في كل الأوقات شبّه الإيمان بالنخلة لثبات الإيمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في منبتها ، أو شبّه ارتفاع عمله إلى السماء بارتفاع فروع النخلة ، وشبّه ما يكسبه المؤمنون من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت وحين بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها من الرطب والتمر ، وقيل ان معنى قوله : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) ما يفتي به الأئمة من آل محمد (ص) وشيعتهم في الحلال والحرام (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي لكي يتدبروا فيعرفوا الغرض بالمثل (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) وهي كلمة الكفر والشرك وقيل : هو كل كلام في معصية الله تعالى (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) غير

٣٣٨

زاكية وهي شجرة الحنضل (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) أي اقتطعت واستوصلت واقتلعت جثته من الأرض (ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي ما لتلك الشجرة من ثبات فإن الريح تنسفها وتذهب بها ، فكما أن هذه الشجرة لا ثبات لها ولا بقاء ولا ينتفع بها أحد فكذلك الكلمة الخبيثة لا ينتفع بها صاحبها ، ولا يثبت له منها نفع ولا ثواب.

٢٧ ـ ٣٠ ـ لما قدّم سبحانه ذكر الكلمة الطيبة عقّبه بذكر ما يحصل لصاحبها من المثوبة والكرامة فقال (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) معناه : يثبت الله المؤمنين بسبب كلمة التوحيد وحرمتها في الحياة الدنيا حتى لا يزلّوا ولا يضلوا عن طريق الحق ، ويثبتهم بها حتى لا يزلّوا ولا يضلّوا عن طريق الجنة وقال أكثر المفسرين : ان المراد بقوله : (فِي الْآخِرَةِ) في القبر ، والآية وردت في سؤال القبر (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) أي ويضلهم عن هذا التثبيت في الدنيا وفي الآخرة (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) من الإمهال والإنتقام وضغطة القبر ومساءلة منكر ونكير ، ولا اعتراض عليه في ذلك ، ولا قدرة لأحد على منعه ، وهذا من تمام الترغيب والترهيب ، ثم خاطب سبحانه نبيّه (ص) فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) المراد ألم تر إلى هؤلاء الكفار عرفوا نعمة الله بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي عرفوا محمدا ثم كفروا به ، فبدلوا مكان الشكر كفرا (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) معناه : أنزلوهم دار الهلاك وهي النار بدعائهم إياهم الى الكفر بالنبي ، وإغوائهم إياهم (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) وهذا تفسير لدار البوار ، يعني أن تلك الدار هي جهنم يدخلونها ، وبئس القرار من قراره النار (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي وجعل هؤلاء الكفار الذين بدّلوا نعمة الله كفرا لله نظراء وأمثالا في العبادة زيادة على كفرهم وجحدهم (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي ليكون عاقبة أمرهم إلى الضلال الذي هو الهلاك ، ثم قال سبحانه لنبيه (ص) (قُلْ) لهؤلاء الكفار الذين وصفناهم (تَمَتَّعُوا) وانتفعوا بما تهوون من عاجل هذه الدنيا ، والمراد به التهديد وإن كان بصورة الأمر (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ) أي مرجعكم ومآلكم (إِلَى النَّارِ) والكون فيها.

٣١ ـ ٣٤ ـ (قُلْ) يا محمد (لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي اعترفوا بتوحيد الله وعدله ، عنى به أصحاب النبي (ص) وقيل : أراد به جميع المؤمنين (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي يؤدّوا الصلوات الخمس لمواقيتها (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي وقل لهم : ينفقوا من أموالهم في وجوه البر من الفرائض والنوافل ، ينفقون في النوافل سرّا ليدفعوا عن أنفسهم تهمة الرياء ، وفي الفرائض علانية ليدفعوا تهمة المنع (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) يعني يوم القيامة ، والمراد بالبيع : إعطاء البدل ليتخلص به من النار لا إن هناك مبايعة (وَلا خِلالٌ) أي ولا مصادقة ، وهذا مثل قوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). ثم بيّن سبحانه أنه المستحق للإلهية فقال (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي أنشأهما من غير شيء ، وبدأ بذكرهما لعظم شأنهما في القدرة والنعمة (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي غيثا ومطرا (فَأَخْرَجَ بِهِ) أي بذلك الماء (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) يعني أن الغرض في ذلك أن يؤتيكم أرزاقكم (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) أي السفن والمراكب (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي بأمر الله لأنها تسير بالرياح والله هو المنشىء للرياح (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) التي تجري بالمياه التي ينزلها من السماء ، ويجريها في الأودية ، وينصب منها في الأنهار (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّل لمنافعكم الشمس والقمر في سيرهما لتنتفعوا بضوء الشمس نهارا ، وبضوء القمر ليلا ، وليبلغ بها الثمار والنبات في النضج الحد الذي عليه تتمّ النعمة فيهما (دائِبَيْنِ) أي دائمين لا يفتران في صلاح الخلق والنباتات ومنافعهم

٣٣٩

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي ذلّلهما لكم ، ومهّدهما لمنافعكم لتسكنوا في الليل ، ولتبتغوا في النهار من فضله (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) معناه : ان الإنسان قد يسأل الله العافية فيعطى ، ويسأله النجاة فيعطى ، ويسأله الغنى فيعطى ، ويسأله الولد والعز فيعطى ، ويسأله تيسير الأمور وشرح الصدور فيعطى ، فهذا في الجملة حاصل في الدعاء لله تعالى ما لم يكن فيه مفسدة في الدين أو على غيره (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي لا تقدروا على إحصائها لكثرتها (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) أي كثير الظلم لنفسه (كَفَّارٌ) أي كثير الكفران لنعم ربه.

٣٥ ـ ٤١ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) معناه : واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) يعني مكة وما حولها من الحرم وقيل ان إبراهيم عليه‌السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء وقد تقدّم تفسيره في سورة البقرة فاستجاب الله دعاء إبراهيم (ع) حتى كان الإنسان يرى قاتل أبيه فيها فلا يتعرض له ، ويدنو الوحش فيها من الناس فيأمن منهم (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي والطف لي ولبنيّ لطفا نتجنب به عن عبادة الأصنام (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) معناه : ضلّ بسببهن وعبادتهن كثير من الناس (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) يريد فمن تبعني من ذريتي الذين أسكنتهم هذا البلد على ديني في عبادة الله وحده ، وترك عبادة الأصنام ، فإنه من جملتي ، وحاله كحالي (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ساتر على العباد معاصيهم ، رحيم بهم في جميع أحوالهم ، منعم عليهم ، ثم حكى سبحانه تمام دعاء إبراهيم (ع) وأنه قال (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي أسكنت بعض أولادي. ولا خلاف أنه يريد إسماعيل (ع) مع أمه هاجر وهو أكبر ولده (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) يريد وادي مكة وهو الأبطح ، وإنما قال : (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) لأنه لم يكن بها يومئذ ماء ولا زرع ولا ضرع (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) انما أضاف البيت إليه سبحانه لأنه مالكه لا يملكه أحد سواه وما عداه من البيوت قد ملكه غيره من العباد وإنما سمّاه المحرّم لأنه لا يستطيع أحد الوصول إليه إلّا بالإحرام (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أسكنتهم هذا الوادي ليداوموا على الصلاة ، ويقيموا بشرائطها (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) هذا سؤال من إبراهيم (ع) أن يجعل الله قلوب الخلق تحن إلى ذلك الموضع ليكون في ذلك أنس لذريته بمن يرد عليهم من الوفود ، وليدر أرزاقهم على مرور الأوقات ، ولولا لطفه سبحانه بإمالة قلوب الناس إليه إما للدين كالحج والعمرة ، وإما للتجارة لما صحّ أن يعيش ساكنوه ، قال سعيد بن جبير : لو قال أفئدة الناس لحجّت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : من الناس فهم المسلمون ؛ وروى الفضل بن يسار عن الباقر عليه‌السلام أنه قال : إنّما أمر الناس أن يطوفوا بهذه الأحجار ثم ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم ، ويعرضوا علينا نصرهم ، ثم قرأ هذه الآية وقيل : ان معنى تهوي إليهم : ينزع إليهم ويميل (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) أي لكي يشكروا لك ويعبدوك (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) هذا إعتراف من إبراهيم (ع) لله سبحانه بأنه يعلم ما يبطن الخلق وما يظهرونه ، وانه لا يخفى عليه شيء مما في الأرض والسماء وقيل : ان قوله : (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) إنما هو اخبار منه سبحانه بذلك ، وابتداء كلام من جهته لا على سبيل الحكاية عن إبراهيم (ع) بل هو اعتراض ، ثم عاد إلى حكاية كلام إبراهيم (ع) فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وهذا اعتراف منه بنعم الله سبحانه ، وحمد له على إحسانه بأن وهب له على كبر سنه ولدين ، قال ابن عباس : ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي قابله ومجيبه ، ويؤيده قوله : سمع الله لمن حمده

٣٤٠