الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

معناه : ان لوطا لما همّوا بأضيافه ، وجاهروا بذلك ، فالقوا جلباب الحياء فيه ، عرض عليهم نكاح بناته. وقيل : أراد النساء من أمته لأنهن كالبنات له ، فإن كل نبي أبو أمته ، وأزواجه أمهاتهم (فَاتَّقُوا اللهَ) أي فاتقوا عقاب الله في مواقعة الذكور (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي لا تلزموني عارا ، ولا تلحقوا بي فضيحة ، ولا تخجلوني بالهجوم على أضيافي ، فإن الضيف إذا نزل به معرة لحق عارها للمضيف (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي أليس في جملتكم رجل قد أصاب الرشد فيعمل بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويزجر هؤلاء عن قبيح فعلهم (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) هذا جواب قوم لوط حين عرض عليهم بناته ودعاهم إلى النكاح المباح ، أي ما لنا في بناتك من حاجة (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) أي تعلم ميلنا إلى الغلمان دون النساء ، فلما لم يقبلوا الموعظة تأسف لوط على فقد تمكنه من دفاعهم بأن (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي منعة وقدرة وجماعة أتقوى بها عليكم فادفعكم عن أضيافي (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أو انضم إلى عشيرة منيعة تنصرني ، وشيعة تمنعني لدفعتكم ، ولكن لا يمكنني أن أفعل ذلك. قال الصادق (ع) فقال جبرائيل لو يعلم أيّ قوة له قال : فكابروه حتى دخلوا البيت فصاح به جبرائيل : أن يا لوط دعهم يدخلوا ، فلما دخلوا أهوى جبرائيل باصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قوله : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) ولما رأت الملائكة ما لقيه لوط من قومه (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) أرسلنا لهلاكهم فلا تغتم (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) أي لا ينالونك بسوء أبدا (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) أي سر بأهلك ليلا (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي في ظلمة الليل (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) لا ينظر أحد منكم وراءه كأنهم تعبدوا بذلك للنجاة بالطاعة في هذه العبادة (إِلَّا امْرَأَتَكَ) معناه : إلّا امرأتك لا تسر بها (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) أي يصيبها من العذاب ما أصابهم ، أمروه أن يخلفها في المدينة (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) لما أخبر الملائكة لوطا بأنهم يهلكون قوم لوط قال لهم : أهلكوهم الساعة ، لضيق صدره بهم ، وشدة غيظه عليهم ، قالوا له إنّ موعد إهلاكهم الصبح وإنما قالوا له : أليس الصبح بقريب تسلية له (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) جاء أمرنا بالعذاب (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أي قلبنا القرية اسفلها اعلاها ، فإن الله تعالى أمر جبرائيل (ع) فأدخل جناحه تحت الأرض فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ، ونباح الكلاب ، ثم قلبها ، ثم خسف بهم الأرض فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً) أي وأمطرنا على القرية ، أي على الغائبين منها حجارة. وكانت أربع مدائن وهي المؤتفكات : سدوم وعاموراء ودوما وصبوايم ، واعظمها سدوم وكان لوط يسكنها (مِنْ سِجِّيلٍ) هو طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء (مَنْضُودٍ) هو من صفة سجيل ، أي نضد بعضها على بعض حتى صار حجرا (مُسَوَّمَةً) هي من صفة الحجارة ، أي معلمة جعل فيها علامات تدلّ على أنها معدّة للعذاب (عِنْدَ رَبِّكَ) أي في خزائن ربك التي لا يملكها غيره ، ولا يتصرف فيها أحد إلّا بأمره (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي وما تلك الحجارة من الظالمين من أمتك يا محمد ببعيد قال قتادة : ما أجار الله منها ظالما بعد قوم لوط فاتقوا الله وكونوا منه على حذر ، وقال : كانوا ربعة آلاف ألف.

٨٤ ـ ٩٥ ـ ثم عطف سبحانه قصة شعيب على ما تقدّمها من قصص الأنبياء عليهم‌السلام فقال (وَإِلى مَدْيَنَ) أي وأرسلنا إلى أهل مدين (أَخاهُمْ شُعَيْباً) ومدين : اسم القبيلة ، أو المدينة التي كانوا فيها (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) قد سبق تفسيره (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي ولا تنقصوا حقوق الناس بالتطفيف عند الكيل والوزن (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي برخص السعر والخصب والمعنى : انه حذّرهم الغلاء ، وزوال النعمة ، وحلول النقمة إن لم يتوبوا (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) وصف اليوم بالإحاطة

٣٠١

بمعنى أنه يحيط عذابه بجميع الكفار ولا يفلت منه أحد منهم ، (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي أوفوا حقوق الناس في المكيلات والموزونات بالعدل ، بالمكيال والميزان بالعدل (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ) أي ولا تنقصوا الناس (أَشْياءَهُمْ) أي أموالهم (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) لا تسعوا بالفساد (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) البقية بمعنى الباقي ، أي ما أبقى الله تعالى لكم من الحلال بعد اتمام الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف وشرط الإيمان في كونه خيرا لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عرفوا صحة هذا القول عن ابن عباس وقيل معناه : ابقاء الله النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النفع بالتطفيف عن ابن جبير وقيل معناه : طاعة الله خير لكم من جميع الدنيا لأنها يبقى ثوابها أبدا والدنيا تفنى عن الحسن ومجاهد ، ويؤيده قوله (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) الآية وقيل : بقية الله رزق الله عن الثوري (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي وما أنا بحافظ نعم الله تعالى عليكم أن يزيلها عنكم ، وإنما يحفظها الله عليكم ، فاطلبوا بقاء نعمه بطاعته وقيل معناه وما أنا بحافظ لأعمالكم وإنما يحفظها الله فيجازيكم عليها وقيل معناه وما أنا بحافظ عليكم كيلكم ووزنكم حتى توفوا الناس حقوقهم ولا تظلمونهم وانما علي ان انهاكم عنه (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) إنما قالوا ذلك لأن شعيبا (ع) كان كثير الصلاة وكان يقول إذا صلى : إن الصلاة رادعة عن الشر ، ناهية عن الفحشاء والمنكر فقالوا : أصلاتك التي تزعم أنها تأمر بالخير ، وتنهى عن الشر أمرتك بهذا؟! (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) معناه : أصلاتك تأمرك بترك عبادة ما يعبد آباؤنا ، أو بترك فعل ما نشاء في أموالنا من البخس والتطفيف (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أي أنك أنت الحليم في قومك فلا يليق بك أن تخالفهم ، والحليم : الذي لا يعاجل بالعقوبة مستحقها ، والرشيد : المرشد (قالَ) شعيب (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) مرّ تفسيره (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) معناه : هداني لدينه ، ووسّع عليّ رزقه ، وكان كثير المال ، عن الحسن ، وقيل : كل نعمة من الله فهو رزق ؛ وفي الكلام حذف ، أي فأعدل مع ذلك عما أنا عليه من عبادته (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي ست؟؟؟ أنهاكم عن شيء وادخل فيه ، وإنما اختار لكم ما اختاره لنفسي ، ومعنى ما اخالفكم إليه : أي ما أقصده بخلافكم إلى ارتكابه ، عن الزجاج وهذا في معنى قول الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وقيل معناه : ما أريد اجترار منفعة إلى نفسي بما أنهاكم عنه ، أي لا آمركم بترك التطفيف في الكيل والوزن لتكون منفعة ما يحصل بالتطفيف لي (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) أي لست اريد بما آمركم به وأنهاكم عنه ألّا اصلاح أموركم في دينكم ودنياكم (مَا اسْتَطَعْتُ) أي ما قدرت عليه وتمكنت منه (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) معناه : وليس توفيقي في امتثال ما آمركم به ، والإنتهاء عما أنهاكم عنه إلّا بالله فلا يوفق غيره ، أي وليس ما أفعله بحولي وقوتي بل بمعونة الله ولطفه وتيسيره (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) والتوكل على الله : الرضا بتدبيره مع تفويض الأمور إليه ، والتمسك بطاعته (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أرجع في المعاد (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) أي يكسبكم خلافي ومعادتي (أَنْ يُصِيبَكُمْ) عذاب العاجلة معناه : لا تحملنكم عداوتي على مخالفة ربكم فيصيبكم من العذاب مثل ما أصاب من قبلكم (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الهلاك بالغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) بالريح العقيم (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) بالرجفة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) قيل معناه : ان دارهم قريبة من

٣٠٢

داركم فيجب أن تتعظوا بهم (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي اطلبوا المغفرة من الله ، ثم توصلوا إليها بالتوبة وقيل : استغفروا ثم دوموا على التوبة وقيل استغفروا في العلانية ثم اضمروا الندامة في القلب عن الماضي (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) بعباده فيقبل توبتهم ، ويعفو عن معاصيهم (وَدُودٌ) أي محبّ لهم ، ومعناه : مريد لمنافعهم وقيل معناه : متودد إلى عباده بكثرة انعامه عليهم وقيل : ودود بمعنى الواد أي يودّهم إذا أطاعوه ، وروي عن النبي (ص) أنه قال : كان شعيب خطيب الأنبياء (قالُوا) أي قال قوم شعيب له حين سمعوا منه الوعظ والتخويف (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) أي ما نفهم عنك معنى كثير من كلامك وقيل معناه : لا نقبل كثيرا منه ولا نعمل به ، وهذا كقولك إذا أمرك إنسان بشيء لا تريد أن تفعله : لا أعلم ما تقول وأنت تعلم ذلك ، أي لا أفعله ، وإنما قالوا ذلك بعد ما الزمهم الحجة (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) أي ضعيف البدن ، عن الجبائي ، وقيل : ضعيف البصر ، عن سفيان ، وقيل : أعمى ـ وكان شعيب أعمى ـ عن قتادة. قال الزجاج : وحمير تسمّي المكفوف ضعيفا (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) أي لولا حرمة عشيرك وقومك لقتلناك بالحجارة (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي لم ندع قتلك لعزتك علينا ولكن لأجل قومك ، وكان شعيب في عزّ من قومه وكان من اشرافهم وما بعث نبي بعد لوط إلّا في عز من قومه (قالَ) شعيب (يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) أي أعشيرتي وقومي أعظم حرمة عندكم من الله ، فتتركون أذاي لأجل عشيرتي ولا تتركونه لله الذي بعثني إليكم (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي اتخذتم الله وراء ظهوركم ، يعني نسيتموه ، فالهاء عائدة إلى الله عن ابن عباس ، وقيل : الهاء عائدة إلى ما جاء به شعيب ، والمعنى : ونبذتم ما ارسلت به إليكم وراء ظهوركم (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي محص لأعمالكم لا يفوته شيء منها (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي اعملوا على حالتكم هذه والمكانة : الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمل ، وهذا تهديد في صورة الأمر (إِنِّي عامِلٌ) على ما أمرني ربي (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) معناه : سوف يتبين لكم وتعلمون في عاقبة الأمر (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي يهينه ويفضحه ، ويظهر الكاذب من الصادق (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي انتظروا ما وعدكم ربكم من العذاب إني معكم منتظر حلول العذاب بكم ، وقيل معناه : انتظروا العذاب واللعنة ، وانا انتظر الرحمة والثواب والنصرة ، عن ابن عباس ، وقيل معناه : انتظروا مواعيد الشيطان ، وأنا انتظر مواعيد الرحمان ، وروي عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : ما أحسن الصبر وانتظار الفرج ، أما سمعت قول العبد الصالح : (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) مضى تفسيره (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) صاح بهم جبرائيل صيحة فماتوا (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) مضى تفسيره قبل (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) الا بعدوا من رحمة الله بعدا كما بعدت ثمود. وقيل الا هلاكا لهم كما هلكت ثمود : وتقديره : ألا اهلكهم الله فبعدوا بعدا ؛ قال : البلخي : يجوز أن تكون الصيحة صيحة على الحقيقة كما روي ، ويجوز أن تكون ضربا من العذاب اهلكهم الله به واصطلمهم ، تقول العرب : صاح الزمان بهم إذا هلكوا ، وقال امرؤ القيس :

فدع عنك نهبا صيح في حجراته

ولكن حديثا ما حديث الرواحل

ومعنى صيح في حجراته : أذهب وأهلك ، قالوا : وإنّما شبّه حالهم بحال ثمود خاصة لأنهم اهلكوا بالصيحة كما أهلكت ثمود بمثل ذلك مع الرجفة.

٩٦ ـ ١٠٣ ـ ثم عطف سبحانه قصة موسى (ع) على ما تقدّم من قصص الأنبياء فقال (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي بحججنا ومعجزاتنا الدالة على نبوته (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي

٣٠٣

وحجة ظاهرة على اتمّ ما يمكن (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي قومه (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) وتركوا أمر الله تعالى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي مرشد ومعناه : ما هو بهاد لهم إلى رشد ، ولا قائد إلى خير (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يعني أن فرعون يمشي بين يدي قومه يوم القيامة على قدميه حتى يهجم بهم على النار (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) على لفظ الماضي والمراد به المستقبل ، لأن ما عطفه عليه من قوله : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يدل عليه (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي بئس الماء الذي يردونه عطاشا لإحياء نفوسهم النار إنما اطلق سبحانه على النار اسم الورد المورود ليطابق ما يرد عليه أهل الجنة من الأنهار والعيون ، وقيل معناه : بئس المدخل المدخول فيه النار وقيل : بئس الشىء الذي يرده النار وقيل : بئس النصيب المقسوم لهم النار ، وانه اطلق لفظ بئس وإن كان عدلا حسنا لما فيه من البؤس والشدة (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) يعني الحقوا في الدنيا (لَعْنَةً) وهي الغرق (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) يعني ولعنة يوم القيامة وهي عذاب الآخرة (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي بئس العطاء المعطى النار واللعنة ، وإنما سمّاه رفدا لأنه في مقابلة ما يعطي أهل الجنة من أنواع النعيم. وقال قتادة ترافدت عليهم لعنتان من الله : لعنة في الدنيا ، ولعنة في الآخرة ، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله : (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) قال هو اللعنة بعد اللعنة (ذلِكَ) أي ذلك النبأ (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) أي من أخبار البلاد (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) أي نذكره لك ونخبرك به تذكرة وتسلية لك يا محمد (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي من تلك الديار معمور وخراب قد اتى عليه الإهلاك ولم يعمر فيما بعد (وَما ظَلَمْناهُمْ) باهلاكهم (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن كفروا وارتكبوا ما استحقّوا به الهلاك فكان ذلك ظلمهم لأنفسهم (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) أي أوثانهم (الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي عذاب ربك (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) أي غير تخسير عن مجاهد وقتادة ، والمعنى : لم يزيدوهم شيئا غير الهلاك والخسار ، وإنما أضاف الاهلاك إلى الأصنام لأنها السبب في ذلك ، ولو لم يعبدوها لم يهلكوا ، وإنما قال : (يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) لأنهم كانوا يسمّونها آلهة ، ويطلبون الحوائج منها ، كما يطلبها الموحدون من الله (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) أي وكما ذكر من اهلاك الأمم وأخذهم بالعذاب أخذ ربك (إِذا أَخَذَ الْقُرى) أي أخذ أهلها وهو أن ينقلهم إلى العقوبة (وَهِيَ ظالِمَةٌ) من صفة القرى وهو في الحقيقة لأهلها وسكانها ونحوه : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) معناه : إن أخذ الله سبحانه الظالم مؤلم شديد الألم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي انّ فيما قصصنا عليك من اهلاك من ذكرناه على وجه العقوبة لهم على كفرهم لعبرة وتبصرة وعلامة عظيمة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي لمن خشي عقوبة الله يوم القيامة ، وخصّ الخائف بذلك لأنه هو الذي ينتفع به بالتدبر والتفكر فيه (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي يجمع فيه الناس كلهم الأولون والآخرون منهم للجزاء والحساب (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي يشهده الخلائق كلهم من الجن والإنس ، وأهل السماء وأهل الأرض.

١٠٤ ـ ١٠٨ ـ ثم أخبر سبحانه عن اليوم المشهود وهو يوم القيامة فقال (وَما نُؤَخِّرُهُ) أي وما نؤخر هذا اليوم (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) وهو أجل قد عدّه الله تعالى لعلمه أن صلاح الخلق في ادامة التكليف عليهم إلى ذلك الوقت ، وفيه إشارة إلى قربه لأن ما يدخل تحت العد فكأن قد نفد وإنما قال لأجل ولم يقل إلى أجل لأن اللام يدل على الغرض وان الحكمة اقتضت تأخيره وإلى لا يدل على ذلك (يَوْمَ يَأْتِ) أي حين يأتي يوم القيامة والجزاء (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي لا يتكلم أحد فيه إلّا بإذن الله تعالى وأمره ومعناه انه لا يتكلم فيه إلا بالكلام الحسن المأذون فيه ، لأن الخلق ملجأون هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم فعل القبيح ، أما ما هو غير قبيح فإنه مأذون

٣٠٤

فيه عن الجبائي ، والأظهر أن يقال معناه : انه لا يتكلم أحد في الآخرة كلام نافع من شفاعة ، ووسيلة إلّا بإذنه (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) إخبار منه سبحانه بأنهم قسمان : اشقياء وهم المستحقون للعقاب ، وسعداء وهم المستحقون للثواب والشقي من شقي بسوء عمله في معصية الله ، والسعيد من سعد بحسن عمله في طاعة الله (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) يعني أن الذين شقوا باستحقاقهم العذاب جزاء على أعمالهم القبيحة داخلون في النار ، وإنّما وصفوا بالشقاوة قبل دخولهم النار لأنهم على حال تؤديهم إلى دخلوها (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) يريد ندامة ونفسا عاليا ، وبكاء لا ينقطع (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) الخلود بمدة دوام السماوات والأرض ، ومعنى الاستثناء بقوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من الزيادة على هذا المقدار (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) أي سعدوا بطاعة الله ، وانتهائهم عن المعاصي (فَفِي الْجَنَّةِ) يكونون في الجنة (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مدة دوام السماوات والأرض (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) يأتي فيه ما ذكرناه في الإستثناء من الخلود في النار (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع.

١٠٩ ـ ١١٢ ـ (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي في شك (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) من دون الله تعالى انه باطل ، وانهم يصيرون بعبادتهم إلى عذاب النار (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) يعني ما يعبدون غير الله تعالى إلّا على جهة التقليد كما كان آباؤهم كذلك (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي إنا لمعطوهم جزاء أعمالهم ، وعقاب أعمالهم وافيا (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) عن مقدار ما استحقوه ، آيسهم سبحانه بهذا القول عن العفو (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) يريد أن قومه اختلفوا فيه ، أي في صحة الكتاب الذي انزل عليه ، وأراد بذلك تسلية النبي (ص) عن تكذيب قومه إياه ، وجحدهم للقرآن المنزل عليه ، فبيّن أن قوم موسى كذلك فعلوا بموسى فلا تحزن لذلك (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي لولا خبر الله السابق بأنه يؤخر الجزاء إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من المصلحة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لعجّل الثواب والعقاب لأهله ، وقيل معناه : لفصل الأمر على التمام بين المؤمنين والكافرين بنجاة هؤلاء وهلاك أولئك (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يعني ان الكافرين لفي شك من وعد الله ووعيده مريب ، والريب : أقوى الشك ، وقيل معناه : ان قوم موسى لفي شك من نبوته (وَإِنَّ كُلًّا) من الجاحدين والمخالفين وقيل إن كلا من الفريقين المصدق والمكذب جميعا (لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) أي يعطيهم ربك جزاء أعمالهم وافيا تاما ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يعني انه عليم بأعمالكم وبما استحققتم من الجزاء عليها لا يخفى عليه شيء من ذلك (فَاسْتَقِمْ) يا محمد (كَما أُمِرْتَ) أي استقم على الوعظ والإنذار ، والتمسك بالطاعة والأمر بها والدعاء عليها والإستقامة هو اداء المأمور به والانتهاء عن المنهي عنه كما أمرت في القرآن (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) أي وليستقم من تاب معك من الشرك كما أمروا عن ابن عباس وقيل معناه : ومن رجع إلى الله وإلى نبيه فليستقم أيضا ، وليستقيموا على القبول (وَلا تَطْغَوْا) أي لا تجاوزوا أمر الله بالزيادة والنقصان فتخرجوا عن حد الاستقامة وقيل معناه : ولا تطغينكم النعمة فتخرجوا عن حد الاستقامة عن الجبائي وقيل معناه : لا تعصوا الله ولا تخالفوه (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عليم بأعمالكم لا تخفى عليه منها خافية. وقال ابن عباس : ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية كانت أشد عليه ، ولا اشق من هذه الآية ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : أسرع إليك الشيب يا رسول الله! قال : شيبتي هود والواقعة.

٣٠٥

١١٣ ـ ١١٧ ـ ثم نهى الله سبحانه عن المداهنة في الدين ، والميل إلى الظالمين فقال (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي ولا تميلوا إلى المشركين في شيء من دينكم ولا تداهنوا الظلمة (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أي فيصيبكم عذاب النار (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ما لكم سواه من أنصار يدفعون عنكم عذاب الله ، (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي لا تنصرون في الدنيا على أعدائكم لأن نصر الله نوع من الثواب فيكون للمطيعين (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) ثم أدّها وائت بأعمالها على وجه التمام في ركوعها وسجودها وسائر فروضها (طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) طرفي النهار : الغداة والظهر والعصر ، وصلاة زلف الليل : المغرب والعشاء الآخرة (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) معناه : إن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من الذنوب ، وقال رسول الله (ص) أرجى آية في كتاب الله : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) ـ وقرأ الآية كلها (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) يعني أن ما ذكره من ان الحسنات تذهب السيئات فيه تذكار وموعظة لمن تذكّر به وفكر فيه (وَاصْبِرْ) معناه : واصبر على الصلاة كما قال : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي المصلين (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) أي هلا كان وألا كان ومعناه النفي ، وتقديره : لم يكن من القرون من قبلكم قوم باقون (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) أي كان يجب أن يكون منهم قوم بهذه الصفة مع انعام الله تعالى عليهم بكمال العقل ، وبعثه الرسل إليهم ، وإقامة الحجج لهم ، وهذا تعجيب وتوبيخ لهؤلاء الذين سلكوا سبيل من قبلهم في الفساد نحو عاد وثمود والقرون التي عدها القرآن وأخبر بهلاكها ، أي أن العجب منهم كيف لم تكن من جملتهم بقية في الأرض يأمرون فيها بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وكيف اجتمعوا على الكفر حتى استأصلهم الله بالعذاب وأنواع العقوبات لكفرهم بالله ، ومعاصيهم له (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) المعنى أن قليلا منهم كانوا ينهون عن الفساد وهم الأنبياء والصالحون الذين آمنوا مع الرسل فانجيناهم من العذاب الذي نزل بقومهم (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي واتبع المشركون ما عودوا من النعم والتنعم ، وإيثار اللذات على أمور الآخرة ، واشتغلوا بذلك عن الطاعات (وَكانُوا) أي وكان هؤلاء المتنعمون البطرون (مُجْرِمِينَ) مصرّين على الجرم ، وفي الآية دلالة على وجوب النهي عن المنكر لأنه سبحانه ذمّهم بترك النهي عن الفساد ، وأخبر بأنه أنجى القليل منهم لنهيهم عن ذلك ، ونبّه على انه لو نهى الكثير كما نهى القليل لما هلكوا ، ثم أخبر سبحانه انه لم يهلك إلّا بالكفر والفساد فقال (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) المعنى : وما كان ربك ليهلك القرى بظلم منه لهم ولكن إنما يهلكهم بظلمهم لأنفسهم كما قال : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) الآية.

١١٨ ـ ١٢٢ ـ ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته فقال (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي على ملة واحدة ودين واحد فيكونون مسلمين صالحين ، وذلك بأن يلجئهم إلى الإسلام بأن يخلق في قلوبهم العلم بأنهم لو راموا غير ذلك لمنعوا منه ، لكن ذلك ينافي التكليف ، ويبطل الغرض بالتكليف ، لأن الغرض به استحقاق الثواب ، والإلجاء يمنع من استحقاق الثواب فلذلك لم يشأ الله ذلك ، ولكنه شاء أن يؤمنوا باختيارهم ليستحقّوا الثواب ، وقيل معناه : لو شاء ربّك لجعلهم أمّة واحدة في الجنّة ، على سبيل التفضل ، لكنه اختار لهم أعلى الدرجتين فكلّفهم ليستحقوا الثواب ، عن أبي مسلم ، وقيل معناه : لو شاء لرفع الخلاف فيما بينهم (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في الأديان بين يهودي ونصراني ومجوسي وغير ذلك (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) من المؤمنين فإنهم لا يختلفون ويجتمعون على الحق (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) يريد وللرحمة خلقهم (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي وصل وحيه ووعيده الذي لا خلف فيه بتمامه إلى

٣٠٦

عباده وقيل : تمّت كلمة ربك صدقا بأن وقع مخبرها على ما أخبر به (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بكفرهم (وَكُلًّا) أي وكل القصص (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أي من اخبارهم (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي ما نقوّي به قلبك ، ونطيب به نفسك ، ونزيدك به ثباتا على ما أنت عليه من الإنذار ، والصبر على أذى قومك الكفار (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) أي في هذه السورة عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقيل في هذه الدنيا عن قتادة وقيل : في هذه الأنباء عن الجبائي ، والحق : الصدق من الأنباء ، والوعد والوعيد وقيل معناه : وجاءك في ذكر هذه الآيات التي ذكرت قبل هذا الموضع الحق في أن الخلق يجازون بانصبائهم في قوله : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) وإن كلا لما ليوفينهم ، وقد جاء في القرآن كله الحق ولكنه ذكرها هنا توكيدا وليس إذا قيل : قد جائك في هذا الحق وجب أن يكون لم يأتك الحق إلّا فيه ، ولكن بعض الحق أوكد من بعض عن الزجاج (وَمَوْعِظَةٌ) أي وجاءك موعظة تعظ الجاهلين بالله ، وتزجر الناس عن المعاصي (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) تذكرهم الآخرة (وَقُلْ) يا محمد (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) هذا مثل قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (إِنَّا عامِلُونَ) على ما أمرنا الله تعالى به ، وقد مرّ تفسير هذه الآية فيما مضى (وَانْتَظِرُوا) أي توقعوا ما يعدكم ربكم على الكفر من العقاب (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ما يعدنا على الإيمان من الثواب وقيل : ما يعدنا من النصر والعلو (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معناه : ولله علم ما غاب في السماوات والأرض لا يخفى عليه شيء منه عن الضحاك ، وقيل معناه : والله مالك ما غاب في السماوات والأرض وقيل معناه : ولله خزائن السماوات والأرض (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) أي إلى حكمه يرجع في المعاد كل الأمور ، لأن في الدنيا قد يملك غيره بعض الأمر والنهي والنفع والضر (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) يريد أن من له ملك السماوات والأرض ، وإليه يرجع جميع الأمور ، فحقيق أن يعبد ويتذلل له ، ويتوكل عليه ، ويوثق به (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ) أي بساه (عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي عن أعمال عباده بل هو عالم بها ، ومجاز كلا منهم عليها ما يستحقه من ثواب وعقاب ، فلا يحزنك يا محمد اعراضهم عنك ، وتركهم القبول منك.

سورة يوسف مكية

عدد آيها مائة وإحدى عشرة آية

١ ـ ٣ ـ (الر) قد سبق الكلام فيه في أول البقرة ، وإنما لم يعد آية لأنه على حرفين ، ولا يشاكل رؤوس الآي ، وعدّ طه آية لأنه يشبه رؤوس الآي (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) قيل : في معنى الإشارة بتلك وجوه (أحدها) انه إشارة إلى ما سيأتي من ذكرها على وجه التوقع لها (والثاني) أنه إشارة إلى السورة أي سورة يوسف آيات الكتاب المبين (والثالث) أن معناه هذه الآيات تلك التي وعدتم بها في التوراة كما قال (الم ذلِكَ الْكِتابُ) عن الزجاج (الْمُبِينِ) المظهر لحلال الله وحرامه ، والمعاني المرادة فيه عن مجاهد وقتادة والمبين والمبيّن واحد والبيان هو الدلالة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) يعني القرآن ، أي أنزلنا هذا الكتاب وقيل أنزلنا خبر يوسف وقصته عن الزجاج قال لأن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف (ع) فقال إنا أنزلناه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) على مجاري كلام العرب في محاورتهم وروى ابن عباس عن النبي (ص) قال أحبّ العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لتعلموا جميع معانيه ، وتفهموا ما فيه وقيل معناه لتعلموا أنه من عند الله إذ كان عربيا وعجزتم عن الإتيان بمثله وفي هذه الآية دلالة على أن كلام الله سبحانه محدث وأنه غير الله لأنه وصفه بالإنزال وبأنه عربي ولا يوصف بذلك القديم سبحانه (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) أي نبيّن لك أحسن البيان (بِما

٣٠٧

أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي بوحينا اليك (هذَا الْقُرْآنَ) إنما سمي القرآن أحسن القصص لأنه بلغ النهاية في الفصاحة ، وحسن المعاني ، وعذوبة الألفاظ ، مع التلاؤم المنافي للتنافر ، والتشاكل بين المقاطع والفواصل (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) معناه : وما كنت من قبل نزول القرآن عليك إلا من الغافلين عن الحكم التي في القرآن لا تعلم شيئا منها.

٤ ـ ٦ ـ ثم ابتدأ سبحانه بقصة يوسف (ع) فقال : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) يعقوب (ع) وهو إسرائيل الله ومعناه : عبد الله الخالص ابن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) أي رأيت في منامي (قالَ) يعقوب (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) أي لا تخبرهم بذلك (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي فيحسدوك أو يقابلوك بما فيه هلاكك ، وذلك أن رؤيا الأنبياء وحي ، وعلم يعقوب أن إخوة يوسف يعرفون تأويلها ويخافون علوّ يوسف فيحسدونه ، ويبغونه الغوائل (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة ، فيلقي بينهم العداوة ، ويحملهم على إنزال المكروه بك (وَكَذلِكَ) أي كما أريك هذه الرؤيا تكرمة لك ، وبيّن ان إخوتك يخضعون لك أو يسجدون لك (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي يصطفيك ربك ويختارك للنبوة (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) معناه : ويعلمك تأويل أحاديث الأنبياء والأمم ، يعني كتب الله ودلائله على توحيده ، والمشروع من شرائعه وأمور دينه (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بالنبوة لأنها منتهى نعيم الدنيا (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي وعلى إخوتك بأن يثبتهم على الإسلام ، ويشرفهم بمكانك ، ويجعل فيهم النبوة (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) أي كما أتم النعمة على إبراهيم بالخلة والنبوة والنجاة من النار ، وعلى إسحاق بإخراج يعقوب وأولاده من صلبه (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) بمن يصلح للرسالة (حَكِيمٌ) في اختيار الرسل.

٧ ـ ١٠ ـ ثم أنشأ سبحانه في ذكر قصة يوسف فقال : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) ومعناه : لقد كان في حديث يوسف وإخوته عبر للسائلين عنهم وأعاجيب فمنها : أنهم نالوه بالأذى ، ودبّروا في قتله ، واجتمعوا على القائه في البئر للحسد مع إنهم أولاد الأنبياء ، فصفح عنهم عليه‌السلام لما مكّنه الله منهم ، وأحسن إليهم ، فصفح عنهم عليه‌السلام لما مكّنه الله منهم ، وأحسن إليهم ، ولم يعيرهم بما كان منهم وهذا خارج عن العادة ، وفيه عبرة لمن اعتبر فيها في منافع الدين ومنها : الفرج بعد الشدة ، والمنحة بعد المحنة ، ومنها : الدلالة على صحة نبوة نبينا محمد (ص) لأنه (ع) لم يقرأ كتابا علم أنه لم يأته ذلك إلا من جهة الوحي ، فهو بصيرة للذين سألوه أن يخبرهم بذلك ، ومعجزة دالة على صدقه (إِذْ قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) لأبيه وأمه بنيامين (أَحَبُّ إِلى أَبِينا) يعقوب (مِنَّا) وذلك أن يعقوب (ع) كان يرحمه وأخاه ويقرّبهما لصغرهما (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) معناه ونحن جماعة يتعصب بعضنا لبعض ، ويعين بعضنا بعضا ، أي فنحن أنفع لأبينا (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في خطأ من الرأي في أمور الأولاد والتدبير الدنيوي ، ونحن أقوم بأمور مواشيه وأمواله وسائر أعماله ، ولم يريدوا به الضلال عن الدين لأنهم بالإتفاق كانوا على دينه ، وكانوا يعظمونه غاية التعظيم ولذلك طلبوا محبته ؛ واصل الضلال العدول ، وكل من ذهب وعدل عنه فقد ضل وروى ابن بابويه في كتاب النبوة بإسناده عن حنان بن سدير قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أكان أولاد يعقوب أنبياء؟ فقال : لا ولكنهم كانوا أسباطا أولادا لأنبياء ، ولم يفارقوا الدنيا إلا سعداء ، تابوا وتذكروا ما صنعوا ، وقال الحسن : كانوا رجالا بالغين وقعت ذلك منهم صغيرة ثم أخبر سبحانه عنهم أنهم قال بعضهم لبعض (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أي اطرحوه في أرض بعيدة عن أبيه فلا يهتدي إليه (يَخْلُ لَكُمْ

٣٠٨

وَجْهُ أَبِيكُمْ) عن يوسف وتخلص لكم محبته (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) والمعنى : أنكم إذا فعلتم ذلك وبلغتم أغراضكم تبتم مما فعلتموه وكنتم من جملة الصالحين الذين يعملون الصالحات (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من اخوة يوسف (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي ألقوه في قعر البئر يتناوله بعض مارة الطرق والمسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) معناه : إن كنتم فاعلين شيئا مما تقولون في يوسف فليكن هذا فعلكم ، فإنه دون القتل الصريح. وقيل للحسن : أيحسد المؤمن؟ قال : ما أنساك حديث بني يعقوب.

١١ ـ ١٢ ـ ثم بيّن سبحانه أنهم عند اتفاق آرائهم فيما تآمروا فيه من أمر يوسف كيف سألوا أباهم ف (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) أي ما لك لا تثق بنا ولا تعتمدنا في أمر يوسف (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أي مخلصون في إرادة الخير به. وفي هذا دلالة على أنه عليه‌السلام كان يأبى عليهم أن يرسله معهم (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) أي إلى الصحراء (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) أي نذهب ونجيء وننشط ونلهو (وَإِنَّا لَهُ) أي ليوسف (لَحافِظُونَ) أي نحفظه لنرده إليك.

١٣ ـ ١٨ ـ ثم أخبر سبحانه أنهم لما أظهروا النصح والشفقة على يوسف همّ يعقوب أن يبعثه معهم ، وحثّهم على حفظه فقال : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) أي يغمّني (أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) معناه : يحزنني مفارقته إياي (وَأَخافُ) عليه إذا ذهبتم به إلى الصحراء (أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) وتقديره : أخاف أن يأكله الذئب في حال كونكم ساهين عنه ، مشغولين ببعض أشغالكم. قالوا : وكانت أرضهم مذأبة وقيل : ان يعقوب رأى في منامه كأن يوسف قد شدّ عليه عشرة أذؤب ليقتلوه ، وإذا ذئب منها يحمي عنه ، فكأن الأرض انشقت فدخل فيها يوسف فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيام (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي جماعة متعاضدون متناصرون نرى الذئب قد قصده ولا نمنعه منه (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) معناه : إنا إذا عجزة ضعفة (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا) أي عزموا جميعا (أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أي قعر البئر فدلّوه حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم آوى إلى صخرة فقام عليها وقيل : كان الماء كدرا فصفا وعذب ووكل الله به ملكا يحرسه ويطعمه عن الصادق (ع) قال : لما ألقى اخوة يوسف يوسف في الجب نزل عليه جبرئيل فقال له : يا غلام من طرحك هنا؟ فقال : إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني ، ولذلك في الجب طرحوني فقال : أتحب أن تخرج من هذا الجب؟ قال : ذلك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال له جبرئيل : فإن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لك قل : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلّا أنت بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل لي في أمري فرجا ومخرجا ، وترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب ، فجعل الله له من الجب يومئذ فرجا ومخرجا ، ومن كيد المرأة مخرجا ، وآتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) يعني إلى يوسف (ع) (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) أي لتخبرنهم بقبيح فعلهم بعد هذا الوقت ، يريد ما ذكره سبحانه في آخر السورة من قوله : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنك يوسف فقال (وَجاؤُ أَباهُمْ) يعني وانقلب إخوة يوسف إلى أبيهم (عِشاءً) أي ليلا ليلبسوا على أبيهم ، وليكونوا أجرأ على الإعتذار (يَبْكُونَ) وإنما أظهروا البكاء ليوهموا أنهم صادقون. وفي هذا دلالة على أن البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي في دعواه (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي نشتد ونعدو على الاقدام لننظر أينا أعدى وأسبق لصاحبه عن الجبائي والسدي ، وقيل معناه : ننتصل ونترامى فننظر أي السهام أسبق إلى الغرض ، عن الزجاج (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي تركناه عند الرحل ليحفظه (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي ما أنت بمصدق لنا (وَلَوْ كُنَّا

٣٠٩

صادِقِينَ) ما صدقتنا لاتهامك لنا في أمر يوسف (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) معناه : ان إخوة يوسف جاؤوا أباهم ومعهم قميص يوسف ملطخا بدم فقالوا له : هذا دم يوسف حين أكله الذئب ولم يمزقوا ثوبه ولم يخطر ببالهم أن الذئب إذا أكل إنسانا فإنه يمزق ثوبه وقيل : إن يعقوب قال لهم : أروني القميص ، فأروه إياه فقال لهم لما رأى القميص صحيحا يا بني والله ما عهدت كاليوم ذئبا أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يمزق قميصه (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي قال يعقوب لهم إذ اتهمهم في يوسف : لم يأكله الذئب ولكن زينت لكم أنفسكم أمرا عملتموه (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فصبري صبر جميل لا جزع فيه ولا شكوى إلى الناس (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي بالله أستعين على تحمّل مرارة الصبر عليه. ومكث يوسف في الجبّ ثلاثة أيام.

١٩ ـ ٢٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن حال يوسف بعد إلقائه في الجب فقال : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) أي جماعة مارة ، قالوا : وإنما جاءت من قبل مدين يريدون مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير الطريق حتى نزلوا قريبا من الجب (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) أي فبعثوا من يطلب لهم الماء (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أي أرسل دلوه في البئر ليستقي فتعلق يوسف (ع) بالحبل ، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان فلما رآه المدلي (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) نظر في البئر لما ثقل عليه الدلو فرآى يوسف (ع) فقال : هذا غلام فأخرجوه (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) أي وأسرّ يوسف الذين وجدوه من رفقائهم من التجار مخافة أن يطلبوا منهم الشركة معهم في يوسف فقالوا : هذا بضاعة لأهل الماء دفعوه إلينا لنبيعه لهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي بما يعمل أخوة يوسف (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي باعوه بثمن ناقص قليل (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) أي قليلة (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) يعني به أن الذين اشتروه كانوا من الزاهدين في شرائه لأنهم وجدوا علامة الأحرار ، وأخلاق أهل البر والنبل فلم يرغبوا فيه مخافة أن يلحقهم تبعة من استعباده.

٢١ ـ ٢٢ ـ ثم أخبر سبحانه عن حال يوسف بعد أن بيع فقال : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ) أي اشترى يوسف (مِنْ مِصْرَ) أي من أهل مصر (لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) أي مقام يوسف وموضع نزوله ، أي هيئي له موضعا كريما شريفا وكان المشتري خازن فرعون مصر وخليفته وصاحب جنوده واسمه قطفير ، وكان يلقب بالعزيز ، وقال لامرأته راعيل ولقبها زليخا أكرمي مثواه (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي عسى أن نبيعه فنربح على ثمنه (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) فإنه لا ولد لنا ، وإنما قال ذلك لما رأى على يوسف من الجمال والعقل والهداية في الأمور ، وقيل : إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ، ثم مات ويوسف بعده حيّ ، فملك بعده قابوس بن مصعب ، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي كما أنعمنا على يوسف بالسلامة والخروج من الجب مكّناه في الأرض بأن عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى صار بذلك متمكنا من الأمر والنهي (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وقد مضى معناه في أول السورة (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي على أمر يوسف يحفظه ويرزقه حتى يبلغه ما قدر له من الملك والنبوة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ما يصنع الله بيوسف ، وما يؤول إليه حاله (وَلَمَّا بَلَغَ) يوسف (أَشُدَّهُ) أي منتهى شبابه وقوته وكمال عقله وقيل : الأشدّ من ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة (آتَيْناهُ حُكْماً) أي أعطيناه القول الفصل الذي يدعو إلى الحكمة (وَعِلْماً) أراد الحكم بين الناس ، والعلم بوجوه المصالح فإن الناس كانوا إذا تحاكموا إلى العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله وإصابته في الرأي (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي مثل ما جزينا يوسف بصبره نجزي كل من أحسن ، أي فعل الأفعال الحسنة من الطاعات.

٢٣ ـ ثم أخبر سبحانه عن امرأة العزيز وما همت به فقال (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) أي وطالبت يوسف المرأة التي كان يوسف في بيتها عن نفسه والمعنى : طلبت منه أن

٣١٠

يواقعها (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) على نفسها وعليه بابا بعد باب قالوا : وكانت سبعة أبواب (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) ومعناه : أقبل وبادر إلى ما هو مهيأ لك (قالَ) يوسف (مَعاذَ اللهِ) أي أعتصم بالله واستجير به مما دعوتني إليه وتقديره : عياذا بالله أن أجيب إلى هذا ، فكان (ع) أظهر الإباء ، وسأل الله سبحانه أن يعيذه ويعصمه من فعل ما دعته إليه (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) المعنى : أن الله ربي ، رفع من محلي ، وأحسن إليّ ، وجعلني نبيا فلا أعصيه أبدا (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) دلّ بهذا على أنه لو فعل ما دعته عليه لكان ظالما ، وفي هذه الآية دلالة على أن يوسف لم يهم بالفاحشة ولم يردها بقبيح ، لأن من همّ بالقبيح لا يقول مثل ذلك.

٢٤ ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) لم يوجد من يوسف ذنب كبير ولا صغير ، ولقد همت بالفاحشة وهمّ يوسف عليه‌السلام بضربها ودفعها عن نفسه كما يقال : هممت بفلان أي بضربه ، وإيقاع مكروه به ، فأما البرهان الذي رآه : ما آتاه الله سبحانه من آداب الأنبياء ، وأخلاق الأصفياء في العفاف ، وصيانة النفس عن الأدناس ، وأنه اللطف الذي لطف الله تعالى به في تلك الحال أو قبلها فاختار عنده الإمتناع لأن العصمة هي اللطف الذي يختار عنده التنزه عن القبائح ، والإمتناع من فعلها ؛ ويجوز أن يكون الرؤية ها هنا بمعنى العلم كما يجوز أن يكون بمعنى الإدراك (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) أي كذلك أريناه البرهان لنصرف عنه السوء ، أي الخيانة (وَالْفَحْشاءَ) أي ركوب الفاحشة (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي المصطفين المختارين للنبوة المخلصين في العبادة والتوحيد ، أي من عبادنا الذين أخلصوا الطاعة لله ، وأخلصوا أنفسهم له ، وهذا يدل على تنزيه يوسف وجلالة قدره عن ركوب القبيح ، والعزم عليه.

٢٥ ـ ٢٩ ـ (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) يعني تبادرا الباب أي طلب كل واحد من يوسف وامرأة العزيز السبق إلى الباب ، أما يوسف فإنه كان يقصد أن يهرب منها ومن ركوب الفاحشة ، وأما هي فإنما كانت تطلب يوسف لتقضي حاجتها منه ، وتقصد أن تغلق الباب وتمنعه من الخروج وتراوده ثانيا عن نفسه (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي لحقت يوسف فجذبت قميصه وشقته طولا من خلفه لأن يوسف كان هاربا وهي تعدو من خلفه ، وادركته فتعلقت بقميصه من خلفه فشقته (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي فلما خرجا وجدا زوجها عند الباب ، وسمّاه سيدها لأنه مالك أمرها (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعني أن المرأة سبقت بالكلام لتورك الذنب على يوسف فقالت لزوجها : ليس جزاء من أراد بأهلك خيانة إلّا أن يسجن أو أن يضرب بالسياط ضربا وجيعا (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) لما ذكرت المرأة ذلك لم يجد يوسف بدّا من تنزيه نفسه بالصدق ، ولو كفّت على الكذب عليه لكفّ عليه‌السلام عن الصدق عليها فقال : هي التي طالبتني بالسوء الذي نسبتني إليه (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قال ابن عباس وسعيد بن جبير : انه صبي في المهد ، وكان ابن أخت زليخا ، وهو ابن ثلاثة أشهر (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ) أي شق (مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ) المرأة (وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) بما قال يعني يوسف ، لأنه كان هو القاصد وهي الدافعة (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أي من خلف (فَكَذَبَتْ) المرأة (وَهُوَ) أي يوسف (مِنَ الصَّادِقِينَ) لأنه الهارب وهي الطالبة ، وهذا أمر ظاهر واستدلال صحيح (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أي فلما رأى زوجها قميص يوسف شق من خلف عرف خيانة المرأة (قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) وإنما وصف كيدهن بالعظم لأنها حين فاجأت زوجها عند الباب لم يدخلها دهش ، ولم تتحير في أمرها ، ووركت الذنب على يوسف (ع) (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) إنما قاله زوجها ومعناه : لا تلتفت يا يوسف إلى هذا الحديث ولا تذكره على سبيل طلب البراءة

٣١١

فقد ظهرت براءتك ، ثم أقبل على زليخا فقال (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي سلي أن لا يعاقبك على ذنبك (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) أي من المذنبين.

٣٠ ـ ٣٥ ـ (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) أي جماعة من النساء في المصر الذي كان فيه الملك وزوجته ويوسف (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) أي امرأة العزيز تدعو مملوكها إلى نفسها ليفجر بها (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي أحبته حبا دخل شغاف قلبها (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في خطأ بين ، وذهاب عن طريق الرشد بدعائها مملوكها إلى الفجور بها (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) وسماه مكرا لأن قصدهن من هذا القول كان أن تريهن يوسف لما وصف لهن من حسنه (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) فاستضافتهن اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة منهن (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي وأعدّت لهنّ وسائد يتكين عليها (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أي وأعطت كل واحدة من تلك النسوة سكينا لتقطع به الفواكه والأترج على ما هو العادة بين الناس (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) أي وقالت امرأة الملك ليوسف (ع) وكانت قد أجلسته غير مجلسهن فأمرته بالخروج عليهن في هيأته (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي أعظمنه وتحيّرن في جماله إذ كان كالقمر ليلة البدر (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) بتلك السكاكين على جهة الخطأ بدل قطع الفواكه فما أحسسن إلا بالدم ، ولم يجدن ألم القطع لاشتغال قلوبهن بيوسف (ع) (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) والمعنى : بعد يوسف عن هذا الذي رمي به لخوفه ومراقبته أمر الله (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أي رفع الله منزلته عن منزلة البشر فنعوذ بالله أن نقول انه بشر ومعناه : أنه منزه أن يكون بشرا ، وليس صورته صورة البشر ، ولا خلقته خلقة البشر ، ولكنه ملك كريم لحسنه. وروي عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يصف يوسف حين رآه في السماء الثانية : رأيت رجلا صورته صورة القمر ليلة البدر ، قلت يا جبرائيل من هذا؟ قال : هذا أخوك يوسف. قال الجبائي : وهذا يدل على أن الملك أفضل من بني آدم ، لأنهن ذكرن من هو في نهاية الفضل ولم ينكر الله تعالى ذلك عليهن. وهذا من ركيك الإستدلال ، لأنه سبحانه إنما حكى عن النساء اعظامهن ليوسف حين رأين جماله وبعده عن السوء ، فشبهنه بالملك ولم يقصدن كثرة الثواب الذي هو حقيقة الفضل (قالَتْ) امرأة العزيز للنسوة التي عذلنها على محبتها ليوسف (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي هذا هو ذلك الذي لمتنني في أمره وفي حبه وشغفي به ، جعلت اعظامهن إياه عذرا لها والمعنى : هذا الذي أصابكن في رؤيته مرة واحدة ما أصابكن من ذهاب العقل فكيف عذلتنني في حبي إياه وأنا أنظر إليه آناء ليلي ونهاري ، ثم اعترفت ببراءة يوسف وأقرّت على نفسها فقالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي امتنع عنه. وفي هذا دلالة على أن يوسف لم يقع منه قبح ، ثم توعدته بإيقاع المكروه به ان لم يطعها فيما تدعوه إليه فقالت (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي وإن لم يجبني إلى ما أدعوه إليه ليحبس في السجن وليكون من الأذلاء فلما رأى يوسف اصرارها على ذلك ، وتهديدها له ، إختار السجن على المعصية (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) معناه : يا رب ان السجن أحب إليّ وأسهل عليّ مما يدعونني إليه من الفاحشة وفي هذا دلالة على أن النسوة دعونه إلى مثل ما دعته إليه امرأة العزيز ، وأن النسوة لما خرجن من عندها أرسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا من صاحبته تسأله الزيارة (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) بالطافك لأن كيدهن قد وقع وحصل (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أمل إليهن أو إلى قولهن بهواي والصبوة لطافة الهوى (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي المستحقين لصفة الذم بالجهل وقيل معناه أكن بمنزلة الجاهلين في فعلي (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ)

٣١٢

أي فأجاب له ربه فيما دعاه فعصمه من مكرهن (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لدعاء الداعي ، العليم بإخلاصه في دعائه وبما يصلحه من الإجابة أو يفسده (ثُمَّ بَدا لَهُمْ) أي ظهر لهم (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) لأنه أراد به الملك ، وأراد بالآيات العلامات الدالة على براءة يوسف وهي : قد القميص من دبره ، وجز الأيدي (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) فحبسه بعد علمه ببراءته ، والغرض من الحبس أن يظهر للناس أن الذنب كان له لأنه إنما يحبس المجرم وقوله : حتى حين إلى سبع سنين.

٣٦ ـ ٣٨ ـ ثم أخبر سبحانه عن حال يوسف (ع) في الحبس فقال : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) والتقدير : فسجن يوسف ودخل معه السجن فتيان ، أي شابان حدثان مملوكان لملك مصر ، وكان أحدهما صاحب شرابه ، والآخر صاحب طعامه ، فنمى إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه ، وظن أن الآخر ساعده على ذلك ومالأه عليه (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) هو من رؤيا المنام ، كان يوسف (ع) لما دخل السجن قال لأهله : اني أعبر الرؤيا ، فقال أحدهما وهو الساقي : رأيت أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها ، وعصرتها في كأس الملك وسقيته إياها (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) معناه : وقال صاحب الطعام اني رأيت كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبر ، وألوان الأطعمة ، وسباع الطير تنهش منه (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي أخبرنا بتعبيره وما يؤول إليه أمره (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي تؤثر الإحسان والأفعال الجميلة قال الضحاك : كان إذا ضاق على رجل مكانه وسع له ، وإن احتاج جمع له ، وإن مرض قام عليه ، وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) وقال الزجاج : جاء في التفسير أنه كان يعين المظلوم ، وينصر الضعيف ، ويعود العليل وقيل : من المحسنين ، أي ممن يحسن تأويل الرؤيا ثم ذكر لهما يوسف (ع) ما يدل على أنه عالم بتفسير الرؤيا (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) في منامكما (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) في اليقظة (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) التأويل ، وذلك أنه كره أن يخبرهما بالتأويل لما على أحدهما فيه من البلاء فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) كأنهما قالا له : كيف عرفت تأويل الرؤيا ولست بكاهن ولا عراف؟ فأخبرهما أنه رسول الله ، وأنه تعالى علّمه ذلك ، وتعليمه تعالى قد يكون بأن يفعل العلم في قلبه ، وقد يكون بالوحي ، وقد يكون بنصب الأدلة التي يدرك بها العلم (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) معناه : أنه لا يستحق هذه الرتبة الخطيرة إلّا المؤمنون المخلصون ، وإني تركت طريقة قوم لا يؤمنون فلذلك خصّني الله بهذه الكرامة (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي) أي شريعة آبائي (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لا ينبغي لنا ونحن معدن النبوة ، وأهل بيت الرسالة أن ندين بغير التوحيد (ذلِكَ) أي التمسك بالتوحيد ، والبراءة من الشرك (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) بأن خصّنابها ، (وَعَلَى النَّاسِ) أيضا بإرسالنا إليهم ، واتباعهم إيانا ، واهتدائهم بنا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) نعم الله تعالى ، وقد كان يوسف عليه‌السلام فيما بينهم زمانا ولم يحك الله سبحانه أنه دعا إلى الدين ، وكانوا يعبدون الأصنام ، لأنه لم يطمع منهم في الإستماع والقبول ، فلما رآهم عارفين بإحسانه ، مقبلين عليه رجا منهم ما أمر سبحانه له في قوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ، وقد روي أن صاحبي السجن قالا له : لقد أحببناك حين رأيناك فقال : لا تحباني ، فو الله ما أحبني أحد إلا دخل عليّ من حبّه بلاء ، أحبّتني عمّتي فنسبت إليّ السرقة وأحبني أبي فألقيت في الجب ، وأحبتني امرأة العزيز فألقيت في السجن.

٣٩ ـ ٤٢ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) هذا حكاية نداء يوسف للمستفتين له عن تأويل رؤياهما ، أي يا ملازمي

٣١٣

السجن (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي أأملاك متباينون من حجر وخشب لا تضرّ ولا تنفع خير لمن عبدها أم الله الواحد القهار الذي إليه الخير والشر والنفع والضر وهذا ظاهره الإستفهام والمراد به التقرير والزام الحجة والقاهر هو القادر الذي لا يمتنع عليه شيء (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) خطاب لجميع من في الحبس : ان هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ، وسميتموها بأسماء يعني : الأرباب والآلهة ، هي أسماء فارغة عن المعاني لا حقيقة لها ، ما أنزل الله من حجة بعبادتها (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم والأمر لا لله فلا يجوز العبادة والخضوع والتذلل إلا لله (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي وقد أمركم أن لا تعبدوا غيره (ذلِكَ) أي ذلك الذي بيّنت لكم من توحيده وعبادته ، وترك عبادة غيره (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي الدين المستقيم الذي لا عوج فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ما للمطيعين من الثواب ، وللعاصين من العقاب ثم عبّر (ع) رؤياهما فقال (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) بدأ بما هو الأهم وهو الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ثم بتعبير رؤيا الساقي فروي أنه قال : أما العناقيد الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تبقى في السجن ثم يخرجك الملك اليوم الرابع وتعود إلى ما كنت عليه ، وأجرى على مالكه صفة الرب لأنه عبده فأضافه إليه كما يقال : رب الدار ورب الضيعة (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) يريد بالآخر صاحب الطعام ، روي أنه قال : بئس ما رأيت ، أما السلال الثلاث فإنها ثلاثة أيام تبقى في السجن ثم يخرجك الملك فيصلبك فتأكل الطير من رأسك ، فقال عند ذلك : ما رأيت شيئا وكنت ألعب ، فقال يوسف (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي فرغ من الأمر الذي تسألان وتطلبان معرفته ، وما قلته لكما فإنه نازل بكما وهو كائن لا محالة ، وفي هذا دلالة على أنه كان يقول ذلك على جهة الإخبار عن الغيب بما يوحى إليه لا كما يعبر أحدنا الرؤيا على جهة التأويل (وَقالَ) يوسف (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) معناه : للذي علم من طريق الوحي أنه ناج ، أي متخلص (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي اذكرني عند سيدك بأني محبوس ظلما (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف عند الملك فلم يذكره حتى لبث في السجن (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) أي سبعة سنين ، وروي عن أبي عبد الله (ع) قال : جاء جبرائيل (ع) فقال : يا يوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال : ربي قال : فمن حبّبك إلى أبيك دون إخوانك؟ قال : ربي قال : فمن ساق إليك السيارة؟ قال : ربي قال : فمن أنقذك من الجب؟ قال : ربي قال : فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال : ربي قال : فإنّ ربك يقول : ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث في السجن بما قلت بضع سنين ، وعنه في رواية أخرى قال : فبكى يوسف عند ذلك فتأذى ببكائه أهل السجن ، فصالحهم على أن يبكي يوما ويسكت يوما ، فكان في اليوم الذي يسكت أسوأ حالا.

٤٣ ـ ٤٩ ـ ثم أخبر سبحانه عن سبب نجاة يوسف من السجن ، وهو أنه لما قرب الفرج رأى الملك رؤيا هالته وأشكل تعبيرها على قومه حتى عبرها يوسف فقال سبحانه (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) يعني وقال ملك مصر وهو الوليد بن ريان والعزيز وزيره فيما رواه الأكثرون : اني أرى في منامي سبع بقرات سمان (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) أي سبع بقرات أخر (عِجافٌ) أي مهازيل ، فدخلت السمان في بطون المهازيل حتى لم أر منهن شيئا (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) أي وأرى في منامي سبع سنبلات قد انعقد حبها (وَأُخَرَ) أي وسبعا أخر

٣١٤

(يابِساتٍ) قد احتصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي جمع الأشراف وقصّ رأياه عليهم وقال : يا أيها الأشراف أو الجماعة (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) أي عبروا ما رأيت في منامي ، وبيّنوا لي الفتوى فيه وهو حكم الحادثة (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) معناه : إن كنتم عابرين للرؤيا (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي هذه أباطيل أحلام كاذبة لا يصح تأويلها (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) التي هذه صفتها (بِعالِمِينَ) وانا نعلم تأويل ما يصح (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) وقوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) معناه : تذكر شأن يوسف وما وصاه به بعد حين من الدهر وزمان طويل ، فأتى يوسف في السجن وقال له (يُوسُفُ) أي يا يوسف (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أي الكثير الصدق فيما تخبر به (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ) إلى قوله (يابِساتٍ) فإن الملك رأى هذه الرؤيا واشتبه تأويلها (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) تأويل رؤيا الملك (قالَ) يوسف في جوابه معبرا ومعلما : أما البقرات السبع العجاف ، والسنابل السبع اليابسات : فالسنون الجدبة ، وأما السبع السمان ، والسنابل السبع الخضر : فإنهن سبع سنين مخصبات ذوات نعمة ، وأنتم تزرعون فيها ، فذلك قوله (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) أي فازرعوا سبع سنين متوالية ، أي زراعة متوالية في هذه السنين على عادتكم في الزراعة سائر السنين (فَما حَصَدْتُمْ) من الزرع (فَذَرُوهُ) اتركوه (فِي سُنْبُلِهِ) لا تذروه ولا تدوسوه (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) وإنما أمرهم بذلك ليكون أبقى وأبعد من الفساد ، يعني ان ما أردتم أكله فدوسوه واتركوا الباقي في السنبل ، إنما أمرهم بذلك لأن السنبل لا يقع فيه سوس ولا يهلك وإن بقي مدة من الزمان ، وإذا صفي أسرع إليه الهلاك (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ) أي سبع سنين مجدبات صعاب تشتد على الناس (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) معناه : تأكلن فيها ما قدمتم في السنين المخصبة لتلك السنين ، وإنما أضاف الأكل إلى السنين لأنه يقع فيها (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) معناه : إلّا شيئا قليلا مما تحرزون وتدخرون (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) معناه : ثم يأتي من بعد هذه السنين الشداد عام فيه يمطر الناس ويغاثون : من الغوث والغياث ، أي ينقذون وينجون من القحط (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) الثمار التي تعصر في الخصب كالعنب والزيت والسمسم ، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وهذا القول من يوسف اخبار بما لم يسألوه منه ، ولم يكن في رؤيا الملك بل هو مما اطلعه الله تعالى عليه من علم الغيب ليكون من آيات نبوته عليه‌السلام. قال البلخي : وهذا التأويل من يوسف يدل على بطلان قول من يقول : إن الرؤيا على ما عبرت أولا ، لأنهم كانوا قالوا : هي أضغاث أحلام ، فلو كان ما قالوه صحيحا لكان يوسف لا يتأولها.

٥٠ ـ ٥٣ ـ ثم أخبر سبحانه عن إخراج يوسف من السجن فقال (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف الذي عبّر رؤياي (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) أي لما جاء يوسف رسول الملك فقال له : أجب الملك ، أبى يوسف أن يخرج مع الرسول حتى تبين براءته مما قذف به و (قالَ) للرسول (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أي سيدك وهو الملك (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ) أي ما حالهن وما شأنهن؟ والمعنى : فاسأل الملك أن يتعرف حال النسوة (اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) ليعلم صحة براءتي ولم يفرد امرأة العزيز بالذكر حسن عشرة منه ، ورعاية أدب لكونها زوجة الملك

٣١٥

أو زوجة خليفة الملك ، فخلطها بالنسوة ، وقيل : انه أرادهنّ دونها لأنهنّ الشاهدات له عليها ، ألا ترى أنها قالت : الآن حصحص الحق ، وهذا يدل على أن النسوة كن ادعين عليه نحو ما ادعته امرأة العزيز (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي أن الله عالم بكيدهن ، قادر على إظهار براءتي (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) معناه : أن الرسول رجع إلى الملك وأخبره بما قاله يوسف (ع) ، فأرسل إلى النسوة ودعاهن وقال لهنّ : ما شأنكن وما أمركن إذ طلبتن يوسف عن نفسه ، ودعوتنه إلى أنفسكن (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) هذه كلمة تنزيه ، أي نزهن يوسف مما اتّهم به فقلن : معاذ الله ، وعياذا بالله من هذا الأمر ، وما علمنا عليه من سوء وخيانة ، وما فعل شيئا مما نسب إليه ، واعترفن ببراءته وبأنه حبس مظلوما (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي ظهر وتبيّن (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) اعترفت بالكذب على نفسها فيما اتّهم يوسف به ، وإنما حملها على الصدق انقطاع طمعها منه (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) هذا من كلام يوسف ، أي ذلك الذي فعلت من ردّي رسول الملك إليه في شأن النسوة ليعلم الملك أو العزيز (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) في زوجته ، أي في حال غيبته عني (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا يهديهم في كيدهم ومكرهم (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) هذا من كلام يوسف عند أكثر المفسرين ، وقيل : بل هو من كلام امرأة العزيز أي ما أبرىء نفسي عن السوء والخيانة في أمر يوسف (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي كثيرة الأمر بالسوء ، والشهوة قد تدعو الإنسان إلى المعصية (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلّا من رحمه‌الله تعالى فعصمه بأن لطف له (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ) بعباده (رَحِيمٌ) بهم.

٥٤ ـ ٥٧ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) معناه : أن الملك لما تبيّن له أمانة يوسف وبراءته من السوء وعلمه أمر باحضاره فقال : ائتوني به (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي اجعله خالصا لنفسي ، ارجع إليه في تدبير مملكتي ، واعمل على إشارته في مهمات أموري (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) عرف فضله وأمانته وعقله لأنه استدل بكلامه على عقله ، وبعفته على أمانته (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي انك عندنا ذو مكانة متمكن في المنزلة والقدر ، نافذ القول والأمر ، ظاهر الأمانة ، مأمون ثقة قال ابن عباس : يريد مكنتك من ملكي ، وجعلت سلطانك فيه كسلطاني ، وائتمنتك فيه. ولما وقف بباب الملك قال : حسبي ربي من دنياي ، وحسبي ربي من خلقه عزّ جاره ، وجلّ ثناؤه ، ولا إله غيره ، ولما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره (قالَ) يوسف (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) يعني اجعلني على خزائن أرضك حافظا وواليا ، واجعل تدبيرها إليّ (إِنِّي حَفِيظٌ) أي حافظ لما استودعتني لحفظه عن أن تجري فيه خيانة (عَلِيمٌ) بمن يستحق منها شيئا ومن لا يستحق ، فأضعها مواضعها (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه أقدرنا يوسف على ما يريد في الأرض ، يعني أرض مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي يتصرف فيها حيث يشاء وينزل منها حيث يشاء (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي نخصّ بنعم الدين والدنيا من نشاء (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي المطيعين وقيل : إنه دعا الملك إلى الإسلام فأسلم وأسلم أيضا كثير من الناس ، فهذا في الدنيا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) أي ثواب الآخرة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) لخلوصه عن الشوائب والأقذار.

٣١٦

٥٨ ـ ٦٢ ـ ثم أخبر سبحانه أنه لما تمكّن يوسف بمصر ، وأصاب الناس ما أصابهم من القحط وقصدوا مصر ، نزل بآل يعقوب ما نزل بالناس ، فجمع يعقوب بنيه وقال لهم : بلغني أنه يباع الطعام بمصر وأن صاحبه رجل صالح فاذهبوا إليه فإنه سيحسن إليكم إن شاء الله ، فتجهزوا وساروا حتى وردوا مصر فدخلوا على يوسف فذلك قوله : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي جاؤوا ليمتاروا من مصر كما امتار غيرهم ، ودخلوا عليه وهم عشرة وأمسك ابن يامين أخا يوسف لأمه ، فعرفهم يوسف وأنكروه لأنهم رأوه ملكا جالسا على السرير ، عليه ثياب الملوك ، ولم يكن يخطر ببالهم أنه يصير إلى تلك الحالة ، وكان يوسف ينتظر قدومهم عليه فكان أثبت لهم ، فلما نظر إليهم يوسف وكلّموه بالعبرانية قال لهم : من أنتم؟ وما أمركم؟ (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) يعني حمل لكل رجل منهم بعيرا بعدتهم (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يعني ابن يامين (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي لا أبخس الناس شيئا. وأتم لهم كيلهم (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي المضيفين ، مأخوذ من النزل وهو الطعام (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي ليس لكم عندي طعام (وَلا تَقْرَبُونِ) أي ولا تقربوا داري وبلادي ، خلط عليه‌السلام الوعد بالوعيد (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي نطلبه ونسأله أن يرسله معنا (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ما أمرتنا به ، وكان يوسف أمر ترجمانا يعرف العبرانية أن يكلمهم وكان لا يكلمهم بنفسه ليشبه عليهم ، فإنهم لو عرفوه ربما كانوا يهيمون في الأرض حياء من أبيهم فيتركون خدمته ، وكان في معرفتهم إياه مفسدة (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) أي قال يوسف لعبيده وغلمانه الذين يكيلون الطعام : اجعلوا ثمن طعامهم وما كانوا جاؤوا به في أوعيتهم (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) أي لعلهم يعرفون متاعهم إذا رجعوا إلى أهلهم مرة أخرى ، ورأى لؤما أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه فردّه عليهم من حيث لا يعلمون تفضلا وكرما وقيل إنما لم يعرفهم بنفسه لأنهم لو عرفوه ربما لم يرجعوا إليه ولم يحملوا أخاه إليه ، والأول هو الوجه الصحيح.

٦٣ ـ ٦٦ ـ (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) قيل : إنهم لما دخلوا على يعقوب وسلّموا عليه سلاما ضعيفا فقال لهم : يا بني مالكم تسلمون سلاما ضعيفا؟ فقالوا : يا أبانا إنا جئناك من عند أعظم الناس ملكا ، ولم ير الناس مثله حكما وعلما وخشوعا وسكينة ووقارا ، ولئن كان لك شبيه فإنه يشبهك ، ولكنا أهل بيت خلقنا للبلاء ، إنه اتهمنا وزعم أنه لا يصدقنا حتى ترسل معنا بابن يامين برسالة منك إليه ليخبره ما الذي أحزنك ، وعن سرعة الشيب إليك ، وذهاب بصرك وقوله : (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) معناه : منع منا فيما يستقبل ان لم نأته بأخينا لقوله : (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) ابن يامين (نَكْتَلْ) أي نأخذ الطعام بالكيل إن أرسلته اكتلنا وإلا فمنعنا الكيل (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يصيبه سوء ومكروه (قالَ) يعقوب (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) أي لا آمنكم على ابن يامين في الذهاب به إلا كأمني على يوسف ضمنتم لي حفظه ثم ضيعتموه أو أهلكتموه أو غيبتموه عنّي (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) أي حفظ الله خير من حفظكم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يرحم ضعفي وكبر سني ويردّه عليّ ، وورد في الخبر أن الله سبحانه قال : فبعزتي لأردّنهما إليك من بعد ما توكلت عليّ (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) يعني أوعية الطعام (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ما نطلب في منع

٣١٧

أخينا عنه ، وقيل معناه : ما نطلب بما أخبرناك عن ملك مصر الكذب ، وقيل معناه : أيّ شيء نطلب وراء هذا ، أوفى لنا الكيل وردّ علينا الثمن (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) أي فلا ينبغي أن نخاف على أخينا ممن قد أحسن إلينا هذا الإحسان (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب إليهم الطعام (وَنَحْفَظُ أَخانا) في السفر حتى نرده إليك (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) لأجله لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) معناه : ان الذي جئناك به كيل قليل لا يقنعنا ، فنحتاج أن نضيف إليه كيل بعير أخينا (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي تعطونني ما يوثق به من يمين أو عهد من الله (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) أي لتردنه إليّ (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي إلا أن تهلكوا جميعا (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) أي أعطوه عهودهم وحلفوا له (قالَ) يعقوب (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي شاهد حافظ إن أخلفتم انتصف لي منكم. وفي هذا دلالة على وجوب التوكل على الله سبحانه في جميع المهمات ، والتفويض إليه في كل الأمور ، وفيها دلالة أيضا على أن يعقوب (ع) إنما أرسل ابن يامين معهم لأنه علم أنهم لما كبروا ندموا.

٦٧ ـ ٦٨ ـ (وَ) لما تجهّزوا للمسير (قالَ) يعقوب (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا) مصر (مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة وكمال (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي وما أدفع من قضاء الله من شيء ان كان قد قضى عليكم الإصابة بالعين أو غير ذلك (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فهو القادر على أن يحفظكم من العين أو من الحسد ، ويردكم علي سالمين (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي وليفوضوا أمورهم إليه ، وليثقوا به (وَلَمَّا دَخَلُوا) مصر (مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي من أبواب متفرقة كما أمرهم يعقوب ، وكان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها الأربعة متفرقين (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أي لم يكن دخولهم مصر كذلك يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئا أراد الله تعالى إيقاعه بهم من حسد أو إصابة (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) أي ذو يقين ومعرفة بالله (لِما عَلَّمْناهُ) أي لأجل تعليمنا إياه مدحه الله سبحانه بالعلم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لا يعلم المشركون ما الهم الله أولياءه ، عن ابن عباس.

٦٩ ـ ٧٦ ـ ثم أخبر سبحانه عن دخولهم عليه فقال (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) أي لما دخل أولاد يعقوب على يوسف ضمّ إليه أخاه من أبيه وأمه ابن يامين ، وأنزله معه وقيل : إنهم لما دخلوا عليه قالوا هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به فقال : أحسنتم ، ثم أنزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم وقال : ليجلس كل بني أم على مائدة فجلسوا ، فبقي ابن يامين قائما فردا فقال له يوسف : مالك لا تجلس؟ قال : إنك قلت : ليجلس كل بني أم على مائدة وليس لي فيهم ابن أم فقال يوسف : أفما كان لك ابن أم؟ قال : بلى قال يوسف فما فعل؟ قال : زعم هؤلاء أن الذئب أكله قال : فما بلغ من حزنك عليه؟ قال : ولد لي أحد عشر ابنا كلهم اشتقت له اسما من اسمه فقال له يوسف أراك قد عانقت النساء ، وشممت الولد من بعده قال ابن يامين : إن لي أبا صالحا وقد قال لي : تزوج لعل الله يخرج منك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح فقال له يوسف : تعال فاجلس معي على مائدتي فقال اخوة يوسف : لقد فضل الله يوسف وأخاه حتى أن الملك قد أجلسه معه على مائدته ، روي ذلك عن الصادق (ع) (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) أي أطلعه على أنه أخوه (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا تحزن لشيء سلف من إخوتك إليك (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي فلما أعطاهم ما

٣١٨

جاؤوا لطلبه من الميرة وكال لهم الطعام الذي جاؤوا لأجله ، وجعل لكل منهم حمل بعير (جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) معناه : أمر حتى جعل الصاع في متاع أخيه ، وإنما أضاف ذلك إليه لوقوعه بأمره (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي نادى مناد مسمعا معلما (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي القافلة (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) إنما قال ذلك بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غير أمره ولم يعلم بما أمر به يوسف من جعل الصاع في رحالهم (قالُوا) أي قال أصحاب العير (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) أي على أصحاب يوسف (ما ذا تَفْقِدُونَ) أي ما الذي فقدتموه من متاعكم (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) أي صاعه وسقايته (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي وقال المنادي : من جاء بالصاع فله حمل بعير من الطعام (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي كفيل ضامن (قالُوا) أي قال أخوة يوسف (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ) أيها القوم (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) قط ، وإنما أضافوا العلم إليهم بذلك مع انهم لم يعلموه لأن معنى هذا القول انكم قد ظهر لكم من حسن سيرتنا ومعاملتنا معكم مرة بعد أخرى ما تعلمون به أنه ليس من شأننا السرقة (قالُوا فَما جَزاؤُهُ) أي قال الذين نادوهم فما جزاء السارق (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) في قولكم : إنا لم نسرق ، وظهرت السرقة (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي قال إخوة يوسف جزاء السارق الرق ومعناه : ان السنة في بني إسرائيل كانت استرقاق السارق عن السدي وابن إسحاق والجبائي ، وكان يسترق سنة وقيل : كان حكم السارق في آل يعقوب أن يستخدم ويسترق على قدر سرقته وفي دين الملك الضرب والضمان عن الضحاك وقيل ان يوسف سألهم ما جزاء السارق عندكم فقالوا أن يؤخذ بسرقته (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل ما ذكرنا من الجزاء (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) أي بدأ يوسف في التفتيش بأوعيتهم لإزالة التهمة (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) يعني السقاية (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) وإنما بدأ بأوعيتهم لأنه لو بدأ بوعاء أخيه لعلموا أنه هو الذي جعلها فيه (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل ذلك الكيد أمرنا يوسف ليكيد بما يتهيأ له أن يحبس أخاه ليكون ذلك سببا لوصول خبره إلى أبيه ، أي ألهمنا يوسف هذا الكيد والحيلة فجازيناهم على كيدهم بيوسف ، أي كما فعلوا في الإبتداء فعلنا بهم (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي ما كان يمكنه أن يأخذ أخاه في حكم الملك وقضائه وأن يحبسه إذ لم يكن ذلك من حكم ملك مصر وأهله (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم والنبوة كما رفعنا درجة يوسف على إخوته (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) يعني أن كل عالم فإن فوقه عالما أعلم منه حتى ينتهي إلى الله تعالى العالم بجميع المعلومات لذاته فيقف عليه ولا يتعداه.

٧٧ ـ ٨٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن أخوة يوسف أنهم قالوا ليوسف (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) ابن يامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) من أمه (مِنْ قَبْلُ) فليست سرقته بأمر بديع فإنه اقتدى بأخيه يوسف قيل : إن عمة يوسف كانت تحضنه بعد وفاة أمه وتحبه حبا شديدا ، فلما ترعرع أراد يعقوب أن يسترده منها وكانت أكبر ولد إسحاق ، وكانت عندها منطقة إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر ، فاحتالت وجاءت بالمنطقة وشدتها على وسط يوسف وادعت أنه سرقها ، وكان من سنتهم استرقاق السارق فحبسته بذلك السبب عندها عن ابن عباس والضحاك والجبائي ، وقد روي ذلك عن أئمتنا عليهم‌السلام ، وقيل : انه سرق صنما لجده من قبل أمه فكسره (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) أي فأخفى يوسف تلك الكلمة التي قالوها (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي لم يظهرها (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) في السرق لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي والله أعلم أسرق أخ له أم لا

٣١٩

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي بدلا عنه ، إنما قالوا هذا لما علموا أنه استحقه ، فسألوه أن يأخذ عنه بدلا شفقة على والدهم ، ورققوا في القول على وجه الإسترحام ومعناه : كبيرا في السن وقيل كبيرا في القدر لا يحبس ابن مثله (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلينا في الكيل وردّ البضاعة ، وفي الضيافة ، ونحن نأمل هذا منك لإحسانك إلينا ، فأجابهم يوسف بأن (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي أعوذ بالله أن آخذ البريء بجرم السقيم ، وقال : (مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) ولم يقل من سرق تحرزا من الكذب (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي لو فعلنا ذلك لكنا ظالمين (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أي فلما يئس أخوة يوسف من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوه من تخلية سبيل ابن يامين معهم (خَلَصُوا نَجِيًّا) أي انفردوا عن الناس من غير أن يكون معهم من ليس منهم يتناجون فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم ، ويتدبرون في أنهم يرجعون أم يقيمون ، وتلخيصه : اعتزلوا عن الناس متناجين وهذا من ألفاظ القرآن التي هي في الغاية القصوى من الفصاحة والإيجاز في اللفظ مع كثرة المعنى (قالَ كَبِيرُهُمْ) وهو روبين وكان أسنهم ، وهو ابن خالة يوسف ، وهو الذي نهى إخوته عن قتله (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أراد به الوثيقة التي طلبها منهم يعقوب حين قال : لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به ، فذكرهم ذلك (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) أي قصرتم في أمره وكنتم قد عاهدتم أباكم أن تردوه إليه سالما فنقضتم العهد (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي لا أزال بهذه الأرض ولا أزول عنها وهي أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في البراح والرجوع إليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بما يكون عذرا لنا عند أبينا (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لا يحكم إلّا بالحق قالوا : انه قال لهم : انا أكون هاهنا واحملوا أنتم الطعام إليهم فاخبروهم بالواقعة.

٨١ ـ ٨٧ ـ ثم أخبر سبحانه أنه قال لهم كبيرهم في السن أو في العلم (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) في الظاهر (وَما شَهِدْنا) عندك بهذا (إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي بما شهدنا من أن الصاع استخرج من رحله في الظاهر ، وبيّن بهذا أنهم لم يكونوا قاطعين على أنه سرق وقيل معناه ما شهدنا عند يوسف أن السارق يسترق إلا بما علمنا أن الحكم ذلك ولم نعلم أن ابنك سرق أم لا إلا أنه وجد الصاع عنده فحكم بأنه السارق في الظاهر والسارق يؤخذ بسرقته ويسترق (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي إنا لم نعلم الغيب حين سألناك أن تبعث ابن يامين معنا ، ولم ندر أن أمره يؤل إلى هذا وإنما قصدنا به الخير ، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به ، عن مجاهد وقتادة والحسن. وقال علي بن عيسى : علم الغيب هو علم من لو شاهد الشيء لشاهده بنفسه لا بأمر يستفيده ، والعالم بهذا المعنى هو الله وحده جلّ اسمه. وقيل معناه : ما كنا لسرّ هذا الأمر حافظين ، وبه عالمين ، فلا ندري أنه سرق أم كذبوا عليه ، وإنما أخبرناك بما شاهدنا عن عكرمة ، وقيل معناه : ما كنا لغيب ابنك حافظين ، أي انا كنا نحفظه في محضره ، وإذا غاب عنا ذهب عن حفظنا (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي أهل القرية (الَّتِي كُنَّا فِيها) والقرية. مصر ومعناه : سل من شئت من أهل مصر عن هذا الأمر فإن هذا أمر شائع فيهم يخبرك به من سألته ، وإنما قالوا ذلك لأن بعض أهلها كانوا قد صاروا إلى الناحية التي كان فيها أبوهم ، والعرب تسمي الأمصار والمدائن قرى (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي وسل أهل القافلة التي قدمنا فيها وكانوا من جيران يعقوب وإنما حذف المضاف للإيجاز ولأن المعنى مفهوم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) تقديره : فلما رجعوا إلى أبيهم وقصّوا عليه القصة قال لهم : ما عندي أن الأمر على ما تقولونه ، بل سولت لكم أنفسكم أمرا فيما أظن (فَصَبْرٌ

٣٢٠