الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

شُهُوداً) أي ولا تعمل أنت وأمتك من عمل إلّا كنا عالمين به ، شاهدين عليكم به (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي تدخلون فيه وتخوضون فيه (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) أي وما يبعد وما يغيب عن علم ربك ورؤيته وقدرته (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) أي وزن نملة صغيرة (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ) من وزن نملة (وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي في كتاب بيّنه الله فيه قبل أن خلقه وهو اللوح المحفوظ.

٦٢ ـ ٦٥ ـ (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بيّن سبحانه أن المطيعين لله الذين تولوا القيام بأمره ، وتولاهم سبحانه بحفظه وحياطته ، لا خوف عليهم يوم القيامة من العقاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي لا يخافون (الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا بالله واعترفوا بوحدانيته (وَكانُوا يَتَّقُونَ) مع ذلك معاصيه (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فيه أقوال (أحدها) أن البشرى في الحياة الدنيا هي ما بشّرهم الله تعالى به في القرآن على الأعمال الصالحة ونظيره قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقوله (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) الآية. عن الزجاج والفراء (وثانيها) ان البشارة في الحياة الدنيا بشارة الملائكة (ع) للمؤمنين عند موتهم بأن لا تخافوا ولا تحزنوا أبشروا بالجنة عن قتادة والزهري والضحاك والجبائي (وثالثها) أنها في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له وفي الآخرة بالجنة وهي ما يبشرهم الملائكة عند خروجهم من القبور وفي القيامة إلى أن يدخلوا الجنة يبشرونهم بها حالا بعد حال وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وروي ذلك في حديث مرفوع عن النبي (ص) وروى عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع) أنه قال يا عقبة لا يقبل الله من العباد يوم القيامة إلّا هذا الدين الذي انتم عليه وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينه إلّا أن يبلغ نفسه إلى هذه واومى بيده إلى الوريد الخبر بطوله ثم قال إن هذا في كتاب الله وقرأ الآية وقيل ان المؤمن يفتح له باب إلى الجنة في قبره فيشاهد ما أعدّ له في الجنة قبل دخولها (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا خلف لما وعد الله تعالى به من الثواب (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الذي سبق ذكره من البشارة في الحياة الدنيا وفي الآخرة هي النجاة العظيمة التي يصغر في جنبها كل شيء (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) ظاهره النهي والمراد به التسلية للنبي (ص) عن أقوالهم المؤذية (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فيمنعهم منك بعزته ، ويدفع أذاهم بقدرته. وقيل لا يحزنك قولهم انك ساحر أو مجنون ، فسينصرك الله عليهم ، وسيذلهم وينتقم منهم لك فإنه عزيز قادر عليه (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع أقوالهم ، ويعلم ضمائرهم فيجازيهم عليها ، ويدفع عنك شرّهم ، ويرد كيدهم وضرّهم.

٦٦ ـ ٦٧ ـ لما سلّى الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) فإنهم لا يفوتوني ، بيّن بعد ذلك ما يدل على صحته فقال (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) يعني العقلاء ، وإذا كان له ملك العقلاء فما عداهم تابع لهم ، وإنما خصّ العقلاء تفخيما (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) ما ها هنا بمعنى أيّ شيء فكأنه قال : وأيّ شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء تقبيحا لفعلهم (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي ليس يتبعون في اتخاذهم مع الله شركاء إلّا الظن لتقليدهم أسلافهم في ذلك ، أو لشبهة دخلت عليهم بأنهم يتقرّبون بذلك إلى الله تعالى (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي وليسوا إلّا كاذبين بهذا الإعتقاد والقول (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) معناه : ان الذي يملك من في السماوات ومن في الأرض هو الذي خلق لكم الليل لسكولكم ، ولأن يزول التعب والكلال عنكم بالسكون فيه (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي وجعل النهار مبصرا مضيئا تبصرون فيه ونهتدون به في حوائجكم بالإبصار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي لحججا ودلالات على توحيد الله سبحانه من حيث لا يقدر على ذلك غيره (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) الحجج سماع تدبّر وتفهم

٢٨١

٦٨ ـ ٧٠ ـ ثم حكى الله سبحانه عن صنف من الكفار أنهم أضافوا إليه اتخاذ الولد وهم طائفتان (أحدهما) كفار قريش والعرب فإنهم قالوا الملائكة بنات الله (والأخرى) النصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله فقال سبحانه (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وإنما قال : قالوا : وإن لم يكن سبق ذكرهم لأنهم كانوا بحضرة النبي (ص) ، وكان يعرفهم ، وتصح الكناية عن المعلوم كما تصح عن المذكور (سُبْحانَهُ) أي تنزيها عما قالوا (هُوَ الْغَنِيُ) عن اتخاذ الولد ، ثم بين سبحانه الوجه فيه فقال (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ومعناه : إذا كان له ما في السماوات وما في الأرض ملكا وملكا وخلقا فهو الغني عن اتخاذ الولد ، لأن الإنسان إنما يتخذ الولد ليتقوى به من ضعف ، أو ليستغني به من فقر ، والله سبحانه منزّه عن ذلك ، وإذا استحال اتخاذ الولد حقيقة عليه سبحانه استحال عليه اتخاذ الولد على وجه التبني (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ما عندكم من حجة وبرهان بهذا (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) هذا توبيخ من الله سبحانه لهم على قولهم ذلك ، ثم بيّن سبحانه الوعيد لهم على ذلك فقال (قُلْ) يا محمد (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ) أي يكذبون (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) باتخاذ الولد وغير ذلك (لا يُفْلِحُونَ) أي يفوزون بشيء من الثواب (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) معناه : لهم متاع في الدنيا يتمتعون به أياما قلائل ثم تنقضي وقوله (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي ثم إلى حكمنا مصيرهم (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ) وهو عذاب النار (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بكفرهم.

٧١ ـ ٧٣ ـ ثم أمر الله سبحانه نبيّه (ص) أن يقرأ عليهم أخبار نوح فقال (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) أي خبره (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) الذين بعث إليهم (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) أي شقّ وعظم عليكم اقامتي بين أظهركم (وَتَذْكِيرِي) أي وعظي وتنبيهي إياكم (بِآياتِ اللهِ) أي بحججه وبيناته على صحة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وبطلان ما تدينون به (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) جعله جواب الشرط مع أنه متوكل عليه في جميع أحواله ليبين لهم أنه متوكل في هذا التفصيل لما في اعلامه ذلك من زجرهم عنه لأن الله تعالى يكفيه أمرهم ومعناه : فإلى الله فوّضت أمري ، وبه وثقت أن يكفيني أمركم (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) معناه : فاعزموا على أمركم مع شركائكم ، واتفقوا على أمر واحد من قتلي وطردي ، وقيل : أراد بالشركاء الأوثان التي كانوا يعبدونها من دون الله ، وقيل : أراد من شاركهم في دينهم (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) معناه : ليكن أمركم ظاهرا مكشوفا ، ولا يكوننّ مغطى مبهما مستورا من غممت الشيء : إذا سترته (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) أي انهضوا إليّ فاقتلوني ان وجدتم إليه سبيلا ولا تؤخروني ولا تمهلوني عن ابن عباس ، وقيل معنى اقضوا إليّ : افعلوا ما تريدون ، وادخلوا إليّ فاقتلوني ان وجدتم إليه سبيلا ولا تؤخروني ولا تمهلوني عن ابن عباس ، وقيل معنى اقضوا إليّ : افعلوا ما تريدون ، وادخلوا إليّ لأنه بمعنى افرغوا من جميع حيلكم كما يقال : خرجت اليك من العهدة ، وقيل معناه : توجّهوا إليّ. وهذا كان من معجزات نوح عليه‌السلام انه كان وحيدا مع نفر يسير وقد اخبر بأنهم لا يقدرون على قتله ، وعلى أن ينزلوا به سوءا لأن الله تعالى ناصره وحافظه عنهم (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي ذهبتم عن الحق واتباعه ولم تقبلوه ، ولم تنظروا فيه (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي لا أطلب منكم أجرا على ما أؤديه إليكم من الله فيثقل ذلك عليكم (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ما أجري ألا على الله في القيام بأداء الرسالة (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي أمرني الله بأن أكون من المستسلمين لأمر الله بطاعته ثقة بأنها خير ما يكتسبه العباد (فَكَذَّبُوهُ) يعني أنهم كذبوا نوحا أي نسبوه إلى الكذب فيما يذكره من أنه نبي الله وان الله بعثه إليهم ليدعوهم إلى طاعته (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي في السفينة (وَجَعَلْناهُمْ

٢٨٢

خَلائِفَ) أي جعلنا الذين نجوا مع نوح خلفاء لمن هلك بالغرق وقيل : انهم كانوا ثمانين (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي اهلكنا باقي أهل الأرض أجمع لتكذيبهم لنوح (ع) (فَانْظُرْ) أيها السامع (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي المخوفين بالله وعذابه ، أي كيف اهلكهم الله.

٧٤ ـ ٧٨ ـ ثم بيّن سبحانه قصة من بعثه بعد نوح فقال (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد نوح واهلاك قومه (رُسُلاً) يريد إبراهيم وهودا وصالحا ولوطا وشعيبا (إِلى قَوْمِهِمْ) الذين كانوا فيهم بعد أن تناسلوا وكثروا (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي فأتوهم بالبراهين والمعجزات الدالة على صدقهم ، الشاهدة بنبوتهم (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي لم يكونوا ليصدقوا ، يعني أولئك الأقوام الذين بعث إليهم الرسل بما كذبت به اوائلهم الذين هم قوم نوح ، أي كانوا مثلهم في الكفر والعتو (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي نجعل على قلوب الظالمين لنفوسهم الذين تعدوا حدود الله سمة وعلامة على كفرهم يلزمهم الذم بها ويعرفهم بها الملائكة كما فعلنا ذلك بقلوب هؤلاء الكفار وقد مرّ معنى الطبع والختم فيما تقدم (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد الرسل (مُوسى وَهارُونَ) (ع) نبيين مرسلين (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي ورؤساء قومه (بِآياتِنا) أي بأدلتنا ومعجزاتنا (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإنقياد لها ، والإيمان بها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) عاصين لربهم ، مستحقين للعقاب الدائم (فَلَمَّا جاءَهُمُ) أي جاء قوم فرعون (الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) يعني ما أتى به موسى من المعجزات والبراهين (قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر (قالَ مُوسى) لهم (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) أي اتقولون لمعجزاته سحر والسحر باطل ، والمعجز حق ، وهما متضادان (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي لا يظفرون بحجة ولا يأتون على ما يدعونه ببينة وإنما هو تمويه على الضعفة (قالُوا) يعني قال فرعون وقومه لموسى (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي لتصرفنا عن ذلك (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) أي الملك عن مجاهد وقيل : العظمة والسلطان ، والأصل : ان الكبرياء استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب (فِي الْأَرْضِ) أي في أرض مصر وقيل أراد اسم الجنس والمراد به الإنكار وإن كان اللفظ لفظ الإستفهام. تعلقوا بالشبهة في أنهم على رأي آبائهم وإن من دعاهم إلى خلافه فظاهر أمره أنه يريد التأمر عليهم فلم يطيعوه (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدقين فيما تدّعيانه من النبوة.

٧٩ ـ ٨٢ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ) حكى الله سبحانه عن فرعون أنه حين اعجزه المعجزات التي ظهرت لموسى (ع) ، ولم يكن له في دفعها حيلة قال لقومه (ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) بالسحر بليغ في عمله ، وإنما طلب فرعون كل ساحر ليتعاونوا على دفع ما أتى به موسى ، وحتى لا يفوته شيء من السحر بتأخر بعضهم وإنما فعل ذلك للجهل بأن ما أتى به موسى من عند الله وليس بسحر وبعد ذلك علم أنه ليس بسحر فعاند كما قال سبحانه (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) وقيل انه علم أنه ليس بسحر ولكنه ظنّ أن السحر يقاربه مقاربة تشبيه (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) الذين طلبهم فرعون ، وأمر بإحضارهم وموسى حاضر (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) وفي الكلام حذف يدلّ عليه الظاهر وتقديره فلما أتوه بالسحرة وبالحبال والعصي قال لهم موسى القوا ما انتم ملقون أي اطرحوا ما جئتم به وقيل معناه : افعلوا ما انتم فاعلون وهذا ليس بأمر بالسحر ولكنه قال ذلك على وجه التحدي والإلزام أي من كان عنده ما يقاوم المعجزات فليلقه وقيل انه أمر على الحقيقة بالإلقاء ليظهر بطلانه وإنما لم يقتصر على قوله القوا لأنه أراد ألقوا جميع ما انتم ملقون في المستأنف فلو اقتصر على ألقوا ما أفاد هذا المعنى والإلقاء إخراج الشيء عن اليد إلى جهة الأرض ويشبّه بذلك قولهم

٢٨٣

القى عليه مسألة والقى عليه رداه (فَلَمَّا أَلْقَوْا) أي فلما القت السحرة سحرهم (قالَ مُوسى) لهم (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي الذي جئتم به من الحبال والعصي السحر ادخل عليه الألف واللام للعهد لأنهم لما قالوا لما أتى به موسى انه سحر قال (ع) ما جئتم به هو السحر عن الفراء (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي سيبطل هذا السحر الذي فعلتموه (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) معناه : إن الله لا يهيء عمل من قصد إفساد الدين ولا يمضيه ، ويبطله حتى يظهر الحق من الباطل ، والمحقّ من المبطل (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) أي يظهر الله الحق ويحققه ويثبته وينصر أهله (بِكَلِماتِهِ) قيل في معناه أقوال (أحدها) أن معناه بوعد موسى (ع) وكان وعده النصر فأنجز وعده عن الحسن (وثانيها) ان معناه بكلامه الذي يتبين به معاني الآيات التي أتاها نبيه عن الجبائي (وثالثها) بما سبق من حكمه في اللوح المحفوظ بأنّ ذلك سيكون (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ظهور الحق.

٨٣ ـ ٨٦ ـ ثم بيّن سبحانه من امن من قوم موسى (ع) فقال (فَما آمَنَ لِمُوسى) أي لم يصدق موسى في ما ادعى من النبوة مع ما أظهره من المعجزات الظاهرة (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي أولاد من قوم فرعون (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ) يعني آمنوا وهم خائفون من معرّة فرعون (وَمَلَائِهِمْ) ومن رؤسائهم (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي يصرفهم عن الدين ، يعني أن يمتحنهم لمحنة لا يمكنهم الصبر عليها فينصرفون عن الدين ، وكان جنود فرعون يعذبون بني إسرائيل فكان خوفهم منه ومنهم (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي مستكبر باغ طاغ (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي من المجاوزين الحد في العصيان (وَقالَ مُوسى) لقومه الذين آمنوا به (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) كما تظهرون (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي فاسندوا أموركم إليه إن كنتم مسلمين على الحقيقة وإنما أعاد قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) بعد قوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) ليتبين المعنى باجتماع الصفتين التصديق والانقياد أي إن كنتم آمنتم بالله فاستسلموا لأمره وفائدة الآية بيان وجوب التوكل على الله والإنقطاع إليه (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أخبر سبحانه عن حسن طاعتهم له وأنهم قالوا : اسندنا أمورنا إلى الله واثقين (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تمكن الظالمين من ظلمنا بما يحملنا على إظهار الانصراف عن ديننا عن مجاهد وقيل معناه ربنا لا تظهر علينا فرعون وقومه فيفتتن بنا الكفار ويقولوا : لو كانوا على الحق لما ظفرنا عليهم عن الحسن وأبي مجلز ، وروى زرارة ومحمد ابن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنّ معناه لا تسلطهم علينا فتفتنهم بنا (وَنَجِّنا) وخلصنا (بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي من قوم فرعون واستعبادهم إيانا ، وأخذهم جماعتنا بالأعمال الشاقة والمهن الخسيسة.

٨٧ ـ ٨٩ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ) أي أمرناهما (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) أي اتخذا لمن آمن بكما بمصر : يعني البلدة المعروفة بيوتا تسكنونها وتأوون إليها (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) اختلف في ذلك فقيل لما دخل موسى مصر بعد ما أهلك الله فرعون أمروا باتخاذ مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى وأن يجعلوا مساجدهم نحو القبلة أي الكعبة وكانت قبلتهم إلى الكعبة عن الحسن ونظيره في بيوت أذن الله أن ترفع الآية وقيل إن فرعون أمر بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة ، فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم يصلون فيها خوفا من فرعون وذلك قوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) ، أي صلوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف عن ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم وقيل معناه اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا عن سعيد بن جبير (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي اديموها وواظبوا على فعلها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالجنة وما وعد الله تعالى من الثواب وأنواع النعيم ، والخطاب لموسى (ع) (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ) أي اعطيت

٢٨٤

فرعون وقومه (زِينَةً) يتزيّنون بها من الحلي والثياب (وَأَمْوالاً) يتعظمون بها (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وإنما أعطاهم الله تعالى ذلك للإنعام عليهم مع تعريه من وجود الاستفساد (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) اللام للعاقبة والمعنى : وعاقبة أمرهم أنهم يضلون عن سبيلك ولا يجوز أن يكون لام الغرض لأنا قد علمنا بالأدلة الواضحة أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال ، ولا يريد أيضا منهم الضلال ، وكذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) فدلّ ذلك على أنه أراد به الدعاء عليهم ، والمراد بالطمس على الأموال : تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها ، قال مجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير : صارت جميع أموالهم حجارة حتى السكر (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) معناه : أمتهم بعد سلب أموالهم وأهلكهم (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) معناه : أنهم لا يؤمنون إيمان الجاء حتى يروا العذاب وهم مع ذلك لا يؤمنون إيمان اختيار أصلا. ثم أخبر سبحانه أنه أجاب لهما الدعوة فقال (قالَ) أي قال : الله تعالى لموسى وهارون (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) والداعي كان موسى (ع) لأنه كان يدعو وكان هارون يؤمن على دعائه فسماهما داعيين (فَاسْتَقِيما) أي فاثبتا على ما أمرتما من دعاء الناس إلى الإيمان بالله تعالى ، والإنذار والوعظ (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) نهاهما سبحانه عن أن يتبعا طريقة من لا يؤمن بالله ولا يعرفه ، ولا يعرف أنبياءه عليهم‌السلام.

٩٠ ـ ٩٢ ـ ثم بيّن سبحانه مآل آل فرعون وقومه فقال (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) أي عبرنا بهم البحر حتى جاوزوه سالمين يبسنا لهم البحر ، وفرقنا لهم الماء اثني عشر فرقا (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) أي ليبغوا عليهم ويظلموهم ، وذلك أن الله سبحانه لما أجاب دعاء موسى أمره بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا ، فخرج وتبعهم فرعون وجنوده مشرقين حتى انتهوا إلى البحر ، وأمر الله سبحانه موسى (ع) فضرب البحر بعصاه فانفلق ، فلما وصل فرعون بجنوده إلى البحر رأوا البحر بتلك الهيئة فهابوا دخول البحر ، وكان فرعون على حصان ادهم فجاء جبرائيل عليه‌السلام على فرس وديق وخاض البحر ، وميكائيل يسوقهم ، فلما شمّ ادهم فرعون ريح فرس جبريل (ع) انسل خلفه في الماء ، واقتحمت الخيول خلفه ، فلما دخل آخرهم البحر وهمّ أولهم أن يخرج انطبق الماء عليهم (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أي وصل إليه الغرق وايقن بالهلاك (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وكان ذلك إيمان الجاء لا يستحق به الثواب فلم ينفعه إيمانه (آلْآنَ) أي قيل له : الآن آمنت حين لا ينفع الإيمان ولا يقبل لأنه حال الإلجاء (وَقَدْ عَصَيْتَ) بترك الإيمان في حال ما ينفعك الإيمان فهلا آمنت (قَبْلُ) ذلك (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض بقتل المؤمنين وادعاء الإلهية وأنواع الكفر (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) قال أكثر المفسرين معناه : لما أغرق الله فرعون وقومه أنكر بعض بني اسرائيل غرق فرعون وقالوا : هو أعظم شأنا من أن يغرق ، فأخرجه الله حتى رأوه فذلك قوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) ، أي نلقيك على نجوة من الأرض : وهي المكان المرتفع ببدنك ، أي بجسدك من غير روح ، وذلك أنه طفا عريانا (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي لتكون نكالا لمن خلفك فلا يقولوا مثل مقالتك (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) يعني أن كثيرا من الناس عن التفكر في دلالاتنا ، والتدبر لحججنا وبيناتنا غافلون : أي ذاهبون.

٩٣ ـ (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) مكّناهم مكانا محمودا وهو بيت القدس والشام (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي مكّناهم الأشياء اللذيذة ، وهذا يدل على سعة ارزاق بني إسرائيل (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) معناه : فما اختلفوا

٢٨٥

في تصديق محمد (ص) ، يعني اليهود كانوا مقرّين به قبل مبعثه حتى جاءهم العلم ، وهو القرآن الذي جاء به محمد (ص) (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) هذا اخبار منه تعالى بأنه الذي يتولى الحكم بينهم يوم القيامة في الأمور التي يختلفون فيها.

٩٤ ـ ٩٧ ـ ثم بيّن سبحانه صحة نبوة محمد (ص) فقال (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) قال الزجاج : إن هذه الآية قد كثر سؤال الناس عنها ، وخوضهم فيها ، وفي السورة ما يدل على بيانها ، فإن الله سبحانه يخاطب النبي (ص) وذلك الخطاب شامل للخلق فالمعنى : فإن كنتم في شك فاسألوا ، والدليل عليه قوله في آخر السورة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) الآية ، فاعلم الله سبحانه أن نبيه عليه‌السلام ليس في شك ، ومثل هذا قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، فقال : طلقتم والخطاب للنبي (ص) (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) يعني بالحق القرآن والإسلام (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) أي الشاكين (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي من جملة من يجحد آيات الله ولا يصدق بها (فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي فإنك إن فعلت ذلك كنت من الخاسرين (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) معناه : ان الذين أخبر الله عنهم بغير شرط أنهم لا يؤمنون ، فنفى الإيمان عنهم ولم ينف عنهم القدرة عليه ، فإن نفي الفعل لا يكون نفيا للقدرة عليه ، كما ان الله سبحانه نفى عن نفسه مغفرة المشركين ولم يكن ذلك نفيا لقدرته على مغفرتهم ، وقيل معناه ان الذين وجب عليهم سخط ربك ، عن قتادة ، وقيل معناه : وجب عليهم وعد ربك (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) أي كل معجزة ودلالة مما يقترحونها (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الموجع فيصيروا ملجأين إلى الإيمان وفي هذا اعلام بأن هؤلاء الكفار لا لطف لهم في المعلوم يؤمنون عنده إيمان اختيار.

٩٨ ـ لما ذكر سبحانه أن إيمان فرعون لم يقبل عند معاينة العذاب ، وصل ذلك بذكر إيمان قوم يونس قبل نزول العذاب فقال (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) قيل ان معناه : فهلّا كان أهل قرية آمنوا في وقت ينفعهم إيمانهم. أعلم الله سبحانه أن الإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب ، ولا عند حضور الموت الذي لا يشك فيه ، ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب عن الزجاج قال : وقوم يونس لم يقع بهم العذاب ، إنما رأوا الآية التي تدل على العذاب ، فمثلهم مثل العليل الذي يتوب في مرضه وهو يرجو العافية ويخاف الموت وقيل ان معناه : لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتى لا يشذ منهم أحد إلّا قوم يونس فهلا كانت القرى كلها هكذا عن الحسن وقيل معناه فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها عند نزول العذاب وكشف عنهم أي لم أفعل هذا بأمة قط إلا قوم يونس (لَمَّا آمَنُوا) عند نزول العذاب كشف عنهم العذاب بعد ما تدلى عليهم وهو قوله (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) وهو وقت انقضاء آجالهم.

٩٩ ـ ١٠٠ ـ لما تقدّم أن إيمان الملجأ غير نافع بيّن سبحانه أن ذلك لو كان ينفع لأكره أهل الأرض عليه فقال (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) يا محمد (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي لآمن أهل الأرض (كُلُّهُمْ جَمِيعاً) معناه : الاخبار عن قدرة الله تعالى ، وأنه يقدر على أن يكره الخلق على الإيمان كما قال : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) ، ولذلك قال بعد ذلك (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ومعناه : انه لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان مع انك لا تقدر عليه لأن الله تعالى يقدر عليه ولا يريد لأنه ينافي التكليف ، وأراد بذلك تسلية النبي (ص) وتخفيف ما يلحقه من التحسر والحرص على إيمانهم (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ

٢٨٦

تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) معناه : انه لا يمكن أحد أن يؤمن إلا بإطلاق الله تعالى له في الإيمان ، وتمكينه منه ، ودعائه إليه بما خلق فيه من العقل الموجب لذلك (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) معناه : ويجعل العذاب على الذين لا يتفكرون حتى يعقلوا فكأنهم لا عقول لهم ، عن قتادة وابن زيد ، وقيل : الرجس : الغضب والسخط ، عن ابن عباس.

١٠١ ـ ١٠٣ ـ ثم بيّن سبحانه ما يزيد في تنبيه القوم وارشادهم فقال (قُلِ) يا محمد لمن يسألك الآيات (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الدلائل والعبر من اختلاف الليل والنهار ، ومجاري النجوم والأفلاك وما خلق من الجبال والبحار ، وأنبت من الأشجار والثمار واخرج من أنواع الحيوانات ، فإن النظر في أفرادها وجملتها يدعو إلى الإيمان وإلى معرفة الصانع ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) معناه : وما تغني هذه الدلالات والبراهين الواضحة مع كثرتها وظهورها ، ولا الرسل المخوفة عن قوم لا ينظرون في الأدلة تفكرا وتدبرا ، ولا يريدون الإيمان وقيل معناه : أيّ شيء تغني عنهم من اجتلاب نفع ، أو دفع ضرر إذا لم يستدلوا بها ، فيكون ما للاستفهام ؛ وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية هتف بها وقال : وما تغني الحجج عن قوم لا يقبلونها (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) معناه : فهل ينتظر هؤلاء الذين امروا بالإيمان فلم يؤمنوا إلا العذاب والهلاك في مثل الأيام التي هلك من قبلهم من الكفار فيها (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي قل يا محمد لهم : فانتظروا ما وعدنا الله به (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) من بينهم ونخلصهم من العذاب وقت نزوله (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) قال الحسن معناه : كنا إذا اهلكنا أمة من الأمم الماضية نجينا نبيهم ونجينا الذين آمنوا به أيضا كذلك إذا اهلكنا هؤلاء المشركين نجيناك يا محمد والذين آمنوا بك وقيل معناه كذلك حقا علينا : أي واجبا علينا من طريق الحكمة ننجي المؤمنين من عذاب الآخرة كما ننجيهم من عذاب الدنيا. وقال الامام الصادق (ع) من مات منكم على هذا الأمر انه من أهل الجنة ان الله تعالى يقول (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

١٠٤ ـ ١٠٧ ـ ثم أمر سبحانه نبيّه (ص) بالبراءة عن كل معبود سواه فقال (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) أحقّ هو أم لا (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) لشككم في ديني (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أي يقدر على إماتتكم ، وهذا يتضمن تهديدا لهم لأن وفاة المشركين ميعاد عذابهم. وقيل : كيف قال : في شك من ديني مع اعتقادهم بطلان دينه؟ فجوابه من وجوه (أحدها) أن يكون التقدير : من كان شاكا في أمري فهذا حكمه (والثاني) أنهم في حكم الشاك للاضطراب الذي يجدونه في أنفسهم عند ورود الآيات (والثالث) أن فيهم من كان شاكا فغلب ذكرهم (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي وأمرني ربّي أن أكون من المصدقين بالتوحيد ، وإخلاص العبادة له (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) هذا عطف على ما قبله فكأنه قال : وقيل لي : وأقم وجهك (لِلدِّينِ) أي استقم في الدين باقبالك على ما أمرت به من القيام باعباء الرسالة ، وتحمل أمر الشريعة بوجهك (حَنِيفاً) أي مستقيما في الدين (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذا نهي عن الاشراك مع الله سبحانه غيره في العبادة (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) ان اطعته (وَلا يَضُرُّكَ) ان عصيته وتركته ، أي لا تدعه إلها كما يدعو المشركون الأوثان آلهة (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) معناه : فإن خالفت ما أمرت به من عبادة غير الله كنت ظالما لنفسك بإدخالك الضرر الذي هو العقاب عليها ، وهذا الخطاب وإن كان متوجها إلى النبي (ص) في الظاهر فالمراد به أمته (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) معناه : وإن أحلّ الله بك ضرّا

٢٨٧

من بلاء أو شدة أو مرض (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي لا يقدر أحد على كشفه غيره ، كأنه سبحانه لما بيّن أن غيره لا ينفع ولا يضر عقّبه ببيان كونه قادرا على النفع والضرّ (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) من صحة جسم ، ونعمة وخصب ونحوها (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي لا يقدر على منعه أحد وتقديره : وإن يردك بخير ، ويجوز فيه التقديم والتأخير ، يقال : فلان يريدك بالخير ، ويريد بك الخير (يُصِيبُ بِهِ) أي بالخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فيعطيه على ما تقتضيه الحكمة ، ويعلمه من المصلحة (وَهُوَ الْغَفُورُ) لذنوب عباده (الرَّحِيمُ) بهم.

١٠٨ ـ ١٠٩ ـ ثم ختم الله سبحانه السورة بالموعظة الحسنة تسلية للنبي (ص) ، والوعد للمؤمنين ، والوعيد للكافرين فقال عزّ اسمه (قُلْ) يا محمد مخاطبا للمكلفين (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن ، ودين الإسلام ، والأدلة الدالة إلى صحته ، وقيل : يريد بالحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعجزاته الظاهرة (فَمَنِ اهْتَدى) بذلك بأن نظر فيه وعرفه حقا وصوابا (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) معناه : فإن منافع ذلك من الثواب وغيره يعود عليه (وَمَنْ ضَلَ) عنه ، وعدل عن تأمله والاستدلال به (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي على نفسه لأنه يجني عليها (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنا بحفيظ لكم عن الهلاك إذا لم تنظروا أنتم لأنفسكم ، ولم تعلموا بما يخلصها كما يحفظ الوكيل مال غيره والمعنى : انه ليس عليّ إلّا البلاغ ولا يلزمني أن أجعلكم مهتدين ، وان انجيكم من النار (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ) على أذى الكافرين وتكذيبهم (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بينك وبينهم باظهار دينه ، واعلاء أمره (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه لا يحكم إلا بالعدل والصواب.

سورة هود مكية

عدد آيها مائة وثلاث وعشرون آية

روى الثعلبي بإسناده عن أبي إسحق عن أبي جحيفة قال : قيل : يا رسول الله أسرع إليك الشيب! قال : شيبتي هود وأخواتها ، وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك عن أبي بكر قال : قلت : يا رسول الله عجّل إليك الشيب! قال شيبتني هود واخواتها الحاقة والواقعة وعم يتساءلون وهل اتاك حديث الغاشية.

١ ـ ٤ ـ قد بيّنا تفسير (الر) والأقاويل التي فيها أول البقرة فلا معنى لاعادته (كِتابٌ) يعني القرآن ، أي هو كتاب (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) ذكر فيه وجوه (أحدها) احكمت آياته فلم ينسخ منها شيء كما نسخت الكتب والشرائع ، ثم فصلّت ببيان الحلال والحرام وسائر الأحكام عن ابن عباس (وثانيها) أن معناه احكمت آياته بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد والثواب والعقاب عن الحسن وأبي العالية (وثالثها) احكمت آياته جملة ثم فرقت في الإنزال آية بعد آية ليكون المكلف أمكن من النظر والتدبر عن مجاهد (ورابعها) احكمت في نظمها بأن جعلت على أبلغ وجوه الفصاحة حتى صار معجزا ثم فصلت بالشرع والبيان المفروض فكأنه قيل محكم النظم مفصل الآيات عن أبي مسلم (وخامسها) اتقنت آياته فليس فيها خلل ولا باطل لأن الفعل المحكم ما قد اتقنه فاعله حتى لا يكون فيه خلل ثم فصلت بأن جعلت متتابعة بعضها أثر بعض (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) أي أنّ هذا الكتاب أتاكم من عند حكيم في أحواله وتدابيره (خَبِيرٍ) أي عليم بأحوال خلقه ومصالحهم وفي الآية دلالة على أن كلام الله سبحانه محدث لأنه وصفه بأنه احكمت آياته ثم فصلت والإحكام من صفات الأفعال وكذلك التفصيل ثم قال من لدن حكيم وهذه الإضافة لا تصح الّا في المحدث لأن القديم يستحيل أن يكون صادرا من غيره وقوله (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) معناه انزل هذا الكتاب ليأمركم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ولكي لا تعبدوا إلّا الله

٢٨٨

كما يقال كتبت إليك أن لا تخرج من الدار وأن لا تخرج بالنصب والجزم (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) هذا اخبار من النبي (ص) أنه مخوف من مخالفة الله وعصيانه بأليم العقاب ، ومبشّر على طاعته بجزيل الثواب (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ومعناه : اطلبوا المغفرة واجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليها بالتوبة (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني أنكم متى استغفرتموه وتبتم إليه يمتعكم في الدنيا بالنعم السابغة في الخفض والدعة والأمن والسعة إلى الوقت الذي قدّر لكم أجل الموت فيه (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) معناه : يعطي كل ذي عمل صالح فضله ، أي ثوابه على قدر عمله ، فإنّ من كثرت طاعاته في الدنيا زادت درجاته في الجنة (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي اعرضوا عما أمروا به (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أي كبير شأنه ، وهو يوم القيامة ، أي فقل لهم يا محمد إني اعلم أن لكم عذابا عظيما ، وإنما وصف اليوم بالكبير لعظم ما فيه من الأهوال (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أي في ذلك اليوم إلى حكم الله مصيركم لأن حكم غيره يزول فيه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على الإعادة والبعث والجزاء فاحذروا مخالفته.

٥ ـ لمّا تقدّم ذكر القرآن بيّن سبحانه فعلهم عند سماعه فقال (أَلا إِنَّهُمْ) يعني الكفار والمنافقين (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أي يطوونها على ما هم عليه من الكفر (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) ليخفوا ذلك من الله تعالى (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) معناه : انهم يتغطون بثيابهم ثم يتفاوضون فيما كانوا يدبرونه على النبي (ص) وعلى المؤمنين فيكتمونه ، فبيّن الله سبحانه أنه (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) وقت ما يتغطّون بثيابهم ويجعلونها غشاء فوقهم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يريد بما في النفوس وما في القلوب من المضمرات.

٦ ـ ٨ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) أي ليس من دابة تدبّ على وجه الأرض ، ويدخل فيه جميع ما خلقه الله تعالى على وجه الأرض من الجن والإنس والطير والأنعام والوحوش والهوام (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) أي إلّا والله سبحانه يتكفل برزقها ويوصله إليها على ما تقتضيه المصلحة ، وتوجبه الحكمة (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) مستقرها : حيث تأوي إليه من الأرض ، ومستودعها : حيث تموت وتبعث منه (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) هنا اخبار منه سبحانه أن جميع ذلك مكتوب في كتاب ظاهر وهو اللوح المحفوظ ، وإنما أثبت سبحانه ذلك مع انه عالم لذاته لا يعزب عن علمه شيء من مخلوقاته لما فيه من اللطف للملائكة ، أو لمن يخبر بذلك (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) هذا اخبار منه سبحانه عن نفسه بأنه انشأهما في هذا المقدار من الزمان مع قدرته على أن يخلقهما في مقدار لمح البصر ، والوجه في ذلك : انه سبحانه أراد أن يبين بذلك أن الأمور جارية في التدبير على منهاج الحكمة ، منشأة على ترتيب لما في ذلك من المصلحة (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) في هذا دلالة على أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق السماوات والأرض ، وكان الماء قائما بقدرة الله تعالى على غير موضع قرار بل كان الله يمسكه بكمال قدرته ، وفي ذلك اعظم الاعتبار لأهل الإنكار ، وقيل ان المراد بقوله : عرشه : بناؤه ، يدل عليه قوله : (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) : أي يبنون وكان بناؤه على الماء ، فإن البناء على الماء أبدع وأعجب ، عن أبي مسلم (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) معناه : انه خلق الخلق ودبّر الأمور ليظهر إحسان المحسن ، فإنه الغرض في ذلك ، أي ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر لئلا يتوهم أنه سبحانه يجازي العباد على حسب ما في معلومه انه يكون منهم قبل أن يفعلوه (وَلَئِنْ قُلْتَ) يا محمد لهم (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) للحساب والجزاء (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ليس هذا القول إلّا تمويه ظاهر لا حقيقة له. قال الجبائي وفي الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأرض الملائكة ، لأن خلق العرش

٢٨٩

على الماء لا وجه لحسنه إلّا أن يكون فيه لطف لمكلف يمكنه الاستدلال به ، فلا بدّ إذا من حيّ مكلف وقال علي بن عيسى : لا يمتنع أن يكون في الاخبار بذلك مصلحة للمكلفين فلا يجب ما قاله الجبائي وهو الذي اختاره المرتضى قدّس الله روحه (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) معناه : ولئن اخرنا عن هؤلاء الكفار عذاب الاستئصال إلى أجل مسمى ، ووقت معلوم والأمة المعدودة هم أصحاب المهدي (ع) في آخر الزمان ثلثمائة وبضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر ، يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام(لَيَقُولُنَ) على وجه الإستهزاء (ما يَحْبِسُهُ) أي أيّ شيء يؤخّر هذا العذاب عنا إن كان حقا؟ (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) أي ان هذا العذاب الذي يستبطئونه إذا نزل بهم في الوقت المقدور لا يقدر أحد على صرفه عنهم إذا أراد الله أن يأتيهم به ، ولا يتمكن من إذهابه عنهم إذا أراد الله أن يأتيهم به (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ونزل الذي كانوا يسخرون به من نزول العذاب.

٩ ـ ١١ ـ ثم بيّن سبحانه حال الإنسان فيما قابل به نعمه من الكفر فقال (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) أي أحللنا به نعمة من الصحة والكفاية والسعة من المال والولد وغير ذلك من نعم الدنيا (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) أي سلبنا تلك النعمة عنه إذا رأينا المصلحة فيه (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) أي قنوط ، وهو الذي سنته وعادته اليأس (كَفُورٌ) وهو الذي عادته كفران النعمة ومعنى الآية مصروف إلى الكفار الذين هذه صفتهم لجهلهم بالصانع الحكيم الذي لا يعطي ولا يمنع إلا لما تقتضيه الحكمة من وجوه المصالح (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ) أي احللنا به واعطيناه (نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي بعد بلاء اصابته (لَيَقُولَنَ) عند نزول النعماء به (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) أي ذهبت الخصال التي تسوء صاحبها من جهة نفور طبعه عنه ، وهو هاهنا بمعنى الشدائد والألام والأمراض (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) يفرح به ويفخر به على الناس ، فلا يصبر في المحنة ، ولا يشكر عند النعمة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) معناه : إلا الذين قابلوا الشدة بالصبر ، والنعمة بالشكر (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي واظبوا على الأعمال الصالحة (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو الجنة.

١٢ ـ ١٤ ـ ثم أمر سبحانه رسوله بالثبات على الأمر ، وحثّه على حجاج القوم بما يقطع العذر فقال (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) أي ولعلك تارك بعض القرآن وهو ما فيه سبّ آلهتهم ، ولا تبلغهم إياه دفعا لشرّهم ، وخوفا منهم (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي ولعلك يضيق صدرك مما يقولونه ، وبما يلحقك من أذاهم وتكذيبهم (أَنْ يَقُولُوا) أي كراهة أن يقولوا ، أو مخافة أن يقولوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) من المال (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يشهد له (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) أي منذر (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حفيظ ، يجلب النفع إليه ويدفع الضرر عنه (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) معناه : بل ايقولون : اختلق القرآن واخترعه ، وأتى به من عند نفسه؟ (قُلْ) يا محمد لهم (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) أي إن كان هذا مفترى على الله كما زعمتم فاتوا أنتم بعشر سور مثله في النظم والفصاحة مفتريات على زعمكم ، فإن القرآن نزل بلغتكم ، وقد نشأت أنا بين أظهركم ، فإن لم يمكنكم ذلك فاعلموا انه من عند الله تعالى ، وهذا صريح في التحدي وفيه دلالة على جهة اعجاز القرآن (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) معناه : ادعوهم ليعينوكم على معارضة القرآن إن كنتم صادقين في قولكم إني افتريته ، ويريد بقوله : (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) من خالف نبينا (ص) من جميع الأمم ، وهذا غاية ما يمكن في التحدي والمحاجة ، وفيه الدلالة الواضحة على اعجاز القرآن ، لأن إذا ثبت أن النبي (ص) تحداهم به ، واوعدهم بالقتل والأسر بعد أن عاب دينهم وآلهتهم ، وثبت أنهم كانوا أحرص الناس على

٢٩٠

إبطال أمره حتى بذلوا مهجهم وأموالهم في ذلك ، فإذا قيل لهم : افتروا أنتم مثل هذا القرآن وادحضوا حجته وذلك ايسر وأهون عليكم من كل ما تكلفتموه ، فعدلوا عن ذلك وصاروا إلى الحرب والقتل ، وتكلف الأمور الشاقة ، فذلك من أدلّ الدلائل على عجزهم (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) انه خطاب للمسلمين والمراد : فإن لم يجبكم هؤلاء الكفار إلى الاتيان بعشر سور مثله معارضة لهذا القرآن (فَاعْلَمُوا) أيها المسلمون (أَنَّما أُنْزِلَ) القرآن (بِعِلْمِ اللهِ) وقيل هو خطاب للكفار وتقديره : فإن لم يستجب لكم من تدعونهم إلى المعاونة ، ولم يتهيأ لكم المعارضة ، فقد قامت عليكم الحجة (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي واعلموا أنه لا إله إلا هو ، لأن مثل هذا المعجز لا يقدر عليه إلا الله الواحد الذي لا إله إلّا هو (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي هل انتم بعد قيام الحجة عليكم بما ذكرناه من كلام الله مستسلمون منقادون له؟ معتقدون لتوحيده ، وهذا استفهام في معنى الأمر مثل قوله : فهل انتم منتهون.

١٥ ـ ١٦ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) أي زهرتها وحسن بهجتها ولا يريد الآخرة (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) أي نوفّر عليهم جزاء أعمالهم في الدنيا تاما (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) والمراد به المشركون الذين لا يصدّقون بالبعث ، يعملون أعمال البر : كصلة الرحم ، واعطاء السائل ، والكف عن الظلم ، وإغاثة المظلوم ، والأعمال التي يحسنها العقل : كبناء القناطر ونحوه ، فإن الله يعجل لهم جزاء أعمالهم في الدنيا بتوسيع الرزق ، وصحة البدن (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) ظاهر المراد (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) فلا يستحقون عليه ثوابا لأنهم أوقعوه على خلاف الوجه المأمور بإيقاعه عليه (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بطلت أعمالهم.

١٧ ـ ٢٢ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) استفهام يراد به التقرير وتقديره : هل الذي كان على برهان وحجة من الله؟ والمراد بالبينة هنا القرآن والمعني بقوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) النبي (ص) (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي ويتبعه من يشهد بصحته منه ، والشاهد منه علي بن أبي طالب عليه‌السلام يشهد للنبي (ص) وهو منه ، وهو المروي عن ابي جعفر وعلي بن موسى الرضا عليهما‌السلام ، ورواه الطبري بإسناده عن جابر ابن عبد الله عن علي عليه‌السلام (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي ومن قبل القرآن لأنه مدلول عليه فيما تقدم من الكلام (كِتابُ مُوسى) يتلوه أيضا في التصديق ، لأن النبي (ص) بشّر به موسى في التوراة (إِماماً) يؤتم به في أمور الدين (وَرَحْمَةً) أي ونعمة من الله تعالى على عباده (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) معناه : أولئك الذين هم على بينة من ربهم يؤمنون بالقرآن وتقدير الآية : أفمن كان على بينة من ربه وبصيرة كمن ليس على بينة ولا بصيرة إلّا أنه اختصر ثم أخبر عنه فقال : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) قوله (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) معناه : ومن يكفر بالقرآن من مشركي العرب وفرق الكفار كاليهود والنصارى وغيرهم فالنار موعده ومصيره ومستقره ، وفي الحديث أن النبي (ص) قال : لا يسمع بي أحد من الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي في شك (مِنْهُ) تقديره : لا تك أيها الإنسان أو أيها السامع في مرية من ربك ، أي من أمره وإنزاله (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) الهاء راجع إلى القرآن (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بصحته وصدقه لجهلهم بالله تعالى ، وجحدهم لنبوة نبيه (ص) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم منه إلا أنه خرج مخرج الاستفهام ليكون ابلغ (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) يوم القيامة ، أي يوقفون موقفا يراهم الخلائق للمطالبة بما عملوا ، ويسألون عن أعمالهم ويجازون عليها (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) يعني الملائكة يشهدون على العباد وهم الحفظة عن مجاهد ، وقيل : هم الأنبياء عن الضحاك ، وقيل : هم شهداء كل عصر من أئمة المؤمنين (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي كذبوا على رسل ربهم وأضافوا إلى الله ما لم ينزله (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) هذا ابتداء خطاب من الله

٢٩١

ومعناه : ألا لعنة الله على الذين ظلموا أنفسهم بادخال الضرر عليها ، وغيرهم بإحلال الآلام عليهم ، ولعنة الله ابعاده من رحمته. ثم وصف سبحانه الظالمين الذين لعنهم فقال (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يغوون الخلق ويصرفونهم عن دين الله ، وقد يكون ذلك بإلقاء الشبهة إليهم ، وقد يكون أيضا بالترغيب والترهيب والأطماع والتهديد وغير ذلك (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويطلبون لسبيل الله زيغا عن الاستقامة ، وعدولا عن الصواب (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالقيامة والبعث والنشور والثواب والعقاب (هُمْ كافِرُونَ) أي جاحدون غير مقرّين (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) بأنهم لم يكونوا فائتين في الأرض هربا فيها من الله تعالى (ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) معناه : انه ليس لهم من ولي ولا ناصر ينصرونهم ويحمونهم من الله سبحانه مما يريد إيقاعه بهم في الدنيا من المكاره ، وفي الآخرة من أنواع العذاب (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) كلما مضى ضرب من العذاب يعقبه ضرب آخر من العذاب مثله أو فوقه كذلك دائما مؤبدا ، وكل ذلك على قدر الاستحقاق (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون ، وبما كانوا يستطيعون الابصار فلا يصدقون ، عنادا وذهابا عن الحق ، فاسقطت الباء عند الكلام (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من حيث فعلوا ما استحقّوا به العقاب فهلكوا فذلك خسران أنفسهم ، وخسران النفس أعظم الخسران لأنه ليس عنها عوض (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) مضى بيانه مرارا (لا جَرَمَ) قال الزجاج : لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم ، كأن المعنى : لا ينفعهم ذلك (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران ، وقال غيره : معناه : لا بدّ ولا محالة أنهم.

٢٣ ـ ٢٤ ـ لما تقدّم ذكر الكفار وما أعد الله لهم من العذاب عقّبه سبحانه بذكر المؤمنين فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا الله ورسوله ، واعتقدوا وحدانيته (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) التي أمرهم الله تعالى بها ، ورغّبهم فيها (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي أنابوا وتضرّعوا إليه عن ابن عباس ، وقيل معناه : اطمأنوا إلى ذكره عن مجاهد ، وقيل : خضعوا له وخشعوا إليه عن قتادة ، والكل متقارب وقيل : إن معناه : وأخبتوا لربهم ، فوضع إلى موضع اللام كما قال سبحانه ، (أَوْحى لَها) ، بمعنى أوحى إليها ، وقال : ينادي للإيمان (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ظاهر المعنى : ثم ضرب سبحانه مثلا للمؤمنين والكافرين فقال (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) أي مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع ، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم ، لأن المؤمن ينتفع بحواسه لاستعماله إياها في الدين ، والكافر لا ينتفع بها فصارت حواسه بمنزلة المعدوم ، وإنما دخل الواو ليبيّن ان حال الكافر كحال الأعمى على حدة ، وكحال الأصم على حدة ، وحال من يكون جمع بين الصفتين جميعا (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي هل يستوي حال الأعمى الأصم ، وحال البصير السميع عند عاقل؟ فكما لا تستوي هاتان الحالتان عند العقلاء كذلك لا تستوي حال الكافر والمؤمن (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتفكرون في ذلك فتسلموا صحة ما ذكرناه.

٢٥ ـ ٢٨ ـ لما تقدّم ذكر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب عقب ذلك سبحانه بذكر أخبار الانبياء تأكيدا لذلك وتخويفا للقوم وتسلية للنبي (ص) وبدأ بقصة نوح (ص) فقال (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) وقد مرّ بيانه (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي انذركم أن لا تعبدوا إلّا الله عن الزجاج يريد لأن توحدوا الله وتتركوا عبادة غيره وبدأ بالدعاء إلى الإخلاص في العبادة وقيل إنه دعاهم إلى التوحيد لأنه من أهمّ الأمور إذ لا يصح شيء من العبادات إلا بعد التوحيد (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) إنما قال : أخاف مع أن عقاب الكفار

٢٩٢

مقطوع عليه لأنه لم يعلم ما يؤل إليه عاقبة أمرهم من إيمان أو كفر ، وهذا لطف في الاستدعاء ، وأقرب إلى الإجابة في الغالب (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم نوح لنوح (ع) (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) ظنا منهم أن الرسول إنما يكون من غير جنس المرسل إليه ، ولم يعلموا أن البعثة من الجنس قد تكون أصلح ، ومن الشبهة أبعد (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) أي لم يتبعك الملأ والأشراف والرؤساء منا وإنما اتبعك اخساؤنا الذين لا مال لهم ولا جاه (بادِيَ الرَّأْيِ) أي في ظاهر الأمر والرأي ، لم يتدبروا ما قلت ، ولم يتفكروا فيه وقال الزجاج معناه اتبعوك في الظاهر وباطنهم على خلاف ذلك ومن قرأ بالهمز فالمعنى أنهم اتبعوك ابتداء الرأي أي حين ابتدأوا ينظرون ولو فكّروا لم يتبعوك وقيل معناه ان في مبتدأ وقوع الرؤية عليهم يعلم أنهم ارذالنا واسافلنا (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي وما نرى لك ولقومك علينا من فضل ، فإن الفضل إنما يكون في كثرة المال والمنزلة في الدنيا ، والشرف في النسب ، وإنما قالوا ذلك لأنهم جهلوا طريقة الاستدلال ولو استدلوا بالمعجزات الدالة على نبوته لعلموا أنه نبي ، وأن من آمن به مؤمن ، ومن خالفه كافر ، وعرفوا حقيقة الفضل وهكذا عادة أرباب الدنيا يستحقرون أرباب الدين إذا كانوا فقراء ، ويستذلونهم وإن كانوا هم الأكرمين الأفضلين عند الله سبحانه (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) هذا تمام الحكاية عن كفار قوم نوح قالوه لنوح ومن آمن به (قالَ) نوح لقومه (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على برهان وحجة يشهد بصحة النبوة وهي المعجزة فإن الواجب اتباع الحجة والدلالة (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) ردّ عليهم بهذا جميع ما ادّعوه ، والرحمة والنعمة هي هاهنا النبوة (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي خفيت عليكم لقلة تدبركم فيها (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أتريدون منّي أن أكرهكم إلى المعرفة ، وألجئكم اليها على كره منكم؟ هذا غير مقدور لي.

٢٩ ـ ٣١ ـ (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) أي لا أطلب منكم على دعائكم إلى الله أجرا فتمتنعون من إجابتي خوفا من أخذ المال (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ما ثوابي وما أجري في ذلك إلّا على الله (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي لست اطرد المؤمنين من عندي ولا ابعدهم على وجه الإهانة وقيل : انهم كانوا سألوه طردهم ليؤمنوا له انفة من أن يكونوا معهم على سواء عن ابن جريج والزجاج (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) وهذا يدل على انهم سألوه طردهم وأعلمهم أنه لا يطردهم لأنهم ملاقوا ربهم فيجازي من ظلمهم وطردهم بجزائه من العذاب وقيل معناه : انهم ملاقوا ثواب ربهم فكيف يكونون ارذال وكيف يجوز طردهم وهم لا يستحقون ذلك (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) الحق وأهله وقيل معناه : تجهلون أن الناس إنما يتفاضلون بالدين لا بالدنيا وقيل تجهلون فيما تسألون من طرد المؤمنين (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) معناه : من يمنعني من عذاب الله إن أنا طردت المؤمنين فكانوا خصمائي عند الله في الآخرة (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتفكرون فتعلمون أن الأمر على ما قلته (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) هذا تمام الحكاية عما قاله لقومه ومعناه اني لا أرفع نفسى فوق قدرها فأدّعي أن عندي مقدورات الله تعالى فأفعل ما أشاء ، وأعطي ما أشاء ، وأمنع من اشاء (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي ولا ادّعي علم الغيب حتى أدلّكم على منافعكم ومضاركم (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) فأخبركم بخبر السماء من قبل نفسي وإنما أنا بشر لا أعلم الأشياء من غير تعليم الله تعالى (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) أي لا أقول لهؤلاء المؤمنين الذين تستقلّونهم وتحقرهم أعينكم لما ترون عليهم من زي الفقراء (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي لا يعطيهم الله في المستقبل خيرا على أعمالهم ولا يثيبهم عليها ، بل أعطاهم الله كل خير في الدنيا من التوفيق ، ويعطيهم كل خير في الآخرة من الثواب (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) أي بما في قلوبهم من الإخلاص

٢٩٣

وغيره (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ان طردتهم.

٣٢ ـ ٣٥ ـ ثم حكى الله سبحانه جواب قوم نوح عما قاله لهم فقال (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) أي خاصمتنا وحاججتنا (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) أي زدت في مجادلتنا على مقدار الكفاية (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أن الله تعالى يعذبنا على الكفر (قالَ) نوح (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) أي لا يأتي بالعذاب إلا الله سبحانه متى شاء لا يقدر عليه غيره ، فإن شاء عجّل ، وإن شاء أخّر (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لا تفوتونه بالهرب (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) إن كان الله يريد أن يخيبكم من رحمته بأن يحرمكم ثوابه ، ويعاقبكم لكفركم به فلا ينفعكم نصحي إن اردت أن انصح لكم ، وقد سمّى الله سبحانه العقاب غيّا بقوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ويشهد بصحة ما قلناه قول الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

ولما خيّب الله سبحانه قوم نوح من رحمته ، واعلم الله نوحا عليه‌السلام بذلك في قوله : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) ، قال لهم : لا ينفعكم نصحي مع إيثاركم ما يوجب خيبتكم ، والعذاب الذي جرّه إليكم قبيح أفعالكم ، وإذا طرأ شرط على شرط كان الثاني مقدما على الأول في المعنى ، وإن كان مؤخرا في اللفظ ، والتقدير : ولا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم ان أردت أن انصح لكم (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي هو خالقكم ورازقكم ، وإلى حكمه وتدبيره تصيرون فيجازيكم على أعمالكم (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) يعني بذلك محمدا (ص) (قُلْ) لهم يا محمد (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) واختلقته كما تزعمون (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي عقوبة جرمي لا تؤخذون به (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي لا أؤخذ بجرمكم.

٣٦ ـ ٣٩ ـ (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) أعلم الله سبحانه نوحا أنه لن يؤمن به أحد من قومه في المستقبل (فَلا تَبْتَئِسْ) أي لا تغتم ولا تحزن (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) فلما علم أن أحدا منهم لا يؤمن فيما بعد ولا من نسلهم دعا عليهم فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً). فلما أراد الله اهلاكهم أمر نبيّه باتخاذ السفينة له ولقومه فقال (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن بك (بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى منا والتأويل : بحفظنا إياك حفظ الرائي لغيره إذا كان يدفع الضرر عنه وذكر الأعين لتأكيد الحفظ وقيل أراد بالأعين الملائكة الموكلين بك وبحضرتهم وهم ينظرون بأعينهم إليك وإنما أضاف ذلك إلى نفسه إكراما وتعظيما لهم وقوله (وَوَحْيِنا) معناه : وعلى ما أوحينا إليك من صفتها وحالها عن أبي مسلم وقيل المراد بوحينا اليك أن اصنعها وذلك أنه (ع) لم يعلم صنعة الفلك فعلّمه الله تعالى عن ابن عباس (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي لا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا من قومك ، ولا تشفع لهم فإنهم مغرقون عن قريب ، وهذا غاية في الوعيد كما يقول الملك لوزيره لا تذكر حديث فلان بين يدي وقيل إنه عنى به امرأته وابنه وإنما نهاه عن ذلك ليصونه عن سؤال ما لا يجاب إليه وليصرف عنه مأثم الممالأة للطغاة (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) أي وجعل نوح (ع) يصنع الفلك كما أمره الله (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) أي كلما اجتاز به جماعة من اشراف قومه ورؤسائهم وهو يعمل السفينة هزؤوا من فعله وقيل انهم كانوا يقولون له يا نوح صرت نجارا بعد النبوة على طريق الإستهزاء وقيل إنما كانوا يسخرون من عمل السفينة لأنه كان يعملها في البر على صفة من الطول والعرض ولا ماء هناك يحمل مثلها فكانوا يتضاحكون ويتعجبون من عمله (قالَ) أي كان يقول لهم (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) والمراد : ان تستجهلونا في هذا الفعل فإنا نستجهلكم عند نزول العذاب بكم كما

٢٩٤

تستجهلونا (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيّنا أحق بالسخرية (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يهينه ويفضحه في الدنيا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي وينزل عليه عذاب دائم في الآخرة.

٤٠ ـ ٤٣ ـ ثم أخبر سبحانه عن اهلاك قوم نوح فقال (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) والمعنى : فذلك حاله وحالهم حتى إذا جاء قضاؤنا بنزول العذاب (وَفارَ التَّنُّورُ) بالماء ، أي ارتفع الماء بشدة اندفاع (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي قلنا لنوح (ع) لما فار الماء من التنور : احمل في السفينة من كل جنس من الحيوان زوجين : أي ذكر وانثى (وَأَهْلَكَ) أي واحمل أهلك وولدك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي من سبق الوعد باهلاكه والإخبار بأنه لا يؤمن وهي امرأته الخائنة واسمها واغلة وابنها كنعان (وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل فيها من آمن بك من غير أهلك. ثم أخبر سبحانه فقال (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) أي إلّا نفر قليل وهم ثمانون (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) أي وقال نوح لمن آمن معه : اركبوا في السفينة (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) قائلين : بسم الله وقت اجرائها ووقت ارسائها : أي اثباتها وحبسها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا حكاية عما قاله نوح لقومه ، ووجه اتصاله بما قبله : انه لما ذكرت النجاة بالركوب في السفينة ذكرت النعمة بالمغفرة والرحمة لتجتلبا بالطاعة كما اجتلبت النجاة بركوب السفينة (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) معناه : ان السفينة كانت تجري بنوح ومن معه على الماء في أمواج كالجبال في عظمتها وارتفاعها ، ودل بتشبيهها بالجبال على أن ذلك لم يكن موجا واحدا بل كان كثيرا (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) كنعان (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) أي في قطعة من الأرض غير القطعة التي كان نوح فيها حين ناداه ، وكان نوح يظن أنه مسلم فلذلك دعاه (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) دعا ابنه إلى أن يركب معه في السفينة ، دعاه ليسلمه من الغرق قال أبو مسلم : دعاه بشرط الإيمان ومعناه : يا بني آمن بالله ثم اركب معنا ، ولا تكن على دين الكافرين (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ) أي سأرجع إلى مأوى من جبل (يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي يمنعني من آفات الماء (قالَ) نوح (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي لا مانع ولا دافع اليوم من عذاب الله إلّا من رحمه‌الله بايمانه ، فآمن بالله يرحمك الله (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ) أي فصار (مِنَ الْمُغْرَقِينَ).

٤٤ ـ ثم بيّن سبحانه الحال بعد انتهاء الطوفان فقال (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) أي قال الله سبحانه للأرض انشفي ماءك الذي نبعت به العيون ، واشربي ماءك حتى لا يبقى على وجهك شيء منه ، وهذا اخبار عن ذهاب الماء عن وجه الأرض بأوجز مدة فجرى مجرى ان قيل لها : ابلعي فبلعت (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أي وقال تعالى للسماء : يا سماء أمسكي عن المطر ، وهذا اخبار عن اقشاع السحاب ، وانقطاع المطر في أسرع زمان فكأنه قال لها : اقلعي فأقلعت (وَغِيضَ الْماءُ) أي ذهب به عن وجه الأرض إلى باطنه والمعنى : ونشفت الأرض ماءها (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي وقع اهلاك الكفار على التمام ، وفرغ من الأمر (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) أي استقرت السفينة على الجبل المعروف (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قال الله تعالى ذلك ومعناه : أبعد الله الظالمين من رحمته لإيرادهم أنفسهم مورد الهلاك. وفي هذه الآية من بدائع الفصاحة ، وعجائب البلاغة ما لا يقاربه كلام البشر ولا يدانيه ، منها : انه خرج مخرج الأمر وإن كانت الأرض والسماء من الجماد ليكون أدل على الإقتدار ، ومنها : حسن تقابل المعنى ، وائتلاف الألفاظ ، ومنها : حسن البيان في تصوير الحال ، ومنها الإيجاز من غير اخلال ، إلى غير ذلك مما يعلمه من تدبّره وله معرفة بكلام العرب ومحاوراتهم ، ويروى ان كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البر ، ولحوم الضأن وسلاف الخمر ، أربعين يوما لتصفوا أذهانهم ، فلما

٢٩٥

أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية فقال بعضهم لبعض : هذا كلام لا يشبهه شيء من الكلام ، ولا يشبه كلام المخلوقين ، وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.

٤٥ ـ ٤٩ ـ ثم حكى سبحانه تمام قصة نوح (ع) فقال (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) نداء تعظيم ودعاء (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) معناه : يا مالكي وخالقي ورازقي وعدتني بتنجية أهلي وان ابني من اهلي وإن وعدك الحق لا خلف فيه فنجه إن كان ممن وعدتني بنجاته (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) في قولك وفعلك (قالَ) الله سبحانه (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) وقد قيل في معناه أقوال (أحدها) انه كان ابنه لصلبه والمعنى : أنه ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم معك ، لأن الله سبحانه قد استثنى من أهله الذين وعده أن ينجيهم ممن أراد اهلاكهم بالغرق فقال : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة واختاره الجبائي (وثانيها) ان المراد بقوله (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) انه ليس على دينك فكأن كفره اخرجه عن ان يكون له أحكام أهله قال : قال أبو عبد الله (ع): ان الله تعالى قال لنوح : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ، لأنه كان مخالفا له ، وجعل من اتبعه من أهله ، (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) التقدير : ان ابنك ذو عمل غير صالح (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إنما سأل نوح (ع) نجاة ابنه بشرط المصلحة لا على سبيل القطع فبيّن سبحانه أن المصلحة في غير نجاته (إِنِّي أَعِظُكَ) أي أحذرك والوعظ : الدعاء إلى الحسن والزجر عن القبيح على وجه الترغيب والترهيب (أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) معناه : لا تكن منهم قال الجبائي يعني إني اعظك لئلا تكون من الجاهلين ولا شك أن وعظه سبحانه يصرف عن الجهل وينزّه عن القبيح (قالَ) نوح عند ذلك (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي اعتصم بك أن أسألك ما لا أعلم انه صواب وانك تفعله ، ومعنى العياذ بالله : الإعتصام به طلبا للنجاة ، ومعناه ههنا : الخضوع والتذلل لله سبحانه ليوفقه ولا يكله إلى نفسه (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) إنما قال ذلك على سبيل التخشع والاستكانة لله تعالى وإن لم يسبق منه ذنب ، ثم حكى الله سبحانه ما أمر به نوحا حين استقرت السفينة على الجبل بعد خراب الدنيا بالطوفان فقال (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) أي انزل من السفينة (بِسَلامٍ مِنَّا) أي بسلامة منا ونجاة (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) أي ونعم دائمة وخيرات نامية ثابتة حالا بعد حال عليك (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) معناه : وعلى أمم من ذرية من معك (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) معناه : انه يكون من نسلهم أمم سنمتعهم في الدنيا بضروب من النعم فيكفرون ونهلكهم ، ثم يمسّهم بعد الهلاك عذاب مؤلم ثم اشار سبحانه إلى ما تقدم ذكره من أخبار قوم نوح فقال (تِلْكَ) أي تلك الأنباء (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من اخبار ما غاب عنك معرفته (نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) أي ان هذه الأخبار التي اعلمناكها لم تكن تعلمها انت ولا قومك من العرب يعرفونها من قبل إيحائنا اليك لأنهم لم يكونوا أهل كتاب وسير (فَاصْبِرْ) أي فاصبر على القيام بأمر الله وعلى أذى قومك يا محمد كما صبر نوح على أذى قومه ، وهذا أحد الوجوه التي لأجلها كرّر الله قصص الأنبياء عليهم‌السلام ليصبر النبي (ص) على ما كان يقاسيه من أمور الكفار الجهال حالا بعد حال (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أي ان العاقبة المحمودة وخاتمة الخير والنصرة للمتقين كما كانت لنوح (ع).

٥٠ ـ ٦٠ ـ ثم عطف سبحانه قصة هود على قصة نوح فقال (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) أراد أخاهم في النسب دون الدين (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده وأطيعوه دون الأصنام (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) نفى أن يكون لهم معبود يستحق العبادة غير الله عزّ اسمه (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي ما انتم إلّا كاذبون في

٢٩٦

قولكم ان الأصنام آلهة (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي لست أطلب منكم على دعائي لكم إلى عبادة الله جزاء (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) أي ليس جزائي إلّا على الله الذي خلقني (أَفَلا تَعْقِلُونَ) عني ما أقول لكم فتعلمون أن الأمر على ما أقوله (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) قد بيّنا وجه تقديم الاستغفار على التوبة في أول هذه السورة (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي يرسل المطر عليكم متتابعا متواترا دارّا وكانوا قد اجدبوا ، فوعدهم هود أنهم إن تابوا اخصبت بلادهم ، وامرعت وهادهم واثمرت اشجارهم ، وزكت ثمارهم بنزول الغيث الذي يعيشون به ، وهذا مثل قوله (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) فسّرت القوة هنا بالمال والولد والشدة وكل ذلك مما يتقوّى به الإنسان قال علي بن عيسى : يريد عزّا إلى عزّكم ، بكثرة عددكم وأموالكم ، وقيل : قوة في إيمانكم إلى قوة أبدانكم (وَلا تَتَوَلَّوْا) عما أدعوكم إليه (مُجْرِمِينَ) أي مشركين كافرين (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) أي بحجة ومعجزة تبين صدقك (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) أي لسنا بتاركي عبادة الأصنام لأجل قولك (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي مصدّقين ؛ وإنما حملهم على دفع البينة مع ظهورها أشياء منها : تقليد الآباء والرؤساء ، ومنها : انه دخلت عليهم الشبهة في صحتها ، ومنها : اعتقادهم ان عبادتهم تقربهم إلى الله زلفى ، ومنها أن الشيطان ربما ألقى إليهم أن عبادتها تحظيهم في الدنيا (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) المعنى : لسنا نقول فيك إلّا أنه اصابك بعض آلهتنا بسوء فخبل عقلك لشتمك لها وسبّك إياها (قالَ) أي قال هود لقومه (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا) أي وأشهدكم أيضا بعد اشهاد الله (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ) أي إن كنتم تزعمون أن آلهتكم عاقبتني لطعني عليها فإني على بصيرة في البراءة مما تشركون مع الله من آلهتكم التي تزعمون أنها اصابتني بسوء وإنما اشهدهم على ذلك وإن لم يكونوا أهل شهادة من حيث كانوا كفارا فساقا إقامة للحجة عليهم فقال هذا القول اعذارا وانذارا (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أي فاحتالوا واجتهدوا انتم وآلهتكم في انزال مكروه بي ثم لا تمهلوني. قال الزجاج : وهذا من أعظم آيات الأنبياء أن يكون الرسول وحده وامته متعاونة عليه فيقول لهم : كيدوني فلا يستطيع واحد منهم ضرّه ، وكذلك قال نوح لقومه : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) الآية ، وقال نبينا (ص): فإن كان لكم كيد فكيدون ، ومثل هذا القول لا يصدر إلّا عمن هو واثق بنصر الله وبأنه يحفظه عنهم ويعصمه منهم. ثم ذكر هود (ع) هذا المعنى فقال (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي فوّضت أمري إلى الله سبحانه متمسكا بطاعته ، تاركا لمعصيته ، وهذا هو حقيقة التوكل على الله سبحانه (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي ما من حيوان يدبّ على وجه الأرض إلّا وهو مالك لها يصرفها كيف شاء ويقهرها ، وجعل الأخذ بالناصية كناية عن القهر والقدرة ، لأن من أخذ بناصية غيره فقد قهره وأذلّه (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إن ربي في تدبير عباده على طريق مستقيم لا عوج فيه ولا اضطراب ، فهو يجري على سبيل الصواب ، ويفعل ما يقتضيه الحكمة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) هذا حكاية عما قاله هود (ع) لقومه ، والمعنى : فإن تتولوا (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) أي ليس ذلك لتقصير مني في ابلاغكم وإنما هو لسوء اخياركم في اعراضكم عن نصحي فقد ابلغتكم جميع ما أوحي إليّ (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي ويهلككم ربي بكفركم ويستبدل بكم قوما غيركم يوحّدونه ويعبدونه (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) معناه : لا تضرونه بتوليكم واعراضكم شيئا ، ولا ضرر عليه في اهلاككم لأنه لم يخلقكم لحاجة منه اليكم (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يحفظه من الهلاك إن شاء ، ويهلكه إذا شاء وقيل

٢٩٧

معناه : ان ربي يحفظني عنكم وعن أذاكم ، وقيل معناه : ان ربي على كل شيء من أعمال عباده حفيظ حتى يجازيهم عليها (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بهلاك عاد (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) من الهلاك ، وكانوا أربعة آلاف (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي بما أريناهم من الهدى والبيان عن ابن عباس وقيل برحمة منا أي بنعمة منا وهي النجاة أي انجيناهم برحمة ليعلم أنه عذاب أريد به الكفار لا اتفاق وقع (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي كما نجيناهم من عذاب الدنيا نجيناهم من عذاب الآخرة ، والغليظ : الثقيل العظيم ويحتمل أن يكون هذا صفة للعذاب الذي عذب به قوم هود ، ثم ذكر سبحانه كفر عاد فقال (وَتِلْكَ) أي وتلك القبيلة (عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) يعني معجزات هود الدالة على صحة نبوته (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) إنما جمع الرسل وكان قد بعث اليهم هود لأنّ من كذّب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل ، ولأن هودا كان يدعوهم إلى الإيمان به وبمن تقدمه من الرسل ، وبما انزل عليهم من الكتب فكذّبوا بهم جميعا فلذلك عصوهم (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي واتبع السفلة والسقاط الرؤساء. والجبار : من يقتل ويضرب على غضبه ، والعنيد : الكثير العناد الذي لا يقبل الحق (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي واتبع عادا بعد اهلاكهم في الدنيا بالإبعاد عن الرحمة ، فإن الله تعالى ابعدهم من رحمته ، وتعبّد المؤمنين بالدعاء عليهم باللعن (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وفي يوم القيامة يبعدون من رحمة الله كما بعدوا في الدنيا منها ، ويلعنون بأن يدخلوا النار ، فإن اللعنة الدعاء بالأبعاد (أَلا) ابتداء وتنبيه (إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أراد بربهم فحذف الباء كما قالوا امرتك الخير أي بالخير (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) أي أبعدهم الله من رحمته فبعدوا بعدا.

٦١ ـ ٦٨ ـ ثم عطف سبحانه على ذلك قصة صالح فقال (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) وكان ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام ، وكان عاد باليمن (قالَ) لهم صالح (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) مضى تفسيره (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ابتداء خلقكم من الأرض لأنه خلق آدم من الأرض ومرجع نسبكم إليه (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي جعلكم عمار الأرض بأنّ مكّنكم من عمارتها ، وأحوجكم إلى السكنى فيها ، وقيل معناه : واعمرها لكم مدة اعماركم من العمرى عن مجاهد وقيل : وأطال فيها أعماركم عن الضحاك قال : وكانت أعمارهم من ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة وقيل معناه : أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه من المساكن والزراعات وغرس الأشجار (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي فاستغفروه من الشرك والذنوب ثم دوموا على التوبة (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) برحمته لمن وحدّه (مُجِيبٌ) لمن دعاه (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي كنّا نرجو منك الخير لما كنت عليه من الأحوال الجميلة ، فالآن بئسنا منك ومن خيرك (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أنكروا ان ينهى الإنسان عن عبادة ما عبده آباؤه (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من الدين (مُرِيبٍ) موجب للريبة والتهمة إذ لم يكن آباؤنا على جهالة وضلالة (قالَ) صالح لهم (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) مرّ بيانه فيما قبل (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) أي وأعطاني الله منه نعمة وهي النبوة (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ)

__________________

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أحق الناس بالتخشّع في السرّ والعلانية لحامل القرآن وإنّ أحق الناس بالصلاة والصوم لحامل القرآن ، ثم نادى بأعلى صوته : يا حامل القرآن تواضع به يرفعك الله ، ولا تعزّز به فيذلّك الله ، يا حامل القرآن تزيّن به لله يزيّنك الله ، ولا تزيّن به للناس فيشينك الله ؛ من ختم القرآن فكأنّما أدرجت النبوّة بين جنبيه ولكنه لا يوحى إليه.

٢٩٨

أي فمن يمنع عذاب الله عني إن عصيته مع نعمته علي (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي ما تزيدونني بقولكم : أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا غير نسبتي إياكم إلى الخسارة والتخسير : مثل التفسيق ، قال ابن الأعرابي : يريد غير تخسير لكم لا لي (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أشار إلى ناقته التي جعلها الله معجزته لأنه سبحانه أخرجها لهم من جوف صخرة يشاهدونها بتلك الصفة ، وخرجت كما طلبوه وهي حامل ، وكانت تشرب يوما جميع الماء فتنفرد به ولا ترد الماء معها دابة ، فإذا كان يوم لا ترد فيه وردت الواردة كلها الماء ، وهذا أعظم آية ومعجزة (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أي فاتركوها في حال أكلها فتكون تأكل في أرض الله (وَلا تَمَسُّوها) أي لا تصيبوها (بِسُوءٍ) قتل أو جرح أو غيره (فَيَأْخُذَكُمْ) إن فعلتم ذلك (عَذابٌ قَرِيبٌ) أي عاجل فيهلككم (فَعَقَرُوها) أي عقرها بعضهم ورضي به البعض ، وإنما عقرها أحمر ثمود وضربت به العرب المثل بالشؤم (فَقالَ) صالح (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي تلذذوا بما تريدون من المدركات الحسنة من المناظر والأصوات وغيرها مما يدرك بالحواس في بلادكم ثلاثة أيام ثم يحلّ بكم العذاب بعد ذلك ، فاصفرّت ألوانهم أول يوم ، ثم احمرّت في الغد ، ثم اسودّت اليوم الثالث فهو قوله : (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي إنّ ما وعدتكم به من العذاب ونزوله بعد ثلاثة أيام وعد صدق لا كذب فيه (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) مرّ تفسيره في قصة عاد (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أي من الخزي الذي لزمهم ذلك اليوم ، والخزي : العيب الذي تظهر فضيحته ويستحى من مثله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُ) أي القادر على ما يشاء (الْعَزِيزُ) الذي لا يمتنع عليه شيء ، ولا يمنع عما أراده (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) ان الله سبحانه أمر جبرائيل فصاح بهم صيحة ماتوا عندها (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ) أي منازلهم (جاثِمِينَ) أي ميتين واقعين على وجوههم (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأن لم يكونوا في منازلهم قط لانقطاع آثارهم بالهلاك إلّا ما بقي من أجسادهم الدالة على الخزي الذي نزل بهم (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) قد سبق تفسيره.

٦٩ ـ ٧٦ ـ ثم ذكر سبحانه قصّة إبراهيم ولوط فقال سبحانه (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا) يعني الملائكة ، وإنما دخلت اللام لتأكيد الخبر ، ومعنى قد ها هنا : ان السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة ، وقد للتوقع ، فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع ، واختلف في عدد الرسل فقيل : كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، عن ابن عباس وقيل : كانوا أربعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : والرابع اسمه كروبيل وقيل : كانوا تسعة ، عن الضحاك وكانوا على صور الغلمان أتوا (إِبْراهِيمَ) (ع) (بِالْبُشْرى) أي بالبشارة بإسحاق ونبوته ، وإنه يولد له يعقوب (قالُوا سَلاماً) هذه حكاية ما قال رسل الله تعالى لإبراهيم معناه : أصبت سلاما إذ اعطاك الله سلاما : أي سلامة كما يقال : أهلا ومرحبا (قالَ) إبراهيم مجيبا لهم (سَلامٌ) وقد مرّ تفسيره (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) وتقديم الطعام إليهم ـ بعجل مشوي لأنه توهم أنهم أضياف لكونهم على صورة البشر ، وكان إبراهيم يحبّ الضيفان (فَلَمَّا رَأى) إبراهيم (أَيْدِيَهُمْ) يعني أيدي الملائكة (لا تَصِلُ إِلَيْهِ) أي إلى العجل (نَكِرَهُمْ) أي أنكرهم (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) لما رآهم شبانا أقوياء ، وكان ينزل طرفا من البلد ، وكانوا يمتنعون من تناول طعامه لم يأمن أن يكون ذلك لبلاء ، وذلك أن أهل ذلك الزمان إذا أكل بعضهم طعام بعض أمنه صاحب الطعام على نفسه وماله ولهذا يقال : تحرم فلان بطعامنا ، أي أثبت الحرمة بيننا بأكله الطعام (قالُوا) له (لا تَخَفْ) يا

٢٩٩

إبراهيم (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) بالعذاب والإهلاك لا إلى قومك (وَامْرَأَتُهُ) سارة بنت هاران ، ابنة عم إبراهيم (قائِمَةٌ) من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام إبراهيم (فَضَحِكَتْ) تعجبا وسرورا من البشارة بإسحاق لأنها كانت قد هرمت ، وهي ابنة ثمان وتسعين سنة ، وكان قد شاخ زوجها وكان ابن مائة وعشرين ولم يرزق منها ولد في حال شبابهما (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) أي بابن يسمى إسحاق نبيا (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) يعني ومن بعد إسحاق يعقوب والوراء : ولد الولد (قالَتْ) سارة (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) أي هذا شيء عجيب أن ألد وقد شخت من زوج شيخ ، ولم تشك في قدرة الله تعالى ولكن إنما قالت ذلك لكونه خارجا عن العادة (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) أي هذا الذي تعرفونه بعلي وهو شيخ (إِنَّ هذا) الذي بشرت به (لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا) أي قالت الملائكة لها حين تعجبت من أن تلد بعد الكبر (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ومعنى الاستفهام ههنا التنبيه ، أي أتعجبين من أن يفعل الله تعالى ذلك بك ولزوجك (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي ليس هذا موضع تعجب لأن التعجب إنما يكون من الأمر الذي لا يعرف سببه ، ونعمة الله تعالى وكثرة خيراته النامية الباقية عليكم (إِنَّهُ حَمِيدٌ) الحميد الذي يحمد عباده على الطاعات (مَجِيدٌ) أي كريم ، وهو المبتدىء بالعطية قبل الاستحقاق وقيل معناه واسع القدرة والنعمة (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) أي الخوف والفزع الذي دخله من الرسل (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) بالولد (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) أي يجادل رسلنا ويسائلهم في قوم لوط ، وتلك المجادلة أنه قال لهم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونهم؟ قالوا : لا قال : فأربعون؟ قالوا : لا ، فما زال ينقص ويقولون : لا حتى قال : فواحد؟ قالوا لا ، فاحتج عليهم بلوط وقال : إن فيها لوطا قالوا : نحن اعلم بمن فيها لننجينه وأهله (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ) مر معناه في سورة براءة (مُنِيبٌ) راجع إلى الله تعالى في جمع أموره ، متوكل عليه (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) هو حكاية ما قالت الملائكة لإبراهيم (ع) فإنها نادته بأن قالت : يا إبراهيم اعرض عن هذا القول وهذا الجدال في قوم لوط ، وانصرف عنه بالذكر والفكر (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالعذاب فهو نازل بهم لا محالة (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) يعني غير مدفوع عنهم ، أي لا يقدر أحد على رده عنهم.

٧٧ ـ ٨٣ ـ ثم أخبر سبحانه عن اتيان الملائكة لوطا بعد خروجهم من عند إبراهيم (ع) ، وما جرى بينهم وبين قوم لوط فقال (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) أي لما جاؤه في صفة الآدميين (سِيءَ بِهِمْ) أي ساءه مجيئهم لأنه خاف عليهم من قومه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي ضاق بمجيئهم ذرعه : أي قلبه لما رأى لهم من جمال الصورة وحسن الشارة ، وقد دعوه إلى الضيافة وقومه كانوا يسارعون إلى أمثالهم بالفاحشة وقيل معناه : ضاق بحفظهم من قومه ذرعه حيث لم يجد سبيلا إلى حفظهم ، وكان قد علم عادة قومه من الميل إلى الذكور ، وقد اتوه في صورة الغلمان المرد ، وأصله ان الشيء إذا ضاق ذرعه لم يسع له ما اتسع ، فاستعار ضيق الذرع عن عذر الإمكان كما استعار الاتساع (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي هائل شديد كثير الشرّ ، التف الشر فيه بالشر ، وإنما قال ذلك لأنه لم يعلم أنهم رسل الله وخاف عليهم من قومه أن يفضحونهم. ودخلوا معه منزله فلما رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخنت فلما رأوا الدخان اقبلوا يهرعون فذلك قوله (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي يسرعون في المشي لطلب الفاحشة (وَمِنْ قَبْلُ) أي من قبل إتيان الملائكة (كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي يعملون الفواحش مع الذكور (قالَ) لوط (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)

٣٠٠