الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

دمع ، ولا يكتحلون بنوم ، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) يا محمد ، أي فإن ردّك الله من غزوتك هذه وسفرك هذا (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) أي من المنافقين الذين تخلفوا عنك وعن الخروج معك (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) معك إلى غزوة أخرى (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) إلى غزوة (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) ثم بيّن سبحانه سبب ذلك فقال (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي عن غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) في كل غزوة مع النساء والصبيان ، عن الحسن والضحاك ، وقيل : مع الرجال الذين تخلفوا من غير عذر ، عن ابن عباس ، وقيل : مع المخالفين قال الفراء : يقال : عبد خالف ، وصاحب خالف ، إذا كان مخالفا ، وقيل : مع الخساس والأدنياء ، يقال : فلان خالفه أهله إذا كان أدونهم ، وقيل : مع أهل الفساد ، من قولهم خلف الرجل على أهله يخلف خلوفا : إذا أفسد ، ونبيذ خالف : أي فاسد ، وخلف فم صائم : إذا تغيّرت ريحه وقيل : مع المرضى والزمنى ، وكل من تأخر لنقص ، عن الجبائي.

٨٤ ـ ٨٥ ـ ثم نهى سبحانه نبيّه (ص) عن الصلاة عليهم فقال (وَلا تُصَلِ) يا محمد (عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي من المنافقين (ماتَ أَبَداً) أي بعد موته فإنه عليه‌السلام كان يصلّي عليهم ويجري عليهم أحكام المسلمين (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي لا تقف على قبره للدعاء فإنه (ع) كان إذا صلّى على ميت يقف على قبره ساعة ويدعو له ، فنهاه الله تعالى عن الصلاة على المنافقين ، والوقوف على قبورهم ، والدعاء لهم. ثم بيّن سبحانه سبب الأمرين فقال (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) فما صلى رسول الله (ص) بعد ذلك على منافق حتى قبض (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) الخطاب للنبي (ص) والمراد به الأمة (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا) بما يلحقهم فيها من المصائب والغموم ، وبما يأخذها منهم المسلمون على وجه الغنيمة ، وبما يشقّ عليهم من إخراجها في الزكاة والانفاق في سبيل الله مع اعتقادهم بطلان الإسلام ، فيشتدّ عليهم فيكون ذلك عذابا لهم (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) أي تهلك بالموت (وَهُمْ كافِرُونَ) أي في حال كفرهم.

٨٦ ـ ٨٩ ـ ثم بيّن سبحانه تمام اخبار المنافقين فقال (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من القرآن على محمد (ص) (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ) أي بأن آمنوا وهو خطاب للمؤمنين وأمر لهم بأن يدوموا على الإيمان ، ويتمسّكوا به في مستقبل الأوقات ، ويدخل فيه المنافق ويتناوله الأمر بأن يستأنف الإيمان ، ويترك النفاق (وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) أي أخرجوا إلى الجهاد معه (اسْتَأْذَنَكَ) أي طلب الاذن منك في القعود (أُولُوا الطَّوْلِ) أي أولو المال والقدرة والغنى (مِنْهُمْ) أي من المنافقين (وَقالُوا ذَرْنا) أي دعنا (نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) أي المتخلفين عن الجهاد من النساء والصبيان (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا لنفوسهم أن يقعدوا مع النساء والصبيان والمرضى والمقعدين (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ذكرنا معنى الطبع فيما تقدم قال الحسن : هؤلاء قوم قد بلغوا الحد الذي من بلغه مات قلبه (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أوامر الله ونواهيه ، ولا يتدبّرون الأدلة ، ثم مدح النبي (ص) المؤمنين فقال سبحانه (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) ينفقونها في سبيل الله ومرضاته (وَأَنْفُسِهِمْ) يقاتلون الكفار ، ثم أخبر سبحانه عما أعدّ لهم من الجزاء على انقيادهم لله ورسوله فقال (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) من الجنة ونعيمها وقيل : الخيرات : المنافع والمدح والتعظيم في الدنيا ، والثواب والجنة في الآخرة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الظافرون بالوصول إلى البغية (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) أي هيّأ وخلق لهم (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) مضى تفسيره في غير موضع (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم ذكره (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) والفوز النجاة من الهلكة إلى حال النعمة ،

٢٦١

وسميت المهلكة مفازة تفاؤلا لها بالنجاة وإنما وصفه بالعظيم لأنه حاصل على وجه الدوام وبالإعزاز والإجلال والإكرام.

٩٠ ـ لمّا تقدم حديث المخلفين صنّف الله تعالى الأعراب منهم صنفين فقال سبحانه (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) أي المقصّرون الذين يعتذرون وليس لهم عذر عن أكثر المفسرين ، وقيل : هم المعتذرون الذين لهم عذر وهم نفر من بني غفار ، عن ابن عباس قال : ويدل عليه قوله : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ، فعطف الكاذبين عليهم ، فدلّ ذلك على أن الأولين في اعتذارهم صادقون ، وقيل معناه : الذين يتصورون بصورة أهل العذر وليسوا كذلك (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) في التخلف (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي وقعدت طائفة من المنافقين من غير أن اعتذروا وهم الذين كذبوا فيما كانوا يظهرونه من الإيمان (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال أبو عمرو بن العلا : في هذه الآية كلا الفريقين كان مسيئا ، جاء قوم فعذروا ، وجنح آخرون فقعدوا ، يريد أن قوما تكلّفوا عذرا بالباطل ، وتخلّف آخرون من غير تكلف عذر واظهار علة جرأة على الله ورسوله.

٩١ ـ ٩٢ ـ ثم ذكر سبحانه أهل العذر فقال (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) وهم الذين قوتهم ناقصة بالزمانة والعجز عن ابن عباس وقيل : هم الذين لا يقدرون على الخروج (وَلا عَلَى الْمَرْضى) وهم أصحاب العلل المانعة من الخروج (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) يعني من ليست معه نفقة الخروج وآلة السفر (حَرَجٌ) أي ضيق وجناح في التخلف وترك الخروج مع رسول الله (ص) (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بأن يخلصوا العمل من الغش ، ثم قال سبحانه (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس على من فعل الحسن الجميل في التخلّف عن الجهاد طريق للتقريع في الدنيا والعذاب في الآخرة وقيل هو عام في كل محسن والإحسان هو ايصال النفع إلى الغير لينتفع به من تعريه من وجوه القبح ويصحّ أن يحسن الإنسان إلى نفسه ويحمد على ذلك وهو إذا فعل الأفعال الجميلة التي يستحق بها المدح والثواب (وَاللهُ غَفُورٌ) أي ساتر على ذوي الأعذار بقبول العذر منهم (رَحِيمٌ) بهم لا يلزمهم ما فوق طاقتهم. ثم عطف عليه فقال (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) أي ولا على الذين إذا جاؤك يسألونك مركبا يركبونه فيخرجون معك إلى الجهاد إذ ليس معهم من الأموال والظهر ما يمكنهم الخروج به في سبيل الله (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) أي لا أجد مركبا تركبونه ، ولا ما اسوّي به أمركم (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) أي رجعوا عنك وأعينهم تسيل بالدمع لحزنهم أن لا يجدوا ما يركبونه من الدواب وينفقونه في الطريق ليخرجوا معكم ، ولحرصهم على الخروج والمعنى : وليس على هؤلاء أيضا حرج في التخلف عن الجهاد ، وليس عليهم سبيل للذم والعقاب (إِنَّمَا السَّبِيلُ) والطريق بالعقاب والحرج (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) أي يطلبون الإذن منك يا محمد في المقام وهم مع ذلك أغنياء متمكنون من الجهاد في سبيل الله (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) من النساء والصبيان ومن لا حراك به (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قد تقدّم بيانه.

٩٤ ـ ٩٦ ـ ثم أخبر الله سبحانه عن هؤلاء القوم الذين تأخروا عن الخروج مع النبي (ص) فقال (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) من تأخرهم عنكم بالأباطيل والكذب (إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) أي إذا انصرفتم إلى المدينة من غزوة تبوك (قُلْ) يا محمد (لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي لسنا نصدّقكم على ما تقولون (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أي قد أخبرنا الله واعلمنا من اخباركم وحقيقة أمركم ما علمنا به كذبكم وقيل انه أراد به قوله سبحانه لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالا الآية (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي سيعلم الله فيما بعد ورسوله عملكم هل تتوبون

٢٦٢

من نفاقكم أم تقيمون عليه وقيل معناه سيعلم الله أعمالكم وعزائمكم في المستقبل ويظهر ذلك لرسوله فيعلمه الرسول بإعلامه إياه فيصير كالشيء المرئي لأن أظهر ما يكون الشيء أن يكون مرئيا كما علم ذلك في الماضي فأعلم به الرسول (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ترجعون بعد الموت إلى الله سبحانه الذي يعلم ما غاب وما حضر ، وما يخفى عليه السر والعلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يخبركم بأعمالكم كلها حسنها وقبيحها فيجازيكم عليها أجمع (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) أي سيقسم هؤلاء المنافقون والمتخلفون فيما يعتذرون به إليكم أيها المؤمنون (إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) انهم انما تخلفوا لعذر (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي لتصفحوا عن جرمهم ولا توبّخوهم ولا تعنّفوهم. ثم أمر الله سبحانه نبيه (ص) والمؤمنين فقال (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي اعراض ردّ وإنكار وتكذيب ومقت. ثم بيّن عن سبب الإعراض فقال (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي نجس ومعناه : انهم كالشيء المنتن الذي يجب الإجتناب عنه فاجتنبوهم كما تجتنب الأنجاس (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي مصيرهم ومآلهم ومستقرهم جهنم (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي مكافأة على ما كانوا يكسبونه من المعاصي (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي طلبا لمرضاتكم عنهم أيها المؤمنون (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) لجهلكم بحالهم (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الخارجين من طاعته إلى معصيته لعلمه بحالهم ومعناه : انه لا ينفعهم رضاكم عنهم مع سخط الله عليهم وارتفاع رضاه عنهم.

٩٧ ـ ٩٩ ـ لما تقدّم ذكر المنافقين بيّن سبحانه أن الأعراب منهم أشدّ في ذلك وأكثر جهلا فقال (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) يريد الأعراب الذين كانوا حول المدينة ، وإنما كان كفرهم أشد لأنهم أقسى واجفى من أهل المدن ، وهم أيضا أبعد من سماع التنزيل وانذار الرسل عن الزجاج ومعناه : أنّ سكان البوادي إذا كانوا كفارا أو منافقين فهم أشدّ كفرا من أهل الحضر لبعدهم عن مواضع العلم ، واستماع الحجج ، ومشاهدة المعجزات ، وبركات الوحي (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي وهم أحرى وأولى بأن لا يعلموا حدود الله في الفرائض والسنن والحلال والحرام (وَاللهُ عَلِيمٌ) باحوالهم (حَكِيمٌ) فيما يحكم به عليهم (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) أي ومن منافقي الأعراب من يعدّ ما ينفق في الجهاد وفي سبيل الخير مغرما لحقه لأنه لا يرجو به ثوابا (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي وينتظر بكم الدوائر ، أي صروف الزمان ، وحوادث الأيام ، والعواقب المذمومة ليرجعوا إلى دين المشركين ، وأكثر ما تستعمل الدائرة في زوال النعمة إلى الشدة ، والعافية إلى البلاء ويقولون : كانت الدائرة عليهم ، وكانت الدائرة لهم ، ثم ردّ سبحانه ذلك عليهم فقال (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي على هؤلاء المنافقين دائرة البلاء ، يعني أن ما ينتظرون بكم هؤلاء حقّ بهم وهم المغلبون ابدا (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالاتهم (عَلِيمٌ) بنياتهم لا يخفى عليه شيء من حالاتهم ، ثم بيّن سبحانه من الأعراب المؤمنين المخلصين فقال (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ومنهم من يرجع إلى سلامة الإعتقاد في التصديق بالله وبالقيامة والجنة والنار (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) معناه : يتقرّب إلى الله بإنفاقه ، ويطلب بذلك ثوابه ورضاه (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي دعاؤه بالخير والبركة ومعناه : أنه يرغب في دعاء النبي (ص) (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) معناه : ان صلوات الرسول قربة لهم تقرّبهم إلى ثواب الله (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) هذا وعد منه سبحانه بأن يرحمهم ويدخلهم الجنة ، وفيه مبالغة بأن الرحمة غمرتهم ووسعتهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لذنوبهم (رَحِيمٌ) بأهل طاعته.

١٠٠ ـ لما تقدم ذكر المنافقين والكفار عقّبه سبحانه بذكر

٢٦٣

السابقين إلى الإيمان فقال (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) أي السابقون إلى الإيمان وإلى الطاعات ، وإنما مدحهم بالسبق لأن السابق إلى الشيء يتبعه غيره فيكون متبوعا وغيره تابع له ، فهو إمام فيه ، وداع له إلى الخير بسبقه إليه ، وكذلك من سبق إلى الشرّ يكون أسوأ حالا لهذه العلة (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وإلى الحبشة (وَالْأَنْصارِ) أي ومن الأنصار الذين سبقوا نظراءهم من أهل المدينة إلى الإسلام (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) أي بأفعال الخير والدخول في الإسلام بعدهم ، وسلوك منهاجهم ، ويدخل في ذلك من يجيء بعدهم إلى يوم القيامة (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أخبر سبحانه أنه رضي عنهم أفعالهم ، ورضوا عن الله سبحانه لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي يبقون ببقاء الله منعمين (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الفلاح العظيم الذي يصغر في جنبه كل نعيم.

١٠١ ـ ١٠٢ ـ ثم عاد الكلام إلى ذكر المنافقين فقال سبحانه (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) أي ومن جملة من حولكم ، يعني حول مدينتكم (مِنَ الْأَعْرابِ) وهم الذين يسكنون البدو إذا كانوا مطبوعين على العربية (مُنافِقُونَ) يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر وقيل : إنّهم جهينة ومزينة واسلم واشجع وغفار وكانت منازلهم حول المدينة (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) أيضا منافقون (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي مرنوا على النفاق وتجرؤوا عليه (لا تَعْلَمُهُمْ) با محمد ، أي لا تعرفهم (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي نعرفهم (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) معناه : نعذبهم في الدنيا بالفضيحة ، فإن النبي (ص) ذكر رجالا منهم وأخرجهم من المسجد يوم الجمعة في خطبته وقال : اخرجوا فإنكم منافقون ، ويعذبهم في القبر (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) أي يرجعون يوم القيامة إلى عذاب مؤبد في النار (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) يعني من أهل المدينة أو من الأعراب آخرون أقرّوا بذنوبهم وليس براجع إلى المنافقين ، والإعتراف : الإقرار بالشيء عن معرفة (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) يعني أنهم يفعلون أفعالا جميلة ، ويفعلون أفعالا سيئة قبيحة (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) قال المفسرون : عسى من الله واجبة وإنما قال عسى حتى يكونوا بين طمع واشفاق فيكون ذلك أبعد من الاتكال على العفو وإهمال التوبة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا تعليل لقبول التوبة من العصاة ، أي لأنه غفور رحيم.

١٠٣ ـ ١٠٥ ـ (خُذْ) يا محمد (مِنْ أَمْوالِهِمْ) ادخل من للتبعيض لأنه لم يجب أن يصدّق بالجميع وإنما قال : من أموالهم ولم يقل من مالهم حتى يشتمل على أجناس المال كلها (صَدَقَةً) أراد بها الزكاة المفروضة بأن يأخذ من المالكين للنصاب الزكاة من الورق إذا بلغ مائتي درهم ، ومن الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا ، ومن الإبل إذا بلغت خمسا ، ومن البقر إذا بلغت ثلاثين ، ومن الغنم إذا بلغت أربعين ، ومن الغلات والثمار إذا بلغت خمسة أوسق (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) معناه : تطهّرهم تلك الصدقة عن دنس الذنوب ، وتزكيهم أنت بها أي تنسبهم إلى الزكاة وتدعو لهم بما يصيرون به أزكياء (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) هذا أمر من الله تعالى للنبي (ص) أن يدعو لمن يأخذ منه الصدقة ومعناه : ادع لهم بقبول صدقاتهم كما يقول الداعي : آجرك الله فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أبقيت ، وروي عن النبي (ص) أنه كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صلّ عليهم (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي ان دعواتك مما تسكن نفوسهم إليه (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع دعاءك لهم ، ويعلم ما يكون منهم في الصدقات (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) استفهام يراد به التنبيه على ما يجب أن يعلم ، لأنه إذا علم ذلك كان ذلك داعيا له إلى فعل

٢٦٤

التوبة والتمسك بها ، والمسارعة إليها (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي يتقبلها ويضمن الجزاء عليها (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) عطف على ما قبله وقد مرّ تفسيره (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) هذا أمر من الله سبحانه لنبيه أن يقول للمكلفين اعملوا ما أمركم الله به عمل من يعلم أنه مجازا على فعله فإن الله سيرى عملكم ، ويراه رسوله فيشهد لكم بذلك عند الله تعالى ، ويراه المؤمنون ، وقيل : أراد بهم الملائكة الحفظة الذين يكتبون الأعمال (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي سترجعون إلى الله الذي يعلم السر والعلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويجازيكم عليه.

١٠٦ ـ ثم عطف سبحانه على ما قبله من قوله : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) فقال (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) أي مؤخرون موقوفون لما يرد من أمر الله تعالى فيهم (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) لفظة اما وقوع أحد الشيئين والله سبحانه عالم بما يصير إليه ولكنّه سبحانه خاطب العباد بما عندهم ومعناه : ولكن كان أمرهم عندكم على هذا ، أي على الخوف والرجاء ، وهذا يدل على صحة مذهبنا في جواز العفو عن العصاة لأنه سبحانه بيّن أن قوما من العصاة يكون أمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذّبهم وإن شاء قبل توبتهم فعفا عنهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يؤول إلى حالهم (حَكِيمٌ) فيما يفعله بهم.

١٠٧ ـ ١١٠ ـ ثم ذكر سبحانه جماعة أخرى من المنافقين بنوا مسجدا (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) والمسجد موضع السجود في الأصل وصار بالعرف اسما لبقعة مخصوصة بنيت للصلاة (ضِراراً) أي مضارة ، يعني للضرر بأهل مسجد قباء ، أو مسجد الرسول (ص) ليقل الجمع فيه (وَكُفْراً) أي ولإقامة الكفر فيه بالطعن على رسول الله (ص) والإسلام (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي لاختلاف الكلمة ، وإبطال الإلفة ، وتفريق الناس عن رسول الله (ص) (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) أي ارصدوا ذلك المسجد واتخذوه واعدوا لأبي عامر الراهب وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل ، وكان من قصته أنه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح ، فلما قدم النبي (ص) المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب ، ثم هرب بعد فتح مكة (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) معناه : أن هؤلاء يحلفون كاذبين ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وكفى لمن يشهد الله سبحانه بكذبه خزيا ، فوجّه رسول الله (ص) عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ، ومالك بن الدخشم فقال لهما : انطلقا إلى المسجد الظالم أهله فاهدماه واحرقاه ، ثم نهى الله سبحانه أن يقوم في هذا المسجد فقال (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي لا تصلّ فيه أبدا ثم أقسم فقال (لَمَسْجِدٌ) أي والله لمسجد (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) أي بني أصله على تقوى الله وطاعته (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أي منذ أول يوم وضع أساسه (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أي أولى بأن تصلّي فيه ، ثم وصف المسجد وأهله فقال (فِيهِ) أي في هذا المسجد الذي أسس على التقوى (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي يحبون أن يصلوا لله تعالى متطهرين بأبلغ الطهارة (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي المتطهرين ، ثم قرّر سبحانه الفرق بين المسجدين فقال (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) قد مضى بيانه ، والمراد : أن الله تعالى شبّه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذا صفته ، فكما أن من بنى على جانب هذا النهر فإنه ينهار بناؤه في الماء ولا يثبت فكذلك بناء هؤلاء ينهار ويسقط في نار جهنم ، يعني أنه لا يستوي عمل المتقي وعمل المنافق ، فإن عمل المؤمن المتقي ثابت مستقيم مبني على أصل صحيح ثابت ، وعمل المنافق ليس بثابت وهو واه ساقط (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي يوقعه ذلك البناء في نار جهنم (وَاللهُ لا يَهْدِي

٢٦٥

الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) مرّ بيانه (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) حسرة في قلوبهم يتردّدون فيها (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) معناه : إلّا أن يموتوا ، والمراد بالآية أنهم لا ينزعون عن الخطيئة ولا يتوبون حتى يموتوا على نفاقهم وكفرهم ، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان ، وأخذوا به من الكفر (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي عالم بنيتهم في بناء مسجد الضرار (حَكِيمٌ) في أمره بنقضه والمنع من الصلاة فيه.

١١١ ـ ١١٢ ـ لما تقدّم ذكر المؤمنين والمنافقين عقّب سبحانه بالترغيب في الجهاد فقال (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) حقيقة الاشتراء لا تجوز على الله تعالى لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملكه ، وهو عزّ اسمه مالك الأشياء كلها لكنه مثل قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ، في أنه ذكر لفظ الشراء والقرض تلطفا لتأكيد الجزاء ، ولما كان سبحانه ضمن الثواب على نفسه عبّر ذلك بالاشتراء وجعل الثواب ثمنا ، والطاعات مثمنا على ضرب من المجاز ، وأخبر أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم يبذلونها في الجهاد في سبيل الله ، وأموالهم أيضا ينفقونها ابتغاء مرضاة الله على أن يكون في مقابل ذلك الجنة (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) هذا بيان للغرض الذي لأجله اشتراهم (فَيَقْتُلُونَ) المشركين (وَيُقْتَلُونَ) أي ويقتلهم المشركون ، يعني أن الجنة عوض عن جهادهم سواء قتلوا أو قتلوا (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) معناه : ان إيجاب الجنة لهم وعد على الله حقّ لا شكّ فيه (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) وهذا يدلّ على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال وعدوا عليه الجنة (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) معناه : لا أحد أوفى بعهده من الله لأنه يفي ولا يخلف بحال (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) فافرحوا بهذه المبايعة حتى ترى آثار السرور في وجوهكم بسبب هذه المبايعة لأنكم بعتم الشيء من مالكه وأخذتم ثمنه ، ولأنكم بعتم فانيا بباق ، وزائلا بدائم (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الشراء والبيع والظفر الكبير الذي اشترى منهم الأنفس والأموال بأوصاف فقال (التَّائِبُونَ) أي الراجعون إلى طاعة الله ، والمنقطعون إليه ، النادمون على ما فعلوه من القبائح (الْعابِدُونَ) أي الذين يعبدون الله وحده ويذلّلون له بطاعته في أوامره ونواهيه (الْحامِدُونَ) أي الذين يحمدون الله على كل حال (السَّائِحُونَ) أي الصائمون (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي المؤدّون للصلاة المفروضة التي فيها الركوع والسجود (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ادخل الواو هنا لأن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر فكأنما شيء واحد ، ولأنه قرن النهي عن المنكر بالأمر بالمعروف في أكثر المواضع (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي والقائمون بطاعة الله ، يعني الذين يؤدّون فرائض الله وأوامره ، ويجتنبون نواهيه لأن حدود الله أوامره ونواهيه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) هذا أمر للنبي (ص) أن يبشّر المصدّقين بالله المعترفين بنبوته بالثواب الجزيل ، والمنزلة الرفيعة خاصة إذا جمعوا هذه الأوصاف.

١١٣ ـ ١١٤ ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ومعناه : ليس للنبي والمؤمنين أن يطلبوا المغفرة للمشركين الذين يعبدون مع الله إلها آخر ، والذين لا يوحدونه ولا يقرّون بإلهيته (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أي ولو كان الذين يطلبون لهم المغفرة أقرب الناس إليهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد أن يعلموا أنهم كفار مستحقّون للخلود في النار (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي لم يكن استغفاره له إلّا صادرا عن

٢٦٦

موعدة وعدها إياه (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) ولا يفي بما وعد (تَبَرَّأَ مِنْهُ) وترك الدعاء له (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) أي دعّاء كثير الدعاء والبكاء (حَلِيمٌ) صبور على الأذى ، صفوح عن الذنب.

١١٥ ـ ١١٦ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) أي وما كان الله ليحكم بضلالة قوم بعد ما حكم بهدايتهم (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) من الأمر بالطاعة ، والنهي عن المعصية فلا يتقون فعند ذلك يحكم بضلالتهم (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم جميع المعلومات حتى لا يشذ شيء منها عنه (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الملك اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير (يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يحيي الجماد ، ويميت الحيوان (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ليس لكم سواه حافظ يحفظكم ، وولي يتولى أمركم ، ولا ناصر ينصركم ويدفع العذاب عنكم.

١١٧ ـ ١١٨ ـ (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) أقسم الله تعالى في هذه الآية لأن لام لقد لام القسم بأنه سبحانه قبل توبتهم وطاعاتهم ، وإنما ذكر اسم النبي (ص) مفتاحا للكلام وتحسينا له ، ولأنه سبب توبتهم وإلّا فلم يكن منه ما يوجب التوبة (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في الخروج معه إلى تبوك (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) وهي صعوبة الأمر ، قال جابر : يعني عسرة الزاد ، وعسرة الظهر ، وعسرة الماء ، والمراد بساعة العسرة وقت العسرة لأن الساعة تقع على كل زمان (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) عن الجهاد فهمّوا بالإنصراف من غزاتهم من غير أمر فعصمهم الله تعالى من ذلك حتى مضوا مع النبي (ص) (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) من بعد ذلك الزيغ ، ولم يرد بالزيغ ها هنا الزيغ عن الإيمان (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تداركهم برحمته (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) معناه : خلّفوا عن غزوة تبوك لما تخلفوا هم (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي برحبها وما هاهنا مصدرية ، ومعناه : ضاقت عليهم الأرض مع اتساعها وهذه صفة من بلغ غاية الندم حتى كأنه لا يجد لنفسه مذهبا ، وذلك بأن النبي أمر الناس بأن لا يجالسوهم ولا يكلموهم لأنه كان نزلت توبة الناس ولم تنزل توبتهم ، ولم يكن ذلك على معنى رد توبتهم لأنهم كانوا مأمورين بالتوبة ، ولا يجوز بالحكمة رد توبة من يتوب في وقت التوبة ، لكن الله سبحانه أراد بذلك تشديد المحنة عليهم في تأخير انزال توبتهم ، وأراد بذلك استصلاحهم واستصلاح غيرهم لئلا يعودوا إلى مثله (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) هذه عبارة عن المبالغة في الغم حتى كأنهم لم يجدوا لأنفسهم موضعا يخفونها فيه (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي وأيقنوا أنه لا يعصمهم من الله موضع يعتصمون به ويلجأون إليه غيره تعالى ، ومعناه : علموا أنه لا معتصم من الله إلا به ، وان لا ينجيهم من عذاب الله إلا التوبة (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي ثم سهّل الله عليهم التوبة حتى تابوا ، وقيل : ليتوبوا : أي ليعودوا إلى حالتهم الأولى قبل المعصية ، وقيل معناه : ثم تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله سبحانه قابل التوبة ، قال الحسن : أما والله ما سفكوا من دم ، ولا اخذوا من مال ، ولا قطعوا من رحم ، ولكن المسلمين تسارعوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتخلّف هؤلاء ، وكان أحدهم تخلّف بسبب ضيعة له ، وآخر لأهله ، والآخر طلبا للراحة ، ثم ندموا وتابوا فقبل الله توبتهم (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) أي الكثير القبول للتوبة (الرَّحِيمُ) بعباده.

١١٩ ـ ثم خاطب الله سبحانه المؤمنين المصدّقين بالله ، المقرّين بنبوة نبيه (ص) فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي اتقوا معاصي الله واجتنبوها (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) الذين يصدقون في اخبارهم ولا يكذبون ومعناه : كونوا على مذهب

٢٦٧

من يستعمل الصدق في أقواله وأفعاله وصاحبوهم ورافقوهم وقد وصف الله الصادقين في سورة البقرة بقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، فأمر سبحانه بالإقتداء بهؤلاء الصادقين المتقين وقيل : المراد بالصادقين هم الذين ذكرهم الله في كتابه وهو قوله : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه : يعني حمزة بن عبد المطلب ، وجعفر بن أبي طالب ومنهم من ينتظر : يعني علي بن أبي طالب (ع).

١٢٠ ـ ١٢١ ـ لما قصّ الله سبحانه قصة الذين تأخروا عن الخروج مع النبي (ص) ، إلى غزوة تبوك ، ثم اعتذارهم عن ذلك وتوبتهم منه ، وأنه قبل توبة من ندم على ما كان منه لرأفته بهم ورحمته عليهم ، ذكر عقيب ذلك على وجه التوبيخ لهم ، والإزراء على ما كانوا فعلوه فقال (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) أي ما كان يجوز وما كان يحل لأهل مدينة الرسول ومن حولهم من سكان البوادي أن يتخلفوا عنه في غزاة تبوك وغيرها بغير عذر (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) معناه : ولا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله في الحرّ والمشقة يقال : رغبت بنفسي عن هذا الأمر : أي ترفعت عنه ، بل عليهم أن يجعلوا أنفسهم وقاية للنبي (ص) (ذلِكَ) أي ذلك النهي لهم والزجر عن التخلف (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) أي عطش (وَلا نَصَبٌ) أي ولا تعب في أبدانهم (وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ولا مجاعة وهي شدة الجوع في طاعة الله (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) أي لا يضعون أقدامهم موضعا يغيظ الكفار (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) أي ولا يصيبون من المشركين أمرا من قتل أو جراحة أو مال أو أمر يغمّهم ويغيظهم (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) وطاعة رفيعة (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين يفعلون الأفعال الحسنة التي يستحق بها المدح والثواب. وفي هذا تحريض على الجهاد وأعمال الخير (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) أي ولا ينفقون في الجهاد ولا في غيره من سبل الخير والمعروف نفقة قليلة ولا كثيرة يريدون بذلك اعزاز دين الله ، ونفع المسلمين ، والتقرب بذلك إلى الله تعالى (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي ولا يجاوزون واديا (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ثواب ذلك (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يكتب طاعاتهم ليجزيهم عليها بقدر استحقاقهم ويزيدهم من فضله حتى يصير الثواب أحسن وأكثر من عملهم.

١٢٢ ـ ١٢٥ ـ لما تقدّم الترغيب في الجهاد بأبلغ أسباب الترغيب ، وتأنيب من تخلف عنه بأبلغ أسباب التأنيب ، بيّن في هذه الآية موضع الرخصة في تأخر من تأخر عنه فقال سبحانه (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) وهذا نفي معناه النهي ، أي ليس للمؤمنين أن ينفروا ويخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم ويتركوا النبي (ص) فريدا وحيدا (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) معناه : فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة ويبقى مع النبي (ص) جماعة ليتفقهوا في الدين ، يعني الفرقة القاعدين يتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام ، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن وتعلمه القاعدون قالوا لهم إذا رجعوا إليهم : إن الله قد أنزل بعدكم على نبيكم قرآنا وقد تعلمناه ، فتتعلمه السرايا ، فذلك قوله (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أي وليعلموهم القرآن ، ويخوّفوهم به إذا رجعوا إليهم (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فلا يعملون بخلافه عن ابن عباس في رواية الوالبي وقتادة والضحاك ، وقال الباقر عليه‌السلام كان هذا : حين كثر الناس ، فأمرهم الله أن تنفر طائفة ، وتقيم طائفة ، وأن يكون الغزو نوبا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي قاتلوا من قرب منكم من الكفار الأقرب منهم

٢٦٨

فالأقرب في النسب والدار (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً). أي شجاعة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) عن الشرك ، أي معينهم وناصرهم ومن كان الله ناصره لم يغلبه أحد. ثم عاد الكلام إلى ذكر المنافقين فقال سبحانه (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من القرآن (فَمِنْهُمْ) يعنى من المنافقين (مَنْ يَقُولُ) على وجه الإنكار ، أي يقول بعضهم لبعض (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) أي يقينا وبصيرة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) معناه : فأما المؤمنون المخلصون فزادتهم تصديقا بالفرائض مع إيمانهم بالله (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي يسرون ويبشر بعضهم بعضا ، قد تهلّلت وجوههم وفرحوا بنزولها (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أي نفاقا وكفرا إلى نفاقهم وكفرهم لأنهم يشكّون في هذه السورة كما شكّوا فيما تقدمها من السور ، فذلك هو الزيادة ، وسمي الكفر رجسا على وجه الذم له وأنه يجب تجنبه كما يجب تجنب الأرجاس (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) أي واداهم شكّهم فيما أنزل الله تعالى من السور إلى أن ماتوا على كفرهم وآبوا شر مآب.

١٢٦ ـ ١٢٩ ـ ثم نبّه سبحانه على اعراض المنافقين عن النظر والتدبر لما ينبغي أن ينظروا ويتدبروا فيه فقال (أَوَلا يَرَوْنَ) أي أو لا يعلم هؤلاء المنافقون وقيل معناه : أولا يبصرون (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) أي يمتحنون (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) أي دفعة أو دفعتين بالأمراض والأوجاع وهو رائد الموت (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) أي لا يرجعون عن كفرهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لا يتذكرون نعم الله عليهم (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) معناه : وإذا نزلت سورة من القرآن وهم حضور عند النبي (ص) كرهوا ما يسمعونه ونظر بعضهم إلى بعض (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) وإنما يفعلون ذلك لأنهم منافقون يحذرون أن يعلم بهم ، فكأنهم يقول بعضهم لبعض : هل يراكم من أحد؟ ثم يقومون فينصرفون ، وإنما يفعلون ذلك مخافة أن تنزل آية تفضحهم ، وقيل معناه : ان المنافقين كان ينظر بعضهم إلى بعض نظر تعنت وطعن في القرآن ثم يقولون هل يرانا أحد من المسلمين ، فإذا تحقق لهم أنه لا يراهم أحد من المسلمين بالغوا فيه وإن علموا أنهم يراهم واحد منهم كفوا عنه (ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي انصرفوا عن المجلس (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الفوائد التي يستفيدها المؤمنون والسرور بها ، وحرموا الاستبشار بتلك الحال (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك بسبب أنهم لا يفقهون مراد الله بخطابه لأنهم لا ينظرون فيه ، ثم خاطب الله سبحانه جميع الخلق وأكد خطابه بالقسم فقال (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) عنى بالرسول محمدا (ص) ، أي جاءكم رسول من جنسكم من البشر ، ثم من العرب ، ثم بني اسماعيل (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) معناه : شديد عليه عنتكم : أي ما يلحقكم من الضرر بترك الإيمان (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) معناه : حريص على من لم يؤمن أن يؤمن (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) رؤوف بالمطيعين منهم رحيم بالمذنبين وقيل : رؤوف بأقربائه رحيم بأوليائه ، رؤوف لمن رآه ، رحيم بمن لم يره ، وقال بعض السلف : لم يجمع الله سبحانه لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلّا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه قال : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقال ؛ (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي ذهبوا عن الحق واتباع الرسول وما يأمرهم به واعرضوا عن قبوله (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي كافيّ الله فإنه القادر على كل شيء (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) وبه وثقت ، وعليه اعتمدت ، وأموري إليه فوضت (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) خصّ العرش بالذكر تفخيما لشأنه ، ولأنه إذا كان رب العرش مع عظمه كان رب ما دونه في العظم وقيل : إن العرش عبارة عن الملك العظيم في السماوات والأرض وقيل : إن هذه الآية آخر آية نزلت من السماء وآخر سورة كاملة نزلت سورة براءة وقال

٢٦٩

قتادة : آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان.

سورة يونس

وعدد آيها مائة وتسع آيات

لما ختم الله سورة براءة بذكر الرسول افتتح هذه السورة بذكره وما نزل عليه من القرآن فقال (الر).

١ ـ ٢ ـ قد مضى الكلام في معاني الحروف المعجمة المذكورة في أوائل السور من قبل (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) معناه : ان الآيات التي جرى ذكرها ، أو الآيات التي أنزلت على محمد (ص) هي آيات القران المحكم من الباطل ، الممنوع من الفساد ، لا كذب فيه ولا اختلاف وقيل : تلك أي هذه السور آيات الكتاب الحكيم أي اللوح المحفوظ ، وسماه محكما لأنه ناطق بالحكمة وقيل : لأنه جمع العلوم والحكمة وقيل : إنما وصف الكتاب بالحكيم لأنه دليل على الحق كالناطق بالحكمة ، ولأنه يؤدي إلى المعرفة التي تميز بها طريق الهلاك من طريق النجاة (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) هذه ألف استفهام المراد به الإنكار ، وقيل : المراد بالناس هنا أهل مكة قالوا : تعجب ان الله سبحانه لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلّا يتيم أبي طالب ، والتقدير : أكان ايحاؤنا إلى رجل من الناس بأن ينذرهم عجبا ، ومعناه : لماذا تعجبون ان أوحينا إلى رجل منهم ، وليس هذا موضع تعجب ، فإن الله تعالى لما أكمل لعباده عقولهم ، وكلّفهم معرفته ، وأداء شكره ، وعلم أنهم لا يصلحون ولا يقومون بذلك إلّا بداع يدعوهم إليه ، ومنبّه ينبههم عليه ، وجب في الحكمة أن يفعل ذلك. ثم بيّن سبحانه الوجه الذي لأجله بعث ، وما الذي أوحى إليه فقال : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ، أي أخبرهم بالعذاب وخوفهم به (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي عرفهم ما فيه الشرف والخلود في نعيم الجنة على وجه الإكرام والإجلال لصالح الأعمال (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) يعنون النبي ، أي قالوا : هذا ساحر مظهر للسحر وما أتى به سحر بيّن وهذا يدل على عجزهم عن معارضة القرآن.

٣ ـ ٤ ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ) أي خالقكم ومنشئكم ، ومالك تدبيركم وتصريفكم من أمره ونهيه ، والذي يجب عليكم عبادته (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي اخترعهما وأنشأهما على ما فيهما من عجائب الصنعة ، وبدائع الحكمة (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) بلا زيادة ونقصان مع قدرته على إنشائهما دفعة واحدة ، وكذلك تصريف الإنسان حالا بعد حال ، واخراج الثمار والأزهار شيئا بعد شيء مع قدرته على ذلك في أقل من لمح البصر ، لأن ذلك أبعد من توهم الاتفاق فيه (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) مرّ تفسيره في سورة الأعراف وقيل : ان العرش المذكور هنا هو السماوات والأرض لأنهم من بنائه والعرش البناء (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يقدّره وينفذه على وجهه ، ويرتبه على مراتبه على أحكام عواقبه (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) إنما قال هذا وإن لم يجر ذكر للشفعاء لأن الكفار كانوا يقولون : الأصنام شفعاؤنا عند الله ، فبيّن سبحانه أن الشفيع إنما يشفع عنده إذا أذن له في الشفاعة ، وإذا كانت الأصنام لا تعقل فكيف تكون شافعة مع انه لا يشفع عنده أحد من الملائكة والنبين إلّا بإذنه وأمره (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي أن الموصوف بهذه الصفات هو إلهكم (فَاعْبُدُوهُ) وحده لأنه لا إله لكم سواء ، ولا يستحق هذه الصفات غيره ، ولا تعبدوا الأصنام (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) حثّهم سبحانه على التذكر والتفكر فيما أخبرهم به ، وعلى تعرف صحته (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) المرجع يحتمل معنيين (أحدهما) أن يكون بمعنى المصدر الذي هو الرجوع (والآخر) أن يكون بمعنى موضع الرجوع أي إليه موضع رجوعكم (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعد الله تعالى ذلك

٢٧٠

عباده وعدا حقا وصدقا (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي يبتدىء الخلق ابتداء ثم يعيدهم بعد موتهم (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي ليؤتيهم جزاء أعمالهم (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل لا ينقص من أجورهم شيئا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي ماء حار قد انتهى حرّه في النار (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي جزاء على كفرهم.

٥ ـ ٦ ـ ثم زاد سبحانه في الإحتجاج للتوحيد فقال (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) بالنهار (وَالْقَمَرَ نُوراً) بالليل ، والضياء أبلغ في كشف الظلمات من النور ، وفيه صفة زائدة على النور (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أي وقدّر القمر منازل معلومة (لِتَعْلَمُوا) به وبمنازله (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) وأول الشهر وآخره ، وانقضاء كل سنة وكميتها ، وجعل الشمس والقمر آيتين من آيات الله تعالى وفيهما أعظم الدلالات على وحدانيته تعالى من وجوه كثيرة منها. خلقهما وخلق الضياء والنور فيهما ، ودورانهما وقربهما وبعدهما ، ومشارقهما ومغاربهما ، وكسوفهما ، وفي بثّ الشمس الشعاع في العالم ، وتأثيرها في الحرّ والبرد ، واخراج النبات وطبخ الثمار ، وفي تمام القمر وسط الشهر ونقصانه في الطرفين ليتميز أول الشهر وآخره من الوسط ، كل واحد من ذلك نعمة عظيمة من الله سبحانه على خلقه ولذلك قال (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) لأن في ذلك منافع للخلق في دينهم ودنياهم ، ودلائل على وحدانية الله وقدرته ، وكونه عالما لم يزل ولا يزال (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي يشرحها ويبيّنها آية آية (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فيعطون كل آية حظها من التأمل والتدبر وقيل : إن المعنى في قوله : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) : التثنية ، أي قدّر الشمس والقمر منازل غير أنه وحّده للإيجاز اكتفاء بالمعلوم ، فإن الشمس تقطع المنازل في كل سنة ، والقمر يقطعها في كل شهر فإنما يتم الحساب وتعلم السنون والشتاء والصيف بمقاديرهما ومجاريهما في تداويرهما (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي فعله فيهما على ما تقتضيه الحكمة في السماوات من الأفلاك والكواكب السيارة وغير السيارة ، وفي الأرض من الحيوان والنبات والجماد وأنواع الأرزاق والنعم (لَآياتٍ) أي حججا ودلالات على وحدانية الله (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) معاصي الله ويخافون عقابه ، وخصّهم بالذكر لاختصاصهم بالانتفاع بها.

٧ ـ ١٠ ـ ثم أنه سبحانه أوعد الغافلين عن الأدلة المتقدمة المكذبين بالمعاد فقال (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي لقاء جزائنا ومعناه : لا يطمعون في ثوابنا ، واضافه إلى نفسه تعظيما لله ، ويحتمل أن يكون المعنى : لا يخافون عقابنا ، كما يكون الرجاء بمعنى الخوف.

جعل سبحانه ملاقاة ما لا يقدر عليه إلا هو ملاقاة له كما جعل اتيان ملائكته اتيانا له في قوله هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله تفخيما للأمر (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي متّعوا بها واختاروها فلا يعملون إلّا لها ، ولا يجتهدون إلّا لأجلها مع سرعة فنائها ، ولا يرجون ما وراءها (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي وسكنوا إلى الدنيا بأنفسهم ، وركنوا إليها بقلوبهم (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) أي ذاهبون عن تأملها فلا يعتبرون بها (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ) أي مستقرّهم النار (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من المعاصي ثم وعد سبحانه المؤمنين بعد ما أوعد الكافرين فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا بالله ورسله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي وأضافوا إلى ذلك الأعمال الصالحة (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) إلى الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي تجري بين أيديهم الأنهار وهم يرونها من علو كما قال سبحانه (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) ومعلوم أنه لم يجعل السري الذي هو الجدول تحتها وهي قاعدة عليه وإنما أراد إنه جعله بين يديها وقيل معناه من تحت بساتينهم وأسرّتهم وقصورهم عن الجبائي وقوله بإيمانهم يعني به جزاء على إيمانهم (دَعْواهُمْ فِيها) أي دعاء المؤمنين في

٢٧١

الجنة وذكرهم فيها أن يقولوا (سُبْحانَكَ اللهُمَ) يقولون ذلك لا على وجه العبادة لأنه ليس هناك تكليف بل يتلذّذون بالتسبيح (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي تحيتهم من الله سبحانه في الجنة سلام (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وليس المراد أن ذلك يكون آخر كلامهم حتى لا يتكلّموا بعده بشيء بل المراد أنهم يجعلون هذا آخر كلامهم في كل ما ذكروه.

١١ ـ ١٢ ـ ثم عاد الكلام إلى ذكر المائلين إلى الدنيا ، المطمئنين إليها ، الغافلين عن الآخرة فقال (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) أي اجابة دعوتهم في الشر إذا دعوا به على أنفسهم وأهاليهم عند الغيظ والضجر واستعجلوه مثل قول الإنسان : رفعني الله من بينكم وقوله لولده : اللهم العنه ولا تبارك فيه (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) أي كما يعجل لهم إجابة الدعوة بالخير إذا استعجلوها (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لفرغ من اهلاكهم ولكن الله تعالى لا يعجل لهم الهلاك بل يمهلهم حتى يتوبوا وقيل معناه ولو يعجّل الله للناس العقاب الذي استحقّوه بالمعاصي كما يستعجلون خير الدنيا وربما أجيبوا إلى ما سألوه إذا اقتضيت المصلحة ذلك لفنوا لأن بنية الإنسان في الدنيا لا تحتمل عقاب الآخرة بل لا تحتمل ما دونه والله سبحانه يوصله إليهم في وقته وسمي العقاب شرّا من جهة المشقة والأذى الذي فيه وفائدته انه لو تعجلت العقاب لزال التكليف ولا يزول التكليف إلّا بالموت وإذا عوجلوا بالموت لم يبق أحد (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي فندع الذين لا يخافون البعث والحساب يتحيّرون في كفرهم وعدولهم عن الحق إلى الباطل ، وتمردهم في الظلم ، والعمه : شدة الحيرة : ثم أخبر سبحانه عن قلة صبر الإنسان على الضرر والشدائد فقال (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) أي المشقة والبلاء ، والمحنة من محن الدنيا (دَعانا لِجَنْبِهِ) أي دعانا لكشفه مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) أي على أي حال كان عليها واجتهد في الدعاء وسؤال العافية ، وليس غرضه بذلك نيل ثواب ، وقيل إنّ تقديره : وإذا مس الإنسان الضر مضطجعا أو قاعدا أو قائما دعانا لكشفه وفيه تقديم وتأخير (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) أي فلما أزلنا عنه ذلك الضرر ، ووهبنا له العافية (مَرَّ) أي استمر على طريقته الأولى معرضا عن شكرنا (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) أي كأن لم يدعنا قط لكشف ضره ، ولم يسألنا إزالة الألم عنه (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي كما زين لهم الشيطان واقرانهم الغواة ترك الدعاء عند الرخاء زينوا للمسرفين : أي للمشركين عملهم.

١٣ ـ ١٤ ـ ثم أخبر سبحانه عما نزل بالأمم الماضية من المثلات ، وحذر هذه الأمة عن مثل مصارعهم فقال (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) بأنواع العذاب (لَمَّا ظَلَمُوا) أنفسهم بأن أشركوا وعصوا (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الظاهرة ، والدلالات الواضحة (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) هذا اخبار بأن هذه الأمم إنما أهلكوا لما كانوا في المعلوم أنهم لو بقوا لم يكونوا يؤمنون بالرسل الذين أتوهم ، والكتب التي جاؤوهم بها (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كذلك نعذّب القوم المشركين في المستقبل إذا لم يؤمنوا بعد قيام الحجة عليهم (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) يا أمة محمد (خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد القرون التي أهلكناهم ومعناه : أسكناهم الأرض خلفهم (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي لنرى عملكم أين يقع من عمل اولئك ، أتقتدون بهم فتستحقون من العقاب مثل ما استحقوه ، أم تؤمنون فتستحقون الثواب؟

١٥ ـ ١٧ ـ ثم أخبر سبحانه عن مشركي قريش فقال (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) المنزلة في القرآن (بَيِّناتٍ) أي واضحات في الحلال والحرام وسائر الشرائع (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) أي لا يؤمنون بالبعث والنشور فلا يخشون عقابنا ، ولا

٢٧٢

يطمعون في ثوابنا (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) الذي تتلوه علينا (أَوْ بَدِّلْهُ) فاجعله على خلاف ما تقرؤه والفرق بينهما أن الإتيان بغيره قد يكون معه وتبديله لا يكون إلا برفعه وقيل معنى قوله بدله غير أحكامه من الحلال أو الحرام أرادوا بذلك زوال الحظر عنهم وسقوط الأمر منهم وأن يخلي بينهم وبين ما يريدونه (قُلْ) يا محمد (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي من جهة نفسي ، وناحية نفسي ، ولأنه معجز فلا أقدر على الإتيان بمثله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي ما اتبع إلّا الذي أوحي إليّ (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) في اتباع غيره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي يوم القيامة (قُلْ) يا محمد (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) معناه : لو شاء الله ما تلوت هذا القرآن عليكم بأن كان لا ينزله علي فلا أقرأه عليكم فلا تعلمونه (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) أي فقد مكثت وأقمت بينكم دهرا طويلا من قبل إنزال القرآن فلم أقرأه عليكم ، ولا ادّعيت نبوة حتى أكرمني الله تعالى به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تتفكرون فيه بعقولكم فتعلموا ان المصلحة فيما أنزله الله تعالى دون ما تقرؤونه. والعقل : هو العلم الذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب ، والناس يتفاضلون فيه ، فبعضهم أعقل من بعض (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ) أي لا أحد أظلم ممن اخترع على الله (كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) أي المشركون.

١٨ ـ ٢٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار فقال (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي ويعبد هؤلاء المشركون الأصنام التي لا يضرهم إن تركوا عبادتها ولا ينفعهم إن عبدوها. فإن قيل : كيف ذمهم على عبادة الصنم الذي لا ينفع ولا يضر ، مع انه لو نفع وضرّ لا يجوز أيضا عبادته؟ قلنا : عبادة من لا يقدر على أصول النعم وان قدر على النفع والضر إذا كان قبيحا فمن لا يقدر على النفع والضر أصلا من الجماد والحيوان تكون عبادته أقبح واشنع ، فلذلك خصّه بالذكر (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا : انا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله ، وإن الله أذن لنا في عبادتها ، وانه سيشفعها فينا في الآخرة ، وتوهّموا ان عبادتها أشد في تعظيم الله سبحانه من قصده تعالى بالعبادة ، فجمعوا بين قبيح القول ، وقبيح الفعل ، وقبيح التوهم (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أمر سبحانه نبيه (ص) أن يقول لهم على وجه الإلزام : أتخبرون الله بما لا يعلم من حسن عبادة الأصنام وكونها شافعة لأن ذلك لو كان صحيحا لكان تعالى به عالما ، ففي نفي علمه بذلك نفي المعلوم ومعناه : انه ليس في السماوات ولا في الأرض إله غير الله ، ولا أحد يشفع لكم يوم القيامة وقيل معناه : أتخبرون الله بشريك أو شفيع لا يعلم شيئا كما قال ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض فكذلك وصفهم بأنهم لا يعلمون في السماوات والأرض شيئا (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزّه الله تعالى عن أن يكون له شريك في استحقاق العبادة (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) ان الناس كانوا جميعا على الحق وعلى دين واحد فاختلفوا في الدين الذي كانوا مجتمعين عليه قيل : انهم اختلفوا على عهد آدم وولده ، عن ابن عباس والسدي ومجاهد والجبائى وأبي مسلم ، ومتى اختلفوا؟ قيل : عند قتل أحد ابنيه أخاه. وقيل اختلفوا بعد موت آدم عليه‌السلام ، وأنهم كانوا على شرع واحد ودين واحد زمن نوح (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) من انه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعاما عليهم في التأني بهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي فصل بينهم (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بأن يهلك العصاة وينجي المؤمنين ، لكنّه أخرهم إلى يوم القيامة تفضلا منه إليهم ، وزيادة في الانعام عليهم ، ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار فقال (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي هلا أنزل على

٢٧٣

محمد آية من ربّة تضطرّ الخلق إلى المعرفة بصدقه (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) معناه : يا محمد إن الذي يعلم الغيب ويعلم مصالح الأمور قبل كونها هو الله لا تخفى عليه خافية فيعلم ما في انزاله صلاح فينزله ، ويعلم ما ليس في انزاله صلاح فلا ينزله ، ولذلك لا يفعل الآية التي اقترحوها في هذا الوقت لما في ذلك من حسن تدبير (فَانْتَظِرُوا) أي فانتظروا عقاب الله تعالى بالقهر والقتل في الدنيا ، والعقاب في الآخرة (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لأن الله تعالى وعدني النصرة عليكم.

٢١ ـ ٢٣ ـ ثم أخبر سبحانه عن ذميم فعالهم فقال (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) يريد بالناس الكفار ، فهو عموم يراد به الخصوص (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) أي راحة ورخاء بعد شدة وبلاء ، وحقيقة الذوق فيما له طعم يوجد إنما يكون طعمه بالفم ، وإنما قال : اذقناهم الرحمة على طريق البلاغة لشدة ادراك الحاسّة إياها (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أي فهم يحتالون لدفع آياتنا بكل ما يجدون السبيل إليه من شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة وقال مجاهد : مكرهم استهزاؤهم وتكذيبهم (قُلِ) يا محمد لهم (اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي أقدر جزاء على المكر ومعناه : ان ما يأتيهم من العقاب أسرع مما أتوه من المنكر (إِنَّ رُسُلَنا) يعني الملائكة الحفظة (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أي ما تدبّرون من سوء التدبير ، وفي هذا غاية الزجر والتهديد من وجهين (أحدهما) انه يحفظ مكرهم (والآخر) انه أقدر على جزائهم وأسرع فيه. ثم امتن الله سبحانه على خلقه بأن عدّد نعمه التي يفعلها بهم في كل حال فقال (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي يمكنكم من المسير في البر والبحر بما هيأ لكم من آلات السير وهي خلق الدواب وتسخيرها لكم لتركبوها في البر ، وتحملوا عليها أثقالكم ، وهيّأ السفن في البحر ، وإرسال الرياح المختلفة التي تجري بالسفن في الجهات المختلفة (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) خصّ الخطاب براكب البحر ، أي إذا كنتم راكبي السفن في البحر (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) أي وجرت السفن بالناس لما ركبوها (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي بريح لينة يستطيبونها (وَفَرِحُوا بِها) أي سرّوا بتلك الريح لأنها تبلغهم مقصودهم (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) أي جاءت السفينة ريح عاصف شديدة الهبوب الهائلة (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من البحر والموج : اضطراب البحر ومعناه : وجاء راكبي البحر الأمواج العظيمة من جميع الوجوه (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي ايقنوا أنهم دنوا من الهلاك (دَعَوُا اللهَ) عند هذه الشدائد والأهوال ، والتجأوا إليه ليكشف ذلك عنهم (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي على وجه الإخلاص في الاعتقاد ، ولم يذكروا الأوثان والأصنام لعلمهم بأنها لا تنفعهم ههنا شيئا وقالوا (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) يا رب (مِنْ هذِهِ) الشدة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي من جملة من يشكرك على نعمك وقوله : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) جواب قوله : (إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) وقوله : (دَعَوُا اللهَ) جواب قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) أي خلصهم الله تعالى من تلك المحن (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يعملون فيها بالمعاصي والفساد ، ويشتغلون بالظلم على الأنبياء وعلى المسلمين (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي بغي بعضكم على بعض وما ينالونه به متاع في الدنيا ، وإنما تأتونه لحبكم العاجلة وإيثارها على ما يقرب إلى الله تعالى من الطاعات ، وقد مرّ بيانه قبل (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) في الآخرة (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي نخبركم بأعمالكم لأنا اثبتناها عليكم ، وهي كلمة تهديد ووعيد.

٢٤ ـ ٢٥ ـ لما تقدّم ما يوجب الترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا عقّبه سبحانه بذكر صفة الدارين فقال (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صفة الحياة الدنيا ، أو شبه الحياة الدنيا في

٢٧٤

سرعة فنائها وزوالها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) وهو المطر (فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي بذلك المطر (نَباتُ الْأَرْضِ) معناه : فاختلط بسببه بعض النبات بالبعض فاختلط ما يأكل الناس بما تأكل الأنعام ثم فصّل ذلك فقال (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) كالحبوب والثمار والبقول (وَالْأَنْعامُ) كالحشيش وسائر أنواع المراعي (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) أي حسنها وبهجتها بأنواع الألوان ، وأجناس النبات وغير ذلك (وَازَّيَّنَتْ) أي تزينت في عين رائيها (وَظَنَّ أَهْلُها) أي مالكها (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي على الانتفاع بها ومعناه : بلغت المبلغ الذي ظن أهلها أنهم يحصدونها ويقدرون على غلتها أو ادامتها (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) معناه : أتاها حكمنا وقضاؤنا بإهلاكها وإتلافها (فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي محصودة ومعناها : مقطوعة مقلوعة ذاهبة يابسة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي كأن لم تقم على تلك الصفة بالأمس ومعناه : كأن لم تكن ولم توجد من قبل (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيها فيعتبرون بها. ولما بيّن سبحانه أن الدنيا تنقطع وتفنى بالموت كما يفنى هذا النبات بفنون الآفات ، ونبّه على التوقع لزوالها ، والتحرز عن الاغترار بأحوالها ، رغّب عقيبه في الآخرة فقال (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) السلام هو الله تعالى ، فإن الله تعالى يدعو إلى داره وداره الجنة عن الحسن وقتادة وقيل دار السلام الدار التي يسلم فيها من الآفات عن الجبائي والسلام والسلامة واحد مثل الرضاع والرضاعة وقيل سميت الجنة دار السلام لأن أهلها يسلّم ربهم عليهم فلا يسمعون إلّا سلاما ولا يرون إلا سلاما ويعضده قوله : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) وما أشبه (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يهدي من يشاء إلى الإيمان والدين الحق بالتوفيق والتيسير والألطاف ، وقال الجبائي : يريد به نصب الأدلة لجميع المكلفين دون الأطفال والمجانين وقيل معناه : يهدي من يشاء في الآخرة إلى طريق الجنة الذي يسلكه المؤمنون ويعدل عنه الكافرون إلى النار.

٢٦ ـ ٢٧ ـ ثم بيّن سبحانه أهل دار السلام فقال (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) ومعناه : للذين أحسنوا العمل ، وأطاعوا الله تعالى في الدنيا جزاء لهم على ذلك الحالة الحسنى ، والمنزلة الحسنى وهي الحالة الجامعة للذات والنعيم على أكمل ما يكون ، وأفضل ما يمكن (وَزِيادَةٌ) ذكر في ذلك وجوه أن الحسنى : الثواب المستحق ، والزيادة : التفضل على قدر المستحق على طاعاتهم من الثواب وهي المضاعفة المذكورة في قوله : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) عن ابن عباس (وثانيها) الزيادة هي ان ما أعطاهم الله تعالى من النعم في الدنيا لا يحاسبهم به في الآخرة عن أبي جعفر الباقر (ع) (وثالثها) ان الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب عن علي (ع) وقيل : الزيادة ما يأتيهم في كل وقت من فضل الله مجددا (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) أي لا يلحق وجوههم سواد (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مرّ معناه (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) أي اكتسبوها وارتكبوها (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) يعني يجزون بمثل أعمالهم ، أي قدر ما يستحق عليها من غير زيادة ، لأن الزيادة على قدر المستحق من العقاب ظلم ، والزيادة على قدر المستحق من الثواب تفضل (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يلحقهم هوان وذل لأن العقاب يقارنه الإهانة والإذلال (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ما لهم من حافظ ومانع يدفع عقاب الله عنهم (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) أي كأنما البست وجوههم ظلمة الليل ، والمراد وصف وجوههم بالسواد كقوله سبحانه : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ظاهر المراد.

٢٨ ـ ٣٠ ـ ولما تقدم ذكر الجزاء بين سبحانه وقت الجزاء فقال (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي نحشر الخلائق أجمعين ،

٢٧٥

أي نجمعهم من كل أوب إلى الموقف (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) في عبادتهم مع الله غيره (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أي أثبتوا والزموا مكانكم أنتم مع شركائكم يعني الأوثان فقد صحبتموهم في الدنيا فاصحبوهم في المحشر (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي فميّزنا وفرّقنا بينهم في المسألة ، فسألنا المشركين على حدة لم عبدتم الأصنام؟ وسألنا الأصنام على حدة لم عبدتم وبأيّ سبب عبدتم؟ وهذا سؤال تقريع وتبكيت (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) أي يحييهم الله وينطقهم فقالوا : ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي فاصلا للحكم (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أيها المشركون (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) المراد : الأصنام فلم يكن لها حسّ ولا علم ، وهذا غاية في الزام الحجة حيث اختاروا للعبادة من لم يدعهم اليها ، ولم يشعر بها (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي في ذلك المكان ، وفي تلك الحال ، وفي ذلك الوقت تجرب وتعلم كل نفس ما قدّمت من خير أو شرّ وترى جزاءه (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي وردّوا إلى جزاء الله ، وإلى الموضع الذي لا يملك أحد فيه الحكم إلّا الله الذي هو مالكهم وسيّدهم وخالقهم ، والحق صفة لله تعالى وهو القديم الدائم الذي لا يفنى وما سواه يبطل (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي بطل وهلك عنهم ما كانوا يدعونه بافترائهم من الشركاء مع الله تعالى.

٣١ ـ ٣٣ ـ ثم قرر سبحانه أدلة التوحيد والبعث عليهم فقال (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (مَنْ يَرْزُقُكُمْ) أي من يخلق لكم الأرزاق (مِنَ السَّماءِ) بانزال المطر والغيث (وَ) من (الْأَرْضِ) باخراج النبات وأنواع الثمار. والرزق في اللغة هو العطاء الجاري ، يقال : رزق السلطان الجند ، إلّا أن كل رزق فإن الله هو الرازق به ، لأنه لو لم يطلقه على يد ذلك الإنسان لم يجىء منه شيء ، فلا يطلق اسم الرزاق إلّا على الله تعالى ، ويقيّد في غيره ، كما لا يطلق اسم الرب إلّا عليه ويقيّد في غيره ، فيقال : ربّ الدار ، وربّ الضيعة (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) معناه : أم من يملك أن يعطيكم الاسماع والأبصار فيقويها وينورها ولو شاء لسلب نورها وحسّها (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ومن يخرج الإنسان من النطفة ، والنطفة من الإنسان (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي ومن الذي يدبّر جميع الأمور في السماء والأرض على ما توجبه الحكمة (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أي فسيعترفون بأن الله تعالى يفعل هذه وان الأصنام لا تقدر عليها (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي فقل لهم عند اعترافهم بذلك أفلا تتقون عقابه في عبادة الأصنام ، وفي الآية دلالة على التوحيد (فَذلِكُمُ اللهُ) ذلك إشارة إلى اسم الله تعالى الذي وصفه في الآية الأولى بأنه الذي يرزق الخلق ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، والكاف والميم للمخاطبين وهم جميع الخلق ، أخبر سبحانه ان الذي يفعل هذه الأشياء (رَبُّكُمُ الْحَقُ) الذي خلقكم ، ومعبودكم الذي يحقّ له العبادة دون غيره من الأصنام والأوثان (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) المراد به : ليس بعد الذهاب عن الحق إلّا الوقوع في الضلال ، لأنه ليس بينهما واسطة ، فإذا ثبت أن عبادته هو الحق ثبت ان عبادة ما سواه باطل وضلال (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي فكيف تعدلون عن عبادته مع وضوح الدلالة على أنه لا معبود سواه (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) معناه : مثل انصرافهم عن الإيمان وجبت العقوبة لهم ، أي جازاهم ربهم بمثل ما فعلوا من الإنصراف ، وهذا في قوم علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون ، ومعناه : سبق علم ربك في هؤلاء لا يؤمنون.

٣٤ ـ ٣٦ ـ ثم احتجّ سبحانه عليهم في التوحيد باحتجاج آخر فقال (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي هل من هذه الأصنام التي جعلتموها شركاء لله في العبادة من يبدأ الخلق بالإنشاء بعد أن لم يكن وهو النشأة الأولى ، ثم يعيده في النشأة الثانية

٢٧٦

(قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) معناه : فإن قالوا : ليس من شركائنا من يقدر عليه أو سكتوا فقل أنت لهم : الله هو الذي يبدأ الخلق (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عن الحق وتقلبون عن الإيمان (قُلْ) يا محمد (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي هل من هذه الأصنام من يهدي الناس إلى الرشد وما فيه الصلاح والنجاة (قُلْ) أنت لهم (اللهُ) هو الذي (يَهْدِي لِلْحَقِ) إلى طريق الرشاد (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) معناه : أفمن يهدي غيره إلى طريق التوحيد والرشد (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) أمره ونهيه (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) أحدا (إِلَّا أَنْ يُهْدى) إلّا بمنزلة حتى فكأنه قال أم من لا يهتدي حتى يهدى ، أم من لا يعلم حتى يعلم ؛ ولو دلّ أو علم لم يستدل (فَما لَكُمْ) قال الزجاج : هذا كلام تام كأنه قال أيّ شيء لكم في عبادة من لا يضرّ ولا ينفع (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا تعجيب من حالهم ، أي كيف تقضون بأن هذه الأصنام آلهة وأنها تستحق العبادة (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) أي ليس يتبع أكثر هؤلاء الكفار إلّا ظنا ، الظن الذي لا يجدي شيئا من تقليد آبائهم ورؤسائهم (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) لأن الحق إنما ينتفع به من علمه حقا وعرفه معرفة صحيحة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) من عبادة غير الله تعالى فيجازيهم عليه.

٣٧ ـ ٤٠ ـ ثم ردّ الله سبحانه على الكفار قولهم إئت بقرآن غير هذا أو بدّله ، وقولهم ان النبي (ص) افترى هذا القرآن فقال (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) أي افتراء (مِنْ دُونِ اللهِ) بل هو وحي من الله ومتلقى منه (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب كما قال في موضع آخر : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ، وهذه شهادة من الله بأن القرآن صدق وشاهد لما تقدم من التوراة والإنجيل والزبور بأنها حق (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) معناه : بيان الأدلة التي تحتاجون إليها في أمور دينكم (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لا شكّ فيه أنه نازل من عند الله ، وانه معجز لا يقدر أحد على مثله ، وهذا غاية في التحدي (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) هذا تقرير على موضع الحجة بعد مضي حجة أخرى وتقديره : أيقولون افتراه؟ فألزمهم على الأصل الفاسد إمكان أن يأتوا بمثله و (قُلْ) لهم (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي مثله في البلاغة لأنكم من أهل لسانه ، فلو قدر على ذلك لقدرتم أنتم أيضا عليه ، فإذا عجزتم عن ذلك فاعلموا انه ليس من كلام البشر ، وانه منزل من عند الله عزّ اسمه (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي وادعوا من قدرتم عليه من دون الله واستعينوا به للمعاضدة على المعارضة بسورة مثله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنّ هذا القرآن مفترى من دون الله ، وهذا أيضا غاية في التحدي والتعجيز (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) لم يعلموه من جميع وجوهه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي لم يأتهم بعد حقيقة ما وعد في الكتاب مما يؤول إليه أمرهم من العقوبة ، وقيل معناه : إن في القرآن أشياء لا يعلموها هم ولا يمكنهم معرفته إلّا الرجوع إلى النبي (ص) فلم يرجعوا إليه وكذّبوا به فلم يأتهم تفسيره وتأويله فيكون معنى الآية بل كذبوا بما لم يدركوا علمه من القرآن ولم بأتهم تفسيره ولو راجعوا فيه رسول الله صلّى عليه وآله لعلموه ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه قال : إن الله خصّ هذه الأمة بآيتين من كتابه : أن لا يقولوا إلّا ما يعلمون ، وان لا يردّوا ما لا يعلمون ، ثم قرأ : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) الآية ، وقرأ : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) الآية. وقيل : إن من هنا أخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : الناس اعداء ما جهلوا ، وأخذ قوله : قيمة كل امرىء ما يحسنه من قوله عزوجل : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ، وأخذ قوله : تكلموا تعرفوا من قوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثل تكذيب هؤلاء كذبت الأمم

٢٧٧

السالفة رسلها (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي كما كان عاقبة أولئك الهلاك كذلك عاقبة هؤلاء (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) وأراد سبحانه أنه لا يهلكهم في الحال لما يعلم في تبقيتهم من الصلاح (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي بمن يدوم على الفساد ، ويعلم من يتوب.

٤١ ـ ٤٤ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه (ص) فقال (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا محمد ولم يصدّقوك ، وردّوا عليك قولك (فَقُلْ) لهم (لِي عَمَلِي) فإن كنت كاذبا فوباله عليّ (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي ولكم جزاء عملكم (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) نظيره قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلى آخر السورة ، وهذا وعيد لهم من الله تعالى كقوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) ونحوه (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) معناه : ومن جملة هؤلاء الكفار من يستمع اليك يا محمد ، والاستماع : طلب السمع ، فهم كانوا يطلبون السمع للردّ لا للفهم فلذلك لزمهم الذم ، فإنهم إذا سمعوه على هذا الوجه كأنهم صم لم يستمعوه حيث لم ينتفعوا به (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) هذا خطاب للنبي (ص) بأنه لم يقدر على اسماع الصم (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) معناه : ولو كانوا جهالا (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أي ومن جملتهم من ينظر إليك يا محمد أي ينظر إلى أفعالك وأقوالك لا نظر الحقيقة والعبرة بل نظر العادة فلا ينتفع بنظره (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي فكما أنك لا تقدر أن تبصر العمي فتنفعهم به كذلك لا تقدر أن تنفع بما تأتي به من الأدلة من ينظر إليها ولا يطلب الإنتفاع (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) قد تمدّح سبحانه في هذه الآية بأنه لا يظلم أحدا من الناس شيئا بأن ينقص من حسناتهم وجزاء طاعاتهم ولكنهم ينقصون أنفسهم ويظلمونها بإرتكاب ما نهى الله عنه من القبائح ، والمعنى هنا : ان الله تعالى لا يمنع أحدا الانتفاع بما كلفهم الانتفاع به من القرآن والأدلة ، ولكنهم يظلمون أنفسهم بترك النظر فيه ، والإستدلال به ، وتفويتهم أنفسهم الثواب عليها ، وإدخالهم عليها العقاب ، ففي الآية دلالة على أنه سبحانه لا يفعل الظلم ، فبطل قول المجبرة في إضافة كل ظلم إلى خلقه وإرادته.

٤٥ ـ ٤٧ ـ ثم بيّن سبحانه حالهم يوم الجمع فقال (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي يجمعهم من كل مكان إلى الموقف (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا (إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) أي كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلّا ساعة من النهار ومعناه : أنهم استقلّوا أيام الدنيا فإن المكث في الدنيا وإن طال كان بمنزلة مكث ساعة في جنب الآخرة (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) معناه : ان الخلق يعرف بعضهم بعضا في ذلك الوقت كما كانوا في الدنيا كذلك ، وقيل معناه. يعرف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطأ والكفر قال الكلبي : يتعارفون إذا خرجوا من قبورهم ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب ويتبرأ بعضهم من بعض (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي بلقاء جزاء الله (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) للحق قال الحسن معناه خسروا أنفسهم لأنهم لم يكونوا مهتدين في الدنيا ولو كانوا مهتدين في الدنيا لم يخسروا أنفسهم ومعناه : أنهم خسروا الدنيا حين صرفوها إلى المعاصي ، وخسروا نعيم الآخرة حين فوّتوها على أنفسهم بمعاصيهم (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) يا محمد في حياتك (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي نعد هؤلاء الكفار من العقوبة في الدنيا قالوا : ومنها وقعة بدر (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي نميتنك قبل أن ينزل ذلك بهم ، وينزل ذلك بهم بعد موتك (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي إلى حكمنا مصيرهم في الآخرة فلا يفوتوننا وقيل : إن الله سبحانه وعد نبيه (ص) أن ينتقم له منهم إما في حياته أو بعد وفاته ولم يحدّه بوقت فقال : إن ما وعدناه حقا لا محالة (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) أي عليم بأفعالهم حافظ لها فهو يوفيهم عقاب معاصيهم (وَلِكُلِ

٢٧٨

أُمَّةٍ رَسُولٌ) أي لكل جماعة على طريقة واحدة ودين واحد كأمة محمد ، وأمة موسى وعيسى عليهم‌السلام رسول بعثه الله إليهم ، وحمله الرسالة التي يؤديها إليهم (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) والتقدير : فإذا جاء رسولهم وبلّغ الرسالة ، فكذبه قومه ، وصدّقه آخرون (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) فيهلك المكذبون ، وينجو المؤمنون وقيل معناه : فإذا جاء رسولهم يشهد عليهم يوم القيامة عن مجاهد ، وقيل : في الدنيا بما أذن الله له من الدعاء عليهم ، (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي فصل بينهم الأمر على الحتم (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقصون عن ثواب طاعاتهم ، ولا يزدادون في عقاب سيئاتهم.

٤٨ ـ ٥٢ ـ لما وعد سبحانه المكذبين بين عقيبه أنهم إذا استعجلوا ذلك على سبيل التكذيب والرد فقال (وَيَقُولُونَ) أي ويقول هؤلاء المشركون (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدنا به من البعث وقيام الساعة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ذلك (قُلْ) يا محمد جوابا لهم (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي لا أقدر لنفسي على ضر أن نفع (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يملكني أو يقدرني عليه فكيف أقدر لكم لأني إذا لم أقدر على ذلك كنت عن انزال العذاب وعن معرفة وقته أعجز أو يكون معناه إذا لم أملك لنفسي شيئا من ذلك إلا ما ملكنيه الله تعالى فكيف أملك تقديم القيامة وتعجيل العقوبة قبل الوقت المقدر له (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي لكل أمة في عذابها على تكذيب الرسول وقت معلوم (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فلا يتأخرون عن ذلك الوقت ولا يتقدمون عليه بل يهلكهم في ذلك الوقت بعينه (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المكذبين المستعجلين بالعذاب (أَرَأَيْتُمْ) أي اعلمتم (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) أي عذاب الله (بَياتاً) أي ليلا (أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) وهذا استفهام معناه التقطيع والتهويل كما يقول الإنسان لمن هو في أمر يستوخم عاقبته : ماذ تجني على نفسك؟ وهذا جواب لقولهم : متى هذا الوعد. وقال أبو جعفر الباقر (ع): يريد بذلك عذابا ينزل من السماء على فسقه أهل القبلة في آخر الزمان ، ونعوذ بالله منه (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) هذا استفهام معناه الإنكار وتقديره : أحين وقع بكم العذاب المقدر الموقت آمنتم به؟ أي بالله في وقت اليأس وقيل : بالقرآن ، وقيل : بالعذاب الذي كنتم تنكرونه ، فيقال لكم (آلْآنَ) تؤمنون وقد اضطررتم لحلوله (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ) أي بالعذاب (تَسْتَعْجِلُونَ) من قبل مكذبين مستهزئين وقال الحسن معناه : ثم أنكم ستؤمنون به عند وقوع العذاب فلا ينفعكم إيمانكم ، ونظيره : الآن وقد عصيت قبل (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي ثم يقال يوم القيامة للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد أي ثم يقال يوم القيامة للذين ظلموا أنفسهم : ذوقوا عذاب الدوام في الآخرة بعد عذاب الدنيا (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) معناه : انكم قد دعيتم وهديتم ، وبيّن لكم الأدلة ، وازيحت عنكم العلة فأبيتم إلّا التمادي في الكفر ، والانهماك في الغي فذوقوا جزاء أعمالكم ، وإنما شبّهوا بالذائق وهو الذي يطلب الطعم بالفم لأنه أشد احساسا وقيل : لأنهم يتجرعون العذاب بدخوله أجوافهم.

٥٣ ـ ٥٦ ـ (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) يا محمد أي يطلبون منك أن تخبرهم (أَحَقٌّ هُوَ) أي أحق ما وعدنا من البعث والقيامة والعذاب (قُلْ) يا محمد (إِي وَرَبِّي) أي نعم وحق الله (إِنَّهُ لَحَقٌ) لا شك فيه (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي بسابقين فائتين. وهذا استخبار يحتمل أن يكون إنما وقع منهم على وجه التعريف والاستفهام ، ويحتمل أن يكون وقع على وجه الاستهزاء (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) أي أشركت بالله ، عن ابن عباس ، وقيل : ظلمت بكل ما يسمى ظلما (ما فِي الْأَرْضِ) من الأموال (لَافْتَدَتْ بِهِ) من هول ما يلحقها من العذاب (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي اخفوا

٢٧٩

الندامة ، أي اسرّ الندامة رؤساء الضلالة من الأتباع والسفلة والندامة : الحسرة على ما كان يتمنى انه لم يكن (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي فصل بينهم بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فيما يفعل بهم من العقاب لأنهم جنوه على أنفسهم (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له ملك السماوات والأرض وما فيهما فلا يقدر أحد على منعه من إحلال العقاب بمملوكه المستحق له (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ) باحلال العقاب بالمجرمين (حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) صحة ذلك لجهلهم به تعالى ، وبصحة ما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (هُوَ يُحْيِ) أي يحيى الخلق بعد كونهم أمواتا (وَيُمِيتُ) أي يميتهم بعد أن كانوا أحياء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيجازيهم على أعمالهم.

٥٧ ـ ٥٨ ـ لما تقدّم ذكر القرآن وما فيه من الوعد والوعيد عقّبه سبحانه بذكر جلالة موقع القرآن وعظم محله في باب الأدلة فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لجميع الخلق وتنبيه لهم (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن والموعظة : هي ما يدعو إلى الصلاح ، ويزجر عن الفساد (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الشفاء معنى كالدواء وازلة الداء ، فداء الجهل أضرّ من داء البدن ، وعلاجه أعسر (وَهُدىً) أي ودلالة تؤدي إلى معرفة الحق (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ونعمة لمن تمسك به وعمل بما فيه ، وخصّ المؤمنين بالذكر وإن كان القرآن موعظة ورحمة لجميع الخلق لأنهم الذين انتفعوا به. وصف الله سبحانه القرآن في هذه الآية بأربع صفات بالموعظة والشفاء لما في الصدور وبالهدى والرحمة (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) معناه قل يا محمد بافضال الله وبنعمته ، فإنه يجوز اطلاق الفاضل على الله تعالى ، فوضع الفضل في موضع الافضال ، كما وضع الأنبات في قوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ، في موضع الإنبات وقيل : إن الفضل إلى الله بمعنى الملك ، كما يضاف العبد إليه بأنه مالك له (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) قال الزجاج قوله بذلك بدل من قوله (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) وهو يدل على أنه يعني به القرآن ، أي فبذلك فليفرح الناس لأنه خير لكم يا أصحاب محمد مما في هذه الدنيا الفانية وقيل فضل الله هو القرآن والإسلام.

٥٩ ـ ٦١ ـ ثم أمر سبحانه نبيّه (ص) أن يخاطب كفار مكة فقال (قُلْ) يا محمد لهم (أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) فجعله حلالا (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) أي جعلتم بعضه حراما ، وبعضه حلالا. يعني ما حرّموا من السائبة والبحيرة والوصيلة ، ونحوها مما حرّموا من زروعهم ، وإنما قال : انزل الله تعالى لأن ارزاق العباد من المطر الذي ينزله الله (قُلْ) يا محمد لهم (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) ومعناه : انه لم يأذن لكم في شيء من ذلك بل أنتم تكذبون على الله (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي شيء يظن الذين يكذبون على الله أنه يصيبهم يوم القيامة على افترائهم على الله؟ أي لا ينبغي أن يظنوا أن يصيبهم على ذلك إلّا العذاب الشديد ، والعقاب الأليم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بما فعل بهم من ضروب الإنعام (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) نعمه ويجحدونها. وهذا الكلام خرج مخرج التقريع على افتراء الكذب وإن كان في صورة الاستفهام وتقديره : أيؤديهم افتراؤهم الكذب إلى خير أم شرّ وقيل : إن معنى قوله : (لَذُو فَضْلٍ) : إنه لم يضيق عليهم بالتحريم كما ادعيتم ذلك عليه وقيل معناه : انه لذو فضل على خلقه بترك معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا ، وإمهاله إياهم إلى يوم القيامة : ثم بيّن سبحانه أن إمهاله إياهم ليس بجهل بحالهم فقال : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي ما تكون أنت يا محمد في حال من الأحوال ، وفي أمر من أمور الدين من تبليغ الرسالة ، وتعليم الشريعة (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) وما تقرأ من الله من قرآن (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ

٢٨٠