الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

بأنك قد نقضت ما شرطت لهم لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء ، ولا تبدأهم بالقتال من قبل أن تعلمهم بنقض العهد حتى لا ينسبوك إلى الغدر بهم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي بنقضهم معناه : فلا تخنهم بأن تبدأهم بالقتال من غير اعلامهم بنقض العهد. قال الواقدي : هذه الآية نزلت في بني قينقاع ، وبهذه الآية سار النبي (ص) إليهم.

٥٩ ـ ٦١ ـ لما تقدم الأمر بقتال الكفار عقبه سبحانه بوعد النصر والأمر بالإعداد لقتالهم فقال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) معناه : ولا تحسبن يا محمد اعداءك الكافرين قد سبقوا أمر الله واعجزوه ، وأنهم قد فاتوك ، فإن الله سبحانه يظفرك بهم كما وعدك ، ويظهرك عليهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي لا يعجزون الله ولا يفوتونه (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) هذا أمر منه سبحانه بأن يعدوا السلاح قبل لقاء العدو ومعناه : وأعدوا للمشركين ما قدرتم عليه مما يتقوى به على القتال من الرجال وآلات الحرب (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أي ومن ربطها واقتنائها للغزو وهي من أقوى عدد الجهاد (تُرْهِبُونَ بِهِ) أي تخوفون بما تعدونه لهم (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) يعني مشركي مكة وكفار العرب (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي وترهبون كفارا آخرين دون هؤلاء هم المنافقون لا يعلم المسلمون أنهم أعداؤهم وهم أعداؤهم (لا تَعْلَمُونَهُمُ) معناه : لا تعرفونهم لأنهم يصلّون ويصومون ويقولون : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، ويختلطون بالمؤمنين (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) أي يعرفهم لأنه المطلع على الأسرار (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في الجهاد وفي طاعة الله (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي يوفّر عليكم ثوابه في الآخرة (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي لا تنقصون شيئا منه (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) أي مالوا إلى الصلح وترك الحرب (فَاجْنَحْ لَها) أي مل إليها واقبلها منهم (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوض أمرك إلى الله (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لا تخفى عليه خافية.

٦٢ ـ ٦٣ ـ ثم خاطب الله سبحانه نبيه (ص) فقال (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) معناه : وان يرد الذين يطلبون منك الصلح أن يخدعوك في الصلح بأن يقصدوا بالتماس الصلح دفع أصحابك ، والكف عن القتال حتى يقووا فيبدأوكم بالقتال من غير استعداد منكم (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي فإن الذي يتولى كفايتك الله (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي هو الذي قواك بالنصر من عنده ، وايدك بالمؤمنين الذين ينصرونك على أعدائك (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) وأراد بالمؤمنين الأنصار : وهم الأوس والخزرج ، وأراد بتأليف القلوب : ما كان بين الأوس والخزرج من المعاداة والقتال ، فإنه لم يكن حيان من العرب بينهما من العداوة مثل ما كان بين هذين الحيين ، فألف الله بين قلوبهم حتى صاروا متوادين متحابين ببركة نبينا (ص) (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي لم يمكنك جمع قلوبهم على الالفة ، وإزالة ضغائن الجاهلية (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بأن لطف لهم بحسن تدبيره ، وبالإسلام الذي هداهم إليه (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لا يمتنع عليه شيء يريد فعله ، ولا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة.

٦٤ ـ ٦٦ ـ ثم أمر سبحانه بقتال الكفار وحث عليه بقوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) معناه : الله حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين : أي يكفيك ويكفيهم (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ابعث المؤمنين (عَلَى الْقِتالِ) ورغبهم فيه بسائر أسباب التحريض والترغيب : من ذكر الثواب الموعود على القتال ، وبيان ما وعد الله لهم من النصر والظفر ، واغتنام الأموال (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) على القتال (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) من العدو (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) واللفظ لفظ الخبر

٢٤١

والمراد به الأمر ، ويدل على ذلك قوله فيما بعد : الآن خفف الله عنكم ، لأن التخفيف لا يكون إلّا بعد التكليف (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) معناه : ذلك النصر من الله تعالى لكم على الكفار ، والخذلان للكفار ، بأنكم تفقهون أمر الله تعالى وتصدقونه فيما وعدكم من الثواب فيدعوكم ذلك إلى الصبر على القتال والجد فيه ، والكفار لا يفقهون أمر الله ولا يصدقونه فيما وعدكم من الثواب ، ولما علم الله تعالى أن ذلك يشق عليهم تغيرت المصلحة في ذلك فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الحكم في الجهاد من وجوب قتال العشرة على الواحد ، وثبات الواحد للعشرة (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) أراد به ضعف البصيرة والعزيمة ولم يرد ضعف البدن ، فإن الذين اسلموا في الإبتداء لم يكونوا كلهم أقوياء البدن ، بل كان فيهم القوي والضعيف ، ولكن كانوا كلهم أقوياء البصيرة واليقين ، ولما كثر المسلمون واختلط بهم من كان أضعف يقينا وبصيرة ، نزل : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ) على القتال (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) من العدو (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ) صابرة (يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) منهم (بِإِذْنِ اللهِ) أي بعلم الله وقيل : بأمره ، فأمر الله تعالى الواحد بأن يثبت لاثنين وتضمن النصرة له عليهما (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) معناه : والله معين الصابرين.

٦٧ ـ ٦٩ ـ (ما كانَ لِنَبِيٍ) أي ليس له ، ولا عهد الله إليه (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) من المشركين ليفديهم أو يمن عليهم (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي حتى يبالغ في قتل المشركين وقهرهم ليرتدع بهم من وراءهم. قال أبو مسلم : الإثخان : الغلبة على البلدان والتذليل لأهلها يعني حتى يتمكن في الأرض (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) هذا خطاب لمن دون النبي (ص) من المؤمنين الذين رغبوا في أخذ الفداء من الأسرى في أول وقته ، ورغبوا في الحرب للغنيمة ، قال الحسن وابن عباس : يريد يوم بدر ويقول : أخذتم الفداء في أول وقعة كانت لكم من قبل أن تثخنوا في الأرض ، وعرض الدنيا : مال الدنيا لأنه بمعرض الزوال (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي تريدون عاجل الحظ من عرض الدنيا والله يريد لكم ثواب الآخرة (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغلب أنصاره فاعملوا ما يريده منكم لينصركم (حَكِيمٌ) يجري أفعاله على ما توجبه الحكمة ، فصل سبحانه بين ارادة نفسه وارادة عباده (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) إن الكتاب الذي سبق قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، والمعنى : لولا ما كتب الله في القرآن أو في اللوح المحفوظ أنه لا يعذبكم والنبي بين أظهركم لعذبكم (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) هذه إباحة منه سبحانه للمؤمنين أن يأكلوا مما غنموه من أموال المشركين (وَاتَّقُوا اللهَ) باتقاء معاصيه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

٧٠ ـ ٧١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) إنما ذكر الأيدي لأن من كان في وثاقهم فهو بمنزلة من يكون في أيديهم لاستيلائهم عليه (مِنَ الْأَسْرى) يعني اسراء بدر الذين أخذ منهم الفداء (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي إسلاما وإخلاصا ، أو رغبة في الإيمان وصحة نية (يُؤْتِكُمْ خَيْراً) أي يعطكم خيرا (مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء ، إما في الدنيا وإما في الآخرة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ) عن العباس ابن عبد المطلب : نزلت هذه الآية فيّ وفي أصحابي (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) معناه : وإن يرد الذين اطلقتهم من الأسارى خيانتك بأن يعدوا حربا لك ، أو ينصروا عدوا عليك (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) بأن خرجوا إلى بدر وقاتلوا مع المشركين (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) أي فأمكنك منهم يوم بدر بأن غلبوا وأسروا ، وسيمكنك منهم ثانيا إن خانوك (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) معناه :

٢٤٢

عليم بما يقولونه ، وبما في نفوسهم وبجميع الأشياء ، حكيم فيما يفعله.

٧٢ ـ ثم ختم الله سبحانه السورة بإيجاب موالاة المؤمنين ، وقطع موالاة الكافرين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله ، وبما يجب الإيمان به (وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة (وَجاهَدُوا) وقاتلوا العدو (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله واعزاز دينه (وَالَّذِينَ آوَوْا) الرسول والمهاجرين بالمدينة : أي جعلوا لهم مأوى ، واسكنوهم منازلهم ، يعني الأنصار (وَنَصَرُوا) أي ونصروهم بعد الإيواء على أعدائهم ، وبذلوا المهج في نصرتهم (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي هؤلاء بعضهم أولى ببعض في النصرة وإن لم يكن بينهم قرابة وقيل : في التناصر والتعاون والموالاة في الدين (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) إلى المدينة (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) أي ما لكم من موالاتهم ونصرتهم من شيء ، أي ليس عليكم نصرتهم (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) معناه : وإن طلبوا يعني المؤمنين الذين لم يهاجروا منكم النصرة لهم على الكفار ، وإعانتهم في الدين ، فعليكم النصر والمعونة لهم ، وليس عليكم نصرتهم في غير الدين (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) معناه : إلّا أن يطلبوا منكم النصرة لهم على قوم من المشركين بينكم وبينهم أمان وعهد يجب الوفاء به ، ولا تنصروهم عليهم لما فيه من نقض العهد (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي بأعمالهم ، عليم لا يخفى عليه شيء منها.

٧٣ ـ ٧٥ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي بعضهم أنصار بعض (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) وتقديره : إلّا تفعلوا ما أمرتم به من التناصر والتعاون والتبرء من الكفار (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) على المؤمنين الذين لم يهاجروا. ويريد بالفتنة هنا : المحنة بالميل إلى الضلال ، وبالفساد الكبير : ضعف الإيمان وقيل إن الفتنة هي الشرك ثم عاد سبحانه إلى ذكر المهاجرين والأنصار ومدحهم والثناء عليهم فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي صدقوا الله ورسوله ، وهاجروا من ديارهم وأوطاونهم : يعني من مكة إلى المدينة ، وجاهدوا مع ذلك في اعلاء دين الله (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) أي ضموهم إليهم ، ونصروا النبي (ص) (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي أولئك الذين حققوا ايمانهم بالهجرة والنصرة ، بخلاف من أقام بدار الشرك ، وقيل معناه : إن الله حقق إيمانهم بالبشارة التي بشرهم بها ولم يكن لمن لم يهاجر ولم ينصر مثل هذا واختلفوا في أن الهجرة هل تصح في هذا الزمان أم لا ، فقيل : لا تصح لأن النبي (ص) قال : لا هجرة بعد الفتح ، ولأن الهجرة الانتقال من دار الكفر إلى دار الاسلام وليس يقع مثل هذا في هذا الزمان لاتساع دار الاسلام إلا أن يكون نادرا لا يعتد به ، وقيل إن هجرة الاعراب إلى الأمصار باقية إلى يوم القيامة عن الحسن ، والأقوى أن يكون حكم الهجرة باقيا لأن من أسلم في دار الحرب ثم هاجر إلى دار الإسلام كان مهاجرا. وإنما سمي الجهاد سبيل الله لأنه الطريق إلى ثواب الله في دار كرامته (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الرزق الكريم ها هنا طعام الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) أي من بعد فتح مكة (وَهاجَرُوا) بعد هجرتكم (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) أيها المؤمنون (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي مؤمنون مثلكم ، ومن جملتكم ، وحكمهم حكمكم في وجوب موالاتهم وموارثتهم ونصرتهم (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) معناه : وذوو الأرحام والقرابة بعضهم أحق بميراث بعض من غيرهم (فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكم الله (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ظاهر المعنى.

٢٤٣

سورة التوبة مدنية

عدد آياتها مائة وتسع وعشرون آية

١ ـ ٢ ـ (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) أي هذه براءة من الله (وَرَسُولِهِ) أي انقطاع للعصمة ورفع للأمان وخروج من العهود (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الخطاب للنبي (ص) وللمسلمين والمعنى تبرؤوا ممن كان بينكم وبينهم عهد من المشركين فإن الله ورسوله بريئان منهم ، ثم خاطب الله سبحانه المشركين فقال : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) أي سيروا في الأرض على وجه المهل ، وتصرّفوا في حوائجكم آمنين من السيف (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فإذا انقضت هذه المدة ولم تسلموا انقطعت العصمة عن دمائكم وأموالكم (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي غير فائتين عن الله كما يفوت ما يعجز عنه لأنكم حيث كنتم في سلطان الله وملكه (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي مذّلهم ومهينهم.

واختلف في هذه الأشهر الأربعة ، فقيل : كان ابتداؤها يوم النحر إلى العشر من ربيع الآخر ، عن مجاهد ومحمد بن كعب القرظي ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقيل : إنما ابتداء أجلهم الأشهر الأربعة من أوّل شوال إلى آخر المحرم ، لأن هذه الآية نزلت في شوال. عن ابن عباس والزهري. قال الفراء : كانت المدة إلى آخر المحرم وروى الشعبي عن محرز بن أبي هريرة عن ابي هريرة قال : كنت أنادي مع علي حين اذن المشركين ، فكان إذا صحل صوته فيما ينادي دعوت مكانه ، قال : فقلت : يا أبت أي شيء كنتم تقولون؟ قال : كنا نقول : لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يدخل البيت إلّا مؤمن ، ومن كانت بينه وبين رسول الله (ص) مدّة فإن أجله إلى أربعة أشهر ، فإذا انقضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله. وروى عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : خطب علي عليه‌السلام الناس واخترط سيفه فقال : لا يطوفنّ بالبيت عريان ، ولا يحجنّ بالبيت مشرك ، ومن كانت له مدّة فهو إلى مدّته ، ومن لم يكن له فمدته أربعة أشهر ، وكان خطب يوم النحر.

القصة

أجمع المفسرون ونقلة الأخبار أنه لما نزلت براءة دفعها رسول الله (ص) إلى أبي بكر ثم أخذها منه ودفعها إلى علي ابن أبي طالب (ع) روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني باسناده عن سماك بن حرب عن أنس بن مالك أن رسول (ص) بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكة فلما بلغ ذا الحليفة بعث إليه فردّه وقال : لا يذهب بهذا إلّا رجل من أهل بيتي فبعث عليا (ع).

٣ ـ ٤ ـ ثم بيّن سبحانه أنه يجب إعلام المشركين ببراءة منهم لئلا ينسبوا المسلمين إلى الغدر فقال : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) معناه : واعلام وفيه معنى الأمر أي أذنوا الناس ، المراد بالناس المؤمن والمشرك لأن الكل داخلون في هذا الإعلام (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) إنه يوم عرفة (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي من عهد المشركين (وَرَسُولِهِ) معناه : ورسوله أيضا بريء منه (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) معناه : فإن تبتم في هذه المدة أيها المشركون ورجعتم عن الشرك إلى توحيد الله فهو خير لكم من الإقامة على الشرك لأنكم تنجون به من خزي الدنيا وعذاب الآخرة (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ)

٢٤٤

عن الإيمان ، وصبرتم على الكفر (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تعجزونه عن تعذيبكم ، ولا تفوتون بأنفسكم من أن يحلّ بكم عذابه في الدنيا. ثم أوعدهم بعذاب الآخرة فقال : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي اخبرهم مكان البشارة بعذاب موجع وهو عذاب النار في الآخرة (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال الفراء استثنى الله تعالى من براءته وبراءة رسوله من المشركين قوما من بني كنانة وبني ضمرة كان قد بقي من أجلهم تسعة أشهر أمر بإتمامها لهم لأنهم لم يظاهروا على المؤمنين ولم ينقضوا عهد رسول الله (ص) (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) معناه : لم يضرّوكم شيئا (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) أي لم يعاونوا عليكم أيها المؤمنون أحدا من أعدائكم (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي إلى انقضاء مدتهم التي وقعت المعاهدة بينكم إليها (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) لنقض العهود.

٥ ـ ٦ ـ ثم بيّن سبحانه الحكم في المشركين بعد انقضاء المدة فقال (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) هي الأشهر الحرم المعروفة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، وقيل : هي الأشهر الأربعة التي حرم القتال فيها ، فإذا انسلخ الأشهر بانسلاخ المحرم ، لأن المشركين من كان منهم لهم عهد امهلوا أربعة أشهر من حين نزلت براءة ، ونزلت في شوال ، ومن لا عهد لهم فأجلهم من يوم نزول النداء وهو يوم عرفة أو يوم النحر ، إلى تمام الأشهر الحرم خمسون يوما ، فإذا انقضت هذه الخمسون يوما انقضى الأجلان ، وحلّ قتالهم (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي فضعوا السيف فيهم حيث كانوا في الأشهر الحرم وغيرها في الحلّ أو في الحرم (وَخُذُوهُمْ) وتقديره : فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم (وَاحْصُرُوهُمْ) معناه : واحبسوهم وامنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي بكل طريق وبكل مكان تظنون أنهم يمرّون فيه ، وضيقوا المسالك عليهم لتتمكنوا من أخذهم (فَإِنْ تابُوا) أي رجعوا من الكفر وانقادوا للشرع (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي قبلوا إقامة الصلاة وايتاء الزكاة (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي دعوهم يتصرّفون في بلاد الإسلام ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) واستدلوا بهذه الاية على أن من ترك الصلاة متعمدا يجب قتله لأن الله تعالى أوجب الإمتناع من قتل المشركين بشرط أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ، فإذا لم يقيموها وجب قتلهم (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) معناه : وإن طلب أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم منك الأمان من القتل بعد الأشهر الأربعة ليسمع دعوتك واحتجاجك عليه بالقرآن فآمنه وبيّن له ما يريد وأمهله حتى يسمع كلام الله ويتدبّره ، وإنما خصّ كلام الله لأن معظم الأدلة فيه (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) معناه : فإن دخل في الإسلام نال خير الدارين ، وإن لم يدخل في الإسلام فلا تقتله فتكون قد غدرت به ولكن أوصله إلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) أي ذلك الأمان لهم بأنهم قوم لا يعلمون الإيمان والدلائل فآمنهم حتى يسمعوا ويتدبّروا ويعلموا.

٧ ـ ٨ ـ لما أمر سبحانه بنبذ العهد إلى المشركين بيّن أن العلة في ذلك ما ظهر منهم من الغدر ، وأمر بإتمام العهد لمن استقام على الأمر فقال (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) أي كيف يكون لهؤلاء عهد صحيح مع اضمارهم الغدر والنكث ، ثم استثنى سبحانه فقال : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي فإنّ لهم عهد عند الله لأنهم لم يضمروا الغدر بك والخيانة لك (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ

٢٤٥

فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) معناه : فما استقاموا لكم على العهد ، أي ما داموا باقين معكم على الطريقة المستقيمة فكونوا معهم كذلك (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) للنكث والغدر (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) معناه : كيف يكون لهؤلاء عهد عند الله وعند رسوله وهم بحال أن يظهروا عليكم ويظفروا بكم ويغلبوكم (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي لا يحفظوا ولا يراعوا فيكم قرابة ولا عهدا (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) معناه : يتكلمون بكلام الموالين لكم لترضوا عنهم وتأبى قلوبهم إلّا العداوة والغدر ونقض العهد (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) أي متمردون في الكفر والشرك.

٩ ـ ١٣ ـ ثم بيّن سبحانه خصال القوم فقال : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) ومعناه : أعرضوا عن دين الله وصدّوا الناس عنه بشيء يسير نالوه من الدنيا (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس العمل عملهم (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) سبق معناه والفائدة في الإعادة أن الأول في صفة الناقضين للعهد ، والثاني في صفة الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) أي المجاوزون الحدّ في الكفر والطغيان (فَإِنْ تابُوا) أي ندموا على ما كان منهم من الشرك ، وعزموا على ترك العود إليه ، وقبلوا الإسلام (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي قبلوهما وأدّوهما عند لزومهما (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم اخوانكم في الدين فعاملوهم معاملة اخوانكم من المؤمنين (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبيّنها ونميّزها بخاصة لكل واحدة منها تتميّز بها من غيرها حتى يظهر مدلولها على أتم ما يكون من الظهور فيها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ذلك ويتبيّنونه دون الجهال الذين لا يتفكّرون (وَإِنْ نَكَثُوا) أي نقضوا (أَيْمانَهُمْ) أي عهودهم وما حلفوا عليه (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) أي من بعد أن عقدوه وما حلفوا عليه (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي عابوه وقدحوا فيه (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي رؤساء الكفر والضلالة ، وخصهم بالأمر بقتالهم لأنهم يضلّون أتباعهم. قال الحسن : وأراد به جماعة الكفار ، وقال ابن عباس : أراد به رؤساء قريش مثل : الحرث بن هشام ، وأبي سفيان بن حرب وعكرمة ، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد ، وكان حذيفة بن اليمان يقول : لم يأت أهل هذه الآية بعد. وقال مجاهد : هم أهل فارس والروم ، وقرأ عليّ عليه‌السلام هذه الاية يوم البصرة ثم قال : أما والله لقد عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال لي : لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) معناه : لا تؤمنوهم بعد نكثهم العهد ، ويحتمل أن يكون معناه : انهم إذا آمنوا إنسانا لا يفون به (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) معناه : قاتلوهم لينتهوا عن الكفر فإنهم لا ينتهون عنه بدون القتال (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) وهم اليهود الذين نقضوا العهد وخرجوا مع الأحزاب (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي بدأوكم بنقض العهد عن أبي إسحاق والجبائي وقيل : بدأوكم بقتال حلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من خزاعة ، عن الزجاج ، وقيل : بدأوكم بالقتال يوم بدر وقالوا حين سلم العير لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي أتخافون أن ينالكم من قتالكم مكروه ؛ لفظه استفهام والمراد به تشجيع المؤمنين وفي ذلك غاية الفصاحة لأنه جمع بين التقريع والتشجيع (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) المعنى : لا تخشوهم ولا تتركوا قتالهم خوفا على أنفسكم منهم فإنه سبحانه أحقّ أن تخافوا عقابه في ترك أمره بقتالهم إن كنتم مصدقين بعقاب الله وثوابه ، أي إن كنتم مؤمنين فخشية الله أحقّ من خشية غيره والله أعلم وأحكم.

١٤ ـ ١٥ ـ ثم أكدّ سبحانه ما تقدّم بأن أمر المسلمين

٢٤٦

بقتالهم وبشّرهم بالنصر والظفر عليهم فقال (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) قتلا وأسرا (وَيُخْزِهِمْ) أي ويذلهم (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) أي ويعنكم أيها المؤمنون عليهم (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) يعني صدور بني خزاعة الذين بيّت عليهم بنو بكر (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) معناه : ويكون ذلك النصر شفاء لقلوب المؤمنين التي امتلأت غيظا لكثرة ما نالهم من الأذى من جهتهم. ثم استأنف سبحانه فقال (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي ويقبل توبة من تاب منهم بتوبتهم مع فرط تعدّيهم رحمة وفضلا (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عليم بتوبتهم إذا تابوا ، حكيم في أمركم بقتالهم إذا نكثوا قبل أن يتوبوا ويرجعوا لأن أفعاله كلها صواب وحكمة ، وفي هذا دلالة على نبوة نبينا (ص) لأنه وافق خبره المخبر.

١٦ ـ ثم نبّه سبحانه على جلالة موقع الجهاد فقال (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) معناه : اظننتم أيها المؤمنون أن تتركوا من دون أن تكلّفوا الجهاد في سبيل الله مع الإخلاص (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) معناه : ولما يظهر ما علم الله منكم (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) أي ولم يعلم الله الذين لم يتخذوا سوى الله وسوى رسوله والمؤمنين بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم ، وفي هذا دلالة على تحريم موالاة الكفار والفساق (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي عليم بأعمالكم فيجازيكم عليها.

١٧ ـ ١٨ ـ لما أمر الله سبحانه بقتال المشركين وقطع العصمة والموالاة عنهم أمر بمنعهم عن المساجد فقال (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) معناه : لا ينبغي للمشركين أن يكونوا قواما على عمارة مساجد الله ومتولين الأمرها ، وينبغي أن يعمرها المسلمون (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي حال شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، واختلف في العمارة للمسجد فقيل : هي بدخوله ونزوله كما يقال : فلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غشيانه ، لأن المسجد تكون عمارته بطاعة الله وعبادته وقيل : هي باستصلاحه ورم ما استرم منه لأنه إنما يعمر للعبادة وقيل : هي بأن يكونوا من أهله ، أي لا ينبغي أن يترك المشركون فيكونوا أهل المسجد الحرام. وشهادتهم على أنفسهم بالكفر : هي أن المشرك إذا سئل مادينك؟ يقول : مشرك ، لا يقولها أحد غير العرب (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي هي من جنس الطاعة من المؤمنين ، أي بطلت لأنهم أوقعوها على الوجه الذي لا يستحق لأجله الثواب عليها عند الله (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أي مقيمون مؤبّدون (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) ولفظة إنما لإثبات المذكور ونفي ما عداه ، فمعناه : لا يعمر مساجد الله بزيارتها وإقامة العبادات فيها ، أو ببنائها ورمّ المسترم منها إلّا (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي من أقرّ بوحدانية الله ، واعترف بالقيامة (وَأَقامَ الصَّلاةَ) بحدودها (وَآتَى الزَّكاةَ) أي اعطاها إن وجبت عليه إلى مستحقيها (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي لم يخف سوى الله أحدا من المخلوقين ، وهذا راجع إلى قوله : (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) ، أي إن خشيتموهم فقد ساويتموهم في الإشراك كما قال : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ) الآية (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) إلى الجنة ونيل ثوابها لأن عسى من الله واجبة عن ابن عباس والحسن وفي ذكر الصلاة والزكاة وغير ذلك بعد الإيمان بالله دلالة على أن الإيمان لا يتناول أفعال الجوارح إذ لو تناولها لما جاز عطف ما دخل فيه.

١٩ ـ النزول : نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام والعباس بن عبد المطلب ، وطلحة بن شيبة ، وذلك أنهم افتخروا فقال طلحة : أنا صاحب البيت وبيدي مفتاحه ولو أشاء بتّ فيه ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها

٢٤٧

وقال علي عليه‌السلام : ما أدري ما تقولان ، لقد صلّيت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد.

١٩ ـ ٢٢ ـ (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) هذا استفهام معناه الإنكار ، أي لا تجعلوا تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج ، وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله حتى يكن مقابلة الشخص بالشخص ، أو يكون : تقديره أجعلتم السقاية والعمارة كإيمان من آمن بالله حتى تكون مقابلة الفعل بالفعل وسقايه الحاج سقيهم الشراب قال الحسن وكان نبيذ زبيب يسقون الحاج في الموسم. بيّن الله سبحانه أنه لا يقابل هذه الأشياء بالإيمان بالله (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وبالجهاد في سبيله فإنه لا مساواة بين الأمرين (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) في الفضل والثواب (وَاللهُ لا يَهْدِي) إلى طريق ثوابه (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) كتب الإمام علي الهادي عليه‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، عصمنا الله وايّاك من الفتنة ، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة ، وإن لا يفعل فهي الهلكة ؛ نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة ، اشترك فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلّف كما يهدي إليه من كان عارفا به ، فاعلا لطاعته ، مجتنبا لمعصيته. ثم ابتدأ سبحانه فقال (الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا واعترفوا بوحدانية الله (وَهاجَرُوا) أوطانهم التي هي دار الكفر إلى دار الإسلام (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي تحمّلوا المشاق في ملاقاة أعداء الدين (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) من غيرهم من المؤمنين الذين لم يفعلوا هذه الأشياء (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي الظافرون بالبغية (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) برحمة في الدنيا على ألسنة الرسل ، وبما بين في كتبه من الثواب الموعود على الجهاد (بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) في الآخرة (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) أي دائم لا يزول ولا ينقطع (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي جزاء على العمل (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي كثير متضاعف لا يبلغه نعمة غيره من الخلق.

٢٣ ـ النزول روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب إلى قريش بخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أراد فتح مكة.

٢٣ ـ ٢٤ ـ ثم نهى الله سبحانه المؤمنين عن موالاة الكافرين وإن كانوا في النسب الأقربين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) وهذا في أمر الدين ، فأما في أمر الدنيا فلا بأس بمجالستهم ومعاشرتهم لقوله سبحانه : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) ، قال ابن عباس : لما أمر الله تعالى المؤمنين بالهجرة وأرادوا الهجرة فمنهم من تعلّقت به زوجته ، ومنهم من تعلّق به أبواه وأولاده فكانوا يمنعونهم من الهجرة فيتركون الهجرة لأجلهم ، فبيّن سبحانه أن أمر الدين مقدّم على النسب ، وإذا وجب قطع قرابة الأبوين فالأجنبي أولى (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي إن اختاروا الكفر وآثروه على الإيمان قال الحسن من تولى المشرك فهو مشرك وهذا إذا كان راضيا بشركه (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) فترك طاعة الله لأجلهم واطلعهم على أسرار المسلمين (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) نفوسهم والباخسون حقّها من الثواب لأنهم وضعوا الموالاة في غير موضعها لأن موضعها أهل الإيمان (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام (إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) الذين ولدوكم (وَأَبْناؤُكُمْ) الذين المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلّا الله عزوجل وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، لا تجعل له اسما من عندك فتكون من الضالين. جعلنا الله وايّاك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون. التوحيد : ٢٢٤

٢٤٨

ولدتموهم وهم الأولاد الذكور (وَإِخْوانُكُمْ) في النسب (وَأَزْواجُكُمْ) اللاتي عقدتم عليهن عقدة النكاح (وَعَشِيرَتُكُمْ) أي واقاربكم (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) أي اكتسبتموها واقتطعتموها وجمعتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) أي تخشون أنها تكسد إذا اشتغلتم بطاعة الله تعالى والجهاد (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) أي مساكن اخترتموها لأنفسكم ويعجبكم المقام فيها (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) أي آثر في نفوسكم ، وأقرب إلى قلوبكم (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي طاعة الله وطاعة رسوله (وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) أي ومن الجهاد في سبيل الله (فَتَرَبَّصُوا) أي انتظروا (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي بحكمه فيكم على اختياركم هذه الأشياء على الجهاد وطاعة الله إما عاجلا وإما آجلا ، وفيه وعيد شديد (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) مضى تفسيره.

٢٥ ـ ٢٧ ـ لمّا تقدّم أمر المؤمنين بالقتال ذكرهم بعده بما أتاهم من النصر حالا بعد حال فقال : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) اللام للقسم فكأنه سبحانه أقسم بأنه نصر المؤمنين أي أعانهم على أعدائهم في مواضع كثيرة على ضعفهم وقلة عددهم حثا لهم على الإنقطاع إليه ، ومفارقة الأهلين والأقربين في طاعته ، ورد عن الصادقين عليهم‌السلام أنهم قالوا : كانت المواطن ثمانين موطنا ، وروي أن المتوكل اشتكى شكاية شديدة ، فنذر أن يتصدق بمال كثيران شفاه الله ، فلما عوفي سأل العلماء عن حدّ المال الكثير فاختلفت أقوالهم ، فأشير عليه أن يسأل أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى عليه‌السلام ـ وكان قد حبسه في داره ـ فأمر أن يكتب إليه ، فكتب : يتصدق بثمانين درهما ، ثم سألوه عن العلة في ذلك ، فقرأ الآية وقال : عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين موطنا (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) أي وفي يوم حنين (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) أي سرّتكم وصرتم معجبين بكثرتكم ، قال قتادة : وكان سبب انهزام المسلمين يوم حنين أن بعضهم قال حين رأى كثرة المسلمين : لن نغلب اليوم عن قلة ، فانهزموا بعد ساعة وكانوا اثني عشر ألفا (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) أي فلم تدفع عنكم كثرتكم سوءا (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي برحبتها والباء بمعنى مع والمعنى : ضاقت عليكم الأرض مع سعتها والمراد : لم تجدوا من الأرض موضعا للفرار إليه (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي وليتم عن عدوّكم منهزمين وتقديره : ولّيتموهم أدباركم وانهزمتم (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي رحمته التي تسكن إليها النفس ، ويزول معها الخوف (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) حين رجعوا إليهم وقاتلوهم والذين ثبتوا مع رسول الله علي والعباس في نفر من بني هاشم (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أراد به جنودا من الملائكة نزلوا يوم حنين بتقوية قلوب المؤمنين وتشجيعهم ولم يباشروا القتال يومئذ ولم يقاتلوا إلّا يوم بدر خاصة (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر وسلب الأموال والأولاد (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي وذلك العذاب جزاء الكافرين على كفرهم (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) المعنى : ثم يقبل الله توبة من تاب عن الشرك ورجع إلى طاعة الله والإسلام ، وندم على ما فعل من القبيح ، ويجوز أن يريد : ثم يقبل الله توبة من انهزم من بعد هزيمته ، وإنما علّقه بالمشيئة لأن قبول التوبة تفضّل من الله ولو كان واجبا لما جاز تعليقه بالمشيئة (وَاللهُ غَفُورٌ) أي ستار للذنوب (رَحِيمٌ) بعباده.

٢٨ ـ لما تقدم النهي عن ولاية المشركين أزال سبحانه ولايتهم عن المسجد الحرام ، وحظر عليهم دخوله فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) معناه : ان الكافرين انجاس (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي فامنعوهم عن المسجد الحرام (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي فقرا وحاجة ، وكانوا قد خافوا انقطاع المتاجر بمنع المشركين عن

٢٤٩

دخول الحرم (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) أي فسوف يغنيكم لله من جهة أخرى ان شاء أن يغنيكم بأن يرغب الناس من أهل الآفاق في حمل الميرة إليكم رحمة منه ونعمة عليكم. قال مقاتل : أسلم أهل نجدة وصنعاء وجرش من اليمن وحملوا الطعام إلى مكة عن ظهور الإبل والدواب ، وكفاهم الله تعالى ما كانوا يتخوفون (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بالمصالح وتدبير العباد وبكل شيء (حَكِيمٌ) فيما يأمر وينهى.

٢٩ ـ ثم بيّن الله سبحانه أن من الكفار من يجوز تبقيته بالجزية فقال : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعني الذين لا يعترفون بتوحيد الله ، ولا يقرّون بالبعث والنشور (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) يعني ما حرّمه محمد (ص) (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) معناه : لا يعترفون بالإسلام الذي هو الدين الحق (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وصف الذين ذكرهم بأنهم من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) معناه : عن قدرة لكم عليهم ، وقهر لهم كما يقال : كان اليد لفلان (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي ذليلون مقهورون.

٣٠ ـ ٣١ ـ ثم حكى الله سبحانه عن اليهود والنصارى أقوالهم الشنيعة فقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ويدل على أن هذا مذهب اليهود أنهم لم ينكروا ذلك لما سمعوا هذه الآية مع شدة حرصهم على تكذيب الرسول (ص) (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) معناه : أنهم اخترعوا ذلك القول بأفواههم لم يأتهم به كتاب ولا رسول ، وليس عليه حجة ولا برهان ولا له صحة (يُضاهِؤُنَ) يشابهون (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني عباد الأوثان في عبادتهم اللّات والعزى ومناة الثالثة الأخرى (مِنْ قَبْلُ) شبّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي لعنهم الله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الإفك الذي هو الكذب ، فكأنه قال : لأي داع مالوا إلى ذلك القول (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ) أي علماءهم (وَرُهْبانَهُمْ) أي عبّادهم (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهما قالا : أما والله ما صاموا ولا صلوا ، ولكنهم احلّوا لهم حراما ، وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون ، وروى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله (ص) وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك قال : فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) حتى فرغ منها فقلت له : إنا لسنا نعبدهم فقال : أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلون ما حرّم الله فتستحلونه؟ قال : فقلت : بلى قال : فتلك عبادتهم (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي اتخذوا المسيح إلها من دون الله (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أي معبودا واحدا هو الله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تحق العبادة إلّا له ولا يستحق العبادة سواه (سُبْحانَهُ) تنزيها له (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن شركهم وعما يقولونه وعما لا يليق به.

٣٢ ـ ٣٣ ـ ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى أنهم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) وهو القرآن والاسلام (بِأَفْواهِهِمْ) لأن الاطفاء يكون بالأفواه وهو النفخ ، وهذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم ، وتضعيف كيدهم ، لأن الفم يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الأقباس العظيمة (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) معناه : ويمنع الله إلّا أن يظهر أمر القرآن وأمر الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي على كره من الكافرين (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا وحمله الرسالات التي يؤدّيها إلى أمته (بِالْهُدى) أي بالحجج والبينات والدلائل والبراهين (وَدِينِ الْحَقِ) وهو الإسلام ، وكل دين سواه باطل يستحق به العقاب (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) معناه : ليعلي دين الإسلام على جميع الأديان بالحجة

٢٥٠

والغلبة والقهر لها حتى لا يبقى على وجه الأرض دين إلّا مغلوبا ، ولا يغلب أحد أهل الإسلام بالحجة وهم يغلبون أهل سائر الأديان بالحجة ، وأما الظهور بالغلبة فهو ان كل طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك ولحقهم قهر من جهتهم وقال أبو جعفر (ع): ان ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمد فلا يبقى أحد إلّا أقرّ بمحمد وهو قول السدي وقال الكلبي لا يبقى دين إلّا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك ولم يكن بعد ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي وان كرهوا هذا الدين فإن الله يظهره رغما لهم.

٣٤ ـ ٣٥ ـ ثم بيّن سبحانه حال الأحبار والرهبان فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي يأخذون الرشى على الحكم (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون غيرهم عن اتباع الإسلام الذي هو سبيل الله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) أي يجمعون المال ولا يؤدّون زكاته (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أخبرهم بعذاب موجع (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي يوقد على الكنوز أو على الذهب والفضة في نار جهنم حتى تصير نارا (فَتُكْوى بِها) أي بتلك الكنوز المحماة والأموال التي منعوا حق الله فيها بأعيانها (جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) وإنما خص هذه الأعضاء لأنها معظم البدن (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي يقال لهم في حال الكي أو بعده : هذا جزاء ما كنزتم وجمعتم المال ولم تؤدوا حق الله عنها وجعلتموها ذخيرة لأنفسكم (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزون : أي تجمعون وتمنعون حق الله منه.

٣٦ ـ لما ذكر الله سبحانه وعيد الظالم لنفسه بكنز المال من غير اخراج الزكاة وغيرها من حقوق الله منه اقتضى ذلك أن يذكر النهي عن مثل حاله أو شرّ منه في المنقلب فقال : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) أي عدد شهور السنة في حكم الله وتقديره اثنا عشر شهرا ، وإنما تعبّد الله المسلمين ان يجعلوا سنيهم على اثني عشر شهرا ليوافق ذلك عدد الأهلة ومنازل القمر دون ما دان به أهل الكتاب (فِي كِتابِ اللهِ) معناه : فيما كتب الله في اللوح المحفوظ وفي الكتب المنزلة على انبيائه (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لأنه يوم خلق السماوات والأرض أجرى فيها الشمس والقمر وبمسيرهما تكون الشهور والأيام ، وبهما تعرف الشهور (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) أي من هذه الاثني عشر شهرا أربعة أشهر حرم ، ثلاثة منها سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب ، ومعنى حرم : انه يعظم انتهاك المحارم فيها أكثر مما يعظم في غيرها ، وكانت العرب تعظمها حتى لو أن رجلا لقي قاتل أبيه فيها لم يهجه لحرمتها ، وإنما جعل الله تعالى بعض هذه الشهور أعظم حرمة من بعض لما علم من المصلح في الكفّ عن الظلم فيها لعظم منزلتها ، ولأنه ربما أدى ذلك إلى ترك الظلم أصلا لانطفاء النائرة ، وانكسار الحمية في تلك المدة ، فإن الأشياء تجرّ إلى اشكالها (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الحساب المستقيم الصحيح لا ما كانت العرب تفعله من النسيء (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) أي في هذه الشهور (أَنْفُسَكُمْ) بترك أوامر الله وارتكاب نواهيه (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي قاتلوهم جميعا مؤتلفين غير مختلفين (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي جميعا كذلك ، فتكون كافة حالا عن المسلمين (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالنصرة والولاية.

٣٧ ـ لما قدّم سبحاه ذكر السنة والشهر عقبه بذكر ما كانوا يفعلونه من النسيء فقال : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) يعني تأخير الأشهر الحرم عما رتّبها الله سبحانه عليه ، وكانت العرب تحرم الشهور الأربعة وذلك مما تمسك به من ملة

٢٥١

ابراهيم واسمعيل ، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب فربما كان يشقّ عليهم ان يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمونه ويستحلّون المحرّم فيمكثون بذلك زمانا ثم يزول التحريم إلى المحرّم ، قال ابن عباس : ومعنى قوله (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) : أنهم كانوا احلّوا ما حرّم الله ، وحرموا ما أحلّ الله (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يضل بهذا النسيء الذين كفروا ومن قرأ بضم الياء فمعناه : يضلون به غيرهم ، واضلالهم : أنهم فعلوا ذلك ليحللوا للناس الأشهر الحرم التي حرّم الله القتال فيها وأوجب الحج في بعضها ، فيستحلون ترك الحج في الوقت الذي هو واجب فيه ، ويوجبونه في الوقت الذي لا يجب فيه (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) أي يجعلون الشهر الحرام حلالا إذا احتاجوا إلى القتال فيه ويجعلون الشهر الحلال حراما ويقولون : شهر بشهر وإذا لم يحتاجوا إلى القتال لم يفعلوا ذلك (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) معناه : انهم لم يحلّوا شهرا الحرم إلّا حرّموا مكانه شهرا من الحلال ولم يحرّموا شهرا من الحلال إلّا أحلّوا مكانه شهرا من الحرم ليكون موافقة في العدد وذلك المواطأة (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي زينت لهم أنفسهم ، أو زين الشيطان سوء أعمالهم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) مرّ تفسيره.

٣٨ ـ ٣٩ ـ ثم عاتب سبحانه المؤمنين في التثاقل عن الجهاد فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ) أي إذا دعاكم رسول الله (ص) وقال لكم (انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي اخرجوا إلى مجاهدة المشركين ، وهو ههنا غزوة تبوك (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) أي تثاقلتم وملتم إلى الإقامة في الأرض التي أنتم عليها (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) هذا استفهام يراد به الإنكار ومعناه : آثرتم الحياة الدنيا الفانية على الحياة في الآخرة الباقية في النعيم الدائم (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) أي فما فوائد الدنيا ومقاصدها في فوائد الآخرة ومقاصدها إلّا قليل لانقطاع هذه ودوام تلك ، ثم عقبه سبحانه بالتهديد والوعيد فقال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) ومعناه : ان لا تخرجوا إلى القتال الذي دعاكم إليه الرسول ، وتقعدوا عنه يعذبكم الله عذابا أليما مؤلما في الآخرة (وَيَسْتَبْدِلْ) بكم (قَوْماً غَيْرَكُمْ) لا يتخلّفون عن الجهاد وهم الذين أسلموا بعد نزول هذه الآية (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) معناه : ولا تضروا الرسول شيئا لأن الله عصمه من جميع الناس ، وينصره بالملائكة أو بقوم آخرين من المؤمنين (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو القادر على الإستبدال بكم وعلى غير ذلك من الأشياء.

٤٠ ـ ثم اعلمهم الله سبحانه أنهم إن تركوا نصرة رسوله لم يضرّه ذلك شيئا كما لم يضره قلة ناصريه حين كان بمكة وهمّ به الكفار فتولى الله نصره فقال : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) معناه : إن لم تنصروا النبي (ص) على قتال العدوّ فقد فعل الله به النصر (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مكة فخرج يريد المدينة (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) ليس معهما ثالث ، أي وهو أحد اثنين ومعناه : فقد نصره الله منفردا من كل شيء والغار : الثقب العظيم في الجبل ، وأراد به هنا منفردا من كل شيء والغار : الثقب العظيم في الجبل ، وأراد به هنا غار ثور وهو جبل بمكة (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) إذ يقول الرسول لأبي بكر (لا تَحْزَنْ) أي لا تخف (إِنَّ اللهَ مَعَنا) يريد أنه مطلع علينا عالم بحالنا. قال الزهري : لما دخل رسول الله وأبو بكر الغار ، أرسل الله زوجا من حمام حتى باضافي أسفل الثقب ، والعنكبوت حتى نسج بيتا ، فلما جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام وبيت العنكبوت قال : لو دخله أحد لانكسر البيض ، وتفسخ بيت العنكبوت ، فانصرف. وقال النبي (ص) : اللهمّ أعم أبصارهم فعميت أبصارهم عن دخوله وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) يعني على

٢٥٢

محمد (ص) ، أي القى في قلبه ما سكن به وعلم أنهم غير واصلين إليه (وَأَيَّدَهُ) أي قوّاه ونصره (بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أي بملائكة يضربون وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) معناه : أن الله سبحانه جعل كلمتهم نازلة دنية ، وأراد به أنه سفل وعيدهم للنبي (ص) وتخويفهم إياه وأبطله بأن نصره عليهم ، فعبّر عن ذلك بأنه جعل كلمتهم السفلى (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) أي هي المرتفعة المنصورة (وَاللهُ عَزِيزٌ) في انتقامه من أهل الشرك (حَكِيمٌ) في تدبيره.

٤١ ـ ٤٢ ـ ثم أمر سبحانه بالجهاد وبيّن تأكيد وجوبه على العباد فقال : (انْفِرُوا) أي اخرجوا إلى الغزو (خِفافاً وَثِقالاً) أي شبانا وشيوخا عن الحسن ومجاهد وعكرمة وغيرهم ، وقيل : نشاطا وغير نشاط عن ابن عباس وقتادة وقيل : مشاغيل وغير مشاغيل عن الحكم ، وقيل : اغنياء وفقراء عن أبي صالح ، وقيل : أراد بالخفاف أهل العسرة من المال وقلة العيال وبالثقال أهل الميسرة في المال وكثرة العيال عن الفراء ومعناه : أخرجوا إلى الجهاد خفّ عليكم أو شقّ على أيّ حالة كنتم ، وان أحوال الإنسان لا يخلو من أحد هذه الأشياء (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وهذا الجهاد بالنفس والمال واجب على من استطاع بهما ومن لم يسطع على الوجهين فعليه أن يجاهد بما استطاع (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) معناه : ان الخروج والجهاد بالنفس والمال خير لكم من التثاقل وترك الجهاد إلى مباح (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ان الله عزّ اسمه صادق في وعده ووعيده وقيل : معناه ان كنتم تعلمون الخير في الجملة فاعلموا ان هذا خير قال السدي : لما نزلت هذه الآية اشتدّ شأنها على الناس فنسخها الله تعالى بقوله (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) الآية (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) معناه : لو كان ما دعوتهم إليه غنيمة حاضرة (وَسَفَراً قاصِداً) أي قريبا هيّنا (لَاتَّبَعُوكَ) طمعا في المال (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي المسافة ، يعني غزوة تبوك أمروا فيها بالخروج إلى الشام (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) معناه : ان هؤلاء سيعتذرون إليك في قعودهم عن الجهاد ويحلفون لو استطعنا وقدرنا وتمكّنا من الخروج لخرجنا معكم. ثم أخبر سبحانه أنهم (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) باليمين الكاذبة والعذر الباطل لما يستحقون عليها من العقاب (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في هذا الإعتذار والحلف ، وفي هذه دلالة على صحة نبوة نبينا (ص) إذ أخبر به (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) في التخلّف عنك (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) أي حتى تعرف من له العذر منهم في التخلف ومن لا عذر له فيكون اذنك لمن اذنت له على علم.

٤٤ ـ ٤٥ ـ ثم بيّن سبحانه حال المؤمنين والمنافقين في الإستئذان فقال (لا يَسْتَأْذِنُكَ) أي لا يطلب منك الاذن في القعود عن الجهاد معك بالمعاذير الفاسدة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) والمعنى : في أن يجاهدوا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) قال ابن عباس : هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوه في القعود عن الجهاد ، وعذر للمؤمنين في قوله : (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) في التأخر عن الجهاد ، والتخلف عن القتال معك (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي لا يصدّقون به (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعني البعث والنشور (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي اضطربت وشكّت (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) فهم في شكهم يذهبون ويرجعون والتردد : هو التصرف بالذهاب والرجوع مرّات متقاربة مثل التحير وأراد به المنافقين أي يتوقعون الاذن لشكهم في دين الله وفيما وعد المجاهدين ولو أنهم كانوا مخلصين لوثقوا بالنصر وبثواب الله فبادروا إلى الجهاد ولم يستأذنوك فيه.

٤٦ ـ ٤٨ ـ ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء المنافقين فقال (وَلَوْ

٢٥٣

أَرادُوا الْخُرُوجَ) مع النبي (ص) نصرة له أو رغبة في جهاد الكفّار كما أراد المؤمنون ذلك (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أي لاستعدّوا للخروج عدة ، وهي ما يعد لأمر يحدث قبل وقوعه ، والمراد : لأخذوا هبة الحرب من الكراع والسلاح لأن إمارة من أراد أمرا أن يتأهب له قبل حدوثه (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) معناه : ولكن كره الله خروجهم إلى الغزو لعلمه أنهم لو خرجوا لكانوا يمشون بالنميمة بين المسلمين ، وكانوا عيونا للمشركين ، وكان الضرر في خروجهم أكثر من الفائدة (فَثَبَّطَهُمْ) عن الخروج الذي عزموا عليه لا عن الخروج الذي أمرهم به لأنه إنما أمر بذلك على وجه الذبّ عن الدين ونية الجهاد ، وكره ذلك على نية التضريب والفساد ، فقد كره غير ما أمر به ، ومعنى ثبّطهم : بطأ بهم وخذلهم لما يعلم منهم من الفساد (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) أي وقيل لهم : اقعدوا مع النساء والصبيان ، ويحتمل أن يكون القائلون لهم ذلك أصحابهم الذين نهوهم عن الخروج مع النبي (ص) للجهاد ، ويحتمل أن يكون ذلك من كلام النبي (ص) لهم على وجه التهديد والوعيد لا على وجه الاذن ، ويجوز أن يكون عاتبه الله تعالى عليه ، إذ كان الأولى أن لا يأذن لهم ليظهر للناس نفاقهم ثم بيّن سبحانه وجه الحكمة في كراهية انبعاثهم وتثبيطهم عن الخروج فقال (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) معناه : لو خرج هؤلاء المنافقون معكم إلى الجهاد ما زادوكم بخروجهم إلّا شرّا وفسادا (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) أي لأسرعوا في الدخول بينكم بالتضريب والإفساد والنميمة يريد : ولسعوا فيما بينكم بالتفريق بين المسلمين (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي يطلبون لكم المحنة باختلاف الكلمة معناه : يخوّفونكم بالعدو ، ويخبرونكم أنكم منهزمون ، وان عدوّكم سيظهر عليكم (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي وفيكم عيون للمنافقين ينقلون إليهم ما يسمعون منكم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي بهؤلاء المنافقين الذين ظلموا أنفسهم لما أضمروا عليه من الفساد ، منهم عبد الله بن أبي ، وجد بن قيس ، وأوس بن قبطي. ثم أقسم الله سبحانه فقال (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) الفتنة اسم يقع على كل سوء وشرّ والمعنى. لقد طلب هؤلاء المنافقون اختلاف كلمتكم ، وتشتيت أهوائكم ، وافتراق آرائكم من قبل غزوة تبوك ، أي في يوم أحد حين انصرف عبد الله بن أبي باصحابه وخذل النبي (ص) ، فصرف الله سبحانه عن المسلمين فتنتهم وقيل : أراد بالفتنة بالنبي (ص) في غزوة تبوك ليلة العقبة ، وكانوا اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على الثنية ليفتكوا بالنبي (ص) (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أي احتالوا في توهين أمرك ، وإيقاع الإختلاف بين المؤمنين ، وفي قتلك بكل ما أمكنهم فيه فلم يقدروا عليه (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) معناه : حتى جاء النصر والظفر الذي وعده الله به (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) أي دينه وهو الإسلام على الكفار على رغمهم (وَهُمْ كارِهُونَ) أي في حال كراهتهم لذلك.

٤٩ ـ ٥٢ ـ (وَمِنْهُمْ) أي ومن المنافقين (مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) في القعود عن الجهاد (وَلا تَفْتِنِّي) ببنات الأصفر قال الفراء : سميت الروم أصفر لأن حبشيا غلب على ناحية الروم وكان له بنات قد أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكنّ صفرا (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) معناه : ألا في العصيان والكفر وقعوا بمخالفتهم أمرك في الخروج والجهاد (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي ستحيط بهم فلا مخلص لهم منها ، (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) هذا خطاب من الله سبحانه للنبي (ص) ومعناه : إن تنلك نعمة من الله وفتح وغنيمة يحزن المنافقون (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) معناه : وإن تصبك شدة ونكبة وآفة في النفس أو المال (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي أخذنا حذرنا واحترزنا بالقعود من قبل هذه المصيبة (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) أي رجعوا إلى بيوتهم فرحين بما أصاب المؤمنين من الشدة (قُلْ) يا محمد لهم (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما

٢٥٤

كَتَبَ اللهُ لَنا) أي كل ما يصيبنا من خير أو شرّ فهو ما كتبه الله في اللوح المحفوظ من أمرنا ، وليس على ما تظنون وتتوهّمون من إهمالنا (هُوَ مَوْلانا) أي هو ولينا وناصرنا يحفظنا وينصرنا ويتولى حياطتنا ودفع الضرر عنا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين بالتوكل عليه ، والرضا بتدبيره وتقديره : فليتوكل على الله المؤمنون (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المنافقين (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) معناه : هل تنتظرون لنا إلا إحدى الخصلتين الحميدتين ، والنعمتين العظيمتين إما الغلبة والغنيمة في العاجل ، وإما الشهادة مع الثواب الدائم في الآجل (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) أي ونحن نتوقع بكم (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) أي يوقع الله بكم عذابا من عنده يهلككم به ، أو بأن ينصرنا عليكم فيقتلكم بأيدينا (فَتَرَبَّصُوا) صورته صورة أمر والمراد به التهديد كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) أي منتظرون إما الشهادة والجنة ، وإما الغنيمة والأجر لنا ، وإما البقاء في الذل والخزي ، وإما الموت أو القتل مع المصير إلى النار لكم وهذه تفسير لقوله تعالى : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا).

٥٣ ـ ٥٥ ـ ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء المنافقين لا ينتفعون بما ينفقونه مع اقامتهم على الكفر فقال (قُلْ) يا محمد لهؤلاء (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي طائعين أو مكرهين (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) معناه : وإنما لم يتقبل منكم لأنكم كنتم متمردين عن طاعة الله والله سبحانه إنما يتقبل من المؤمنين المخلصين (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) أي وما يمنع هؤلاء المنافقين أن يثابوا على نفقاتهم إلّا كفرهم بالله وبرسوله وذلك مما يحبط الأعمال ، ويمنع من استحقاق الثواب عليها (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أي متثاقلين والمعنى : لم يؤدّوها على الوجه الذي أمروا أن يؤدّوها على ذلك الوجه (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) لذلك لأنهم إنما يصلون وينفقون للرياء والتستر بالإسلام ، لا لابتغاء مرضاة الله تعالى (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الخطاب للنبي (ص) والمراد جميع المؤمنين وقيل : يريد لا تعجبك أيها السامع ، أي لا يأخذ بقلبك ما تراه من كثرة أموال هؤلاء المنافقين وكثرة أولادهم ، ولا تنظر إليهم بعين الإعجاب (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قد ذكر في معناه وجوه (أحدها) أن فيه تقديما وتأخيرا أي لا يسرك أموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة عن ابن عباس وقتادة فيكون الظرف على هذا متعلقا بأموالهم وأولادهم ومثله قوله تعالى (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) (وثانيها) ان معناه إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا بالتشديد عليهم في التكليف ، وأمرهم بالانفاق في الزكاة والغزو فيؤدونها على كره منهم ومشقة إذ لا يرجون به ثوابا في الآخرة فيكون ذلك عذابا لهم عن الحسن والبلخي (وثالثها) أن معناه : إنما يريد الله ليعذبهم بحفظها والمصائب فيها مع حرمان المنفعة بها عن ابن زيد (ورابعها) أن معناه : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا أي : بسبي الأولاد ، وغنيمة الأموال عند تمكن المؤمنين من أخذها وغنمها فيتحسّرون عليها ، فيكون ذلك جزاء على كفرهم عن الجبائي (وخامسها) أن المراد : يعذبهم بجمعها وحفظها وحجبها ، والبخل بها ، والحزن عليها ، وكل هذا عذاب ، وكذلك خروجهم عنها بالموت لأنهم يفارقونها ولا يدرون إلى ماذا يصيرون واللام لام العاقبة والتقدير إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) أي تهلك وتذهب بالموت (وَهُمْ كافِرُونَ) جملة في موضع الحال أي حال كونهم كافرين والإرادة تعلقت بزهوق أنفسهم لا بالكفر وهذا كما تقول أريد أن أضربه وهو عاص فالإرادة تعلقت بالضرب لا بالعصيان.

٥٦ ـ ٥٧ ـ ثم أظهر سبحانه سرّا من أسرار القوم فقال :

٢٥٥

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) أي يقسم هؤلاء المنافقون أنهم لمن جملتكم أيها المؤمنون (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي ليسوا مؤمنين (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي يخافون القتل والأسر إن لم يظهروا الإيمان (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) أي لو يجد هؤلاء المنافقون حرزا (أَوْ مَغاراتٍ) أي غيرانا في الجبال (أَوْ مُدَّخَلاً) أي موضع دخول يأوون إليه (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) أي لأعرضوا عنكم إليه (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي يسرعون في الذهاب إليه ، ومعنى الآية : أنهم من خبث دخلتهم ، وسوء سريرتهم ، وحرصهم على إظهار ما في نفوسهم من النفاق والكفر لو أصابوا شيئا من هذه الأشياء لآووا إليه ليجاهروا بما يضمرونه.

٥٨ ـ ٥٩ ـ ثم أخبر سبحانه عنهم فقال : (وَمِنْهُمْ) أي ومن هؤلاء المنافقين (مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) أي يعيبك ويطعن عليك في أمر الصدقات (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها) أي من تلك الصدقات (رَضُوا) وأقرّوا بالعدل (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي يغضبون ويعيبون (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) ومعناه : ولو أن هؤلاء المنافقين الذين طلبوا منك الصدقات ، وعابوك بها رضوا بما أعطاهم الله ورسوله (وَقالُوا) مع ذلك (حَسْبُنَا اللهُ) أي كافينا الله (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) أي سيعطينا الله من فضله وانعامه ، ويعطينا رسوله مثل ذلك وقالوا : (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) فى أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن أموال الناس

٦٠ ـ ثم بيّن سبحانه لمن الصدقات فقال : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) ومعناه : ليست الصدقات التي هي زكاة الأموال إلّا لهؤلاء. واختلف في الفرق بين الفقير والمسكين فقيل : ان الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل ، والمسكين الذي يسأل (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) يعني سعاة الزكاة وجباتها (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وكان هؤلاء قوما من الأشراف في زمن النبي (ص) ، وكان يعطيهم سهما من الزكاة ليتألّفهم به على الإسلام ، ويستعين بهم على قتال العدو (وَفِي الرِّقابِ) يعني في فك الرقاب من العتق (وَالْغارِمِينَ) وهم الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا إسراف يقضي عنهم الديون (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وهو الجهاد بلا خلاف ويدخل فيه عند أصحابنا جميع مصالح المسلمين قالوا : يبنى منه المساجد والقناطر وغير ذلك (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر المنقطع به يعطى من الزكاة وإن كان غنيا في بلده ذا يسار (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي مقدّرة واجبة قدّرها الله وحتمها (وَاللهُ عَلِيمٌ) بحاجة خلقه (حَكِيمٌ) فيما فرض عليهم واوجب من إخراج الصدقات وغير ذلك.

٦١ ـ ٦٣ ـ ثم رجع سبحانه إلى ذكر المنافقين فقال : (وَمِنْهُمُ) أي ومن هؤلاء المنافقين (الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) والاذى قد يكون بالفعل وقد يكون بالقول ، وهو هنا بالقول (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) معناه : انه يستمع إلى ما يقال له ويصغي إليه ويقبله (قُلْ) يا محمد (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي هو اذن خير يستمع إلى ما هو خير لكم وهو الوحي (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) معناه : أنه لا يضرّه كونه أذنا فإنه اذن خير فلا يقبل إلّا الخبر الصادق من الله ، ويصدّق المؤمنين أيضا فيما يخبرونه ويقبل منهم دون المنافقين (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي وهو رحمة لهم لأنهم إنما نالوا الإيمان بهدايته ودعائه إياهم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) أخبر سبحانه أنّ هؤلاء المنافقين يقسمون بالله ان الذي بلغكم عنهم باطل اعتذارا إليكم ، وطلبا لمرضاتكم (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي والله ورسوله أحق وأولى بأن يطلبوا مرضاتهما (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) مصدّقين بالله ، مقرين بنبوة نبيه (ص) ثم قال سبحانه على وجه التقريع والتوبيخ لهؤلاء المنافقين (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أي وما يعلموا (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي من تجاوز حدود الله التي أمر المكلفين ألا يتجاوزوها (فَأَنَّ لَهُ نارَ

٢٥٦

جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) أي دائما (ذلِكَ الْخِزْيُ) أي الهوان والذل (الْعَظِيمُ).

٦٤ ـ ٦٦ ـ ثم أخبر سبحانه عنهم فقال : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) فيه قولان (أحدهما) انه اخبار بأنهم يخافوا أن يفشوا سرائرهم ويحذرون ذلك عن الحسن ومجاهد والجبائي واكثر المفسرين والمعنى : أنه يحذرون من أن ينزّل الله عليهم ، أي على النبي والمؤمنين سورة تخبر عما في قلوبهم من النفاق والشرك وقد قيل ان ذلك الحذر إنما اظهروه على وجه الإستهزاء لا على سبيل التصديق لأنهم حين رأوا رسول الله (ص) ينطق في كل شيء عن الوحي قال بعضهم لبعض احذروا ألا ينزل وحي فيكم ، يتمازحون بذلك ويضحكون ، عن أبي مسلم. وقيل : إنهم كانوا بخافون أن يكون عليه‌السلام صادقا فينزل عليه الوحي فيفضحون عن الجبائي وقيل : انهم كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون : عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا ، عن مجاهد (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) معناه : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين استهزئوا أي اطلبوا الهزء ، وهو وعيد بلفظ الأمر (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي مظهر ما تحذرون من ظهوره والمعنى : أن الله يبيّن لنبيه باطن حالكم ونفاقكم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) عن طعنهم في الدين ، واستهزائهم بالنبي (ص) وبالمسلمين (لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) واللام للتأكيد والقسم ومعناه : لقالوا كنا نخوض خوض الركب في الطريق لا على طريق الجد ولكن على طريق اللعب واللهو ، فكان عذرهم أشد من جرمهم (قُلْ) يا محمد (أَبِاللهِ وَآياتِهِ) أي حججه وبيناته وكتابه (وَرَسُولِهِ) محمد (ص) (كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) ثم أمر الله سبحانه نبيه (ص) أن يقول لهؤلاء المنافقين (لا تَعْتَذِرُوا) بالمعاذير الكاذبة (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي فإنكم بما فعلتموه قد كفرتم بعد أن كنتم مظهرين الإيمان الذي يحكم لمن أظهره بأنه مؤمن (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي كافرين مصرّين على النفاق. هذا إخبار منه سبحانه أنه ان عفا عن قوم منهم إذا تابوا يعذّب طائفة أخرى لم يتوبوا وأقاموا على النفاق.

٦٧ ـ ٧٠ ـ ثم ذكر سبحانه أحوال أهل النفاق فقال (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي بعضهم من جملة بعض ، وبعضهم مضاف إلى بعض في الاجتماع على النفاق والشرك كما يقول : أنا من فلان وفلان مني ، أي أمرنا واحد ، وكلمتنا واحدة وقيل معناه بعضهم على دين بعض عن الكلبي وقيل بعضهم من بعض على لحوق مقت الله بهم جميعا عن أبي مسلم (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) أي بالشرك والمعاصي (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) أي عن الأفعال الحسنة التي أمر الله بها وحثّ عليها (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي يمسكون أموالهم عن انفاقها في طاعة الله ومرضاته عن الحسن وقتادة وقيل معناه يمسكون أيديهم عن الجهاد في سبيل الله عن الجبائي (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) أي تركوا طاعته فتركهم في النار وترك رحمتهم واثابتهم عن الأصم وقيل معناه : جعلوا الله كالمنسي حيث لم يتفكروا في أن لهم صانعا يثيبهم ويعاقبهم ليمنعهم ذلك عن الكفر والأفعال القبيحة فجعلهم سبحانه في حكم المنسي عن الثواب وذكر ذلك لازدواج الكلام لأن النسيان لا يجوز عليه تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن الإيمان بالله ورسوله وعن طاعته وقيل الفاسقون

__________________

من خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام : الحمد لله الناشر في الخلق فضله ، والباسط فيهم بالجود يده ؛ نحمده في جميع أموره ، ونستعينه على رعاية حقوقه ، ونشهد أن لا إله غيره ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، أرسله بأمره صادعا ، وبذكره ناطقا ، فأدّى أمينا ، ومضى رشيدا ، وخلّف فينا راية الحقّ ، من تقدّمها مرق ، ومن تخلّف عنها زهق ، ومن لزمها لحق. نهج البلاغة. خطبة : ٩٦.

٢٥٧

المترددّون في الشرك (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ) أخبر سبحانه أنه وعد الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر النار وكذلك الكفار ، وإنما فصل النفاق من الكفر وإن كان النفاق كفرا ليبيّن الوعيد على كل واحد من الصنفين (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين فيها (هِيَ حَسْبُهُمْ) معناه : نار جهنم والعذاب فيها كفاية ذنوبهم كما يقول : عذبتك حسب ما فعلت وحسب فلان ما نزل به أي ذلك على قدر فعله (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم من جنته وخيره (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم لا يزول (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وعدكم على النفاق والإستهزاء كما وعد الذين من قبلكم من الكفار الذين فعلوا مثل فعلكم عن الزجاج والجبائي وقيل معناه : فعلكم كفعل الذين من قبلكم من كفار الأمم الخالية (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) في أبدانهم (وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) فلم ينفعهم ذلك شيئا وحلّ بهم عذاب الله تعالى (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي بنصيبهم وحظهم من الدنيا بأن صرفوها في شهواتهم المحرّمة عليهم وفيما نهاهم الله عنه ثم اهلكوا (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) أي فاستمتعتم أنتم أيضا بحظكم في الدنيا كما استمتعوا هم (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي وخضتم في الكفر والإستهزاء بالمؤمنين كما خاض الأولون (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي تقع طاعة من المؤمنين مثل الإنفاق في وجوه الخير وصلة الرحم وغيرها (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إذ لم يستحقوا عليها ثوابا في الآخرة ولا تعظيما وتبجيلا في الدنيا لكفرهم وشركهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسروا انفسهم وأهلكوها بفعل المعاصي المؤدّية إلى الهلاك (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) أي ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين وصفهم (نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي خبر من كان قبلهم (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) ذكر سبحانه الأمم الماضية والقرون السالفة وانه سبحانه اهلكها ودمّر عليها لتكذيبها رسلها لئلا يأمنوا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أي المنقلبات وهي ثلاث قرى كان فيها قوم لوط ، أهلكهم الله بالخسف وقلب المدينة عليهم (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والمعجزات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي ما يظلمهم الله باهلاكهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ولكن عاقبهم باستحقاق إذ كذّبوا رسل الله كما فعلتم فأهلكهم بكفرهم وعصيانهم.

٧١ ـ ٧٣ ـ لما ذكر الله تعالى المنافقين ووصفهم بقبيح خصالهم اقتضت الحكمة أن يذكر المؤمنين ويصفهم بضدّ أوصافهم ليتصل الكلام بما قبله اتصال النقيض فقال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي بعضهم أنصار بعض يلزم كل واحد منهم نصرة صاحبه وموالاته ، حتى أن المرأة تهيء أسباب السفر لزوجها إذا خرج وتحفظ غيبة زوجها وهم يد واحدة على من سواهم (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهو ما أوجب الله فعله أو رغب فيه عقلا أو شرعا (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو ما نهى الله عن فعله وزهد فيه عقلا أو شرعا (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يداومون على فعل الصلاة ، واخراج الزكاة من أموالهم ووضعها حيث أمر الله تعالى بوضعها فيه ويمتثلون طاعة الله ورسوله ويتبعون إرادتهما ورضاهما (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أي الذين هذه صفتهم يرحمهم‌الله في الآخرة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي قادر على الرحمة والعذاب واضع كل واحد منهما موضعه وفي الآية دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الأعيان لأنه جعلهما من صفات جميع المؤمنين والمؤمنات (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها الأنهار والماء فيها (خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) يطيب العيش فيها ، بناها الله لا وصب فيها ولا

٢٥٨

نصب عن الحسن (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي في جنات اقامة وخلد وقيل هي بطنان الجنة أي وسطها عن ابن مسعود وقيل هي مدينة في الجنة وفيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى واناس حولهم والجنان حولها عن الضحاك وقيل إن عدنا أعلى درجة في الجنة وفيها عين التسنيم والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من يوم خلقها الله عزوجل حتى ينزلها أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله وفيها قصور الدر واليواقيت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأبيض عن مقاتل والكلبي وروي عن النبي (ص) أنه قال عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيين والصديقين والشهداء يقول الله عزوجل طوبى لمن دخلك (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) رفع على الإبتداء أي ورضوان الله تعالى عنهم أكبر من ذلك كله قال الجبائي إنما صار الرضوان أكبر من الثواب لأنه لا يوجد شيء منه إلّا بالرضوان وهو الداعي إليه ، الموجب له ، ولأنه استأنفه للتعظيم كما يقول القائل اعطيتك ووصلتك ثم يقول وحسن رأيي فيك ورضاي عنك خير من جميع ذلك (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك النعيم الذي وصفت هو النجاح العظيم الذي لا شيء أعظم منه. ثم أمر سبحانه بالجهاد فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف والقتال (وَالْمُنافِقِينَ) وجهاد المنافقين باللسان والوعظ والتخويف (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ومعناه : واسمعهم الكلام الغليظ الشديد ولا ترق عليهم (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي منزلهم ومقامهم ومسكنهم جهنم يريد مأوى الفريقين (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المرجع والمأوى.

٧٤ ـ ثم أظهر سبحانه أسرار المنافقين فقال (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) يعني أنهم حلفوا كاذبين ما قالوا ما حكى عنهم ، ثم حقّق عليهم ذلك وأقسم سبحانه بأنهم قالوا ذلك لأن اللام في (وَلَقَدْ قالُوا) لام القسم و (كَلِمَةَ الْكُفْرِ) كل كلمة فيها جحد لنعم الله تعالى وكانوا يطعنون في الإسلام (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي بعد إظهار اسلامهم ، يعني ظهر كفرهم بعد أن كان باطنا (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) همّوا بقتل النبي (ص) ليلة العقبة والتنفير بناقته (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) معناه : أنهم عملوا بضدّ الواجب ، فقابلوا النعمة بالكفران وكان من حقهم أن يقابلوها بالشكر (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) أي فإن يتب هؤلاء المنافقون ويرجعوا إلى الحق يكن ذلك خيرا لهم في الدنيا والآخرة ، فإنهم ينالون بذلك رضا الله ورسوله والجنة (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي يعرضوا عن الرجوع إلى الحق وسلوك الطريق المستقيم (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً) مؤلما (فِي الدُّنْيا) بما ينالهم من الحسرة والغم وسوء الذكر (وَ) في (الْآخِرَةِ) بعذاب النار (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ليس لهم في الأرض (مِنْ وَلِيٍ) أي محبّ (وَلا نَصِيرٍ) ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله.

٧٥ ـ ٧٨ ـ ثم أخبر سبحانه عنهم فقال (وَمِنْهُمْ) أي من جملة المنافقين الذين تقدّم ذكرهم (مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) أي لئن أعطانا من رزقه (لَنَصَّدَّقَنَ) أي لنتصدقن على الفقراء (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) بإنفاقه في طاعة الله ، وصلة الرحم ، ومواساة أهل الحاجة (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي اعطاهم ما اقترحوه ، ورزقهم ما تمنّوه من الأموال (بَخِلُوا بِهِ) أي شحّت نفوسهم عن الوفاء بالعهد ، ومنعوا حق الله منه (وَتَوَلَّوْا) عن فعل أمرهم الله به (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن دين الله تعالى (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) أي فأورثهم بخلهم بما أوجبوا لله تعالى على أنفسهم النفاق في قلوبهم ، وأدّاهم إلى ذلك كأنهم حصلوا على النفاق بسبب البخل ، وهذا كمن يقول لابنه اعقبك صحبة فلان ترك التعليم (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) كقوله سبحانه : (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ). وهذا اخبار من الله تعالى عن هؤلاء المنافقين

٢٥٩

أنهم يموتون على النفاق وكان ذلك معجزة للنبي (ص) لأنه خرج مخبره على وفق خبره (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) بين سبحانه أن هذا إنما أصابهم بفعلهم السيء وهو اخلافهم الوعد وكذبهم (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) أي ما يخفون في أنفسهم (وَنَجْواهُمْ) ما يتناجون به بينهم ، وهذا استفهام يراد به التوبيخ المعنى : أنه يجب عليهم أن يعلموا ذلك (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) جمع غيب وهو كل ما غاب عن الإحساس ومعناه : يعلم كل ما غاب من العباد وعن ادراكهم من موجود أو معدوم وفي قوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) الآية ، لما تهاونوا باداء هذا الحق دعاهم ذلك إلى الثبات على النفاق إلى الممات ، وكذلك يدعو بعض الطاعات إلى بعض ، وعلى ذلك ترتيب الشرائع ، وفيه دلالة على أن الاخلاف والخيانة والكذب من اخلاق النفاق ، وقد صحّ في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : للمنافق ثلاث علامات : إذا حدث كذب ، إذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان.

٧٩ ـ ٨٠ ـ ثم وصفهم الله بصفة أخرى فقال (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) أي يعيبون (الْمُطَّوِّعِينَ) المتطوعين بالصدقة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ويطعنون عليهم (فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي ويعيبون الذين لا يجدون إلّا طاقتهم فيتصدقون بالقليل (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) أي فيستهزؤون منهم (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) أي جازاهم جزاء سخريتهم حيث صاروا إلى النار (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع مؤلم ، وروي عن النبي (ص) أنه سئل فقيل : يا رسول أيّ الصدقة أفضل؟ قال : جهد المقل (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) صيغته صيغة الأمر والمراد به المبالغة في الإياس من المغفرة ، كما قال سبحانه في موضع آخر : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) الوجه في تعليق الإستغفار بسبعين مرّة المبالغة لا العدد ، ويجري ذلك مجرى قول القائل : لو قلت لي ألف مرّة ما قبلت والمراد : أني لا أقبل منك ، فكذلك الآية ، والمراد بذلك فيها نفي الغفران جملة ، وقيل : إن العرب تبالغ بالسبعة والسبعين ، ولهذا قيل : للأسد السبع لأنهم تأولوا فيه لقوته انها ضوعفت له سبع مرات (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) معناه أنّ حرمان المغفرة لهم بكفرهم بالله ورسوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) مرّ معناه.

٨١ ـ ٨٣ ـ ثم أخبر سبحانه أن جماعة من المنافقين الذين خلّفهم النبي (ص) ولم يخرجهم معه إلى تبوك استأذنوه في التأخر فأذن لهم ، فرحوا بقعودهم فقال (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ) أي بقعودهم عن الجهاد (خِلافَ رَسُولِ اللهِ) أي بعده وقيل معناه : لمخالفتهم النبي (ص) (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ظاهر المعنى (قالُوا) أي قالوا للمسلمين ليصدّوهم عن الغزو (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) أي لا تخرجوا إلى الغزو سراعا في هذا الحرّ وقيل بل معناه : قال بعضهم لبعض ذلك طلبا للراحة والدعة ، وعدولا عن تحمل المشاق في طاعة الله ومرضاته (قُلْ) يا محمد لهم (نارُ جَهَنَّمَ) التي وجبت لهم بالتخلف عن أمر الله تعالى (أَشَدُّ حَرًّا) من هذا الحرّ ، فهي أولى بالاحتراز والحذر عنها إذ لا يعتد بهذا الحر في جنب ذلك الحر (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أوامر الله تعالى ووعده ووعيده (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) هذا تهديد لهم في صورة الأمر ، أي فليضحك هؤلاء المنافقون في الدنيا قليلا لأن ذلك يفنى وإن دام إلى الموت ، ولأن الضحك في الدنيا قليل لكثرة أحزانها وهمومها ، وليبكوا كثيرا في الآخرة لأن ذلك يوم مقداره خمسين الف سنة وهم فيه يبكون فصار بكاؤهم كثيرا (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الكفر والنفاق والتخلف بغير عذر عن الجهاد. قال ابن عباس : إن أهل النفاق ليبكون في النار عمر الدنيا فلا يرقأ لهم

٢٦٠