الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

الفعل فعلكم بعد ذهابي إلى ميقات ربي (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أي ميعاد ربكم فلم تصبروا له (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) معناه : أنه القاها لما دخله من شدة الغضب والجزع على عبادة قومه العجل (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) يعني هارون (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) انه (ع) أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لإكباره منهم ما صاروا إليه من الكفر والارتداد ، فصدر ذلك منه للتألم بضلالهم ، وإعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال (قالَ) يعني هارون (ابْنَ أُمَ) كان أخاه لأبيه وأمه إلّا أنّه إنما نسبه إلى الأم لأن ذكر الأم أبلغ في الاستعطاف (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) يعني ان القوم الذين تركتني بين أظهرهم اتخذوني ضعيفا (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي هموا أن يقتلوني لشدة إنكاري عليهم (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) أي لا تسرهم بأن تفعل ما يوهم ظاهره خلاف التعظيم (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تجعلني مع عبدة العجل ومن جملتهم في إظهار الغضب والموجدة علي (قالَ) موسى حين تبين له ما نبهه هارون عليه من خوف التهمة ، ودخول الشبهة على القوم (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) وهذا على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه ، والتقرب إليه ، لا انه كان وقع منه أو من أخيه قبيح كبير أو صغير يحتاج أن يستغفر منه ، فإن الدليل قد دل على أن الأنبياء لا يجوز أن يقع منهم شيء من القبيح (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) أي نعمتك وجنتك (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ظاهر المعنى. وإنما يذكر في آخر الدعاء لبيان شدة الرجاء من جهته ، فإن الابتداء بالنعمة يوجب الاتمام ، وسعة الرحمة تقتضي الزيادة فيها ، فيقال : أرحم الراحمين لاستدعاء الرحمة من جهته كما يقال : أجود الأجودين لاستدعاء الجود من قبله.

١٥٢ ـ ١٥٤ ـ ثم أوعدهم سبحانه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) أي اتخذوه إلها من دون الله (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ) أي سيلحقهم على عبادتهم إياه عقوبة (مِنْ رَبِّهِمْ) وإنما ذكر الغضب مع الوعيد بالنار لأنه ابلغ في الزجر عن القبيح (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني صغر النفس والمهانة قال الزجاج : والذلة ما أمروا به من قتل أنفسهم (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أي مثل هذا الوعيد والعذاب والغضب نجزي الكاذبين والمتخرصين ، وإنما سمّوا مفترين لأنهم عبدوا عجلا وقالوا إنه إله فكانوا كاذبين ، ثم عطف سبحانه على ذلك بقوله : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) أي الشرك والمعاصي (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا) أي واستأنفوا عمل الإيمان (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (مِنْ بَعْدِها) أي من بعد التوبة وقيل : من بعد السيئات (لَغَفُورٌ) لذنوبهم (رَحِيمٌ) بهم (وَلَمَّا سَكَتَ) أي سكن (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) معناه : زالت فورة غضبه ولم يزل الغضب لأن توبتهم لم تخلص (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي كانت فيها التوراة (وَفِي نُسْخَتِها) أي وفيما نسخ فيها وكتب (هُدىً) أي دلالة وبيان لما يحتاج إليه من أمور الدين (وَرَحْمَةٌ) أي نعمة ومنفعة (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي يخشون ربهم فلا يعصونه ، ويعملون بما فيها.

١٥٥ ـ ثم أخبر تعالى عن اختيار موسى من قومه عند خروجه إلى ميقات ربه فقال : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) اختارهم حين خرج إلى الميقات ليكلّمه الله سبحانه بحضرتهم ، ويعطيه التوراة ، فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل لما لم يثقوا بخبره أن الله سبحانه يكلمه ، فلما حضروا الميقات وسمعوا كلامه تعالى سألوا الرؤية فأصابتهم الصاعقة ، ثم أحياهم الله تعالى ، فابتدأ سبحانه بحديث الميقات (فَلَمَّا) سمعوا كلام الله قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وهي الرعدة والحركة الشديدة حتى

٢٢١

كادت أن تبين مفاصلهم ، وخاف موسى عليهم الموت فبكى ودعا ، وخاف أن يتّهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ، ولم يصدّقوه بأنهم ماتوا (قالَ) أي قال موسى (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أي لو شئت اهلكت هؤلاء السبعين من قبل هذا الموقف وأهلكتني معهم ، فالآن ماذا أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) معناه النفي وإن كان بصورة الإنكار ، والمعنى : انك لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا ، فبهذا نسألك رفع المحنة والاهلاك عنا ، وما فعله السفهاء هو : عبادة العجل (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) معناه : إن الرجفة إلّا اختبارك وابتلاؤك ومحنتك ، أي تشديدك التعبد والتكليف علينا بالصبر على ما انزلته بنا (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) أي تصيب بهذه الرجفة من تشاء ، وتصرفها عمن تشاء (أَنْتَ وَلِيُّنا) معناه : أنت ناصرنا والأولى بنا تحوطنا وتحفظنا (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أي خير الساترين على عباده ، والمتجاوزين لهم عن جرمهم.

١٥٦ ـ هذا تمام ما قاله موسى في دعائه : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) سأل الله سبحانه أن يكتب لهم الحسنة في الدنيا وهي النعمة (وَفِي الْآخِرَةِ) معناه : واكتب لنا في الآخرة حسنة أيضا كما في قوله : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي رجعنا بتوبتنا إليك ، والهود : الرجوع (قالَ) الله تعالى مجيبا لموسى (ع) (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ممن عصاني واستحقه بعصيانه ، وإنما علّقه بالمشيئة لجواز الغفران (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) قال الحسن وقتادة : ان رحمته في الدنيا وسعت البرّ والفاجر ، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي فسأوجب رحمتي للذين يجتنبون الكبائر والمعاصي (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يخرجون زكاة أموالهم لأنه من أشق الفرائض (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي بحججنا وبيناتنا يصدّقون.

١٥٧ ـ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) أي يؤمنون به ويعتقدون بنبوته ، يعني نبينا محمد (ص) الذي لا يكتب ولا يقرأ (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) معناه : يجدون نعته وصفته ونبوته مكتوبا في الكتابين ، لأنه مكتوب في التوراة في السفر الخامس ، اني سأقيم لهم نبيا من أخوتهم مثلك ، واجعل بشارة كلامي في فيه فيقول لهم كل ما أوصيه به ، وفي الإنجيل بشارة بالفار قليط في مواضع منها : نعطيكم فار قليط آخر يكون معكم آخر الدهر كله ، وفيه أيضا قول المسيح للحواريين : أنا اذهب وسيأتيكم الفار قليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ، إنه نذيركم بجميع الحق ، ويخبركم بالأمور المزمعة ، ويمدحني ويشهد لي ، وفيه أيضا : انه إذا جاء فنّد أهل العالم (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) والمعروف : الحق ، والمنكر : الباطل ، لأن الحق معروف الصحة في العقول : والباطل منكر الصحة في العقول (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) معناه : يبيح لهم المستلذات الحسنة ، ويحرم عليهم القبائح وما تعافه الأنفس (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي ثقلهم. شبّه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديد بالثقل (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) معناه : ويضع عنهم العهود التي كانت في ذمتهم ، وجعل تلك العهود بمنزلة الأغلال التي تكون في الأعناق للزومها كما يقال : هذا طوق في عنقك (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) أي بهذا النبي وصدقوه في نبوته (وَعَزَّرُوهُ) أي عظّموه ووقّروه ومنعوا عنه اعداءه (وَنَصَرُوهُ) عليهم (وَاتَّبَعُوا النُّورَ) معناه : القرآن الذي هو نور في القلوب ، كما أن الضياء نور في العيون ، ويهتدي به الخلق في أمور الدين كما يهتدون بالنور

٢٢٢

في أمور الدنيا (الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي أنزل عليه. ويروى أن النبي (ص) قال لأصحابه : أيّ الخلق أعجب إيمانا؟ قالوا : الملائكة ، فقال : الملائكة عند ربهم فما لهم لا يؤمنون ، قالوا : فالنّبيّون ، قال : النّبيون يوحى اليهم فما لهم لا يؤمنون ، قالوا : فنحن يا نبيّ الله ، قال : أنا فيكم فما لكم لا تؤمنوا ، إنما هم قوم يكونون بعدكم يجدون كتابا في ورق فيؤمنون به ، فهو معنى قوله : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الظافرون بالمراد ، الناجون من العقاب ، الفائزون بالثواب.

١٥٨ ـ ثم أمر الله سبحانه نبينا أن يخاطب جميع الخلق من العرب والعجم فقال : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ) أرسلني (إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) ادعوكم إلى توحيده وطاعته واتباعي فيما أؤدّيه اليكم ، وإنما ذكر جميعا للتوكيد ، وليعلم أنه مبعوث إلى الكافة (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معناه : الذي له التصرف في السماوات والأرض من غير دافع ومنازع (لا إِلهَ) أي لا معبود (إِلَّا هُوَ) ولا شريك له في الإلهية (يُحيِي) الأموات (وَيُمِيتُ) الأحياء ، لا يقدر أحد على الإحياء والإماتة سواه ، لأنه لو قدر أحد على الإماتة لقدر على الإحياء ، فإن من شأن القادر على الشيء أن يكون قادرا على ضده (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ) يعني لم يأمركم بالإيمان حتى آمن هو أولا ، وعليه زيادة التكليف من أداء الرسالة ، وبيان الشرائع ، والقيام بالدعوة (وَكَلِماتِهِ) أي يؤمن بكلماته من الكتب المتقدمة ، والوحي والقرآن (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا إلى الثواب والجنة.

١٥٩ ـ ١٦٠ ـ ثم عاد الكلام إلى قصة بني إسرائيل فقال سبحانه : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) أي جماعة يدعون إلى الحق ويرشدون إليه (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي وبالحق يحكمون ، ويعدلون في حكمهم إنهم قوم من بني إسرائيل تمسّكوا بالحق وبشريعة موسى (ع) في وقت ضلالة القوم وقتلهم انبياءهم ، وكان ذلك قبل نسخ شريعتهم بشريعة عيسى (ع) ، فيكون تقدير الآية : ومن قوم موسى أمة كانوا يهدون بالحق. وفي حديث أبي حمزة الثمالي والحكم بن ظهير : ان موسى لما أخذ الألواح قال : ربي اني لأجد في الألواح أمة هي خير أمة اخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فاجعلهم أمتي ، قال تلك أمة محمد ، قال : ربي إني لأجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق ، السابقون في دخول الجنة ، فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد ، قال : ربي إني لأجد في الألواح أمة كتبهم في صدورهم يقرأونها فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد ... قال ربي اجعلني من أمة أحمد (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) أي وفرقنا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة اسباطا ، بعني أولاد يعقوب (ع) فإنهم كانوا اثني عشر ، وكان لكل واحد منهم أولاد ونسل ، فصار كل فرقة منهم سبطا وأمة (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) أي طلبوا منه السقيا (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ) الانبجاس : خروج الماء الجاري بقلة ، والانفجار : خروجه بكثرة ، وكان يبتدىء الماء من الحجر بقلة ثم يتسع إلى الكثرة ، فلذلك ذكر ههنا الانبجاس ، وفي سورة البقرة الإنفجار. والآية إلى آخرها مفسّرة هناك.

١٦١ ـ ١٦٢ ـ (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) أي اين شئتم (وَقُولُوا حِطَّةٌ) معناه : حطّ

٢٢٣

عنا ذنوبنا ، وهو أمر بالإستغفار (وَادْخُلُوا الْبابَ) يعني الباب الذي أمروا بدخوله ، وقيل : هو باب حطة من بيت المقدس (سُجَّداً) معناه : ادخلوا خاضعين متواضعين (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) أي نصفح ونعف عن ذنوبكم (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) كقوله تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي فخالف الذين عصوا ، والذين فعلوا ما لم يكن لهم أن يفعلوه ، وغير ما أمروا به ، فقالوا غير ذلك ، فقيل انهم قالوا : حطا سمقانا ، ومعناه : حنطه حمراء فيها شعيرة ، وكان قصدهم في ذلك الاستهزاء ومخالفة الأمر (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) أي عذابا من السماء (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) أي بكونهم فاسقين ، كقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) ، أي بعصيانهم ، وقال ابن زيد : اهلكوا بالطاعون فمات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون الفا.

١٦٣ ـ ١٦٤ ثم ابتدأ سبحانه بخبر آخر من اخبار بني إسرائيل فقال مخاطبا لنبيه : (وَسْئَلْهُمْ) يا محمد ، وهو سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استفهام (عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي مجاورة البحر ، وعلى شاطىء البحر ، وهي ايلة (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي يظلمون فيه بصيد السمك ، ويتجاوزون الحد في أمر السبت (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) أي ظاهرة على وجه الماء وقيل : متتابعة (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) أي ويوم لا يكون السبت كانت تغوص في الماء. واختلف في أنهم كيف يصيدونها فقيل : انهم القوا الشبكة في الماء يوم السبت ، حتى كان يقع فيها السمك ثم كانوا لا يخرجون الشبكة من الماء إلى يوم الأحد ، وهذا تسبب محظور ، وفي رواية عكرمة عن ابن عباس : اتخذوا الحياض فكانوا يسوقون الحيتان اليها ولا يمكنها الخروج منها فيأخذونها يوم الأحد ، وقيل : انهم اصطادوها وتناولوها باليد في يوم السبت عن الحسن (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) أي مثل ذلك الاختبار الشديد نختبرهم (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بفسقهم وعصيانهم (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ) أي جماعة (مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل الذين لم يصطادوا وكانوا ثلاثة فرق : فرقة قانصة ، وفرقة ساكتة ، وفرقة واعظة : فقال : الساكتون للواعظين والناهين (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) أي يهلكهم الله ، ولم يقولوا ذلك كراهية لوعظهم ولكن لأياسهم عن ان يقبل أولئك القوم الوعظ ، فإن الأمر بالمعروف إنما يجب عند عدم الأياس من القبول (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة (قالُوا) أي قال الواعظون في جوابهم (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) معناه : موعظتنا إياهم معذرة إلى الله ، وتأدية لفرضه في النهي عن المنكر لئلا يقول لنا : لم لم تعظوهم (وَلَعَلَّهُمْ) بالوعظ (يَتَّقُونَ) ويرجعون.

١٦٥ ـ ١٦٦ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي فلما ترك أهل هذه القرية ما ذكرهم الواعظون به ولم ينتهوا عن ارتكاب المعصية بصيد السمك (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) أي خلصنا الذين ينهون عن المعصية (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أي شديد (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بفسقهم ، وذلك العذاب لحقهم قبل أن مسخوا قردة ولم يذكر حال الفرقة الثالثة هل كانت من الناجية أم من الهالكة (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) أي عن ترك ما نهوا عنه ، يعني لم يتركوا ما نهوا عنه ، وتمردوا في الفساد والجرأة على معصيته (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً) أي جعلناهم قردة (خاسِئِينَ) مبعدين مطرودين ؛ وإنما ذكركن ليدل على أنه سبحانه لا يمتنع عليه شيء ، وأجاز الزجاج أن يكون قيل لهم ذلك بكلام سمعوه فيكون ذلك أبلغ في الآية النازلة بهم.

٢٢٤

١٦٧ ـ ١٦٨ ـ ثم خاطب سبحانه النبي فقال : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) معناه : واذكر يا محمد إذ أذن واعلم ربك (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) أي على اليهود (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي من يذيقهم ويوليهم شدة العذاب بالقتل وأخذ الجزية منهم (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) لمن يستوجبه على الكفر والمعصية (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ظاهر المعنى ، وإنما قال : سريع العقاب وإن كان العقاب مؤخرا إلى يوم القيامة ، لأن كل آت فهو قريب (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) معناه : وفرّقناهم في البلاد فرقا مختلفة ، وجماعات شتى ، يعني اليهود. ثم أخبر سبحانه عنهم فقال : (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) أي من هؤلاء الصالحون ، يعني من بني إسرائيل ، وهم الذين يؤمنون بالله ورسله ويطيعونه (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي دون الصالح في الدرجة والمنزلة وهم الذين امتثلوا بعض الأوامر دون بعض ، وعملوا بعض المعاصي ، وإنما وصفهم بما كانوا عليه قبل ارتدادهم وكفرهم وذلك قبل ان يبعث فيهم عيسى (ع) (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) معناه : اختبرناهم بالرخاء في العيش ، والخفض في الدنيا ، والدعة والسعة في الرزق وبالشدائد في العيش ، والمصائب في الأنفس والأموال ، فإن فعل النعم يقتضي الرغبة إلى الله تعالى في ارتباطها ، وفعل النقم يقتضي الرغبة إلى الله تعالى في كشفها (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكي يرجعوا إلى الله تعالى ، وينيبوا إلى طاعته وامتثال أمره.

١٦٩ ـ ١٧٠ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) معناه : فذهب أولئك وقام مقامهم قوم آخرون ورثوا الكتاب : يعني التوراة ، فإن الميراث ما صار للباقي من جهة البادي (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) معناه : ما أشرف لهم من الدنيا أخذوه (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) وهذا اخبار عن حرصهم على الدنيا ، واصرارهم على الذنوب ، اذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما ، ويتمنون على الله المغفرة (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أي وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه. وهذا دليل على اصرارهم ، وأنهم تمنوا المغفرة مع الإصرار (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) معناه : ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في الأحكام ، القائلين : سيغفر لنا إذا عوتبوا على ذلك الميثاق في التوراة : ان لا يكذبوا على الله تعالى ، ولا يضيفوا إليه إلّا ما أنزله على رسوله موسى (ع) في التوراة من الوعد والوعيد وغير ذلك ، وليس فيها ميعاد المغفرة مع الإصرار (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أي قرأوا ما فيه فهم ذاكرون ذلك والمعنى : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ، ودرسوا ما فيه فضيّعوه ، وتركوا العمل به (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) معناه : ما أعدّه الله لأوليائه في الدار الآخرة من النعيم ، والثواب للعاملين بطاعته خير للذين يجتنبون معاصي الله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) معناه : قل لهم : أفلا تعقلون أن الأمر على ما أخبر الله به (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) أي يتمسكون به ، والكتاب : التوراة ، أي لا يحرفونه ، ولا يكتمونه عن مجاهد وابن زيد ، وقيل : الكتاب القرآن ، والمتمسك به أمة محمد (ص) (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إنما خصّ الصلاة بالذكر لجلالة موقعها ، وشدة تأكّدها (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) أي لا نضيع جزاء عملهم ، ونثيبهم على ما يستحقّونه.

١٧١ ـ عاد الكلام إلى قوم موسى (ع) فقال سبحانه : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) معناه : واذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل من أصله فرفعناه فوق بني إسرائيل ، وكان عسكر موسى (ع) فرسخا في فرسخ فرفع الله الجبل فوق جميعهم (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) أي غمامة (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أي علموا وأيقنوا (خُذُوا) أي وقلنا لهم خذوا (ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي خذوا ما الزمناكم من

٢٢٥

أحكام كتابنا وفرائضه فاقبلوه بجدّ واجتهاد منكم في كل أوان من غير تقصير وتوان (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من العهود والمواثيق التي أخذناها عليكم بالعمل بما فيه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لكي تتقوا ربكم ، وتخافوا عقابه.

١٧٢ ـ ١٧٤ ـ ثم ذكر سبحانه ما أخذ على الخلق من المواثيق بعقولهم عقيب ما ذكره من المواثيق التي في الكتب ، فقال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) أي واذكر لهم يا محمد إذ أخرج ربك (مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) أي من ظهور بني آدم (ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) المراد بالآية : ان الله سبحانه أخرج بني آدم من اصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ، ثم رقاهم درجة بعد درجة ، وعلقة ثم مضغة ، ثم أنشأ كلا منهم بشرا سويا ، ثم حيّا مكلفا ، وأراهم آثار صنعه ، ومكّنهم من معرفة دلائله حتى كأنه اشهدهم ، وقال لهم : ألست بربكم؟ فقالوا : بلى ، يكون معنى اشهدهم على انفسهم : دلّهم بخلقه على توحيده ، وإنما أشهدهم على أنفسهم بذلك لما جعل في عقولهم من الأدلة على وحدانيته ، وركب فيهم من عجائب خلقه ، وغرائب صنعته وفي غيرهم ، فكأنّه سبحانه بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم ، فكانوا في مشاهدة ذلك وظهوره فيهم على الوجه الذي اراده الله ، وتعذر امتناعهم منه بمنزلة المعترف المقرّ وإن لم يكن هناك اشهاد صورة وحقيقة وقوله : (شَهِدْنا) حكاية عن قول الملائكة أنهم يقولون ذلك ، أي شهدنا (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) معناه : لئلا يقولوا إذا صاروا إلى العذاب يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) لم نتنبّه عليه ، ولم تقم لنا حجة به ، ولم تكمل عقولنا فنفكّر فيه (أَوْ تَقُولُوا) أي أو يقول قوم منهم (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) حين بلغوا وعقلوا (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) أي اطفالا لا نعقل ولا نصلح للفكرة والنظر والتدبر (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) ومعناه : ولأن لا تقولوا أفتهلكنا بما فعل آباؤنا من الشرك ، وتقديره : انا لا نهلككم بما فعلوه ، وإنما نهلككم بفعلكم انتم (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) معناه : انا كما بيّنا لكم هذه الآيات كذلك نفصلها للعباد ، ونبيّنها لهم؟ وتفصيل الآيات تمييزها ليتمكن من الاستدلال بكل واحدة منها (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ليرجعوا إلى الحق من الباطل.

١٧٥ ـ ١٧٨ ـ ثم أمر سبحانه نبيه (ص) أن يقرأ عليهم قصة أخرى من أخبار بني اسرائيل فقال : (وَاتْلُ) أي واقرأ (عَلَيْهِمْ) يا محمد (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ) أي خبر الذي اعطيناه (آياتِنا) أي حججنا وبيناتنا (فَانْسَلَخَ مِنْها) أي فخرج من العلم بها بالجهل ، كالشيء الذي ينسلخ من جلده (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) معناه : لحقه الشيطان وادركه حتى اضلّه (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي من الهالكين المعني به بلعام بن باعور ، وكان رجلا على دين موسى عليه‌السلام ، وكان في المدينة التي قصدها موسى وكانوا كفارا (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي بتلك الآيات ومعناه : ولو شئنا لرفعنا منزلته بإيمانه ومعرفته قبل أن يكفر (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي ركن إلى الدنيا ومال إليها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي وانقاد لهواه في الركون إلى الدنيا واختيارها على الآخرة. ثم ضرب له مثلا فقال : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) معناه : فصفته كصفة الكلب إن طردته وشددت عليه يخرج لسانه من فمه ، وإن تركته ولم تطرده يخرج لسانه من فمه أيضا (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) معناه : ذلك صفة الذين يكذبون بآيات الله والكتاب (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي فاقصص عليهم اخبار الماضين (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيعتبرون ولا يفعلون مثل فعلهم حتى لا يحلّ بهم ما حلّ بهم. ثم وصف الله تعالى بهذا المثل

٢٢٦

الذي ضربه وذكره بأنه (ساءَ مَثَلاً) أي بئس مثلا مثل (الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ومعناه : بئست الصفة المضروب فيها المثل ، أو قبح حال المضروب فيه المثل (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي وإنما نقصوا بذلك أنفسهم لأن عقاب ما يفعلونه من المعاصي يحلّ بهم ، والله سبحانه لا يضرّه كفرهم ومعصيتهم ، كما لا ينفعه إيمانهم وطاعتهم (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) من يهده الله إلى نيل الثواب كما يهدي المؤمن إلى ذلك وإلى دخول الجنة فهو المهتدي للإيمان والخير (وَمَنْ يُضْلِلْ) الله عن طريق الجنة وعن نيل الثواب عقوبة على كفره وفسقه (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسروا الجنة ونعيمها ، وخسروا أنفسهم.

١٧٩ ـ ١٨١ ـ (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) أي خلقنا (لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعني خلقناهم على ان عاقبتهم المصير إلى جهنم بكفرهم وإنكارهم وسوء اختيارهم ، والمراد بالآية : كل من علم الله تعالى انه لا يؤمن ويصير إلى النار (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) الحق لأنهم لا يتدبرون أدلة الله تعالى وبيناته (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الرشد (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) الوعظ لأنهم يعرضون عن جميع ذلك اعراض من ليست له آلة الإدراك (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) أي هؤلاء الذين لا يتدبرون آيات الله ، ولا يستدلون بها على وحدانيته وصدق أنبيائه ، أشباه الأنعام والبهائم التي لا تفقه ولا تعلم (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من البهائم ، فإنها إذا زجرت انزجرت ، وإذا ارشدت إلى طريق اهتدت ، وهؤلاء لكفرهم وعتوهم لا يهتدون إلى شيء من الخيرات مع ما ركّب الله فيهم من العقول الدالة على الرشاد ، الصارفة عن الفساد ، ولأن الأنعام وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية ، وهؤلاء عصاة فهم أسوأ حالا منها (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عن آياتي وحججي ، وعن الاستدلال والاعتبار بتدبرها ، والتفكر فيها (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أخبر سبحانه أن له الأسماء الحسنى لحسن معانيها مثل : الجواد ، والرحيم ، والرازق ، والكريم ، وانها كلها حسنة متضمنة لمعان حسنة ، فمنها ما يرجع إلى صفات ذاته : كالعالم والقادر والحي والإله والقديم والسميع والبصير ، ومنها ما هي صفات فعله : الخالق والرازق والمبدع والمحيي والمميت ، ومنها ما يفيد التنزيه ونفي صفات النقص عنه : كالغني والواحد والقدوس ونحو ذلك (فَادْعُوهُ بِها) أي بهذه الأسماء الحسنى ، ودعاؤه بها أن يقال : يا الله يا رحمن يا رحيم يا خالق السماوات والأرض (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) يصفونه بما لا يليق به ، ويسمونه بما لا يجوز تسميته به (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في الآخرة ، وقيل : في الدنيا والآخرة (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) أخبر سبحانه من جملة خلقه جماعة وعصبة يدعون الناس إلى توحيد الله تعالى وإلى دينه ، وهو الحق يرشدونهم إليه (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي وبالحق يحكمون.

١٨٢ ـ ١٨٦ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) التي هي القرآن والمعجزات الدالة على صدق النبي (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) إلى الهلكة حتى يقعوا فيه بغتة كما قال سبحانه : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) ، وقيل : يجوز أن يريد عذاب الآخرة ، أي نقربهم إليه درجة إلى أن يقعوا فيه (وَأُمْلِي لَهُمْ) معناه : وأمهلهم ولا أعاجلهم بالعقوبة فإنهم لا يفوتونني ولا يفوتني عذابهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي عذابي قويّ منيع لا يمنعه مانع ، ولا يدفعه دافع ، وسماه كيدا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) معناه : أو لم يتفكر هؤلاء الكفار المكذبون بمحمد (ص) وبنبوته في أقواله وأفعاله فيعلموا أنه (ص) ليس بمجنون ، إذ ليس في

٢٢٧

أقواله وأفعاله ما يدل على الجنون (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما هو إلّا معلم موضع المخافة ليتقى ، ولموضع الأمن ليجتبى ، ومعنى مبين : بيّن أمره وقيل : مبين لهم عن الله أمره فيهم ثم قال : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) معناه : أو لم يتفكروا؟ (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وعجيب صنعهما فينظروا فيهما نظر المستدل المعتبر ، فيعترفوا بأن لهما خالقا مالكا ، ويستدلوا بذلك عليه (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي وينظروا فيما خلق الله من أصناف خلقه فيعلموا بذلك أنه سبحانه خالق جميع الأجسام ، فإن في كل شيء خلق الله عزوجل دلالة واضحة على اثباته وتوحيده (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي أو لم يتفكّروا وينظروا في ان عسى أن يكون قد قرب أجلهم ، وهو أجل موتهم فيدعوهم ذلك إلى أن يحتاطوا لدينهم ولأنفسهم مما يصيرون إليه بعد الموت من أمور الآخرة ، ويزهدوا في الدنيا وفيما يطلبونه من فخرها وشرفها وعزها ومعناه : لعل أجلهم قريب وهم لا يعلمون (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) مع وضوح الدلالة على أنه كلام الله المعجز إذ لم يقدر أحد منهم أن يأتي بسورة مثله (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) قد ذكرنا معناه (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) معناه : ونتركهم في ضلالتهم يتحيرون. والعمه في القلب كالعمى في العين.

١٨٧ ـ لما تقدم الوعيد بالساعة سألوا عن وقتها فقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنِ السَّاعَةِ) هي القيامة ، وهو وقت قيام الناس في الحشر (أَيَّانَ مُرْساها) أي متى وقوعها وكونها؟ (قُلْ) يا محمد (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي إنما علم وقت قيامها ومجيئها عند الله تعالى لم يطلع عليه أحد من خلقه ، وإنما لم يخبر سبحانه بوقتها ليكون العباد على حذر منه فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة ، وازجر عن المعصية (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي لا يظهرها ، ولا يكشف عن علمها ، ولا يبين وقتها إلّا هو ، فلا يعلم أحد سواه متى يكون وقتها (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثقل علمها على أهل السماوات والأرض ، لأن من خفي عليه علم شيء كان ثقيلا عليه (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي فجأة لتكون أعظم وأهول (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) معناه : يسألونك عنها كأنك حفي بها : أي عالم بها (قُلْ) يا محمد (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) لا يعلمها إلّا هو وإنما أعاد سبحانه هذا القول لأنه وصله بقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وقيل أراد بالأول علم وقت قيامها ، وبالثاني علم كيفيتها وهيأتها وتفصيل ما فيها.

١٨٨ ـ (قُلْ) يا محمد (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يملكني إياه (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) لأدخرت من السنة المخصبة للسنة المجدبة ، ولاشتريت وقت الرخص لأيام الغلاء وقيل معناه : لاستكثرت من الأعمال الصالحة قبل حلول الأجل ولم اشتغل بغيرها ، ولاخترت الأفضل فالأفضل (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي وما أصابني الضر والفقر وقيل معناه : وما مسني سوء من جهة الأعداء لأني كنت أعلم ذلك فاتحرز منه (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) مخوف بالعذاب (وَبَشِيرٌ) مبشر بالثواب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) وإن كان ينذر غيرهم أيضا.

١٨٩ ـ ١٩٣ ـ لمّا تقدّم ذكر الله تعالى ذكر عقيبه ما يدل على وحدانيته فقال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) والخطاب لبني آدم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم (ع) (وَجَعَلَ) أي وخلق (مِنْها زَوْجَها) يعني حواء (لِيَسْكُنَ) آدم (إِلَيْها) ويأنس بها (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي جامعها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) وهو الماء الذي

٢٢٨

حصل في رحمها وكان خفيفا (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استمرت بالحمل على الخفة تقوم وتقعد ، وتجيء وتذهب كما كانت من قبل ، لم يمنعها ذلك الحمل عن شيء من التصرف (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي صارت ذات ثقل والمعنى : لما كبر الحمل في بطنها وتحرّك ، وصارت ثقيلة به (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) يعني آدم وحواء سألا الله تعالى عند كبر الولد في بطنها (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي اعطيتنا ولدا صالحا وقيل : نسلا صالحا : أي معافى سليما صحيح الخلقة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنعمتك علينا (فَلَمَّا آتاهُما) الله (صالِحاً) كما التمساه (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) الضمير الذي في جعلا يرجع إلى النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء عن الحسن وقتادة ، وهو قول الأصم قال : ويكون المعنى في قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) : خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ، ولكل نفس زوج هو منها أي من جنسها كما قال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) ، فلما تغشى كل نفس زوجها حملت حملا خفيفا وهو ماء الفحل ، فلما اثقلت بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما دعا الرجل والمرأة ربهما لئن آتيتنا صالحا : أي ذكرا سويا لنكونن من الشاكرين ، وكانت عادتهم أن يئدوا البنات ، فلما آتاهما ـ يعني الأب والأم ـ صالحا جعلا له شركاء فيما أتاهما ، لأنهم كانوا يسمّون عبد العزى ، وعبد اللات ، وعبد منات ، ثم رجعت الكناية إلى جميعهم في قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فالكناية في جميع ذلك غير متعلقة بآدم وحواء ولو كانت متعلقة بهما لقال : عما يشركان (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) توبيخ وتعنيف للمشركين بأنهم يعبدون مع الله تعالى جمادا لا يخلق شيئا من الأجسام ، ولا ما يستحقّ به العبادة (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي ويشركون به ويعبدون من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه بأن يدفع عن نفسه من أراد به الضرّ ، ومن هذه صورته فهو في غاية العجز فكيف يكون إلها معبودا؟ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) معناه : إن دعوتم المشركين الذين أصرّوا على الكفر إلى دين الحق لم يؤمنوا ، وهو نظير قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) أي سواء عليكم دعاؤهم والسكوت عنهم.

١٩٤ ـ ١٩٥ ـ ثم أتمّ سبحانه الحجة على المشركين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام ، يريد تدعونهم آلهة (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) أي مخلوقة أمثالكم وقيل : مملوكون أمثالكم (فَادْعُوهُمْ) هذا الدعاء ليس الدعاء الأول والمراد به : فادعوهم في مهماتكم ، ولكشف الأسواء عنكم (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) هذه لام الأمر على معنى التعجيز والتهجين كما قال : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال ابن عباس : معناه : فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجازونكم إن كنتم صادقين إن لكم عندها منفعة وثوابا ، أو شفاعة ونصرة ، ثم فضّل سبحانه بني آدم عليهم فقال : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) أي لهؤلاء الأصنام أرجل يمشون بها في مصالحكم (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) أي يأخذون بها في الدفع عنكم ومعنى البطش : التناول والأخذ بشدة (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي ليس لهم هذه الحواس ولكم هذه الحواس ، فأنتم افضل منهم ، فلو دعوتم وعبدتم من له الحياة ومنافعها للزمكم الذم واللوم بذلك لأنها مخلوقة مربوبة ، فكيف تعبدون من أنتم أفضل منه؟! ثم زاد سبحانه في تهجينهم فقال : (قُلِ) يا محمد (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي هذه الأوثان التي تزعمون أنها آلهة ، وتوجهون عبادتكم إليها (ثُمَّ كِيدُونِ) باجمعكم (وَلا تُنْظِرُونِ) أي لا تؤخّروني ومعناه : أن معبودي ينصرني ويدفع كيد الكائدين عني ، ومعبودكم لا

٢٢٩

يقدر على نصركم.

١٩٦ ـ ١٩٨ ـ ثم بيّن سبحانه أنه ناصر نبيه (ص) وحافظه ، فأمره أن يقول للمشركين : (إِنَّ وَلِيِّيَ) أي ناصري وحافظي ، ودافع شرّكم عني (اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) أي القرآن ، يؤيدني بنصره كما أنزله عليّ (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي ينصر المطيعين له ، المجتنبين معاصيه ، تارة بالدفع عنهم ، وأخرى بالحجة (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) أي لا يقدرون على أن ينصروكم ، ولا أن يدفعوا عنكم (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) كرّر هذا لأن ما تقدم فإنه على وجه التقريع والتوبيخ ، وما ذكره هنا فإنه على وجه الفرق بين صفة من يجوز له العبادة وصفة من لا يجوز له العبادة (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) يعني إن دعوتم هؤلاء الذين تعبدونهم من الأصنام (إِلَى الْهُدى) أي إلى الرشد والمنافع (لا يَسْمَعُوا) أي لا يسمعوا دعاءكم (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الحجة. يعني مشركي العرب.

١٩٩ ـ ٢٠٠ ـ لما أمر الله سبحانه نبيّه (ص) بالدعاء إليه ، وتبليغ رسالته ، علّمه محاسن الأفعال ، ومكارم الأخلاق والخصال فقال : (خُذِ الْعَفْوَ) معناه : خذ العفو من اخلاق الناس ، واقبل الميسور منها. أمره بالتساهل وترك الاستقصاء في القضاء والإقتضاء (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) يعني بكل خصلة حميدة (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) معناه : واعرض عنهم عند قيام الحجة عليهم ، والإياس من قبولهم ، ولا تقابلهم بالسفه صيانة لقدرك ، فإن مجاوبة السفيه تضع عن القدر وقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) معناه : يا محمد إن نالك من الشيطان وسوسة ونخسة في القلب بما يسوّل للإنسان معناه : وإن منعك الشيطان عن شيء مما امرتك من هذه الأشياء (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي سل الله عزّ اسمه أن يعيذك منه (إِنَّهُ سَمِيعٌ) للمسموعات (عَلِيمٌ) بالخفيات.

٢٠١ ـ ٢٠٣ ـ ثم ذكر سبحانه المتقين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الله باجتناب معاصيه (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) قيل معناه : إذا وسوس إليهم الشيطان واغراهم بمعصيته تذكروا ما عليهم من العقاب بذلك فيجتنبونه ويتركونه قال مجاهد : هو الرجل يهمّ بالذنب فيذكر الله فيتركه (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) للرشد (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) معناه : واخوان المشركين من شياطين الجن والإنس يمدونهم في الضلال والمعاصي : أي يزيدونهم فيه ، ويزينون لهم ما هم فيه (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) ثم لا يكفّون ومعناه : ثم لا يقصر الشياطين عن اغوائهم ، ولا يقصرونهم عن ارتكاب الفواحش (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) معناه : انك يا محمد إذا جئتهم بآية كذبوا بها ، وإذا ابطأت عنهم يقترحونها ويقولون : هلّا جئتنا بها من قبل نفسك ، فليس كل ما تقوله وحي من السماء (قُلْ) يا محمد لهم (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي لست آتي بالآيات من عندي وإنما يفعلها الله تعالى ويظهرها على حسب ما يعلم من المصلحة في ذلك لا بحسب اقتراح (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) هذا القرآن دلائل ظاهرة ، وحجج واضحة ، وبراهين ساطعة من ربكم يبصر الإنسان بها أمور دينه (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي ودلالة تهدي إلى الرشد ، ونعمة في الدين والدنيا (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم من الكفار. وفي هذه الآية دلالة على أن أفعال النبي (ص) وأقواله تابعة للوحي ، وأنه لا يجوز أن يعمل بالرأي والقياس.

٢٠٤ ـ ٢٠٦ ـ ثم أمر سبحانه بالاستماع للقرآن عند قراءته

٢٣٠

فقال : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) اختلف في الوقت المأمور بالإنصات للقرآن والاستماع له فقيل : انه في الصلاة خاصة خلف الإمام الذي يؤتم به اذا سمعت قراءته ، وروي ذلك عن أبي جعفر (ع) وكان المسلمون يتكلمون في صلاتهم ، ويسلم بعضهم على بعض ، وإذا دخل داخل فقال لهم : كم صليتم أجابوه ، فنهوا عن ذلك وأمروا بالاستماع (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لترحموا بذلك ، وباعتباركم به ، واتعاظكم بمواعظه (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) هو خطاب لمستمع القرآن والمعنى : واذكر ربك في نفسك بالكلام من التسبيح والتهليل والتحميد ، وروى زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال معناه : إذا كنت خلف الإمام تأتم به فانصت وسبّح في نفسك ، يعني فيما لا يجهر الإمام فيه بالقراءة وقيل معناه : واذكر نعمة ربك بالتفكر في نفسك بصفاته العليا ، واسمائه الحسنى (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) يعني بتضرع وخوف ، يعني في الدعاء ، فإن الدعاء بالتضرع والخوف من الله تعالى أقرب إلى الإجابة (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) معناه : ارفعوا أصواتكم قليلا ولا تجهروا بها جهارا بليغا حتى يكون عدلا بين ذلك كما قال : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي بالغدوات والعشيات ، والمراد به دوام الذكر واتصاله وقيل : إنما خص هذين الوقتين لأنهما حال فراغ القلب عن طلب المعاش ، فيكون الذكر فيهما الصق بالقلب (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عما أمرتك به من الدعاء والذكر ، ثم ذكر سبحانه ما يبعث إلى الذكر ويدعو إليه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم : الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) معناه : انهم مع جلالة قدرهم ، وعلو أمرهم ، يعبدون الله ويذكرونه ، وفائدته : انكم إن استكبرتم عن عبادته فمن هو أعظم حالا منكم لا يستكبر عنها ، وإنما قال : (عِنْدَ رَبِّكَ) تشريفا للملائكة باضافتهم إلى نفسه ، ولم يرد به قرب المكان ، تعالى الله عن ذلك وتقدّس ، وقيل معناه : إنهم في المكان الذي شرّفه الله تعالى (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي ينزّهونه عما لا يليق به (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي يخضعون وقيل : يصلون.

سورة الأنفال مدنية

عدد آياتها خمس وسبعون آية

١ ـ (يَسْئَلُونَكَ) أي يسألك يا محمد جماعة من أصحابك (عَنِ الْأَنْفالِ) اختلف المفسرون في الأنفال ههنا ، فقيل هي الغنائم التي غنمها النبي (ص) يوم بدر ، وهو المروي عن ابن عباس : وصحت الرواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) أنهما قالا : إن الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال ، وكل أرض انجلى أهلها عنها بغير قتال ـ ويسميها الفقهاء فيئا ـ وميراث من لا وارث له ، وقطائع الملوك إذا كانت في أيديهم من غير غصب ، والآجام ، وبطون الأودية والأرضون والموات ، وغير ذلك (قُلِ) يا محمد (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) سألوه أن يقسم غنيمة بدر بينهم ، فأعلمهم الله سبحانه أن ذلك لله ولرسوله دونهم ، وليس لهم في ذلك شيء ، وقال : (فَاتَّقُوا اللهَ) باتقاء معاصيه ، واتباع ما يأمركم به ، وما يأمركم به رسوله ، واحذروا مخالفة أمرهما (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي اصلحوا ما بينكم من الخصومة والمنازعة وقوله : (ذاتَ بَيْنِكُمْ) كناية عن المنازعة والخصومة ، والمراد : كونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي اقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها ومعناه : واطيعوهما فيما يأمرانكم به ، وينهيانكم عنه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين للرسول فيما يأتيكم به من قبل الله كما تدعون وروي أن رسول الله قسم غنائم بدر على سواء.

٢٣١

٢ ـ ٤ ـ لما قال سبحانه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، بيّن صفة المؤمنين بقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي خافت تعظيما له ، وذلك إذا ذكر عندهم عقوبته وعدله ووعيده على المعاصي بالعقاب ، واقتداره عليه (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) معناه : وإذا قرىء عليهم القرآن زادتهم آياته تبصرة ويقينا على يقين (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي يفوّضون أمورهم إلى الله فيما يخافونه من السوء في الدنيا (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قد مرّ تفسيره في سورة البقرة ، وإنما خصّ الصلاة والزكاة بالذكر لعظم شأنهما ، وتأكيد أمرهما ، وليكون داعيا إلى المواظبة على فعلهما (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي هؤلاء المستجمعون لهذه الخصال ، والحائزون لهذه الصفات ، هم الذين استحقّوا هذا الاسم على الحقيقة (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يعني درجات الجنة يرتقونها باعمالهم (وَمَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي خطير كبير في الجنة.

٥ ـ ٨ ـ (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) مع كراهة فريق من المؤمنين ذلك ، لأن الخروج كان أصلح لكم من كونكم في بيتكم ، والمراد بالبيت هنا : المدينة ، يعني خروج النبي (ص) منها إلى بدر ، ويكون معنى أخرجك ربك : دعاك إلى الخروج ، وأمرك به ، وحملك عليه ، وقوله : (بِالْحَقِ) أي بالوحي ، وذلك أن جبرائيل (ع) أتاه وأمره بالخروج (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي طائفة منهم (لَكارِهُونَ) لذلك للمشقة التي لحقتهم (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) معناه : يجادلونك فيما دعوتهم إليه بعد ما عرفوا صحته وصدقك بما ظهر عليك من المعجزات ، ومجادلتهم قولهم : هلا اخبرتنا بذلك؟ وهم يعلمون أنك لا تأمرهم عن الله إلّا بما هو حق وصواب ، وكانوا يجادلون فيه لشدته عليهم يطلبون بذلك رخصة لهم في التخلف عنه ، أو في تأخير الخروج إلى وقت آخر (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) معناه : كأنّ هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدو لشدة القتال عليهم حيث لم يكونوا مستعدين له ، ولكراهتهم له من حيث الطبع ، كانوا بمنزلة من يساق إلى الموت وهم يرونه عيانا وينظرون إليه وإلى أسبابه (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) يعني واذكروا واشكروا الله إذ يعدكم الله إن إحدى الطائفتين لكم : اما العير واما النفير (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي تؤدون أن يكون لكم العير ـ وصاحبها أبو سفيان بن حرب ـ لئلا تلحقكم مشقة دون النفير : وهو الجيش من قريش ، قال الحسن : كان المسلمون يريدون العير ، ورسول الله يريد ذات الشوكة ، كنّى بالشوكة عن الحرب لما في الحرب من الشدة وقيل : ذات الشوكة ذات السلاح (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) معناه : والله أعلم بالمصالح منكم ، فأراد أن يظهر الحق بلطفه ، ويعزّ الإسلام ، ويظفركم على وجوه قريش ويهلكهم على أيديكم بكلماته السابقة وعداته في قوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ). انهم لهم المنصورون ، وان جندنا لهم الغالبون وقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي يستأصلهم فلا يبقي منهم أحدا ، يعني كفار العرب (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي إنما يفعل ذلك ليظهر الاسلام (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي الكفر باهلاك أهله (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي الكافرون.

٩ ـ ١٤ ـ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي تستجيرون بربّكم يوم بدر من أعدائكم ، فلم يكن لكم مفزع إلّا التضرع إليه ، والدعاء له في كشف الضر عنكم ، والاستغاثة : طلب المعونة والغوث (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) والاستجابة : هي العطية على موافقة المسألة فمعناه : فأغاثكم وأجاب دعاءكم (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أي مرسل إليكم مددا

٢٣٢

لكم (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) متتابعين بعضهم في أثر بعض (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) : معناه : وما جعله الله الإمداد بالملائكة إلّا بشرى لكم بالنصر ، ولتسكن به قلوبكم وتزول الوسوسة عنها ، وإلّا فملك واحد كاف للتدمير عليهم كما فعل جبريل (ع) بقوم لوط فأهلكهم بريشة واحدة (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) معناه : انه لم يكن النصر من قبل الملائكة وإنما كان من قبل الله لأنهم عباده ينصر بهم من يشاء كما ينصر بغيرهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يمنع عن مراده (حَكِيمٌ) في أفعاله يجريها على ما تقتضيه الحكمة (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) قد ذكرنا تفسيره عند قوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) ، والنعاس : أول النوم قبل أن يثقل (أَمَنَةً) أي أمانا (مِنْهُ) من الله ، فإن الإنسان لا يأخذه النوم في حال الخوف ، فآمنهم الله تعالى بزوال الرعب عن قلوبهم كما يقال : الخوف مسهر ، والأمن منيم ، والأمنة : الدعة التي تنافي المخافة ، وأيضا فإنه قواهم بالاستراحة على القتال (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) وذلك لأن المسلمين قد سبقهم الكفار إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل ، وأصبحوا محدثين ومجنبين ، وأصابهم الظمأ ، ووسوس اليهم الشيطان فقال : إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء ، وأنتم تصلون مع الجنابة والحدث ، وتسوخ أقدامكم في الرمل ، فمطرهم الله حتى اغتسلوا به من الجنابة ، وتطهروا به من الحدث ، وتلبدت به أرضهم ، واوحلت أرض عدوهم (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي وسوسته بما مضى ذكره ، وقيل معناه : ويذهب عنكم وسوسته بقوله : ليس لكم بهؤلاء طاقة (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي وليشد على قلوبكم ، ومعناه : يشجع قلوبكم ، ويزيدكم قوة قلب ، وسكون نفس ، وثقة بالنصر (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) أي أقدامكم في الحرب بتلبد الرمل وقيل : بالصبر وقوة القلب (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) يعني الملائكة الذين أمدّ بهم المسلمين ، أي أني معكم بالمعونة والنصرة كما يقال : فلان مع فلان على فلان (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني بشروهم بالنصر ، وكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول : أبشروا فإن الله ناصركم (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي الخوف من أوليائي (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) يعني الرؤوس لأنها فوق الأعناق ، يريد كل هامة وجمجمة ، وجائز أن يكون هذا أمرا للمؤمنين ، وجائز أن يكون أمرا للملائكة وهو الظاهر (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) يعني الأطراف من اليدين والرجلين (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) معناه : ذلك العذاب لهم ، والأمر بضرب الأعناق والأطراف ، وتمكين المسلمين منهم ، بسبب أنهم خالفوا الله ورسوله. ثم أوعد المخالف فقال : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) في الدنيا بالإهلاك ، وفي الآخرة بالتخليد في النار (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) أي هذا الذي أعددت لكم من الأسر والقتل في الدنيا فذوقوه عاجلا (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) آجلا في المعاد (عَذابَ النَّارِ) قال الحسن : ذلكم حكم الله فذوقوه في الدنيا ، وإن لكم ولسائر الكافرين في الآخرة عذاب النار.

١٥ ـ ١٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قيل : إنه خطاب لأهل بدر وقيل : هو عام (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي متدانين لقتالكم معناه : إذا واقفتموهم للقتال (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) يعني فلا تجعلوا ظهوركم مما يليهم ، أي فلا تنهزموا (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) أي ومن يجعل ظهره إليهم يوم القتال ، ووجهه إلى جهة الانهزام ، وأراد بقوله : يومئذ : ذلك الوقت (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) أي إلا تاركا موقفا إلى موقف آخر أصلح

٢٣٣

للقتال من الأول (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي منحازا منضما إلى جماعة من المسلمين يريدون العود إلى القتال ليستعين بهم (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) رجع بغضب من الله (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي مرجعه إلى جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وأكثر المفسرين على أن هذا الوعيد خاص بيوم بدر خاصة ، ولم يكن لهم يومئذ أن ينحازوا لأنه لم يكن يومئذ في الأرض فئة للمسلمين (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) وإنما نفى القتل عمن هو فعله على الحقيقة ونسبه إلى نفسه وليس بفعل له من حيث كانت أفعاله تعالى كالسبب لهذا الفعل والمؤدي إليه من إقداره إيّاهم ، ومعونته لهم ، وتشجيع قلوبهم (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) خطاب للنبي ، ذكر جماعة من المفسرين كابن عباس وغيره : أن جبرائيل (ع) قال للنبي (ص) يوم بدر : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال رسول الله (ص) لما التقى الجمعان لعلي : اعطني قبضة من حصى الوادي فناوله كفا من حصى عليه تراب فرمى به في وجوه القوم وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلّا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي ولينعم به نعمة حسنة ، أي فعل ذلك انعاما على المؤمنين (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لدعائكم (عَلِيمٌ) بأفعالكم وضمائركم ، وإنما يقال للنعمة بلاء كما يقال للمضرة : بلاء ، لأنّ أصل البلاء ما يظهر به الأمر من الشكر والصبر ، فيبتلي سبحانه عباده : أي يختبرهم بالنعم ليظهر شكرهم عليها ، وبالمحن والشدائد ليظهر عندها الصبر الموجب للأجر.

١٨ ـ ٢١ ـ (ذلِكُمْ) إشارة إلى بلاء المؤمنين (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) بإلقاء الرعب في قلوبهم ، وتفريق كلمتهم (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) قيل : إنه خطاب للمشركين فإن أبا جهل قال يوم بدر حين التقى الفئتان اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث ، فأي الدينين كان أحب إليك ، وأرضى عندك فانصر أهله اليوم (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي تمتنعوا من الكفر وقتال الرسول والمؤمنين (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) معناه : وإن تعودوا أيها المشركون إلى قتال المسلمين نعد بأن ننصرهم عليكم ، ونأمرهم بقتالكم (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) أي ولن تدفع عنكم جماعتكم شيئا (وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر ، والحفظ ، يمكنهم منكم ، وينصرهم عليكم ، ثم أمر سبحانه بالطاعة التي هي سبب النصرة فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) خص المؤمنين بطاعة الله ورسوله وإن كانت واجبة على غيرهم أيضا لأنه لم يعتد بغيرهم لإعراضهم عما وجب عليهم (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي ولا تعرضوا عن رسول الله (ص) (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) دعاءه لكم ، وأمره ونهيه إياكم (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) في الكلام حذف ومعناه : ولا تكونوا كهم في قولهم هذا المنكر ، فحذف المنهي عنه لدلالة الحال عليه ، وفي ذلك غاية البلاغة ومعنى قولهم : سمعنا وهم لا يسمعون : أنهم سمعوه سماع عالم قابل له وليسوا كذلك.

٢٢ ـ ٢٣ ـ ثم ذمّ سبحانه الكفار فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) أي شرّ من دبّ على وجه الأرض من الحيوان (عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) يعني هؤلاء المشركين الذين لم ينتفعوا بما يسمعون من الحق ، ولا يتكلمون به ولا يعتقدونه ولا يقرّون به ، فكأنهم صمّ بكم لا يتفكرون أيضا فيما يسمعون ، فكأنهم لم ينتفعوا بعقولهم أيضا وصاروا كالدواب

٢٣٤

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) ولو علم الله فيهم قبولا للهدى ، وأقبالا على طلب الحق لأسمعهم الجواب عن كل ما سألوا (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي لأعرضوا ، وفي هذا دلالة على أن الله تعالى لا يمنع أحدا من المكلفين اللطف ، وإنما لا يلطف لمن يعلم أنه لا ينتفع به.

٢٤ ـ ٢٥ ـ ثم أمر سبحانه بطاعة الرسول (ص) فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) أي اجيبوا الله والرسول فيما يأمرانكم به ، فإجابة الله والرسول طاعتهما فيما يدعوان إليه (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) قيل فيه أقوال (أحدها) أن معناه : إذا دعاكم إلى الجهاد. قال القتيبي : هو الشهادة ، فإن الشهداء أحياء عند الله تعالى وقال الجبائي : أي دعاكم إلى إحياء أمركم ، واعزاز دينكم بجهاد عدوكم مع نصر الله إياكم ، وهو معنى قول الفراء (ثانيها) ان معناه : إذا دعاكم إلى الإيمان فإنه حياة القلب ، والكفر موته عن السدّي (وثالثها) إذا دعاكم إلى القرآن ، والعلم في الدين ، لأن الجهل موت ، والعلم حياة ، وفيه النجاة والعصمة عن قتادة (ورابعها) ان معناه : إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة ونعيم الأبد ، عن أبي مسلم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) أي يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت ، فلا يمكنه استدراك ما فات ، فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة ودعوا التسويف عن الجبائي قال : فيه حثّ على الطاعة قبل حلول المانع (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) معناه : واعلموا أنكم تحشرون : أي تجمعون للجزاء على أعمالكم يوم القيامة ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشر (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) حذّرهم الله تعالى من هذه الفتنة وأمرهم أن يتّقوها ، فكأنه قال : اتقوا لا تقربوها فتصيبنكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن لم يتق المعاصي.

٢٦ ـ ثم ذكر سبحانه حالتهم السالفة والضعف ، وانعامه عليهم بالنصر والتأييد والتكثير فقال : (وَاذْكُرُوا) معشر المهاجرين (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) في العدد ، وكانوا كذلك قبل الهجرة في ابتداء الإسلام (مُسْتَضْعَفُونَ) يطلب ضعفكم بتوهين أمركم (فِي الْأَرْضِ) أي في مكة (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أي يستلبكم المشركون من العرب إن خرجتم منها وقيل : إنه يعني بالناس كفار قريش (فَآواكُمْ) أي جعل لكم مأوى ترجعون إليه ، يعني المدينة دار الهجرة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) أي قوّاكم (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) يعني الغنائم أحلّها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا.

٢٧ ـ ٢٨ ـ ثم أمرهم الله سبحانه بترك الخيانة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أي لا تخونوا الله بترك فرائضه ، والرسول بترك سننه وشرائعه وقيل : إن من ترك شيئا من الدين وضيّعه فقد خان الله ورسوله (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) الفرائض لا تنقصوها عن ابن عباس ، وقيل : إنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم ، عن السدّي (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في الخيانة من الذم والعقاب (وَاعْلَمُوا) أي وتحقّقوا وأيقنوا (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي بلية عليكم ابتلاكم الله تعالى بها (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن أطاعه وخرج إلى الجهاد ولم يخن الله ورسوله ، وذلك خير من الأموال والأولاد بيّن سبحانه بهذه الآية أنه يختبر خلقه بالأموال والأولاد ليتبيّن الراضي بقسمه ممن لا يرضى به ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم.

٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها المؤمنون (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) أي ان تتقوا عقاب الله باتقاء معاصيه ، واداء فرائضه

٢٣٥

(يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي هداية ونورا في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ، عن ابن جريج معناه : يجعل لكم مخرجا في الدنيا والآخرة (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) التي عملتموها (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) على خلقه بما أنعم عليهم من أنواع النعم ، فإذا ابتدأهم بالفضل العظيم من غير استحقاق كرما منه وجودا ، فإنه لا يمنعهم ما استحقوه بطاعاتهم له. وقيل معناه : إذا ابتدأ نعيم الدنيا من غير استحقاق ، فعليه اتمام ذلك بنعيم الآخرة باستحقاق وغير استحقاق.

٣٠ ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي واذكر إذ يحتال الكفار في إبطال أمرك ، ويدبّرون في هلاكك وهم مشركو العرب منهم : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وأبو جهل بن هشام ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، وأمية بن خلف ، وغيرهم (لِيُثْبِتُوكَ) أي ليقيدوك ويثبتوك في الحبس (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) من مكة إلى طرف من أطراف الأرض (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) أي ويدبرون في أمرك ويدبر الله في أمرهم وقيل : ويحتالون في أمرك من حيث لا تشعر ، فأحل الله بهم ما أراد من عذابه من حيث لا يشعرون ، وقيل : يمكرون والله تعالى يجازيهم على مكرهم (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) لأنه لا يمكر إلّا ما هو حق وصواب ، وهو انزال المكروه بمن يستحق ، والعباد قد يمكرون مكرا هو ظلم وباطل.

٣١ ـ ٣٤ ـ ثم أخبر سبحانه عن عناد هؤلاء الكفار للحق فقال : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) من القرآن (قالُوا قَدْ سَمِعْنا) أي ادركنا بآذاننا ، فإن السماع ادراك الصوت بحاسة الأذن (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) إنما قالوا ذلك مع ظهور عجزهم عن الإتيان بسورة مثله بعد التحدي عداوة وعنادا ، وقد تحمل الإنسان شدة العداوة على أن يقول ما لا يعلم (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) معناه : ما هذه إلا أحاديث الأولين تتلوها علينا (وَإِذْ قالُوا) أي واذكر يا محمد إذا قالوا ، أي هؤلاء الكفار (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) الذي جاء به محمد (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) دون ما نحن عليه (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) كما امطرته على قوم لوط (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي شديد مؤلم ، والقائل لذلك النضر بن الحارث (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ذكر سبحانه سبب امهالهم ومعناه : وما كان الله يعذب أهل مكة بعذاب الاستئصال وأنت مقيم بين أظهرهم لفضلك وحرمتك يا محمد ، فإن الله تعالى بعثك رحمة للعالمين فلا يعذبهم إلّا بعد أن يفعلوا ما يستحقون به سلب النعمة بإخراجك عنهم (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) معناه : وما كان الله يعذبهم وفيهم بقية من المؤمنين بعد خروجك من مكة ، وذلك أن النبي (ص) لما خرج من مكة بقيت فيها بقية من المؤمنين لم يهاجروا بعذر ، وكانوا على عزم الهجرة ، فرفع الله العذاب عن مشركي مكة لحرمة استغفارهم ، فلما خرجوا أذن الله في فتح مكّة وروي عن أمير المؤمنين (ع) انه قال : كان في الأرض أمانان من عذاب الله وقد رفع أحدهما فدونكما الآخر فتمسكوا به ، وقرأ الآية (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) معناه : ولم لا يعذبهم الله ، وأي أمر يوجب ترك تعذيبه؟ (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي يمنعون عن المسجد الحرام أولياءه (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي وما كان المشركون أولياء المسجد الحرام (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) معناه : وما أولياء المسجد الحرام إلّا المتقون عن الحسن ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وقيل معناه : وما كانوا أولياء الله إن أولياء الله إلّا المتقون الذين يتركون معاصي الله ويجتنبونها ، والأول أحسن.

٣٥ ـ ثم وصف سبحانه صلاتهم فقال : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ

٢٣٦

عِنْدَ الْبَيْتِ) يعني هؤلاء المشركين الصادين عن المسجد الحرام (إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون ، وصلاتهم معناه : دعاؤهم ، أي يقيمون المكاء والتصدية مكان الدعاء والتسبيح (فَذُوقُوا الْعَذابَ) يعني عذاب السيف يوم بدر وقيل : عذاب الآخرة (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بتوحيد الله.

٣٦ ـ ٣٧ ـ ثم ذكر سبحانه انفاق المشركين أموالهم في معصية الله تعالى فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) في قتال الرسول والمؤمنين (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ليمنعوا بذلك الناس عن دين الله الذي أتى به محمد (ص) (فَسَيُنْفِقُونَها) معناه : فسيقع منهم الانفاق لها (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) معناه : ثم ينكشف لهم ويظهر من ذلك الانفاق ما يكون حسرة عليهم من حيث أنهم لا ينتفعون بذلك الانفاق لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يكون وبالا عليهم (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) في الحرب ، أي يغلبهم المؤمنون. وفي هذا دلالة على صحة نبوة النبي (ص) لأنه أخبر بالشيء قبل كونه فوجد على ما أخبر به (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي يجمعون إلى النار بعد تحسرهم في الدنيا ، ووقوع الظفر بهم وقتلهم (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) معناه : ليميز الله نفقة الكافرين من نفقة المؤمنين (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) ويجعل نفقة المشركين بعضها فوق بعض (فَيَرْكُمَهُ) أي فيجمعه (جَمِيعاً) في الآخرة (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) فيعاقبهم به كما قال : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) ، وقيل : ويجعل الخبيث بعضه على بعض في جهنم يضيقها عليهم ليركمه جميعا (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) قد خسروا أنفسهم لأنهم اشتروا بانفاق الأموال في المعصية عذاب الله في الآخرة.

٣٨ ـ ٤٠ ـ ثم أمر سبحانه نبيه (ص) بدعائهم إلى التوبة والإيمان فقال : (قُلْ) يا محمد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا) أي يتوبوا عما هم عليه من الشرك ويمتنعوا منه (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) أي ما قد مضى من ذنوبهم (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) معناه : وان يعودوا إلى القتال ، وأصروا على الكفر ، فقد مضت سنة الله في آبائكم ، وعادته في نصر المؤمنين وكبت أعداء الدين والأسر والاسترقاق (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) هذا خطاب للنبي (ص) والمؤمنين بأن يقاتلوا الكفار حتى لا تكون فتنة ، أي شرك (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) معناه : فإن رجعوا عن الكفر وانتهوا عنه فإن الله يجازيهم بأعمالهم مجازاة البصير بها : باطنها وظاهرها لا يخفى عليه منها شيء (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن دين الله وطاعته (فَاعْلَمُوا) أيها المؤمنون (أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أي ناصركم وسيدكم وحافظكم (نِعْمَ الْمَوْلى) أي نعم السيد والحافظ (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) هو ينصر المؤمنين ويعينهم على طاعته ، ولا يخذل من هو ناصره.

٤١ ـ ثم بيّن سبحانه حكم الغنيمة فقال مخاطبا للمسلمين : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي مما قلّ أو كثر (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) وهو ان يقسم على ستة أسهم : فسهم لله ، وسهم للرسول ، وهذان السهمان مع سهم ذي القربى للإمام القائم مقام الرسول (ص) ، وسهم ليتامى آل محمد ، وسهم لمساكينهم ، وسهم لأبناء سبيلهم لا يشركهم في ذلك غيرهم ، لأن الله سبحانه حرّم عليهم الصدقات لكونها أوساخ الناس ، وعوّضهم من ذلك. نعود للآية (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) افتتح الكلام بالله على جهة التيمن والتبرك لأن الأشياء كلها له عزوجل والمراد به مصروف إلى الجهات المقربة إلى الله تعالى (وَلِلرَّسُولِ) قالوا : كان للنبي (ص) سهم من خمسة أسهم يصرفه في مؤنته ، وما فضل من ذلك يصرفه إلى الكراع والسلاح والمصالح (وَلِذِي الْقُرْبى) لبني هاشم وبني المطلب (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) يختص باليتامى من بني هاشم ، ومساكينهم ، وابناء سبيلهم

٢٣٧

(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي وآمنتم بما انزلنا على محمد من القرآن ، وقيل : من النصر ، أي علمتم أن ظفركم على عدوكم كان بنا يوم الفرقان : يعني يوم بدر ، لأن الله تعالى فرّق فيه بين المسلمين والمشركين باعزاز هؤلاء ، وقمع أولئك. يوم التقى الجمعان. جمع المسلمين وهم ثلثمائة وبضعة عشر رجلا ، وجمع الكافرين وهم بين تسعمائة إلى الف من صناديد قريش ورؤسائهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قد مرّ تفسيره في سورة البقرة.

٤٢ ـ ٤٤ ـ (إِذْ أَنْتُمْ) أيها المسلمون (بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) قال ابن عباس : يريد : والله قدير على نصركم وأنتم أذلة ، إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة (وَهُمْ) يعني المشركين أصحاب النفير (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أي نزول بالشفير الاقصى من المدينة (وَالرَّكْبُ) يعني أبا سفيان وأصحابه وهم العير (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) معناه : لو تواعدتم أيها المسلمون للاجتماع في الموضع الذي اجتمعتم فيه ، ثم بلغكم كثرة عددهم مع قلة عددكم لتأخرتم فنقضتم الميعاد (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) معناه : ولكن قدّر الله تعالى التقاءكم ، وجمع بينكم وبينهم على غير ميعاد منكم ، ليقضي الله أمرا كان كائنا لا محالة ، وهو : اعزاز الدين وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، ومعنى ليقضي : ليتمّ أمرا كان في علمه مفعولا لا محالة من إظهار الإسلام واعلاء كلمته على عبدة الأصنام (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أي فعل ذلك ليموت من مات منهم بعد قيام الحجة عليه بما رأى من المعجزات الباهرة للنبي (ص) في حروبه وغيرها ، ويعيش من عاش منهم بعد قيام الحجة عليه (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بما في ضمائرهم فهو يجازيهم بحسب ما يكون منهم (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) العامل في إذ ما تقدّم وتقديره : أتاكم النصر إذ كنتم بشفير الوادي إذ يريكهم الله ، وقيل : العامل فيه محذوف وتقديره : واذكر يا محمد إذ يريكهم الله ، أي يريك الله يا محمد هؤلاء المشركين الذين قاتلوكم يوم بدر (فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) معناه : يريكهم الله في نومك قليلا لتخبر المؤمنين بذلك فيجترىء المؤمنون (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي سلّم المؤمنين عن الفشل والتنازع ، واختلاف الكلمة (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما في قلوبكم ، يعلم أنكم لو علمتم كثرة عدوكم لرغبتم عن القتال (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) قلّل الله المشركين في أعين المؤمنين ليشتدّ بذلك طمعهم فيهم ، وجرأتهم عليهم ، وقلّل المؤمنين في أعين المشركين لئلا يتأهبوا لقتالهم (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) وقد وردت الرواية عن ابن مسعود قال : قلت لرجل بجنبي : أتراهم سبعين رجلا؟ فقال : هم قريب من مائة (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) إنما كرّره سبحانه مع ذكره في الآية الأولى لتكرر الفائدة ، لأن المعنى في الآية الاولى : جمعكم من غير ميعاد ليقضي الله أمرا كان مفعولا من الإلتقاء على ذلك الصفة ، والمعنى هنا : انه قلّل كل فريق في عين صاحبه ليقضي أمرا كان مفعولا من اعزاز الدين بجهادكم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) مرّ معناه.

٤٥ ـ ٤٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) أي جماعة كافرة (فَاثْبُتُوا) لقتالهم ولا تنهزموا (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) مستعينين به على قتالهم ، ومتوقعين النصر من قبله عليهم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفلحوا وتنجحوا بالنصر والظفر بهم ، وبالثواب عند الله يوم القيامة (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)

٢٣٨

فيما يأمرانكم به (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) أي لا تتنازعوا في لقاء العدوّ ، ولا تختلفوا فيما بينكم فتجبنوا عن عدوكم : وتضعفوا عن قتالهم (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) معناه : تذهب صولتكم وقوتكم وقال الأخفش : دولتكم (وَاصْبِرُوا) على قتال الأعداء (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والمعونة (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً) أي بطرين ، يعني قريشا خرجوا من مكة ليحموا عيرهم ، فخرجوا معهم بالقيان والمعازف يشربون الخمور ، وتعزف عليهم القيان (وَرِئاءَ النَّاسِ) أنهم وردوا بدرا ليروا الناس أنهم لا يبالون بالمسلمين ، وفي قلوبهم من الرعب ما فيه ، فسمى الله سبحانه ذلك رئاء (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ويمنعون غيرهم عن دين الله (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها ، ولا يخفى عليه منها شيء.

٤٨ ـ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) واذكروا إذ زيّن الشيطان للمشركين أعمالهم : أي حسّنها في نفوسهم (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) أي لا يغلبكم أحد من الناس لكثرة عددكم وقوتكم (وَإِنِّي) مع ذلك (جارٌ لَكُمْ) أي ناصر لكم ودافع عنكم السوء (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي التقت الفرقتان (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي رجع القهقرى منهزما وراءه (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) أي رجعت عما كنت ضمت لكم من الأمان والسلامة ، لأني أرى الملائكة الذين جاءوا لنصر المسلمين (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي أخاف عذاب الله على أيدي من أراهم (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) ولا يطاق عقابه. واختلف في ظهور الشيطان يوم بدر كيف كان ، فقيل : إن قريشا لما اجمعت المسير ذكرت الذي بينها وبين كنانة من الحرب ، وكاد ذلك أن يثنيهم ، فجاء إبليس فتبدّى لهم في صورة سراقة بن مالك الكناني ، فقال لهم : اني مجير لكم من كنانة ؛ فلما رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء ، نكص على عقبيه قيل : انه لما التقوا كان إبليس فى صف المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام ، فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : يا سراقة أين؟ أتخذلنا على هذه الحال؟! فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس ، فلما قدموا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم ، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان.

٤٩ ـ ٥١ ـ (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) وهم الذين يبطنون الكفر ، ويظهرون الإيمان (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم الشاكون في الإسلام مع إظهارهم كلمة الإيمان (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي غرّ المسلمين دينهم حتى خرجوا مع قلتهم إلى قتال المشركين مع كثرتهم ، ولم يحسنوا النظر لأنفسهم حين اغترّوا بقول رسولهم ؛ فبيّن الله تعالى أنهم هم المغرورون بقوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فمعناه : ومن يسلم لأمر الله ، ويثق به ، ويرضى بفعله ، وإن قلّ عددهم ، فإن الله تعالى ينصرهم على أعدائهم ، وهو عزيز لا يغلب ، فكذلك لا يغلب من توكل عليه ، وهو حكيم يضع الأمور مواضعها على ما تقتضيه الحكمة (وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) أي يقبضون أرواحهم عند الموت (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) يضربون أجسادهم من قدامهم ومن خلفهم ، والمراد به قتلى بدر ؛ وروى مجاهد أن رجلا قال للنبي (ص) : إنى حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه فندر رأسه ، فقال : سبقك إليه الملائكة (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي ويقول الملائكة للكفار استخفافا بهم : ذوقوا عذاب الحريق بعد هذا في الآخرة وقيل : إنه كان مع الملائكة يوم بدر مقامع من حديد ، كلما ضربوا المشركين بها التهبت النار في جراحاتهم فذلك

٢٣٩

قوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ) أي ذلك العقاب لكم (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بما قدمتم وفعلتم ، بجنايتكم الكفر والمعاصي (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لا يظلم عباده في عقوبتهم من حيث انه إنما عاقبهم بجناياتهم على قدر استحقاقهم.

٥٢ ـ ٥٤ ـ ثم بيّن سبحانه أن حال هؤلاء الكفار كحال الذين من قبلهم فقال : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي عادة هؤلاء المشركين في الكفر بمحمد (ص) كعادة آل فرعون (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في الكفر بالرسل وما انزل اليهم وقيل معناه : عقوبة الله تعالى لهؤلاء الكفار كعقوبته لآل فرعون (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) كما كفر هؤلاء (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي فعاقبهم الله (بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) أي قادر لا يقدر أحد على منعه عن احلال العقاب بما يريد (شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن استحقّه (ذلِكَ) أي ذلك الأخذ والعقاب لهم (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) معناه : بأن الله لم يكن يزيل نعمة انعمها على قوم حتى يتغيروا هم عن أحوالهم المرضية إلى أحوال لا يجوز لهم أن يتغيروا إليها وهو أن يستبدلوا المعصية بالطاعة ، وكفران النعمة بشكرها ، وقد يسلب الله تعالى النعمة على وجه المصلحة لا على وجه العقاب إمتحانا لمصلحة يعلمها في ذلك (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بضمائرهم وبكل شيء (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كعادتهم وطريقتهم في التكذيب بآيات الله (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي بحججه وبيناته (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي استأصلناهم (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي كل هؤلاء المهلكين كانوا ظالمين لأنفسهم ، فلم نعاقب فريقا منهم إلّا عن استحقاق ، وإنما كرّر قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) لأنه اراد بالأول بيان حالهم في استحقاق عذاب الآخرة ، وبالثاني بيان استحقاقهم لعذاب الدنيا وقيل : إن في الأول تشبيه حالهم بحال اولئك في التكذيب ، وفي الثاني تشبيه حالهم بحالهم في الاستئصال.

٥٥ ـ ٥٦ ـ ثم ذمّ سبحانه الكفار فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) أي شرّ من يدبّ على وجه الأرض في معلوم الله ، أو في حكم الله (الَّذِينَ كَفَرُوا) واستمروا على كفرهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هذا اخبار عن قوم من المشركين أنهم لا يؤمنون أبدا فخرج المخبر على وفق الخبر فماتوا مشركين (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) معناه : عاهدت معهم قال مجاهد : أراد به يهود بن قريظة فإنهم كانوا قد عاهدوا النبي (ص) على أن لا يضروا به ، ولا يمالئوا عليه عدوا ، ثم مالأوا عليه الأحزاب يوم الخندق ، وأعانوهم عليه بالسلاح ، وعاهدوا مرة بعد أخرى فنقضوا فانتقم الله منهم (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) أي كلما عاهدتهم نقضوا العهد ولم يفوا به (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) نقض العهد وقيل : لا يتقون عذاب الله تعالى.

٥٧ ـ ٥٨ ـ ثم حكم سبحانه في هؤلاء الناقضين للعهد فقال لنبيه (ص) : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) معناه : فإما ما تصادفنهم في الحرب : أي إن ظفرت بهم وادركتهم (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي فنكّل بهم تنكيلا ، وأثّر فيهم تأثيرا يشرّد بهم من بعدهم ، ويطردهم ويمنعهم من نقض العهد بأن ينظروا فيهم فيعتبروا بهم فلا ينقضوا العهد (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لكي يتذكروا ويتعظوا وينزجروا عن مثل ذلك (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) معناه : وإن خفت يا محمد من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فيه ، لأن الخيانة إنما تكون بعد تقدم العهد ، ولم يظهر منهم نقض العهد بعد (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي فالق إليهم ما بينك وبينهم من العهد ، وأعلمهم

٢٤٠