الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

التي قارفنا فيها الذنوب (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) قيل ومن أين أخذها آباؤكم؟ قالوا : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم إذا ما فعلوا ما يعظم قبحه اعتذروا لنفوسهم إنا وجدنا آباءنا يفعلونها ، وان آباءهم فعلوا ذلك من قبل الله فردّ الله سبحانه عليهم قولهم بأن قال : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ثم أنكر عليهم من وجه آخر فقال : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) معناه : أتكذبون عليه.

٢٩ ـ ٣٠ ـ لما بيّن سبحانه أنه لا يأمر بالفحشاء ، وهو اسم جامع للقبائح والسيئات ، عقّبه ببيان ما يأمر به من القسط وهو اسم جامع لجميع الخيرات فقال : (قُلْ) يا محمد (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي بالعدل والإستقامة (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) معناه : أخلصوا وجوهكم لله تعالى في الطاعة فلا تشركوا به وثنا ولا غيره (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وهذا أمر بالدعاء والتضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص ، أي ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له الدين (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) معناه : وادعوه مخلصين فإنكم مبعوثون ومجازون وإن بعد ذلك في عقولكم ، فاعتبروا بالابتداء ، واعلموا أنه كما بدأكم في الخلق الأول فإنه يبعثكم فتعودون إليه في الخلق الثاني ، أي فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم (فَرِيقاً) أي جماعة (هَدى) أي حكم لهم بالإهتداء بقبولهم للهدى (وَفَرِيقاً حَقَ) أي وجب (عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) إذ لم يقبلوا الهدى أو حقّ عليهم العذاب والهلاك بكفرهم (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) بيّن سبحانه أنه لم يبدأهم بالعقوبة ولكن جازاهم على عصيانهم واتباعهم الشيطان ، وإنما اتخذوهم أولياء بطاعتهم لهم فيما دعوهم إليه (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) ومعناه : وهم مع ذلك يظنون أنهم في ذلك على هداية وحق.

٣١ ـ ٣٢ ـ (يا بَنِي آدَمَ) وهو خطاب لسائر المكلفين (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) معناه : خذوا ما تسترون به عوراتكم ، وإنما قال ذلك لأنهم كانوا يتعرون من ثيابهم للطواف على ما تقدم بيانه (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) صورته صورة الأمر والمراد الإباحة ، وهو عام في جميع المباحات (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تجاوزوا الحلال إلى الحرام (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي يبغضهم لأنه سبحانه قد ذمهم به ولما حثّ الله سبحانه على تناول الزينة عند كل مسجد ، وندب إليه الأكل والشرب ، ونهى عن الإسراف ، وكان قوم من العرب يحرمون كثيرا من هذا الجنس أنكر عزّ اسمه ذلك عليهم فقال : (قُلْ) يا محمد (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) أي من حرّم الثياب التي تتزين بها الناس مما أخرجها الله من الأرض لعباده؟ والطيبات من الرزق قيل : هي المستلذات من الرزق وقيل : هي المحللات (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال ابن عباس. يعني أن المؤمنين يشاركون المشركين في الطيبات في الدنيا ، فأكلوا من طيبات طعامهم ، ولبسوا من جياد ثيابهم ، ونكحوا من صالح نسائهم ، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي كما نميّز لكم الآيات ، وندلّكم بها على منافعكم وصلاح دينكم ، كذلك نفصّل الآيات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وفي هذه الآية دلالة على جواز لبس الثياب الفاخرة ، وأكل الأطعمة الطيبة من الحلال.

٣٣ ـ ٣٤ ـ ثم بين سبحانه المحرمات فقال : (قُلْ) يا محمد (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) أي جميع القبائح والكبائر (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ما علن منها وما خفي ثم فصّل

٢٠١

للبيان فقال : (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) فكأنه قال : حرّم ربي الفواحش التي منها الإثم ـ ومنها البغي ، ومنها الإشراك بالله وقيل : ان الفواحش هي الزنا والإثم : الخمر وأنشد الأخفش :

شربت الإثم حتى ظلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

والبغي : الظلم والفساد وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) تأكيد كقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ) أي وحرّم الشرك بالله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي لم يقم عليه حجة ، وكل اشراك بالله فهو بهذه الصفة ليس عليه حجة ولا برهان (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي وحرم القول على الله بغير علم. ثم بين تعالى ما فيه تسلية النبي (ص) في تأخير عذاب الكفار فقال : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي لكل جماعة وأهل عصر وقت لاستئصالهم ، ولم يقل لكل أحد لأن ذكر الأمة يقتضي تقارب أعمار أهل العصر ، ووجه آخر وهو أنه يقتضي إهلاكهم في الدنيا بعد إقامة الحجة عليهم بإتيان الرسل (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا يتأخرون (ساعَةً) عن ذلك الوقت (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي لا يتقدمون ساعة على ذلك الوقت.

٣٥ ـ ٣٦ ـ لما تقدّم ذكر النعم الدنيوية عقّبه بذكر النعم الدينية فقال : (يا بَنِي آدَمَ) هو خطاب يعمّ جميع المكلفين من بني آدم (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) أي ان يأتكم (رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي يعرضونها عليكم ، ويخبرونكم بها (فَمَنِ اتَّقى) إنكار الرسل والآيات (وَأَصْلَحَ) عمله وقيل : فمن اتقى المعاصي واجتنبها ، والتقوى اسم جامع لذلك وتقديره : فمن اتقى منكم واصلح (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدنيا (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي حججنا (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي عن قبولها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون فيها على وجه الدوام والتأبيد.

٣٧ ـ ثم ذكر سبحانه وعيد المكذبين فقال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم منه ، صورته صورة الإستفهام والمراد به الأخبار ، وإنما جاء بلفظ الإستفهام ليكون أبلغ (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) الدالة على توحيده ، ونبوة رسله (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي من العذاب إلّا انّه كنى عن العذاب بالكتاب لأن الكتاب ورد به كقوله : لقد حقت كلمة العذاب على الكافرين عن الحسن وأبي صالح ، وقيل معناه : ينالهم نصيبهم من العمر والرزق وما كتب لهم من الخير والشر ، فلا يقطع عنهم رزقهم بكفرهم ، عن الربيع وابن زيد وقيل : ينالهم جميع ما كتب لهم وعليهم (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) يعني الملائكة ، أي حتى إذا استوفوا أرزاقهم وجاءهم ملك الموت مع أعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي يقبضون أرواحهم (قالُوا) يعني الملائكة (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأوثان والأصنام ، والمراد بهذا السؤال توبيخهم ، أي هلا دفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب؟ (قالُوا) يعني الكفار (ضَلُّوا عَنَّا) أي ذهبوا عنا وافتقدناهم فلا يقدرون على الدفع عنا ، وبطلت عبادتنا إياهم (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي أقروا على نفوسهم بالكفر.

٣٨ ـ ٣٩ ـ (قالَ ادْخُلُوا) هذه حكاية قول الله تعالى للكفار يوم القيامة ، وأمره لهم بالدخول (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) أي في جملة أقوام وجماعات قد مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) على الكفر (فِي النَّارِ) أي ادخلوا مع أمم كافرة

٢٠٢

(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) من هذه الأمم النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) يعني التي سبقتها إلى النار ، وهي أختها في الدين لا في النسب وقيل : يلعن الاتباع القادة والرؤساء إذا حصلوا في العذاب بعد ما كانوا يتوادون في الدنيا يقولون : أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) أي تلاحقوا واجتمعوا (فِيها) أي في النار (جَمِيعاً) أي كان هذا حالهم حتى اجتمعوا فيها ، فلما اجتمعوا فيها (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) أي قالت أخراهم دخولا النار وهم الاتباع لأولاهم دخولا وهم القادة والرؤساء (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) أي شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها وقيل معناه : دعونا إلى الضلال وحملونا عليه ، ومنعونا عن اتباع الحق ، قال الصادق (ع): يعني أئمة الجور (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) أي فاعطهم عذابا مضاعفا ، قال ابن مسعود : أراد بالضعف هنا الحيات والأفاعي وقيل : أراد بأحد الضعفين : عذابهم على الكفر ، وبالآخر عذابهم على الإغواء (قالَ) الله تعالى (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي للتابع والمتبوع عذاب مضاعف لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعا (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أيها المضلّون والمضلّون ما لكل فريق منكم من العذاب (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) أي قال المتبوعون للتابعين (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي تفاوت في الكفر حتى تطلبوا من الله أن يزيد في عذابنا وينقص من عذابكم وقيل معناه : قالت الأمة السابقة للأمة المتأخرة ما كان لكم علينا من فضل من الرأي والعقل ، وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من الكفر باختياركم لا باختيارنا لكم.

٤٠ ـ ٤١ ـ ثم عاد الكلام إلى الوعيد فقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي تكبروا عن قبولها (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أي لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم كما تفتح لأرواح المؤمنين وقيل : لا تفتح لأعمالهم ولدعائهم وقيل : لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة لأن الجنة في السماء (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة والمعنى : لا يدخلون الجنة أبدا وهذا كما تقول العرب في التبعيد للشيء : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ، وحتى يبيض القار ، وتعليق الحكم بما لا يتوهم وجوده ، ولا يتصور حصوله ، تأكيد له وتحقيق لليأس من وجوده (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل ما جزينا هؤلاء نجزي سائر المجرمين المكذبين بآيات الله تعالى (لَهُمْ) أي لهؤلاء (مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) أي فراش ومضجع (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) مثل قوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) والمعنى : أن النار محيطة بهم من أعلاهم وأسفلهم (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) قال ابن عباس : يريد الذين أشركوا به واتخذوا من دونه إلها.

٤٢ ـ ٤٣ ـ لما تقدّم وعيد الكفار بالخلود في النيران اتبع ذلك بالوعد للمؤمنين بالخلود في الجنان فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا بآيات الله ، واعترفوا بها ، ولم يستكبروا عنها (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي ما أوجبه الله عليهم ، أو ندبهم إليه (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي لا نلزم نفسا إلّا قدر طاقتها وما دونها ، لأن الوسع دون الطاقة ، ومعناه : لا نكلف أحدا منهم من الطاعات إلا ما يقدر عليه وفي وسعه ، وان من استحق النار فمن نفسه أتي (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مقيمون (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي وأخرجنا ما في قلوبهم من حقد وحسد وعداوة في الجنة لا يحسد بعضهم بعضا وإن رآه أرفع درجة منه (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي يجري ماء الأنهار من تحت أبنيتهم وأشجارهم (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أي هدانا

٢٠٣

للعمل الذي استوجبنا به هذا الثواب بأن دلّنا عليه ، وعرّضنا له بتكليفه إيانا (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) لما يصيرنا إلى هذا النعيم المقيم ، والثواب العظيم (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) هذا اعتراف من أهل الجنة بنعمة الله سبحانه إليهم ، ومنته عليهم في دخول الجنة على سبيل الشكر والتلذذ بذلك لأنه لا تكليف هناك (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) وهذا إقرار منهم بأن ما جاءت به الرسل إليهم من جهة الله تعالى فهو حقّ لا شبهة في صحته (وَنُودُوا) أي ويناديهم مناد من جهة الله تعالى (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) أي هذه الجنة ، وإنما قال : تلكم لأنهم وعدوا بها في الدنيا فكأنه قيل لهم : هذه تلكم التي وعدتم بها (أُورِثْتُمُوها) أي أعطيتموها إرثا ، وصارت إليكم كما يصير الميراث لأهله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي توحدون الله وتقومون بفرائضه.

٤٤ ـ ٤٥ ـ ثم حكى سبحانه ما يجري بين أهل الجنة والنار بعد استقرارهم في الدارين فقال : (وَنادى) أي وسينادي (أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) أي أهل الجنة أهل النار ، وإنما ذكره بلفظ الماضي لتحقيق المعنى ، جعل ما سيكون كأنه قد كان لأنه كائن لا محالة وذلك أبلغ في الردع (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا) من الثواب في كتبه ، وعلى ألسنة رسله (حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ) من العقاب (حَقًّا) فهو سؤال توبيخ وشماتة يريد به سرور أهل الجنة ، وحسرة أهل النار (قالُوا نَعَمْ) أي قال أهل النار وجدنا ما وعدنا ربنا من العقاب حقا وصدقا (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) أي نادى مناد بينهم اسمع الفريقين (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي غضب الله وسخطه وأليم عقابه على الكافرين لأنه وصف الظالمين بقوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يعرضون عن الطريق الذي دلّ الله سبحانه على أنه يؤدي إلى الجنة (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) معناه : يطلبون لها العوج بالشبه التي يلتبسون بها ، ويوهمون أنه يقدح فيها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالدار الآخرة ، يعني القيامة والبعث والجزاء (كافِرُونَ) جاحدون.

٤٦ ـ ٤٧ ـ ثم ذكر سبحانه الفريقين في الجزاء فقال (وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي بين الفريقين أهل الجنة وأهل النار ستر ، وهو الأعراف والأعراف : (سور بين الجنة والنار) (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) المراد بالرجال هم آل محمد (ع) ، لا يدخل الجنة إلّا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه ، ويؤيده ما رواه عمر بن شيبة وغيره : أن عليا (ع) قسيم النار والجنة ، ورواه أيضا بإسناده عن النبي (ص) أنه قال : يا علي كأني بك يوم القيامة وبيدك عصا عوسج تسوق قوما إلى الجنة وآخرين إلى النار (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) يعني هؤلاء الرجال الذين هم على الأعراف يعرفون جميع الخلق بسيماهم ، يعرفون أهل الجنة بسيماء المطيعين ، وأهل النار بسيماء العصاة (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) يعني هؤلاء الذين على الأعراف ينادون بأصحاب الجنة (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وهذا تسليم وتهنئة وسرور بما وهب الله لهم (لَمْ يَدْخُلُوها) أي لم يدخلوا الجنة بعد (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أن يدخلوها (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) يعني أبصار الذين على الأعراف (تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) أي إلى جهنم فنظروا إليهم ، وإنما قال : (صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) لأن نظرهم نظر عداوة فلا ينظرون إليهم إلّا إذا صرفت وجوههم إليهم (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تجمعنا وإياهم في النار.

٤٨ ـ ٤٩ ـ ثم بيّن سبحانه خطاب أصحاب الأعراف لأصحاب النار فقال : (وَنادى) أي وسينادي (أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً) من أصحاب النار (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي

٢٠٤

بصفاتهم ، يدعونهم بأساميهم وكناهم ، ويسمّون رؤساء المشركين وقيل : بعلاماتهم التي جعلها الله تعالى لهم من سواد الوجوه ، وتشويه الخلق ، وزرقة العين عن الجبائي ، وقيل : بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا (قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) الأموال والعدد في الدنيا (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أي واستكباركم عن عبادة الله وعن قبول الحق ، وقد كنا نصحناكم فاشتغلتم بجمع المال ، وتكبرتم فلم تقبلوا منا ، فأين ذلك المال ، وأين ذلك التكبر؟ وقيل معناه : ما نفعتكم جماعتكم التي استندتم إليها ، وتجبّركم عن الإنقياد لأنبياء الله في الدنيا (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) أي حلفتم أنهم لا يصيبهم الله برحمة وخير ، ولا يدخلون الجنة ، كذبتم ، ثم يقولون لهؤلاء (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي لا خائفين ولا محزونين ، على أكمل سرور وأتم كرامة والمراد بهذا تقريع الذين زروا على ضعفاء المؤمنين حتى حلفوا أنهم لا خير لهم عند الله. وقد اضطربت أقوال المفسرين في القائل لهذا القول ، فقال الأكثرون : انه كلام أصحاب الأعراف ، وقيل : هو كلام الله تعالى ، وقيل كلام الملائكة والصحيح ما ذكرناه لأنه المروي عن الصادق عليه‌السلام.

٥٠ ـ ٥١ ـ ثم ذكر سبحانه كلام أهل النار وما أظهروه من الإفتقار بدلا مما كانوا عليه من الاستكبار فقال : (وَنادى) أي وسينادي (أَصْحابُ النَّارِ) وهم المخلدون في النار وفي عذابها (أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) أي صبوا علينا من الماء نسكن به العطش ، وندفع به حر النار (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي أعطاكم الله من الطعام (قالُوا) يعني أهل الجنة جوابا لهم (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) معناه : اتخذوا دينهم الذي كان يلزمهم التدين به ، والتجنب من محظوراته لعبا ولهوا ، فحرموا ما شاؤوا ، واستحلوا ما شاؤوا بشهواتهم (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي اغتروا بها وبطول البقاء فيها ، فكأن الدنيا غرتهم (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أن نتركهم في العذاب كما تركوا التأهب والعمل للقاء هذا اليوم وقيل معناه : نعاملهم معاملة المنسي في النار ، فلا نجيب لهم دعوة ، ولا نرحم لهم عبرة ، كما تركوا الإستدلال حتى نسوا العلم ، وتعرضوا للنسيان (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) تقديره : كنسيانهم لقاء يومهم هذا ، وكونهم جاحدين لآياتنا. واختلف في هذه الآية فقيل : ان الجميع كلام الله تعالى على غير وجه الحكاية عن أهل الجنة ، وقيل : انه من كلام أهل الجنة.

٥٢ ـ ٥٣ ـ لما ذكر حال الفريقين بيّن سبحانه أنه قد أتاهم الكتاب والحجة فقال : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) وهو القرآن (فَصَّلْناهُ) بيناه وفسّرناه (عَلى عِلْمٍ) أي ونحن عالمون به (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي دلالة ترشدهم إلى الحق ، وتنجيهم من الضلالة ، ونعمة على جميع المؤمنين لأنهم المنتفعون به (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي هل ينتظرون إلّا عاقبة الجزاء عليه ، وما يؤول مغبّة أمورهم إليه عن الحسن وقتادة ومجاهد والسدي ، وإنما أضاف إليهم مجازا لأنهم كانوا جاحدين لذلك ، غير متوقعين له ، وإنما كان ينتظر بهم المؤمنون لإيمانهم بذلك ، واعترافهم به وقيل : ان تأويله ما وعدوا به من البعث والنشور ، والحساب والعقاب (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي يوم يأتي عاقبة ما وعدوا به (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أي يقول الذين تركوا العمل به ترك الناسي له ، واعرضوا عنه (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) اعترفوا بأن ما جاءت به الرسل كان حقا ، والحق : ما شهد بصحته العقل (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) تمنوا أن يكون لهم شفعاء يشفعون لهم

٢٠٥

في إزالة العقاب (أَوْ نُرَدُّ) أي نرد إلى الدنيا (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) من الشرك والمعصية (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي أهلكوها بالعذاب (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) على الأصنام بقولهم : إنها آلهة ، وانها تشفع لنا.

٥٤ ـ لما ذكر سبحانه الكفار وعبادتهم غير الله سبحانه ، احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته ، ودلّهم بذلك على أنه لا معبود سواه ، فقال مخاطبا لجميع الخلق : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) أي ان سيدكم ومالككم ومنشئكم ومحدثكم هو الله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) أي أنشأ اعيانها ، وابدعها لا من شيء ولا على مثال ، ثم امسكها بلا عماد يدعمها (وَالْأَرْضَ) أي وأنشأ الأرض : أوجدها كذلك (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ، ولا شبهة أنه سبحانه يقدر على الخلق أمثال ذلك في لحظة ولكنه خلقهما في هذه المدة لمصلحة ، وقيل : انه سبحانه علّم خلقه التثبت والرفق في الأمور (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قيل معناه : ثم قصد إلى خلق العرش (يُغْشِي) أي يلبس (اللَّيْلَ النَّهارَ) يعني يأتي بأحدها بعد الآخر ، فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار ، ولم يقل : ويغشي النهار الليل لأن الكلام يدل عليه ، وقد ذكر في موضع آخر : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي يتلوه فيدركه سريعا ، يريد أنه يأتي في أثره كما يأتي الشيء في أثر الشيء طالبا له (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي مذللات جاريات في مجاريهن بتدبيره وصنعه ، خلقهن لمنافع العباد (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) إنما فصل بين الخلق والأمر لأن فائدتهما مختلفة ، لأنه يريد بالخلق : ان له الاختراع ، وبالأمر : ان له أن يأمر في خلقه بما أحبّ ، ويفعل بهم ما شاء (تَبارَكَ اللهُ) أي تعالى عن صفات المخلوقين والمحدثين (رَبُّ الْعالَمِينَ) أي خالقهم ومالكهم وسيدهم.

٥٥ ـ ٥٦ ـ ثم أمر سبحانه بعد ذكره دلائل التوحيد بدعائه على وجه الخشوع كافة عبيده فقال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي تخشعا وسرا عن الحسن قال : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا وقال : ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربّهم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) معناه : لا يحبّ المجاوزين الحد المرسوم في جميع العبادات والدعوات (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) ومعناه : النهي عن قتل المؤمنين وإضلالهم ، والعمل بالمعاصي في الأرض بعد أن أصلحها الله بالكتب والرسل وقيل : لا تفسدوها بعد اصلاحها بالعدل (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) معناه : ان انعام الله قريب إلى فاعلي الإحسان وقيل : إن رحمة الله أي ثوابه قريب من المطيعين. والإحسان : هو النفع الذي يستحق به الحمد ، والإساءة : هي الضرر الذي يستحق به الذم.

٥٧ ـ ٥٨ ـ لما اخبر الله سبحانه في الآية المتقدمة بأنه خلق السماوات والأرض وما فيهما من البدائع ، عطف على ذلك بقوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) تعداد النعمة على بريته ، أي يطلقها ويجريها منتشرة في الأرض ، أو محيية للأرض ، أو مبشرة بالغيث (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) أي حملت (سَحاباً ثِقالاً) بالماء (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إلى بلد ميت ، وموت البلد : تعفي مزارعه ، ودروس مشاربه لا نبات فيه ولا زرع (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي فانزلنا بالبلد الماء (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بهذا الماء المنزل ، أو بهذا البلد (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) يحتمل أن يكون من للتبعيض ،

٢٠٦

ويحتمل أن يكون لتبيين الجنس (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي كما أخرجنا الثمرات كذلك نخرج الموتى بأن نحييها بعد موتها (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتذكروا وتتفكروا وتعتبروا بأنّ من قدر على إنشاء الأشجار والثمار في البلد الذي لا ماء فيه ولا زرع بريح يرسلها فإنه يقدر على إحياء الأموات بأن يعيدها إلى ما كانت عليه ، ويخلق فيها الحياة والقدرة ثمّ بيّن سبحانه حال الأرض التي يأتيها المطر (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) معناه : والأرض الطيب ترابه (يَخْرُجُ نَباتُهُ) أي زروعه خروجا حسنا ناميا زاكيا من غير كدّ ولا عناء (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بأمر الله تعالى ، وإنما قال : (بِإِذْنِ رَبِّهِ) ليكون ادل على العظمة ونفوذ الإرادة من غير تعب ولا نصب (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) أي والأرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها إلّا شيئا قليلا لا ينتفع به (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي الدلالات المختلفة (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) معناه : كما بينا هذا المثل نبين الدلالات للشاكرين.

٥٩ ـ ٦٤ ـ لما بين الله سبحانه الأدلة على وحدانيته ، ذكر بعده حال من عاند وكذب رسله تسلية لنبينا محمد (ص) (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وتقديره : انا حملنا نوحا الرسالة إلى قومه ، وتحميل الرسالة : تكليفه القيام بها ، وهي منزلة جليلة شريفة يستحق الرسول بتقبله إياها ، وقيامه باعبائها من التعظيم والاجلال ما لا يستحق بغيره ، وهو نوح بن ملك بن متوشلخ ابن اخنوخ النبي وهو ادريس (ع) ولبث في قومه الف سنة إلّا خمسين عاما ، وكان في تلك الألف ثلاثة قرون عايشهم ، وعمّر فيهم ، وكان يدعوهم ليلا ونهارا فلا يزيدهم دعاؤه إلا فرارا وكان يضربه قومه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، ثم شكاهم إلى الله تعالى فغرقت الدنيا (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أخبر سبحانه أنه أمرهم بعبادة الله وحده لأنه لا إله لهم غيره ، ولا معبود لهم سواه ، ثم أوعدهم على مخالفته فقال (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إنما قال : أخاف ولم يقطع لأنه جوّز أن يؤمنوا : ثم ذكر سبحانه جوابهم فقال : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي الجماعة من قومه وقيل : الأشراف والرؤساء (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنا لنعلمك في ذهاب من الحق بين ظاهر لدعائك إيانا إلى ترك عبادة الأصنام (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي ليس بي عدول عن الحق ، ولا ذهاب عن الصواب (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الذي يملك كل شيء (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) أي اؤدّي اليكم ما حملني ربي من الرسالات (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) في تبليغ الرسالة على وجهها من غير تغيير ولا زيادة ولا نقصان (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) من صفات الله وتوحيده وعدله وحكمته (ما لا تَعْلَمُونَ) وقيل : اعلم من دين الله وقيل : اعلم من قدرته وسلطانه وشدّة عقابه ما لا تعلمونه (أَوَعَجِبْتُمْ) هذه همزة استفهام دخلت على واو العطف على جهة الانكار فبقيت الواو مفتوحة كما كانت (أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ) أي لأن جاءكم بيان وقيل : نبوة ورسالة (مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) أي على بشر مثلكم ليخوّفكم العقاب إن لم تؤمنوا (وَلِتَتَّقُوا) أي ولتتقوا الشرك والمعاصي (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي ولكي ترحموا (فَكَذَّبُوهُ) أي فكذبوا نوحا فيما دعاهم إليه (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي فخلصناه والذين كانوا معه في السفينة وهم المؤمنون (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي وأهلكنا الذين كذّبوا بدلائلنا بالماء (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) عن الحق ، أي ذاهبين عنه جاهلين به.

قصّة نوح عليه ‌السلام

لما بعث الله عزوجل نوحا دعا قومه إلى الله حتى انقرضت ثلاثة قرون منهم ، كل قرن ثلثمائة سنة يدعوهم سرا وجهرا فلا يزدادون إلّا طغيانا ، ولا يأتي منهم قرن إلّا كان اعتى على الله

٢٠٧

من الذين قبلهم ، وكان الرجل منهم يأتي بابنه وهو صغير فيقيمه على رأس نوح فيقول : يا بنيّ ان بقيت بعدي فلا تطيعن هذا المجنون ، وكانوا يثورون إلى نوح فيضربونه حتى تسيل مسامعه دما ، وحتى لا يعقل شيئا ما يصنع به ، فيحمل فيرمى به في بيت أو على باب داره مغشيا عليه ، فاوحى الله تعالى إليه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ) ، (إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) ، فعندها اقبل على الدعاء عليهم ولم يكن دعا عليهم قبل ذلك ، فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ) إلى آخر السورة ، فاعقم الله تعالى اصلاب الرجال ، وارحام النساء ولبثوا أربعين سنة لا يولد لهم ولد ، وقحطوا في تلك الأربعين سنة حتى هلكت أموالهم ، واصابهم ، الجهد والبلاء ، ثم قال لهم نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) ، الآيات ، فاعذر إليهم فلم يزدادوا إلا كفرا ، حتى غرّقهم الله وآلهتهم التي كانوا يعبدونها.

٦٥ ـ ٧٢ ـ ثم عطف سبحانه على قصة نوح هود فقال : (وَإِلى عادٍ) وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح (أَخاهُمْ) يعني في النسب لا في الدين (هُوداً) وهو هود بن شالخ بن ارفحشد بن سام بن نوح (ع) ، وإنما قال : أخاهم لأنه ابلغ في الحجة عليهم إذا اختار للرسالة إليهم من هو من قبيلتهم ليكونوا إليه اسكن ، وبه آنس ، وعنه أفهم (قالَ) هود (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) قد مرّ تفسيره (أَفَلا تَتَّقُونَ) استفهام يراد به التقرير (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) قد مرّ تفسيره (إِنَّا لَنَراكَ) يا هود (فِي سَفاهَةٍ) في جهالة ومعناه : نراك سفيها (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي كذّبوه ظانين لا متيقنين (قالَ) هود (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) أي لم يحملني على هذا الإخبار السفاهة (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذا تعليم من الله تعالى بأن لا يقابل السفهاء بالكلام القبيح ، ولكن يقتصر الإنسان على نفي ما أضيف اليه عن النفس (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) إنما قال رسالات هنا وفيما تقدم بلفظ الجمع لأن الرسالة متضمنة لأشياء كثيرة من الأمر والنهي والترغيب والترهيب والوعد والوعيد وغير ذلك ، فأتى بلفظ يدلّ عليها (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ) فيما ادعوكم إليه من طاعة الله وتوحيده (أَمِينٌ) أي ثقة مأمون في تأدية الرسالة فلا أكذب ولا اغير (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي لا عجب في أن جاءكم نبوة وقيل : معجزة وبيان (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) في النسب ، نشأ بينكم (لِيُنْذِرَكُمْ) ليخوّفكم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) معناه : واذكروا نعمة الله عليكم بأن جعلكم سكان الأرض من بعد قوم نوح وهلاكهم بالعصيان (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي طولا وقوّة قال أبو جعفر الباقر (ع): كانوا كأنهم النخل الطوال ، وكان الرجل منهم ينحو الجبل بيديه فيهدم منه قطعة (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعم الله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفوزوا بنعيم الدنيا والآخرة (قالُوا أَجِئْتَنا) يا هود (لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ) عبادة (ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أنك رسول الله إلينا ، وفي نزول العذاب بنا لو لم نترك عبادة الأصنام (قالَ) هود لقومه جوابا عما قالوه (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) أي وجب عليكم وحلّ بكم لا محالة فهو كالواقع (مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ) أي عذاب (وَغَضَبٌ) والغضب من الله ارادة العذاب بمستحقيه (أَتُجادِلُونَنِي) أي اتناظرونني وتخاصمونني (فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي في أصنام صنعتموها أنتم وآباؤكم ، واخترعتم لها اسماء سمّيتموها آلهة (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي حجة وبرهان وبينة ، وعليكم البيّنة ، بما ادعيتم وسميتم وليس عليّ أن آتيكم بالبيّنة على ما تعبدون من دون الله ، بل ذلك عليكم ، وعليّ أن آتيكم بسلطان مبين ، إن الله تعالى هو المعبود ، ولا معبود سواه ، وإني رسوله (فَانْتَظِرُوا) عذاب الله فإنه نازل بكم (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ

٢٠٨

الْمُنْتَظِرِينَ) لنزوله بكم (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي فخلّصنا هودا والذين كانوا آمنوا معه من العذاب بإخراجنا إياهم قبل انزال العذاب بهم (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي واستأصلنا الذين كذّبوا بحججنا بعذاب الاستئصال فلم يبق لهم نسل ولا ذرية (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) بالله ورسوله. وإنما قال ذلك ليبيّن أنه كان المعلوم من حالهم أنه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا ، كما قال في موضع آخر : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا). وفي هذه الآية دلالة على أن قوم هود استؤصلوا فلا عقب لهم.

٧٣ ـ ٧٩ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم قصة صالح فقال (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) أي وارسلنا إلى ثمود ، وثمود هي القبيلة ، وهو ثمود بن عاثر بن ارم بن سام بن نوح ، وصالح من ولد ثمود (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فتعبدوه (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي دلالة معجزة شاهدة على صدقي (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أشار إلى ناقة بعينها أضافها إلى الله سبحانه تفضيلا وتخصيصا نحو : بيت الله وقيل : إنما اضافها إليه لأنها خلقها بلا واسطة ، وجعلها دلالة على توحيده. وصدق رسوله ، لأنها خرجت من صخرة ملساء تمخضت بها كما تتمخض المرأة ، ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها ، وكان لها شرب يوم تشرب فيه ماء الوادي كله وتسقيهم اللبن بدله ، ولهم شرب يوم يخصّهم لا تقرب فيه ماءهم عن السدّي وابن اسحاق وجماعة ، وقيل : إنما أضافها إلى الله لأنه لم يكن لها مالك سواه تعالى عن الجبائي. قال الحسن : كانت ناقة من النوق ، وكان وجه الاعجاز فيها أنها كانت تشرب ماء الوادي كله في يوم على ما شرحناه (فَذَرُوها) أي اتركوها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) أي بعقر أو نحر (فَيَأْخُذَكُمْ) أي ينالكم (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) أي واذكروا نعم الله تعالى عليكم في أن أورثكم الأرض ، ومكنّكم فيها من بعد عاد (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي انزلكم فيها وجعل لكم فيها مساكن وبيوتا تأوون إليها (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) والسهل خلاف الجبل وهو ما ليس فيه مشقة على النفس ، أي تبنون في سهولها الدور والقصور ، وإنما اتّخذوها في السهول ليصيّفوا فيها (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) كانوا يبنون القصور بكل موضع ، وينحتون من الجبال بيوتا يسكنونها في الشتاء لتكون مساكنهم في الشتاء أحصن وأدفأ ، ويروى أنهم لطول أعمارهم يحتاجون إلى أن ينحتوا بيوتا في الجبال لأن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعم الله عليكم بما أعطاكم من القوة وطول العمر ، والتمكن في الأرض (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تضطربوا بالفساد في الأرض ولا تبالغوا فيه (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي تعظموا ورفعوا أنفسهم فوق مقدارها بجحود الحق للأنفة من اتباع الرسول الداعي إليه (مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم صالح (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي للذين استضعفوهم من المؤمنين (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) إنما ذكره لئلا يظن بالمستضعفين أنهم كانوا غير مؤمنين ، لأنه قد يكون المستضعف مستضعفا في دينه ولا يكون مؤمنا ، فأزال الله سبحانه هذه الشبهة (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) أي هل تعلمون أن الله سبحانه ارسل صالحا (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي مصدّقون (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) لهم حين سمعوا منهم الإيمان والإعتراف بنبوة صالح (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ) أي صدّقتم به (كافِرُونَ) جاحدون ، ثم أخبر سبحانه عما فعله المستكبرن بقوله (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أي فنحروا الناقة (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي تجاوزوا الحدّ في الفساد والمعصية (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على قتل الناقة فقد قتلناها

٢٠٩

(إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ثم أخبر سبحانه بما حلّ بهم من العذاب بقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الصيحة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي في بلدهم (جاثِمِينَ) أي صرعى ميّتين ساقطين لا حركة بهم (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي أدّيت النصح في تبليغ الرسالة (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أي ولكنّكم لا تحبّون من ينصح لكم لأن من أحب إنسانا قبل منه.

٨٠ ـ ٨٤ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال : (وَلُوطاً) أي وأرسلنا لوطا ، وهو لوط بن هاران بن تارخ بن أخي إبراهيم الخليل (ع) ، وكانت سارة امرأة إبراهيم أخت لوط (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي السيئة العظيمة القبح ، يعني إتيان الرجال في ادبارهم (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) قيل : ما نزا ذكر على ذكر قبل قوم لوط ، عن عمرو بن دينار. وقال الحسن : وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء ثم بيّن تلك الفاحشة فقال : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) معناه : أتأتون الرجال في أدبارهم اشتهاء منكم؟ أي تشتهونهم فتأتونهم وتتركون اتيان النساء اللاتي أباحها الله لكم (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي متجاوزون عن الحد في الظلم والفساد ، ومستوفون جميع المعايب (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي لم يجيبوه عما قال (إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) قابلوا النصح والوعظ بالسفاهة فقالوا : اخرجوا لوطا ومن آمن به من بلدتكم ، والمراد بالقرية البلدة (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي يتحرجون عن ادبار الرجال فعابوهم بما يجب أن يمدحوا به وقيل معناه : يتنزهون عن أفعالكم وطرائقكم (فَأَنْجَيْناهُ) أي فخلصنا لوطا من الهلاك (وَأَهْلَهُ) المختصين به ، وأهل الرجل من يختص به اختصاص القرابة (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) معناه : كانت من الباقين في عذاب الله (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي ارسلنا عليهم الحجارة كالمطر (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) معناه : تفكّر وانظر بعين العقل كيف كان مآل أمر المقترفين للسيئات ، والمنقطعين إليها ، وعاقبة فعلهم من عذاب الدنيا بالاستئصال قبل عذاب الآخرة بالخلود في النار؟

قصة لوط

عن أبي جعفر عليه‌السلام : ان لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة ، وكان نازلا فيهم ولم يكن منهم ، يدعوهم إلى الله ، وينهاهم عن الفواحش ، ويحثهم على الطاعة ، فلم يجيبوه ولم يطيعوه ، وكانوا لا يتطهرون من الجنابة ، بخلاء اشحاء على الطعام ، فأعقبهم البخل الداء الذي لا دواء له في فروجهم ، وذلك أنهم كانوا على طريق السيارة إلى الشام ومصر ، وكان ينزل بهم الضيفان ، فدعاهم البخل إلى أن كانوا إذا نزل بهم الضيف فضحوه ، وإنما فعلوا ذلك لتنكل النازلة عليهم من غير شهوة بهم إلى ذلك ، فاوردهم البخل هذا الداء حتى صاروا يطلبونه من الرجال ، ويعطون عليه الجعل ، وكان لوط سخيا كريما يقري الضيف إذا نزل به ، فنهوه عن ذلك ، فكان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه ، فلما عتوا بعث الله إليهم جبرئيل في نفر من الملائكة ، فوقفوا على لوط وهو يسقي الزرع فقال : من أنتم؟ قالوا : نحن ابناء السبيل ، أضفنا الليلة ، فقال لوط : إن أهل هذه القرية قوم سوء ينكحون الرجال في أدبارهم ، ويأخذون أموالهم ، قالوا : قد أبطأنا فأضفنا فجاء لوط إلى أهله وكانت امرأته كافرة فقال : قد أتاني أضياف في هذه الليلة فاكتمي أمرهم ، قالت : افعل ، وكانت

٢١٠

العلامة بينها وبين قومها أنه إذا كان عند لوط أضياف بالنهار تدخن من فوق السطح ، وإذا كان بالليل توقد النار ، فلما دخل جبرئيل والملائكة معه بيت لوط وثبت امرأته على السطح فأوقدت نارا ، فأقبل القوم من كل ناحية يهرعون إليه ودار بينهم ما قصّة الله تعالى في مواضع من كتابه ، فقال جبرائيل عليه‌السلام : يا لوط اخرج من بينهم أنت وأهلك إلا أمرأتك ، فخرجوا من القرية ، فلما طلع الفجر ضرب جبرائيل بجناحه في طرف القرية فقلعها من تخوم الأرضين السابعة ثم رفعها في الهواء ثم قلبها عليهم ، وهو قول الله عزوجل : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها).

٨٥ ـ ٨٧ ـ (وَإِلى مَدْيَنَ) أي وأرسلنا إلى مدين (أَخاهُمْ شُعَيْباً) وهو شعيب بن ميكيل بن يشخب بن مدين بن ابراهيم ، وكان يقال له : خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، وهم أصحاب الأيكة ، وقال قتادة : أرسل شعيب مرتين : إلى مدين مرة ، وإلى أصحاب الأيكة مرة (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قد مر تفسيره (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي اتموا ما تكيلونه على الناس بالمكيال ، وما تزنونه عليهم بالميزان ومعناه : ادّوا حقوق الناس على التمام في المعاملات (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي واستحلال المحارم بعد أن أصلحها الله بالأمر والنهي ، وبعثة الأنبياء ، وتعريف الخلق مصالحهم (ذلِكُمْ) الذي أمرتكم به (خَيْرٌ لَكُمْ) وأعود عليكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مصدقين بالله (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) كانوا يقعدون على طريق من قصد شعيبا للإيمان به فيخوّفونه بالقتل (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) أي تمنعون عن دين الله من أراد أن يؤمن به من الناس (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) الهاء راجعة إلى السبيل ، أي تبغون السبيل عوجا عن الحق ، وهو أن تقولوا : هذا كذب ، وهذا باطل ، وما أشبه ذلك وقيل : تريدون الاعوجاج والعدول عن القصد (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) أي كثر عددكم (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) يعني فكروا في عواقب أمر عاد وثمود ولوط وانزال العقاب بهم ، واستئصال شأفتهم ، وما حلّ بهم من البوار (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) أي صدقوني في رسالتي ، وقبلوا قولي (وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) لم يصدقوني (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) خاطب الطائفتين ومعناه : لا يغرنكم من تفرق عني فإن جميل العاقبة لي ، وسيجزي الله كل واحد من الفريقين بما يستحق على عمله في الدنيا أو الآخرة (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه لا يجوز عليه الجور ولا المحاباة في الحكم ، وهذا وعيد لهم.

٨٨ ـ ٨٩ ـ ثم أخبر سبحانه عمّا دار بينه وبين قومه فقال : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي رفعوا أنفسهم فوق مقدارها (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) أي نخرجنك وأتباعك من المؤمنين بك من بلدتنا التي هي وطنك ومستقرّك (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أو لترجعنّ إلى ملتنا التي كنا عليها. والمعنى : انّا لا نمكنك من المقام في بلدنا وأنت على غير ملّتنا (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) : المعنى : انكم لا تقدرون على ردّنا إلى دينكم على كره منا (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) أي إن عدنا في ملتكم ، بأن نحلّ ما تحلّونه ، ونحرّم ما تحرّمونه ، وننسبه إلى الله تعالى بعد إذ نجانا الله تعالى منها بأن أقام الدليل والحجة على بطلانها ، وأوضح الحق لنا ، فقد اختلقنا على الله كذبا فيما دعوناكم إليه (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) المراد : إلّا

٢١١

أن يشاء الله أن يمكّنكم من إكراهنا فنعود إلى اظهارها مكرهين (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) انتصب علما على التمييز ، وتقديره : وسع علم ربنا كل شيء فنقل الفعل إلى نفسه لما فيه من جزالة اللفظ وفخامة المعنى ، وقيل في وجه اتصاله بما قبله : ان الملة إنما يتعبّد بها على حسب ما في المعلوم من المصلحة ، فالمعنى : أنه سبحانه أحاط علمه بكل شيء فهو اعلم بما هو أصلح لنا فيتعبدنا به ، وقيل : ان المراد به أنه عالم بما يكون منا من عود أو ترك (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) في الانتصار منكم ، وفي كل أمورنا (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) هذا سؤال من شعيب ، ورغبة منه إلى الله في أن يحكم بينه وبين قومه بالحق على سبيل الانقطاع إليه سبحانه وإن كان من المعلوم أن الله سيفعله لا محالة وقيل معناه : اكشف بيننا وبين قومنا (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) أي خير الحاكمين والفاصلين.

٩٠ ـ ٩٣ ـ ثم حكى الله سبحانه ما قالت الجماعة الكافرة الجاحدة بآيات الله فقال : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم شعيب للباقين منهم (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) في دينه ، وتركتم دينكم انقيادا لأمره ونهيه (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) والخسران : ذهاب رأس المال ، فكأنهم قالوا : إن اتبعتموه كنتم بمنزلة من ذهب رأس ماله وقيل : خاسرون مغبونون (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي فأخذ قوم شعيب الزلزلة ، وقيل : ارسل الله عليهم حرّا شديدا فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت ، فدخل عليهم البيوت ، فلم ينفعهم ظل ولا ماء ، وانضجهم الحرّ ، فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها ، وظل السحابة ، فتنادوا : عليكم بها ، فخرجوا إلى البريّة ، فلما اجتمعوا تحت السحابة الهبها الله عليهم نارا ، ورجفت بهم الأرض ، فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا ، وهو عذاب يوم الظلة ، عن ابن عباس وغيره من المفسرين ، وقيل : بعث الله عليهم صيحة واحدة فماتوا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقيل : إنه كان لشعيب قومان ، قوم هلكوا بالرجفة ، وقوم هم أصحاب الظلة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي منازلهم (جاثِمِينَ) أي ميتين ملقين على وجوههم (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي كأنهم لم يقيموا بها قطّ ، لأن المهلك يصير كأن لم يكن (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) عاد اللفظ تأكيدا وتغليظا (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) مرّ معناه ، بيّن سبحانه أنهم الخاسرون دون من آمن به (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) شعيب أي أعرض عنهم لما رأى اقبال العذاب عليهم اعراض الآيس منهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) فيما أمرني فلم تؤمنوا (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) فلم تقبلوا ومعناه : أن ما نزل بكم من البلاء وإن كان عظيما فقد استوجبتم ذلك بجنايتكم على أنفسكم (فَكَيْفَ آسى) أي فكيف أحزن؟ (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) حلّ العذاب بهم مع استحقاقهم له ، وهذا تسل من شعيب بما يذكر من حاله معهم في مناصحته لهم ، وتأديته رسالة ربه إليهم ، وأنه لا ينبغي أن يأسى عليهم مع تمردهم في كفرهم ، وشدة عتوهم.

٩٤ ـ ٩٥ ـ ثم ذكر سبحانه بعد ما اقتصّ من قصص الأنبياء ، وتكذيب أممهم إياهم ، وما نزل بهم من العذاب تسلية لنبينا (ص) فقال (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) من القرى التي اهلكناها بالعذاب (مِنْ نَبِيٍ) وهو من يؤدّي عنا بلا واسطة من البشر ، فلم يؤمنوا به بعد قيام الحجة عليهم (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) يعني أهل تلك القرية (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي ليتنبّهوا ويعلموا أنه مقدمة العذاب ، ويتضرّعوا أو يتوبوا عن شركهم ومخالفتهم ، ويعني بالبأساء : ما نالهم من

٢١٢

الشدة في أنفسهم ، وبالضرّاء : ما نالهم في أموالهم (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي رفعنا السيئة ، ووضعنا الحسنة مكانها ، والسيئة : الشدة ، والحسنة : الرخاء. وسميت سيئة لأنها تسوء صاحبها (حَتَّى عَفَوْا) أي كثروا وقيل : اعرضوا عن الشكر (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي قال بعضهم لبعض : هكذا عادة الدهر فكونوا على ما انتم عليه كما كان آباؤكم كذلك ، فلم ينتقلوا عن حالهم فتنقلوا (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة عبرة لمن بعدهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لم يعلموا أنّ العذاب نازل بهم إلّا بعد حلوله ، وحقيقة المعنى في الآية : أنه سبحانه يدبّر خلقه الذين يعصونه بأن يأخذهم تارة بالشدة ، وتارة بالرخاء ، فإذا افسدوا على الأمرين جميعا أخذهم فجأة ليكون ذلك أعظم في الحسرة ، وأبلغ في العقوبة.

٩٦ ـ ٩٩ ـ ثمّ بيّن سبحانه أن كل من أهلكه من الأمم المتقدم ذكرهم إنما أتوا ذلك من قبل نفوسهم فقال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) التي أهلكناها بسبب جحودهم وعنادهم (آمَنُوا) وصدّقوا رسلنا (وَاتَّقَوْا) الشرك والمعاصي (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ) أي خيرات نامية (مِنَ السَّماءِ) بإنزال المطر (وَ) من (الْأَرْضِ) بإخراج النبات والثمار كما وعد نوح بذلك أمته فقال : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) الآيات (وَلكِنْ كَذَّبُوا) الرسل (فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من المعاصي والمخالفة وتكذيب الرسل (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) المكذبون لك يا محمد (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أي عذابنا (بَياتاً) ليلا (وَهُمْ نائِمُونَ) في فرشهم ومنازلهم كما أتى المكذبين قبلهم (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) أي عذابنا نهارا عند ارتفاع الشمس (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أي وهم في غير ما ينفعهم ، أو يعود عليهم بنفع ، فإنّ من اشتغل بدنياه ، واعرض عن آخرته فهو كاللاعب (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) أي أفبعد هذا كله أمنوا عذاب الله أن يأتيهم من حيث لا يشعرون ، وسمي العذاب مكرا لنزوله بهم من حيث لا يعلمون ، كما أن المكر ينزل بالممكور به من جهة الماكرمن حيث لا يعلمه وقيل : إن مكر الله استدراجه إياهم بالصحة والسلامة ، وطول العمر ، وتظاهر النعمة (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) لا يأمن عقاب الله جهلا بحكمته إلّا الخاسرون ، ومعنى الآية : الإبانة عما يجب أن يكون عليه المكلف من الخوف لعقاب الله تعالى ليسارع إلى طاعته.

١٠٠ ـ ١٠٢ ـ ثم أنكر سبحانه عليهم تركهم الاعتبار بمن تقدمهم من الأمم فقال : (أَوَلَمْ يَهْدِ) وهو استفهام يراد به التقرير ، أي أو لم يبيّن الله؟ وقيل معناه : أو لم يهد ما تلونا من أنباء القرى (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) معناه : للذين خلفوا في الأرض من بعد أهلها الذين اهلكهم الله بتكذيبهم للرسل (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) يعني : أو لم نبيّن انا لو شئنا اهلكناهم بعقاب ذنوبهم كما اهلكنا الأمم الماضية قبلهم؟ (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) قد ذكرنا معنى الطبع والختم في أوائل سورة البقرة (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) الوعظ ولا يقبلونه. ثم اخبر سبحانه عن أهل القرى التي ذكرها ، وقصّ خبرها فقال : (تِلْكَ الْقُرى) والمخاطبة للنبي (ص) (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) لتتفكر فيها ، وتخبر قومك بها ليتذكروا ويعتبروا ، ويحذروا عن الإصرار على مثل حال أولئك المغترين بطول الإمهال في النعم السابغة ، والمنن المتظاهرة (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الدلالات والحجج (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) معناه : فما اهلكناهم إلّا وقد كان في معلومنا أنهم لا يؤمنون أبدا (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) قيل : إن الله سبحانه شبّه الكفر بالصدأ لأنه

٢١٣

يذهب عن القلوب بحلاوة الإيمان ، ونور الإسلام ، كما يذهب الصدأ بنور السيف ، وصفاء المرآة ، ولما صاروا عند أمر الله لهم بالإيمان إلى الكفر جاز أن يضيف الله سبحانه الطبع إلى نفسه كما قال : زادتهم رجسا إلى رجسهم ، وإن كانت السورة لم تزدهم ذلك ، وقيل معناه : كما دل الله لكم بالإخبار على انهم لا يؤمنون (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) أي ما وجدنا لأكثر المهلكين (مِنْ عَهْدٍ) أي من وفاء بعهد كما يقال : فلان لا عهد له : أي لا وفاء له بالعهد ، وليس بحافظ للعهد ، ويجوز أن يكون المراد بهذا العهد ما أودع الله العقول من وجوب شكر المنعم ، وطاعة المالك المحسن ، واجتناب القبائح (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) اللام وإن للتأكيد والمعنى : وإنا وجدنا أكثرهم ناقضين للعهد ، مخلفين للوعد.

١٠٣ ـ ١٠٨ ـ ثم عطف سبحانه بقصة موسى (ع) على ما تقدّم من قصص الأنبياء (ع) فقال : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد الرسل الذين ذكرناهم ، أو من بعد الأمم الذين ذكرنا اهلاكهم (مُوسى بِآياتِنا) أي بدلائلنا وحججنا (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي أشراف قومه ، وذوي الأمر منهم (فَظَلَمُوا بِها) أي ظلموا أنفسهم بجحدها وقيل : فظلموا بوضعها غير مواضعها ، فجعلوا بدل الإيمان بها الكفر والجحود ، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه الذي هو حقّه (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) يعني ما آل إليه أمرهم في الهلاك (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذه حكاية قول موسى لفرعون ، وندائه له إني رسول إليك من قبل رب العالمين ، مبعوث اليك وإلى قومك (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) معناه : حقيق بأن لا أقول على الله إلّا الحق (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ) أي بحجة ومعجزة (مِنْ رَبِّكُمْ) أي اعطانيها ربكم (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فأطلق بني اسرائيل من عقال التسخير ، وخلّهم يرجعوا إلى الأرض المقدسة ، وذلك أن فرعون والقبط كانوا قد استعبدوا بني اسرائيل واعتقلوهم للاستخدام في الأعمال الشاقة مثل : بناء المنازل ، وحمل الماء ، ونقل التراب ، وما أشبه ذلك (قالَ) فرعون (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) أي حجة ودلالة تشهد لك على ما تقوله (فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أنك رسول الله (فَأَلْقى عَصاهُ) الفاء فاء الجواب ، أي فكان جوابه لفرعون أن القى عصاه من يده (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي حية عظيمة ، إنّ العصا لما صارت حية أخذت قبة فرعون فتضرع إلى موسى بعد أن وثب من سريره وهرب منها واحدث ، وهرب الناس ، ودخل فرعون البيت وصاح : يا موسى خذها وأنا أؤمن بك ، فأخذها موسى فعادت عصا (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) قيل : إنّ فرعون. قال له : هل معك آية أخرى؟ قال : نعم ، فأدخل يده تحت ابطه ثم نزعها : أي أخرجها منه وأظهرها فإذا هي بيضاء : أي لونها أبيض نوري ، ولها شعاع يغلب نور الشمس ثم أعاد اليد إلى كمّه فعادت إلى لونها الأول.

١٠٩ ـ ١١٢ ـ ثم حكى سبحانه ما قاله اشراف قوم فرعون فقال : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) لمن دونهم في الرتبة من الحاضرين (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) بالسحر (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) معناه : يريد أن يستميل بقلوب بني اسرائيل إلى نفسه ، ويتقوى بهم فيغلبكم بهم ، ويخرجوكم من بلدتكم (فَما ذا تَأْمُرُونَ) قيل : ان هذا قول الاشراف بعضهم لبعض على سبيل المشورة (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي قالوا لفرعون : أخرّه وأخاه هارون ولا تعجل بالحكم فيهما بشيء

٢١٤

فتكون عجلتك حجة عليك (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ) التي حولك (حاشِرِينَ) أي جامعين للسحرة ، يحشرون من يعلمونه منهم (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي يحشرون إليك السحرة ليجتمعوا ويعارضوا موسى فيغلبوه.

١١٣ ـ ١١٦ ـ (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) فحشروهم فجاء السحرة فرعون وكانوا خمسة عشر ألفا عن ابن إسحاق (قالُوا) لفرعون (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) عوضا على عملنا وجزاء بالخير (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) لموسى (قالَ نَعَمْ) أي قال فرعون مجيبا لهم عمّا سألوه : نعم لكم الأجر (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي وانكم مع حصول الأجر لكم لمن المقربين إلى المنازل الجليلة والمراتب الخطيرة التي لا يتخطى إليها العامة ، ولا يحظى بها إلّا الخاصة (قالُوا) يعني قالت السحرة لموسى (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) ما معك من العصا أولا (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) لما معنا من العصي والحبال أولا (قالَ) لهم موسى (أَلْقُوا) أنتم وهذا أمر تهديد وتقريع كقوله سبحانه : أعملوا ما شئتم (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أي فلما القى السحرة ما عندهم من السحر احتالوا في تحريك الحبال والعصي بالزئبق حتى تحركت بحرارة الشمس وغير ذلك من الحيل ، وأنواع التمويه والتلبيس ، وخيّل إلى الناس أنها تتحرك على ما تتحرك الحية ، وإنما سحروا أعين الناس لأنهم أروهم شيئا لم يعرفوا حقيقته ، وخفي ذلك عليهم لبعده منهم ، فإنهم لم يخلوا الناس يدخلون فيما بينهم (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي استدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) وصف سحرهم بالعظم لبعد مرام الحيلة فيه ، وشدة التمويه به ، فهو لذلك عظيم الشأن عند من يراه من الناس ، ولأنه على ما ذكرناه في عدة السحرة وكثرتهم.

١١٧ ـ ١٢٢ ـ ثم أخبر سبحانه عن نفسه فقال : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) أي القينا إليه من وجه لم يشعر به إلّا هو (أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) التي معك (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) معناه : فألقاها فصارت ثعبانا فإذا هي تبتلع ما يكذبون فيه أنها حيات (فَوَقَعَ) أي ظهر (الْحَقُ) وهو أمر موسى وصحة نبوته ومعجزاته (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بطل تمويهاتهم ، وإنما ظهر ذلك لهم لأنهم لما رأوا تلك الآيات الباهرة ، والمعجزات القاهرة في العصا ، علموا أنه أمر سماوي لا يقدر عليه غير الله (فَغُلِبُوا هُنالِكَ) أي قهر فرعون وقومه عند ذلك المجمع وبهت فرعون (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي انصرفوا أذلاء مقهورين (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) يعني أن السحرة لما شاهدوا تلك الآيات ، وعلموا أنها من عند الله تعالى ، آمنوا بالله تعالى وبموسى ، وسجدوا لله ، ألهمهم الله ذلك (قالُوا آمَنَّا) أي صدّقنا (بِرَبِّ الْعالَمِينَ) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) انهم فسّروا سجودهم بأن قالوا : آمنا برب العالمين ، لئلا يتوهم متوهم أنهم سجدوا لفرعون ، ثم قالوا : رب موسى وهارون ، لأن فرعون كان يدّعي أنه رب العالمين ، فأزالوا به الإبهام لئلا يتوهم الجهال أنهم عنوا بقولهم : رب العالمين فرعون.

١٢٣ ـ ١٢٦ ـ ثم حكى سبحانه ما صدر عن فرعون عند إيمان السحرة فقال سبحانه : (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ) أي اقررتم له بالصدق من (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي من قبل أن آمركم بالإيمان ، وآذن لكم في ذلك؟ (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) معناه : ان هذا لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة أمركم ، وهذا وعيد لهم ثم بيّن الوعيد فقال : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي من كل شق

٢١٥

طرفه ، هو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ، وكذلك اليد اليسرى مع الرجل اليمنى (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لا أدع واحدا منكم إلّا صلبته (قالُوا) يعني السحرة جوابا لفرعون (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي راجعون إلى ربنا بالتوحيد والإخلاص والانقلاب إلى الله تعالى هو الانقلاب إلى جزائه ، وغرضهم بهذا القول التسلي في الصبر على الشدة لما فيه من المثوبة ، مع مقابلة وعيده بوعيد أشدّ منه وهو عقاب الله تعالى (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) معناه : ما لنا عندك من ذنب ، ولا ركبنا منك مكروها تعذّبنا عليه إلّا إيماننا بآيات ربنا : وهي ما أتى به موسى (ع) آمنوا بها انها من عند الله ، لا يقدر على مثلها إلّا هو (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أي أصب علينا الصبر عند القطع والصلب حتى لا نرجع كفارا ، والمراد : الطف لنا حتى نتصبر على عذاب فرعون ، ونتشجع عليه ولا نفزع منه (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أي وفّقنا للثبات على الإيمان والإسلام إلى وقت الوفاة وقيل : مسلمين : مخلصين لله حتى لا يردنا البلاء عن ديننا ، قالوا : فصلبهم فرعون من يومه ، فكانوا أول النهار كفارا سحرة ، وآخر النهار شهداء بررة وقيل : أيضا : إنه لم يصل إليهم ، وعصمهم الله منه.

١٢٧ ـ (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) لما أسلم السحرة تحريضا له على موسى (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي اتتركهم أحياء ليظهروا خلافك ، ويدعو الناس إلى مخالفتك ليغلبوا عليك ، فيفسد به ملكك وأمرك ، وروي عن ابن عباس : أنه لما آمن السحرة اسلم من بني اسرائيل ستمائة الف نفس واتّبعوه (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ) فرعون (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) الذين يكون فيهم النجدة والقوة ، ويصلحون للقتال (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي بناتهم نستبقيهن ـ إذا لا يكون فيهن نجدة وقوة ـ للمهنة والخدمة ، استذلالا لهنّ ، وإن كان فرعون قد انقطع طمعه عن قتل موسى وقومه فلم يقل : سأقتل موسى وقومه لما رأى من علوّ أمره ، وعظم شأنه ، فانتقل إلى عذاب المستضعفين منهم (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) ظاهر المعنى.

١٢٨ ـ ١٢٩ ـ قال ابن عباس : كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل ، فلما كان من أمر موسى ما كان أمر بإعادة القتل ، فشكا ذلك بنو إسرائيل إلى موسى ، فعند ذلك (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ) في دفع بلاء فرعون عنكم (وَاصْبِرُوا) على دينكم وعلى أذى فرعون (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي ينقلها إلى من يشاء نقل المواريث ، فيورثكم بعد اهلاك فرعون (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) معناه : تمسّكوا بالتقوى في الدنيا فإن حسن العاقبة في الدارين للمتقين (قالُوا) أي قال بنو اسرائيل لموسى (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) أي عذّبنا فرعون بقتل الأبناء ، واستخدام النساء قبل أن تأتينا بالرسالة (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) أيضا ، ويتوعدنا ويأخذ أموالنا ، ويكلفنا الأعمال الشاقّة ، فلن ننتفع بمجيئك (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) وعسى من الله واجب ومعناه : أوجب ربكم على نفسه أن يهلك عدوّكم فرعون وقومه (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي يملككم ما كانوا يملكونه في الأرض من بعدهم (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي فيرى بوقوعه منكم ، لأن الله تعالى لا يجازي عباده على ما يعلمه منهم ، إنما يجازيهم على ما يقع منهم ، أي يبتليكم بالنعمة ليظهر شكركم ، كما ابتلاكم بالمحنة ليظهر صبركم ومثله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ).

٢١٦

١٣٠ ـ ١٣١ ـ ثم بيّن سبحانه ما فعله بآل فرعون وأقسم عليه فقال : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) اللام للقسم ، وآل الرجل : خاصته الذين يؤول أمره إليهم ، وأمرهم إليه ومعناه : ولقد عاقبنا قوم فرعون بالجدوب والقحوط (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) أي وأخذناهم مع القحط واجداب الأرض بنقصان من الثمرات (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي يخافون فيوحّدون الله ، فلم يتذكروا (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) يعني الخصب والنعمة ، والسعة في الرزق ، والسلامة والعافية (قالُوا لَنا هذِهِ) اننا نستحقّ ذلك على العادة الجارية لنا من نعمنا ، وسعة أرزاقنا في بلادنا ، ولم يعلموا أنه من عند الله سبحانه فيشكروه عليه ، ويؤدّوا شكر النعمة فيه (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي جوع وبلاء ، وقحط المطر ، وضيق الرزق ، وهلاك الثمر والمواشي (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي يتطيروا ، وتفسيره : يتشاءموا بهم وقالوا : ما رأينا شرّا ، ولا أصابنا بلاء حتى رأيناكم (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) معناه : ألا إنما الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به من العقاب عند الله يفعل بهم في الآخرة ما لا ينالهم في الدنيا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولا يتفكرون ليعلموا.

١٣٢ ـ ١٣٣ ـ (وَقالُوا) أي قال قوم فرعون لموسى (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) أيّ شيء تأتنا به من المعجزات (لِتَسْحَرَنا بِها) أي لتموه علينا بها حتى تنقلنا عن دين فرعون (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي مصدقين. اشاروا بهذا القول إلى اصرارهم على الكفر ، وأنهم لا يصدقونه وإن أتى بجميع الآيات ، ثم زاد الله سبحانه في الآيات تأكيدا لأمر موسى (ع) كما قال : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) هو الماء الغالب الخارج عن العادة ، الهادم للبنيان ، وقالع للأشجار والزروع عن ابن عباس ، وقيل : هو الموت الذريع الجارف ، وقيل : هو أمر من أمر الله تعالى طاف بهم (وَالْجَرادَ) هو المعروف (وَالْقُمَّلَ) دواب سود صغار (وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) أي معجزات مبينات ظاهرات ، وأدلة واضحات (فَاسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا عن قبول الحق والإيمان بالله (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) عاصين كافرين.

١٣٤ ـ ١٣٦ ـ ثم أخبر سبحانه عنهم أيضا فقال : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) وهو الطاعون ، أصابهم فمات من القبط سبعون ألف إنسان ، وهو العذاب السادس (قالُوا) يعني فرعون وقومه (يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بما تقدم إليك أن تدعوه به فإنه يجيبك كما أجابك في آياتك وقيل : بما عهد عندك من النبوة والمعنى : بحق ما آتاك الله من النبوة لما دعوت الله ليكشف هذا عنا (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) أي العذاب (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) أي نصدقك في أنك نبي ارسلك الله (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي نطلقهم من الإستخدام ، وتكليف الأعمال الشاقة (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ) أي فلما رفعنا عنهم العذاب (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) يعني الأجل الذي عرفهم الله فيه (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي ينقضون العهد (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي فجزيناهم على سوء صنيعتهم بالعذاب ، ثم فسّر ذلك العذاب فقال : (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي البحر (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي فعلنا ذلك بهم جزاء بتكذيبهم بآياتنا وحججنا وبراهيننا الدالة على صدق موسى وصحة نبوته ، وجحودهم لها (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) معناه : انه أنزل عليهم العذاب وكانوا غافلين عن نزول ذلك بهم.

١٣٧ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال : (وَأَوْرَثْنَا

٢١٧

الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) يعني بني إسرائيل ، فإن القبط كانوا يستضعفونهم ، فأورثهم الله بأن مكّنهم ، وحكم لهم بالتصرف ، وأباح لهم ذلك بعد إهلاك فرعون وقومه القبط ، فكأنهم ورثوا منهم (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) التي كانوا فيها ، يريد به ملك فرعون من أدناه إلى أقصاه وقيل : هي أرض الشام ومصر (الَّتِي بارَكْنا فِيها) باخراج الزروع والثمار ، وسائر صنوف النبات والأشجار ، إلى غير ذلك من العيون والأنهار وضروب المنافع (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) معناه : صح كلام ربك بانجاز الوعد باهلاك عدوهم ، واستخلافهم في الأرض وقيل : إن الكلمة الحسنى قوله سبحانه : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) ، إلى قوله : يحذرون (بِما صَبَرُوا) على أذى فرعون وقومه ، وتكليفهم إياهم ما لا يطيقونه من الاستعباد والأعمال الشاقة (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) أي أهلكنا ما كانوا يبنون من الأبنية والقصور والديار (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) من الأشجار ومن الأعناب والثمار.

١٣٨ ـ ١٤٠ ـ ثم أخبر الله سبحانه عن أحوال بني إسرائيل فقال : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي قطعنا بهم (الْبَحْرَ) يعني النيل ـ نهر مصر ـ بأن جعلنا لهم فيه طرقا يابسة حتى عبروا ، ثم اغرقنا فرعون وقومه فيه (فَأَتَوْا) أي فمروا (عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) أي يقبلون عليها ، ملازمين لها ، مقيمين عندها يعبدونها كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولا بالرقة (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أي انصب لنا شيئا نعبده كما لهم أوثان يعبدونها وفي هذا دلالة على عظيم جهلهم بعد ما رأوا الآيات المترادفة والمعجزات (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) هذا حكاية عما أجابهم به موسى (ع) ، أي تجهلون ربكم وعظمته وصفاته ، ولو عرفتموه حق معرفته لما قلتم هذا القول وقيل : تجهلون نعمة ربكم فيما صنع بكم عن ابن عباس (إِنَّ هؤُلاءِ) يعني القوم الذين عبدوا الأصنام (مُتَبَّرٌ) أي مدمّر مهلك (ما هُمْ فِيهِ) من عبادة الأصنام (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي باطل عملهم لا يجدي عليهم نفعا ، ولا يدفع عنهم ضرا (قالَ) يعني قال موسى لقومه بعد ازرائه على الأصنام وعلى من كان يعبدها (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ) أي ألتمس وأطلب غير الله لكم (إِلهاً) أي معبودا تعبدونه سوى الله (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي على عالمي زمانكم وقيل معناه : وهو سبحانه خصكم بفضائل لم يعطها أحدا غيركم : وهو أن أرسل إليكم رجلين منكم لتكونوا أقرب إلى القبول ، وخلصكم من أذى فرعون وقومه على أعجب وجه ، واورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم.

١٤١ ـ ثم خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي (ص) فقال لهم على وجه الإمتنان عليهم بما انعمه على أسلافهم : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ) أي واذكروا إذ خلصناكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ) أي يولونكم إكراها ، ويحملونكم اذلالا (سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ) أي يكثرون قتل ابنائكم (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يسبقونهن للخدمة والمهنة (وَفِي ذلِكُمْ) أي وفي ما فعل بكم من النجاة (بَلاءٌ) أي نعمة (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) قدرها ، وقيل في تخيلته إياكم وقوم فرعون ابتلاء عظيم.

١٤٢ ـ ثم بيّن سبحانه تمام نعمته على بني إسرائيل فقال : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) ليصوم فيها ويتقرب بالعبادة ، وأتممناها ثم أتمّت بعشر إلى وقت المناجاة وقيل : هي العشرة التي نزلت

٢١٨

التوراة فيها ولذلك أفردت بالذكر (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) إنما قال هذا مع ان ما تقدّمه دلّ على هذه العدّة للبيان والتفصيل ، ولو لم يذكره لجاز أن يتوهم أنه أتمّ الثلاثين بعشر منها على معنى : كملنا الثلاثين بعشر حتى كملت ثلاثين (وَقالَ مُوسى) وقت خروجه إلى الميقات (لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي) أي كن خليفتي (فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) وأجر على طريقتك في الصلاح (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أي لا تسلك طريقة العاصين ، ولا تكن عونا للظالمين ، وإنما أراد بذلك إصلاح قومه وإن كان المخاطب به أخاه.

١٤٣ ـ ثم ذكر سبحانه حديث الميقات فقال : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) معناه : ولما انتهى موسى إلى المكان الذي وقّتناه له ، وأمرناه بالمصير إليه لنكلّمه ، وننزل عليه التوراة. (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) من غير سفير أو وحي كما كان يكلّم الأنبياء على السنة الملائكة ، وذكر في موضع آخر أنه اسمعه كلامه من الشجرة ، فجعل الشجرة محلا للكلام (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) إنه لم يسأل الرؤية لنفسه وإنما سألها لقومه حين قالوا له : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ، ولذلك قال (ع) لما أخذتهم الرجفة : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) فأضاف ذلك إلى السفهاء (قالَ لَنْ تَرانِي) هذا جواب من الله تعالى ومعناه : لا تراني أبدا ، لأن لن ينفي على وجه التأبيد كما قال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) وقال : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) علّق رؤيته باستقرار الجبل الذي علمنا انه لم يستقرّ ، وهذه طريقة معروفة في استبعاد الشيء لأنهم يعلّقونه بما يعلم أنه لا يكون (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) أي ظهر أمر ربه لأهل الجبل والمعنى : أنه سبحانه أظهر من الآيات ما استدلّ به من كان عند الجبل على أن رؤيته غير جائزة (جَعَلَهُ دَكًّا) أي مستويا بالأرض وقيل : ساخ في الأرض حتى فنى (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي سقط مغشيا عليه ، وأما السبعون الذين كانوا معه فقد ماتوا كلهم لقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) (فَلَمَّا أَفاقَ) من صعقته (قالَ سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك من أن تأخذني بما فعل السفهاء من سؤال الرؤية (تُبْتُ إِلَيْكَ) قاله على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه كما يذكر التسبيح والتهليل ونحو ذلك من الألفاظ عند ظهور الأمور الجليلة (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنه لا يراك أحد من خلقك. وقيل معناه : أنا أول من آمن وصدّق بأنك لا ترى.

١٤٤ ـ ١٤٥ ـ ثم أخبر سبحانه عن عظيم نعمته على موسى بالإصطفاء وإجلال القدر ، وأمره إياه بالشكر بقوله : (قالَ) أي قال الله سبحانه : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) أي اخترتك واتخذتك صفوة ، وفضّلتك على الناس (بِرِسالاتِي) من غير كلام (وَبِكَلامِي) ولم يكلم أحدا بلا واسطة سوى موسى (ع) (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) أي تناول ما أعطيتك من التوراة ، وتمسّك بما أمرتك (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي من المعترفين بنعمتي ، القائمين بشكرها على حسب مرتبتها ، فكلما كانت النعمة أعظم وأجل وجب أن تقابل من الشكر بما يكون أتم وأكمل. (وَكَتَبْنا لَهُ) يعني لموسى (ع) (فِي الْأَلْواحِ) يريد ألواح التوراة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي أعطاه من كل شيء يحتاج إليه من أمر الدين (مَوْعِظَةً) هذا تفسير لقوله كل شيء (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدنيا ، من الأوامر والنواهي ، والحلال والحرام ، وذكر الجنة والنار ، وغير ذلك من العبر والأخبار (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي بجدّ واجتهاد (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي بما فيها من أحسن المحاسن وهي الفرائض والنوافل ، فإنها أحسن من المباحات (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) يعني سأريكم جهنم.

٢١٩

١٤٦ ـ ١٤٧ ـ (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) الصرف معناه : المنع من إبطال الآيات والحجج والقدح فيها بما يخرجها عن كونها أدلة وحججا ، ومعنى قوله : (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) : أي يرون لأنفسهم فضلا على الناس وحقا ليس لغيرهم مثله ، فيحملهم ذلك على ترك اتباع الأنبياء انفة من الإنقياد لهم ، والقبول منهم (بِغَيْرِ الْحَقِ) تأكيد وبيان أن التكبّر لا يكون إلّا بغير الحق كقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) ، وقد مضى ذكر أمثاله (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي كل حجة ودلالة تدلّ على توحيد الله (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) يعني أن يروا طريق الهدى والحق لا يتخذوه طريقا لأنفسهم (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ) أي طريق الضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أي طريقا لأنفسهم ، ويميلون إليه (ذلِكَ) إشارة إلى صرفهم عن الآيات (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بحججنا ، ومعجزات رسلنا (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي لا يتفكرون فيها ، ولا يتعظّون بها ؛ والمراد بالغفلة هنا التشبيه لا الحقيقة مثل قوله سبحانه : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ، وذلك أنهم لما أعرضوا عن الانتفاع بالآيات ، والتأمل فيها اشتبهت حالهم حال من كان غافلا ساهيا عنها. ثم بيّن سبحانه وعيد المكذّبين فقال (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) يعني القيامة والبعث والنشور (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي عملوها ولا يستحقون بها مدحا ولا ثوابا لأنها وقعت على خلاف الوجه المأمور به فصارت بمنزلة ما لم يعمل (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) صورته صورة الاستفهام والمراد به الإنكار والتوبيخ ، ومعناه : ليس يجزون إلّا ما عملوه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

١٤٨ ـ ثم عاد الكلام إلى قصة بني إسرائيل وما احدثوه عند خروج موسى (ع) إلى ميقات ربه فقال سبحانه : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) يعني السامري ومن جرى على طريقته (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد خروج موسى إلى الميقات (مِنْ حُلِيِّهِمْ) التي استعاروها من قوم فرعون ، وكانت بنو إسرائيل بمنزلة أهل الجزية في القبط ، وكان لهم يوم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي ، فوافق ذلك عيدهم فاستعاروا حلي القبط ، فلما أخرجهم الله من مصر وغرق فرعون بقيت تلك الحلي في أيديهم فاتخذ السامري منها (عِجْلاً) وهو ولد البقرة (جَسَداً) أي مجسدا لا روح فيه (لَهُ خُوارٌ) أي صوت قيل : انه احتال بادخال الريح كما يعمل هذه الآلات التي تصوت بالحيل ، ثم أنكر سبحانه ذلك عليهم فقال : (أَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلموا (أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) بما يجدي عليهم نفعا ، أو يدفع عنهم ضررا (وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) أي لا يهديهم إلى خير ليأتوه ، ولا إلى شرّ ليجتنبوه (اتَّخَذُوهُ) أي اتخذوه إلها وعبدوه (وَكانُوا ظالِمِينَ) باتخاذهم له إلها ، واضعين للعبادة في غير موضعها.

١٤٩ ـ (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي فلما لحقتهم الندامة (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) أي علموا ضلالهم عن الصواب وطريق الحق بعبادة العجل حين رجع إليهم موسى ، وبيّن لهم ذلك (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) بقبول توبتنا (وَيَغْفِرْ لَنا) ما قدّمناه من عبادة العجل (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) باستحقاق العقاب.

١٥٠ ـ ١٥١ ـ ثم أخبر سبحانه عما فعله موسى (ع) حين رجع من مناجاة ربه ، ورأى عكوف قومه على عبادة العجل فقال : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي حزينا عن ابن عباس ، وقيل معناه : غضبان على قومه إذ عبدوا العجل ، اسفا حزينا متلهفا على ما فاته من مناجاة ربه (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) أي بئسما عملتم خلفي ، وبئس

٢٢٠