الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

واختلف فيه فقيل : إنه إدريس كما قيل ليعقوب : إسرائيل (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من الأنبياء والمرسلين (وَإِسْماعِيلَ) وهو ابن إبراهيم (وَالْيَسَعَ) بن اخطوب (وَيُونُسَ) بن متى (وَلُوطاً) بن هاران بن أخي إبراهيم (وَكلًّا) أي وكل واحد منهم (فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانه وإذا جعل الله سبحانه عيسى من ذرية إبراهيم (ع) أو نوح ففي ذلك دلالة واضحة ، وحجة قاطعة على أن أولاد الحسن والحسين (ع) ذرية رسول الله (ص) على الإطلاق ، وأنهما ابنا رسول الله (ص) وقد صح في الحديث أنه قال لهما عليهما‌السلام : ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا (وَمِنْ آبائِهِمْ) يعني ومن آباء هؤلاء الأنبياء (وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) جماعة فضلناهم (وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي اصطفيناهم واخترناهم للرسالة (وَهَدَيْناهُمْ) أي سددناهم وأرشدناهم فاهتدوا (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي طريق بيّن لا اعوجاج فيه ، وهو الدين الحق.

٨٨ ـ ٩٠ ـ ثمّ بيّن سبحانه إكرامه لأنبيائه (ع) ، ثم أمر من بعد بالإقتداء بهم فقال : (ذلِكَ) وهو إشارة إلى ما تقدم ذكره من التفضيل والإجتباء والهداية والإصطفاء (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ممّن لم يسمهم في هذه الآيات ، والهداية هنا : هي الإرشاد إلى الثواب دون الهداية التي هي نصب الأدلة ، ألا ترى إلى قوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، وذلك لا يليق إلّا بالثواب الذي يختصّ المحسنين ، دون الدلالة التي يشترك بها المؤمن والكافر وقوله (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يدل أيضا على ذلك ومعناه : أنهم لو أشركوا لبطلت أعمالهم التي كانوا يقعونها على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب لتوجيهها إلى غير الله تعالى (أُولئِكَ) يعني به من تقدّم ذكرهم من الأنبياء (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي أعطيناهم (الْكِتابَ) أراد الكتب ووحّد لأنه عنى به الجنس (وَالْحُكْمَ) معناه : والحكم بين الناس وقيل : الحكمة (وَالنُّبُوَّةَ) أي الرسالة (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بالكتاب والحكم وبالنبوة (هؤُلاءِ) يعني الكفار الذين جحدوا نبوة النبي (ص) في ذلك الوقت (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أي بمراعاة أمر النبوة وتعظيمها ، والأخذ بهدي الأنبياء (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) عني بها من آمن من أصحاب النبي (ص) في وقت مبعثه وإنما قال : (وَكَّلْنا بِها) ولم يقل : فقد قام بها قوم ، تشريفا لهم بالإضافة إلى نفسه ، وفي هذا ضمان من الله تعالى أن ينصر نبيّه (ص) ، ويحفظ دينه (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أي هداهم الله إلى الصبر (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) معناه : اقتد بهم في الصبر على أذى قومك ، واصبر كما صبروا ، وقيل معناه : أولئك الذين قبلوا هدى الله واهتدوا بلطف الله الذي فعل بهم فاقتد بطريقتهم في تبليغ الرسالة (قُلْ) يا محمد (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي لا أطلب منكم على تبليغ الوحي وأداء الرسالة جعلا كما لم يسأل ذلك الأنبياء قبلي ، فإن أخذ الأجر عليه ينفر الناس عن القبول (إِنْ هُوَ) أي ما هو (إِلَّا ذِكْرى) أي تذكيرا (لِلْعالَمِينَ) بما يلزمهم إتيانه واجتنابه ، وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يخلو كل زمان من حافظ للدين إما نبيّ أو إمام لقوله : (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً) ، وأسند التوكيل إلى نفسه. وتدل الآية على أن نبيّنا مبعوث إلى كافة العالمين ، وانّ النبوة مختومة به ، ولذلك قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ).

٩١ ـ لمّا تقدّم ذكر الأنبياء والنبوة ، عقبه سبحانه بالتهجين لمن أنكر النبوة فقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوا الله حقّ معرفته ، وما عظّموه حقّ عظمته ، وما وصفوه بما هو أهل أن يوصف به (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أي ما أرسل الله رسولا ، ولم ينزل على بشر شيئا مع ان

١٨١

المصلحة والحكمة تقتضيان ذلك ، والمعجزات الباهرة تدل على بعثة كثير منهم ، ثم أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : (قُلْ) يا محمد لهم (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) يعني التوراة ، وإنما احتجّ بذلك عليهم لأن القائل لذلك من اليهود (نُوراً) أي يستضاء به في الدين كما يستضاء بالنور في الدنيا (وَهُدىً لِلنَّاسِ) أي دلالة يهتدون به (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) أي كتبا وصحفا متفرقة معناه : تجعلونه ذا قراطيس ، أي تودعونه إياها (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أي تبدون بعضها ، وتكتمون بعضها وهو ما في الكتب من صفات النبي (ص) والإشارة اليه ، والبشارة به (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) قيل : انه خطاب للمسلمين يذكرهم ما أنعم به عليهم وقيل : هو خطاب لليهود ، أي علمتم التوراة فضيعتموه ولم تنتفعوا به (قُلْ) يا محمد (اللهَ) أي الله أنزل ذلك ، وهذا كما ان الإنسان إذا أراد البيان والاحتجاج بما يعلم ان الخصم مقرّ به ، ولا يستطيع دفعه ذكر ذلك ثم تولى الجواب عنه بما قد علم انه لا جواب له غيره (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي دعهم وما يختارونه من العناد ، وما خاضوا فيه من الباطل واللعب.

٩٢ ـ لمّا احتجّ سبحانه بانزال التوراة على موسى (ع) بيّن أن سبيل القرآن سبيلها فقال : (وَهذا كِتابٌ) يعني القرآن (أَنْزَلْناهُ) من السماء إلى الأرض ، لأن جبرائيل (ع) أتى به من السماء (مُبارَكٌ) وإنما سماه مباركا لأنه كل من تمسك به نال الفوز (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل وغيرهما (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) يعني بأم القرى مكة ، ومن حولها : أهل الأرض كلهم (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ) أي على أوقات صلواتهم (يُحافِظُونَ) أي يراعونها ليؤدوها فيها ، ويقوموا بإتمام ركوعها وسجودها وجميع أركانها ، وفي هذا دلالة على عظم قدر الصلاة ومنزلتها لأنه سبحانه خصّها بالذكر من بين سائر الفرائض.

٩٣ ـ لمّا تقدّم ذكر نبوة النبي (ص) ، وإنزال الكتاب عليه ، عقّبه سبحانه بذكر تهجين الكفار الذين كذّبوه أو ادّعوا انهم يأتون بمثل ما أتى به فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) هذا استفهام في معنى الإنكار ، أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فادعى انه نبي وليس بنبي (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) أي يدّعي الوحي ولا يأتيه ، وهذا وان كان داخلا في الافتراء فإنما أفرد بالذكر تعظيما (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) قال الزجاج : هذا جواب لقولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، فادّعوا ثم لم يفعلوا ، وبذلوا النفوس والأموال ، واستعملوا سائر الحيل في إطفاء نور الله وأبى الله إلا أن يتم نوره. ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أي في شدائد الموت عند النزع (وَالْمَلائِكَةُ) الذين يقبضون الأرواح (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) لقبض أرواحهم (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي يقولون أخرجوا أنفسكم من سكرات الموت إن استطعتم وصدقتم فيما قلتم وادعيتم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي عذابا تلقون فيه الهوان (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) أي في الدنيا (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي تأنفون عن اتباع آياته.

٩٤ ـ ثمّ بيّن سبحانه تمام ما يقال لهم على سبيل التوبيخ فقال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) هو من كلام الملائكة يؤدونه عن الله إلى الذين يقبضون أرواحهم (فُرادى) أي وحدانا لا مال لكم ولا خول ولا ولد ولا حشم (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) قال الزجاج : معناه كما بدأناكم أول مرة أي يكون

١٨٢

بعثكم كخلقكم (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) معناه : ما ملكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به من الأموال (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي خلف ظهوركم في الدنيا ، والمراد : تركتم الأموال ، وحملتم من الذنوب الأحمال ، واستمتع غيركم بما خلفتم وحوسبتم عليه ، فيا لها من حسرة (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أي ليس معكم من كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم عند الله يوم القيامة وهي الأصنام (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) معناه : زعمتم انهم شركاؤنا فيكم وشفعاؤكم ، يريد : وما نفعكم عبادة الأوثان التي كنتم تقولون انها فيكم شركاء وانها تشفع لكم عند الله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) وصلكم وجمعكم (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي ضاع وتلاشى ولا تدرون أين ذهب من جعلتم شفعاءكم من آلهتكم ، ولم تنفعكم عبادتها.

٩٥ ـ ٩٦ ـ (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) أي شاق الحبة اليابسة الميتة فيخرج منها النبات ، وشاق النواة اليابسة الميتة فيخرج منها النخل والشجر (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أي يخرج النبات الغض الطّري الخضر من الحب اليابس ، ويخرج الحب اليابس من النبات النامي ، والعرب تسمي الشجر ما دام غضا قائما بأنه حي ، فإذا يبس أو قطع أو قلع سموه ميتا (ذلِكُمُ اللهُ) أي فاعل ذلك كله الله (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي تصرفون عن الحق ويذهب بكم عن هذه الأدلة الظاهرة إلى الباطل ، أفلا تتدبرون فتعلمون انه لا ينبغي ان يجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى ، واخراج الزرع من الحب والشجر من النوى شريك في عبادته؟ (فالِقُ الْإِصْباحِ) أي شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) تسكنون فيه وتتودعون فيه. نبه الله سبحانه على عظيم نعمته بأن جعل الليل للسكون ، والنهار للتصرف ، ودل بتعاقبهما على كمال قدرته وحكمته ثم قال : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي جعلهما تجريان في أفلاكهما بحساب لا يتجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما ، فتقطع الشمس جميع البروج الإثني عشر في ثلاثمائة وخمس وستين يوما وربع ، والقمر في ثمانية وعشرين يوما ، وبني عليهما الليالي والأيام ، والشهور والأعوام (ذلِكَ) إشارة إلى ما وصفه سبحانه من فلق الاصباح ، وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الذي عز سلطانه فلا يقدر أحد على الامتناع منه (الْعَلِيمِ) بمصالح خلقه وتدبيرهم.

٩٧ ـ ٩٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ) أي خلق (لَكُمُ) أي لنفعكم (النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها) أي بضوئها وطلوعها ومواضعها (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يهتدى بها في الأسفار وفي البلاد وفي القبلة ، وأوقات الليل ، وإلى الطرق في مسالك البراري والبحار (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بيّنا الحجج والبينات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يتفكرون فيعلمون (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي أبدعكم وخلقكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي من آدم (ع) لأن الله تعالى خلقنا جميعا منه ، ومنّ علينا بهذا لأن الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التواد والتعاطف والتآلف (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) مستقر : في الرحم إلى أن يولد ، ومستودع : في القبر إلى أن يبعث (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بيّنا الحجج ، وميّزنا الأدلة (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) مواقع الحجة ، ومواضع العبرة.

٩٩ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يريد من السحاب والعرب تقول : كلّ ما علاك فأظلّك فهو سماء (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) والمعنى : فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء غذاء الأنعام والطير والوحش ، وأرزاق بني آدم ما يتغذّون به (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) أي من الماء (خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ) أي من ذلك الزرع الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) قد تركب بعضه على بعض مثل سنبلة الحنطة والسمسم وغير ذلك (وَمِنَ النَّخْلِ) أي ونخرج من النخل

١٨٣

(مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ) أي أعذاق الرطب (دانِيَةٌ) أي قريبة المتناول دنت من الأرض (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) يعني وأخرجنا به أيضا جنات من أعناب : أي بساتين من أعناب (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أي شجر الزيتون والرمان (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي مشتبها شجره يشبه بعضه بعضا وغير متشابه في الطعم (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أي انظروا إلى خروج الثمار نظر الإعتبار (وَيَنْعِهِ) أي نضجه ، ومعناه : انظروا من ابتداء خروجه اذا أثمر إلى انتهائه اذا أينع وأدرك ، كيف تنتقل عليه الأحوال في الطعم واللون والرائحة ، والصغر والكبر ، ليستدلّوا بذلك على ان له صانعا مدبرا (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) أي ان في خلق هذه الثمار والزروع مع إتقان جواهرها أجناسا مختلفة لا يشبه بعضها بعضا لدلالات على ان لها خالقا قصد إلى التمييز بينها قبل خلقها على علم بها ، وانها تكوّنت بخلقه وتدبيره (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم يستدلون ، وبمعرفة مدلولاتها ينتفعون.

١٠٠ ـ ١٠١ ـ ثم ردّ سبحانه على المشركين ، وعجب من كفرهم مع هذه البراهين والحجج والبينات فقال : (وَجَعَلُوا) يعني المشركين (لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) أخبر الله سبحانه انهم اتخذوا معه آلهة جعلوهم له اندادا (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ) أي اختلقوا وموّهوا وافتروا الكذب على الله ، ونسبوا البنين والبنات إلى لله ، فإن المشركين قالوا : الملائكة بنات الله ، والنصارى قالوا : المسيح بن الله ، واليهود قالوا : عزير بن الله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بغير حجة ، جهلا منهم بالله وبعظمته تعالى (سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عما يقولون (وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) من ادعائهم له شركاء ، واختراقهم له بنين وبنات ، أي هو يجل من ان يوصف بما وصفوه به (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما ومنشئهما بعلمه ابتداءا لا من شيء ولا على مثال سبق (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) أي كيف يكون له ولد ، ومن أين يكون له ولد؟ (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) أي زوجة ، وإنما يكون الولد من النساء (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) في هذا نفي للصاحبة والولد ، فإن من خلق الأشياء لا يكون شيء من خلقه صاحبة له ولا ولدا (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم الأشياء كلها موجودها ومعدومها ، لا يخفى عليه خافية.

١٠٢ ـ ١٠٣ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر الأدلة على وحدانيته عقّبه بتنبيه عباده على انه الإله المستحق للطاعة والعبادة ، وتعليمهم الاستدلال بأفعاله عليه فقال : (ذلِكُمُ) أي ذلك الذي خلق هذه الأشياء ودبر هذه التدابير لكم أيها الناس هو (اللهُ رَبُّكُمْ) أي خالقكم ومالككم ومدبركم وسيدكم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي كل مخلوق من الأجسام والأعراض التي لا يقدر عليها غيره (فَاعْبُدُوهُ) لأنه المستحق للعبادة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حافظ ومدبر وحفيظ على خلقه ، فهو وكيل على الخلق (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تراه العيون (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) معناه : انه يرى ولا يرى (وَهُوَ اللَّطِيفُ) قيل في معناه انه اللاطف بعباده بسبوغ الإنعام (الْخَبِيرُ) العليم بكل شيء من مصالح عباده فيدبرهم عليها ، وبأفعالهم فيجازيهم عليها.

١٠٤ ـ ١٠٥ ـ (قَدْ جاءَكُمْ) أيها الناس (بَصائِرُ) بينات ودلالات (مِنْ رَبِّكُمْ) تبصرون بها الهدى من الضلال ، وتميزون بها بين الحق والباطل ، ووصف البينة بأنها جاءت تفخيما لشأنها كما يقال : جاءت العافية ، وأقبل السعد (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أي من تبين هذه الحجج بأن نظر فيها حتى أوجبت له العلم فمنفعة ذلك تعود إليه ، ولنفسه نظر (وَمَنْ عَمِيَ) فلم ينظر فيها وصدف عنها (فَعَلَيْها) أي على نفسه

١٨٤

وباله ، وبها أضر ، وإياها ضر ، فسمى العلم والتبيين ابصارا ، والجهل عمى مجازا وتوسعا. وفي هذا دلالة على ان المكلفين مخيرون في أفعالهم غير مجبرين ، ثم أمر سبحانه نبيه بأن يقول لهم : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي لست أنا الرقيب على أعمالكم (وَكَذلِكَ) أي وكما صرفنا الآيات قبل (نُصَرِّفُ) هذه (الْآياتِ) قال علي بن عيسى : والتصريف اجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة لتجتمع فيه وجوه الفائدة (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) ذلك يا محمد ، أي تعلمته (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معناه : لنبين هذه الآيات للعلماء الذين يعقلون ما نورده عليهم ، وإنما خصهم بذلك لأنهم انتفعوا به دون غيرهم.

١٠٦ ـ ١٠٧ ـ ثم أمر سبحانه نبيه (ص) باتباع الوحي فقال : (اتَّبِعْ) أيها الرسول (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إنما أعاد سبحانه هذا القول لأن المراد ادعهم إلى أنه لا إله إلّا هو (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) معناه : اهجرهم ولا تخالطهم ولا تلاطفهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) أي لو شاء الله ان يتركوا الشرك قهرا واجبارا لاضطرهم إلى ذلك الا انه لم يضطرهم اليه بما ينافي أمر التكليف ، وأمرهم بتركه اختيارا ليستحقوا الثواب والمدح عليه (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) مراقبا لأعمالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي ولست بموكل عليهم بذلك ، وإنما أنت رسول عليك البلاغ وعلينا الحساب.

١٠٨ ـ ثم نهى الله المؤمنين أن يسبّوا الأصنام لما في ذلك من المفسدة فقال : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا تخرجوا من دعوة الكفار ومحاجتهم إلى ان تسبّوا ما يعبدونه من دون الله ، فإن ذلك ليس من الحجاج في شيء (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) أي ظلما (بِغَيْرِ عِلْمٍ) وأنتم اليوم غير قادرين على معاقبتهم بما يستحقّون لأن الدار دارهم ، ولم يؤذن لكم في القتال (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) معناه : زينا عملهم بذكر ثوابه ، فهو كقوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) أي مصيرهم (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بأعمالهم من الخير والشر.

١٠٩ ـ ١١٠ ـ ثم بين سبحانه حال الكفار الذين سألوه الآيات فقال : (وَأَقْسَمُوا) أي حلفوا (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي مجدين مظهرين الوفاء به (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) مما سألوه (لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ) يا محمد (إِنَّمَا الْآياتُ) أي الاعلام والمعجزات (عِنْدَ اللهِ) والله تعالى مالكها والقادر عليها ، فلو علم صلاحكم في انزالها لأنزلها (وَما يُشْعِرُكُمْ) الخطاب متوجه إلى المشركين (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) قد مرّ معناه (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) اخبر سبحانه انه يقلب أفئدة هؤلاء الكفار وأبصارهم عقوبة لهم في جهنم على لهب النار وحرّ الجمر (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تقديره : وأقسموا بالله ليؤمنن بالآيات ، والله تعالى قد قلّب قلوبهم وأبصارهم وعلم ان فيها خلاف ما يقولون ، يقال : فلان قلّب هذا الأمر إذا عرف حقيقته ووقف عليه وقيل معناه : لو أعيدوا إلى الدنيا ثانية لم يؤمنوا كما لم يؤمنوا به أوّل مرة (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) أي نخليهم وما اختاروه من الطغيان فلا نحول بينهم وبينه (يَعْمَهُونَ) يترددون في الحيرة.

١١١ ـ (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) حتى يروهم عيانا يشهدون لنبينا بالرسالة (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) أي واحيينا الموتى حتى شهدوا لمحمد بالرسالة (وَحَشَرْنا) أي جمعنا (عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ) أي كل آية وقيل : كل ما سألوه (قُبُلاً) أي معاينة

١٨٥

ومقابلة حتى يواجهوها ومعناه : انهم من شدة عنادهم وتركهم الإنقياد والإذعان للحق يشكون في المشاهدات التي لا يشك فيها (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) عند هذه الآيات (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن يجبرهم على الإيمان والمعنى : انهم قط لا يؤمنون مختارين إلّا أن يكرهوا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) ان الله قادر على ذلك.

١١٢ ـ ١١٣ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) أي وكما جعلنا لك شياطين من الإنس والجن أعداء كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء وأممهم ، ومعنى قوله : وجعلنا انه سبحانه إنما أضاف ذلك إلى نفسه لأنه سبحانه لما أرسل إليهم الرسل وأمرهم بدعائهم إلى الإسلام والإيمان ، وخلع ما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان ، نصبوا عند ذلك العداوة لأنبيائه (ع). والمراد بشياطين الإنس والجن مردة الكفّار من الفريقين (يُوحِي) أي يوسوس ويلقي خفية (بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي المموه المزين الذي يستحسن ظاهره ولا حقيقة له ولا أصل (غُرُوراً) أي ليغروهم بذلك (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) أخبر سبحانه انه لو شاء ان يمنعهم من ذلك جبرا ، ويحول بينهم وبينه لقدر على ذلك ، ولو حال بينهم وبينه لما فعلوه ، ولكنه خلّى بينهم وبين أفعالهم إبقاء للتكليف ، وامتحانا للمكلفين (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي دعهم وافتراءهم الكذب فإني أجازيهم وأعاقبهم. أمر سبحانه نبيّه (ص) بأن يخلي بينهم وبين ما يفترون (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) أي ولتميل إلى هذا القول المزخرف (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) المراد بالأفئدة أصحاب الأفئدة ولكن لما كان الإعتقاد في القلب ، وكذلك الشهوة أسند الصغو إلى القلب (وَلِيَرْضَوْهُ) أي وليكتسبوا من الإثم والمعاصي (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي مكتسبون في عداوة النبي والمؤمنين.

١١٤ ـ (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) أي أطلب سوى الله حكما والمعنى : هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله رغبة عنه؟ أو هل يجوز أن يكون حكم سوى الله يساويه في حكمه؟ (وَهُوَ الَّذِي) يعني والله الذي (أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) أي القرآن (مُفَصَّلاً) فصّل فيه جميع ما يحتاج إليه (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني بهم مؤمني أهل الكتاب (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي ان القرآن (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) يعني ببيان الحق فترغيبه وترهيبه ووعده ووعيده وقصصه وأمثاله وغير ذلك جميعه بهذه الصفة (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي من الشاكين في ذلك.

١١٥ ـ (وَتَمَّتْ) أي كملت على وجه لا يمكن أحدا الزيادة فيه والنقصان منه (كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي القرآن (صِدْقاً وَعَدْلاً) ما كان في القرآن من الأخبار فهو صدق لا يشوبه كذب ، وما فيه من الأمر والنهي والحكم والإباحة والحظر فهو عدل (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا مغير لأحكامه وقيل معناه : ان القرآن محروس عن الزيادة والنقصان ، فلا مغير لشيء منه ، وذلك ان الله تعالى ضمن حفظه في قوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بضمائركم.

١١٦ ـ ١١٧ ـ (وَإِنْ تُطِعْ) يا محمد خاطبه (ص) والمراد غيره والطاعة : هي امتثال الأمر ، وموافقة المطيع المطاع فيما يريده منه (أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) يعني الكفار وأهل الضلالة ، وإنما ذكر الأكثر لأنه علم سبحانه ان منهم من يؤمن ويدعو إلى الحق ، ويذبّ عن الدين ولكن هم الأقل ، والأكثر الضلال (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن دينه. وفي هذا دلالة على انه لا عبرة في دين الله ومعرفة الحق بالقلة والكثرة لجواز ان يكون الحق مع الأقل ، وانما الاعتبار فيه بالحجة دون القلة والكثرة

١٨٦

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي ما يتبع هؤلاء المشركون فيما يعتقدونه ويدعون إليه إلّا الظن (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم الا يكذبون (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) خاطب سبحانه نبيّه (ص) وان عنى به جميع الأمة والمعنى انه يعلم ما يكون وما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، على جميع الوجوه التي يصحّ ان يعلم الأشياء عليها (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) المعنى : انه سبحانه أعلم بمن يسلك سبيل الضلال المؤدي إلى الهلاك والعقاب ، ومن يسلك سبيل الهدى المفضي به إلى النجاة والثواب.

١١٨ ـ ١٢٠ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم من الكلام فقال : (فَكُلُوا) ان المشركين لما قالوا للمسلمين أتأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلوا ما قتل ربكم؟ فكأنه قال سبحانه لهم : اعرضوا عن جهلهم فكلوا والمراد به الإباحة وان كانت الصيغة صيغة الأمر (مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) يعني ذكر اسم الله عند ذبحه دون الميتة وما ذكر عليه اسم الأصنام ، والذكر هو قول : بسم الله (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) بأن عرفتم الله ورسوله ، وصحة ما أتاكم به من عند الله ، فكلوا ما أحلّ دون ما حرّم. وفي هذه الآية دلالة على وجوب التسمية على الذبيحة ، وعلى ان ذبائح الكفار لا يجوز أكلها لأنهم لا يسمون الله تعالى عليها (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) معناه : ما الذي يمنعكم ان تأكلوا مما ذكر اسم الله عند ذبحه؟ (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ) أي بيّن لكم (ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) هو ما ذكر في هذه السورة في قوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) معناه : إلّا ما خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع إذا تركتم التناول منه ، فحينئذ يجوز لكم تناوله وإن كان مما حرمه الله (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ) أي اتباع اهوائهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين الحق إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) أمر سبحانه بترك الإثم مع قيام الدلالة على كونه إثما ، ونهى عن ارتكابه سرا وعلانية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) أي يعملون المعاصي التي فيها الآثام ، ويرتكبون القبائح (سَيُجْزَوْنَ) أي سيعاقبون (بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) بما كانوا يكسبون ويرتكبون.

١٢١ ـ ثم أكّد سبحانه ما تقدم بقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) يعني عند الذبح من الذبائح ، وهذا تصريح في وجوب التسمية على الذبيحة لأنه لو لم يكن كذلك لكان ترك التسمية غير محرم لها (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) يعني وان أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لفسق ، وفي هذا دلالة على تحريم أكل ذبائح الكفار كلهم ، أهل الكتاب وغيرهم (وَإِنَّ الشَّياطِينَ) يعني علماء الكافرين ، ورؤساءهم المتمردين في كفرهم (لَيُوحُونَ) أي يشيرون (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) الذين اتبعوهم من الكفار (لِيُجادِلُوكُمْ) في استحلال الميتة ، ثم قال سبحانه : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) أيها المؤمنون فيما يقولونه من استحلال الميتة وغيره (إِنَّكُمْ) اذا (لَمُشْرِكُونَ) لأن من استحلّ الميتة فهو كافر بالاجماع ، ومن أكلها محرما لها مختارا فهو فاسق.

١٢٢ ـ ١٢٣ ـ ثم ذكر سبحانه مثل الفريقين فقال : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) أي كافرا فأحييناه بأن هديناه إلى الإيمان. شبّه سبحانه الكفر بالموت ، والإيمان بالحياة (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) المراد بالنور العلم والحكمة ، سمى سبحانه ذلك نورا ، والجهل ظلمة ، لأن العلم يهتدى به إلى الرشاد كما يهتدى بالنور في الطرقات (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) مثله مثل من هو في الظلمات ، يعني به الكافر الذي هو في ظلمة الكفر (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) ذكره بلفظ

١٨٧

المثل ليبين انه بلغ في الكفر والحيرة غاية يضرب به المثل فيها. وإنما سمى الله تعالى الكافر ميتا لأنه لا ينتفع بحياته (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وجه التشبيه بالكافر ان معناه : زيّن لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زين لأولئك الإيمان فعملوه ، فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه كما قال سبحانه : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ) أي مثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر (مُجْرِمِيها) وجعلنا ذا المكر من المجرمين ، كما جعلنا ذا النور من المؤمنين ، فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بأولئك الا ان أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم ، وهؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم وانما خص أكابر المجرمين بذلك دون الاصاغر لأنه اليق بالاقتدار على الجميع ، لأن الأكابر إذا كانوا في قبضة القادر فالأصاغر بذلك اجدر ، واللام في قوله : (لِيَمْكُرُوا فِيها) لام العاقبة ، وتسمى لام الصيرورة كما في قوله سبحانه : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) لأن عقاب ذلك يحل بهم.

١٢٤ ـ (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) أي معجزة من عند الله تعالى تدلّ على توحيده وصدق نبيّه (ص) (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ) أي لن نصدق بها (حَتَّى نُؤْتى) أي نعطى آية معجزة (مِثْلَ ما أُوتِيَ) أي أعطي (رُسُلُ اللهِ) حسدا منهم للنبي (ص) ثم اخبر سبحانه على وجه الإنكار عليهم بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) انه أعلم منهم ومن جميع الخلق بمن يصلح لرسالاته ، ويتعلق مصالح الخلق ببعثه ، وانه يعلم من يقوم بأعباء الرسالة ومن لا يقوم بها ، ثم توعدهم سبحانه فقال (سَيُصِيبُ) أي سينال (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي انقطعوا إلى الكفر وأقدموا عليه (صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي سيصيبهم عند الله ذلّ وهوان وإن كانوا أكابر في الدنيا ، أي جزاء على مكرهم.

١٢٥ ـ (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) إلى الثواب وطريق الجنة (يَشْرَحْ صَدْرَهُ) في الدنيا (لِلْإِسْلامِ) بأن يثبت عزمه عليه ، ويقوي دواعيه على التمسك به ، ويزيل عن قلبه وساوس الشيطان (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) يعني ومن يرد أن يضله عن ثوابه وكرامته يجعل صدره في كفره ضيقا حرجا عقوبة له على ترك الإيمان من غير ان يكون سبحانه مانعا له عن الإيمان ، وسالبا إياه القدرة عليه (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) معناه : كأنه قد كلف ان يصعد إلى السماء اذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه ، أو كأن قلبه يصعد في السماء نبوا عن الإسلام والحكمة (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي العذاب (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وفي هذا دلالة على ان الإضلال المذكور في الآية كان على وجه العقوبة على الكفر ، ووجه التشبيه في قوله : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) : انه يجعل الرجس على هؤلاء كما يجعل ضيق الصدر في قلوب أولئك ، وان كل ذلك على وجه الإستحقاق.

١٢٦ ـ ١٢٧ ـ (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ) أي طريق ربك وهو الإسلام (مُسْتَقِيماً) لا اعوجاج فيه (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بيناها وميّزناها (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) يتذكرون ، خصّ المتذكرين بذلك لأنهم المنتفعون بالحجج كما قال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (لَهُمْ دارُ) (السَّلامِ) أي للذين تذكروا وتدبروا وعرفوا الحق وتبعوه دار السلامة الدائمة الخالصة من كل آفة وبلية مما يلقاه أهل النار (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي هي مضمونة لهم عند ربهم يوصلهم اليها لا محالة (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) يعني الله يتولى إيصال المنافع إليهم ، ودفع المضار عنهم وقيل : وليهم : ناصرهم على أعدائهم وقيل : يتولاهم في الدنيا ، بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) المراد جزاء بما كانوا يعملون من الطاعات.

١٨٨

١٢٨ ـ ١٢٩ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي يجمعهم ، يريد جميع الخلق (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) أي يا جماعة الجن (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي قد استكثرتم ممن أضللتموه من الإنس ومعناه : من اغواء الإنس واضلالهم (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ) أي متبعوهم (مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي انتفع بعضنا ببعض قيل : ان استمتاع الجن بالإنس ان اتخذهم الإنس قادة ورؤساء فاتبعوا أهواءهم ، واستمتاع الإنس بالجن انتفاعهم في الدنيا بما زيّن لهم الجن من اللذات ، ودعوهم اليه من الشهوات (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) يعني بالأجل الموت (قالَ) الله تعالى لهم (النَّارُ مَثْواكُمْ) أي مقامكم ، والثواء : الإقامة (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين مؤبدين فيها معذبين (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ان الاستثناء راجع إلى غير الكفار من عصاة المسلمين الذين هم في مشيئة الله تعالى ، ان شاء عذبهم بذنوبهم بقدر استحقاقهم عدلا ، وان شاء عفا عنهم فضلا (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي محكم لأفعاله ، عليم بكل شيء (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الكاف للتشبيه ، أي كذلك المهل بتخلية بعضهم عن بعض للإمتحان الذي معه يصح الجزاء على الأعمال ، توليتنا بعض الظالمين بعضا بأن نجعل بعضهم يتولى أمر بعض للعقاب الذي يجري على الإستحقاق.

١٣٠ ـ ١٣٢ ـ ثم بيّن عزوجل تمام ما يخاطب به الجن والإنس يوم القيامة بأن يقول : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) والمعشر ، الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) هذا احتجاج عليهم بأن بعث إليهم الرسل اعذارا وانذارا وتأكيدا للحجة عليهم (يَقُصُّونَ) أي يتلون ويقرأون (عَلَيْكُمْ آياتِي) أي حججي ودلائلي وبيناتي (وَيُنْذِرُونَكُمْ) أي يخوفونكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي لقاء ما تستحقونه من العقاب في هذا اليوم ، وحصولكم فيه يوم القيامة (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) بالكفر والعصيان في حال التكليف ، ولزوم الحجة ، وانقطاع المعذرة ، اعترفنا بذلك (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي تزينت لهم بظاهرها حتى اغتروا بها (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) في الآخرة (أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) في الدنيا ، أي اقرّوا بذلك وشهدوا باستحقاقهم العقاب (ذلِكَ) حكم الله تعالى (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ) أي لم يكن ربك (مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) وهذا يجري مجرى التعليل ، أي انه لم يكن الله تعالى ليهلك أهل القرى بظلم يكون منهم حتى يبعث إليهم رسلا ينبهونهم على حجج الله تعالى ، ويزجرونهم ويذكرونهم ، ولا يؤاخذهم بغتة ومثله قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) ، وفي هذا دلالة واضحة على انه تعالى منزه عن الظلم (وَلِكُلٍ) أي ولكل عامل طاعة او معصية (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي مراتب في عمله على حسب ما يستحقه فيجازى عليه ، ان كان خيرا فخير ، وان كان شرا فشر ، وانما سميت درجات لتفاضلها كتفاضل الدرج في الإرتفاع والإنحطاط (وَما رَبُّكَ) يا محمد أو أيّها السامع (بِغافِلٍ) أي ساه (عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي لا يشذّ شيء من ذلك عن علمه فيجازيهم على حسب ما يستحقونه من الجزاء وفي هذا تنبيه وتذكير للخلق في كل أمورهم.

١٣٣ ـ ١٣٥ ـ لما أمر سبحانه بطاعته وحثّ عليها ، ورغّب فيها ، بيّن أنه لم يأمر بها لحاجة لأنه يتعالى عن النفع والضر فقال : (وَرَبُّكَ) أي خالقك وسيدك (الْغَنِيُ) عن أعمال عباده ، لا تنفعه طاعتهم ، ولا تضرّه معصيتهم (ذُو الرَّحْمَةِ)

١٨٩

أي صاحب النعمة على عباده. بيّن سبحانه أنه مع غناه ينعم عليهم ، وان انعامه وإن كثر لا ينقص من ملكه ولا من غناه. ثم أخبر سبحانه عن قدرته فقال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي يهلككم وتقديره : يذهبكم بالإهلاك (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) أي وينشىء بعد هلاككم خلقا غيركم يكون خلفا لكم (كَما أَنْشَأَكُمْ) في الأول (مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) تقدموكم (إِنَّ ما تُوعَدُونَ) من القيامة والحساب ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب (لَآتٍ) لا محالة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) بخارجين من ملكه وقدرته (قُلْ) يا محمد لهم (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على قدر منزلتكم وتمكنكم من الدنيا (إِنِّي عامِلٌ) اخبار عن النبي (ص) أي عامل بما أمرني الله تعالى به (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي فستعلمون أيّنا تكون له العاقبة المحمودة في دار السلام عند الله تعالى (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يظفر الظالمون بمطلوبهم.

١٣٦ ـ ثم عاد الكلام إلى حجاج المشركين ، وبيان اعتقاداتهم الفاسدة ، فقال سبحانه : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) أي كفار مكة ومن تقدّمهم من المشركين (مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ) أي مما خلق من الزرع (وَالْأَنْعامِ) أي المواشي من الإبل والبقر والغنم (نَصِيباً) أي حظا (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) يعني الأوثان ، وإنما جعلوا الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها ، فشاركوها في نعمهم (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) إنهم كانوا يزرعون لله زرعا وللأصنام زرعا ، فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها ، ويقولون : إن الله غني والأصنام احوج ، وإن زكا الزرع الذي جعلوه للأصنام ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئا لله وقالوا : هو غني ، ثم انفقوه على الصنم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء الحكم حكمهم هذا.

١٣٧ ـ ثم بيّن سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة فقال : (وَكَذلِكَ) أي وكما جعل أولئك في الحرث والأنعام ما لا يجوز كذلك (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي مشركي العرب (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) يعني الشياطين الذين زيّنوا لهم قتل البنات ووأدهنّ أحياء خيفة العيلة والفقر والعار (لِيُرْدُوهُمْ) أي يهلكوهم (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي يخلطوا عليهم دينهم ، ويدخلوا عليهم الشبهات فيه (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) معناه : ولو شاء أن يمنعهم من ذلك ، أو يضطرّهم إلى تركه لفعل ، ولو فعل المنع والحيلولة لما فعلوه ولكن ذلك مناف للتكليف (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي اتركهم ودعهم وافتراءهم ، أي كذبهم على الله تعالى فإنه يجازيهم ، وفي هذا غاية الزجر والتهديد كما يقول القائل : دعه وما اختاره. وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن تزيين القتل والقتل فعلهم ، وأنهم في إضافة ذلك إلى الله سبحانه كاذبون.

١٣٨ ـ ثم حكى سبحانه عنهم عقيدة أخرى من عقائدهم الفاسدة فقال : (وَقالُوا) يعني المشركين (هذِهِ أَنْعامٌ) أي مواش : وهي الإبل والبقر والغنم (وَحَرْثٌ) زرع (حِجْرٌ) أي حرام ، عني بذلك الأنعام والزرع الذين جعلوهما لآلهتهم وأوثانهم (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) أي لا يأكلها إلّا من نشاء أن نأذن له في أكلها (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) يعني الأنعام التي حرموا الركوب عليها وهي : السائبة والبحيرة والحام (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) قيل : كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ، ولا في شيء من

١٩٠

شأنها (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي كذبا على الله تعالى لأنهم كانوا يقولون : إن الله أمرهم بذلك وكانوا كاذبين به عليه سبحانه (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) ظاهر المعنى.

١٣٩ ـ ثم حكى الله سبحانه عنهم مقالة أخرى فقال (وَقالُوا) يعني هؤلاء الكفار الذين تقدم ذكرهم (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) يعني البان البحائر والسيّب عن قتادة (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) لا يشركهم فيها أحد من الإناث (وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) أي نسائنا (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) معناه : وإن يكن جنين الأنعام ميتة (فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) أي الذكور والإناث فيه سواء. ثم قال سبحانه : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) أي سيجزيهم العقاب بوصفهم (إِنَّهُ حَكِيمٌ) فيما يفعل بهم من العقاب آجلا ، وفي امهالهم عاجلا (عَلِيمٌ) بما يفعلونه لا يخفى عليه شيء منها وقد عاب الله سبحانه الكفار في هذه الآية من وجوه أربعة ـ أحدها ـ ذبحهم الأنعام بغير اذن الله ـ وثانيها ـ أكلهم على ادعاء التذكية ـ وثالثها ـ تحليلهم للذكور وتحريمهم على الإناث ـ ورابعها ـ تسويتهم بينهم في الميتة من غير رجوع إلى سمع موثوق به.

١٤٠ ـ ثم جمع سبحانه بين الفريقين الذين قتلوا أولادهم ، والذين حرموا الحلال فقال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) خوفا من الفقر ، وهربا من العار (سَفَهاً) أي جهلا وتقديره : سفهوا بما فعلوه سفها (بِغَيْرِ عِلْمٍ) وهذا تأكيد لجهلهم وذهابهم عن الصواب (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) يعني الأنعام والحرث الذين زعموا أنها حجر (افْتِراءً) أي كذبا (عَلَى اللهِ) سبحانه (قَدْ ضَلُّوا) أي ذهبوا عن طريق الحق بما فعلوه ، وحكموا بحكم الشياطين فيما حكموا فيه (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إلى شيء من الدين والخير والرشاد.

١٤١ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) أي خلق وابتدع لا على مثال (جَنَّاتٍ) أي بساتين فيها الأشجار المختلفة (مَعْرُوشاتٍ) مرفوعات بالدعائم (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) يعني ما خرج من قبل نفسه في البراري والجبال من أنواع الأشجار (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) أي وأنشأ النخل والزرع (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أي طعمه (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أي وأنشأ الزيتون والرمان (مُتَشابِهاً) في الطعم واللون والصورة (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) فيها ، وإنما قرن الزيتون إلى الرمان لأنهما متشابهان باكتناز الأوراق في أغصانها (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) المراد به الإباحة وإن كان بلفظ الأمر (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) هذا أمر بإيتاء الحق يوم الحصاد (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تجاوزوا الحد ، إنه خطاب لأرباب الأموال أي لا تسرفوا بأن تتصدقوا بالجميع ولا تبقوا للعيال شيئا (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ظاهر المعنى.

١٤٢ ـ ١٤٤ ـ ثم عطف سبحانه على ما عده فيما تقدم من عظيم الانعام ببيان نعمته في إنشاء الأنعام فقال : (وَمِنَ الْأَنْعامِ) أي وأنشأ من الأنعام (حَمُولَةً وَفَرْشاً) ويرجع الصفتان إلى الأنعام ، أي من الأنعام ما يحمل عليه ، ومنها ما يتخذ من أوبارها وأصوافها ما يفرش ويبسط (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي استحلوا الأكل مما أعطاكم الله ولا تحرموا شيئا منها كما فعله أهل الجاهلية في الحرث والأنعام (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) مضى تفسيره في سورة البقرة. ثم فسر تعالى الحمولة والفرش فقال : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) وتقديره : وأنشأ ثمانية أزواج أنشأ (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) وإنما أجمل ثم فصّل المجمل لأنه أراد أن يقرر على شيء منه ليكون أشد

١٩١

في التوبيخ من أن يذكر دفعة واحدة ، والمراد بالاثنين : الأهلي والوحشي من الضأن والمعز والبقر ، والمراد بالإثنين من الإبل : العراب والبخاتي ، وهو المروي عن أبي عبد الله (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما أحلّ الله تعالى (آلذَّكَرَيْنِ) من الضأن والمعز (حَرَّمَ) الله (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) منهما (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أي أم حرّم ما اشتمل عليه رحم الأنثى من الضأن ، والأنثى من المعز ، وإنما ذكر الله سبحانه هذا على وجه الاحتجاج عليهم بيّن به فريتهم وكذبهم على الله تعالى فيما ادّعوا : من أن ما في بطون الأنعام حلال للذكور ، وحرام على الإناث ، وغير ذلك مما حرّموه ، فإنهم لو قالوا : حرّم الذكرين لزمهم أن يكون كل ذكر حراما ، ولو قالوا : حرّم الأنثيين لزمهم أن يكون كل انثى حراما ، ولو قالوا : حرّم ما اشتمل عليه رحم الأنثى من الضأن والمعز ، لزمهم تحريم الذكور والإناث ، فإن أرحام الإناث تشتمل على الذكور والإناث ، فيلزمهم بزعمهم تحريم هذا الجنس صغارا وكبارا ، وذكورا وإناثا ولم يكونوا يفعلون ذلك ، بل كانوا يخصّون بالتحريم بعضا دون بعض ، فقد لزمتهم الحجة ثم قال : (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) معناه : أخبروني بعلم عما ذكرتموه من تحريم ما حرمتموه ، وتحليل ما حللتموه إن كنتم صادقين في ذلك (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) هذا تفصيل لتمام الأزواج الثمانية (قُلْ) يا محمد (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) الله منهما (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) قد تقدّم معناه (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي حضورا (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) أي أمركم به ، وحرّمه عليكم حتى تضيفوه إليه (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي من أظلم لنفسه ممن كذب على الله وأضاف إليه تحريم ما لم يحرمه ، وتحليل ما لم يحلله (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي يعمل عمل القاصد إلى اضلالهم من أجل دعائه إياهم إلى ما لا يثق بصحته مما لا يأمن من أن يكون فيه هلاكهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى الثواب لأنهم مستحقون العقاب الدائم بكفرهم وضلالهم.

١٤٥ ـ (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) أي أوحاه الله تعالى إليّ شيئا (مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) أي على آكل يأكله (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي مصبوبا ، وإنما خصّ المصبوب بالذكر لأن ما يختلط باللحم منه مما لا يمكن تخليصه منه معفو عنه مباح (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) إنما خصّ الأشياء الثلاثة هنا بذكر التحريم تعظيما لحرمتها ، وبيّن تحريم ما عداها في مواضع أخر : إما بنص القرآن ، وإما بوحي غير القرآن (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) أي نجس ، والرجس : اسم لكل شيء مستقذر منفور عنه (أَوْ فِسْقاً) عطف على قوله أو لحم خنزير (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ذكر عليه اسم الأصنام والأوثان ولم يذكر اسم الله عليه ، (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول شيء مما ذكرناه (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قد سبق معناه في سورة البقرة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حكم بالرخصة كما حكم بالمغفرة والرحمة.

١٤٦ ـ ١٤٧ ـ ثم بيّن سبحانه ما حرّمه على اليهود فقال (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) أي على اليهود في أيام موسى (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) هو كل ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) أخبر سبحانه أنه كان حرّم عليهم شحوم البقر والغنم من الثرب ، وشحم الكلى ، وغير ذلك مما في أجوافها ، واستثنى من ذلك فقال : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) من الشحم وهو اللحم السمين فإنه لم يحرم عليهم (أَوِ الْحَوايا) أي ما حملته الحوايا من الشحم فإنه غير محرم عليهم أيضا ، والحوايا : هي المباعر (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) ذلك أيضا مستثنى من جملة ما

١٩٢

حرّم وهو شحم الجنب والألية (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) المعنى : حرّمنا ذلك عليهم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء ، وأخذهم الربا ، واستحلالهم أموال الناس بالباطل ، فهذا بغيهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي في الإخبار عن التحريم ، وعن بغيهم ، وفي كل شيء (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا محمد فيما تقول (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) لذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة بل يمهلكم (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) أي لا يدفع عذابه إذا جاء وقته (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي المكذبين.

١٤٨ ـ ١٥٠ ـ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي سيحتج هؤلاء المشركين في إقامتهم على شركهم ، وفي تحريمهم ما أحلّ الله تعالى بأن يقولوا (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) أي لو شاء الله أن لا نعتقد الشرك ، ولا نفعل التحريم (وَلا آباؤُنا) وأراد منا خلاف ذلك ما أشركنا ولا آباؤنا (وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا من ذلك ، ثم كذّبهم الله تعالى في ذلك بقوله : (كَذلِكَ) أي مثل هذا التكذيب الذي كان من هؤلاء في أنه منكر (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كما كذّب من تقدّمهم أنبياءهم فيما أتوا به من قبل الله تعالى (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي حتى نالوا عذابنا (قُلْ) يا محمد لهم جوابا عما قالوه : من أن الشرك بمشيئة الله تعالى : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) أي حجة (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي فتخرجوا ذلك العلم أو تلك الحجة لنا ، ثم أكد سبحانه الرد عليهم وتكذيبهم في مقالتهم بقوله : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي ما تتبعون فيما تقولونه إلّا الظن والتخمين (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي إلّا تكذبون في هذه المقالة على الله تعالى (قُلْ) يا محمد إذا عجز هؤلاء عن إقامة حجة على ما قالوه (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) الحجة : البينة الصحيحة المصححة للأحكام (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو شاء لألجأكم إلى الإيمان ، وهداكم جميعا إليه بفعل الإلجاء إلّا انه لم يفعل ذلك وإن كان فعله حسنا لأن الإلجاء ينافي التكليف ثم بيّن سبحانه أن الطريق الموصل إلى صحة مذاهبهم مفسد غير ثابت من جهة حجة عقلية ولا سمعية ، وما هذه صفته فهو فاسد لا محالة فقال : (قُلْ) يا محمد لهم (هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) أي أحضروا وهاتوا شهداءكم (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ) بصحة ما تدعونه من (أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) أي هذا الذي ذكر مما حرمه المشركون من البحيرة والسائبة والوصيلة والحرث والأنعام وغيرها (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) معناه : فإن لم يجدوا شاهدا يشهد لهم على تحريمها غيرهم فشهدوا بأنفسهم فلا تشهد أنت معهم ، وإنما نهاه عن الشهادة معهم لأن شهادتهم تكون شهادة بالباطل (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) الخطاب للنبي (ص) والمراد أمته ، أي لا تعتقد مذهب من اعتقد مذهبه هوى ، ويمكن أن يتخذ الإنسان المذهب هوى من وجوه منها : أن يهوى من سبق إليه فيقلده فيه ومنها : أن يدخل عليه شبها فيتخيّله بصورة الصحيح مع أن في عقله ما يمنع منها ، ومنها : أن يكون نشأ على شيء وألفه واعتاده فيصعب عليه مفارقته ، وكل ذلك متميز مما استحسنه بعقله (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يجعلون له عدلا وهو المثل.

١٥١ ـ (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين (تَعالَوْا) اقبلوا (أَتْلُ) أي اقرأ (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أي منعكم عنه بالنهي (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي أمركم أن لا تشركوا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأوصى بالوالدين إحسانا ، ولما كانت نعم الوالدين تالية نعم الله سبحانه في الرتبة أمر بالإحسان إليهما بعد الأمر بعبادة الله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي خوفا من الفقر (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أي فإنّ رزقكم ورزقهم جميعا علينا (وَلا تَقْرَبُوا

١٩٣

الْفَواحِشَ) أي المعاصي والقبائح كلها (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ظاهرها وباطنها (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) أعاد ذكر القتل وإن كان داخلا في الفواحش تفخيما لشأنه ، وتعظيما لأمره (ذلِكُمْ) خطاب لجميع الخلق ، أي ما ذكر في هذه الآية (وَصَّاكُمْ بِهِ) أي أمركم به (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تعقلوا ما أمركم الله تعالى به فتحللوا ما حلّله لكم ، وتحرّموا ما حرّمه عليكم ودل قوله سبحانه : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) على أن التكليف قد يتعلق بأن لا يفعل كما يتعلق بالفعل.

١٥٢ ـ ١٥٣ ـ ثم ذكر سبحانه تمام ما يتلو عليهم فقال : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) والمراد بالقرب التصرف فيه ، وإنما خص مال اليتيم بالذكر لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه ولا عن ماله ، فأكد سبحانه النهي عن التصرف في ماله وإن كان ذلك واجبا في مال كل أحد (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالخصلة أو الطريقة الحسنى (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) هو أن يبلغ ويكمل عقله ويؤنس منه الرشد فيسلم إليه ماله (وَأَوْفُوا) أي أتموا (الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، والوفاء من غير بخس (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إلا ما يسعها ولا يضيق عنه ؛ (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) معناه : إذا شهدتم أو حكمتم اعدلوا في الشهادة والحكم وإن كان المقول عليه أو المشهود له أو عليه قرابتك وهذا من الأوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير والشهادات والوصايا والفتاوى والقضايا والأحكام والمذاهب ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) قيل في معنى عهد الله قولان (أحدهما) ان كل ما أوجبه الله تعالى على العباد فقد عهد إليهم بإيجابه عليهم (والآخر) ان المراد به النذور والعهود في غير معصية الله تعالى (ذلِكُمْ) أي ذلك الذي تقدم من ذكر مال اليتيم وأن لا يقرب إلّا بالحق ، وإيفاء الكيل واجتناب البخس والتطفيف ، وتحري الحق فيه على مقدار الطاقة ، والقول بالحق والصدق ، والوفاء بالعهد (وَصَّاكُمْ) الله سبحانه (بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتذكروه وتأخذوا به فلا تطرحوه ، ولا تغفلوا عنه فتتركوا العمل به ، والقيام بما يلزمكم منه (وَأَنَّ هذا صِراطِي) يريد أن ما ذكر في هذه الآيات من الواجب والمحرم صراطي ، لأن امتثال ذلك على ما أمر به يؤدي إلى الثواب والجنة ، فهو طريق إليها وإلى النعيم فيها (مُسْتَقِيماً) أي قيما لا عوج فيه ولا تناقض (فَاتَّبِعُوهُ) أي اقتدوا به ، واعملوا به ، واعتقدوا صحته ، واحلوا حلاله ، وحرموا حرامه (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي طرق الكفر والبدع والشبهات (فَتَفَرَّقَ) واصله فتتفرق (بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي فتشتت وتميل وتخالف بكم عن دينه الذي ارتضى ، وبه أوصى (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لكي تتقوا عقابه باجتناب معاصيه. قال ابن عباس : هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب ، وهنّ محرّمات على بني آدم كلهم ، وهنّ أم الكتاب ، من عمل بهن دخل الجنة ، ومن تركهن دخل النار. وقال كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إن هذا لأول شيء في التوراة : بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ، الآيات.

١٥٤ ـ ١٥٥ ـ (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) إنه يتصل بقوله في قصة إبراهيم : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ، فعدّ سبحانه نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء ، ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما أتى موسى من الكتاب والنبوة وهو أيضا من ذريته (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) تماما على إحسان موسى ، فكأنه قال : ليكمل إحسانه الذي يستحق به كمال ثوابه في الآخرة (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي وبيانا لكل ما يحتاج إليه الخلق (وَهُدىً) أي ودلالة على الحق والدين يهتدى بها إلى

١٩٤

التوحيد والعدل والشرائع (وَرَحْمَةً) أي نعمة على سائر المكلفين لما فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد والأحكام (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) معناه : لكي يؤمنوا بجزاء ربهم فسمى الجزاء لقاء الله تفخيما لشأنه مع ما فيه من الإيجاز والإختصار وقيل : معنى اللقاء : الرجوع إلى ملكه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئا (وَهذا كِتابٌ) يعني القرآن ، وصفه بهذا الوصف لبيان أنه مما ينبغي أن يكتب لأنه أجل الحكم (أَنْزَلْناهُ) يعني أنزله جبرائيل إلى محمد (ص) فأضاف النزول إلى نفسه توسعا (مُبارَكٌ) وهو من يأتي من قبله الخير الكثير عن الزجاج ، فالبركة : ثبوت الخير بزيادته ونموه (فَاتَّبِعُوهُ) أي اعتقدوا صحته ، واعملوا به ، وكونوا من اتباعه (وَاتَّقُوا) معاصي الله ومخالفته ومخالفة كتابه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي ترحموا ، وليكن الغرض بالتقوى منكم طلب ما عند الله من الرحمة والثواب.

١٥٦ ـ ١٥٧ ـ (أَنْ تَقُولُوا) أي كراهة أن تقولوا يا أهل مكة ، أو لئلا تقولوا (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) أي جماعتين وهم اليهود والنصارى وإنما خصهما بالذكر لشهرتهما وظهور أمرهما ، أي أنزلنا عليكم هذا الكتاب لنقطع حجتكم (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) والمعنى : انا كنا غافلين عن تلاوة كتبهم ، ولم ينزل علينا الكتاب كما أنزل عليهم لأنهم كانوا أهله دوننا ، ولو أريد منّا ما أريد منهم لأنزل الكتاب علينا كما أنزل عليهم (أَوْ تَقُولُوا) يا أهل مكة (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) في المبادرة إلى قبوله ، والتمسك به ، لأنا أجود أذهانا ، وأثبت معرفة منهم ، فإن العرب كانوا يدلون بجودة الفهم وذكاء الحدس ، وحدة الذهن (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي حجة واضحة ، ودلالة ظاهرة وهو القرآن (وَهُدىً) يهتدي به الخلق إلى النعيم المقيم ، والثواب العظيم (وَرَحْمَةٌ) أي نعمة لمن اتبعه وعمل به (فَمَنْ أَظْلَمُ) لنفسه (مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) أي أعرض عنها غير مستدل بها ، ولا مفكر فيها (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) أي شدة العذاب وهو ما أعده الله للكفار ، ونعوذ بالله منه (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي جزاء بما كانوا يصدفون عن القرآن ، ومن أتى به وهو محمد (ص). وفي هذا دلالة على أن إنزال القرآن لطف للمكلفين ، وأنه لو لم ينزله لكان لهم الحجة.

١٥٨ ـ ثم توعدهم سبحانه فقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ) معناه : ما ينتظرون يعني هؤلاء الكفار الذين تقدم ذكرهم (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم وقيل : لإنزال العذاب والخسف بهم (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) فيه أقوال (أحدها) أو يأتي أمر ربك بالعذاب وقال ابن عباس : يأتي أمر ربك فيهم بالقتل (وثانيها) أو يأتي ربك بجلائل آياته ، فيكون حذف الجار فوصل الفعل ، ثم حذف المفعول لدلالة الكلام عليه ، وهو قيام الدليل في العقل على أن الله سبحانه لا يجوز عليه الإنتقال (وثالثها) أو يأتي إهلاك ربك إياهم بعذاب عاجل أو آجل (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) التي تضطرهم إلى المعرفة ، ويزول التكليف عندها (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) لأنه ينسدّ باب التوبة بظهور آيات القيامة (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) المعنى : أنه لا ينفع في ذلك اليوم إيمان نفس إذا لم تكن آمنت قبل ذلك اليوم ، أو ضمّت إلى إيمانها أفعال الخير (قُلِ انْتَظِرُوا) إتيان الملائكة ووقوع هذه الآيات (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) بكم وقوعها ، وفي هذه الآية حث على المسارعة إلى الإيمان والطاعة قبل الحال التي لا يقبل فيها التوبة.

١٩٥

١٥٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) هم الكفار وأصناف المشركين (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) هذا خطاب للنبي (ص) ، واعلام له أنه ليس منهم في شيء ، وأنه على المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة ، وليس كذلك بعضهم مع بعض لأنّهم يجتمعون في معنى من المعاني الباطلة وان افترقوا في غيره (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) في مجازاتهم على سوء أفعالهم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم ويجازيهم (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) يوم القيامة ، فيظهر المحق من المبطل.

١٦٠ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي من جاء بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة فله عشر أمثالها من الثواب (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) بالخصلة الواحدة من خصال الشر (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) وذلك من عظيم فضل الله تعالى وجزيل إنعامه على عباده حيث لا يقتصر في الثواب على قدر الإستحقاق بل يزيد عليه ، وربما يعفو عن ذنوب المؤمن (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بالزيادة على مقدار ما استحقّوا من العقاب.

١٦١ ـ ١٦٣ ـ ثم أمر الله نبيّه (ص) فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار وللخلق جميعا (إِنَّنِي هَدانِي) أي دلّني وأرشدني (رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقيل أراد لطف لي ربي في الإهتداء ووفقني لذلك ، وقد بينا معنى الصراط المستقيم في سورة الحمد (دِيناً قِيَماً) أي مستقيما على نهاية الإستقامة وقيل : ثابتا دائما لا ينسخ (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) وإنما وصف دين النبي بأنه ملة إبراهيم ترغيبا فيه للعرب لجلالة إبراهيم في نفوسها ونفوس كل أهل الأديان ، ولانتساب العرب إليه ، وإتفاقهم على أنه كان على الحق (حَنِيفاً) أي مخلصا في العبادة لله (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يعني إبراهيم كان يدعو إلى عبادة الله ، وينهى عن عبادة الأصنام (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) قد فسّرنا معنى الصلاة فيما تقدم (وَنُسُكِي) ديني (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي حياتي وموتي (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وإنما جمع بين صلاته وحياته واحدهما من فعله والآخر من فعل الله لأنهما جميعا بتدبير الله (لا شَرِيكَ لَهُ) أي لا شريك له في العبادة ، وفي الإحياء والإماتة (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) أي وبهذا أمرني ربي (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) من هذه الأمة ، فإن إبراهيم كان أول المسلمين ومن بعده تابع له في الإسلام ـ وفيه بيان فضل الإسلام ، وبيان وجوب اتباعه على الإسلام إذ كان صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل من سارع إليه.

١٦٤ ـ ١٦٥ ـ (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار على وجه الإنكار (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) وتقديره : أيجوز أن أطلب غير الله ربا واطلب الفوز بعبادته وهو مربوب مثلي ، واترك عبادة من خلقني ورباني وهو مالك كل شيء وخالقه ومدبره وليس بمربوب؟ أم هذا قبيح في العقول ، وهو لازم لكم على عبادتكم الأوثان (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) أي لا تكسب كل نفس جزاء كل عمل من طاعة أو معصية إلا عليها ، فعليها عقاب معصيتها ، ولها ثواب طاعتها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يحمل أحد ذنب غيره ومعناه : ولا يجازى أحد بذنب غيره (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي مآلكم ومصيركم (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي يخبركم بالحق فيما اختلفتم فيه ، فيظهر المحسن من المسيء (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أخبر سبحانه أنه الذي جعل الخلق خلائف الأرض ومعناه : ان أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله ، كلما مضى قرن خلفهم قرن ، يجري ذلك على انتظام واتساق حتى تقوم

١٩٦

الساعة على العصر الأخير فلا يخلفه عصر ، وهذا لا يكون إلا من عالم مدبر (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) في الرزق وقيل : في الصورة والعقل والعمر والمال والقوة (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليختبركم فيما أعطاكم ، أي يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل ، وانتفاء من الظلم ومعناه : لينظر لغني إلى الفقير فيشكر ، وينظر الفقير إلى الغني فيصبر ، ويفكر العاقل في الأدلة فيعلم ويعمل بما يعلم (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) إنما وصف نفسه بذلك مع ان عقابه في الآخرة من حيث ان كل ما هو آت قريب ، فهو إذا سريع وقيل معناه : أنه سريع العقاب بمن استحقّه في دار الدنيا ، فيكون نحذيرا لمواقع الخطيئة على هذه الجهة وقيل معناه : أنه قادر على تعجيل العقاب فاحذروا معاجلته بالهلاك في الدنيا (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) قابل سبحانه بين العقاب والغفران ولم يقابل بالثواب لأن ذلك أدعى إلى الإقلاع عما يوجب العقاب ، لأنه لو ذكر الثواب لجاز أن يتوهم أنه لمن لم يكن منه عصيان.

سورة الأعراف

مكية وآياتها ست ومائتان

لما ختم الله سبحانه سورة الأنعام بالرحمة افتتح هذه السورة بأنه أنزل كتابا فيه معالم الدين والحكمة فقال :

١ ـ ٣ ـ (المص) مضى تفسيره وما قيل فيه (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي هذا الذي أوحيته إليك كتاب أنزل إليك ، أي أنزله الملائكة إليك بأمر الله تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) معناه : فلا يضيقن صدرك من قومك أن يكذبوك ويجبهوك بالسوء فيما أنزل إليك كما قال سبحانه : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي بالقرآن (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي كن على انشراح صدر بالإنذار ومعناه : التخوف بوعده ووعيده وأمثاله وأمره ونهيه ، وليذكّروا بما فيه ، وإنما خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به ، ثم خاطب الله سبحانه المكلفين فقال : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) قل لهم يا محمد : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ، ويدخل فيه الواجب والندب والمباح ، لأنه يجب أن يعتقد في كل منها ما أمر الله سبحانه به ، كما يجب أن يعتقد في الحرام وجوب اجتنابه (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله ، لأن من لا يتبع القرآن صار متبعا لغير الله من الشيطان والأوثان ، فأمر سبحانه باتباع القرآن ، ونهى عن اتباع الشيطان ليعلموا أن اتباع القرآن اتباع له سبحانه (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا يا معشر المشركين تذكركم واتعاظكم ، وهذا استبطاء في التذكر وخرج مخرج الخبر والمراد به الأمر ، فمعناه : تذكروا كثيرا ما يلزمكم من أمر دينكم ، وما أوجبه الله عليكم ، ومعنى التذكر أن يأخذ في الذكر شيئا بعد شيء مثل التفقه والتعليم.

٤ ـ ٥ ـ لما تقدم الأمر منه سبحانه للمكلفين باتباع القرآن ، والتحذير من مخالفته ، عقّب ذلك بتذكيرهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب ، وتحذيرهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك فقال : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي من أهل قرية (أَهْلَكْناها) بعذاب الاستئصال (فَجاءَها بَأْسُنا) أي عذابنا (بَياتاً) بالليل (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي في وقت القيلولة وهي نصف النهار (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) أي لم يكن دعاء هؤلاء الذين أهلكناهم عقوبة لهم على معاصيهم وكفرهم في الوقت الذي جاءهم شدة عذابنا (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) يعني اعترافهم بذلك على نفوسهم ، وإقرارهم به ، وهذا القول كان

١٩٧

منهم عند معاينة البأس ، والتيقن بأنه ينزل بهم. وفي هذا دلالة على أن الإعتراف والتوبة عند معاينة البأس لا ينفع.

٦ ـ ٩ ـ ولما أنذرهم سبحانه بالعذاب في الدنيا ، عقّبه بالإنذار بعذاب الآخرة فقال : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أقسم الله سبحانه أنه يسأل المكلفين الذين أرسل إليهم رسله ، وأقسم أيضا أنه يسأل المرسلين الذين بعثهم ، فيسأل هؤلاء عن الإبلاغ ، ويسأل أولئك على الإمتثال ، وهو تعالى وإن كان عالما بما كان منهم فإنما أخرج الكلام مخرج التهديد والزجر ليتأهب العباد بحسن الإستعداد لذلك السؤال (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) أي لنخبرنهم بجميع أفعالهم ليعلموا أن أعمالهم كانت محفوظة ، وليعلم كل منهم جزاء عمله وانه لا ظلم عليه ، وليظهر لأهل الموقف أحوالهم (بِعِلْمٍ) قيل معناه : نقص عليهم أعمالهم بأنا عالمون بها (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن علم ذلك (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) إن الوزن عبارة عن العدل في الآخرة ، وانه لا ظلم فيها على أحد (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) إنما جمع الموازين لأنه يجوز أن يكون لكل نوع من أنواع الطاعات يوم القيامة ميزان (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بثواب الله (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن استحقوا عذاب الأبد (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي بجحودهم بما جاء به محمد (ص) من آياتنا وحججنا ، والخسران : ذهاب رأس المال ، ومن أعظم رأس المال النفس ، فإذا أهلك نفسه بسوء عمله فقد خسر نفسه.

١٠ ـ ١١ ـ ثم ذكر سبحانه نعمه على البشر (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي مكّناكم من التصرف فيها ، وجعلناها لكم قرارا (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي ما تعيشون به من أنواع الرزق ، ووجوه النعم والمنافع (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي ثم أنتم مع هذه النعم التي أنعمناها عليكم لتشكروا قد قلّ شكركم. ثم ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) المراد : انا بدأنا خلق آدم ثم صورناه. فابتداء خلق آدم (ع) من التراب ثم وقعت الصورة بعد ذلك ، فهذا معنى خلقناكم ثم صورناكم (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) بعد الفراغ من خلق آدم وقوله : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) قد مضى الكلام فيه في سورة البقرة.

١٢ ـ ١٣ ـ ثم حكى سبحانه خطابه لإبليس حين امتنع من السجود لآدم بقوله : (قالَ) أي قال الله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي ما دعاك إلى أن لا تسجد ، وما اضطرك إليه ، أو ما منعك أن تسجد؟ (إِذْ أَمَرْتُكَ) بالسجود لآدم (قالَ) إبليس (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وهذا الجواب غير مطابق لأنه كان يجب أن يقول : منعني كذا ، لأن قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جواب لمن يقول أيكما خير؟ (قالَ) أي قال الله سبحانه لإبليس (فَاهْبِطْ) أي انزل وانحدر (مِنْها) أي من السماء وقيل : من الجنة وقيل معناه : انزل عما أنت عليه من الدرجة الرفيعة ، والمنزلة الشريفة التي هي درجة متبعي أمر الله (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ) عن أمر الله (فِيها) أي في الجنة ، أو في السماء ، فإنها ليست بموضع المتكبرين وإنما موضعهم النار كما قال : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (فَاخْرُجْ) من المكان الذي أنت فيه ، أو المنزلة التي أنت عليها (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي من الأذلاء بالمعصية في الدنيا ، لأن العاصي ذليل عند من عصاه ، أو بالعذاب في الآخرة لأن المعذّب ذليل.

١٤ ـ ١٧ ـ (قالَ) يعني إبليس (أَنْظِرْنِي) أي أمهلني

١٩٨

وأخرني في الأجل ولا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يبعث الخلق من قبورهم للجزاء وقيل معناه : أنظرني في الجزاء إلى يوم القيامة ، فكأنه خاف أن يعاجله الله سبحانه بالعقوبة. (قالَ) أي قال الله سبحانه لإبليس (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي من المؤخرين (قالَ) إبليس لما لعنه الله وطرده ، ثم سأله الانظار فأجابه الله تعالى إلى شيء منه (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي فبالذي أغويتني قيل في معناه أقوال (أحدها) ان معناه : بما خيبتني من رحمتك وجنتك (لَأَقْعُدَنَ) أي لأجلسن (لَهُمْ) أي لأولاد آدم (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي على طريقك المستوي وهو طريق الحق ، لأصدنهم عنه بالاغواء حتى أصرفهم إلى طريق الباطل كيدا لهم وعداوة (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) روي عن أبي جعفر (ع) قال : ثم لآتينهم من بين أيديهم معناه : أهون عليهم أمر الآخرة ، ومن خلفهم : آمرهم بجميع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم ، وعن أيمانهم أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة ، وتحسين الشبهة ، وعن شمائلهم : بتحبيب اللذات إليهم ، وتغليب الشهوات على قلوبهم (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) هذا اخبار من إبليس أن الله تعالى لا يجد أكثر خلقه شاكرين.

١٨ ـ ٢١ ـ ثم بين سبحانه ما فعله بإبليس من الإهانة والإذلال ، وما أتاه آدم من الإكرام والإجلال بقوله : (قالَ اخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة ، أو من السماء ، أو من المنزلة الرفيعة (مَذْؤُماً) أي مذموما (مَدْحُوراً) أي مطرودا (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي من بني آدم معناه : من أطاعك واقتدى بك من بني آدم (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ) أي منك ومن ذريتك وكفار بني آدم (أَجْمَعِينَ) وإنما جمعهم في الخطاب لأنه لا يكون في جهنم إلّا إبليس وحزبه من الشياطين ، وكفار الإنس وضلالهم الذين انقادوا له ، وتركوا أمر الله لاتباعه (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) هذا أمر بالسكنى (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أباح سبحانه لهما أن يأكلا من حيث شاءا وأين شاءا وما شاءا (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) بالأكل (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي من الباخسين نفوسهم الثواب العظيم (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أي لآدم وحواء (لِيُبْدِيَ لَهُما) أي ليظهر لهما (ما وُورِيَ) أي ستر (عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي عوراتهما (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ) أي عن أكل هذه الشجرة (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) والمعنى : أنه أوهمهما أنهما إذا أكلا من هذه الشجرة تغيرت صورتهما إلى صورة الملك ، وأن الله تعالى قد حكم بذلك ، وبأن لا تبيد حياتهما إذا أكلا منها (وَقاسَمَهُما) أي وحلف لهما بالله تعالى حتى خدعهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي المخلصين النصيحة في دعائكما إلى التناول من هذه الشجرة ، ولذلك تأكدت الشبهة عندهما إذ ظنا أن أحدا لا يقدم على اليمين بالله تعالى إلّا صادقا ، فدعاهما ذلك إلى تناول الشجرة.

٢٢ ـ ٢٥ ـ (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أي أوقعهما في المكروه بأن غرهما بيمينه (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) أي ابتدأا بالأكل ، ونالا منها شيئا يسيرا ، ولذلك أتى بلفظة ذاقا عبارة عن أنهما تناولا شيئا قليلا من ثمرة الشجرة على خوف شديد ، لأن الذوق ابتداء الأكل والشرب ليعرف الطعم. وفي هذا دلالة على ان ذوق الشيء المحرم يوجب الذم فكيف استيفاؤه وقضاء الوطر منه؟ (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي ظهرت لهما عوراتهما قال الكلبي : فلما أكلا منها تهافت لباسهما عنهما فأبصر كل واحد منهما سوأة صاحبه فاستحيا (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي أخذا يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما

١٩٩

(وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر المعنى (قالا) أي قال آدم وحواء لما عاتبهما الله سبحانه ، ووبّخهما على ارتكاب المنهي عنه (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ومعناه : بخسناها الثواب بترك المندوب إليه ، فالظلم ، هو النقص ولا خلاف أن حواء وآدم لم يستحقا العقاب وإنما قالا ذلك لأن من جلّ في الدين قدمه ، كثر على يسير الزلل ندمه وقيل معناه : ظلمنا أنفسنا بالنزول إلى الأرض ومفارقة العيش الرغد (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) معناه : وإن لم تستر علينا ، لأن المغفرة هي الستر على ما تقدم بيانه (وَتَرْحَمْنا) أي ولم تتفضل علينا بنعمتك التي يتم بها ما فوتناه نفوسنا من الثواب ، وبضروب فضلك (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي من جملة من خسر ولم يربح (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) قد مر تفسيره في سورة البقرة (قالَ) الله تعالى : (فِيها تَحْيَوْنَ) أي في الأرض تعيشون (وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) عند البعث يوم القيامة.

٢٦ ـ ٢٨ ـ (يا بَنِي آدَمَ) وهو خطاب عام لجميع أهل الأزمنة من المكلفين كما يوصي الإنسان ولده وولد ولده بتقوى الله (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) قيل : إنه أنزل ذلك مع آدم وحواء حين أمرا بالإنهباط وقيل : لأن البركات ينسب إلى أنها تأتي من السماء كقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) وقيل : معنى (أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ) : أعطيناكم ، ووهبنا لكم وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه ، ليس ان هناك علوا وسفلا ، ولكنه يجري مجرى التعظيم كما يقال : رفعت حاجتي إلى فلان ، ورفعت قضيتي إلى الأمير ، وقيل معناه : خلقنا لكم كما قال : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) أي يستر عوراتكم (وَرِيشاً) أي أثاثا مما تحتاجون إليه وقيل : مالا (وَلِباسُ التَّقْوى) هو العمل الصالح (ذلِكَ خَيْرٌ) أي لباس التقوى خير من جميع ما يلبس (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي ذلك الذي خلقه الله وأنزله من حجج الله التي تدل على توحيده (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) معناه : لكي يتفكروا فيها فيؤمنوا بالله ، ويصيروا إلى طاعته ، وينتهوا عن معاصيه ثم خاطبهم سبحانه مرة أخرى فقال : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي لا يضلنكم عن الدين ، ولا يصرفنكم عن الحق بأن يدعوكم إلى المعاصي التي تميل إليها النفوس (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) نسب الإخراج إليه لما كان بإغوائه وإن كان خروجهما بأمر الله تعالى (يَنْزِعُ عَنْهُما) عند وسوسته ودعائه لهما (لِباسَهُما) من ثياب الجنة قيل : كان لبساهما نورا (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) عوراتهما (إِنَّهُ) يعني الشيطان (يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) أي نسله وقيل : جنوده واتباعه من الجن والشياطين (يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) أي نسله وقيل : جنوده واتباعه من الجن والشياطين (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) قال ابن عباس : إن الله تعالى جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم ، وصدور بني آدم مساكن لهم كما قال : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) ، فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم قال قتادة : والله ان عدوا يراك من حيث لا تراه لشديد المؤنة إلّا من عصم الله ، وإنما قال ذلك لأنا إذا كنا لا نراهم لم نعرف قصدهم لنا بالكيد والإغواء ، فينبغي أن نكون على حذر فيما نجده في أنفسنا من الوساوس خيفة أن يكون ذلك من الشيطان وإنما لا يراهم البشر لأن أجسامهم شفافة لطيفة تحتاج رؤيتها إلى فضل شعاع (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي حكمنا بذلك لأنهم يتناصرون على الباطل وإنما خص الذين لا يؤمنون تنبيها على أنهم مع اجتهادهم لا يتمكنون من خيار المؤمنين (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) كنى به عن المشركين الذين كانوا يبدون سوآتهم في طوافهم ، فكان يطوف الرجال والنساء عراة يقولون : نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ، ولا نطوف في الثياب

٢٠٠